مجلة البيان للبرقوقي

البرقوقي

الكتاب والآداب

الكتاب والآداب الحمد لله أودع الكتاب صوت الماضي وروحه بعد أن فنيت مادته وانعدمت ذاته فأصبح كحلم مضى وعهد انقضى انظر كم يشيد البناؤون من المدن والدور والهياكل والقصور والقلاع والحصون والساحات والصحون وماذا يوسعون فيها ويفسحون ويعلون من ذراها ويشرفون فما مسير كل ذلك وأين يذهب يغوله صرف الزمان وبيده طارق الحدثان ويلتهمه من الوقت بحر شديد الصولة على الإنسان وآثاره يسطو بها فيفنيها أو يكاد الله إلا شيئاً واحداً أعني الكتاب فإنه الخالد الباقي السالم على عواصف الدهر اللائح من خلال أمواج الزمن كخيال النجم في جوف المحيط. أين أمة الأعراب - وصيدهم (ملوكهم) والقواد وأين أندلسهم وبغداد عصف الدهر بها إلا رسوما دارسات وطلولا داثرات ولكن أعمد إلى صحائفهم وافتح إحداها فهنالك العرب ومجدها والدولة وسؤددها تحي في تلك الصحف وتخفق وتتحرك وتكاد تنطق فلله من يرى شبراً من الورق يضم أمة ورجالها ودولة وأعمالها ويستوعب آراءها وأفكارها ونتائجها وآثارها فما أصغر الكتاب وما أكبر وما أعظم وما أحقر وما أضعف وما أقوى وما أفقر وما أغنى. ويعجبني ما قاله أحد الحكماء إن مخلفات الماضي ثلاث المدن والمزارع والكتب وليست الكتب كالمدائن لا يبرح الدهر ينال منها ويتخون ولكنها أشبه بالمزارع إلا أنها مزارع ذهنية أو ما ترى الكتاب كشجرة روحانية تنمو على الزمن أصولها وتسمو فروعها وتطلع كل عام أوراقها الجديدة من الشروح والحواشي والانتقادات والردود وما إلى ذلك - فيا أيها القادر على إظهار كتاب لا تحسد الملك بأني المدن ولا الفاتح الغازي مخربها فأنت كذلك فاتح منصور مظفر ولكنك منصور على الضلال هازم للشر والباطل وأنت كذلك رب بناء ولكنه بناء أبقى على الزمن من الصخر والحديد والمرمر - بناء العقل ومدينة العلم وكعبة اليقين التي يحج إليها بنو البشر وسكان الأرض كافة. والكتاب أيدك الله أكبر قوة لترقية المدينة والأخذ بيدها لأنك تراه مصدراً للعلم والعرفان ومنبعثاً لنور التقى والإيمان ولساناً يذيع حجة الحق وسلاحاً ينتصف من القوي للضعيف فأما أنه مصدر العلم فذلك لأنه متى حذق الطالب أوليات فن من الفنون وبلغ شأوا يدرك معه كل ما كتب في ذلك الفن فأي حاجة هناك إلى المدارس والجامعات إنما أستاذه اذذاك

الكتاب وكل بقعة صلحت وطابت سواء بين المائدة والسرير والروضة والغدير أو على ظهر الماء أو في ذروة شاهقة شماء فهي مدراسه وجامعته. وأما أن الكتاب منبعث لنور التقى والإيمان فذلك لأن كل كتاب صالح إنما هو منبر تسمع منه داعى الخير وصوت الحق وخطيب الحكمة والموعظة الحسنة فأنت من كتابك الصالح في محراب ومسجد ومعبد وأنت منه بحضرة ملك كريم أجنحته تلك الصحائف المنقوشة وهل ترى الشعور الشريف بحلوه لك الكاتب الكبير في أكرم حلة من اللفظ فيدب في نفسك دبيب الغناء - إلا من قبيل العبادة وباب الصلاة والتسبيح: وهل ترى الشاعر يظهر لك من جمال زهرة البستان ما كان من قبل غامضاً عنك إلا دالا إياك على فرع من ينبوع الجمال الكلى وعلى سطر خطه القلم العلوي في صحيفة الوجود وحلية صاغتها يد الصانع الأكبر وآية جديدة من آيات الله تدل على أنه الواحد. وأما أن الكتاب لسان لإذاعة حجة الحق وسلاح ينتصف به من القوي للضعيف فذلك لأن الكتاب صوت الشعب يحامي عنه وينافح ويعرب عن مطالبه ويبين عن حاجه ومآربه فهو برلمانه قبل البرلمان ودستوره قبل الدستور وما القلم في ذلك إلا خطيباً يسمع الشعب أجمع فهو لهذا قوة عظيمة وفرع من فروع الحكومة له شأن في وضع القوانين والشرائع وفي كل عمل ذي بال ومما لا شك فيه أن كل شعب لا محالة محكوم أو سيكون محكوماً بأرباب الأقلام من أبنائه وذوي الصوت من أهله. والكتابة نوعان علمية وأدبية فالأولى ما كان أساسها الفحص والتنقيب للوصول إلى الأصول والنظر في الجزئيات لاستنتاج القواعد العامة كعلوم طبقات الأرض والطبيعة والكيمياء والطب والهندسة ما إليها وأما الثانية فهي ما كان محورها وصف الأشياء وصفاً يراعى فيه لذة القارئ قبل كل شيء ثم النصيحة والفائدة بعد ذلك ويكون الوصف من الدقة وحسن البيان بحيث يمثل لك الغائب حتى يقلب سمعك بصراً فإن كان الموصوف إحساساً أثار الوصف نفس هذا الإحساس في قلبك وإن كان شهوة هيجها بعينها في نفسك ولا بد من أن يكون الكاتب رجلاً عظيماً يبصر من أسرار الموصوف وبدائعه ما يخفي على معظم الناس فإن قدم لك الشيء أعارك عينيه لتبصر بها فأنت هو ما دمت تقرأ آياته وتتأمل معجزاته ومن هذا النوع الشعر منظومه ومنثوره والقصص والروايات والسير والتاريخ

والخطب والمواعظ وكلام المتصوفة وكل مارقق الكبد واهتاج الفؤاد. ولقد ذاع في هذه الأيام بين العامة وأشباههم من الخاصة مذهب مأفون أن للعلميات الفضل الأول والمنزلة العظمى وإن الأدبيات قليلة القيمة عديمة الجدوى ذلك أن الأولى مثمرة للمال والثروة مجلبة للسعادة والرفاهية وما الأدبيات إلا ملهاة للعقول ومروحة للنفوس وما الشعر إلا داعية لعب وباعث طرب وإن ليست الفكاهات إلا حامل على السخف ومسقطة للمروءة - وقد فات هؤلاء أن للإنسان شعوراً كما أن له معدة وإن له روحاً كما أن له أنياباً وأضراساً وأنه يحتاج إلى غذاء مادي من الحنطة والبقول والحلوى وإن أقدس واجبات الإنسان وأول غرض خلق لأجله هو معرفة الله في مصنوعاته وذلك ما لا يكون حتى يكشف له الشاعر والكاتب عن بدائع هذه المصنوعات ومعجزاتها وإن الإنسان في الأرض كناسك في معبد وراهب في صومعة يقرأ في النجوم إنجيلاً وفي سطور الزهر توراة ويسمع في ترنم النسيم مزامير وفي تغريد الطيور زبوراً وليس الإنسان في هذه الأرض كالحيوان الأعجم لا شأن له إلا الخضم والقضم. لشد ما أخطأ الناس معنى الحياة فحسبوا الحياة مجرد الوجود وإنما هي لعمري الشعور والفهم والتمييز وإن يجعل الإنسان عقله ميزاناً يزن الخير والشر وإن يشعر نفسه الصدق والكرم والحياء والعفة والإخلاص والتقى واليقين. ولا ننكر أن في الماديات شيئاً من النعيم وإن الرجل الذي تنتهي آماله في المعدة وتقف مآربه عن الحلق ولا تطمح روحه إلى ماوراء ستار مزركش أو سقف مزخرف ينعم بنوع من اللذة ولكني أحسب الإنسان فوق ذلك: قال أحد المزاح: لا ريب في أن المرتب الضخم لذة كما من اللذة أن يدعم الإنسان عيشه بأساس متين من الذهب ومن اللذة أن يكفي المرء حاجه ويروح بعيشة راضية ونعمة فسيحة ومن اللذة أن يتكئ المرء في كرسي الوظيفة ويقبض ألفا في العام ولا ريب في أن اللحم والفاكهة والسمك تقوي البنية وتبعث في الوجه حمرة العافية ولكني مع ذلك أرى أن النصب في ابتغاء المجد الصحيح أشهى والفقر في طلاب الحق أعذب وأحلى. ما سرني اللؤم والغضارة في العي - ش بديلا بالمجد والقشف أجل هناك مطمحاً وراء حشو المعدة وتلبية الشهوة والناس الآن أحوج ما يكونون إلى

نهضة أخلاقية نتيجة نهضة أدبية فلقد أوشك الإنسان كما قال أحد المزاح أن يقع في المعدة حتى أصبح من الواجب أن يرجع إلى مكانه من العقل ويثوب إلى مثابته من القلب. وأصبح الأمر الأهم والمسألة الكبرى النظر في شرف الإنسان وعظمته وذلك مالا يكون إلا بالشاعر وكاتب الأدب. الآداب مصدر المدنية الصحيحة والشعر مبعث الشرف والعظمة ومن ثم كانت الآداب إحدى حاجات الأمم وكان الشعر أمنية الروح ومطمح الأنفس ومن ثم كان الشعراء أول أساتذة العالم ومن ثم وجب أن ينفث الشعر في أفئدة الخلق وأن يترجم إلى العربية شعراء الغرب قديمهم وحديثهم وشعراء الفرس والديلم والهنود وتصب أبياتهم وأبيات العرب في روح هذا الشعب صبك الماء في المكان الجديب. قال أحد كتاب الفرنسيس: من كان ينكر أن الآداب مصدر المدنية فليلق نظرة في إحدى إحصائيات السجون وإليك مثالاً: كان في سجن طولون عام 1862 عشرة وثلاثة آلاف مجرما ألف وسبعمائة وتسعة وسبعون منهم كانوا أميين وتسعماية وأربعة لا يجيدون القراءة والكتابة ومائتان وسبعة وثمانون يقرأون ويكتبون وأربعون يعرفون شيئاً طفيفاً فوق الكتابة والقراءة فكان معظم هؤلاء الأشقياء من ذوي الحرف المنحطة الدنيئة وكان العدد يقل كلما سموت إلى الحرف المستنيرة حتى يصل لك الأمر إلى هذه النتيجة: كل من في السجن ذو مهنة منحطة إلا أحد عشر أربعة من باعة الجواهر وثلاثة من خدمة الكنائس واثنان من الأطباء وممثل واحد وموسيقي واحد ولا متأدب ولا أديب: هذا الدليل قاطع إذا كانت المدنية كما نفهم نحن هي رقي النوع عقلاً وخلقاً مع ما ينجم عن ذلك من الهناء والسعادة ولكن الماديين المتعصبين للعلميات الذين إن تسلهم عن المدنية قالوا إنما هي الكهرباء والفونوغراف والمنطاد والتلغراف لا يرون النعيم إلا في هذه الأشياء فهل خيل إليهم أن السعادة أمر لا يدرك إلا بالقطار والكمال غاية لا تبلغ إلا بالبخار أو حسبوا أن البالون يعرج إلى الجنة فيما يعرج: ولا يسعني في هذا المقام إلا ذكر كلمة للحكيم راسكين هي أبدع ما قيل في هذا الصدد قال: أيظن الماديون أن الانتقال من مكان إلى آخر بسرعة مائة ميل في الساعة أو نسج الأقمشة بمقياس ألف متر في الدقيقة زائد في سعادة الإنسان فتيلاً أو قطميراً وكيف وأرض الله من

امتلائها بالطيبات والمحاسن بحيث لا يكاد المرء يلم ببعضها ماشيا الهوينا فماذا عساه يدرك منها طائراً بأجنحة البرق أو جامحاً في عنان البخار فلا يحسب الماديون أنهم استعبدوا الزمان والمسافة بمخترعاتهم فإن المسافة والزمن يأبيان بطبيعتهما الاستعباد ثم لا حاجة بالإنسان إلى استعبادهما إنما الحاجة والثمرة حسن تصريفها ومن ذا يرغب في تقصير الزمن والمسافة إلا أحمق فأما العاقل فيود لو طالت له المسافة والوقت نعم ويحب الأحمق أن يقتل الزمان والمسافة ولكن رغبة العاقل في أن يحرزهما ليحييهما وما السكة الحديدية إن فكرت إلا أداة يراد بها تصغير الدنيا ثم لا بأس على المرء إن كان حراً مخلصاً أن يسير على مهل لأن مجده ليس في السير إنما هو في العمل فإذا قال قائل القطار نافع لأنه يعيننا على نقل العلم والعرفان إلى الأمم المتوحشة قلنا له قد صح قولك لو كان لديك علم ينقل أما إذا لم يكن لديك سوى السكك الحديدية والبخار والبارود فماذا تصنع أتزعم أنك تريد نشر الدين بين التوحشين. ولو كان ذلك غرضك لقد أمكنك تنفيذه بلا بخار مدة ألف وثمانمائة عام أي منذ ظهور النصرانية إلى وقت اختراع القطار غير أني رأيت أحسن التعليم الديني ما أحدثه أهله على القدم ولعل القدم في مثل هذا الأمر أسرع من القطار. أو تزعم أنك تريد تعليم المتوحش العلم - علم الحركة والطعام والدواء - فهبك لقنته سر البخار فطار بعجلاته وسر الأكل فأجاد السلق والشي والخبز وسر الطب فعرف كيف يأسو الجرح ويجبر الكسر فماذا بعد ذلك؟ أتراك بعملك هذا قد أدنيت المتوحش خطوة من السعادة أو قربته قيد شبر من المدنية الصحيحة. كلا. بل إن أسباب السعادة أقرب إلينا من كل هاتيك الأشياء ولكنا لا نفقه ولا نبصر ووالله ما أبعدنا عن الصواب حين نحسب أن المدنية والسعادة هما في مناعم الخوان واللباس وفي ملاذ الصيد والسباق وفي مسرات الحفلات الليلية وما بها من الغناء الممل المضجر والملابس المثقلة المتعبة وفي التنافس في المنصب والسلطة والثراء والصيت وما أبعدنا عن الصواب وأضلنا عن الجادة حين نظن أن مثل هذه الحقائر هي مما يجوز لنا أن نفخر بإذاعته بين الشعوب المتوحشة والأمم البربرية. ولعل المتوحش حين يتعهد غرسه ... ويجتذب على المحراث والمعول نفسه ويصبو إلى حبيبه كلفا ويحن إلى عهد الصبا شغفاً ويملأ صدره رجاء ويتهل إلى ربه دعاء

أقرب إلى المدنية وأدنى إلى السعادة - فهذه هي أسباب الهناء ودواعي الصفاء وعلى عرفاننا بها وتعليمنا الناس إياها يتوقف نعيم العالم وسعادته فأما على الحديد والزجاج والكهرباء والبخار فلا. وإني من حسن الظن وجميل الرجاء بحيث آمل أن يهتدي الناس يوما ما إلى هذه الحقيقة فإنهم قد التمسوا السعادة من جميع الوجوه إلا الوجه الصواب وضربوا في كل طريق إلا الطريق الأسد. وكأني بهم سيجربون الوسيلة الصحيحة والطريقة المثلى بطبيعة الحال إلا تراهم قد جربوا الحرب والتجارة ومظاهر الأبهة والفخامة وجربوا البخل والكبرياء والتحاقر والتصاغر وكل أسلوب للعيش وطريقة للحياة توقعوا من ورائها فضل الهناء والسعادة. وشموا من تلقائها رائحة الغبطة والنعيم - نعم وبينما هم يمتطون كل صعب في سبيل السعادة ويركبون كل عوصاء إذا بالسعادة قد أوجدها الله بمرأى عيونهم في سحب السماء. وبمنال الفهم في نبات الروضة الفيحاء وكثيراً ما رأينا الملك الجليل والسلطان الكبير قد كثرت عليه آفات الملك وفدحته أعباء الدولة فخرج هارباً على وجهه ثم ما لبث أن وجد المملكة العظمى والراحة الكبرى في قيراطة من الأرض وذراع من الظل ولكن الإنسان لم يصدق ذلك وما يزال يضرب صفحاً عن السحاب ويقتلع النبات يقيم مكانه الصانع والمداخن ويطلب السعادة من غير وجهها حتى عثر أخيراً على العلوم الطبيعية فحسب ضلة وخطأ أن السعادة في مكتشفات الكيمياء ومخترعات الطبيعة فشحن السحاب في الأوعية الحديدية وأرسلها تجري مجرى السحاب واستخرج من النبات خيوطاً فنسجها ثياباً له جيدة رخيصة وظن أن هذه هي السعادة - ظن أن المسير بسرعة السحاب ونسج كل شيء من أي شيء منتهى الهناء والنعمة. ولما كذبت في ذلك أيضاً ظنونه ورأى أن السعادة ما زالت منه كأبعد ما كانت أصبح يفتش عن غلطة جديدة يرتكبها ولكني أحسب أنه قد استنفد في هذا الأمر جميع الغلطات فلا غلطة هناك بعد فأما وقد نفدت حيله وعلم أنه لا فرق بعد الاعتياد بين السير الحثيث وبين البطيء وأنه ليس في استطاعة مصانع مانشستر وما تخرج من الأقمشة والثياب أن تكسب الإنسان راحة النفس ورخاء البال فرجائي أنه سيعلم بعد ذلك أن الله ما صبغ حواشي السحاب وألبس السندس مناكب الغاب إلا ليسعد الإنسان برؤية الخالق في آثاره وبتنفيذ

أوامره تعالى من نشر الأمن والسلام وبث الخير والبر بين جميع مخلوقاته على السواء وليس إلا بهذا يبلغ الهناء وتدرك السعادة. هذا مذهب راسكن ومذهب كل مؤمن بالله طاهر النفس صادق النظر بعيد الرأي شغلته محبة الله عن حب ذاته وصرفته دواعي المروءة والبر والرحمة عن خدمة الشهوات وإطاعة الأهواء ورأى في عجائب الكائنات وروائع الأرضين والسموات مندوحة عما يشغل الجهلة الأغرار من زخرف الدنيا وزبرج الحياة ولعبات الأطفال والصبية: ولعل في كل إنسان مقداراً من الإيمان صغيراً أو كبيراً بحسب فطرته تبديه التربية الحسنة والتفقيه في الدين وعلوم الأدب وليس أبعث لهذا الإيمان من الشعر الكريم الفاضل فإن نفس الحر لتشعر بشغف عظيم إلى أشياء مجهولة ومعاني مبهمة وتحن حنيناً شديداً إلى روح ذلك الجمال الخفي فهي كالأعمى الذي يعشق الحسان من غيران يراها ولا تزال تتلهف على ذلك السر الغريب وتهيم حتى ينشد الشعر الرائع النفيس فيجلو عمى النفس فتبصر الجمال الغريب الذي طالما اشتاقته ونزعت إليه: هذا الجمال هو أثر الله الذي لا تخلو منه ذرة من الوجود والذي يراه أهل اليقين وذوو القلوب المبصرة والذي قد كان يراه الجهلة الكفار الأغبياء لولا ما ضرب الشيطان (حب الذات) على قلوبهم وأبصارهم ويعجبني جداً ما قاله الحكيم الإنكليزي وليم هازلت في هذا الموضوع من فضل التربية الأدبية إنها تلطف الحسن وتهذب الذوق وتفسح مدى النظر وتبعد مسافة الرأي وتعود النفس أن تعني من شؤن الخلق وأحوال العالم بمثل ما تعنى به من شؤنها وأحوالها وأن تحب الفضيلة لذات الفضيلة وأن تؤثر المجد على الحياة والشرف على الغنى ومن فضل التربية الأدبية أنها تبعث أفكارنا إلى ما بعد عن مدارك البشر من معاني الجمال ونأى عن مشاعر الخلق من آيات الشرف والجلال فتعقد الصلة بين نفوسنا وبين أسرار الأبد وتمزج أرواحنا بروح الله ومن فضلها أن تنزع الجبن من قلوبنا وتسل من أفئدتنا مهابة الملوك والجبابرة فتعتق رقابنا من رق الخضوع للسلطة الظالمة والألقاب الكاذبة. نعم إن بالنفس الإنسانية مهما كانت نزعة إلى الجمال أينما كان وحنينا إلى أن ترى عيشاً نعم مما يكون عادة في هذه الدنيا وحياة ألذ وسنة أعدل ونظاماً أكمل والإنسان لا يزال يتمنى الأماني العذبة ويحلم الأحلام المعسولة ثم لا يجد إلا حقائق مرة ونتائج سيئة وأحوالاً

كريهة فيصبح لذلك من نفسه في سجن وظلمة وفي كرب وغمة فمن له بمنقذ من ذلك الحبس والوحشة وكاشف لذلك الضيق والغصة ومن له بمن ينقل ذهنه إلى عالم مصور من اللذة والنعيم والصفاء والرخاء لا سنة فيه إلا العدل والإنصاف تثاب الفضيلة فيه أحسن الثواب ويحل بالرذيلة أنكل العقاب من للإنسان بذلك إلا القصصي والشاعر ألا ترى الطفل إذا فرغ من آفات النهار ومكارهه زحف في العشاء إلى أمه أو أبيه أو جديه يسألها حكاية أو قصة ثم يراها مهما حقرت مملوءة باللذائذ والرجل يأتيك يستعير منك رواية يقرأها أعني يستعير منك بضع ساعات يتحول أثناءها شاعراً يصور الأمور والأحوال كما ينبغي أن تكون لا كما هي كائنة أو ما ترى الرعاع والغوغاء يذهبون أفواجاً أفواجاً ليسمعوا من المحدثين أقاصيص عنترة وأبي زيد وكيف يذوبون رقة وصبابة عند أحاديث الحب والغرام وتغرورق عيونهم عند ذكر الأشجان وسماع المراثي وتحمى الدماء في عروقهم عند الحماسيات والمفاخر ألا ترى الموسيقى الذي هو شعر الأفئدة لا يصدح بمكان حتى يعود كعبة القصاد ومنهل الوراد فبربك أيها العود ماذا تقول وبماذا تحدث القلوب حتى تنصاع إليك هذا الانصياع وتسرع نحوك هذا الإسراع وبربك أيها الصوت الرخيم من أين جئت حتى كان لك من اللذة في الروح مالم يك لشيء غيرك فلا شيء في هذه الدنيا كلذتك إنما تلك لذة قدسية تصف لنا نعيم الجنة. ولقد سمي أدباء العرب أمتع الشر وألذه المرقص وما عدوا في ذلك عين الصواب فإن الشعر الجميل ضرب من النغم لا يكتفي بأرقاص الأعضاء حتى يرقص أجزاء النفس بعد إذ هي جامدة فتنطلق انطلاقاً لا تعود قط بعده إلى حالها الأولى من الجمود وما من إنسان إلا وفي طبعه ميل إلى عالم الجمال واللذة أعني إلى عالم الشعر والقصص وهذا الميل يشتد في ذوي الأمزجة الحارة حتى يكون غليلاً فأما أن يروي من مناهل الرواية والنظم وإلا نزع بصاحبه إلى مواطن الإثم والجريمة أو طوح به في مهواة الجنون وهذه حقيقة لا نعلم كيف يقف أمامها الماديون القائلون بأن الشعر والأقاصيص ومحدثات الخيال آخذة في الاضمحلال مشفية على الانقراض: رأي فائل ومذهب باطل لا نرى في تفنيده أبلغ من الكلمة الآتية لفيكتور هوجو وبها نختم هذا المقال الذي قد تنفي عظاته ما يحدث طوله من الملال.

يزعم الكثيرون ولا سيما سماسرة الأسهم والسياسيون أن الشعر يتلاشى ويضمحل فهذا كقولهم أن جمال العالم يتلاشى ويضمحل وأن الرياض قد خلعت وشي برودها وحلى ورودها وأن الشمس قد أضلت مشرقها بعد أن فقدت رونقها وأنك قد تجوب جنات الأرض فلا يباسمك ثغر إقحوانة ولا يفغمك عبق ريحانة وإن القمر قد قوض خيام نوره بعد أن طوى أطناب شعاعه والبلبل قد وجم بعد طول ترتيله وتسجاعه وإن الليث قد خرست زماجره وقلمت أظافره والنسر قد هيض جناحه وكف طماحه والسحاب قد حبس ودقه وأطفأ برقه وإن البطون قد ضنت بالحسن والمليح وجادت بالسيء والقبيح فلست ترى وجهاً جميلاً أو طرفاً كحيلاً أو خصراً نحيلاً أو خداً أسيلا وإن الرأفة ضاعت فلست ترى باكياً على قبر أو واقفاً بطلل تفر يبكي عهود الأحباب والحبائب ومنايا الأصحاب والأقارب وإن الحنان قد زال فلا أم ترأم ولدها ولا ابنة تجب والدها وإن المروءة قد قضت نحبها وأسلمت الإنسانية رمقها.

تاريخ الإسلام

تاريخ الإسلام مقدمات المقدمة الأولى قدم التاريخ - التاريخ فطرة في الإنسان - ماهو التاريخ - الطريقة المثلى في التاريخ - أركان التاريخ - عطمة التاريخ الإسلامي - واجبات مؤرخ الدين - ما هو التاريخ الإسلامي - طريقتنا في تاريخ الإسلام - ماذا نقصد إليه من تاريخ الإسلام - المصادر التي اعتمدنا عليها في تاريخ الإسلام - التاريخ علم قديم وجد مع الإنسان وليست أمة في أقصى غايات التوحش إلا عالجت إثبات تاريخها على حين أنها من الجهل بالحساب بحيث لا يمكنها أن تعد خمساً - وقد كتب الأقدمون التاريخ بالخيوط الملونة وبالريش المجعول في شكل صور وبالخرز والصدف وبالحجارة أهراماً وهياكل - ذلك لأن الزنجي والرومي والأصفر والأحمر كلهم يعيش بين أبدين ويخشي إذا ما مات أن يمسح الدهر ذكره ويمحو البلى أثره فلذا تراه يبذل الجهد في إثبات عهده في صحيفة الوقت وعقد طرفي سيرته بالماضي والمستقبل. ولعل ملكة التاريخ فطرة في الإنسان فكل إنسان مؤرخ ألا ترى أن ذاكرة المرء إنما هي صفحة تاريخ مشحونة بالأخبار والروايات بعضها للأفراح وبعضها للأتراح وشطرها للفوز وشطرها للخيبة فكأن في كل نفس دولة قد سجلت في لوح الحافظة حظوظها من سعد ونحس وحالاتها من بؤس ونعيم وشؤنها السياسية خارجية وداخلية - وهل ينطق أغلب الناس إلا ليقصوا ويحكوا ويلقوا عليك لا ما جادت به قرائحهم بل ما لاقوا وما جربوا وما قاسوا وما كابدوا ثم تصور ماذا يكون لو حيل بين الناس وبين حكاية الحوادث وذكر الأخبار والنوادر إذن لجفت أنهار الحديث ونضبت عيون القول وعاد الكلام خطرات تخطر بين ذوي الألباب من حين إلى حين وتلاشي بتة بين العامة وأشباه العامة وكذلك ترى أن كل أعمالنا تاريخ وكل أقوالنا تاريخ. وكذلك ترى أن علم التاريخ أي علم معرفة الحوادث الجسام وما أثرت في أحوال البشر من أجل العلوم قدراً وأردها نفعا وهو في عصرنا هذا أجل منه وأرد في سائر العصور لأنه لما كان الأقدمون أقل علماً وفلسفة وأكثر سذاجة وقوة خيال كان التاريخ عندهم مجرد سرد

المدهشات واقتصاص الأعاجيب لا يتوخى في ذلك سوى اللذاذة وتفكهة النفس أما الآن فوظيفة التاريخ هو التعليم في قالب حلو شائق وعرفوه بأنه الفلسفة تعلم الناس بالمثال والتجربة في أسلوب جميل وكذلك ترى أن أكبر صفات المؤرخ أن يجمع بين ملكتي الخيال والحكمة أي أن يكون شاعراً وحكيماً معاً حتى يأتي كلامه فلسفة في صورة قصص خلاب يأخذ بمجامع القلب فإن استبدت فيه قوة الخيال خرج قوله خرافة وإن ذهبت به ملكة الفلسفة جاء كلامه نظرية وكلاهما انحراف عن المحجة ولقد درج المؤرخون قديما وفي الحديث على أن يقصروا كلامهم على الأمراء والقواد وما يكون في قصور الملوك ومواطن الحروب كأن ذلك هو كل ما يوجد في أرض الله الطويلة العريضة وكأن ليس في العالم إلا القواد والملوك وإلا حفلات القصر الملوكي ودسائس البلاط وإلا صليل السيوف وصهيل الخيل وقعقعة المدافع وإراقة الدماء وغاب عنهم أن بعيداً عن هذه المواطن يتدفق نهر الفكر وبحر الإنسانية الطامي في مجراه العجيب طوراً في ظلمة وتارة في ضياء وانتصر الجيش أو انهزم ونجحت المكيدة أو خابت كل ذلك عنده سواء وأن هنالك عالما من الإنسانية يزهر وينضر ويثمر في شمس السعادة والرخاء أو يصوح ويذبل ويموت في ظلمة البؤس والشقاء فمن اللائق بالمؤرخ النافع ولا سيما في هذه الأجيال أن ينصرف عن وصف الأفراد ونعت ماكان من الحوادث ليس له الأثر العظيم في تعديل هيئة المجتمع وتحوير حاله - إلى وصف المجتمع نفسه وتحليل أجزائه وفحص مكينته حتى يصبح القارئ منه كالذي ينظر إلى دخيلة مكينة ساعته لا كالذي يظل من ذلك على جهل ويكتفي بسماع الدقات. والحق أقول أن من دقق النظر وجد أن أجهر الحوادث التاريخية صوتاً وأعظمها جلبة ليس في الحقيقة شيأ وإنما أخطر الحوادث وأشرفها ما وقع في سكينة وصمت فإن الشجرة العظيمة تحطم فتدوي لهول مصرعها أنحاء الغابة وتبذر كف النسيم ألف حبة فلا تحس لذلك أدنى حركة وكذلك الحروب والوقائع وضجيج الفوارس وقعقعة السيوف تصم الآذان ساعة كونها وتدير كأس الفوح فريق وقدح الغم على آخر ثم لا تلبث أن تزول كأنها لم تكن فهي كالأعراس والمآتم. * سحائب صيف عن قليل تقشع *

وبعد فعلى المؤرخ إذا أراد أن يكتب تاريخاً نافعاً أن يطرقه من جميع أبوابه ويتسرب إليه من سائر وجوهه وهي (1) الوجه السياسي وهو ذكر إدارة الحكومات وعلاقاتها من حروب ومعاهدات و (2) الوجه الديني وهو أهمها من حيث أنه يهمنا من صلاح سريرة الإنسان وطهارة نفسه أكثر مما يهمنا من صلاح جسمه وصحة علانيته لأن الأصح جسماً لا يعدو كونه الأشد قوة وأمناً والأمن والقوة وحدهما ليسا من الخير المحض والسعادة الصريحة في شيء إنما الخير المحض في التقى والإيمان وكذلك كان الأمر الأهم للإنسان هو العقيدة التي يراها ما يرجى أن يبلغ من مراتب الفضل في الدين لا مذهبه السياسي ومبدأه الحكومي وعلى المؤرخ الديني إذا أراد أن يبلغ الغاية أن يعدل بنظره عن مصطلحات الملل والنحل وظواهرها إلى أعماق سرائر الناس يستشفها من وراء أعمالهم وأقوالهم فيعلم في ارتقاءهم أم في هبوط وانحطاط و (3) الوجه الفلسفي وهو آراء الإنسان ونظرياته في ماهية خلقه وخلُقه وفي صلته بالكون الظاهر والخفي - وهذا النوع من التاريخ إذا صلح فرع من التاريخ الديني لأن الدين والعبادة جسم يجب أن تكون روحه الفلسفة وقدماً كان الفيلسوف والكاهن رجلاً واحداً: ولكن الفلسفة قد انحرفت عن هذا الطريق وما كان بين المؤرخين من عمل على تقريب المسافة بين المذهبين حتى أصبحت عبادة آيات الله (الدين) وفحص آيات الله الفحص العلماني (الفلسفة) يسيران في منهجين متباينين و (4) الوجه الأدبي والشعري وهو تأثر الإنسان ببدائع صنع الله من حيوان ونبات وجماد وكيف يتغير هذا التأثر بتغير الزمان والمكان وكيف أثر في النفوس والطباع رقة وتهذيباً وتثقيفاً وتنويراً وما حدث عنه من التطورات والانقلابات والثورات وكيف أن وجود الشعر والأدب وغيرهما من الفنون الجميلة في أمة ما كان يهذبها ويرفعها ويقربها درجات من الله ومن عيشة الملائكة وإن عدم وجوده كان يضع الأمة ويتركها تدب كالحشرات على مساحف الجهل في هواء ملم قفر من النغم والألحان: ويلي ذلك الوجه التشريعي وهو ما يبحث في وضع القوانين والشرائح وهيئات الحكومات ثم الوجه الطبي والرياضي والفلكي والتجاري والصناعي - هذه هي أركان التاريخ الصحيح التي يجب على من يتعرض لتاريخ أمة من الأمم أن يوفيها حقها من البحث والتحليل وإلا فليس هناك تاريخ وإنما هي أرقام وتقويم أيام.

نعم وإذا كانت الأمم تتفاوت في الأولوية بهذا الواجب فأولى الأمم بذلك وأجدر هي تلك الأمة الحافل تاريخها بالعبر والعظات والأعاجيب والمدهشات تلك الأمة التي أسست على أعظم دين نبغ في هذه الأرض وقام للشرائع والعلوم والآداب فيها دولة بل دولات تلك الأمة التي تحسر دون عظمتها الظنون وتفحم بنعتها قرائح الشعراء وتخرس عن العبارة عنها شقاشق الخطباء ويركع أمام هيكل تاريخها المقدس أكبر المؤرخين إعظاماً وإكباراً تلك الأمة بل الأمم الإسلامية التي. . . آه يا رب ماذا أقول لا أقول إلا أني لا أقول فالصمت أبلغ ما يكون في مثل هذا الموقف الرهيب تاريخ الإسلام كله مفارقات ضحك وبكاء ويأس ورجاء وقرب ومنعة وضعة ورفعة وعلم وجهل وحزن وسهل ونعيم ورخاء وبؤس وشقاء وتعاليم صحيحة سماوية في أعلى عليين وتعاليم فاسدة أرضية في أسفل سافلين. تاريخ الإسلام عظيم - عظيم جداً - وعلى عظمته هذه لم يكتب فيه مؤرخ عظيم وإني يكون ذلك والقائل فيه أما مسلم أي متعصب للإسلام أو غير مسلم أي متعصب عليه وكلاهما لا يمكن أن يكون منصفاً أي عظيماً أي عظيما ويعجبني ما قاله المؤرخ الحكيم ارنست رنان في مقدمة تاريخ السيد المسيح: يجب على الذي يتصدى لتاريخ دين من الأديان أمران (الأول) أن يكون قد آمن به أولاً وإلا فإنه لا يفهم شيئاً من محاسنه ولا يدرك ما فيه من مطمنات النفوس ومرضيات الضمير البشري (الثاني) أن يكون قد صار ممن لا يؤمنون به إيماناً مطلقاً من غير شرط ولا قيد: لأن الإيمان المطلق لا ينطبق على العلم والتاريخ لكونه يوجب التسليم والعلم والتاريخ لا يعرفان تسليما: (وبعد) فلقائل أن يقول ما هو التاريخ الإسلامي وماذا تعني به وماذا عسى أن تقول فيه وماذا تقصد إليه من التعرض له وما هي المصادر الذي ستعتمد عليها فيه - فجواب ذلك ما يأتي التاريخ الإسلامي هو تاريخ الأمم الإسلامية جميعاً على اختلاف صنوفهم أي تاريخ العرب والفرس والترك والديلم والبربر (المغاربة) والسود والقبط (المصريين) ومن إليهم وذلك يستدعي تاريخ مؤسس هذه النهضة العظيمة السيد الرسول عليه السلام والنظر في حياته الطاهرة وشمائله والربانية وما جاء به من التعاليم السماوية نظرا فلسفياً دقيقاً وذلك يستدعي النظر في حال العرب قبل الإسلام ولاسيما قريش الذين بينهم ظهر الإسلام وسطع

نوره وذلك يستدعي النظر في الأديان عامة وأديان العرب خاصة وذلك يستدعي القول في التاريخ وما هو والطريقة المثلى فيه فكان لذلك ما رسمناه لنفسنا أولاً وهو أن جعلنا التاريخ الإسلام ثلاث مقدمات (الأولى) في التاريخ وماهو (الثانية) في الأديان وتاريخها ونظرة فلسفية فيها (الثالثة) في العرب وقريش وصفة مكة وجزيرة العرب ثم كسرنا التاريخ بعد ذلك على كتب وكل كتاب على فصول - أما طريقتنا في التاريخ الإسلامي فهي العمل بما أسلفنا القول فيه من شرح الشؤون السياسية والدينية والأدبية والفلسفية والتشريعية لكل عصر عصر من العصور الإسلامية مع الإشباع والتطويل والتزام خطتي العدل والإنصاف - أما ما نقصد إليه من التعرض لتاريخ الإسلام فاعلم أيها الناظر في كلامنا أن لكل قائل في التاريخ أحد غرضين إما تدوين الحوادث التاريخية كما هي لا لغرض سوى طلب الفن لذاته وأما إصلاح الجمعيات الإنسانية بما يتضمنه التاريخ من العبر والعظات وجميل المثلات حتى يكون الغابر مزدجرا للحاضر وفي الماضي لمن بقي اعتبار أما نحن فغرضنا من القول في التاريخ الإسلامي الأمران معاً أي ذكر حوادث التاريخ الإسلامي كما هي وتوخي الحقيقة فيها جهد الاستطاعة وتذكير الأمم الإسلامية الحاضرة بماضيهم وما فيه من مجد وسودد وتدهور وانحطاط وما في ديننا من آداب عالية هي أرقى ما يصل إليه العقل البشري وما طرأ عليه من التحريف ودخل من التعاليم الفاسدة التي ليست من الحقيقة في شيء - علّ في ذلك تذكرة لمن تذكر وتبصرة للمبصرين - أما المصادر التي سنعتمد عليها في التاريخ الإسلامي فهي مصادر عدة (1) القرآن الكريم (2) الأحاديث الصحيحة (3) كتب الفقه وأصول الفقه (4) كتب السير والتاريخ (5) كتب الأدب كالأغاني واضرابه (6) كتب فلسفية وأخلاقية قديمة وحديثة (7) مقالات ورسائل شتى في موضوعات مختلفة (8) كتب تقويم البلدان (9) الرحلات (10) العقل أي الميزان الذي يوزن به غث القول وسمينه والمجس الذي يجس به صحيح المعنى وعليله. هذه هي طريقتنا في تاريخ الإسلام وموعدنا لمقدمة الأديان العدد الآتي إن شاء الله

الفكاهات والملح

الفكاهات والملح التطفيل سئل رجل أي الشراب ألذ فقال ما لم تبذل فيه درهما. وكم في الناس مثل هذا الرجل ممن تتنازعه الرغبة من جهة والبخل من جهة وكلم فيهم الفقير الذي تدفعه الشهوة إلى ما في أيدي الغير ثم لا يزعه حياء ولا تردعه عفة. قال رجل لآخر أراد سفراً إن لكل رفقة كلباً يشركهم في فضلة الزاد فإن استطعت أن لا تكون كلب الرفاق فافعل. على أني طالما عجبت ورأيت الناس يعجبون للبخيل الشحيح أو المسكين العديم الكسب كيف تراه حسن الجال يروح ويغدو بظاهر كالمرآة مجلو وباطن كالمخلاة مشو وكيف يحتال إلى معاشرة الأغنياء ويتلطف حتى يخلص إلى موائدهم ويفضي إلى عقد أكياسهم فلعلها صناعة دقيقة ومطلب عويص وسر لم يهتد إليه إلا القليلون من ذوي الحذق والذكاء. فكم من أناس حاولوا هذه الغاية فأخفقوا وأناس نجحوا في بادئ أمرهم فاستولوا على عدد عظيم من موائد الأغنياء ثم أدبر أمرهم وذهبت ريحهم فجعلت تلك الموائد تنفلت من أيديهم واحدة واحدة حتى أشفقوا على موائدهم العارية أن تزول وأصبحوا في الفقر وقلة الخير ينوحون على ما كانوا فيه من الكثرة والنعيم. ولا أعلم في الطفيليين من هو أشد جرأة وأكبر أمنية من الأديب الذي يحسب أن منزلته من الأدب شفيع له عند صاحب المال وأنه يدفع من مجونه وأدبه ثمن ما يتناول من طعام الغني وذهبه بل لقد تبلغ من قحة ذلك الأديب أنه يشفع التسول بالكبرياء والتكفف بالتيه والخيلاء حتى كان له على الأغنياء حقاً يبغيه وديناً يقتضيه يفعل الأديب المتطفل ذلك مع من يستطيع خدعه من المنتسبين إلى الأدب فينزل نفسه منهم منزلة الأستاذ من الطالب ولكن هؤلاء قليلون فأما معظم أهل الترف من أعداء العلم والأدب الذين لا يميزون بين الشعر والشعير ولا يفرقون بين المعارف والمغارف فلا يجرأ المتطفل الأديب أن يبدي لهم حركة تنم إلا عن تأدب وخشوع وتواضع وخضوع. وصناعة التطفيل فن دقيق كما قدمنا قد ينال جزء منه بالمزاولة ولكن لا ينبغ فيه إلا من خلقه الله طفيلياً بالفطرة وللفن قواعد كثيرة أهمها.

أولاً: أن تكون وقاحاً صفيق الوجه. تفاتح الناس الكلام بلا مناسبة ولا تستحي ويعرضون عنك احتقاراً واستنماجا لك فلا تخجل ولا ترعوي ثانياً: الذلة وذلك أن تكون جباناً مهيناً لا نخوة لك ولا إباء ولا عزة فترضى معاشرة الغنى مع علمك أنه شفيه وله ساعات جهل وبطر ينحط فيها عليك بصنوف الإساآت وضروب الشتائم من غير علة ولا سبب وساعات يريد أن يضحك الحاضرين فلا يجد غيرك هدفاً للضحك وغرضاً للسخرية والطفيلي لا يرى في ذلك باساً ولا عاراً بل يحسب أن ذاك يزيده اتصالاً برب نعمته واستمكانا لمنزلته عنده ويقول لا جرم فإنه يدفع ثمن الضحك والشتم وأراني ساعة يملأ شدقيه ضحكاً أملأ جوفي طعاماً ثالثاً: أن تكون منافقاً متلمقاً. تظل ولا شأن لك إلا حمد كل ما يأتي به رب نعمتك وأبو مثواك حسناً كان أو قبيحاً ثم تجاريه في جميع أمره فتحمد ما يحمد وإن كان مذموماً وتذم ما يذم وإن كان محموداً تنظر بعينيه وتسمع بأذنيه وتذوق بلسانه وتحب بجنانه وتكره بقلبه وتغضب لغضبه وتكون إجابتك ابتسامة بالابتسام وعبوسة بالعبوس وضحكة بالضحك وبكاءة بالبكاء أسرع من رجع صداه وعكس مرآته. وكان أحد المتملقين يقول: إن الرجل الغني ليقول الكلمة الغثة الباردة فاغرب في الضحك وإنما ضحكي بمقدار ما انتظر من العطاء لا بمقدار فكاهة الكلمة. وكان آخر يقول كنت أجلس بين الغنيين فيشتبك بينهما الجدال ويتناضلان بالحجة فلا أزال أميل بالاستحسان إلى هذا تارة وإلى ذاك أخرى فيعجب كل منهما بنفسه ويفتن بحسن قوله ويشغله ما يداخله من الفرح بأصالة رأيه من التمادي في المناظرة ويحمله التيه بذلاقة لسانه. وقوة برهانه. على رحمة مناظره حتى يترك كل منهما المناظرة فيؤول إلى الأمن الوئام والسكينة ما كان يؤذن بالشر والخلاف والخوف. وقال آخر ما خشيت قط شيئاً مثل أن يسألني صاحب الدار عن أمر لا أعرف رأيه فيه فإني أخاف أن أذهب مذهباً لا يراه وفي ذلك من مخالفة أصول التملق ما فيه. ومن أهم صفات المتملق أن لا يكون له مبدأ ولا رأي بل يستعير مبادئ الغنيّ الذي يجالسه مادام في داره فيلبس لكل بيت زياً. ويتلون كل ساعة لوناً كأنه الماء الذي لا شكل له في ذاته وإنما يأخذ شكل ما يحيط به من الوعاء فإذا أبى المتملق إلا أن يكون ذا مبدأ فعليه أن يخلع مبدأه مع حذائه على عتبة كل دار يدخلها فلا يلبسهما إلا ساعة الانصراف.

رابعاً: الاشتغال بعلم صناعة الأطعمة فإذا آكل الطفيلي جماعة على خوان أحد الأغنياء جعل همه أن يفرد صنفاً من بين الأصناف فيغري به القوم إغراء خبير واثق مما يقول حتى لا يجرأ أحد على مخالفته وكذلك ينال الطفيلي على الخوان منزلة أشبه بمنزلة رؤساء الأقلام بين عمالهم والمدرسين وسط أطفالهم ويقال عنه هو حاذق بالمشويات كما يقال الشيخ فلان حاذق بالأدبيات وهو أخصائي في التربية والكباب كما يقال فلان أفندي أخصائي في التربية والحساب ويصبح ذوقه ميزاناً للسلطات والمربات ويشهد له عشاق فن المأكل بأنه الفذ المفرد الذي عرف دقائق الفن ووقف على أسرار الصناعة. وعلم الأطعمة علم صعب المراس بعيد المنال لا تنال دبلومته إلا بعد اثني عشر عاماً من السعي والجد والطلب المشفوع بالإخلاص والاحترام والتفاني - الإخلاص لجانب المعدة. والاحترام لعظمة الخوان وأبهته والتفاني في حب ما يزف عليك من عرائس الألوان وابكار الزجاج التي لم تفض أختامها. فمن فعل ذلك صار أستاذاً في الفن وآيته أنك لا تسمع له كلاماً إلا في شأن الأكل ولو اطلعت على ذهنه لم تجد له خاطراً يجزي إلا على صدور الأخونة ولا هاجساً يهجس إلا بين الكوانين والحلل ولا فكراً يرسب إلا في قوارير الزيت والخل ولا أملا يعلق إلا بذيل دجاجة أو جناح أوزة وتجده لا كتب له إلا قوائم الأكل ولا يذكر الأمور والحوادث إلا بمواعيد الأكلات وتواريخ الولائم فإذا سئل متى وقع ذاك الأمر جعل يفكر أكان عقب أكلة سمك أم طعمة بقول وهل جرى قبل وليمة ديك أو مأدبة شاة. هذه علائم أستاذ الطفيليين فاعرفها والسلام. من طريف مايروى في باب التطفيل ما حكي أن طفيلياً بالبصرة مر على قوم وعندهم وليمة فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي فأنكره صاحب المجلس فقالوا له لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك فقال إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها ووضعت الموائد ليؤكل عليها وما وجهت بهدية فأتوقع الدعوة والحشمة قطيعة وطرحها صلة وقد جاء في الأثر صل من قطعك وأعط من حرمك وأنشد: كل يوم أدور في عرصة الدا - ر أشم القتار شم الذباب فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخان أو دعوة الأصحاب

لم أعرج دون التقحم لا أر - هب طعن أو لكزة البواب مستهيناً بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هياب فتراني ألف بالرغم منهم ... كل ما قدموه لف العقاب (وكان) أشعب الطماع المدني المولود سنة تسع من الهجرة ظريفاً وله نوادر في هذا الباب من أملح ما يكون فمن ذلك أنه وقف مرة إلى رجل يعمل طبقاً فقال له أسألك بالله الا ما زدت في سعته طوقاً أو طوقين فقال له وما معناك في ذلك فقال لعل تهدي إلي فيه شيء (وبينا) قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون حيتاناً إذ استأذن عليهم أشعب فقال أجدهم إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية ويأكل معنا الصغار ففعلوا وأذن له فقالوا له كيف رأيك في الحيتان فقال والله أن لي عليها لحردا شديداً وحنقاً لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان قالوا له فدونك خذ بثأر أبيك فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير ثم وضعه عند أذنه وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس فقال أتدرون ما يقول لي هذا الحوت قالوا لا قال إنه يقول أنه لم يحضر موت أبي ولا أدركه لأن سنه يصغر عن ذلك ولكن قال لي عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت فهي أدركت أباك وأكلته.

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية كان انفصالي عن الإسكندرية للوفود إلى الأندلس بسحرة يوم من أيام سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة عدوليّه لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر لم ترقط عيني مثلها وكان عبد الرحمن فيما بلغني مولعاً بإنشاء السفن والأساطيل فأنشأ هذا المركب الكبير الذي لم يُعمل مثله وسير فيه أمتعة وبضائع إلى بلاد المشرق لتباع هناك ويعتاض عنها فمر بكثير من ثغور البحر الشامي وكان آخر ما مر به الإسكندرية ولما نزلت هذا المركب رأيت فيه كثيراً من أهل بغداد والموصل والشام ومصر يريدون الوفود إلى الاندلس - وممن عرفت منهم عالم لغوي أديب من أهل بغداد يعرف بأبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي وفقيه مصرأحمد ابن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف وفقيه مقرئ يسمى أبا الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر التميمي الأنطاكي وتاجر رحلة من أهل الموصل يعرف بابن حوقل وقينة اسمها فضل المدينة - وأصل هذه القينة كما أخبرتني لأحدى بنات هرون الرشيد ونشأت وتعلمت ببغداد ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة فازادت ثم طبقتها في الغناء ثم اشتريت للأمير عبد الرحمن مع صاحبة لها تسمى علم المدينة وصواحب أخرى: وقد عقدت الغربة بيني وبين فضل صحبة - لأن الغريب كما قيل للغريب نسيب - فرأيت منها أديبة ذاكرة حسنة الخط راوية للشعر حلوة الشمائل معسولة الكلام ذلك إلى حذقها في الغناء ولباقتها به مع الظرف الناصع والجمال الرائع فكانت ضنع الله لها سلوتنا في سفرنا وكانت تجلو هموم السفر ومرض البحر بما تنفثه بيننا من حين إلى آخر من سحر الحديث الذي يأخذ بالألباب ويرتفع له حجاب القلوب فهو كما قال أبو حية النميري فيمن يقول: حديث إذا تخش عيناً كأنه ... إذا ساقطته الشهد أو هو أطيب لو أنك تستشفى به بعد سكرة ... من الموت كادت سكرة الموت تذهب ولما أقلعت بنا السفينة من مرسى الإسكندرية تحركت الريح الشرقية نسيماً فاتراً عليلاً ثم غثى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه فعاد كأنه صرح ممرد من قوارير فبقينا لاعبين

على صفحة ماء تخاله العين سبيكة لجين كأنا نجول بين سماأين فكان لذلك منظر قيد النواظر وشرك العقول تجلى لنا فيه جمال الكون وصانعه فكنت ترى السماء صافية الأديم زاهرة النجوم وكوكب الزهرة مقبلاً من ناحية المشرق يحفه الجمال والجلال فلولا التقى لقلت جلت قدرته وترى البحر كأنه مرآة مصقولة تنظر السماء فيها وجهها فكأنما الماء سماء وكأن السماء ماء وترى النوتية مجدين في التجذيف على حال لو هممت بتشبيهها بشيء حسن لاضطرك حسنها إلى رده إليها مجاذف كالحيّات مدت رؤسها ... على وجل في الماء كي يروى الظما كما أسرعت عدا أنامل حاسب ... بقبض وبسط يسبق العين والفما وفيما بين ذلك تسمع فضل المدينة تغني مواليا بغدادية مؤثرة وبين يديها مزهر تقلدته أطرافها. تميت به البابنا وقلوبنا ... مراراً وتحييهن بعد همود إذا نطقت صحنا وصاح لنا الصدى ... صياح جنود وجهت لجنود ظللنا بذاك الديدن اليوم كله ... كأنا من الفردوس تحت خلود ومضى على ذلك ثلاثة أيام بلياليها كنا من أوقاتها في بلهنية من العيش وغفلة عن أعين الدهر ووصال أخضر ونعمى لا يشوبها بؤس ولا كدر فلما كان اليوم الرابع ولا كان هبت علينا ريح عاصف رمتنا بها الأقدار من حيث لا ندري فأرغى البحر وأزبد وأبرق وأرعد وتلاطمت الأمواج واهتاجت أيما اهتياج وصار بها لعمري مثل الجنون وتراءت في صورها المنون. وقد فغر الحمام هناك فاه ... وأتلع جيده الأجل المتاح فانقلب يسرنا عسراً وأدال الله من الحلو مراً وعظم الخطب وعم الكرب ونحن في ذلك قعود كدود على عود وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا وخرست من الفرق ألسنتنا وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود إلا السماء والماء وذلك السفين ومن في قبر جوفه دفين. البحر صعب المرام جداً ... لا جعلت حاجتي إليه أليس ماء ونحن طين ... فما عسى صبرنا عليه ولبثنا على هذه الحال من ظهر اليوم الرابع إلى سحره وبعد ذلك فترت الحال بعض فتور

ثم جاءت ريح رخاء زجت السفينة إلى بر جزيرة أقريطش (كريد) أهنأ تزجية وأخذنا نسير في محاذاتها فما كان إلا كلا ولا حتى وصلنا على مدينة الخندق (كندية) إحدى مدنها ومرافئها العظيمة فارسينا بها ريثما نشتري منها ما يعوزنا من الخبز واللحم والماء والفاكهة. اقريطش وهذه الجزيرة من جزر المغرب الكبيرة فيها مدن وقرى كثير يقابلها من بر أفريقية لوبيا وجميع سكانها الآن مسلمون وأميرها يسمي عبد العزيز بن شعيب من ولد أبي حفص البلوطي الأندلسي وذلك فيما علمت أن الحكم بن هشام أمير الأندلس كان قد أمعن صدر ولايته في اللذات فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك واحد رواة الموطأ عنه وطالوت الفقيه وغيرهما فنقموا عليه وثاروا به وبايعوا بعض قرابته وكانوا بالربض الغربي من قرطبة - محلة متصلة بقصره - فقاتلهم الحكم واستلحمهم وهدم ديارهم ومساجدهم فلحقوا بفاس من أرض العدوة وبالاسكندرية - وبعد أن أقاموا في الإسكندرية حيناً من الدهر تلاحى رجل منهم مع جزار من سوقها فنادوا بالثار واستلحموا كثيرا من أهل البلد وأخرجوا بقيتهم وامتنعوا بها وولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي ويعرف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة فقام برياستهم وكان على مصر يومئذ عبد الله بن طاهر من جهة المأمون فزحف إليهم وحصرهم بالإسكندرية فاستأمنوا له فأمنهم وبعثهم إلى هذه الجزيرة (أقريطش) فعمروها وأضاؤها بنور الإسلام وشيدوا بها المعاقل والحصون والمدن العظيمة مثل الخندق التي اشترينا منها خبزنا ولحمنا وبهرنا ما رأينا فيها من حضارة العرب وعز الإسلام ولم يزل أميرها إلى اليوم وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من ولد أبي حفص البلوطي وهو الأمير عبد العزيز بن شعيب أدام الله ملكه وأبعد عنه كيد الأعداء. ولما أقلعنا عن بر جزيرة أقريطش أسعدت الريح وأصحت السماء ونام عنا البحر وأخذت السفينة تشق اليم شق الجلم وأخذنا في سمت جزيرة صقلية وما زلنا حتى قطعنا سبعمائة ميل في مدى أربعة أيام بلياليها وقار بنا صقلية وسرنا منها أدنى ظلم (قريبين جدا) فأخذت أعيننا أشباحاً كالأعلام تسير على وجه الماء تنضم إلى بعضها تارة وتنصاع أخري

فتساءلنا فقيل لنا أن هذا أسطول المعز لدين الله أبي تميم معد العبيدي يغدو ويروح بين صقلية وبين قلورية (كلابره) من بر الأرض الكبيرة (أوروبا) فانتشى من هذا المنظر تاجر مغربي أديب من أهل المهدية نزل معنا من أقريطش بنية الوفود إلى صقلية وأخذت منه هزة الطرب حين رأى أسطول بلده ورفع عقيرته قائلاً لله أبو القاسم محمد الأندلسي شاعر المعز لكأنه يرى ما يرى الآن حين يقول في هذا الأسطول: أما والجوار المنشآت التي سرت ... لقد ظاهرتها عدة وعديد قبابٌ كما ترحني القباب على المها ... ولكن من ضمت عليه أسود ولله مما لا يرون كتائب ... مسومة يجدى بها وجنود أطال لها أن الملائك خلفها ... كما وقفت خلف الصفوف ردود وإن الرياح الذاريات كتائب ... وإن النجوم الطالعات سعود عليها غمامٌ مكفهر صبيره ... له بارقات جمة ورعود مواخر في طامي العباب كأنه ... لعزمك بأس أو لكفك جود أناخت به آطامها وسما بها ... بناء على غير العراء مشيد ولي بأعلى كبكب وهو شاهق ... وليس من الصفاح وهو صلود من الراسيات الشم لولا انتقالها ... فمنها متان شمخ وريود من القادحات النار تضرم بالصلى ... فليس لها يوم اللقاء خمود إذا زفرت غيظاً ترامت بمارج ... كما شب من نار الجحيم وقود تعانق موج البحر حتى كأنه ... سليط له فيه الذبال عتيد ترى الماء منه وهو قان خضابه ... كما باشرت ردع الخلوق جلود فأنفاسهن الحاميات صواعق ... وأفواههن الزافرات حديد يشب لآل الجاثليق سعيرها ... وما هي عن آل الطرير بعيد لها شعل فوق الغمام كأنها ... دماء تلاقتها ملاحف سود وعين المذاكي نحرها غير أنها ... مسومة تحت الفوارس قود فليس لها إلا الرياح أعنة ... وليس لها الحبال كديد ترى كل قوداء التليل كما انثنت ... سوالف غيد أعرضت وخدود

رحيبة قد الباع وهي نتيجة ... بغير شوى عذراء وهي ولود تكبر عن نقع يثار كأنها ... موالٍ وحر الصافنات عبيد لها من شفوف العبقري ملابس ... مفوفة فيها النضار جسيد كما اشتملت فوق الأرائك خرد ... أو التفعت فوق المنابر صيد لبوس تكف الموج وهو غطامط ... وتدرأ بأس أليم وهو شديد فمنها دروع فوقها وجواشن ... ومنها جفانين لها وسرود وأنا لفي ذلك إذ رأينا قلورية من بر الأرض الكبيرة عن يميننا وبر جزيرة صقلية عن يسارنا ثم دخلنا المجاز الذي بينهما فرأينا بحراً صعباً ينصب انصباب السيل العرم ويغلي غليان المرجل لشدة انحصاره وانضغاطه فاستمر مركبنا في سيره والريح الجنوبية تسوقه سوقاً عنيفاً فلما شارفنا مدينة مسينى وقد كان الليل مظلماً ربوض النواحي ضربت في وجوهنا ريح انكصتنا على الأعقاب وحالت بين الأبصار والارتقاب وتتابعت علينا عوارض ديم صرنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظلم وعباب الموج تتوالى صدماته وتظفر الألباب رجفاته فقطعنا هذه الليلة البهماء في مقاساة أهوال تجعل الولدان شيباً ثم تداركنا صنع الله مع السحر ففترت الريح ولأن متن البحر وجاءت ريح رخاء زجت المركب تزجية حسنة إلى مدينة مسينى فأرسينا فيها على مرسى عجيب يأخذ بالألباب وذلك إن أكبر ما يكون من السفن العظام يرسي من الشاطئ بحيث يتناول ما فيها من البر بالأيدي. وهنا إذ وصلنا إلى مسينى إحدى مدائن جزيرة صقلية يجمل بنا أن نذكر لك عن هذه الجزيرة شيأ تكون به على بينه من أمرها ومن حضارة العرب وعز المسلمين فيها. صقلية هي جزيرة في البحر كبيرة على شكل مثلث متساوي الساقين زاويته الحادة من غربي الجزيرة بينها وبين ريو وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة مجاز مسينى حيث يتراوح البحر بين ستة أميال وعشرة أميال وبين ذنبها الغربي وبين تونس نيف وستون ميلاً وزاويتها الجنوبية تقابل بر طرابلس من أقريقية وبالقرب من زاويتها الشمالية جزيرة صغيرة فيها بركان النار الذي لا يعلم في العالم أشنع منظراً منه وهذا بركان اسم لجبلين

أحدهما هذا والثاني في صقلية نفسها في أرض خفيفة التربة كثيرة الكهوف ولا يزال يصعد من ذلك الجبل لهب النار تارة والدخان أخرى ومن هنا كانت كثيرة الزلازل بحيث يكثر تهدم أبنيتها منها. وقد كانت هذه الجزيرة قبل الفتح خاملة قليلة العمارة وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى صاحب قسطنطينية فلما كانت سنة ثنتي عشرة ومائتين جهز لها زيادة الله بن الأغلب وهو يومئذ الوالي على أفريقية من جهة أمير المؤمنين المأمون بن هرون الرشيد أسطولاً عظيماً في تسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان ومن أصحاب مالك رضي الله عنه وهو مصنف الأسدية في الفقه على مذهب مالك فذهب إلى الجزيرة وسار إليها من سوسة وافتتحها بالتنقل بعد أن شبت بينه وبين أهلها من الروم معارك كثير لا يتسع لها صدر هذه الرسالة وبقيت الجزيرة بيد بني الأغلب يتناوبها عمالهم إلى أن أدال الله منهم للعبيديين ودانت لعبيد الله المهدي أفريقية وما إليها فأخذوا يبعثون عمالهم عليها إلى أن كانت فتنة أبي يزيد وشغل أبي القاسم القائم والمنصور العبيدي من بعده بأمره.

الروايات والقصص

الروايات والقصص العاشق المخدوع للقصصي الأشهر وليم مكبيس ثكرى كان في مدينة بون إحدى مدن ألمانيا يهودي من أولئك الذين يأكلون الربا اسمه موسي لو وكانت له فتاة تدعى الآنسة مينالو ولقد كنت أتيت هذه المدينة لقضاء حاجة لي عام أول أعني بعد مضي خمسة عشر عاماً من حدوث الحوادث التي أنا ذاكرها في هذه القصة فقيل لي أن موسي قد سجن لدعوى إفلاس زورها فعلمت أنه أهل لما نزل به من الجزاء والعقوبة. لقد كانت الآنسة مينا وايم الله أجمل من وقع عليه نظري وأما وربكن يافتيات النصرانية لا تسخرن من كلمتي هذه ولا تهزأن فما قلت إلا الحق رأيتها أول ما رأيتها جالسة إلى نافذة عطف عليها الكرم حواشي أوراقه العسجدية تلوح من خلالها العناقيد محمرة كأنها كسيت خدود الملاح صبغها الحياء وشوابك العيدان قد لفها التعانق أشكالاً فكأنها صغار الحيّات ملتفة أو كأنها نقوش صناع أبدع من تأليفها ما أبدع وعلى وجهها الحلو الجميل وعلى ثوبها الأبيض الشفاف ألقى الورق دنانير ظله وكانت حاسرة الذراعين على خصرها النحيل نطاق من الحرير الأزرق وكانت تغزل شأن سائر النسوة الألمانيات وفي زاوية الغرفة كانت تجلس أختها إما - امرأة شديدة البأس - لها صوت أشد وأجهر وكانت جالسة إلى البيانو تغني غناء قبيحاً وكنت وافداً إلى بيت أبيها لتحويل صك وقد وقفت أنظر أين باب الخزينة. قالت الآنسة مينالو وأمالت رأسها في دلال وعلا وجهها احمرار ورفعت إلي نجلاوين تريانك زرقة السماء ثم خفضتهما كأنما أتعبهما رؤية أجنبي مثلي وقالت لنكس سيدي أعني شمالاً. فوقع لفظها من كبدي موقع الزلال على أنه لفظ عادي لا شأن له ولا سر وما هو بذي لفظ حلو ولا لحن لذيذ وكل ما فيه أن الآنسة أخبرتني أن أذهب شملة إذ رأتني حائراً أتردد ولو أن فتاة غيرها قالت لي لنكس ألف مرة لما كانت محركة مني ساكناً ولكن شفتي منا لدن فاهتا بتلك اللفظة افترتا عن ثغر منضد وضاح ونغمة عذبة رخيمة مما فتنني وبهرني.

فقلت في نفسي ايه أيها الفم المليح بل أيها الجرس الحلو. شنف بهذه النغمة الرخيمة مسمعي ما غرد في الأيك عصور! فما أحبها إلى نغمة وما أثلجها لصدري وأنداها على كبدي أقول قلت ذلك في نفسي ولم أقله بلساني لجهلي بالألمانية أولاً ولشدة ارتباكي وهيبتي ثانياً. فلم أزد على أن خجلت واصطكت قدماي ورفعت قلنسوتي وانحنيت بهيئة تدل على الحمق المفرط ثم ملت إلى الباب فاستلمت الحلقة أقلبها. ثم دخلت فوجدت المسيو موسى والمسيو سليمان في غرفة النقود وسليمان هو ابن موسي وشريكه فقضيت معهما حاجتي فأما كونهما خدعاني وغشاني فهذا من البديهيات. فإنه لا غنى لليهودي المرابي عن الغش أبداً - ولو لم يكن إلا من أجل درهم - أأقول من أجل درهم كلا من أجل دانق - من أجل سحتوت إنه ليغشك أولا في تحويل ورقتك. ثم في أبدال فضتك ذهباً. وأنه وإن أولم لك بعد ذاك وأدبك إلى خوان حافل فإنما يصنع لك ذلك كي يسرق ساعتك أو كيسك وما كان ليرغب عن هذا ولو كنت أباه أو أخاه. إن موسي وابنه الآن في السجن كما خبروني حينما كنت في مدينة بون عام أول. ولا أكذب الله شد ما خفق قلبي إذ مررت بالبيت الذي فيه رمتني لحاظ منا. وليقل القائلون ما شاؤا فمذهبي أن المرأة التي كنت تعشقها حيناً ما فمهما صحوت عن حبها وأفقت من غرامها فلن تزال تنزل من حشاك منزلة لا تكون لغيرها. مثل هذه المرأة إذا دخلت علي في مجلس صبغت وجنتي وهاجت صبوتي. فرنوت إليها مرتاحاً. وانجذبت نحوها ملتاحاً هذه المرأة هي التي كنت تهوى وتعشق. وتخب إليها روحك وتعنق. هي هى. وليست هي. هاتان عيناها اللتان كنت تهوى. ولكن أين ذلك النظر الفاتر واللحظ الساحر هذا هو الصوت الذي كنت تحب. ولكن أين المنطق الشهي. وحديث هو الزهر الجني. مثل هذا كمثل غرفة كان بها ليلة عرس وحفلة أنس أشرق بهاؤها. وسطع ضياؤها. وضحكت زهورها ورقت ثغورها. ثم أصبحت فإذا هي قد ذبلت نضرتها. وصوحت زهرتها ونضب ماؤها. وغاض رواؤها. ومثله كمثل دفتر أموال كان فيه من الورق مقدار خمسة آلاف فذهبت تلك الأوراق. والدفتر باق. تراه فتذكر متاعاً مضي. وخيراً تقضي. وكنزاً فنى. وذخراً تولى ثم تأخذك للدفتر المسلوب رقة ورأفة وتعطفك عليه إيما عاطفة. ولا يسعك أن تنظر إليه نظراتك إلى غيره من الدفاتر العادية وكيف وما ينفك

تذكر أنه كان زمناً ما قرة عين وعلق مضنة. وهذا شأني في الحب. إن لي بأوربا في كل واد أثر محبة. وذكرى صبابة. أعني امرأة كان لي معها وقتاً ما شأن من الشؤون. عفت عليه السنون. أو كما شبهت لي دفاتر مالية فارغة بأنحاء أوربا مبثوثة وبأرجائها منثورة وما إن أزال اذهب إليها. وأعوج عليها. مافي وقوفك ساعة من باس ... تقضي حقوق الأربع الأدراس فتتمثل لعيني تلك العصور الخالية. والحقب الماضية. وتمثل لعيني عوين الأحباب. قد فترت ألحاظها رقة الشكوى ولين العتاب. ويصافح سمعي صدى تلكم الأصوات العذبة. وانشق شذا تلكم العهود الطيبة. وقال لي المسيو موسي وهو يعد لي الدنانير سيدي إذا كنت ممضياً في بلدنا هذا برهة من الدهر فلا تحرمني وبناتي طلعتك البهية وصحبتك الهنية. قلت المدينة آية الحسن ومتعة الناظر وإذا كانت الجامعة هنا تشتغل بتأليف تاريخ الدولة الرومانية الشرقية وكنت ممن أولعوا بهذا التاريخ فما أراني إلا مقيماً هنا مدة طويلة ذلك ما قلته للرجل والله يعلم أنها علة كاذبة ودعوى باطلة. وإنما الحامل لي على الإقامة بالبلد هو جمال الآنسة منا وسحر مقلتيها ولولاهما لبت في بلدة كوبلنز تلك الليلة. وفيها أصلح الله القارئ فندق البريد وهو من أحسن فنادق العالم. وكان يصحبني إذ ذاك صديق لي من الجند ممراح لعوب عليم بالألمانية وكنا تشاجرنا مرتين في الطريق مرة بمدينة (روتردام) وأخرى ببلدة (كولونيا) فلما حدثت بيننا المشاجرة الثالثة هنا علمت أنها فرصة فعاجلتها بالانتهاز وكلما دنا صابي من الصلح خطوة أبعدت عنه فرسخاً حتى انفرجت مسافة الخلاف وصاح قائلاً: لأذهبن إلى بلدة (مايانس) فأجبته ولأمكثن هنا. ثم عمدت إلى أقرب فندق من بيت اليهودي وصورة ابنته نصب عيني. وبين جفني فاخترت لي مثوى به وقال لي صاحبي الجندي اسكن أين شئت فما أنا بمغادر مثواي بين الجنود وقد صدقت قوله عند ما رأيته في نفر من ضباط الألمان عقد معهم صحبة جديدة يدخن على باب الثكنة. أما أنا فما كنت قط ممن خصوا بسهولة الجانب وأنس الناحية فابذل الصداقة لكن من لقيت وامنح المودة كل من صادفت وأدع نفسي حمى مباحاً لكل مرتاد. وفؤادي منزلاً حلا لكل من أراد. ولكني كأهل بلادي وعر المرام مخوف الناحية. شامس العطف. شامخ الأنف.

سامي الطرف. طامح العنان تياه متكبر مختال في برديه. نظار في عطفيه. فكنت إذا دخلت مجلساً رميت ببصري أقصى القوم نظرة الساخط المختقر. والناقم المستنكر. ثم عزفت عنهم بناظري ترفعاً وكبرياء. وزهوا وخيلاء. وكأن لسان حالي يقول ما هؤلاء الغوغاء السفلة. وأي شأن لهم هنا. بل بأي حق وأية علة يوجدون في هذا العالم! تلك شيمتي. وهي أظهر ما تكون بين الأجانب. والحق يقال إني لا يسعني إلا احتقار الأجانب حقاً كان أم باطلاً. وبسبب هذه الخصلة المحبوبة والخلة المألوفة زهدت في طعام الفندق الذي يتنازعه عدة ويتناوله رهط واعتبرته حطة وسفالة أشبه بالسوقة وأبعد من الأمراء. وجعلت من دأبي وديني أن لا أخاطب سائلا قط بل أحدد في وجه سائلي نظر إصغار واحتقار وكذلك لم يبق إنسان إلا وتركت لي في فؤاده هيبة ومخافة. استبدلت المطعم بمنزلي مما حمل صاحبي الجندي ويلدار على مخاطبته إياي ذات يوم بقوله قبحاً لك وتعسا إذا كان قصدك الصمت فلم لا تستمر تأكل معنا فإنه لطعمتك وأسوغ لجرعتك فأما من يث خوفك كلامنا معك فلعن الله من يخاطبك ولتوقن أنه لن يفاتحك والله أحد مناولو أدى ذلك إلى انتحارك. قلت ألا دعني آكل ما اشا كما أشاء. قال فتفعل ما بدا لك وعليك العفاء وهكذا استبددت بمذهبي وانفردت بنفسي. ثم أردت أن أدرس الألمانية واسترشدت المسيو لو فدلني على أستاذ من معارفه وتبرع لي من ذلك بكاتبه يجالسني كل يوم ساعتين ليصلح من لساني ويقوم لهجتي فأدرك بفضل ذلك صحبة المخارج وحسن المنطق. وكان ذلك الكاتب - واسمه هرش - فتى بشع الخلقة أبيض الشعر أحمر العينين له شاربان بلون اللهب وحلقان في أذنيه بلون شاربيه. وكان جاحظ العينين بارز الشفتين غليظهما شديد حمرتهما. وما هي إلا برهة قصيرة حتى كثر ترداد الفتى المذكور على غرفتي فلا تكاد تراه إلا خارجاً منها أو داخلاً فيها حاملاً إلى الرسائل من كل صوب وذاهباًَ من عندي بأمثالها إلى كل حدب. وكنت إذا ناديته لم أقل إلا هرش! يا هذا الوغد النكس والكلب الدنس هات حذائي هرش أيها العبد نظف ردائي (أجر أيها الذئب فضع هذا الكتاب في صندوق البريد) إلى ما يماثل ذلك من ألفاظ المدح والتقريظ. وكان الخبيث أطوع إلى من

بناني لا يبالي ما أدعوه وبماذا أسبه. ورغبني فيه أيضاً أنه من لدن حبيبتي (منا). نعم إنه ليس بالحبيب ولكنه من عنده. إنه ليس بالوردة ولكنه يحمل طيبها وشذاها ويهديك أرجها ورياها. وهل ببطحاء ألمانيا وسهلها وقاعها وجبلها وردة أبهى من (منا)؟ أنا لو لم أقصد إلى تهذيب النفوس وأرم إلى تثقيف الطباع ما كنت قائلاً كلمة عن الفتاة (منالو) ولا ذاكر لفظاً عما أتيته من الهفوات في ذلك الصدد وما أحدثته من السقطات. وما كابدته من المنغصات بسبب جهلي وكبريائي. والحق أقول أن للإنكليزي لاسيما في ديار الغربة كبرياء وغطرسة هي أثقل على النفس وأمقت في الحس من جعجعة الفرنسيين وتيههم فالفرنسوي يمشى مرحاً. ويتمايل مرنحاً. ويفاخر في المجالس بحسبه ونسبه. ولا يدع فرصة حتى يصم أذنيك بذكر مآثره وسرد مفاخره. ولكن طنطنة الفرنسوي وجعجعته ليست وأيم الله أشد كراهة وأثقل وقعاً مما يظهر الإنكليزي من عظمة في جمود. وأبهة في جفاء وركود. وغطرسة خرساء. وصمت في كبرياء وغرور في صعر. وغفلة في صور. والإنكليزي يعتقد أن أمر فضله على غيره من الشعوب. وسبقه لسواه من الأمم أمر ظاهر لا يختلف فيه اثنان. فهو لا يحتاج إلى برهان. فيرى من حقه ومن شأنه أن يحتقر الأجنبي أياً كان. وينثر على خلق الله الاحتقار والازدراء أينما كان. مما يجر عليه بغض الناس ومقت العالم ولا غرو فلو أي شعب آخر رمقنا بالعين التي نرمق بها الغير لا بغضناه بغض الغير إيانا. (وبعد) فلما تركت بلادي إلى القارة الأروبية جعلت أتوهم أني خيرمن مشى على ساق وقدم. وأحسن من طلع عليه شمس ونجم. فإذا دعيت إلى حفلة ادعيت رئاستها أو أتيت حلقة توسطت دائرتها ثم غمرت سائر الأصوات بصوتي وفي المجلس أئمة الفضل وأعلام العلم وجعلت أضحك من أقوالهم وهي عقائل الأقوال. واسخر من حديثهم وإنه السحر الحلال. فلله درى حينذاك من مؤنس مطراب. وفاتن خلاب. ومن العجب أني وهذه حالتي وتلك أرائي أجلس إلى الفتاة (منا) ساعات متواليات فلا انفك أضجرها بهذياني. وأسئمها بممقوت أقوالي ومرذولها وأسخر بعادات بلادها وأحول أوطانها وما في إلا موضع سخر ومجال هزء أما الفتى (هرش) فكنت أقصده بمعظم تنديدي وأرميه

بأكثر سخريتي بحصرة الحسناء (منا) تفكهة لها وترويحاً لنفسها حتى قررت لها أن الفتى لا يصلح إلا لبيع البرتقال والخبز في مركبات السفر. وكانت الحسناء تقول لي (لله دركم شبان الإنكليز ما أخف أرواحكم وأرق ظرفكم) وكنت أجيبها جواب الأبله المعتوه (إي وربك نحن كما تصفين وأخف أرواحاً من الألمان وأظرف) ثم أقارب بين أجفاني وأصوب نحوها نظرة أحسب أنها ستذيب مهجتها. أأذكر لك أيها القارئ ماذا كانت عاقبة محاوراتي معها؟ في المحاورة الأولى سألتني الفتاة أما تستطيب ذلك الشاي الذي اسقيك منه وتستلذه؟ ثم ذكرت أنه من واردات الصين وأنه ليس بألمانيا ذرة منه عند ذلك أيقنت أنه لكما تصف ولما كان صباح الغد دخل (هرش) علي باسما يحمل ستة أرطال من الشاي المذكور في صرة وتشرفت بأن دفعت له ثمنها ثلاثة جنيهات إنكليزية على الفور. فلما زرت القوم بعد ذلك قال لي المسيو موسي لتشربن معي زجاجة من خمرة قبرص قائلاً نها لا توجد إلا عند أخيه المقيم في الاستانة ولم يمض على ذلك أربعة أيام حتى سألني المسيو لو كيف وجدت النبيذ الذي بعثه إلي بناء عن طلبي وهل أريد مقداراً آخر؟ قلت عجباً ماذا تعني وأي نبيذ طلبت منك فأرسلته إليّ ومتى كان ذلك؟ قال أرسلته منذ ثلاثة أيام وهو في خزانتك ثم أقترح أن يبعث إليّ بصنف آخر اسمه (نبيذميدوك) ولم تمض ساعتان بعد ذلك حتى كان في منزلي صندوق من ذاك النبيذ مشفوع بحوالة معنونة باسم جناب الكونت فون فيتسبودل (اسمي) وقد كان في الذي أبدته هذه الأسرة من الولوع بخدمتي ما رد قليلاً من ولوعي بهم وكف بعض الشيء من تهافتي عليهم حتى قالت لي (منا) لما زرتها بعد ذلك وتنهدت آه يا عزيزي هل أسأنا إليك حتى حرمتنا لقاءك. قلت لها (سآتيك غداً) ثم لحظتني لحظة وأومضت لي إيماضة واغوثاه ويالله - إني أحمق مغرور! وقبلي ما حمق العاشقون واغتروا ومنهم أولو الألباب. وذوو الأحساب. أو لم ينخدع من قبلي قيصر انطانيوس وسامسون وهرقل؟ أقول لما قدمت على دارها من الغد وجدتها بين أوراق الكرم فتبسمت وقامت فمدت إلي يداً بضة وبنانا لدنا. عليها قفاز أصفر هو عندي إلى الآن! وقد كنت ألفت أثناء الطريق عبارة غزل وتشبيب أردت أن أحييها بها وحسبتها آية في الخلابة فلما مثلت أمامها عاقتني الهيبة أن أقول ما كنت هيأت وأصابني

العيّ والحصر فما استطعت بعد الجهد إلا قولي لها اليوم حر؟ قالت هنيئاً لك يا مسيو جورج ما بلغت في الألمانية. لقد جريت في مضمارها شأواً وكأن بين فكيك لسان ألماني. ولكني لأمر ما آثرت أن أسوق الحديث بالافرنسية ودخل علينا أبوها فوجدني أعبث بحاشية قطيفة حمراء وألحاطي عاكفة على وجه ابنته تقطف ورد خديها وهي مطرقة أعارت الأرض مقلتيها السحورين. في ذلك اليوم لم تبع لي الأسرة من بضائعها شيئاً ثم رآني الغد بينهم والرجل يجتذب أنفاس انبوبته. قالت الآنسة تنح عنايا أبتاه. فسادة الإنكليز يؤذيهم التبغ. والسيد لا شك يمقته. فأجاب خادمك المطيع بقوله (بلى قد أدخن أحياناً) فصاح الرجل قائلاً: هات لجنابه أنبوبة يا قرة عين أبيك صاحت الآنسة نعم تلك الطويلة التي جاءتنا من تركيا ثم وثبت من مكانها وما لبثت أن عادت تحمل عصا طويلة من العناب مغشاة بنسيج أحمر مطرز بالذهب بإحدى طرفيها فوهة من الكهرمان المرصع بالصدف، وبالآخر أنبوبة مذهبة. ودخلت علينا الفتاة تميل وتترنح كأنها ملك يحمل عوداً من أعواد الجنة. وقالت لا بد من أن أوقدها للمسيو جورج. الله أكبر. لقد كانت الفتاة تنطق اسمي جورج بنغمة أجارك الله من وقعها في الفؤاد وأثرها في الأحشاء. وبعد أن أمرت أختها أن تقبس لها ناراً وقفت ما رأيت قط أجمل منها ولا أفتن. قدم لطيفة ممدودة إلى الأمام ورأس ملقاة إلى الوراء ويد غضة صغيرة ممسكة عصا الأنبوبة بين إبهامها وسبابتها. وشفتان كالعقيقتين تلثمان فوهة العصا وابتسامة كأفتن ما طل دما. وقتل مغرما. وجاءت أختها تقهقه فأشعلت التبغ وإذا بدخان أبيض دقيق الحجم يتصاعد من بين هاتين المرجانتين الباسمتين عن سمطي لآلئ نحو السقف تتضوع له أرجاء الحجرة أرجا ويفغم عبقه الخيلثيم. وإذ كيت الأنبوبة وقدمت إلي برشاقة وبنظرة كان من أثرهما أني دفعت إلى اليهودي في الحال أربعة عشرة جنيهاً ثمن الأنبوبة. فأما الفوهة التي لثمتها شفتاها فما لبثت أن أخذتها

فلففتها في قفازة الفتاة وجعلتهما معاً لصق أحشائي. ولما كان صباح الغد وقد دخل عليّ صديقي الجندي بغتة وجدني مستوياً في فراشي أمامي القفازة الصفراء وفي فمي الفوهة المعهودة الوكها وأمضغها كأنها قطعة من الحلوى في شدق غلام أو حلمة ثدي في فم رضيع. فوقف وحدق إلي ثم قهقه ضاحكاً وأسرع نحو القفازة وكنت أقرأ في ديوان الشاعر توماس مور: لست ممن ينزع إلى السعر ولكنيوجدت بذلك الديوان قصة تصف حالي: فلما رأيت صديقي يهرول إلى القفازة ثار غضبي وأرسلت (توماس مور) في وجهه فأخطأه بلطف من الله وتناول هو وسادة فرماني بها وكان من حسن حظه أنه لم يلجأ إلا إلى هذا السلاح العديم الأذى لأني كنت في أشد ثوران الغضب حتى لو قد بدا منه أدنى إساءة لأزهقت روحه لتوه وساعته. علم القارئ إذن أني لم أزهق روح صاحبي ولكني خلفت له لأفعلن به ذلك لو فاه بكلمة في هذا الشأن وكان يعرف أني فعال لما أقول: وكان غير جاهل بحديث علاقتي فأراد أن يجعل أمر غرامي غرضاً لمزحاته الخشنة العسكرية ولكني زجرته. فقال: لم تصدني عن هذا الباب وما أظنك ستقترن بالفتاة. قلت: وهبني يا سيدي سأقترن بها. قال: ماذا تقول! تتزوج ابنة ذاك السوقي الحقير ويحك! إن جنود فرقتي ما زالوا يتهمونك بالجنون فأكذب عنك. فأما وقد قلت ما قلت فقتلني الله إن لم تكن كذلك. قلت: سيدي من مس كرامة الآنسة (منا) فهو نذل ساقط ومن تناول اسمها الكريم بغير التحميد والتمجيد فهو كذاب أشر: وبعد محادثة قصيرة مضى ويلدر وتركني للقفاز والأنبوبة وكان فيما ذكره صديقي (ويلدر) من أمر الاقتران بالفتاة ما أدهشني. أأقترن بابنة إسرائيلي! وأنا جورج فيتزبودل! هذا لا يكون أبداً اللهم إلا أن يكون لها مليون من الذهب وما كان مثل المسيو لو حقارة ليهب ابنته مليوناً ولكني سواء تزوجتها أم لم أتزوجها فقد أبيت إلا التلذذ بحبها والتمتع بهواها وعدم التوقع لما يأتي به الغد قانعاً بلذة اليوم. ما مضى فات والمؤمل غيب ... ولك الساعة التي أنت فيها

وما لبثت إلا هنيهة بعد ذهاب ويلدر حتى جاءني هرش كعادته. فأحببت أن أستطلع منه مقدار ثروة منا وأجعله رسولي إليها. قلت أي هرش يا أسد اليهود. لعلك أتيتني بعصا الأنبوبة فأجاب نعم يا سيدي وبسبعة أرطال من التبغ الذي قلت أنك استطبته. إنه من أكرم بضاعة الشام وصفقتك في رابحة. قلت - وتصنعت الارتياح وعدم الاهتمام - خيراً فعلت أتدري يا هرش أن صغرى بنات المسيو لو المسماة الآنسة حنة فيما أظن - قال هرش وابتسم ابتسامة دهاء ومكر لا بل منا قلت ليكن كما تقول منا - أتدري يا هرش أن (منالو) فتاة قتالة العينين خلابة الهوى، أي وربي إنها لكذلك وفوق ذلك قال هرش أذلك اعتقادك قلت أجل ذلك اعتقادي. وما كانت قط أجمل منها أمس وهي تشعل لي التبغ. لقد والله تامت لي حينذاك ولاعت فؤادي قال لشد ما تشرف وطننا بحبك إحدى بناته قلت أغني أبوها وكم يهب ابنته إذا هي زوجت قال قليل جداً لا يبلغ مقدار ما تنفق في أسبوع واحد يا سيدي قلت مهلا مهلاً! إنك ما تزال تتهمني بالغني وأنا بعد رجل فقير. أجل وعريق في الفقر قال هرش: أنت فقير! ليت لي ابراد عام من أعوامك. إذن لكنت مثريا؟ والله يعلم انه أكثر مني مالاً وثروة ولكنه يكذب قلت وهل بلغ بك الفقر هذا الحد؟ فأجاب إنه لا يملك درهما وإن المسيو (لو) رجل شحيح وإنه (أعني هرش) ليفعل مهما آمر به ابتغاء شيء من المال قلت له: هرش. أتحمل مني إلى منا رسالة؟ لم يكن هناك أدنى ما يدعوني إلى اتخاذ الفتى بريداً بيني وبين الغادة إذ كان من أسهل السهل أن أسلم رسائلي إليها يداً بيد. وكيف لا وقد كنت أجالسها الساعات إثر الساعات

وكانت الخلوة بها من أقرب الأشياء فما كان أسهل أن أدس لها ورقتي في قفازها أو منديلها. ولكني كنت بمسائل الحب أجهل من طفل واخترت هرش رسولاً لأني رأيت فيما قرأت من الروايات أن الحيل والتدابير ليست من شأن العاشق وما تنبغي له وإنما يقوم بها خادم أو رسول. ولذلك سألت هرش السؤال المتقدم وهو من يحمل الرسالة إلى (منالو) قال مبتسماً أنا ولكن الرسالة لم تكتب بعد. وما كتابتها إلا خطب من الخطوب ومحنة من المحن. أأكتبها نثراً أم نظما؟ بل نظماً إنكليزياً إذ أن منا كانت تعرف قليلاً من هذه اللغة. ولكن ليس في الإنكليزية جميعها قافية على روى منا والخطب أكبر في لقبها لو فعلمت أني سأركب الصعب في تأليف الرسالة بالإفرنسية وتم لي ذلك مع العار والفضيحة لأتيانها مملوءة بالأغلاط النحوية مشحونة باللغو والسخف وأخذ هرش الكتاب ورأيت من الحزم أن أرشوه على الصمت والكتمان فاشتريت منه سلسلة ساعة بشعة المنظر أولى بها أن تكون سلسلة مجرم نقدته فيها أربعة جنيهات وكان طالما عرضها علي من قبل فأرفضها وخبرني الفتى أن رسالتي صادفت أيما قبول. ولكن الغادة لم تستطع وقد اجتمعنا مساء أن تفاوضني في شأن الرسالة لحضور أهلها. إلا أني آنست من لين لحظها عطفاً وتودداً بينما كنت أقامر سيدة سمينة (امرأة أخ الفتاة) وأخسر لها الدينار إثر الدينار حتى اقفر جيبي. وفي تلك الليلة باع لي المسيو لو عشرين ثوباً من التيل ليفصل أقمصة ولا ينس القارئ أن المسيو لو يبيع كل شيء ولو أنه شم منى رائحة ميل إلى كيلو متر طوب أو جراب ثعابين أو كفن لوجدته من الغد على باب داري وأقمت أرسل الرسائل إلى منى أنسخها كتاب صغير نافع عنوانه الغزليات الفرنسوية فادخل علي ما أنسخ من التبديل والتعديل ما يترك العبارة المنسوخة مطابقة لحالي ملائمة لأمري. وطال تردادي إلى دارها وكثر ثمت تمكثي وتريثي. وتمادى هنا لك تلبثي وتشبثي. وما ساءني الآن أكثر من أنها أصبحت لا ترى الأصحبة بعض أقاربها وإذ كن يتكلمن بالألمانية طبعاً لم أجد سبيلاً إلى إمضاء الوقت إلا بالتنهد والنظر والصمت. ومرت الليالي كلها سواء في الشقاء والكرب وما أشبه الليلة بالبارحة. والمسيو لو يبيعني كل أسبوع عشر سلع على الأقل من أطباق وسكاكين وخواتم وشمع وأساور وصابون وحلة

حرير مبطنة بفروة للشتاء ومصباح بنصاب من الذهب ومؤلفات شعراء الألمان وختم المصائب بقاموس ولا يفوتني القول إني لم أستلذ التبغ الذي اشتريته من اليهودي رغماً من قوله أنه أجود أصنافه ورغماً من أني تلقيت دروس شربه من شفتي الحسناء (منا) فاشتريت تبغاً خلافه وضميري يلومني على ما ارتكبت من سوء الظن وقلة الثقة. الآن انتهيت من قصتي إلى جزئها المحزن وشطرها المشؤوم جاءني صديقي (ويلدر) ذات يوم صحبة رجل من باعة التبغ يدعى المسيو رور وأذاقني بضاعته فاستطبتها ورأيت من الدهاء والحيلة أن أحمله على استبدال مقدار مما لديه بما لدي من التبغ فأخذت أفخر ببضاعتي ثم دخلت خزنتي وعدت بكمية منها فرماها المسيو رور بنظرة ازدراء وقال عندي من هذا الصنف كميات عظيمة. قال صاحبي ويلدر وعلى وجهه ابتسامة خبث. لا تقل ذاك في مثل هذا التبغ فقد اشتراه صاحبي من رجل صادق مخلص ومالي شهير. قال رور بلهجة الساخر هل اشتراه من المسيو لو؟ قلت ما عدوت الحقيقة. وهو مما ورد إليه من أخيه المقيم بالأستانة. قال رور كلا بل ورد إليه من عندي وكنت بعثت سبعة أرطال منه لابنته لو والمسيو هرش أخذاه منى ذات يوم سعر. . . . . . . . في الرطل وهذا ختمي ثم سل من إصبعه القذرة خاتماً له ذلك النقش المطبوع على صرة التبغ. قلت وفي صوتي رنة المحزون وفي قلبي كمد الخائب: هل بعثت هذا للآنسة منا.؟ قال نعم: وخدعتني بخلابتها عن جزء من ثمنه كان لك الله يا سيدي. إن الفتاة هي التي تعقد لأبيها مساومات البيع. لأن لها فتنة وسحراً لا طاقة لنا به. قال ويلدور وهو مسرور بمصيبتي مغتبط ببلائي. وهل تبيع الخمر أيضاً يا مسيو رورو؟ فأجاب الرجل مبتسماً عن أفظع الخبث اليهودي يصنع خمرته بيده. ولكن عندي من نبيذ ميدوك لو يمن عليّ اللورد بطلبه: أرسل إلى سيدي خابيه منه. فصحت بالرجل اخرج من هنا والتهب في عيني الغضب وطار المسيو رور من حضرتي مذعوراً وضحك ويلدر ضحكة شيطان.

وقال أما ترى كيف خدعتك هذه الأسرة؟ فلتعلمن يا أخي أن للقوم سيرة عار وسمعة سوء وما من شاب في المدينة إلا ويحدثك نبأ الأسرة وتاريخها. فأما المسيو لو فساقط القدر لئيم الأصل والفرع وأما ابنته فمصيدة الأحمق وشرك الأبله وإنك يا صاحبي لو تدرك الحقيقة لعلمت أنك هدف مطاعن الناس وغرض أمازيحهم. وكم قبلك وقع الأغرار في تلك الحبالة وختلهم ذلك السراب. وذلك الجندي هيربوك عشق الفتاة وتمادى به الأمر حيناً ثم انجلت عمليته وحدث مثل ذلك للشاب فون تومل ثم تداركه أهله وشغف القائمقام بلتز بالكبرى حتى كاد يطلق امرأته ولم يكن الداء بين جماعة الطلبة بأقل تفشياً منه بين طائفة الجند. وما أبصر اليهودي في فتى من الطلبة مظنة ربح أو مخيلة مغنم إلا استدرجه بحيله وانحط عليه بأساليب مكره ودهائه حتى انكشف أمره عند الجميع وما عنه الشبان قاطبة فلا أحد منهم يقبل على ابنتيه مع مالها من القسامة والوسامة. وإن شئت أن تعرف صدق كلامي فاذهب بنفسك الليلة إلى مرقص جودزبرج تبصر ما أقول لك بعينك فأجبته نعم أنا ذاهب بدعوة من السيدتين ثم انطرحت على المقعد وألححت على أنبوبة التبغ أستثير ضبابها سحابة اليوم وأتململ كالملذوع وقد رسخ في عقيدتي أنه لا بد من أن يكون في كلام ويلدر شيء من الحقيقة. وأقسمت بخالق السموات والأرض لأذبحن كل من لقيت من الجند لسخرهم مني وطعنهم عليّ. ذهبت تلك الليلة مع السيدتين إلى المرقص بحديقة جودزبرج حيث وجدت الطلبة في القلانس الصغيرة والشعور المسدولة بين جالسين إلى الموائد وراقصين الوالز وهو صنف من الرقص أمقته غاية المقت لأني لست من الرقص في شيء ورأيت كذلك طائفة السلاح في ملابسهم المزرورة وشواربهم الملوية يدورون في المرقص ويجولون كالأبالسة لا رعاهم الله ولا قدس أرواحهم! وخيل إليّ أني مرموق من جميع العيون إذ ولجت باب الحديقة متأبطاً يمين الآنسة منالو ولعل الغيظ كان بلغ بي منتهاه في تلك اللحظة لأن ويلدر خبرني فيما بعد أن وجهي أزرق من شدة الغضب وكادت عيناي تشتعلان ومن نظر إلي أنذاك أيقن أني لا محالة قاتل من الجند من صادفت. وكانت منا في حلة شفافة بيضاء كأنما قدت من جلدة الماء. أو قميص الهواء. تريك ذراعها

في قفازتها أحسن بياض في سواد. قد أجاع خصرها النطاق وأشبع الأساور ذراعان عبلتان. وكنت جالساً إلى جانبها لا ينطق فمي. ولكن وجهي ينطق ما بين آيات الغضب ويتلو سورة الرعد وقد نسيت في حضرة جمالها الباهر جميع ما ألم بي في الصباح من الظنون والشكوك. ولم يجئ إلى منا أحد يدعوها لترقص معه وذلك ما كنت أبغي لأني أحد المصابين بداء الغيرة وهو داء لا يكاد يخلو من عاشق - نعم لم يدعها إلى الرقص إنسان إلا هرش وكان قد عاد من السوق حيث كان يشتري لنا سمكاً فإني لأصب في أذن الفتاة شكوى الحب وأسألها الرد على رسائلي وكتبي إذ أقبل هرش على الفتاة فانحنى لها مسلماً فبهمت ونظرت إلى الفتى فنظر إليّ ووضع يداً على ذراعي ورفع إبهام الأخرى إلى شفتيه يأمرني بالصمت ثم اختطف الغادة من جانبي وشرع ينساب بها في زمرة الراقصين. وكان النذل قد هيأ للحفلة أحسن ثيابه فخرج في أجمل شارة وجعل يدور بها في المرقص كاللولب. ويبدع في فنون الرقص ويغرب حتى استوقف سائر الراقصين فتنحوا جانباً ومثلوا ينظرون منه السرعة ومنها الرشاقة. أما أنا فمع اعتقادي أن الكلب (هرش) أحط من أن تتسفل إليه غيرتي فقد وددت لو انصببت عليه بالعصا فأرسلته يطوف الرقص على نغمات الموسيقى من شدة الوجع لا من شدة الطرب. ولكنهما ما لبثا أن عادا وعلى منا أثر الارتباك وحمرة الخجل والتفت هرش إلى أختها إما وقال ألا ترقصين معي طلقا أيتها السيدة؟ فأجابته وسارا إلى المرقص. فما كان أعظم اندهاشي إذ رأيت الراقصين جميعاً قد تركوا المرقص لهرش وصاحبته! فرقصا طلقا ثم رجعا بحال من الكآبة والأسف. وصدح الموسيقى لرقص الجماعة (نوع من الرقص يأتيه عدد كثير مثنى مثني) فسألت منا أن تقوم إلى المرقص وجعلت تعتذر إلى عن القيام بألف علة فلم أصغ لها وأبيت إلا قيامها. فأذعنت والتفت إلى هرش فقلت سربا لمدام سليمان (لمرأة أخ منا) إلى المرقص. ثم سرنا نحن الأربعة. وكان بالمرقص لدن أتيناه عشرون نفساً على الأقل يتهيأون للرقص. فتورد وجه منا وعرتها رجفة فحسبت ذاك لما نالها من الفرح لرقصها مع اللورد الإنكليزي وأقبل هرش

برفيقته الجسيمة فوقفا إزاءنا وعلمت أنه عار ولا شك على اللورد جورج فيزبودل (أنا) أن يراقص حيواناً مثل هرش ولكنها الضرورة! فصفق المسيو هرش لرجال الموسيقى أن ابتدؤا وكنت مقبلاً على وجه حبيبتي أغازلها ثم التفت وإذا المرقص قد خلا من كل مخلوق إلا نحن الأربعة. فدهشت الفتاة وتحول جلنار خدها بهارا وكانت لا محالة ساقطة من قامتها لولا اعتمادها على وقالت دعني أذهب إلى أبي فإني مريضة قلت لها بل لترقصين ثم صوبت قبضتي نحو وجه هرش لأني أنست منه رغبة في الذهاب فاضطر إلى الوقوف واندفعنا نحن الأربعة في الرقص. وخيل إلي من شدة الخجل والارتباك أن الشوط الأول من الرقص استمر مائة ألف عام وعجبت للفتاة منا كيف لم تخر مغشياً عليها. ولكنها استجمعت قواها دفعة واحدة وقذفت القوم من ألحاظها بجمرات الجحيم وعيدا وتهديداً فلو اطلعت عليها إذ ذاك لرأيت شيطاناً بعد ملاك ولكنه شيطان حلو لذيذ ثم مضت في رقصها مضاء الكوكب الوقاد. أما أنا فتوهمت بادئ بدء أن الهواء مملوء بوجوه مساخرة هازئة وجعلت أسير وملء صدري حنق وغيظ ثم طفئت نار الغضب وهدأ بالي حتى استطعت أن أتصفح وجوه القوم. ولم يك بينهم رجل يفرح بي ويبتهج ولكني سمعت أحدهم يوجه إلى منا لفظة برافو مشفوعة بسخرية. والتفت فعرفت القائل دلني عليه احمرار الخجل. ونظر أحدنا إلى أخيه فكان مجرد التقاء الأعين اتفاقا على المبارزة حتى لم تبق هناك حاجة إلى أدنى مفاوضة في الأمر. وفي هذه اللحظة أي بعد إصراري على مبارزة الجندي هيربوك سكن هياجي وهدأ روعي فشكراً لذلك الجندي الذي لولاه لإصابتي الفالج (النقطة) أثناء الرقص. والتفت منا إلى نظرة أعتاب وملاطفة وأحسست قدها المعشوق يرتجف على ذراعي إذ أرجع بها نحو أبيها. وقالت أسمعت - أسمعت يا عزيزي هذا الصوت؟ (تعني بالطبع الصوت الذي قال برافو) عند ذلك برح الخفاء ووضح الحق فلم أشك في أن الفتاة تعشقني فهي ترتجف خشية أن تكون قد هممت بركوب أخطار المبارزة. فتلجلج من فرط الطرب والوجد لساني ولم يك إلا بعد جهد المنطق أن أقسمت لها بالله إليه غراء أني ما سمعت شيئاً على حين أني حلفت في ضميري يميناً ضخمة لأمزقن ذاك النحر الذي خرجت منه

لفظة برافو فتركت غادتي وعمدت إلى ويلدز فأومأت له نحو الرجل. قال هذا هيربوك ماذا تريد منه؟ قلت له بحماس وحدة صاحبي! أريد أن أنفذ جنبيه برصاصة. فاذهب إليه فقل ذلك فلما صحت بصاحبي - وقد رأيته يتردد - أما والله إن لم تنفذ للحال كلمتي لأذهبن إلى الوغد فأنزعن أنفه من وجهه أذعن منقاداً ووعدني إمضاء أمري وانقلبت إلى جماعتي. واقترحت عليهم أن نزور قبل العودة إلى منازلنا قلعة قديمة خربة في ذاك الجوار تشرف على قيعان النهر ذات المياه والأعشاب. فاستلمت ذراع منا وسار اليهودي مع ابنته الأخرى وهرش مع السيدة سليمان. وكانت لحيمة ثقيلة الخطو وكان اليهودي شيخاً ضعيفاً فكان سيرهم لذلك بطيئاً حتى سبقتهم بغادتي سبقاً مبيناً. وعلمت أنها فرصة وأرت انتهازها فجعلت أقول لها أشياء لا تكون إلا من عاشق لحبيبه كقولي لها في أرق لهجة وأعذب لحن قلبي يذوب كلما رآك محزونة ولا جواب فقلت آخذاً في معنى آخر انظري إلى إشراق الليل في سواده إنه يكاد يمثل لي عينيك ولا جواب أيضاً ولعلها كانت في هم مبرح مما جرى تلك الليلة. فلما تمادى بها السكوت قلت منا! إني أحبك وأراك تعلمين ذلك منذ عهد بعيد كلا يا حبيبتي لا تنزعن يدك من يدي. فإنه إن لم تفاوضني في هذا الشأن شفتاك فقد فاوضتني فيه عيناك وناجاني فؤادك. فكوني زوجة لي إذن! ثم أخذت يدها فأوسعتها تقبيلاً وكنت ولا شك منتقلاً إلى خدها لولا أنها لطمتني أشد لطمة ونفرت مني ثم سقطت من قامتها وطفقت تصيح بأرفع صوتها. فسمعت صوت اللعين هرش ينادي من ورائنا (منا! منا! منا زوجتي! ثم أقبل يصعد نحونا وألقت الفتاة بنفسها بين ذراعيه صائحة (لورنزو! زوجي أنقذني!). وأقبل أهلها وصاحت (منا) تسبني والغضب يلتهب في مقلتيها (ويلك يا جبان! يا لقومي لفتاة يهينها وغد لئيم! يا للرجال لوهن النساء من صولة السفلة الجهال!) عند ذلك صاح هرش (يالك من جبان فاسق. لقد أطلعتني وما استحبيت على حبك الحرام لهذه الشريفة الطاهرة - أطلعتني وأنا عريسها وقرينها. ووقحت حتى جعلت ترسل إليها كتب الصبابة وإن لم يصلها بعد من تلك الكتب لفظة واحدة. وبغيت خداعنا نحن اليهود

فبغيت وكان عليك بغيك. فقبحاً لك وويلا! إني لأمقتك وأزدريك!) ثم جعل يمناه نطاقاً للحسناء وساروا جميعاً. وبقيت كالذي ذهب عقله ثم تراجع إليّ رشدي ولحقتني لوعة وحرقة وذهبت إلى منزلي فبت بليلة السليم: ولما كان الصباح جاءني رسول من قبل هرش له سحنة بائع الثياب البالية يحمل إليّ ظرفاً ففضضته فإذا فيه جميع الرسائل التي كنت بعثت بها إلى (منا) ورسالة من هرش يدعوني فيها إما إلى المبارزة أو إلى الاستغفار من زلتي. فقلت للرسول أما المعذرة والاستغفار فله ذلك مني متى شاء أن يحضر قلت ذاك وأشرت إلى عصا غليظة بأقصى الغرفة ثم ليسرع إليّ إن كان آتياً فقد أزمعت الرحيل غداً فلما سمع الرسول ذلك سألني ألست أرغب في شراء تبغ جيد أقصر به مسافة زحلتي فإن لديه صنفاً جمع إلى غاية الجودة منتهى الرخص فأشرت إلى الخادم أن يشيعه إلى باب الدار وحمدت الله على ذهابه. وما زال يجيئني من هرش كل عام رسالتان يسألني فيهما أن أقبل منه على سبيل الهدية إما قصراً فاخراً ببلاد بوهيميا أو أستريا وإما مبلغ مائة ألف جنيه إن كنت أوثر المال وقد رأيت زوجته (منا) عام أول في دار التمثيل مثلقة بالماس والياقوت والشحم واللحم. فقلت في نفسي. أي منا! اسمني ما شئت واقبحي فعندي الأنبوبة التي ذاقت الشهد من أعذب ثغر في طوائف موسى. (تمت)

شذرات

شذرات العاصفة (نبذة في الوصف من أبلغ ما كتب الكاتبون عربناها عن الإنكليزية) لقد جعل الله ضبط حركات النفس وتدبير شؤون الحياة إلى عاملين قويين - محبة الله ومخافة الإثم والموت. وبينا ترى الكثيرين قد اهتدوا إلى ما أودع الله نواحي الوجود من دواعي العجب والإعجاب والتكبير والتهليل إذا بهم قد أغفلوا أن الله قد جعل كذلك من هائل المناظر ما قصد به إلى إخافة الإنسان وترويعه - لا أريد ذلك الخوف الفجائي الحقير الناشئ من خطب ملم وخطر مشرف بل الخوف الناشئ من تأمل المرء قوى العناصر ثائرة ثوران إتلاف وتدمير يروع مسمعيك بصوت المنون ويلقى في جنانك وحشة البلى. وبذلك يبلغ الرعب من نفوس البشر مبلغاً لا غاية وراءه على حين لا خوف عليهم ولا بأس اللهم إلا رجلا أو اثنين قد يمسهم الضر وقد لا يمسهم فانظر مثلاً إلى عاصفة الصاعقة. ماذا هنالك من تجنيد كتائب السحاب وتعبئة جيوش المزن وحشد جحافل الأنواء وماذا هنالك من سكتة الأشجار قبل هبوب الريح وتهامس الأوراق تتساءل من أين مهبها وأين تضرب؟ وماذا هنالك من دمدمة السحاب في أقصى الأفق وهمهمته قبل أن يسل سيوف نيرانه. وماذا هنالك من تقدم جنازة الدجن في حداد ظلمة اليوم المربد. وماذا هنالك من قعقعاع قبة السماء كأنما تهم أركانها أن تتصدع وهذا رعب لاتقاس مسافته بالدقيقة وإنما روعة تنزل الفؤاد فلا يبرح منه أثرها ومايزال يتردد في المخيلة صداها. ويتمثل في لوح الخاطر خيالها من ههنا وههنا الآداب الإنكليزية: منح أحد نبلاء بريطانيا كلية كمبرج عشرين ألف جنيه لتؤسس بها درساً في الآداب الإنكليزية تسميه درس الملك إدوارد السابع: وأنشأؤا في إنكلترا جمعية دخلها الناس في كل البلاد التي يتكلم فيها بالإنكليزية غايتها إشراب القلوب حب الشعر إذ ثبت أن المدينة المادية الحالية لاتحلو إلا إذا احتفظ الناس فيها بالخيال في الحياة. وكذلك نعتذر إلى قرائنا الأفاضل عن تأخر العدد الثاني من البيان عن موعد (30 رمضان) بأمرين قاما في الطريق أولهما اشتغالنا بكتاب الأبطال الذي نرى في سرعة إنجازه فائدة لا تقل عن أظهار العدد الثاني في إبانه وثانيهما شؤون مطبعية لم نحسب لها حساباً وكانت لنا

نعم الدرس علمنا كيف نأخذ حذرنا ونحتاط لأمرنا حتى لا نقع فيما وقعنا فيه ولا نؤخر البيان لحظة من الزمن - على أنناقد عوضنا ذلك على القراء بإظهار العدد الثالث مع أخيه وإن كان لما يجئ موعده فلعل ذلك يكون عذيراً لنا إلى المنصفين إن شاء الله. حجم البيان وزيادة أبوابه يعلم قراؤنا الأفاضل أن البيان ظهر أول ما ظهر في 80 صحيفة وفي النية مع ذلك أن نزيد حجمه على مر الأيام كلما رأينا تنشيطاً من القارئين وها نحن أولاء قد زدنا هذين العددين عشر صحائف حيث وقع العددان في مائة وسبعين صحيفة وسنستمر على هذه الزيادة كلما زادنا الأنصار إقبالاً ومسعدة - وكذلك رغب إلينا كثير من القراء أن نزيد أبواب البيان (علي كثرتها) أبواباً أخرى تمس إليها الحاجة فطائفة رغبت أن يكون في البيان أمالي في الأدب تلم ما تبدد في كتب الأدب والتاريخ من سير الشعراء والأدباء. والظرفاء والمغنين والمجان وأخبار العرب المستطرفة واقترحت أخرى أن يكون في البيان أمالي في الدين تقرب للناس أبوابه من الفقه والتفسير والحديث والتوحيد والأخلاق الدينية بأسلوب سهل مقبول وثالثة استحثتنا على أن نعني بنشر المباحث العلمية والفلسفية الحديثة - أما الاقتراحان الأولان فقد وقعا من نفسنا موقعاً حسناً وأجمعنا النية على إدخالهما بين أبواب البيان وقد ابتدأنا في الأمالي الأديبة من هذا العدد وسنبتدي في الأمالي الدينية من العدد التالي وأما الاقتراح الثالث فهو من موضوعات البيان التي أخذ على نفسه العناية بها.

الأبطال وعبادة البطولة

الأبطال وعبادة البطولة يعلم قراء البيان أن مما أخذنا على أنفسنا وجعلناه في مقدمة أعمالنا التي اختار الله لنا العمل عليها: أن نعني بنقل أطيب مؤلفات الإفرنج إلى لغتنا العربية حتى يكون هناك مادة غزيرة مؤاتية لهذه اللغة وآدابها وعلومها وحتى لا يحرم أبناؤها أن يجتنوا ثمار قرائح أولئك القوم الذين سبقونا في كل شيء وبلغوا ولاسيما في العلوم والمعارف والآداب مبلغاً لا يكاد يكون بعده مطمع لطامع ولا مطمح لمستزيد وقد عثر بنا الاختيار أثناء بحثنا عن الأسفار النافعة على كل جليل من أفيد وأمتع وأحكم وأبدع وأبين وأبلغ وأفخم وأنبغ ما كتب الكاتبون وأبان المفصحون ونصح الناصحون - كتاب التقي فيه التاريخ بالفلسفة والأخلاق بل تلاقت فيه العلوم جميعاً وتآخت فبينا ترى كلاماً في سيرة البطل وترجمة حالة إذ تراك تقرأ مبحثا من أجمل وأدق المباحث الفلسفية واذهجم عليك موضوع من أطيب الموضوعات الأخلاقية وإذ مر بك نظرة اجتماعية وطرفة أدبية وما شئت من فصاحة هاشمية وحكمة لقمانية وعلم صحيح وإخلاص صريح. تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد أما ذلك الكتاب فهو كتاب الأبطال وعنوانه بالإنكليزية هكذا - أي الأبطال وعبادة البطولة - وضعه الكاتب الإنكليزي الأكبر والفيلسوف الأشهر توماس كارليل المولود - سنة 1795 والمتوفي سنة 1881 والذي سنفرد لترجمته مقالاً مشبعاً - وموضوع هذا الكتاب الكلام عن عظماء الرجال وسيرهم وسر عظمتهم والدعوة إلى احترامهم والتشنيع على أولئك الذين مرضت قلوبهم وأمعن الخبث في نفوسهم وفت الكفر في أعضادهم فلا يأبهون بعظيم ولا يحفلون ببطل أياً كان وعلى أية حال وجد رسولاً كان أو نبياً أو مصلحاً أو تقياً أو شاعراً أو كاتباً أو ملكاً أو قائداً - وأبطاله الذين كتب عنهم وأفاض في سيرتهم أطيب إفاضة هم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم و (أودين) معبود أهالي السويد والنرويج وأمم الشمال في القديم ولوثر ونوكس المصلحان الدينيان ودانتى وشا كسبير الشاعران العظيمان والكتاب جونسون وبارنز وجان جاك روسو والقائدان الكبيران نابوليون بونابرت وكرومويل - فكتب في هؤلاء كتابة مشبعة عميقة منصفة لم يسبقه إليها سابق ولا يكاد يلحقه فيها لاحق كتابة لو قرأها قارئ ولم

يخرج منها مؤمناً صادقاً ومخلصاً صريحاً وبطلاً عظيماً فلا كتب كاتب ولا قرأ قارئ. وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية أخونا الكاتب النابغة الضليع محمد السباعي واحتفل في هذه الترجمة إيما احتفال وتأنق أيما تأنق حتى تشابه الأصل والترجمة وتشاكل الأمر. فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر وقد طبع هذا الكتاب على نفقة مكتبة البيان ووقع في نيف وأربعمائة صحيفة وهذه فاتحة الكتاب إنما يضمني وإياكم هذا المقام وتواليه للكلام شيئاً عن عظماء الرجال ومظاهرهم في مسارح الحياة والأشكال التي تشكلوها في تاريخ البشر وآراء الناس فيهم وماذا أحدثوا من الأعمال - للكلام عن الأبطال وعما استقبلهم به أهالي أزمانهم وعما صنعوا هم من جلائل الأمور - ولعل هذا مبحث عويص لا أرانى موفيه حقه - مبحث لعمر الله قصى الغاية يشق على نزع الخواطر مرماه ويقع وراء جهد الأوهام منتهاه وما ظنكم بمبحث هو التاريخ بحذافيره إذ في اعتقادي أن التاريخ العام - تاريخ ما أحدث الإنسان في هذا العالم - إنما هو تاريخ من ظهر في الدنيا من العظماء فهم الأئمة وهم المكيفون للأمور وهم الأسوة والقدوة وهم المبدعون لكل ما وفق إليه أهل الدنيا وكل ما بلغه العالم وكل ما تراه قائماً في هذا الوجود كاملاً متقناً فاعلم أنه نتيجة أفكار أولئك العظماء الذين اصطفاهم الله وأرسلهم إلى الناس ليؤدي كلٌّ ما ناطته به القدرة الالهية من الخير. فروح تاريخ العالم إنما هو تاريخ أولئك الفحول وظني أنه مبحث لن يسعه هذا المقام! بيد أن من أسباب العزاء أن في ذكرى العظماء كيفما كانت نفعاً وفائدة والرجل العظيم لا يزال بعد موته ينبوع نور يتدفق فليس أحسن من مجاورته شيء - نور يضيء وكان يضيء ظلمات الحياة وليس هو كسراج أشعل ولكنما نجم شبته يد الله بين أشباهه من كواكب الأفق هو كما قلت ينبوع نور يتدفق بالحكمة ومعاني الرجولة والشرف الكبير وهو الذي شعاعه أنس الأرواح وروح النفوس ومتعة الخواطر واليس في ظني أن أحداً منكم يحجم برهة عن ورود تلك المناهل العذبة كيفما كان طريق المورد ويقيني أن نظرة في تواريخ الأبطال الشتي الصنوف الذين أنا آخذ الآن في سرد سيرهم جديرة أن تكون بمثابة نظرة في مخ تاريخ البشر وصميم لبابه. وما أسعدني لو أستطيع في مثل هذا العصر الذي

ضعف فيه إجلال الرجل للرجل أن أفهمكم شيئاً من معاني عظمة الأبطال وجلالهم أي من معاني البطولة والبطولة في مذهبي هي العروة المقدسة التي تعقد ما بين الرجل العظيم وبين سائر الناس ما أسعدني لو أتيح لي ذلك ولكني محاول وباذل مجهودي ولما كان كلامه عن المصطفي عليه الصلاة والسلام من أنصف وأعدل وأفخم وأنبل ما كتب كاتب في هذا الشأن وكان من بين أبواب البيان باب تاريخ الإسلام آثرنا أن نبادر بنشر هذا المبحث الرائع الذي هو في الحقيقة قطب التاريخ الإسلامي ونجتزئ به في هذا العدد عن مبحث الأديان الذي أجلنا نشره إلى العدد الآتي - قال توماس كارليل بعد مقدمة الباب الثاني الذي عقده للكلام عن السيد الرسول عليه السلام. لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب وإن محمداً خداع مزور وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا خلقهم الله الذي خلقنا أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها وما عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول فما الناس إلا بله ومجانين وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة كان الأولى بها أن لا تخلق. فوا أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزعم وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة (وبعد) فعلى من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات أن لا يصدق شيئاً بتة من أقوال أولئك السفهاء! فلنها نتائج جيل كفر وعصر جحود وإلحاد وهي دليل على خبث القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح في حياة الأبدان ولعل العالم لم يرقط رأياً أكفر من هذا والأم وهل رأيتم قط معشر الإخوان أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره عجباً والله إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب! فهو إذا لم يكن عليماً بخصائص الجير والجص والتراب وماشا كل ذلك فما ذلك الذي يبنيه ببيت وإنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد. نعم وليس جديراً أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس ولكنه

جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأن لم يغن بالأمس وإن لأعلم أنه على المرء أن يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة وإلا أبت أن تجيب طلبته وتعطيه بغيته كذب والله ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتي خيلوه حقا وزور وباطل وإن زينوه حتى أوهمو صدقاً ومحنة والله ومصاب أن ينخدع الناس شعوباً وأمماً بهذه الأضاليل وتسود الكذبة وتقود بهاتيك الأباطيل وإنما هو كما ذكرت لكم من قبيل الأوراق المالية المزورة يحتال لها الكذاب حتى يخرجها من كفه الأثيمة ويحيق مصابها بالغير لا به وأي مصاب وأبيكم؟ مصاب كمصاب الثورة الفرنسية وأشباهها من الفتن والمحن تصيح بملء أفواهها هذه الأوراق كاذبة!. أما الرجل الكبير خاصة فإني أقول عنه يقيناً أنه من المحال أن يكون كاذباً فإني أرى الصدق أساسه وأساس كل ما به من فضل ومحمدة وعندي إنه ما من رجل كبير - ميرابو أو نابليون أو بارنز أو كرمويل - كفء للقيام بعمل ما إلا وكان الصدق والإخلاص وحب الخير أول باعثاته عل محاولة ما يحاول أعنى أنه رجل صادق النية جاد مخلص قبل كل خواص الرجل العظيم كيفما كان لا أريد أخلاص ذلك الرجل الذي لا يبرح يفتخر للناس بإخلاصه كلا فإن هذا حقير جداً وأيم الله هذا إخلاص سطحي وقح وهو في الغالب غرور وفتنة إنما أخلاص الرجل الكبير هو مما لا يستطيع أن يتحدث به صاحبه كلا ولا يشعر به بل لا حسب أنه ربما شعر من نفسه بعدم الإخلاص إذ أين ذاك الذي يستطيع أن يلزم منهج الحق يوماً واحداً نعم إن الرجل الكبير لا يفخر بإخلاصه قط بل هو لا يسأل نفسه أهي مخلصة وبعبارة أخرى أقول أن إخلاصه غير متوقف على إرادته فهو مخلص على الرغم من نفسه سواء أراد أم لم يرد هو يرى الوجود حقيقة كبرى تروعه وتهوله - حقيقة لا يستطيع أن يهرب من جلالها الباهر مهما حاول هكذا خلق الله ذهنه وخلقة ذهنه على هذه الصورة هو أول أسباب عظمته هو يرى الكون مدهشاً ومخيفاً وحقاً كالموت وحقاً كالحياة وهذه الحقيقة لا تفارقه أبداً وإن فارقت معظم الناس فساروا على غير هدى وخبطوا في غياهب الضلال والعماية بل تظل هذه الحقيقة كل لحظة بين جنبيه ونصب عينيه كأنها مكتوبة بحروف من اللهب لا شك فيها ولا ريب ها هي! ها هي! - فاعرفوا هداكم الله أن هذه هي أول صفات العظيم وهذا حده الجوهري وتعريفه وقد توجد هذه في الرجل الصغير

فهي جديرة أن توجد في نفس كل إنسان خلقه الله ولكنها من لوازم الرجل العظيم ولا يكون الرجل عظيماً إلا بها. مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجلاً أصلياً صافي الجوهر كريم العنصر - فهو رسول مبعوث من الأبدية المجهولة برسالة إلينا فقد نسميه شاعراً أو نبياً أو الهاً وسواء هذا أو ذاك أو ذلك فقد نعلم أن قوله ليس بمأخوذ من رجل غيره ولكنه صادر من لباب حقائق الأشياء نعم هو يرى باطن كل شيء لا يحجب عنه ذلك باطل الاصطلاحات وكاذب الاعتبارات والعادات والمعتقدات وسخيف الأوهام والأراء وكيف وإن الحقيقة لتسطع لعينه حتى يكاد يعشى لنورها ثم إذا نظرت إلى كلمات العظيم شاعراً كان أو فيلسوفاً أو نبياً أو فارساً أو ملكاً ألا تراها ضرباً من الوحي والرجل العظيم في نظري مخلوق من فؤاد الدنيا وأحشاء الكون فهو من الحقائق الجوهرية للأشياء وقد دل الله على وجوده بعدة آيات أرى أن أحدثها وأجدها هو الرجل العظيم الذي علمه الله العلم والحكمة فوجب علينا أن نصغي إليه قبل كل شيء. وعلى ذلك فلسنا نعد محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر والصغائر وما الرسالة التي أداها الأحق صراح وما كلمته إلا صوت صادق صادر من العالم المجهول كلاما محمد بالكاذب ولا الملفق وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع ذلك أمر الله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وهذه حقيقة تدمغ كل باطل وتدحض حجة القوم الكافرين. وهب لمحمد (عليه السلام) غلطات وهفوات - وأي إنسان لا يخطيء إنما العصمة لله وحده - فإنه ليس في طاقة أية هفوات أو غلطات أن تزرى بتلك الحقيقة الكبرى وهي أنه رجل صادق ونبي مرسل. وأرانا على العموم نجسم الهفوات ونجعل من الجزئيات حجباً تستر عنا الحقائق الكلية. الهفوات؟ أيحسب الناس أنه يخلو منها إنسان أن أكبر الهفوات عندي أن يحسب المرء أنه برئ من الهفوات ما بال الناس لا يذكرون نبي الله داود؟ ألم يرتكب داود أفظع الجرائم وأشنع الآثام إلا ما أهون أمر الذنوب وأصغر خطر الأغلاط - الجزئيات والقشور - إذا

كان لبلبها كريماً وسرهاً حراً شريفاً وكان في التوبة النصوح والندم الصادق ووخز الضمير ولذع الذاكرة أكبر مكفر للسيئات ومطهر لاردان الروح من أدران الشوائب أليست التوبة أكرم أعمال المرء قاطبة وأقدس أفعاله؟ إنما ألام الذنب هو كما قلت حسبان المرء أنه برئ من كل ذنب وكل نفس هذا شأنها فهي في نظري مطلقة من الوفاء والمروءة بعيدة عن التقى والبر والحق أو هي ميتة أو إن تشأ فقل هي نقية نقاء الرمل الجاف الميت وإني أحسب أن سيرة داود وتاريخه كما هو مدون في مزاميره لا صدق آية على ارتقاء المرء في معارج المكرمات وعلى حرب العقل والهوى - حرباً طالما يهزم فيها العقل هزيمة تضعضع جانبه وتتركه لقي مشفياً على الانقراض ولكنها حرب بغير نهاية مشفوعة أبداً بالبكاء والتوبة واسنهاض العزم الصادق الذي لا يبرح يتجدد بعد كل هزيمة يا ويل النفس الإنسانية ما أشد خطبها بين ضعفها وقوة شهواتها! أو ليست حياة الإنسان في هذه الدنيا سلسلة عثرات؟ وهل في استطاعة المرء خلاف ذلك وهل يطيق في ظلمات هذه الحياة إلا الاعتساف والتخبط؟ فما ينهض من عثرة إلا لأخرى وبين هذه وتلك نحيب وعبرات وشهيق وزفرات وإنما الأمر إلهام هو أيظفر على هواه بعد كل هذه المجاهدات وأنا لنصفح عن كثير من الجزئيات مادام اللباب حقاً والصميم صحيحاً وما كانت الجزئيات وحدها لتعرفنا حقيقة إنسان كانت عرب الجاهلية أمة كريمة تسكن بلاداً كريمة وكأنما خلق الله البلاد وأهلها على تمام وفاق فكان ثمت شبه قريب بين وعورة جبالها ووعورة أسلافهم وبين جفاء منظرها وجفاء طباعهم وكان يلطف من قسوة قلوبهم مزاج من اللين والدماثة كما كان يبسط من عبوس وجوه البلاد رياض خضراء وقيعان ذات امواه واكلاء وكان الأعراببي صامتاً لا يتكلم إلا فيما يعنيه إذ كان يسكن أرضاً قفراً يباباً خرساء تخالها بحراً من الرمل يصطلى جمرة النهار طوله ويكافح بحر وجهه نفحات القر ليله. رأت رجلا اما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وإما بالعشى فيخصر ولا أحسب أناساً شأنهم الانفراد وسط البيد والقفار يحادثون ظواهر الطبيعة ويناجون أسرارها إلا أنهم يكونون أذكياء القلوب حداد الخواطر خفاف الحركة ثاقبي النظر وإذا صح أن الفرس هم فرنسويوا المشرق فالعرب لا شك طليانه والحق أقول لقد كان أولئك

العرب قوماً أقوياء النفوس كأن أخلاقهم سيول دفاقة لها من شدة حزمهم وقوة إرادتهم أحصن سور وأمنع حاجز وهذه وابيكم أم الفضائل وذروة الشرف الباذخ وق كان أحدهم يضيفه ألد أعدائه فيكرم مثواه وينحر له فإذا أزمع الرحيل خلع عليه وحمله وشيعه ثم هو بعد كل ذلك لا يحجم أن يقاتله متى عادت به إليه الفرص وكان العربي أغلب وقته صامتاً فإذا قال أفصح: ويزعم أن العرب من عنصر اليهود والحقيقة أنهم شاركوا اليهود في مرارة الجد وخالفوهم في حلاوة الشمائل ورقة الظرف وفي ألمعية القريحة وأريحية القلب وكان لهم قبل زمن محمد (عليه السلام) منافسات في الشعر يجرونها بسوق عكاظ في جنوب البلاد حيث كانت تقام أسواق التجارة فإذا انتهت الأسواق تناشد الشعراء القصائد ابتغاء جائزة تجعل للأجواء قريضاً والأحكم قافية فكان الأعراب الجفاة ذووا الطباع الوحشية الوعرة يرتاحون لنغمات القصيد ويجدون لرناتها أي لذة فيتهافتون على المنشد كالفراش ويتهالكون. وأرى لهؤلاء العرب صفة من صفات الإسرائيليين واضحة فيهم وأحسبها ثمرة الفضائل جميعها والمحامد بحذافيرها إلا وهي التدين فإنهم مذ كانوا ما برحوا شديدي التمسك بدينهم كيفما كان وكانوا يعبدون الكواكب وكثيراً من الكائنات الطبيعية يرونها مظاهر للخالق ودلائل على عظمته فهذا وإن يك خطأ فليس من جميع وجوهه فإن مصنوعات الله ما برحت بوجه ما رموزا له ودلائل عليه ألسنا كما قدمت نعتدها مفخرة للشاعر وفضيلة أن يكون يدرك ما بالكائنات من أسرار الجمال والجلال أو أسرار الجمال الشعري كما اصطلح الناس على تسميته؟ قد كان لهؤلاء العرب عدة أنبياء كلهم أستاذ قبيلته ومرشدها حسبما يقتضيه مبلغ علمه ورأيه ثم أليس لدينا من البراهين الساطعة ما يثبت لنا أي حكمة بليغة ورأي مسدد وأي تقوى وإخلاص قد كان لهؤلاء البدو المفكرين؟ وقد اتفق النقاد أن سفر أيوب أحد أجزاء التوراة كتابنا المقدس قد كتب في بلاد العرب. ورأيي في هذا الكتاب فضلاً عن كل ما كتب عنه أنه من أشرف ماسطر يراع ودونت يد كاتب ولا يكاد المرء يصدق أنه من آثار العبرانيين لما فيه من عمومية الأفكار مع شرفها وسموها - عمومية تخالف التعصب والتحيز وحسب الكتاب شرفاً أن يكون يضرب بعرف في كل نفس ويمت بصلة إلى كل قلب ويكون كالبيت يفضى إليه منتهى السبل وكالأرج الضائع تتنازعه جميع

الأنوف والكتاب المذكور هو أول ما جاءنا عن مسألة المسائل - حياة الإنسان وفعل الله به في هذه الدار وقد أتانا بذلك في أنصع بيان وأشد إخلاص وأحسن سهولة وإني لاتبين فيه العين البصيرة والقلب النافذ الفهم الجم الخشوع فهو الحق من حيث جئته والنظر الراسب في قراره كل شيء وصميم كل أمر - مادي وروحاني ألا تذكرون ما جاء فيه من ذكر الفرس الله الذي أودع الرعد حنجرته فهل ترى صهيله إلا قهقهة لرؤية الرماح؟ هذا والله أجود الاستعارة وما أحسب أن في عالم التشبيه كله ما يماثل ذلك أو يقاربه ذلك إلى ما في الكتاب المذكور من آيات الحزن الشريف والتوكل الحسن الجميل وما قرأت فيه قط إلا حسبت قلب الإنسانية يترنم شجى ووجداً ودمع الإنسانية يفيض حرقة وكمدا فيالها من رقة في شدة ورأفة في قوة وما أشبهها إلا بسحر الليلة الصائفة - رقة نسيم في جلال مشهد عظيم وإلا بالكون وكل ما فيه من أنجم وبحار وليل ونهار وما أحسب في جميع التوراة شيئاً يدانيه فضلاً قيمة. والحجر الأسود كان من أعم معبودات العرب ولا يزال للآن بمكة في البناء المسمى الكعبة وقد ذكر المؤرخ الروماني سيسلا الكعبة فقال إنها كانت في مدته أشرف معابد العالم طرا وأقدمها وذلك قبل الميلاد بخمسين عاماً وقال المؤرخ سلفستاردي ساسي أن الحجر الأسود ربما كان من رجوم السموات فإذا صح ذلك فلا بد من أن إنساناً قد بصر به ساقطاً من الجو! والحجر موجود الآن إلى جانب البئر زمزم والكعبة مبنية فوقهما والبئر تعلمون منظر حيثما كان سار مفرح ينبجس من الحجر الأصم كالحياة من الموت فما بالكم بها إذا كانت تفيض: بديمومة لا ظل في صحصحانها ... ولا ماء لكن قورها الدهر عوم ترى الآل فيها يلطم الآل مائجا ... وبارحها المسموم للوجه الطم أظل إذا كافحتها وكأنني ... بوهاجها دون اللثام ملثم وقد اشتق لها اسمها زمزم من صوت تفجرها وهديرها والعرب تزعم أنها انحبست تحت أقدام هاجر وإسماعيل فيضاً من الله وشفاء وقد قدسها العرب والحجر الأسود وشادوا عليهما الكعبة منذ آلاف من السنين وما أعجب هذه الكعبة وأعجب شأنها فهي في هذه الآونة قائمة على قواعدها عليها الكسوة السوداء التي يرسلها السلطان كل عام يبلغ ارتفاعها سبعاً

وعشرين ذراعاً حولها دائرة مزدوجة من العمد وبها صفوف من المصابيح وبها نقوش وزخارف عجيبة وستوقد تلك المصابيح الليلة لتشرق تحت النجوم المشرقة فنعم أثر الماضي هي ونعم ميراث الغابر هذه كعبة المسلمين ومن أقاصي المشرق إلى أخريات المغرب - من دلهي إلى مراكش تتوجه أبصار العديد المجمهر من عباد الله المصلين شطرها وتهفو قلوبهم نحوها خمس مرات هذا اليوم وكل يوم نعم لهي والله من أجل مراكز المعمورة وأشرف أقطابها. وإنما من شرف البئر زمزم وقدسية الحجر الأسود ومن حج القبائل إلا ذياك المكان كان منشأ مدينة مكة ولقد كانت هذه المدينة وقتاما ذات بال وشأن وإن كانت الآن قد فقدت كثيراً من أهميتها وموقعها من حيث هي مدينة سيء جداً إذ هي واقعة في بطن من الأرض كثير الرمال وسط هضاب قفرة وتلال مجدبة على مسافة بعيدة من البحر ثم يمتار لها جميع ذخائرها من جهات أخرى حتى الخبز ولكن الذي اضطر إلى إيجاد هذه المدينة هو أن كثيراً من الحجيج كانوا يطلبون المأوى ثم إن أماكن الحج مازالت من قديم الزمان تستدعي التجارة فأول يوم يلتقي فيه الحجيج تلتقي فيه كذلك التجار والباعة والناس متى وجدوا أنفسهم مجتمعين لغرض من الأغراض رأوا أنه لا بأس عليهم إن يقضوا كل ما يعرض لهم من المنافع وإن لم يكن في الحسبان لذلك صارت مكة سوق بلاد العرب بأجمعها والمركز لكل ما كان من التجارة بين الهند وبين الشام ومصر بل وبين إيطاليا وقد بلغ سكانها في حين من الأحيان مائة ألف نسمة بين بائعين ومشترين وموردين لبضائع الشرق والغرب وباعة للمأكولات والغلال وكانت حكومتها ضرباً من الجمهورية الأرسطوقراسية عليها صبغة دينية وذلك أنهم كانوا ينتخبون لها بطريقة غير مهذبة عشرة رجال من قبيلة عظمى فيكون هؤلاء حكام مكة وحراس الكعبة وكانت لقريش في عهد محمد وأسرة محمد من قبيلة قريش وكان سائر الأمة مبدداً في أنحاء تلك الرمال قبائل تفصلها بين الواحدة والأخرى البيد والقفار وعلى كل قبيلة أمير أو أمراء: وربما كان الأمير راعياً أو ناقل أمتعة ويكون في الغالب لصاً وكانت الحرب لا تخمد بين بعض هذه القبائل وبعضها ولم يك يؤلف بينهم حلف علني إلا التقاءهم بالكعبة حيث كان يجمعهم على اختلاف وثنياتهم مذهب واحد. وإلا رابطة الدم واللغة وعلى هذه الطريقة عاش العرب دهوراً طوالاً خاملى

الذكر غامضى الشأن - أناساً ذوي مناقب جليلة وصفات كبيرة ينتظرون من حيث لا يشعرن اليوم الذي يشاد فيه بذكرهم ويطير في الآفاق صيتهم ويرتفع إلى عنان السماء صوتهم وما ذلك ببعيد وكأنما كانت وثنياتهم قد وصلت إلى طور الاضمحلال وآذنت بالسقوط وقد حدثت بينهم دواعي اختلاط وفوران وكان قد بلغهم على مدى القرون غوامض أنباء عن أكبر حادثة وقعت على وجه البسيطة - أعني حياة المسيح ووفاته وهي التي أحدثت انقلاباً هائلاً في جميع سكان العالم - فلم تعدم هذه الأنباء تأثيرها من الفوران في أحشاء الأمة العربية. وكان بين هؤلاء العرب التي تلك حالهم أن ولد محمد (عليه السلام) عام 580 ميلادية وكان من أسرة هاشم من قبيلة قريش وقد مات أبوه عقب مولده ولما بلغ عمره ستة أعوام توفيت أمه - وكان لها شهرة بالجمال والفضل والعقل فقام عليه جده شيخ كان قد ناهز المائة من عمره وكان صالحاً باراً وكان ابنه عبد الله أحب أولاده إليه فأبصرت عينه الهرمة في محمد صورة عبد الله فأحب اليتيم الصغير بملء قلبه وكان يقول ينبغي أن يحسن القيام على ذلك الصبي الجميل الذي قد فاق سائر الأسرة والقبيلة حسناً وفضلاً ولما حضرت الشيخ الوفاة والغلام لم يتجاوز العامين عهد به إلى أبي طالب أكبر أعمامه رأس الأسرة بعده فرباه عمه - وكان رجلاً عاقلاً كما يشهد بذلك كل دليل - على أحسن نظام عربي. ولما شب محمد وترعرع صار يصحب عمه في أسفار تجارية وما أشبه وفي الثامنة عشرة من عمره نراه فارساً مقاتلاً يتبع عمه في الحروب غير أن أهم أسفاره ربما كان ذاك الذي حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين - رحلة إلى مشارف الشام إذ وجد الفتى نفسه هنالك في عالم جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الأهمية جداً في نظره - أعني الديانة المسيحية وإني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بَحيرا) الذي يذعم أن أبا طالب ومحمداً سكنا معه في دار ولا ماذا عساه يتعلمه غلام في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما فإن محمداً لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشرة ولم يكن يعرف إلا لغته ولا شك أن كثيراً من أحوال الشام ومشاهدها لم يك في نظره إلا خليطاً مشوشاً من أشياء ينكرها ولا يفهمها ولكن الغلام كان له عينان ثاقبتان ولا بد من أن يكون قد انطبع على لوح فؤاده

أمور وشؤون فأقامت في ثنايا ضميره ولو غير مفهومة ريثما ينضجها له كر الغداة ومر العشى ونحلها له يد الزمن يوماً ما فتخرج منها آراء وعقائد ونظرات نافذات فلعل هذه الرحل الشامية كانت لمحمد أوائل خير كثير وفوائد جمة. ثم لا ننسى شيئاً آخر وهو أنه لم يتلق دروساً على أستاذ أبداً وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمداً لم يكن يعرف الخط والقراءة وكل ما تعلم هو عيشة الصحراء وأحوالها وكل ما وفق إلى معرفته هو ما أمكنه أن يشاهد بعينيه ويتلقى بفؤاده من هذا الكون العديم النهاية وعجيب وأيم الله أمية محمد نعم إنه لم يعرف من العالم ولا من علومه إلا ما تيسر له أن يبصره بنفسه أو يصل إلى سمعه في ظلمات صحراء العرب ولم يضره ولم يزر به أنه لم يعرف علوم العالم لا قديمها ولا حديثها لأنه كان بنفسه غنياً عن كل ذلك ولم يقتبس محمد من نور أي إنسان آخر ولم يغترف من مناهل غيره ولم يك في جميع أشباهه من الأنبياء والعظماء - أولئك الذين أشبههم بالمصابيح الهادئة في ظلمات الدهور - من كان بين محمد وبينه أدنى صلة وإنما نشأ وعاش وحده في أحشاء الصحراء ونما هنالك وحده بين الطبيعة وبين أفكاره. ولوحظ عليه منذ فتائه أنه كان شاباً مفكراً وقد سماه رفقاؤه الأمين - رجل الصدق والوفاء - الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره وقد لا حظوا أن ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة وإني لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة لا يتناول غرضاً فيتركه إلا وقد أنار شبهته وكشف ظلمته وإبان حجته واستثار دفينته وهكذا يكون الكلام وإلا فلا وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريماً برا رؤوفاً تقياً فاضلاً حراً - رجلاً شديد الجد مخلصاً وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة جم البشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس بل ربما مازح وداعب وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق لأن من الناس من تكون ابتسامته كاذبة ككذب أعماله وأحواله - هؤلاء لا يستطيعون أن يبتسموا وكان محمد جميل الوجه وضي الطلعة حسن القامة زاهي اللون له عينان سوداوان تتلألآن وإني لأحب في جبينه ذلك العرق الذي كان ينتفخ ويسود في حال غضبه (كالعرق المقوس الوارد في قصة القفازة الحمراء لوالترسكوت) وكان هذا العرق

خصيصة في بني هاشم ولكنه كان أبين في محمد وأظهر نعم لقد كان هذا الرجل حاد الطبع ناري المزاج ولكنه كان عادلاً صادق النية كان ذكي اللب شهم الفؤاد. لو ذعيا كأنما بين جنبي ... هـ مصابيح كل ليل بهيم ممتلئاً ناراً ونوراً رجلاً عظيماً بفطرته لم تثقفه مدرسة ولا هذبه معلم وهو غني عن ذلك كالشوكة استغنت عن التنقيح فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء. وما ألذ وما أوضح قصته مع خديجة وكيف أنه كان أولا يسافر في تجارات لها إلى أسواق الشام وكيف كان ينهج في ذلك أقوم مناهج الحزم والأمانة وكيف جعل شكرها له يزداد وحبها ينمو ولما زوجت منه كانت في الأربعين وكان هو لم يتجاوز الخمسة والعشرين وكان لا يزال عليها مَسحة ملاحة ولقد عاش مع زوجه هذه على أتم وفاق وألفة وصفاء وغبطة يخلص لها الحب وحدها ومما يبطل دعوى القائلين أن محمداً لم يكن صادقاً في رسالته بل كان ملفقاً مزوراً أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوي مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة ولما يك إلا بعد إلا بعين أن تحدث برسالة سماوية ومن هذا التاريخ توفيت خديجة نعم لقد كان حتى ذاك الوقت يقنع بالعيش الهادئ الساكن وكان حسبه من الذكر والشهرة حسن آراء الجيران فيه وجميل ظنونهم به ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب إن فار بصدره ذلك البركان الذي كان هاجعاً وثار يريد أمراً جليلاً وشأناً عظيماً. ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدون أن محمداً لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان كلا وأيم الله لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير - ابن القفار والفلوات المتوقد المقلتين العظيم النفس المملوء رجمة وخيراً وحناناً وبراً وحكمة وحجي وإربة ونهى - أفكار غير الطمع الدنيوي ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه. . وكيف تلك نفس صامتة كبيرة ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين فبينما ترى آخرين يرضون بالاصطلاحات الكاذبة ويسيرون طبق الاعتبارات الباطلة إذ ترى محمداً لم يرض أن يلتفع بمألوف الأكاذيب ويتوشح بمتبع الأباطيل لقد كان منفرداً بنفسه العظيمة وبحقائق الأمور والكائنات لقد كان سر الوجود يسطع لعينيه كما قلت بأهواله ومخاوفه وروانقه ومباهره لم يك هنالك من الأباطيل ما يحجب ذلك عنه فكأن لسان

حال ذلك السر الهائل يناجيه ها أنا ذا فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى إلهي مقدس وما كلمة مثل هذا الرجل إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة فإذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية وكل القلوب واعية وكل كلام ما عدا ذلك هباء وكل قول جفاء وما زال منذ الأعوام الطوال - منذ أيام رحله وأسفاره يجول بخاطره آلاف من الأفكار: ماذا أنا؟ وما ذلك الشيء العديم النهاية الذي أعيش فيه والذي يسميه الناس كونا؟ وما هي الحياة؟ وما هو الموت؟ وماذا أعتقد؟ وماذا أفعل؟ فهل إجابته عن ذلك صخور جبل حراء أو شماريخ طود الطور أو تلك القفار والفلوات كلا ولا قبة الفلك الدوار واختلاف الليل والنهار ولا النجوم الزاهرة والأنواء الماطرة لم يبه لا هذا ولا ذاك وما للجواب عن ذلك إلا روح الرجل وإلا ما أودع الله فيه من سره! وهذا ما ينبغي لكل إنسان أن يسأل عنه نفسه فقد أحس ذلك الرجل القفري أن هذه هي كبرى المسائل وأهم الأمور وكل شيء عديم الأهمية في جانبها وكان إذا بحث عن الجواب في فرق اليونان الجدلية أو في روايات اليهود المبهمة أو نظام وثنية العرب الفاسد لم يجده وقد قلت أن أهم خصائص البطل وأول صفاته وآخرها هي أن ينظر من خلال الظواهر إلى البواطن فأما العادات والاستعمالات والاعتبارات والاصطلاحات فينبذها جيدة كانت أو رديئة وكان يقول في نفسه هذه الأوثان التي يعبدها القوم لا بد من أن يكون وراءها ودونها شيء ما هي إلا رمز له وإشارة إليه وإلا فهي باطل وزور وقطع من الخشب لا تضير ولا تنفع وما لهذا الرجل والأصنام وإني تؤثر في مثله أوثان ولو رصعت بالنجوم لا بالذهب ولو عبدها الجحاجح من عدنان والاقيال من حمير أي خير له في هذه ولو عبدها الناس كافة؟ إنه في واد وهم في واد هم يعمهون في ضلالهم وهو ماثل بين يدي الطبيعة قد سطعت لعينيه الحقيقة الهائلة فإما أن يجيبها وإلا فقد حبط سعيه وكان من الخاسرين فلتجبها يا محمد! أجب لا بد من أن توجد الجواب أيزعم الكاذبون إنه الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وأثاره حمق وأيم الله وسخافة وهوس أي فائدة لمثل هذا الرجل في جميع بلاد العرب وفي تاج قيصر وصولجان كسرى وجميع ما بالأرض من تيجان وصوالجة وأين تصير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حين من الدهر؟ أفي مشيخة مكة وقضيب مفضض الطرف أو في ملك كسرى وتاج ذهبي الذؤابة منجاة للمرء ومظفرة؟ كلا إذن

فلنضرب صفحاً عن مذهب الجائرين القائل أن محمداً كاذب ونعد موافقتهم عاراً وسبة وسخافة وحمقاً فلنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع. وكان من شأن محمد أن يعتزل الناس شهر رمضان فينقطع إلى السكون والوحدة دأب العرب وعادتهم ونعمت العادة ما أجل وأنفع ولاسيما لرجل كمحمد لقد كان يخلو إلى نفسه فيناجي ضميره صامتاً بين الجبال الصامته متفتحاً صدره لأصوات الكون الغامضة الخفية أجل حبذا تلك عادة ونعمت فلما كان في الأربعين من عمره وقد خلا إلى نفسه في غار بجبل حراء قرب مكة شهر رمضان ليفكر في تلك المسائل الكبرى إذا هو قد خرج إلى خديجة ذات يوم وكان قد استصحبها ذلك العام وأنزلها قريباً من مكان خلوته فقال لها إنه بفضل الله قد استجلى غامض السر واستثار كامن الأمر وإنه قد أنارت الشبهة وانجلى الشك وبرح الخفاء وإن جميع هذه الأصنام محال وليست إلا أخشاباً حقيرة وإن لا اله إلا الله وحده لا شريك له فهو الحق وكل ما خلاه باطل خلقنا ويرزقنا وما نحن وسائر الخلق والكائنات إلا ظل له وستار يحجب النور الأبدي والرونق السرمدي الله أكبر ولله الحمد: ثم الإسلام وهو إن نسلم الأمر لله ونذهن له ونسكن إليه ونتوكل عليه وإن القوة كل القوة هي في الاستنامة لحكمه والخضوع لحكمته والرضا بقسمته أية كانت في هذه الدنيا وفي الآخرة ومهما يصبنا به الله ولو كان الموت الزؤام فلنتلقه بوجه مبسوط ونفس مغتبطة راضية ونعلم أنه الخير وأن لا خير إلا هو ولقد قال شاعر الألمان وأعظم عظمائهم جايتي إذا كان ذلك هو الإسلام فكلنا إذن مسلمون نعم كل من كان فاضلاً شريف الخلق فهو مسلم وقد ما قيل أن منتهى العقل والحكمة ليس في مجرد الإذعان للضرورة - فإن الضرورة تخضع المرء برقم أنفه ولا فضل فيما يأتيه الإنسان مكرها - بل في اليقين بأن الضرورة الأليمة المرة هي خير ما يقع للإنسان وأفضل ما يناله وإن لله في ذلك حكمة تلطف عن الأفهام وتدق عن الأذهان وإنه من الافن والسخف أن يجعل الإنسان من دماغه الضئيل ميزاناً لذلك العالم وأحواله. بل عليه أن يعتقد أن للكون قانوناً عادلاً وإن غاب عن إدراكه. وإن الخير هو أساس الكون والصلاح روح الوجود والنفع لباب الحياة نعم عليه أن يعرف ذلك ويعتقده ويتبعه في سكوت وتقوى. أقول وما زالت هذه الخطة المثلى والمذهب الأشرف الأطهر: وما زال الرجل مصيباً

وظافراً وحراً وكريماً وسائراً على المنهج الأقوم وسالكاً سبيل السعادة ما دام معتصماً بحبل الله متمسكاً بقانون الطبيعة الأكبر الأمكن غير مبال بالقوانين السطحية والظواهر الوقتية وحسابات الربح والخسارة نعم هو ظافر إذا اتبع ذلك القانون الكبير الجوهري - قطب رحى الكون ومحور الدهر - وليس بظافر إذا فعل غير ذلك وحقاً إن أول وسيلة تؤدي إلى اتباع هذا القانون هو الاعتقاد بوجوده ثم بأنه صالح بل لا شيء غيره صالح! وهذا يا إخواني هو روح الإسلام! وهذا هو أيضاً روح النصرانية والإسلام لو تفقهون ضرب من النصرانية والإسلام والنصرانية يأمراننا أن نتوكل على الله قبل كل شيء وأن نفطم النفس عن الشهوات وننهى القلب عن الهوى وإن لا نجمع في عنان المنى وأن نصبر على البث والأسى وأن نعرف أنا لا نعرف شيئاً وأن نرضى من الله كل ما قسم ونعدها يداً بيضاء ونعمة غراء ونقول الحمد لله على كل حال وتبارك الله ذو الجلال والإكرام ونقول إنا بقسمة الله راضون ولو كان ما قسم لنا المنون. فمن فضائل الإسلام تضحية النفس في سبيل الله وهذا أشرف ما نزل من السماء على نبي الأرض نعم هو نور الله قد سطع في روح ذلك الرجل فأنار ظلماتها هو ضياء باهر كشف تلك الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلاك وقد سماه محمد (عليه السلام) وحيا وجبريل وأينا يستطيع أن يحدث له اسماً ألم يجئ في الإنجيل أن وحي الله يهبنا الفهم والإدراك؟ ولا شك أن العلم والنفاذ إلى صميم الأمور وجواهر الأشياء لسر من أغمض الأسرار لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره وقد قال نوفاليس أليس الإيمان هو المعجزة الحقة الدالة على الله؟ فشعور محمد إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة بأن الحقيقة المذكورة هي أهم ما يجب على الناس علمه لم يك إلا أمراً بديهياً وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له ونجاه من الهلاك والظلمة وكونه قد أصبح مضطراً إلى إظهارها للعالم أجمع - هذا كله هو معنى كلمة محمد رسول الله وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين. ويخيل إلينا أن الصالحة خديجة أصغت إليه في دهشة وشك ثم آمنت وقالت إي وربي إنه لحق ونتوهم أن محمداً شكر لها ذلك الصنيع ورأى في إيمانها بكلمته المخلصة المقذوفة من بركان صدره جميلاً يفوق كل ما أسدت إليه من قبل فإنه ليس أروح لنفس المرء ولا أثلج لحشاه من أن يجد له شريكاً في اعتقاده ولقد قال نوفاليس ما رأيت شيئاً قط آكدليقيني

وأوثق لاعتقادي من انضمام إنسان آخر إلي في رأيي نعم إنه لصنيع أغر ونعمة وفيرة وكذلك ما انفك محمد يذكر خديجة حتى لقي ربه حتى إن عائشة - زوجه الصغيرة المحبوبة تلك التي اشتهرت بين المسلمين بجميع المناقب والفضائل طول حياتها - هذه السيدة البارعة الجمال والفطنة سألته ذات يوم ألست الآن أفضل من خديجة؟ لقد كانت أرملة مسنة فقد ذهب جمالها وأراك تحبني أكثر مما كنت تحبها. فأجاب محمد كلا والله لست أفضل منها وكيف وهي التي آمنت بي والكل كافر ومنكر ولم يك لي في هذا العالم إلا صديق واحد - وهذا الصديق هي وآمن به مولاه زيد (بن حارثة) كذلك وعلي وهؤلاء الثلاثة أول من آمن به. وجعل يذكر رسالته لهذا ولذاك فما كان يصادف إلا جموداً وسخرية حتى أنه لم يؤمن به في خلال ثلاثة أعوام إلا ثلاثة عشر رجلاً وذلك منتهى البطء وبئس التشجيع ولكنه المنتظر في مثل هذه الحال وبعد هذه السنين الثلاث أدب مأدبة لأربعين من قرابته ثم قام بينهم خطيباً فذكر دعوته وإنه يريد أن يذيعها في سائر أنحاء الكون وإنها المسألة الكبرى بل المسألة الوحيدة فأيهم يمد إليه يده ويأخذ بناصره؟ وبينما القوم صامتون حيرة ودهشة وثب علي وكان غلاماً في السادسة عشرة وكان قد غاظه سكوت الجماعة فصاح في أحد لهجة أنه ذاك النصير والظهير ولا يحتمل أن القوم كانوا منابذين محمداً ومعادينه وكلهم قرابته وفيهم أبو طالب عم محمد وأبو علي ولكن رؤية رجل كهل أمي يعينه غلام في السادسة عشرة يقومان في وجه العالم بأجمعه كانت مما يدعو إلى العجب المضحك فانفض القوم ضاحكين ولكن الأمر لم يك بالمضحك بل كان نهاية في الجد والخطر! أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونتعشقه فإنه فتى شريف القدر كبير النفس يفيض وجدانه رحمة وبراً ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة وكان أشجع من ليث ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان جدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى وقد قتل بالكوفة غيلة وإنما جني ذلك على نفسه بشدة عدله حتى حسب كل إنسان عادلاً مثله وقال قبل موته حينما أومر في قاتله أن أعش فالأمر إلي وإن أمت فالأمر لكم فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة وأن تعفوا أقرب إلى التقوى! وكان في عمل محمد هذا إساءة ولا شك إلى قريش حراس الكعبة وخدمة الأصنام وانضم

إليه منهم رجلان أو ثلاثة أولوا بأس ونفوذ وسرى أمر محمد ببطء ولكنه سريان على كل حال وكان عمله بالطبع سيء الوقع لدي كل إنسان حيث جعلوا يقولون من هذا الذي يزعم أنه أعقل منا جميعاً والذي يعنفنا ويرمينا بالحمق وعبادة الخشب! وأشار عليه أبو طالب أن يكتم أمره ويؤمن به وحده وأن يكون له من نفسه ما يشغله عن العالم وأن لا يسخط القوم ويثير غضبهم عليه فيخطر بذلك حياته فأجابه محمد والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته كلا فإن في هذه الحقيقة التي جاء بها لشيئاً من عنصر الطبيعة ذاتها لا تفضله الشمس ولا القمر ولا أي مصنوعات الطبيعة ولابد لتلك الحقيقة من أن تظهر برغم الشمس والقمر ما دام قد أراد أن تظهر وبرغم قريش جميعها وبكره سائر الخلائق والكائنات نعم لا بد من أن تظهر ولا يسعها إلا أن تظهر بذلك أجاب محمد ويقال أنه اغرورقت عيناه اغرورقت عيناه: لقد أحس من عمه البر والشفقة وأدرك وعورة الحال وعلم أنه أمر ليس بالهين اللين ولكنما أمر صعب المراس مر المذاق. واستمر يؤدي الرسالة إلى كل من أصغى إليه وينشر مذهبه بين الحجيج مدة إقامتهم بمكة ويستميل الاتباع هنا وهنالك وهو يلقى أثناء كل ذلك منابذة ومناوأة ومناصبة بالعداوة ومجاهرة وشرا بادياً وكامنا وكانت قرابته تحميه وتدافع عنه ولكنه عزم هو وأتباعه على الهجرة إلى الحبشة فوقع خبر ذلك العزم من قريش أسوأ موقع وضاعف حنقهم عليه فنصبوا له الأشراك وبثوا الحبائل وأقسموا بالآلهة ليقتلن محمداً بأيديهم وكانت خديجة قد توفيت وتوفى أبو طالب وتعلمون أصلحكم الله أن محمداً ليس بحاجة إلى أن نرثى له ولحاله النكراء إذ ذاك ومقامه الضنك وموقفه الحرج ولكن اعرفوا معي أن حاله إذ ذاك من الشدة والبلاء كما لم ير إنسان قط فلقد كان يختبئ في الكهوف ويفر متنكراً إلى هذا المكان والى ذاك لا مأوى ولا مجير ولا ناصر تتهدده الحتوف وتتوعده الهلكات وتفغر له أفواهها المنايا وكان الأمر يتوقف أحياناً على أدنى صغيرة - كأجفال فرس من أفراس أتباع محمد - فلو حدث ذلك لضاع كل شيء ولكن أمر محمد - ذلك الأمر العظيم - ما كان لينتهي على مثل تلك الحال. فلما كان العام الثالث عشر من رسالته وقد وجد أعداءه متأليين عليه جميعاً وكانوا أربعين

رجلاً كل من قبيلة أتمروا به ليقتلوه وألغى المقام بمكة مستحيلاً هاجر إلى يثرب حيث التف به الأنصار والبلدة تسمى الآن المدينة أي مدينة النبي وهي من مكة على مائتي ميل تقوم وسط صخور وقفار ومن هذه الهجرة يبتديء التاريخ في المشرق والسنة الأولى من الهجرة توافق 622 ميلادية وهي السنة الخامسة والخمسون من عمر محمد فترون أنه كان قد أصبح إذ ذاك شيخاً كبيراً وكان أصحابه يموتون واحداً بعد واحد ويخلون أمامه مسلكاً وعراً وسبيلاً قفراً وخطة نكراء موحشة فإذا هو لم يجد من ذات نفسه مشجعاً ومحركاً ويفجر بعزمه ينبوع أمل بين جنبيه فهيهات أن يجد بارقات الأمل فيما يحدق به من عوابس الخطوب ويحيط به من كالحات المحن والملمات وهكذا شأن كل إنسان في مثل هذه الأحوال وكانت نية محمد حتى الآن أن ينشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة فقط فلما وجد أن القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية وعدم الإصغاء إلى صوت ضميره وصيحة لبه حتى أرادوا أن يسكتوه فلا ينطق بالرسالة - عزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه دفاع رجل ثم دفاع عربي ولسان حاله يقول وأما وقد أبت قريش إلا الحرب فلينظروا أي فتيان هيجاء نحن! وحقاً رأى فإن أولئك القوم أغلقوا آذانهم عن كلمة الحق وشريعة الصدق وأبوا إلا تمادياً في ضلالهم يستبيحون الحريم ويهتكون الحرمات ويسلبون وينهبون ويقتلون النفس التي حرم الله قتلها ويأتون كل إثم ومنكر وقد جاءهم محمد من طريق الرفق والاناة فأبوا إلا عتوا وطغيانا فليجعل الأمر إذن إلى الحسام المهند والوشيج المقوم والى كل مسرودة حصداء وسابحة جرداء! وكذلك قضى محمد بقية عمره وهي عشر سنين أخرى في حرب وجهاد لم يسترح غمضة عين ولا مدر فواق وكانت النتيجة ما تعلمون! ولقد قيل كثيراً في شأن نشر محمد دينه بالسيف فإذا جعل الناس ذلك دليلاً على كذبه فشد ما أخطأوا وجاروا فهم يقولون ما كان الدين لينتشر لولا السيف ولكن ما هو الذي أوجد السيف؟ هو قوة ذلك الدين وإنه حق والرأي الجديد أول ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد فالذي يعتقده هو فرد - فرد ضد العالم أجمع فإذا تناول هذا الفرد سيفاً وقام في وجه الدنيا فقلما والله يضيع وأرى على العموم أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال أو لم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن نستخدم السيف أحياناً وحسبكم ما فعل شارلمان

بقبائل السكسون وأنا لا أحفل أكان انتشار الحق بالسيف أم باللسان أم بأية آلة أخرى فلندع الحقائق ننشر سلطانها بالخطابة أو بالصحابة أو بالنار لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وظافرها فإنها لن تهزم إلا ما كان يستحق أن يهزم وليس في طاقتها قط أن تفني ما هو خير منها بل ما هو أحط وأدنى فإنها حرب لاحكم فيها إلا الطبيعة ذاتها ونعم الحكم ما أعدل وما أقسط وما كان أعمق جذراً في الحق وأذهب أعراقاً في الطبيعة فذلك هو الذي ترونه بعد الهرج والمرج والضوضاء والجلبة نامياً زاكباً وحده. أقول الطبيعة أعدل حكم بلى ما أعدل وما أعقل وما أرحم وما أحلم أنك تأخذ حبوب القمح لتجعلها في بطن الأرض وربما كانت هذه الحبوب مخلوطة بقشور وتبن وقمامة وتراب وسائر أصناف الأقذاء ولكن لا بأس عليك من ذلك وألق الحبوب بجميع ما يخالطها من القذى في جوف الأرض العادلة البارة فإنها لا تعطيك إلا قمحاً خالصاً نقياً فأما القذى فإنها تبلعه في سكون وتدفنه ولا تذكر عنه كلمة وما هي إلا برهة حتى ترى القمح زاكياً يهتز كأنه سبائك الذهب الابريز والأرض الكريمة قد طوت كشحاً على الأقذاء واغضت بل أنها حولتها كذلك إلى أشياء نافعة ولم تشك منها شجواً ولا نصباً وهكذا الطبيعة في جميع شؤونها فهي حق لا باطل وهي عظيمة وعادلة ورحيمة حنون وهي لا تشترط في الشيء إلا أن يكون صادق اللباب حر الصميم فإذا كان كذلك حمته وحرسته أو كان غير ذلك لم تحمه ولم تحرسه فترى لكل شيء تحميه الطبيعة روحاً من الحق أليس شأن حبوب القمح هذه والطبيعة هو واأسفاه شأن كل حقيقة كبرى جاءت إلى هذه الدنيا أو تجيء فيما بعد؟ أعني أن الحقيقة مزيج من حق وباطل نور في ظلام وتجيئنا الحقائق في أثواب من القضايا المنطقية ونظريات علمية من الكائنات لا يمكن أن تكون تامة صحيحة صائبة ثم لا بد من أن يجيء يوم يظهر فيه نقصها وخطؤها وجورها فتموت وتذهب نعم يموت ويذهب جسم كل حقيقة ولكن الروح يبقى أبداً ويتخذ ثوباً أطهر وبدنا أشرف وما يزال يتنقل من الأثواب والأبدان من حسن إلى أحسن وجيد إلى أجود سنة الطبيعة التي لا تتبدل نعم إن جوهر الحقيقة الكريم حيٌ لا يموت وإنما النقطة الهامة والأمر الوحيد الذي يعرض في محكمة الطبيعة ومجلس قضائها هو هل هذا الروح حق وصوت من أعماق الطبيعة؟ وليس بهام عند الطبيعة ما نسميه نقاء الشيء أو عدم نقائه وليس هو بالسؤال النهائي ليس الأمر

الهام عن الطبيعة حينما تقدم إليها أنت لتصدر حكمها فيك هو أفيك أقذار وأكدار أم لا وإنما هو أفيك جوهر حق وروح صدق أم لا أو بعبارة تشبيهية ليس السؤال الهام عند الطبيعة هو أفيك قشور أم لا بل أفيك قمح؟ أيقول بعض الناس أنه نقي إني أقول له نعم نقي - نقي جداً ولكنك قشر - ولكنك باطل وأكذوبة وزور وثوب بلا روح ومجرد اصطلاح وعادة وما امتد بينك وبين سر الكون وقلب الوجود سبب ولا صلة والواقع أنك لا نقي ولا غير نقي وإنما أنت لا شيء والطبيعة لا تعرفك وإنها منك براء. نحن سمينا الإسلام ضرباً من النصرانية ولو نظرنا إلى ما كان من سرعته إلى القلوب وشدة امتزاجه بالنفوس واختلاطه بالدماء في العروق لأيقنا أنه كان خيراً من تلك النصرانية التي كانت إذ ذاك في الشام واليونان وسائر تلك الأقطار والبلدان - تلك النصرانية التي كانت تصدع الرأس بضوضائها الكاذبة وتترك القلب ببطلانها قفراً ميتاً! على أنه قد كان فيها عنصر من الحق ولكنه ضئيل جداً وبفضله فقط آمن الناس بها وحقاً أنها كانت ضرباً كاذباًَ من النصرانية كالدعي بين الأصلاء ولكنها ضرب حي على كل حال ذو حياة قلبية وليست مجرد قضايا قفرة ميتة. ونظر محمد من وراء أصنام العرب الكاذبة ومن وراء مذاهب اليونان واليهود ورواياتهم وبراهينهم ومزاعمهم وقضاياهم - نظر ابن القفار والصحاري بقلبه البصير الصادق وعينه المتوقدة الجلية إلى لباب الأمر وصميمه فقال في نفسه الوثنية باطل وهذه الأصنام التي تصقلونها بالزيت والدهن فيقع عليها الذباب أخشاب لا تضر ولا تنفع وهي منكر وفظيع وكفر لو تعلمون إنما الحق أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له خلقنا وبيده حياتكم وموتكم وهو أرأف بكم منكم وما أصابكم من شيء فهو خير لكم لو كنتم تفقهون. وإن ديناً آمن به أولئك العرب الوثنيون وأمسكوه بقلوبهم النارية لجدير أن يكون حقاً وجدير أن يصدق به وإن ما أودع هذا الدين من القواعد هو الشيء الوحيد الذي للإنسان أن يؤمن به وهذا الشيء هو روح جميع الأديان - روح تلبس أثواباً مختلفة وأثواباً متعددة وهي في الحقيقة شيء واحد وبأتباع هذه الروح يصبح الإنسان إماماً كبيراً لهذا المعبد الأكبر - الكون - جارياً على قواعد الخالق تابعاً لقوانينه لا محاولاً عبثاً أن يقاومها ويدافعها ولم أعرف قط تصريفاً للواجب أحسن من هذا والصواب كل الصواب في السير

على منهاج الدينا فإن الفلاح في ذلك (إذ كان منهاج الدينا هو طريق الفلاح): وجاء محمد وشيع النصارى تقيم أسواق الجدال وتتخابط بالحجيج الجائرة وماذا أفاد ذلك وماذا أثمر إما أنه الأهم ليس صحة ترتيب القضايا المنطقية وحسن إنتاجها وإنما هو إن خلق الله وأبناء آدم يعتقدون تلك الحقائق الكبرى لقد جاء الإسلام على تلك الملل الكاذبة والنحل الباطلة فابتلعها وحق له أن يبتلعها لأنه حقيقة خارجة من قلب الطبيعة وما كاد يظهر الإسلام حتى احترقت فيه وثنيات العرب وجدليات النصرانية وكل ما لم يكن بحق فإنها حطب ميت أكلته نار الإسلام فذهب والنار لم تذهب. أما القرآن فإن فرط إعجاب المسلمين به وقولهم بإعجازه هو أكبر دليل على اختلاف الأذواق في الأمم المختلفة هذا وإن الترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة وحسن الصياغة ولذلك لا عجب إذا قلت أن الأوربي يجد قراءة القرآن أكبر عناء فهو يقرؤه كما يقرأ الجرائد لا يزال يقطع في صفحاتها قفاراً من القول الممل المتعب ويحمل على ذهنه هضاباً وجبالاً من الكلم لكي يعثر في خلال ذلك على كلمة مفيدة أما العرب فيرونه على عكس ذلك لما بين آياته وبين أذواقهم من الملاءمة ولأن لا ترجمة ذهبت بحسنة ورونقه فلذلك رآه العرب من المعجزات وأعطوه من التبجيل ما لم يعطه أتقى النصارى لأنجيلهم وما برح في كل زمان ومكان قاعدة التشريع والعمل والقانون المتبع في شؤون الحياة ومسائلها والوحي المنزل من السماء هدًى للناس وسراجاً منيراً يضيء لهم سبل العيش ويهديهم صراطاً مستقيما ومصدر أحكام القضاة الدرس الواجب على كل مسلم حفظه والاستنارة به في غياهب الحياة وفي بلاد المسلمين مساجد يتلى فيها القرآن جميعه كل يوم مرة يتقاسمه ثلاثون قارئاً على التوالي وكذلك ما برح هذا الكتاب يرن صوته في آذان الألوف من خلق الله وفي قلوبهم اثني عشر قرناً في كل آن ولحظة ويقال إن من الفقهاء من قرأه سبعين ألف مرة! إذا خرجت الكلمة من اللسان لم تتجاوز الأذان وإذا خرجت من القلب نفذت إلى القلب والقرن خارج من فؤاد محمد فهو جدير أن يصل إلى أفئدة سامعيه وقارئيه وقد زعم براديه وأمثاله أنه طائفة من الأخاديع والتزاويق لفقها محمد لتكون أعذاراً له عما كان يرتكب ويقترف وذرائع لبلوغ مطامعه وغاياته ولكنه قد آن لنا أن نرفض جميع هذه الأقوال فإني

لأمقت كل من يرمي محمداً بمثل هذه الأكاذيب وما كان ذو نظر صادق ليرى قط في القرآن مثل ذلك الرأي الباطل والقرآن لو تبصرون ما هو إلا جمرات ذاكيات قذفت بها نفس رجل كبير النفس بعد أن أوقدتها الأفكار الطوال في الخلوات الصامتات وكانت الخواطر تتراكم عليه بأسرع من لمح البصر وتتزاحم في صدره حتى لا تكاد تجد مخرجاً وقل ما نطق به في جانب ما كان يجيش بنفسه العظيمة القوية هذا وقد كان تدفع الوقائع وتدفق الخطوب يعجله عن روية القول وتنميق الكلم ويا لها من خطوب كانت تطيح به وتطير فلقد كان في هذه السنين الثلاث العشرين قطباً لرحى حوادث متلاطمات متصادمات وعالم كله هرج ومرج وفتن ومحن - حروب مع قريش والكفار ومخاصمات بين أصحابه وهياج نفسه وثورانها - كل ذلك جعله في نصب دائم وعناء مستمر فلم تذق نفسه الراحة بعد قيامه بالرسالة قط وقد أتخيل روح محمد الحادة النارية وهي تتململ طول الليل الساهر يطفو بها الوجد ويرسب وتدور بها دوامات الفكر حتى إذا أسفرت لها بارقة رأى حسبته نوراً هبط عليها من السماء وكل عزم مقدس يهم به يخاله جبريل ووحيه أيزعم الأفاكون الجهلة أنه مشعوذ ومحتال كلا ثم كلا! ما كان قط ذلك القلب المحتدم الجائش كأنه تنور فكر يفور ويتأجج ليكون قلب محتال ومشعوذ لقد كانت حياته في نظره حقاً وهذا الكون حقيقة رائعة كبيرة. والإخلاص المحض الصراح يظهر لي أنه فضيلة القرآن التي حببته إلى العربي المتوحش وهي أول فضائل الكتاب أياً كان وآخرها وهي منشأ فضائل غيرها بل لاشيء غيرها يمكنه أن يبعث للكتاب فضائل أخرى ومن العجب أن نرى في القرآن عرقاً من الشعر يجري فيه من بدايته إلى نهايته ثم يتخلله نظرات نافذات - نظرات نبي وحكيم أجل لقد كان لمحمد في شؤون الحياة عين بصيرة ثم له قدرة عظيمة على أن يوقع في أذهاننا كل ما أبصره ذهنه أنا لا أحفل كثيراً بما جاء في القرآن من الصلوات والتحميد والتمجيد لأني أرى لها في الإنجيل شبيهاً ولكني شديد الإعجاب بالنظر الذي ينفذ إلى أسرار الأمور فهذا أعظم ما يلذني ويعجبني وهو ما أجده في القرآن وذلك كما قلت فضل الله يؤتيه من يشاء. وكان محمد إذا سئل أن يأتي بمعجزة قال حسبكم بالكون معجزة انظروا إلى هذه الأرض التي خلق الله لكم ونهج لكم فيها سبلاً تسعون في مناكبها وتأكلون من رزقه وهذا السحاب

المسير في الآفاق لا يدري من أين جاء وهو مسخر في السماء كل سحابة كمارد أسود ثم يسح بمائه ويهضب ليحي أرضاً مواتاً ويخرج منها نباتاً ونخيلاً وأعناباً أليس ذلك آية والأنعام خلقها لكم تحول الكلاء لبنا وهي فخر لكم والسفن - وكثيراً ما يذكر السفن - كالجبال العظيمة المتحركة تنشر أجنحتها وتحتفز في سواء أليم لها حادٍ من الريح وبيننا تسير إذا هي قد وقفت بغتة وقد قيض الله الريح معجزات الله كل هذه وأي معجزات بعدها تريدون ألستم أنتم معجزات؟ لقد كنتم صغاراً وقبل ذلك لم تكونوا أبداً ثم لكم جمال وقوة وعقل ثم وهبكم الرحمة أشرف الصفات وتهرمون ويأتيكم المشيب وتضعفون وتهن عظامكم وتموتون فتصبحوا غير موجودين ثم وهبكم الرحمة لقد ادهشتني جداً هذه الجملة فإن الله ربما كان خلق الناس بلا رحمة فماذا كان يكون أمرهم! هذه من محمد نظرة نافذة إلى لباب الحقيقة وكذلك أرى في محمد دلائل شاعرية كبيرة وآيات على أشرف المحامد وأكرم الخصال وأتبين فيه عقلاً راجحاً عظيماً وعيناً بصيرة وفؤاداً صادقاً ورجلاً قوياً عبقرياً لو شاء لكان شاعراً فحلاً أو فارساً بطلاً أو ملكاً جليلاً أو أي صنف من أصناف البطل. نعم لقد كان العالم في نظره معجزة أي معجزة وكان يرى فيه كل ما كان يراه أعاظم المفكرين حتى أمم الشمال المتوحشة وهو أن هذا الكون الصلب المادي إنما هو في الحقيقة لا شيء - إنما هو آية على وجود الله منظورة ملموسة وهو ظل علقه الله على صدر الفضاء لا غير وكان يقول هذه الجبال الشامخات ستحلل وتذوب مثل السحاب وتفنى وكان يقول الجبال أوتاد الأرض وأنها ستفنى كذلك يوم القيامة وإن الأرض في ذلك اليوم العظيم تنصدع وتتفتت وتذهب في الفضاء هباءً منثورا فتنعدم وكان لا يزال واضحاً لعينيه سلطان الله على كل شيء وامتلاء كل مكان بقوة مجهولة ورونق باهر وهول عظيم هو القوة الصادقة والجوهر والحقيقة وهذا ما يسميه علماء العصر القوي والمادة ولا يرونه شيئاً مقدساً بل لا يرونه شيئاً واحداً وإنما أشياء تباع بالدرهم وتوزن بالمثقال وتستعمل في تسيير السفن البخارية فسرعان ما تنسينا الكيماويات والحسابيات ما يكمن في الكائنات من سر الله وما أفحش ذلك النسيان عاراً وأكبر هذه الغفلة إثما! وإذا نسينا ذلك فأي الأمور يستحق الذكر إذن فمعظم العلوم أشياء ميتة خاوية بالية - بقول ذابلة نعم وما أحسب العلوم

لولا ذلك إلا خشباً يابساً ميتاً وليس بالشجرة النامية ولا بالغاية الكثيفة الملتفة التي لا تبرح تمدك بالخشب إثر الخشب فيما تمدك وتعطيك! ولن يجد المرء السبيل إلى العلم حتى يجده أولاً إلى العبادة أعني أنه لا علم إلا لمن عبد وإلا فما العلم إلا شقشقة كاذبة وبقلة كما قلت ذابلة. وقد قيل وكتب كثيراً في شهوانية الدين الإسلامي وأرى كل ما قيل وكتب جوراً وظلماً فإن الذي أباحه محمد مما تحرمه المسيحية لم يكن من تلقاء نفسه وإنما كان جارياً متبعاً لدى العرب من قديم الأزل وقد قلل محمد هذه الأشياء جهده وجعل عليها من الحدود ما كان في أمكانه أن يجعل والدين المحمدي بعد ذلك ليس بالسهل ولا بالهين وكيف ومعه كل ما تعلمون من الصوم والوضوء والقواعد الصعبة الشديدة وإقامة الصلاة خمساً في اليوم والحرمان من الخمر وليس كما يزعمون كان نجاح الإسلام وقبول الناس إياه لسهولته لأنه من أفحش الطعن على بني آدم والقدح في أعراضهم أن يتهموا بأن الباعث لهم على محاولة الجلائل وإتيان الجسائم هو طلب الراحة واللذة - التماس الحلو من كل صنف في الدنيا والآخرة! كلا فإن أحسن الآدميين لا يخلو من شيء من العظمة والجلال فالجندي الجاهل الجلف الذي يؤجر يمينه وروحه في الحروب بأجر بخس له مع ذلك شرف يحلف به فتراه لا يبرح يقول: لأفعلن ذلك وشرفي: وليست أمنية أحقر الآدميين هي أن يأكل الحلوى بل أن يأتي عملاً شريفاً وفعلاً محموداً ويثبت للناس أنه رجل فاضل كريم ليعمد أيكم إلى أبلد إنسان فيريه سبيل المكرمات والمحامد فإذا هو قد تأجج قلبه حماساً واتقدت نفسه غيرة وصار في الحال بطلاً وما أظلم الذين يتهمون الإنسان بقولهم أنه ميال بفطرته إلى الراحة وأنه يستهوى بالترف ويستغوى باللذة إنما مغريات الإنسان وجاذباته هي الأهوال والصعائب والاستشهاد والقتل أقدح ما بنفس المرء من زناد الفضل تذك ناراً تحرق سائر ما فيه من الخسائس والنقائص وما كان قط اعتناق الناس لدين من الأديان لما يرجون من متاع ولذة بل لما يثور في قلوبهم من دواعي الشرف والعظمة. وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً وشد ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوياً لا هم له إلا قضاء مآربه من الملاذ - كلا فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أية كانت لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله وكان

طعامه عادة الخبز والماء وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار وإنهم ليذكرون - ونعم ما يذكرون - أنه كان يصلح ويرفو ثوبه بيده فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة؟ فحبذا محمد من رجل خشن اللباس خشن الطعام مجتهد في الله قائم النهار ساهر الليل دئباً في نشر دين الله غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان غير متطلع إلى ذكر أو شهرة كيفما كانت رجل عظيم وربكم وإلا فما كان ملاقياً من أولئك العرب الغلاظ توقيراً واحتراماً وإكباراً وإعظاماً وما كان ممكنه أن يقودهم ويعاشرهم معظم أوقاته ثلاثاً وعشرين حجة وهم ملتفون به يقاتلون بين يديه ويجاهدون حوله لقد كان في هؤلاء العرب جفاء وغلظة وبادرة وعجرفية وكانوا حماة الأنوف أباة الضيم وعر المقادة صعاب الشكيمة فمن قدر على رياضتهم وتذليل جانبهم حتى رضخوا له واستقادوا فذلكم وأيم الله بطل كبير ولولا ما أبصروا فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا له ولا أذعنوا وكيف وقد كانوا أطوع له من بنانه وظني أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لما كان مصيباً من طاعتهم مقدار ما ناله محمد في ثوبه المرقع بيده فكذلك تكون العظمة وهكذا تكون الأبطال! وكانت آخر كلماته تسبيحاً وصلاة - صوت فؤاد يهم بين الرجاء والخوف أن يصعد إلى ربه ولا نحسب أن شدة تدينه أزرت بفضله كلا بل زادته فضلاً وقد يروي عنه مكرمات عالية منها قوله حين رزئ غلامه: العين تدمع والقلب يوجع ولا نقول ما يسخط الرب: ولما استشهد مولاه زيد (ابن حارثة) في غزوة مؤتة قال محمد لقد جاهد زيد في الله حق جهاده وقد لقي الله اليوم فلا بأس عليه ولكن ابنة زيد وجدته بعد ذلك يبكي على جثة أبيها - وجدت الرجل الكهل الذي دب في رأسه المشيب يذوب قلبه دمعاً! فقالت ماذا أرى قال صديقاً يبكي صديقه مثل هذه الأقوال وهذه الأفعال ترينا في محمد أخا الإنسانية الرحيم - أخانا جميعاً الرؤوف الشفيق وابن أمنا الأولى وأبينا الأول. وإني لأحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع. ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعول إلا على نفسه ولا يدعى ماليس فيه. ولم يك متكبراً ولكنه لم يكن ذليلاً ضرعاً. فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراد. يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم يرشدهم إلي ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة. وكان

يعرف لنفسه قدرها. ولم تخل الحروب الشديدة التي وقعت له مع الأعراب من مشاهد قسوة ولكنها لم تخل كذلك من دلائل رحمة وكرم وغفران. وكان محمد لا يعتذر من الأولى ولا يفتخر بالثانية. إذ كان يراها من وحي وجدانه وأوامر شعوره ولم يكن وجدانه لديه بالمتهم ولا شعوره بالظنين. وكان رجلاً ماضي العزم لا يؤخر عمل اليوم إلى غد. وطالما كان يذكر يوم تبوك إذ أبى رجاله السير إلى موطن القتال واحتجوا بأنه أو أن الحصيد وبالحر. فقال لهم: الحصيد! أنه لا يلبث إلا يوماً. فماذا تتزودون للآخرة؟ والحر؟ نعم إنه حر ولكن جهنم أشد حراً. وربما خرج بعض كلامه تهكماً وسخرية. إذ يقول للكفار ستجزون يوم القيامة عن أعمالكم ويوزن لكم الجزاء ثم لا تنجسون مثقال ذرة. وما كان محمد بعابث قط ولا شاب شيئاً من قوله شائبة لعب ولهو. بل كان الأمر عنده أمر خسران وفلاح ومسألة فناء وبقاء. ولم يك منه إزاءها إلا الإخلاص الشديد والجد المر. فأما التلاعب بالأقوال والقضايا المنطقية والعبث بالحقائق فما كان من شأنه قط. وذلك عندي أفظع الجرائم إذ ليس هو إلا رقدة القلب ووسن العين عن الحق. وعيشة المرء في مظاهر كاذبة. وليس كل ما يستنكر من مثل هذا الإنسان هو أن جميع أقواله وأعماله أكاذيب بل أنه هو نفسه أكذوبة. وأرى خصلة المروءة والشرف - شعاع الله - متضائلاً في مثل ذلك الرجل مضطربا بين عوامل الحياة والموت. فهو رجل كاذب لا أنكر أنه مصقول اللسان مهذب حواشي. الكلام محترم في بعض الأزمان والأمكنة. لا تؤذيك بادرته لين المس رفيق الملمس كحمض الكربون تراه على لطفه سما نقيعاً. وموتاً ذريعاً. وفي الإسلام خلة أراها من أشرف الخلال وأجلها وهي التسوية بين الناس. وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي. فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض. والناس في الإسلام سواء. والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضاً حتماً على كل مسلم. وقاعدة من قواعد الإسلام ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل. فتكون جزءاً من أربعين من الثروة. تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين. جميل والله كل هذا. وما هو إلا صوت الإنسانية - صوت الرحمة والإخاء والمساواة يصيح من فؤاد ذلك الرجل - ابن القفار والصحراء. وينكر البعض تغلب الحسية والمادية على جنة محمد وناره فأقول إن العيب في ذلك على

الشراح والمفسرين لا على ما جاء في الكتاب فإن القرآن قد أقل جداً من إسناد الحسيات والماديات إلى الجنة والنار وكل ما فيه عن هذا الشأن إيماء وتلميح وإنما المفسرون والشراح هم الذين لم يتركوا لذة حسية ولا متعة شهوية حتى ألحقوها بالجنة ولا عذاباً بدنياً وألماً اجتماعياً حتى أسندوه إلى النار ثم لا تنسوا أن القرآن جعل أكبر ملاذ الجنة روحانياً إذ قال وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها آمنين فالسلام والأمن هما في نظر كل عاقل أقصى أماني المرء وأعظم الملاذ قاطبة والشيء الذي عبثا يلتمسه الإنسان في الحياة الدنيا وقال أيضاً ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين وأي رذيلة أخبث من الغل مصدر المحن والمصائب والنقم والآفات وأي شيء أهنأ من التآلف والتصافي؟ وأي دليل أشهر ببراءة الإسلام من الميل إلى الملاذ من شهر رمضان الذي تلجم فيه الشهوات وتزجر النفس عن غاياتها وتقدع عن مآربها وهذا هو منتهى العقل والحزم فإن مباشرة اللذات ليس بالمنكر وإنما المنكر هو أن تذل النفس لجبار الشهوات وتنقاد لحادي الأوطار والرغبات ولعل أمجد الخصال وأشرف المكارم هو أن يكون للمرء من نفسه على نفسه سلطان وإن يجعل من لذاته لا سلاسل وإغلالا تعيبه وتعتاص عليه إذا هم أن يصدعها بل حليا وزخاف متى شاء فلا أهون عليه من خلعها ولا أسهل من نزعها وكذلك أمر رمضان سواء كان مقصوداً من محمد معيناً أو كان وحي الغريزة وإلهاماً فطرياً فهو والله نعم الأمر. ويمكننا القول على كل حال بأن الجنة والنار هاتين هما رمز لحقيقة أبدية لم تصادف من حسن الذكر قط مثلما صادفت في القرآن وماذا ترون تلك الجنة وملاذها وهاته النار وعذابها وقيام الساعة التي يقول عنها يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ماذا ترون كل هذه إلا ظلاً تمثل في خيال ذلك النبي الشاعر للحقيقة الروحانية الكبرى رأس الحقائق أعني الواجب وجسامة أمره لقد كان هذا الرجل يرى الحياة أمراً جسيماً ويرى لكل عمل إنساني مهما حقر خطارة كبرى فما كان من سيءٍ فله من السوء نتيجة أبدية وما كان صالحاً فله من الصلاح ثمرة سرمدية وإن المرء قد يسمو بصالحاته إلى أعلى عليين ويهبط بموبقاته إلى أسفل سافلين

وإن على عمره القصير تقوم دعائم أبدية هائلة خفية كل ذلك كان يلتهب في روح ذلك الرجل القفري كأنما قد نقش ثمت بأحرف النار وكل ذلك قد حاول في أشد إخلاص وأحد جدان يخرجه للناس ويصوره لهم فأخرجه وصوره في صورة تلكم النار والجنة وأي ثوب لبسته هذه الحقيقة وأي قالب صبت فيه فلا تزال أولى الحقائق مقدسة في أي أسلوب وأي صورة. وعلى كل حال فهذا الدين ضرب من النصرانية وفيه للمبصرين أشرف معاني الروحانية وأعلاها فاعرفوا له قدره ولا تنجسوه حقه ولقد مضى عليه مئتان وألف عام وهو الدين القويم والصراط المستقيم لخمس العالم وما زال فوق ذلك ديناً يؤمن به أهله من حبات أفئدتهم ولا أحسب أن أمة من النصارى اعتصموا بدينهم اعتصام المسلمين بإسلامهم - إذ يوقنون به كل اليقين ويواجهون به الدهر والأبد وسينادي الحارس الليلة في شوارع القاهرة أحد المارة من السائر؟ فيجيبه السائر لا اله إلا الله وإن كلمة التوحيد والتكبير والتهليل لترن آناء الليل وأطراف النهار في أرواح تلك الملايين الكثيفة وإن الفقهاء ذوي الغيرة في الله والتفاني في حبه ليأتون شعوب الوثنية بالهند والصين والمالاي فيهدمون أضاليلهم ويشيدون مكانها قواعد الإسلام ونعم ما يفعلون. ولقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور واحي به من العرب أمة هامدة وأرضاها مدة وهل كانت إلا فئة من جوالة الأعراب خاملة فقيرة تجوب الفلاة منذ بدء العالم لا يسمع لها صوت ولا تحس منها حركة فأرسل الله لهم نبياً بكلمة من لدنه ورسالة من قبله فإذا الخمول قد استحال شهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة والشرارة حريقاً وسع نوره الأنحاء وعم ضوءه الأرجاء وعقد شعاعه الشمال بالجنوب والمشرق بالمغرب وما هو إلا قرن بعد هذا الحادث حتى أصبح لدولة العرب رجل في الهند ورجل في الأندلس وأشرقت دولة الإسلام حقباً عديدة ودهوراً مديدة بنور الفضل والنبل والمروءة والبأس والنجدة ورونق الحق والهدى على نصف المعمورة وكذاك الإيمان عظيم وهو مبعث الحياة ومنبع القوة وما زال للأمة رقي في درج الفضل وتعريج إلى ذري المجد ما دام مذهبها اليقين ومنهاجها الإيمان ألستم ترون في حالة أولئك الأعراب ومحمدهم وعصرهم كأنما قد وقعت من السماء شرارة على تلك الرمال التي كان لا يبصر بها فضل

ولا يرجى فيها خير فإذا هي بارود سريع الانفجار: وما هي برمل ميت: وإذا هي قد تأججت واشتعلت واتصلت نارها بين غرناطة ودلهي ولطالما قلت أن الرجل العظيم كالشهاب من السماء وسائر الناس في انتظاره كالحطب فما هو إلا أن يسقط حتى يتأججوا ويلتهبوا.

نوابغ العالم

نوابغ العالم ابن حمديس - جولد سميث من بين أبواب البيان باب نوابغ العالم وتراجم عظماء الرجال من علماء وفلاسفة وأدباء وملوك وقواد - وقد رأينا أن نترجم في العدد الواحد: الذي يكون من نصيبه هذا الباب: اثنين من النوابغ نابغة عربياً ونابغة من غير العرب وهذان أعزكم الله نابغتان من نوابغ العالم الأول الشاعر الكبير أبو محمد عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمد يس الأزدي السرقوسي الصقلي (من صقلية) والثاني الكاتب الانكليزي الأكبر والشاعر الأشهر ألفر جولد سميث - ولقد يعلم قراء البيان أن طريقته في ترجمة النوابغ التطويل اللذ والإشباع غير الممل فلذلك سنفيض في ترجمة هذين النابغتين ونأتي على الغاية من كل ما يتعلق بهما ونبدأ بشاعرنا العربي الصقلي. ابن حمديس ترجمته إجمالاً - ترجمته بتفصيل - سرقوسة مسقط رأس الشاعر - صقلية في عصر ابن حمديس - وفوده إلى الأندلس - تشوقه صقلية - حب الوطن - المعتمد بن عباد - مدائح الشاعر في المعتمد - نكبة المعتمد - رثاء الشاعر له - سائر شعره في غيره - يحيى بن تميم بن المعز بن باديس وابنه أبو الحسن علي - المنصور بن الناصر بن علناس - شعر ابن حمديس - منزلته من الشعر ترجمته إجمالاً - ولد ابن حمديس حوالي سنة 445 في سرقوسة إحدى مدائن صقلية (التي يسميها الإفرنج الآن سِسَلي والتي هي الآن إحدى الايات إيطاليا) ثم انتقل إلى الأندلس سنة 471 ومدح المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية حتى إذا نكب المعتمد نكبته المعروفة وتوفى باغمات رحل شاعرنا إلى إفريقية وامتدح يحيى بن تميم بن المعز بن باديس وابنه أبا الحسن علياً والمنصور بن الناصر بن علناس بن حماد بن يوسف بلكين بن زيرى ثم قضي في جزيرة ميورقة وقيل في بجاية سنة 527. ترجمته بتفصيل - ولما كان القارئ الكريم قد يتشوق معرفة الأماكن والبلدان التي ولد فيها الشاعر وتنقل فيها وامتدح أصحابها وماذا كانت أحوالها أيام المترجم به رأينا أن نلم بها إلمامة تجعل القارئ على بصيره تامة بشؤن هذا الشاعر العظيم

صقلية في عصر ابن حمديس أما سرقوسة التي ولد فيها الشاعر فهي فرضة بجرية شرقي جزيرة صقلية على 30 ميلاً من قطانية إلى جنوبي الجنوب الشرقي و 81 ميلاً عن مسيني إلى الجنوب الغربي وتسمى الآن سيراكوسا (وسيمر بك كلام وافٍ عنها في الرسالة الأولى من كتاب حضارة العرب في الأندلس) وقد جاء ذكرها في شعر لابن قلاقس الاسكندري المتوفي سنة 567 قال يصف سفينة سار بها إلى صقلية: ثم استقلت بي على علاتها ... مجنونة سبحت على مجنون هو جاء تقسم والرياح تقودها ... بالنون إما من طعام النون حتى إذا ما البحر أبدته الصبا ... ذا وجنة بالموج ذات غضون ألقت به النكباء راحة عائث ... قلبت ظهور مشاهد لبطون وتكلفت سرقوسة بأماننا ... في ملجأ للخائفين أمين وأما صقلية عموماً في عصر ابن حمد يس فقد جاء في الكامل لابن الأثير ما يأتي: كان الأمير على صقلية سنة ثمان وثمانين وثلثمائة أبا الفتوح يوسف ابن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين ولاه عليها العزيز العلوي صاحب مصر وأفريقية فأصابه في هذه السنة فالج فتعطل جانبه الأيسر وضعف الجانب الأيمن فاستناب ابنه جعفراً فبقي كذلك ضابطاً للبلاد حسن السيرة في أهلها إلى سنة خمس وأربعمائة فخالف عليه أخوه علي وأعانه جمع من البربر والعبيد فأخرج إليه أخوه جعفر جنداً من المدينة (بلرم) فاقتتلوا سابع شعبان وقتل من البربر والعبيد خلق كثير وهرب من بقي منهم وأخذ علي أسيراً فقتله أخوه جعفر وعظم قتله على أبيه فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام وأمر جعفر حينئذ أن ينفي كل بربري بالجزيرة فنفوا إلى أفريقية وأمر بقتل العبيد فقتلوا عن آخرهم وجعل جنده كلهم من أهل صقلية فقل العسكر بالجزيرة وطمع أهل الجزيرة في الأمراء فلم يمض إلا يسير حتى ثار به أهل صقلية وأخرجوه وخلعوه وأرادوا قتله وذلك إنه ولي عليهم إنساناً صادرهم وأخذ الأعشار من غلاتهم واستخف بقوادهم وشيوخ البلد وقهر جعفراً واستطال عليهم فلم يشعر إلا وقد زحف إليه أهل البلد كبيرهم وصغيرهم فحصروه في قصره في المحرم سنة عشر وأربعمائة وأشرفوا على أخذه فخرج إليهم أبوه يوسف في محفة وكانوا له محبين فلطف

بهم ورفق فبكوا رحمة له من مرضه وذكروا له ما أحدث ابنه عليهم وطلبوا أن يستعمل ابنه أحمد المعروف بالأكحل ففعل ذلك وخاف يوسف على ابنه جعفر منهم فسيره في مركب إلى مصر وسار أبوه يوسف بعده ومعهما من الأموال ستمائة ألف دينار وسبعون ألفاً وكان ليوسف من الدواب ثلاثة آلاف حجرة (لعلها حجرا قال في اللسان الحجر بدون هاء الفرس الأنثى خاصة جعلوها كالمحرمة الرحم إلا على حصان كريم وإنما كانت بدون هاء لأنه اسم لا يشركها فيه المذكر) سوى البغال وغيرها ومات بمصر وليس له إلا دابة واحدة ولما ولى الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد وجمع المقاتلة وبث سراياه في بلاد الكفرة وجنوب إيطاليا فكانوا يغنمون ويسبون وأطاعه جميع قلاع صقلية التي للمسلمين وكان للأكحل ابن اسمه جعفر كان يستنيبه إذا سافر فخالف سيرة أبيه ثم إن الأكحل جمع أهل صقلية وقال أحب أن أشليكم على الأفريقيين وأهجم بكم عليهم لطردهم (يقال شل الإبل يشلها فانشلت طردها ومن المجاز يشل الصبح الظلام) فقد شاركوكم في بلادكم والرأي أخراجهم فقالوا صاهرناهم وصرنا شيئاً واحداً فصرفهم ثم أرسل إلى الأفريقيين فقال لهم مثل ذلك فأجابوه إلى ما أراد فجمعهم حوله فكان يحمي أملاكهم ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية فسار من أهل صقلية جماعة إلى المعز بن باديس وشكوا إليه ما حل بهم وقالوا نحب أن نكون في طاعتك وإلا سلمنا البلاد إلى الروم وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة فسير معهم ولده عبد الله في عسكر فدخل المدينة (بلرم) وحصر الأكحل في الخالصة (أنظر الرسالة الأولى من حضارة العرب في الأندلس) ثم اختلف أهل صقلية وأراد بعضهم نصرة الأكحل فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز ثم إن الصقليين رجع بعضهم على بعض وقالوا أدخلتم غيركم عليكم والله لا كانت عاقبة أمركم فيه إلى خير فعزموا على حرب عسكر المعز فاجتمعوا وزحفوا إليهم فاقتتلوا فانهزم عسكر المعز وقتل منهم ثمانمائة رجل ورجعوا في المراكب إلى أفريقية وولي أهل الجزيرة عليهم حسنا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت أحوالهم واستولى الأراذل وانفرد كل أنسان ببلد وأخرجوا الصمصام (حسبهم الله) فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمأزر وطرابنش وغيرهما وانفرد القائد علي بن نعمة المعروف بابن الحواس بقصريانة وجرجنت وغيرهما وانفرد ابن الثمنة بمدينة سرقوسة وقطانية وتزوج باخت ابن الحواس ثم إنه جرى بينها

وبين زوجها كلام أغلظ كل منهما لصاحبه وهو سكران (ما شاء الله) فأمر ابن الثمنة بفصدها في عضديها وتركها لتموت فسمع ولده إبراهيم فحضر وأحضر الأطباء وعالجها إلى أن عادت قوتها ولما أصبح أبوه ندم واعتذر إليها بالسكر فأظهرت قوبل عذره ثم أنها طلبت منه بعد مدة أن تزور أخاها فإذن لها وسير معها التحف والهدايا فلما وصلت ذكرت لأخيها ما فعل بها فحلف أنه لا يعيدها إليه فأرسل ابن الثمنة يطلبها فلم يردها إليه فجمع ابن الثمنة عسكره وكان قد استولى على أكثر الجزيرة وخطب له بالمدينة (بلرم قصبة صقلية) وسار وحصر ابن الحواس بقصريانة فخرج إليه فقاتله فانهزم ابن الثمنة وتبعه إلى قرب مدينة قطانية وعاد عنه بعد أن قتل من أصحابه فأكثر فلما رأى ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت سولت له نفسه الانتصار بالإفرنج لما يريده الله تعالى فسار إلى مدينة مالطة (جزيرة مالطة) وهي بيد الإفرنج قد ملكوها لما خرج بردويل الفرنجي (بغدوين الرابع ملك بلاد فلاندر) سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة واستونها الفرنج إلى الآن وكان ملكها حينئذ رجار (روجر النورمندي) فوصل إليهم ابن الثمنة وقال أنا أملككم الجزيرة (حسبه الله) فقالوا إن فيها جنداً كثيراً ولا طاقة لنا بهم فقال أنهم مختلفون وأكثرهم يسمع قولي ولا يخالفون أمري فساروا معه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة فلم يلقوا من يدافعهم فاستولوا على ما مروا به في طريقهم وقصد بهم إلى قصريانة فحصروها فخرج إليهم ابن الحواس فقاتلهم فهزمه الفرنج فرجع إلى الحصن فرحلوا عنه وساروا في الجزيرة واستولوا على مواضع كثيرة وفارقها كثير من أهلها من العلماء والصالحين وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس وذكروا له ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف وغلبة الفرنج على كثير منها فعمر أسطولاً كبيراً وشحنه بالرجال والعدد وكان الزمان شتاء فساروا إلى قوصرة جزيرة صغيرة بالبحر المتوسط تابعة لإيطاليا تبعد عن شواطئ أفريقية بنحو ستين كيلو متراً تسمى الآن عند الإفرنج وقديماً ومنه أسمها عند العرب فهاج عليهم البحر فغرق أكثرهم ولم ينج إلا القليل وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز وقوى عليه العرب حتى أخذوا البلاد منه فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة لا يمنعهم أحد واشتغل صاحب أفريقية بما دهمه من العرب ومات المعز سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وولى أبنه تميماً فبعث أيضاً أسطولاً وعسكراً إلى الجزيرة وقدم عليه ولديه أيوب وعلياً

فوصلوا إلى صقلية فنزل أيوب والعسكر المدينة ونزل عليٌّ جرجنت ثم انتقل أيوب إلى جرجنت وأقام فيها فأحبه أهلها فحسده ابن الحواس فكتب إليهم ليخرجوه فلم يفعلوا فسار إليه في عسكره وقاتله فشد أهل جرجنت من أيوب وقاتلوا معه فبينما ابن الحواس يقاتل أتاه سهم غرب فقتله فملك العسكر عليهم أيوب ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة وبين عبيد تميم فتنة أدت إلى القتال ثم زاد الشر بينهم فاجتمع أيوب وعليٌّ أخوه ورجعا في الأسطول إلى أفريقية سنة أحدى وستين وصحبهم جماعة من أعيان صقلية والأسطولية ولم يبق للفرنج ممانع فاستولوا على الجزيرة ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت فحصرهما الفرنج وضيقوا على المسلمين بهما فضاق الأمر على أهلها حتى أكاوا الميتة ولم يبق عندهم ما يأكلونه فأما أهل جرجنت فسلموها إلى الفرنج وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم فتسلمها الفرنج سنة أربع وثمانين وأربعمائة وملك رجار جميع الجزيرة وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين ولم يترك لأحد من أهلها حماماً ولا دكاناً ولا طاحونا ومات رجار بعد ذلك قبل التسعين والأربعمائة وملك بعده ولده رجار فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئاً منه وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده وأكرم المسلمين وقربهم ومنه عنهم الفرنج فأحبوه انتهى (وهذا روجر النور مندى هو الذي ألف له الشريف الإدريسي كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق أو في أخبار الآفاق) وإذ علمت هذا تعلم أن ابن حمد يس إنما رحل من صقلية بعد أن تملك معظمها رجار النورمندي وكان وقت اغترابه عن بلده في سن الحداثة فإنه كان حوالي الخامسة والعشرين فلا جرم بعد ذلك إنا نسمع من الشاعر الشاب هذه الأبيات المبكية من قصيدة يتشوق بها صقلية: ذكرت صقلية والهوى ... يجدد للنفس تذكارها فإن كنت أخرجت من جنة ... فإني أحدث أخبارها ولولا ملوحة ماء البكاء ... حسبت دموعي أنهارها نعم فالاستهتار بالوطن والحنين إليه أمر فطري وخلق كريم ينم عن كرم أصل ولطف في

الطبيعة ولله أبو الحسن علي بن الرومي حين يقول في هذا المعنى ولي وطن آليت أن لا أبيعه ... وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد لولاه غودرت هالكا وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهموا ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وحين يقول أيضاً: وإذا تمثل في الضمير وجدته ... وعليه أفنان الشباب تميد وقد قالوا أن الأم بيت قالته العرب قول القائل: لا يمنعنك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكل بلاد أنت ساكنها ... أهلاً بأهل وجيرانا بجيران وربما يقصد صاحب هذين البيتين إلى الحث على الاغتراب في سبيل المجد والرفعة أو الاسترزاق والنجعة وهذا معنى آخر قد قال فيه شعراؤنا كثيراً ومن أحسن ما قيل فيه قول أبي تمام: وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد ولما وفد ابن حمد يس إلى الأندلس قصد المعتمد بن عباد واختص به وقصر مدائحه عليه وهذا المعتمد بن عباد له حديث طريف لشاعرنا فيه شأن فلا جرم إنا ذاكرون لقراء البيان طرفاً من ذلك (للكلام بقية).

أوليفار جولد سميث

أوليفار جولد سميث الشاعر البريطاني الكبير والكاتب الشهير ولد لعشر خلون من شهر نوفمبر سنة 1728 في قرية بالاس بمقاطعة لونجفور أكثر البلاد الايرلندية وحشة وأقلها انيسا. وكان أبو شارل جولد سميث قسيس القرية وكان فقيراً. وكان يتمنى إلى أسرة حظها من كرم النفوس وسلامة القلوب أوفر من سهمها في الحزم والتدبير. أصلها من جنوبي انكلترا ومذ هاجرت إلى ايرلندة لم يتخذ أبناؤها سوى القسوسية حرفة فكانت فيهم ميراثا يتلقاه ولد عن والد. وكان قد ولد القسيس قبل ظهور ولده أوليفار صاحب هذه السيرة ثلاث بنات وغلاماً أسمه هنري وجاء بعده ثلاث بنين - موريس وشارل وجون وقبض الله إليه طرفي هذه الحلقة (ابنته الكبرى والأصغر جون) وهما في عهد الطفولة فشب أوليفار في ذرية عددها ستة ثلاث منها أسن منه واثنان أصغر. ولما بلغ الغلام السابعة انتقل أبوه بالأسرة إلى قرية ليسوى بمقاطعة كلكني فنزلوا منها مكاناً آنق وأبهج حيث أخذ الوالد يعول ولده ويقوم عليهم بمال زهيد كان يحصل له من زراعة قليلة. وكان ذلك الوالد: كغلامه الطائر الصيت: شاذ الأحوال جم الشفقة بمن أحاط به شديد التقوى مضطرب الأحوال كثير الخلط في الأمور ولكن جميع ما أوجده الله في تلك الأسرة من غرابة طبع وشذوذ حال واختلاط أمر قد تجمع في صاحب هذه السيرة الغلام أوليفار. فأما من جهة الدرس والتحصيل فقد كان منذ أوله بليداً مكسالا بإقرار السيدة اليصابات ديلاب من أقارب الأسرة: وكانت قد تكلفت تعليمه الهجاء: ثم بإقرار توماس بيرن أحد معلمي المدرسة الابتدائية بقرية ليسوى. وكان ذلك المعلم قد صحب القائد الإنكليزي الكبير مارلبرا في حرب الولاية الاسبانية وشهد معه عدة مواقع وأبلى في غير موطن ثم عاد إلى حرفته من التعليم فكان لديه ذخر عتيد من قصص ونوادر يلقيها عليك عن مشاهد تلك الحرب غير حكايات جمعها من دواوين القدماء وأخبارهم وآثارهم وغير شيء من ملكة النظم كان يستعمله في الترجمة عن شعر فرجيل (الشاعر الروماني) واحسب أن من هذا العلم استفاد جولد سميث أول علمه بالشعر والكتابة. ولكن الغلام كان سيء الحظ فما كاد يعرف منزلة أستاذه في الأدب وما كاد الأستاذ

يستشف ما كان يكمن من معاني الذكاء واللوذعية تحت ظاهر الغلام من الجفاء والبلادة حتى ضرب الدهر بينهما فأصيب أوليفار وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره بالجدري فأقصي عن المدرسة ولما أبل من علته أرسل إلى مدرسة بقرية الفين على مسافة ثلاثين ميلاً من ليسوى وكان الجُدرى قد ترك بوجهه من قبيح الأثر ماصيره ضحكة الناظرين. ومكث بهذه المدرسة عامين كان يعيش أثناءهما مع عم له مقيم بتلك القرية ولكنه ما لبث أن أعيد في عام 1739 إلى مدرسة في قرية أثلون على خمسة أميال من دار أبيه بقرية ليسوى فمكث عامين هناك ثم أربعة أعوام بمدرسة ثانوية بقرية أدجورثتون على سبعة عشر ميلاً من قرية الأسرة ولما ترك هذه المدرسة كان قد أتم التعليم الثانوي والعام السابع عشر من عمره. وفي ذلك الوقت كان قد ركب الأسرة دين فادح وذلك أن زوج إحدى بناته من فتي شريف غني ولم يرد أن يتهمه الناس بأنه فعل ذلك طمعاً في ثروة الرجل فاقترض أربعمائة جنيهاً جعلها مهراً لابنته فأصاب الأسرة من جراء ذلك فاقة ماسة وعسر مقيم. ولم يعد في قدرة الوالد أن يرسل ابنه إلى الجامعة بعد ذلك إلا على أنه فقير معدم يلبس ثوباً خشناً ويؤدي عمل خادم مقابل التعليم والمأوى، فأنف جولد سمث من حال كهذه واستنكف وآثر أن يحترف حرفة ولكنه ما لبث أن رضي بدخول الجامعة على الصورة المتقدمة بإغراء قريب له كان يبجله وستصوب رأيه. ذلك هو العم كونتريني وكان جد هذا الرجل من أهلي فينيس من أعمال إيطاليا قد هاجر إلى ايرلندة قسيس قرية اوران قريب قرية ليسوى. وكان هذا الرجل الفاضل زوجاً لأحدى عمات جولد سميث. وكان أشد الناس محبة للفتى ومبرة به وأعرفهم لكامن فضله ومستسر ذكائه. ولما لم يكن له بعد وفاة زوجته إلا ابنة واحدة خص الفتى من وداده بما كان جاعله لولده لو كان رزقه الله ذاك. فأقسم على جولد سميث إلا ما ذهب إلى الجامعة على اية صورة قائلاً عن نفسه أنه أقام بالجامعة حين أقام بهيئة خادم. فهل كان عليه في ذلك من بأس؟ اللهم لا. ودخل جولد سميث جامعة دابلين عاصمة ايرلندة بعد ان أجاز امتحاناً مع سبعة طلاب كان آخرهم في جدول القبول. ومع أن الكاتب الكبير والخطيب البعيد الذكر أدموند بيرك كان وجولد سميث طالبين بالجامعة في وقد واحد إلا أنه لخمول أوليفار وخفائه تحت ظلال

الفقر والمسكنة لم يكد يلفت إليه نظر بيرك الذي كان إذ ذاك من نباهة الصوت وسمو المكانة بعكس ما كان عليه صاحب هذه السيرة من غموض الأمر ودقة الشأن فكان بوقوفه على أبواب الجامعة واندماجه في كل مشاجرة تحدث وبقتله الوقت بين الكأس والغناء أشهر لدى طلاب الجامعة منه بالبراعة في مواقف الدرس ومواطن التحصيل. وزاد الخطب شدة وفاة أبيه فانقطع عنه ما كان أجراه عليه من الرزق على قلته. وتبدد شمل الأسرة فرحلت أمه إلى قرية باليماهون وذهب أخوه الأكبر هنري إلى قرية بالا سمو قتولى بها القسوسية بمرتب سنوي قدره أربعون جنيهاً خلاف ما كان ينتظر من رزق يجريه عليه تعليم الأطفال فأصبح جولد سميث وليس أمامه من يؤمل ويرجو سوى العم كونتريني ولكن ماذا عسى أن تبقى إمدادات ذلك الرجل الكريم على تبذير جولد سميث الإبقاء نضحات الماء على الغربال. وكذلك عادت عيشة الفتى سلسلة محن وخطوب وفي شهر مايو من عام 1747 وذلك بعد شهرين من وفاة أبيه ثار نفر من الطلبة ضد الشرط وحاولوا أن يكسروا السجن وكان بين الثوار أوليفار جولد سميث فعوقب بالتوبيخ العلني والتهديد بالرفت وفي الشهر التالي تقدم للامتحان فسقط ولكنه أعطى جائزة مقدارها جنيه ونصف في العام ثم ما لبث أن أضاعها بإهماله وجعل لا يمر عليه أسبوع إلا احتال لبضعة قروش أما برهن بعض كتبه أو بأية حيلة أخرى ولكن الله أنعم عليه بنعمة الأمل والأمل رفيق مؤنس إن لم يبلغك فقد ألهاك ومن جملة كراسته كراسة لا تزال محفوظة للآن عليها كتابات تشهد بما كان لجولد سمث إذ ذاك من قوة الأمل وأنه سيكون يوماً ما غنياً موثوقاً به لدى المصارف المالية: خالص: أوليفار جولد سمث - أعد بالدفع: أوليفار جولد سميث وكان مما احتال به لكسب الدراهم نظمه أغاني يبيع كل واحدة منها لكتبي بعينه بمبلغ خمس وعشرين قرشاً ثم تطبع وتباع للمغنين بدابلن فقد كان في ربع الجنيه ثمن كل قصيدة لذة ولكن ألذ من ذلك وأمتع أن تخرج موهناً من الليل فتقف مستنداً إلى بعض العمدان تحت مصباحه وتسمع قصيدة من شعرك يهتف بها ويترنم ثم تدخل يدك في جيبك فتجد به جزأ من ثمنها وقد بقى لك بعد ما أنفقه أليس في هذه اللذة ما يرجع بمضض الفقر وغضاضة الامتهان والخدمة وقسوة عشرة أساتذة كلهم كالمستر ويلدار أستاذ الجامعة بينما كان جولد سميث يرى ذلك إذ أصابته من ويلدار نكبة راح معها يرى أن الأستاذ وحده آفة لا ترجع بها لذة مهما عظمت

وذلك أن جولد سميث أصاب مرة شيئاً من الدراهم فأولم في حجرته لخلان له وخلات واستحث الكؤس حادي المزمار ووزنت حركات الرقص بميزان الأوتار وإن القوم لكذلك إذ دخل الأستاذ عليهم مغضباً ولم يكتف بتوجيه أفحش السباب إلى أوليفار حتى انحط عليه فأخذ بتلابيبه أخذة الموت بالكظم فهاجر جولد سميث الجامعة من غده وباع في الطريق كتبه وبعض ثيابه ومكث في العاصمة (دابلن) ينفق الساعات بين الحان والمرقص حتى لم يبق معه إلا شلن فنهض يضرب إلى ناحية كورك (ثغر بحري في أقصى جنوب ايرلندة) يريد أن يرحل منها إلى أميركا وتقوت بالشلن ثلاثة أيام وبعد ذلك جعل يسيح في البلاد والله أعلم كيف كان يعيش وانى يأتيه رزقه وما عندنا بذلك علم إلا ما جعل يتحدث به هنو بعد من أنه ما ذاق طعمه ألذ من حفنة حمص أتته بها جارية صغيرة في جولته هذه قب استيقاظه من هجمة تم بها صوم أربع وعشرين ساعة ثم ثاب إليه رشده ورأى أن يذهب إلى دار أخيه وبعد أن تقابلا وأقاما معاً برهة من الزمن رجعا إلى الجامعة وعقد الصلح مع الأستاذ وأعيد أوليفار إلى مركزه من الجامعة ولكن الأمر رجع إلى ما كان وعليه تتابعت الإنذارات والمغارم من قبل الجامعة على الفتى حتى بلغ مدى الدراسة وأعطي الإجازة النهائية وكان آخر الناجحين والعجب العجاب أنه مع اسوداد صحيفته بمالا يحصى من السوءات والأثام استطاع أن ينال الإجازة. وبعد ترك الجامعة أمضى عامين عالة على أكتاف أقاربه وكان معظم مقامه بدار أمه وكان بجوارها حان فكان يباشر السرور والطرب به كل ليلة بين تغني الأغاني وقص الحكايات والنوادر على نخبة من أبناء الريف كانوا يلتفون به وتارة كنت تراه ضيفاً لأخته وزوجها في ليسوى يقضي الوقت بين اصطياد السمك والوحش والجلوس مع الفلاحين. وطوراً يذهب إلى دار أخيه القسيس بقرية بالاسمور فيعاون أخاه شيئاً في تعليم تلاميذه ولعل اضطراب أمر جولد سميث وركوبه ذلك العيش المثرد كان نكبة على أهله وكانوا يرجون أنه متى نال الإجازة التفع ببرد القسوسية. ولكن خاب هذا الرجاء وكان في خيبته ماسر جولد سميث فأضمر الفرح وزعم نفر أن سبب الخيبة هو ما كان بلغ الأسقف (لقب لأحد رؤساء الكنيسة) عن سوء سيرة الفتي وقال قوم إنما غضب الأسقف عندما دخل عليه جولد سميث فرأى عليه كمين أحمرين في لون الجلنار وفي هذا من الغلو في الزينة وترك الزهد

والتورع ما فيه. واقترح عليه العم كونتريني حرفة التدريس في الأسرات وما لبث أن أوجد له وظيفة معلم في أسرة بإحدى القرى. فاطمأن به العيش في هذا البيت عاماً كاملاً ولعله عرض له الملل أو شجر بينه وبين الأسرة خصام فخرج على جواد عتيق وفي جيبه ثلاثون جنيهاً وعمد نحو ثغر كورك يريد الرحلة إلى أميركا مرة أخرى. ومضت ستة أسابيع بعد ذلك لم يسمع في خلالها خبر جولد سميث وإن والدته لجالسة في دارها ذات يوم اذا بالفتي قد طلع عليها فجأة على حصان بادي العظام مهزول وهو صفر الكف نظيف الجيب فقص على أمه قصة عجباً وذلك أنه ذهب إلى كوك فاشترى تذكرة السفر وبعث بصندوقه إلى السفينة ثم غدا على أثر الصندوق وإذا بالسفينة قد رحلت فاضطر إلى بيع الجواد الكريم واشتراء ذلك الحصان المهزول والعودة إلى دار أمه بحال من الفقر أشرفت به الشحذ والتسول إلى أن قال والآن يا أماه يدهشني أن لا يكون في سلامة عودتي بعد استمرار الخطب ونطاول البلاء ما يقر عينك ويشرح صدرك ولا غرو أن تكون الأم قد فتر حبها لولدها مذ تلك اللحظة وودت لو يريحها الله منه بأية طريقة وكذلك كان تبرم أخيه به وملله. فلم يبق له إلا العم كونتريني فإنه أبى ألا حدبا عليه وتحنيا. فاقترح على الفتي أن يذهب إلى لندن لدرس القانون فقبل جولد سميث وأعطى خمسين جنيهاً نفقة الرحلة والمقام ريثما يأتيه مبلغ آخر ثم مضى في رحلته ولكنه لم يتجاوز مدينة دابلن. حيث وقع في خلطاء السوء فخسر كل ما لديه بين الشراب والميسر إلى غير ذلك وعاد إلى أهله يحمل على رأسه ثقل كل موبقة وفي عنقه طوق كل مخزية ومأثم. وسومح بعد ذلك كله تجوفي عن جميع ذنوبه ثم أرسل بشيء من المال إلى أدنبرج (قاعدة اسكوتلاندة) ليدرس الطب: وبهذه الرحلة استراح من جولد سميث أهله - استراحوا منه طول الدهر! وكان عمره إذ ذاك أربعاً وعشرين - وعاش بعدها عشرين أخرى. ولكنه لم يعد قط إلى بلاده ولا أبصر طول عمره وجه وطنه المرموق ولا وجوه أهله وخلانه إلا مرة واحدة إذ مر به وهو في غرفة حقيرة بلندن أخوه الأصغر شارل أثناء رحلته إلى جزيرة خاميكا (من جزر الهند الغربية) فأمضى معه يوماً وذلك بعد هذه المدة بخمس سنين: وما برح جولد سميث حتى لقى الله يحن إلى أوطانه حنين الإبل وقد أخلى لذكرى الشباب وعهد الصبا موضعاً في حشاه وزاوية في قلبه جعلها كالضريح المقدس دفن فيه شبح الماضي وصداه وكأني به

يتمثل: بلد خلعت به عذار شبيبتي ... ولبست ثوب اللهو وهو جديد فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد نعم لقد كان يذكر أمه وأخوته وعمه حتى تدمع عيناه وطالما أمل أن يعود إليهم ويقرعينه بمنظر ليسوى وظلالها الخضر: أحب بلاد الله طراً لمهجتي ... وأول أرض مس جلدي ترابها وقبل أن يمكنه الله من تحقيق رجائه ماتت أمه وعمه كونتريني وأخوه هنري فأصبح لا فائدة له في العودة. ومكث جولد سميث يتلقى علوم الطب في جامعة أدنبرج عاماً ونصفاً كان يستعين أثناءها على النفقة بالتدريس ونظم الأغاني وربما طلب المعونة من العم كونتريني. وكان آخر مطالبه إلى ذلك الرجل الكريم في شتاء 1753 فأرسل اليه عشرين جنيهاً زوده بها للرحلة التي كان أزمعها إلى باريز ليتم الدراسة الطبية. وإذ كان مقصده باريز نزل بطبيعة الأمر أولاً بمدينة ليدن من أعمال هولاندة وقد قارن بين هولاندة وبين واسكوتلاندة في رسالة له فقال: البلدان على طرفي نقيض فأينما طرحت البصر في اسكوتلاندة عرضت هضاب واشمخرت أطواد. وتسرح طرفك من هولاندة في سهل منفسح الرقعة منبسط الأديم وفي الأولى قد تبصر الأميرة في الخز والديباج تبرز من بيت قذر حقير وفي الثانية يتلقاك الرجل القذر من القصر المنمق وبعد أن أقام ببلدة ليدن عشرة أشهر تركها ومبضى يضرب في آفاق أوربا ترفعه نجاد وتحفظه وهاد: أخا سفر جواب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر وكان قبل وصوله بلدة ليدن مات بها البارون هولبرج الكاتب الدنماركي الكبير وكانت الناس تتحدث بسيرته الغريبة وما كابد من الأهوال والمشاق وكان من أهالي نرويج تركها غلاماً بعد أن قاسى في بلاده آلام الفقر إلى عاصمة الدنيمارك مدينة كوبنهاجن وما زال يكافح الدهر حتى بلغ من زمنه مشتهاه قال جولد سميث وكان ذلك الكاتب صارم العزيمة ينجرد في الأمر فلا يقف أو يبلغ الغاية منهوماً بالعلم لم يكفه دون السياحة في جميع البقاع شيء فتكلف أن يطوف على القدم جميع الأمطار الأوربية بلا مال وولا رفقة ولا وصية

ولا شفاعة إلا شفاعة صوته الرخيم وطرف من صنعة الغناء فجعل النهار للسير والليل للغناء يلتمس به المبيت في مساكن الفلاحين ثم يأخذ في سرد البلاد التي زارها ذلك الكاتب الكبير وكيف أنه عاد أخيراً إلى عاصمة الدنيمارك وأصبح كاتبها المحبوب. ونال من أميرها اللقب والثورة فختم الله بالشهرة واليسر عيشة كان مبدأها الخمول والعسر وأراد جولد سميت أن يسلك هذا الطريق لتكون عيشته صورة لعيشة ذلك الكاتب فترك ليدن في فبراير سنة 1755 وتمكن لا ندري بأية وسيلة من زيارة مدائن لوفين وانتورب وبروكسيل وماستركت وغيرها من بلاد الفلمنك على التوالي ثم ولج بلاد فرنسا واعتمد على مزماره في قطع المسافة إلى باريز فجعله آلة لبلوغ الرزق والمأوى بين جماعات الفلاحين الذين أروه من البر والإكرام ما رفع عنه حجاب الحشمة وأرسل نفسه على سجيتها فكان ينعم بينهم بأنس الأهل والوطن ولما وصل باريز أقام بها بضعة أشهر حضر أثناءها دروساً في الكيمياء وتشرف برؤية الفيلسوف فولتير وسماعه منه مقالاً بليغاً في مناظرة كانت لذلك الفيلسوف مع رجال تنقصوا الإنكليز وكتابتهم وشعرهم فانبرى لهم بعد طول سكوت بلسان عضب وحجة غراء بطلت أمامها أقوال المناظرين ودحضت براهينهم ورحل جولد سميث عن باريز إلى سويسرا ماراً بجنيفاً وبازل وبرن وكان يستطرد عن طريق سفره فيطوف في أنحاء الجبال والأودية موغلاً في أعماقها كل ذلك على قدميه ثم عبر جبال الألب منحدراً إلى سهول إيطاليا وزار بلاد فلورنس وفرونا ومانتوا وميلان وفينيس (البندقية) وبادو وقد ذكر جولد سميث أنه لم يجن من مزماره كبير فائدة في إيطاليا وذلك أنه لم يكد يوجد بين أهلها إلا من هو أحذق منه بالزمر فالتمس الرزق من باب آخر وهو باب المناظرة الفلسفية في معاهد العلم والدين وكانت تعقب المناظرة بالأكل ويكافأ الغالب ببضعة دراهم (وبعد) فطريقة ارتزاق جولد سميث أثناء هذه الرحلة المدهشة سر غامض وربما كان يقترض ممن كان يصادف أثناء سياحته من أصدقائه الايرلنديين وربما كان يكتسب أحياناً بالمقامرة وأحسب أنه تعلق مرة أو مرتين بأحد من عرف من السائحين أثناء رحلته وأخيراً عاد جولد سميث إلى انكلترا مخترقاً فرنسا على قدميه يحتلب الرزق من ثقوب مزماره حتى بلغ لندن لخمس عشر بقين من شهر فبراير لا يملك فتيلاً ولا قطيراً (للكلام بقية)

شذرات

شذرات الجبل والبحر لقد سكنت الجبل والشاطئ فلا والله لست قائلاً أيهما أحسن بيد أن ما كان فيه منزلك فذلك خير لك ثم اعرف بينهما هذا الفرق وهو أنك قد تروض الجبل وتذلله فتقتعد من ذروته مهاداً ليناً وتفترش من غاربه مجلساً وطيئاً فأما البحر فذاك الأبي الجامح العنان لا يمكنك من ظهره ولا يخولك من جانبه والجبل تستطيع أن تتخذ به كوخاً أو تعرف به صاحب كوخ وقد تبصر به مع المساء مصباحاً فتعرف أن هناك أناساً قد تضيفهم فيحسنوا قراك وقد تبصر بسفحه أشجاراً وأعشاباً وبقلاً وريحاناً تجري من تحتها مياه وأنهار إن شئت كان لك في جنابها سعة مرتع وتحت ظلالها حسن مستمتع ومن أغاريدها حلاوة مسمع فأما البحر فليس وراءه إلا الخديعة والخب يلحس قدمك ويلقاك من ترجيع الخرير بمثل مواء الهر حتى إذا وجد الفرصة لم يدع أن يحطم عظامك فيلتهمك ويزيل عن فكيه محمر الزبد فكأنما لم يكن شيء والجبل يرزق الحائر الضال ماء وفاكهة والبحر يسخرمن ظمأ ركابه ويسلمهم إلى الموت وللجبل جرم هائل الجسامة ولكنه مأمون المضطرب سليم المنقلب والبحر يملس من قطع أديمه حتى لا ترى مفاصلها ولكن لمعانها لمعان بطن الافعوان والجبل ينقص من سلسلة النسل الإنساني ويقصر من حبل ذريته ولكن البحر يغرق الإنسان والزمن ماله بأحد هذين من صلة ولكنه أخو الأبد وخريره الدائم إنما هو نشيد يرجعه احتفالاً بالأبد آخر الدهر وأنا بعد لا أكره أن يكون لي كوخ على شاطئ البحر ويسرني أن أشرف من نافذتي على العباب الزاخر كما يسرني أن أقف ناظراً إلى سبع في قفصه ويلذني أن أبصر البحر يمط صلبه الملتمع ويطوي من جانبيه ويبسط ثم لا ينشب أن يهيج ويحنق فيرغي ويزبد ويثب على شاطئه وثبة السبع على قضبان قفصه ويروح مجنون العباب يضج ويصرخ بما لا خوف على منه وأين الذي سرح في الطرف فلم يجد في سعة انفساحه وجلال مرآه مشغلة عن حقائر الحياة وضغائر شؤونها حتى ينسى في عظمة منظره من الحاكم والرئيس ومن أي شعب هو (الناظر إلى الماء) وأي لسان يتكلم وبأي مصابيح السماء مناط حظه وجده ومدار نحسه أو سعده أين الذي يعلم ذلك ثم لا يقبل برهة على جانب البحر فيصغى إلى دقات موجه على ساحله تتابع على ميزان الطبيعة منذ

أوجد الله الإنسانية ولا تزال كذلك حتى تنقطع دقات قلبها ويصبح الإنسان صدفة على شاطئه. الكذب للحكيم جونسون من غريب أمر هذه الرذيلة أنها من الخسة والمقت بحيث يترفع عنها الأشرار والفجار من كل صنف وطائفة فقلما تجد في السوءات والمعايب التي تصم الإنسانية إلا ما وجد فيه صاحبه اتباعاً له وأعواناً فهاتك أعراض العذارى قد يجد الحساد من الرجال والنصائر من النساء والسكير يحيط به نفر من المعربدين يعجبون به ويحتفلون بسبقه المبين للذين لم يبلغوا شأوه في مضمار الشراب ويفتخرون بأنهم خدام دولته. وعشاق بأسه ونجدته ويحدثون عن ضعفاء المناظرين الذين ساقهم غرور المساجلة والطمع - في اللحاق إلى قبورهم. بل إن اللص وقاطع الطريق لا يخلوان من الشيعة والأنصار يستحسنون جرأتهما وإقدامهما وما يدبران من أبواب الفكر والشر ويفتقان من حيل السلب والنهب فأما الكذوب فذلك الذي وقف بملتقى سبل الذم والهجاء واجتمعت عليه الخلائق طرا بالبغض والازدراء. وتحاماه الأقرباء. وتناذره البعداء. فليس له من نصرة الحميم والولي. ما يقوم لخذلان الغريب والأجنبي ولا من حمد الخدن والنظير ما يوازن إزراء الشعب والجمهور. وماله من عصبة يأوى إليها ويرجع ولا شيعة يعتز بها ويمتنع. ولا نفر يرون شره خيراً. وخزفه دراً. وتربه تبراً وعقوقه براً. وإنما يسلم إلي عداوة العالم أجمع. وينصب غرضاً لكل نابل. وصيدا لكل حابل وضريبة لكل سائف ورامح. ومشما لكل غاد ورائح وقد قال أحد الحكماء أن الشياطين لا يكذب بعضها بعضاً. والصدق لازم لكل فئة ولو كانت من سكان جهنم وقد كان المظنون في مثل هذه النقيصة أن يكون انصراف الناس عنها بقدر بغضهم لها أو على الأقل أن لا يكون يبعث عليها إلا باعث قوى وإن رذيلة لها من سهولة الانكشاف والجلاء وشدة العقوبة والجزاء مثلما للكذب لا يكون الحاصل عليها إلا بعيد الوقوع نادراً ومع هذا فالأمر على خلاف ذلك حتى أصبح من يخالط الناس لا يقيه أشد الاحتراس والحذر أن ينخدع في كل حين لأكاذيب أناس ما كان يتوهم قط أن يكون منهم أدنى ميل

إلى التذرع بالكذب لنفع أنفسهم أو إضرار الغير ثم يكذبون في الموضوعات ليس في طبيعتها ما يبعث على الكذب وفي الأحاديث الفاترة لا تتحرك رياحها بما فيه حركة للطبائع والاريحيات وهزة للنفوس والشهوات من مطمع أو مطمح. أو مفرح أو مترح: أو مطرب أو مغضب. أو مرهب أو مرغب. أو بالاختصار تراهم يكذبون حيث لا تجد من الأسباب ما يستحق أن تخطر له السمعة مهما حقرت في عين ربها وتنتهك من أجلها حرمة المروءة مهما هانت وإلى رذيلة حب الذات رجع معظم الأكاذيب التي تصادف آذانا صاغية. وقلوباً واعية. وذلك لأن كذبة التاجر أو كذبة الحسود تكون دائماً ظاهرة العلة. حتى لقلما تسوغ على المكذوب أو تروج عنده. وكيف والتهمة أبداً منتبهة. والنفس يقظة عند كل مالها به علاقة أو فيه مصلحة ومهما أثبته التاجر أو الحسود. بوحي الطمع الحرام أو إملاء الفؤاد الدغل كان خليقاً أن ينفيه المكذوب عن ساحته ويمحوه من صحيفته بأسباب أقوى ودواع أشد. ولكن المحب لذاته المفتون بنفسه تراه يفرح بأن يدعي لنفسه حقائر صفات وتافهات مما لا علاقة له بأحوال مجالسيه. ولا دخل له في أمور شؤون معاشريه. حتى إن أكاذيبه لا تهيج خوف إنسان ولا تغرى أحداً باستقرائها لاكتشاف أمرها. ولو حاول محاول أن يتتبع بالتهمة أكاذيب حب الذات يشغل صاحبه ما كان وأين كان. ولا جرم فمن أخطأ في الواقع والحقيقة مناه كان حرياً أن يلتمسها في الزور والباطل. قال أحد الحكماء لا أحد إلا ويرغب أن يراه الناس فوق غيره ولو لم يكن إلا في امتيازه برؤية مالم يروا وهذه الميزة لخلوها من المجد وبراءتها من الفضل قد كان يجب ألا يكون إليها مطمح طامح ولا دعوى مدع ولكنها على حقارتها وخستها أبى عشاق الذات إلا أن يجعلوها منبع حكايات كاذبة لا تحد ولا تحصى نصيها من تصديق السامعين بمقدار حذاقة الكاذب أو ثقة السامع فكم بين الكذابين الثرثارين من يعد لك في أصحابه كل مخاطر فتاك ملء حياته أهوال ومهارب من مضايق يرى الموت فيها عياناً وتراءت له الحياة ماردا وشيطاناً وكل كاهن ساحر حشو أيامه غرائب وآيات وعجائب ومعجزات قد تلببت لخدمته الطبيعة لا تفتأ تصور له من المدهشات مالا يراه غيره وما ذاك إلا التحدث بأحاديث الكذب ومقالات الأفك والزور. السعادة

من قصيدة للشاعر الروماني مارشال أما وقد سألتني يا صاح أن أنسق لك من فرائد السعادة نظاماً وأؤلف لك من أجزاء النعيم صورة فهاك سؤلك قد هيأته لك جهد المستطيع ولست أدعي له الكمال ولكني أقول أنه إن لم يستوف جميع أسباب الهناء فقد حوى أعيانها أو شذ عنه بعض فروع السعادة فقد أحرز أصولها وأركانها فاعلم علمت الخير أنك إن بغيت السعادة فاتخذ ضيعة وسطاً لا الكبيرة ولا الصغيرة تكفيك ولا تؤدك ولتكن ميراثاً لك عن أبوين صالحين وإلا أنفقت الطيب الكثير من عمرك في اقتنائها ولتكن من كرم التربة وبركة الثمرة بحيث تدعوك إلى استثمار نتاجها وابتغاء المزيد بخيرها وحاصلاتها وإذا أشتيت فارفع النار تكفكف بها من حدة البرد واضرب بها الشتاء في اخدعيه ضربة تدعه منقاداً ذلولاً واجعل لهيب مطبخك بها الشتاء في اخدعيه ضربة تدعه منقاداً ذلولا واجعل لهيب مطبخك كلسان الشمعة صافياً نقياً ونزه عن الحرام الخبيث أطرافك وساحتك ولا تجعل من قضايا الخصوم جاذبات لك من سكينة الريف إلى ضوضاء المدينة وقلل ما استطعت من دواعي الشغل هنالك وأنزل عقلك منزلة بين القلق المبرح والنوم المميت وابغ الصحة من الرياضة البدنية فهي وحدها الكفيلة بذاك وسو بين نصيبك من الحذر ونصيبك من حسن النية أعني لا تسيء الظن بالناس واحذرهم ولا تستكثرن من الصحاب ولا تأخذ منهم إلا من وفقت بينك وبينه طبيعة وحال واجعل زينة خوانك وحليته ارتفاع الكلفة واستفاضة الأنس والفكاهة لا وفرة الطعام والتأنق في صناعته وإذا جاءك النهار بهم فامسحه عن حشاك بكف الهجوع في الليل ولا تستعن على الهم بالكاس فإنها بئس المعين واستصحب الراحة حليفة الظلام إلى فراسك ولا تركض الكأس في سبل الغواية وترسل لها من شعاع الزجاج عنانا وتجعل لها صنوف الغناء حداة. وصية التاجر للبديع الهمذاني من إحدى مقاماته على لسان أبي فتحه يوصى ولده يا بني إني وإن وثقت بمتانة عقلك وطهارة أصلك فإني شفيق والشفيق سيء الظن ولست آمن عليك النفس وسلطانها والشهوة وشيطانها فاستعن عليها نهارك بالصوم وليلك بالنوم إنه لبوس ظهارته الجوع وبطانته الهجوع وما لبسها أسد إلا لانت سورته وكما أخشى

عليك ذاك فلا آمن عليك لصين أحدهما الكرم واسم الآخر القرم فإياك وإياهما أن الكرم أسرع في المال من السوس وإن القرم أشأم من البسوس ودعني من قولهم إن الله كريم أنها خدعة الصبي عن اللبن بلى أن الله لكريم ولكن كرم الله يزيدنا ولا ينقصه وينفعنا ولا يضره ومن كانت هذه حاله فلتكرم خصاله فأما كرم لا يزيدك حتى ينقصني ولا يريشك حتى يبريني فخذلان لا أقول عبقري ولكن بقري إنما التجارة تنبط الماء من الحجارة وبين الأكلة والأكلة ريح البحر بيد أن لا خطر والصين غير أن لا سفر أفتتركه وهو معرض ثم تطلبه وهو معوز أنه المال عافاك الله فلا تنفقن إلا من الربح وعليك بالخبز بالملح ولك في الخل والبصل رخصة مالم تذمهما ولم تجمع بينهما واللحم وما أراك تأكله والحلو طعام من لا يبالي على أي جنبيه يقع والوجبات عيش الصالحين والأكل على الجوع واقية الفوت وعلى الشبع داعية الموت ثم كن مع الناس كلاعب الشطرنج خذ كل ما معهم واحفظ كل مامعك يا بني قد أسمعت وأبلغت فإن قبلت فالله حسبك وإن أبيت فالله حسيبك. فضل التجارة وذم عمل السلطان الوظائف (من فصل للجاحظ) وهذا الكلام (ذم التجارة) لا يزال ينجم من حشوية اتباع السلطان فأما عليتهم ومصاصهم وذوو البصائر والتمييز منهم ومن فوقته الفطنة وأرهفه التأديب وأرهقه طول الفكر وجرى فيه الحياء وأحكمته التجاريب فعرف العواقب وأحكم التفصيل فإنهم يعترفون بفضيلة التجار ويتمنون حالهم ويحكمون لهم بسلامة الدين وطيب الطعمة ويعلمون أنهم أودع الناس بدنا وأهناهم عيشاً وآمنهم سرباً لأنهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم يرغب إليهم أهل الحاجات وينزع إليهم ملتمسوا البياعات لا تلحقهم الذلة في مكاسبهم ولا يستعبدهم الضرع لمعاملاتهم وليس هكذا من لابس السلطان بنفسه وقاربه بخدمته فإن أولئك لباسهم الذلة وشعارهم الملق وقلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة قد لبسها الرعب وألفها الذل وصحبها ترقب الاحتياج فهم مع هذا في تكدير وتنغيص خوفاً من سطوة الرئيس وتنكيل الصاحب وتغيير الدول واعتراض حلول المحن فإن هي حلت بهم وكثيراً ما تحل فناهيك بهم مرحومين يرق لهم الأعداء فضلا من الأولياء فكيف لا يميز بين بين من هذا ثمرة اختياره.

وغاية تحصيله. وبين من قد نال الوفاء عنه والدعة وسلم من البوائق مع كثرة الأثر أو قضاء اللذات من غير منة لاحد ولا منة يعتدي بها ومن هو من نعم المفضلين خلى وبين من قد استرقه المعروف واستعبده الطمع ولزمه ثقل الصنيعة وطوق عنقه الامتنان واسترهن بتحمل الشكر * وقد علم المسلمون أن خيرة الله من خلقه. وصفيه من عبادة والمؤتمن على وحيه من أهل بيت التجارة وهي معولهم وعليها معتمدهم وهي صناعة سلهم. وسيرة خلفهم. ولقد بلغتك بسالتهم. ووصفت لك جلادتهم. ونعتت لك أحلامهم. وتقدر لك سخاؤهم وضيافتهم وبذلهم ومواساتهم. وبالتجارة كانوا يعرفون ولذلك قالت كاهنة اليمن لله در الديار لقريش التجار وليس قولهم قرشي كقولهم هاشمي وزهري وتيمي لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشاً فينتسبون إليه ولكنه اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش فهو أفخم أسمائهم. وأشرف أنسابهم. وهو الإسم الذي نوه الله تعالى به في كتابه وخصهم به في محكم وحيه وتنزيله فجعله قرآناً عربياً يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويجهر به في الفرائض ولهم سوق عكاظ وفيهم يقول أبو ذؤيب: إذا ضربوا القباب على عكاظ ... وقام البيع واجتمع الألوف وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم وآله برهة من دهره تاجراً وشخص فيه مسافراً وباع واشترى حاضراً والله أعلم حيث يجعل رسالته ولم يقسم الله مذهباً رضياً ولا خلقاً زكياً ولا عملاً مرضياً إلا وحظه منه أوفر الحظوظ وقسمه فيه أجزل الأقسام ولشهرة أمره في البيع والشراء قال المشركون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فأوحى الله إليه وما أرسلنا قبلك من المرسلين - إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فأخبر أن الأنبياء قبله كانت لهم صناعات وتجارات. والذي دعا صاحبك إلى ذم التجارة توهمه بقلة تحصيله أنها تنقص من العلم والأدب وتقتطع دونهما وتمنع منهما فأي صنف من العلم لم تبلغ التجار فيه غاية أو يأخذوا منه بنصيب أو يكونوا رؤساء أهله وعليهم هل كان في التابعين اعلم من سعيد بن المسيب أو أنبل وقد كان تاجراً يبيع ويشتري وهو الذي يقول ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضوان الله عليهم قضاء إلا وقد علمته وكان أعبر الناس للرؤيا وأعلمهم بأنساب قريش وهو من كان يفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه

وسلم وآله وهم متوافرون وله بعد علم بأخبار الجاهلية والإسلام مع خشوعه وشدة اجتهاده وعبادته وأمره بالمعروف وجلالته في أعين الخلفاء. ذم الغيرة للشاعر مسكين الدارمي من شعراء الدولة الأموية إلا أيها الغائر المستشيط ... علام تغار إذا لم تغر فما حير عرس إذا خفتها ... وما خير بيت إذا لم يزر تغار على الناس أن ينظروا ... وهل يفتن الصالحات النظر فإني سأخلي لها بيتها ... فتحفظ لي نفسها أو تذر إذا الله لم يعطه ودها ... فلن يعطي الود سوط ممر ومن ذا يراعى له عرسه ... إذا ضمه والمطي السفر وقال أيضاً في ذلك: وإني امرؤ لا آلف البيت قاعداً ... إلى جنب عرسي لا أفرطها شبراً ولا مقسم لا أبرح الدهر بيتها ... لا جعله قبل الممات لها قبراً إذا هي لم تحصن أمام قبابها ... فليس بمنجيها بنائي لها قصراً ولا حاملي ظني ولا قيل قائل ... على حائط حتى أحيط بها خبراً فهبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا ... فكيف إذا ما سرت من بيتها شهراً وقال: ما أحسن الغيرة في حينها ... وأقبح الغيرة في غير حين من لم يزل متهماً عرسه ... مناصباً فيها لوهم الظنون يوشك أن يغريها بالذي ... يخاف أو ينصبها للعيون حسبك من تحصينها ضمها ... منك إلى خلق كريم ودين لا تظهرن منك على عورة ... فيتبع المقرون حبل القرين صفة بركة عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه في قصر المنصور بين علناس من قصيدة لابن حمديس الصقلي المترجم في هذا العدد من البيان

وضراغم سكنت عرين رياسة ... تركت خرير الماء فيه زئيراً فكأنما غشي النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا أسد كأن سكونها متحرك ... في النفس لو وجدت هناك مثيرا وتذكرت فتكاتها فكأنما ... أقعت على إدبارها لتثورا وتخالها والشمس تجلو لونها ... ناراً وألسنها اللواحس نورا فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديرا وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعاً فقدر سردها تقديرا وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائب مسجورا شجرية ذهبية نزعت إلى ... سحر يؤثر في النهى تأثيرا قد سرجت أغصانها فكأنما ... قبضت بهن من الفضاء طيورا وكأنما تأبى لوقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا من كل أقعة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا خرس تعد من الفصاح فإن شدت ... جعلت تغرد بالمياه صفيرا وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجرورا وتريك في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلؤاً منثورا ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا ومصفح الأبواب تبراً نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا تبدو مسامير النضار كما علمت ... تلك النهود من الجنان صدورا وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضاً في السماء نضيرا وعجبت من خطاف عسجده التي ... حامت لتبني في ذراه وكورا وضعت به صناعها أقلامها ... فأرتك كل طريدة تصويرا وكأنما للشمس فيه ليقة ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا وكأنما اللازورد فيه مخرم ... بالخط في ورق السماء سطورا وكأنما وشوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا صفة الليل

قال أعرابي: خرجت في ليلة حندس قد ألقت على الأرض أكارعها فمحت صور الأبدان فما كنا نتعارف إلا بالآذان. وقال آخر: سريت ليلة حين انحدرت أيدي النحوم وشالت أرجلها فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر. صفاء الخمر ولطافة الكأس قال المصحفي الوزير: صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لاذع خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون رياً من إناء فارغ وقال غيره في هذا المعنى: وزنا الكأس فارغة وملأى ... فكان الكأس بينهما سواء أثر الخمر قال بعض شعراء الفرس ما تعريبه: مازلنا نشربها حتى بحنا بأسرارنا وكأننا بها أشفقت أن نبوح بسرها فعقدت ألسنتنا

المقالات والرسائل

المقالات والرسائل معرفة أخلاق الناس للكاتب الانكليزي الكبير وليم هازلت ما أقل ما نعرف من هذا الأمر مع كثرة الفرص وطول الدربة فكلما زاد فيه المرء علماً قل فهماً وزاد حيرة. وإني لأذكر في حديث جرى بين جماعة منذ سنين أن أحدهم ذكر رجلاً تزوج امرأة بعد أن عاشرها ثلاث عشرة سنة فقال له آخر لعله استطاع في هذه المدة الطويلة أن يعرف أخلاقها. فأجابه الأول كلا فلعلها تظهر له في صبيحة العرس بصورة هي عكس ما أبصرها عليه أثناء السنين الثلاث عشرة. فسرني ذلك الجواب جداً وأخذني العجب لما ذكرت شدة صعوبة ذلك الأمر وأنه من المحال على المرء أن يقول لنفسه يوماً ما لقد انكشفت لي مغيبات صدر فلان. وقد خضت بنظراتي النافذات بين جوانح هذا الإنسان. وهناك ثلاثة طرق للوصول إلى معرفة الأخلاق - من لوائح الوجه ثم من الحديث ثم من الفعال. والأولى أصدق الثلاث على ما يظهر للناس من ضعفها وبعدها من الحقيقة. وهي التي يجب أن يعتمد عليها مع إنكار الناس إياها وبراءتهم منها. فأما حديث الرجل وكلماته فطالما تكون دعاوي كاذبة لا معول عليها وأما أفعاله فربما كانت متكلفة غير حقيقية. ولكن لوائح الوجه هي ما لا طاقة للمرء بتكييفه كما يحب ويشتهي ولقد قال رجل من مشاهير الأدباء ما وهب الله المرء لسانه إلا ليستر به نواياه وأفكاره. وإنك إن تنظر إلى صورة كرومويل رأيته قد زر فمه كأنه يخشى عثرات اللسان إذا هو أرسله. وقد نصح إلينا اللورد شستر فلد في رسائله أنا إذا شئنا أن نعرف كوامن وجدان من نحادثه فلننظر إلى وجهه فإنه أشد سلطاناً على لسانه منه على أعضاء وجهه. وربما نافق الرجل طول عمره وتصنع حتى أصبحت حياته خدعة للناس ولنفسه. ومع ذلك فلو أتيح له مصور بارع فصوره لأثبت على الرقعة أخلاقه الحقيقية لإبصار الخلف والذرية وأبرزه بظهر اللوح عارياً من ثياب نفاقه واضحة للعيان حقيقته ما وضحت الشمس في رابعة النهار. وقد كانت آراء الناس في الأمير شارل الخامس شتى لعله من اختلاف الأهواء والأغراض ثم من تناقض أعماله وتباين أحواله ولكن من ألقى نظرة في صورة ذلك الأمير كما أبدعتها ريشة

المصور الكبير تيتان عرف لأول وهلة من حقيقة أخلاق شارل الخامس ما تفرقت فيه ظنون من جالسوه وحادثوه وجهاً لوجه وفماً لفم. ولخير لي من أن يرثيني الشاعر بعد وفاتي بالكلام المنمق ويكتب سيرتي المؤرخ أن أخلف صورة لي من ريشة مصور صناع. فإن وجه هذه الصورة لينطق للناس بما جال في خاطري وحك في وجداني فأما ما جرى به لساني وفعلته يداي فهذا ما لا قيمة له بجانب الفكر والإحساس وصورة الشاعر دون أدل عندي على فضله من جميع ما نظمه. ولو أن صورة يولوس قيصر أشبهت صورة الدوق أوف ولنجتون لما رفعته في عيني أماديح المؤرخين والشراح. وقد قال صديقي فوسيت أنه لو سمع العالم الكبير اسحق نيوتن يلثغ في نطقه لما حفل به ولا رآه ذلك العظيم النابغة. وعلى كل حال فلست حاملاً نفسي على أن تشهد بالعظمة والبطولة لمن حمل وجهه صورة الحمق. وبدت في أساريره آية الغباء والخرق. وقد أكون في ذلك مخطئاً ولكني لا أبالي. وبوادر الوجه (أعني أول ما تحدثه في نفسك هيئة الرجل وسحنته) هي في الغالب أصدق الشواهد. فإن سيما الوجه هي نتيجة السنين المتوالية وقد طبعتها على صحيفته أيدي الحوادث والصروف بل يد الطبيعة والفطرة فيتعذر على المرء أن يمحوها من وجهه. وقد يرى أحدنا الرجل لأول مرة فيشعر له بكراهة لا يعلم لها سبباً ثم تبدو من الرجل أفعاله جميلة وأحوال حسنة فتنسي في أثنائها تلك الكراهية حتى تكشف ظواهر الرجل عن باطنه فإذا هو قبيح خبيث وحينئذ نعلم أن الكراهة التي وجدناها له أول ما رأيناه كانت بحق وكان أهلها وجديرا بها. ومن الناس مننحس لهم كراهة وإن كنا قد عاشرناهم طويلاً ثم لا نذكر لهم عيباً. فنقول عن هؤلاء أن وجوههم أعداء لهم. وهذا خطأ لو دقتنا النظر. وما كان الوجه قط ليكون عدواً لصاحبه وإلا كان ذلك تناقضاً في مذهب الطبيعة. والطبيعة فوق كل هفوة وخطيئة. وإنما هناك سبب حقيقي لشعورنا نحو هؤلاء بنوع من الكراهة وهو إما جفاء في طباعهم أو أثرة (أنانية) أو قلة إخلاص لا نراها في فعلة أو كلمة معينة من أفعالهم أو أقوالهم ولكنا نراها في الرجل كله وفي شخصه أجمع. ومحاولة الرجل إخفاء هذه النقيصة بكل ما يمكنه هو أحد الأسباب التي تمنعنا أن نراها في شيء معين من أفعاله أو أقواله. وهذه نعمة من الله أن جعل لنا على أخلاق الناس فراسة تنظر بظهر الغيب إلى خبيات الصدور فتراها قبل أن تفشيها أعمال الرجل وأقواله وقد كنت أرى في بعض

المنتديات رجلاً دمث الطباع لين الجانب حسن المنظر ولكن لعينيه معني منكراً تخاله ينظر إليك من خلال أهدابه ثم يفر منك بلحاظه فلا تكاد تراه. وقد كان هذا الرجل غشاشا ولصاً فأما من فاق أهل الرياء جميعاً وحمل لواء النفاق والخداع فتلك فتاة صغيرة حسناء حيية خجول منكسة الرأس في غالب الأحيان خاشعة البصر لها رقة كأنها السحر. وإنما كان يحدوني إلى اتهام أخلاقها أني كنت أرى في عينها نظرة ساجية شاخصة كأنما غشيت حدقتها طبقة من لماء أو الزجاج ثم كانت تقبل بهذه النظرة على الفضاء كأنها قد عزمت على أن لا تناقش عينها عينك ولا تتفاهم ألحاظها وألحاظك وكأني كنت أرى تحت سطحيهما (سطي عينيها) اللامعين الراكدين ما يكمن لي من الصخور والأوعاث. ولا أرانا في تمام أنس وراحة مع ذوي العاهات وذلك لأنهم إذ كانوا ساخطين على أنفسهم فهم بالسخط على الجلساء أخلق وأولى. وبأن يأخذوا من الخلطاء والعشراء ثأرهم عند الطبيعة أجدر وأملى. ومعرفة الأخلاق أمر شاق ومطلب عويص يحار فيه ويصدر عنه بالعجز والجهل. وجهلنا به ليس بقاصر على الأمم الأجنبية والطبقات التي هي فوقنا أو دوننا على الأصدقاء والأهل والأقارب بل أنا لنجهل من أنفسنا مثلما نجهل من الغير. وضلالنا في شأن الغير بسبب بعدنا من الموضوع كضلالنا في شأن أنفسنا بسبب شدة القرب منه. فترى أهل الطبقة العليا والوسطي في معظم الأحيان على جهل تام بأخلاق من هم دونهم من الخدم وسكان القرى. وإني لأرسلها قاعدة عامة في هذا الموضوع أن جميع غير المتعلمين أهل نفاق ورياء. ولا هم لهم في الدنيا إلا الغش والخداع. لأنهم يرون أن بينهم وبين الطبقات العالية شبه عداوة وحرب ويرون أن الحرب خدعة وللخدم ملكات إبداعية وقوى اختراعية لا بد أن تصيب أهدافاً وأغراضاً والخال تقتضي أن تكون هذه الأهداف والأغراض هي أغراض أسيادهم ومن يشابهونهم ويشاكلونهم ويجرون مجراهم من الدرجة والحال والمنزلة. نعم إن مواد ذكائهم وأجزاء فطنتهم وبديهتهم لا تطرد بها مجاري القصص ولا تستقل بها مسايل الشعر والرواية وإن قرائحهم لا نغمس في غمرات الكتب ولا تشتمل عليها غيابات الأسفار ولكنها تبقى يقظة تتوقد منتصبة كأنها شوك القنفد أما تري تيار حديثهم يتقاذق بزبد الفكاهة ويتدافع بحباب المجون والمزح ويرمي بكل درة

عذراء من جيد القول ولؤلؤة بكر من بارع الكلم. وما يزال أسيادهم يرفعون أنفسهم فوق هاماتهم وما يزالون هم يغضون من أقدار أسيادهم ويحطون من مقاماتهم لكي يلتقوا وإياهم في صعيد واحد ويجمع الفريقين طرفاً سواء. ويفعلون ذلك بتأليفهم من سقطات العائلة ومعايبها وعوارتها رواية يومية يمثلها بعضهم أمام بعض زائدين فيها من مخترعات قرائحهم وبنات أفكارهم ماشاؤا ثم يقلبون أخلاق أسيادهم وسيداتهم ظهرا لبطن ويبرزون مخبات ضمائرهم ومهما يصطنع لهم السيد من حسنة تكن أغرى لهم به وأهيج لهم عليه. وما كنت لتغلبهم بسلاح الحسنة ولا لتستبيهم بمصايد العرف والجميل. وما من حيلة لك تدفع بها احتقارهم إيالك واستخفافهم بك. وإنما يكون المعروف أبعث لهم على النقص من قيمته وعلى تسويد عرضك. وإنهم ليشعرون بأنهم فئة قد انحطت درجتها ظلماً وعدواناً وهضمت حقوقها بغياً وجوراً ثم لا يفهمون لماذا يذهب الأسياد بجميع النعم والمزايا ويبؤون هم بالذلة والحاجة والضعة من كل جانب. ثم لا تستطيع قط أن تصلح ما بينك وبينهم وترضيهم عنك وعن منزلتهم منك. ولو حاولت لاتهموك بأنك تخدعهم. فهم لا يتحلون قط عن إساءة الظن بك. فمن المحال أن ترجو لديهم الشكر وحسن النية وإرادة الخير لك. وكيف وما بينك وبينهم رابطة إخاء وعقد مساواة. فلا ثقة لهم بك ولا استئناس إليك ولا سكون لك. هم يرون أنك تنال منهم بتسلطك عليهم فينالوا منك بخديعتهم إياك وبالحيلة والكذب والمرواغة حتى يستردوا منك مسلوب حقوقهم ثم لا يمنعهم عن طرق الغش والنفاق مانع وما تألفت إلا من ذلك حياتهم. وأين منهم الصدق وهم لا يعرفونه. وإنما حب الصدق شأن من جعل الصدق ديدنه ومبدأه ممن انقطع لفن من الفنون أو لعلم من العلوم حيث يكد الذهن وينصب فيعتاد أن يتمسك بدقة الحساب ويفخر بصحة النتائج. ولا يمكن أن يتولد للنفس حب للصدق خال من الغرض حتى يكون المرء قد طال مزاولته للصدق وتأمله إياه في الأمور العقلية والمسائل البعيدة. والجاهل المنحط لم يزاول من الأمور والمسائل إلا ما اتصل بمنفعته. واختلط بمصلحته فكل أفكاره محلية شخصية ولذلك كانت خسيسة وضيعة. وكل ما سنح بخاطره جرى به لسانه لا ينظر حسناً كان أم قبيحاً. ويحول مجرى كل حادثة في طريق فائدته ولا يبالي أي أكذوبة يصوغون وأي باطل يزخرفون ما دام يلائم غاياتهم ثم لاذمة لهم ولا ورع ولا تقى ولا حياء من العار ولا خجل

من الفضيحة ولا يقنعون بالبرهان ولا يذعنون للحق وإذا ناقشتهم بالحجة ضحكوا منك سخرية واستهزاء وليس لك عليهم من سبيل إلا أن تأتيهم من جهة مصلحتهم عندك كأن تطردهم من خدمتك فإذا تظاهروا لك بشيء من الندم ورجوك الصفح فإنما هو رياء منهم يضمرون وراءه شراً كبيراً. وهكذا يظل ذوو اللب والفضل والمروءة ولا حيلة لهم على أولئك المتوحشين اللابسي أزياء المدنية. وكيف وإنك لا تدري ماذا يهجس لك بخاطرهم ولا مبدأ هنالك ولا علامة تدل على ذلك. وليس بينك وبينهمز أدنى اتفاق في رأي أو فكرة. بل كل تناقض وتباين في الإحساس والنظر والمصلحة. وأنت تبني أعمالك على مبادئ ثابتة في الأخلاق. وعلى غاياتهم وأغراضهم لا على غيرها يبنون أعمالهم طرا. فإذا عناهم أمر أخلاقهم والتفتوا إلى تهذيب آدابهم كان باعثهم الوحيد على ذلك هو طلب المنفعة والفائدة لا حباً في الكمالات ورعياً لحرمة الأدب والواجب. فهم أبداً يكدون القرائح في أمرين - تصحيح السمعة وامراض الضمائر. وجملة القول أنك لن تصل معهم إلى حال من التفاهم والتوافق حتى لكانهم في ذلك صنف غريب من الحيوان وليسوا أبناء أبيك آدم. فإن وثقت بهم كذبوك. أو ائتمنتهم خانوك. ثم لا يغرنك منهم ملق وخضوع وطاعة وخشوع. فلقد تتفضل على خادم أحد المطاعم بمحادثتك إياه وعطفك عليه ثم لا تكاد تعطيه كتفيك حتى تسمعه ينبذك باللقب الخبيث. وإذا أهديت ابنة المرأة التي أنت نازل عندها هدية كان جزاؤك منها أنها تغالطك في الحساب وتشتط عليك في الأثمان. حتى لكان الذي بينك وبين أولئك اللؤماء حرب عنيفة وقتال. والحقيقة أن الإنسان مفطور على كراهة أن يكون عليه لأحد عليه رئاسة أو سلطة فهو أبداً يدأب في أن يزيل عن نفسه آثار فضل الغير ويحط عن عاتقه أعباء سلطتهم ويمحو ما بينه وبين من فوقه من آيات التفاوت الظاهر والفرق المشاهد وإذا ساقت الظروف بعض هؤلاء السفلة إلى الاحتكاك بالعلية لم يعدموا وسيلة إلى إيجاد نوع ما من المساواة بينهم وبين - سادتهم - وبئست المساواة! ولقد جاء في الحكمة أنه لا بطل يكون بطلاً في عين خادمه. لأنه لا يفهم البطولة إلا من كان به شيء من البطولة فهو إذن يفهمها ويجلها ويكبر ربها بما أنه أعلى منه واشرف وأعظم. ولكن الخادم الخسيس الذي لم يوفق إلى إدراك معني العظمة لا يعرف ما هي العظمة ولا يظن أن الله قد خلق إنساناً خيراً منه وأشرف.

ولقد كانت السيدة الأديبة العالمة المسز سيدونز تلقى محاضرة لنخبة من عيون المتأدبين وخلاصة المهذبين في شعر شاكسبير وكان المحفل بكلامها معجباً. ولبديع آياتها مرتاحاً طرباً. وهي تنثر الدر بين الهتاف والتصفيق وإذا بأحد الخدام في الحجرة الخارجة يصيح مستهزئاً عجباً يا إخواني! أما ترون ما نحدث العجوز بين القوم من الصياح والضجة! عجباً من العجائز عجباً! وكذلك ما أقل الشبه بين بعض طبقات المجتمع وبعضها وما أبعد الأمل في التوفيق بين شتى العادات والأخلاق وأي هوة سحيقة بين جهل أولئك ومعارف هؤلاء. ومما يعرض في هذا المبحث آراء الرجال في النساء وآراء النساء في الرجال فأقول إذا بنينا الحكم في هذا الموضوع على أمر اختيار الرجل زوجته والمرأة زوجها كان لنا أن نحكم على الفريقين بفساد الذوق وخطل الرأي وسوء الحكم وقد جاء في المثل أن الحب أعمى. وما هو إلا استبداد الهوى بالرأي وذهاب الخيال بالعقل. ولا شك في أن أحب الرجال إلى النساء هم الذين لا ينزلون من نفوس إخوانهم الرجل منزلة سامية ولا فازوا من احترام الذكور بالقسط الراجح. ويظهر لي أن النساء لا يثقن في أمر الحب بأرائهن وأذواقهن بل ينظرن إلى رأي الرجل في نفسه فيتخذنه رأياً لهن ولذلك كان أكثر الفائزين بحبهن هم ذووا الغرور والادعاء والوقاحة. ولا يخطب ود النساء ولا يستجلب رضاهن واستحسانهن بتلك المعالي التي يتنافس فيها الرجال كالفصاحة مثلا والنبوغ والعلم والعبقرية والشرف والنزاهة. ولا أنكر أنه يستمال جانب المرأة بقوة الذكاء والجرأة وما كان حسن الشباب ورونق الجمال وحدهما بكافيين لاستجلاب محباتهن والطريق إلى قلوبهن عسير الاهتداء إليه وأعسر منه ركوبه. على أنه لا بد أن يكون هناك حل لتلك العقدة ومفتاح لذلك القفل وسبب لهذا الأمر إذ كنا نرى أن الكروهين من النساء أشباه كأنهم صنف واحد. وكذلك نرى المحبوبين إليهن. أو ليس أكبر الأسباب التي تدنى منهن وتحبب إليهن وتستجلب ودادهن وشغفهن هو شدة إقبال الرجل عليهن وعنايته بهن وإيثاره إياهن على كل ما عداهن من الأمور والأشياء؟ فالحظى عندهن المقرب هو تبيعهن الخاضع وزيرهن الطيع المنقاد. الذي إذا تحدثن فكله آذان أو سكتن فكله أعين. أو غبن فكله خيال وذكرى وأين هذا من رجل مثلي يسمع حديث المتناظرين وهو ران إلى الكاعب الحسناء

فتلفت المناظرة طرفه عنها وتلوى عنقه فلا غرو إن كنت في سوق الجدال والمحاججة اربح صفقة وأنفق سلعة مني في سوق الحسان والغواني. والعلوم العالية والملكات الكبيرة لا تفهمها الغواني فهي لهن من قبيل الألغاز والمعميات وما استرسالك في الشيء لا يفهمه جليسك؟ أليس هو الحق بعينه؟ والأديب المحض الذي لم ير الدنيا إلا من خلال السطور في الصحف ضائع عند الفتيات على كل حال فهو إن تكلم لهن في العلميات كلمهن فيما لا يفهمن وإن طرق من الموضوعات ما يفهمن طرق مالا يفهم. فهو خاسر الصفقتين. خائب الكرتين. وقد جاء في إحدى القصص عن عاشقين أنه بينهما كان الفتي يكد اللسان أمام الفتاة في شرح صورة لشهير من المصورين كانت الفتاة تجرب على أديم الأرض بقدمها حركة من حركات الرقص. ولقد نعي على الشعراء أنهم لا يحسنون اختيار الغواني. ورأيي أن الأمر ليس باختيار. وإنما اضطرار. ولو أجاد الشعراء الانتخاب لأرونا الملائكة لا الفتيات. ولا بصرناهم مع الحور العين لا الغادات. ولكن الشاعر الذي امتلأ خياله بخواطر الحب والجمال وفاض لا يكاد يبصر من إحدى الفتيات دلائل الود والعطف حتي يفيض عليها من كنز خاطره ملاحة موهومة ويصب عليها من مغاصة وهمه لآلئ حسن سرابي. من مصاغة خياله حلي جمال خلبي. وماذا يضر الشاعر الذي هذا شأنه أنه يعشق باطلاً ويلذ خدعة كاذبة ما دام يلذ ويعشق ومادام طرفه من البرق الخلب في بهجة ومتاع. وصدره في ثلج من المنظر الباطل الخداع؟ وثمت غلطة أريد أن أنبه إليها الناس. وهي أن الأدباء والمصورين ومن يشاكلهم من أهل الفنون السامية ربما يتسرب إلى ظنونهم إن رفض الغانيات إياهم يرجع إلى نقص في ثروتهم أو جاههم وإنهم قد يبلغون آمالهم عند نساء الطبقات الأدنى حيث ينظر إلى أدبهم ويحفل بطيب خلالهم وقوة ملكاتهم. وهذا منتهى الضلال وغاية الخطأ لأن رفض الغانيات إياهم راجع إلى عدم رضاهن عن أشخاصهم لا ثرواتهم ومنازلهم - راجع إلى سخطهن على غريب أفكارهم وشواذ أحوالهم. والمرأة العالية قد تفطن بعض الشيء إلى مراميهم وفحوى كلامهم. وتهتدي بعض الاهتداء إلى فهم أخلاقهم وطباعهم فأما نساء الطبقات المنحطة فلن يكن من أحوالهم إلا على عمياء. وفي ظلمة طخياء. وإذا استقبل المرأة

المهذبة غرائب أقواله وأحواله بابتسامة السخرية فلن تستقبلها المرأة الجاهلة إلا بالقهقهة العالية. وليس ببعيد أن تقذفه بالماء استهزاء واحتقاراً ثم تنادي أختها لترى تلك الأعجوبة والنادرة. وتحيل عليك حبيبها يسألك ماذا تعني بأقوالك تلك. وتهيج ليك القرية بأجمعها. حتى يصبح أمرك بينهم وكأنه رواية مضحكة وفكاهة تمثيلية ونادرة عجيبة يفنون في الضحك منها الليالي والأيام والعام فالعام فأولى بك أيها الفيلسوف والأديب والشاعر أن تصد عن الخادمات وبنات الطبقة المنخفضة إلى السيدات والعقائل وذوات البيوتات والاحساب فإن هؤلاء من محاسن الظن بأنفسهن ما قد ينطق عليه بعض أوصافك البديعة. وإن علوهن عن سائر النساء كعلو أفكارك عن سائر الأفكار! فأما الطبقة المنحطة والعيشة السافلة والخبث والجهل والمكر والخداع والخيانة فليس بينك وبينها شبه ولا تجمعك وإياها جامعة. ويا من يحسب أنه قد يبلغ إلا وطار ويدرك المنى من أهل هذه الطبقات بعقله وحكمته. وظرفه ورقته حذار من نزولك ذلك المعترك وأسلم بنفسك من وبال ذلك المرعى! ولا أحسب أن الحب لأول وهلة هو كما يزعم الناس نوع من الخرق والطيش لأن من عادة الإنسان أنه يصور لنفسه (قبل أن يعشق) - صورة الفتاة التي يود أن تكون محبوبته - يصورها في وهمه بيضاء أم سمراء. مكتنزة أم هيفاء. لعوباً أم خفرة. حتى إذا صادفتنا غادة قد اجتمعت لها تلك الصفات التي قد شغلبت أذهاننا وملأت مخيلاتنا أعطيناها الحب لأول وهلة واسكناها سويداء القلب للتو واللحظة. وكيف وإنها لضالتنا المنشودة وفيها تحققت تلك الآمال التي لم تك قبل رؤيتها إلا أضاليل أوهام. واضغاث أحلام. وإنها وإن لم تبد لنا إلا الآن فإن صورتها ما برحت نصب عين الذهن في كل لحظة وآن. وحشو ضمير الفؤاد وفراغ النفس في كل موضع ومكان. في اليقظة والمنام. والرحلة والمقام. ألا أيتها الغانية التي تامت فؤادي بأول نظرة وسحرت لبي لا تحسبي أن سلطانك على نفسي قد أزرى به أنه أتى فجاءة وجاء بغتاً. لأني وجدت في شخصك الحسن الجميل كل ما قد تمنيت من محاسن النساء وملائح المرأة! انفيليس لوليم هازلت لا تكاد المرأة الوضيعة النسب تنسى أصلها أو تحسب الناس ينسونه ولا ضير عليها من

لؤم الأعراق إذا حملت كرم الأخلاق ولا يشينها خبث المغرس إذا زانها طيب النفس ومن هذا القبيل منية الروح وريحانة القلب انفيليس وأما ويمين الله - حلفاً مؤكداً - لئن زينت بحضرتك السنية يوماً ما غرفتي وطيبت بوجودك العطر حجرتي وأضأت بغرتك المنيرة ظلمتي وآنست بنغمك الرخيم وحدتي وبجرسك الحلو وحشتي وبخصب حسنك وثمار جمالك وثروة بدائعك وملاحاتك جدبي وعدمي وفاقتي مثلما أنضرت بستان أملى وأكدت عريي أمنيتي لاروحن أسعد الناس طراً وأكثرهم نعمة وخيراً ولأصبحن بك داري كعبة ومنهل ومراد وذخر وكنز وروضة وفلك وليرين الناس فيك ماقرؤا من أقصى منتهي الشرف النسائي في تصوير شاكسبير وأبصروا في مبتدعات رافاييل وليطمح الطامحون بأبصارهم نحو الأميرات والشريفات فأنا الذي لا يتلع جيده إلا إلى بنات الرعاة والمتلببات وذوات الضراعة والتواضع وذرني من المسبلات الذيول الناعمات البنان الصادفات الاجياد المصعرات الخدود ولو ثنيت الأنامل على يراع شاعر كبير أو جعلت راحتي صهوة لريشة مصور شهير فجريت شوطاً في مضمار الوصف ونعت أولئك الفقيرات المتواضعات بما هن أهله لأنسيت رومير حب جوليت وأذهلت دون جوان عن جولياه! ثم لا أحب العالمات من النساء ولا أعبأ بمثقال ذرة بمن تعرف ما معنى التأليف والمؤلفين لأنه لا قيمة عندي بمعارفها الأدبية وإنما هي في نظري كمن يهدي القطر إلى البحر والثمر إلى هجر ولا أحب أن تقول لي الغانية أن كتاب كذا وكذا من وضعي وتأليفي لأنه شيء أنا به أعلم الناس ليس يزيد فتيلاً في قوتي وثقتي ببراعتي كلا أنا لا أريدها تفضي إلى فؤادي من هذا الطريق وإنما أود أن تقرأ صحيفة قلبي وما سطرت ثمت أقلام الهوى وتنظر إلى شغاف مهجتي وتبصر ما خرقت هنالك سهام الجوى إنما أريدها أن تحبني لذاتي من غير ما علة ولا سبب لأني أحب ذاتي من غير ما علة ولا سبب وكما أني أعشقها عاطلة من حليها عارية من حليها فكذلك أريد أن تعشقني عاطلاً من حلى الأدب عارياً من حلل الفصاحة والفلسفة! إنما حجتي على تقاضها العطف علي والميل إلي. هو عطفي عليها وميلي إليها. وإن صورتها أبداً نصب عيني. وبين جنبي. وإنه يخيل إلي أن الورد شبيه خدها والأقحوان نظير ثغرها ينبتان تحت قدميها. وإن عذب النعم يفيض من عذبات الأفنان عليها. فإن غابت فكل بقعة قفر. وكل منزل قبر.

كذاك أرى الأشياء إما حقيقة ... بدت لي وإما حلم مستيقظ حلم بذلك أشعر ولكن هل بحت به لها؟ كلا. وهل لو بحت به استطاعت أن تفهمه وتدركه؟ كلا. إنما أطلب العنقاء. وأخاطب الهواء وأصيح بالصحراء. وأعكف على دمية خرساء. وما كان نظر المرء إلى الجمال بجاعله جميلاً ولا ضناه في الحب بمستجلب عليه حب من يهوى. ولقد طالما جنحت إلى تعظيم قوة الحب وسلطانه وحسبت أنه ليس من شأن تلك القوة اللذيذة إلا الجمع بين الجميل والجميل والظريف والظريف. والمغرم والمغرم والمشغوف والمشغوف. وإنه لا يمتع بمناعمه. ويفوز بغنائمه إلا من يحمل في حشاه وجدانه وفي وجهه عنوانه. عشقاً مضمراً. وحسناً ظاهراً. ووجداً مستوراً. وجمالاً مشهوراً. وإذ كنت لست بالقسيم الوسيم وقفت أنظر إلى مواقف الحب ومواطن الغرام من بعد ويحجم بي أني لست من رجاله وأنه لم يك لمن أوتى قبح صورتي أن يدخل في زمرة القوم الحسان وما كان للغراب أن يندمج في سلك الطواويس. ولا للحنظل أن يرى نابتاً بين ريحان الفراديس وإني لا أريد أن أشوه بوجودي ذلك النادي البهي. والمحفل الوضي. أقول كان ذلك ظني زمنا ما. حتى علمت أني في ضلال وأن بعض الظن إثم. ثم دنوت من مواطن العشق والعشاق فإذا فيهم المقعد والزمن والضرير والمجذوم والأجذم والأبرص والدميم والمشوه والهرم والموهون وقانص اللذات وطالب الدنيا والمبذر الشحيح. والجبان والنذل والدجال واللص والأحمق والغر والغبي والجاهل وكل وغد لئيم أبعد الناس من ذوي الإحسان والحسن وجمال المنظر والمخبر. فلما وجدت كل هؤلاء ينزلون ساحة الحب ومر بخاطري أنه قد يجوز لي أن أحل ذلك الجناب. وألج ذياك الباب. مختفياً به في غمار تلك الجموع المزدحمة والوفودة المحتشدة ثم صممت فمضيت وما بلغت الباب حتى رفضت ورددت. حينئذ علمت أن رفضي وإرجاعي ليس لأني دون القوم بل لأني فوقهم. ولا أنكر أني أسفت (وإن كان أسفي هذا جديراً أن يعد عاراً وسوأة) لحرماني ورفضي عند ما رأيت أن أسفل النوع وأخس الناس الغوغاء والبغاث والحثالة والنفاية كانوا يقدمون علي ويلجون باب ساحة الحب دوني. عند ذلك خيل إلى أني جنس وحدي وإني عالم بذاتي مخالف لهذا العالم السافل. وصرت أفخر بالذي لقيت من الاهانة وأحس اللذة في الألم. وأذوق الشهد في العلقم. وعلمت أن لي مجالاً آخر. وإن حظي ومغنمي في غير تلك

السبيل! ومصداق ذلك أن خير ما كتبت. وأجود ما ألفت. والشيء الذي أنا جدير أن أفخر به وأتيه هو مقالتي في موضوع قواعد الأعمال الإنسانية وهو كتاب ما قرأته قط امرأة ولن تستطيع فهمه امرأة أبداً. ولماذا يسوءني أن أروح صفر اليد من النساء وليس عندي مصايدهن. وما لي أزرع الشوك وأنتظر العشب وأبذر القتاد وأرجو التفاح. لقد محت الفلسفة من ذهني الحب وأباد الفكر الهوى. وجبهتي المكفهرة هذه المقبلة على الحكمة والحق إنما هي الصخرة الصماء قد تحطمت عليها سفينة الغرام في ملتطم أمواج الفكر وطامي عباب الرأي والذكرى ومع ذلك فإني لآسف على حرماني ملاذ الهوى ومطايب تلكم المواقف! وتذهب نفسي حسرات وأنفاسي زفرات. فدهري مأتم وعمري مناحة وقلبي فريسة وجفني لطول التهطال غمامة. وقلمي لترجيع البكاء حمامة ونهاري من اسوداد الحداد دجى وليلي من اضطرام اللوعة ضحى. وكذلك قضيت أربعين من عمري أتلهف على نعيم العشق ولا أعطاه. وأشتاق طيب وصال ولا أملاه. وأتمنى وجه حبيب ولا أراه. حتى من به الله بعد الأربعين. ولكن مالي أشكو هذه الأربعين وأتهمها بالخلو من نعمة الجمال والحب إذا كان هذا الوجه الحسن الجميل المشرق المنير يعكس أضواءه على ظلمة تلك الأربعين حتي يرى وجه ماضي وهو من الفرح الجديد والحزن القديم مبتسم في دموعه. ثغور ابتسام في ثغور مدامع ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما إني في ذكرى انفليس في لذة لا توصف. وطرب لا يكيف وكأنما يخفق حوالي نور أرجواني. وضياء وردي وكأنما يهب في الحجرة صبا الغرام ونسيم الحب. وكأنما إذا نظرت إلى صورة الحبيبة تلك التي رسمتها بيدي توامضت على الرقعة أشعة ذهبية كعهدي بها يوم كنت أنقشها. وكأنما ينبت في ثرى نفسي أزهار الأمل والسرور كعهدي بها أول ما نبتت. فاذكر العصور الأول وتكر الاويقات السالفة راجعة. وتزدحم على داري السنين الخالية وتقرع الباب وتدخل. وكأني بمتحف اللوفر ثانياً. وكأن شمس أوسترلتز لم تغرب وكأنها لا تزال تشرق في قلبي وكأن فتى المجد وابن الفخار لم يمت وكيف وإنه ليحيى بين جنبي وسويداء مهجتي وكأني في شرخ الشباب وميعة الصبا وكأن الروض قد عاود زخرفه وأخذت الأرض زخاريها وعاد في السماء قزح وكأني أبصر بالعين أذيال

أثواب السنين الماضية وأكاد ألمس باليد حواشي أبراد الأزمن الخالية ولم يذهب سدى ولا مضى عبثاً كل ما أحسه قلبي وأجراه خاطري وقد أقف الآن على قبر الحرية فأنظم في ذكري الغرام نشيداً وأنضد في تجديد عهد الهوى قصيداً ويا أيتها الغانية إن كان ما أبديته لي من شواهد الحب خداعاً فأخدعيني به ما حييت ومنيني ما عشت أضاليل الأماني. علليني بموعد ... وامطلي ما حييت به دعيني أعش في ظل وصلك السجسج وأكتحل بسنا جبينك الوضاح وبروق ثغرك اللماح اقتليني باللثمات وأحييني بالبسمات واسحريني بالنظرات ولكن لا يزل هواك عابثاً بقلبي لاعباً بلبي هازئاً بحالي ساخراً من آمالي فالخديعة في الحب خير من الفطنة في النهى. سياحة النزهة من أمتع لذائذ الدنيا أن يسيح المرء للنزهة ولكني لا أجد تمام تلك اللذة إلا إذا سحت منفرداً ولا أنكر أني قد أنعم بمجالس الإخوان بين جدران البيوت فأما خارجها فحسبي بالطبيعة جليساً ورفيقاً فإن وحدتي بين أعطاف الطبيعة اجتماع وأنا بانفرادي هنالك أبعد ما أكون من الانفراد ثم لا أفهم معنى الجمع بين المشي والكلام وإني متى صرت بين الرياض والأرياف أحببت أن أنسى خواطري وأفكاري وهواجس وهمومي وأنزع شخصيتي وأخرج من إنسانيتي وأصير وسط النبات نباتاً أنا لا أريد أن أكون بين الشجر والبقول ذاك النقاد المعروف بأتناول الكرنب والكراث بذلك النقد الذي أتناول به الشعراء والكتاب وأجيل ملكة البحث والفحص بين البقر والشاء كما أجيلها في ذلك الفصل وذياك الباب وإنما خرجت من المدينة لأنسى المدينة. وما فيها من الزينة والشينة وقد أعرف من الناس من إذا ذهبوا للاصطياف بالأرياف والسواحل نقلوا معهم المدينة بجميع محتوياتها وأحوالها إلى تلك المصايف ولكني من يؤثر الوحدة متى ذهب إلى أماكن الوحدة ويحب العزلة إذا أوى إلى العزلة ولا التمس في الخلوة صديقاً أبث له ما أجد من لذة الخلوة. ورأيي أن روح السياحة هي الحرية التامة في الفكر والشعور والحركة والعمل حسب مشيئة الإنسان من حيث لا يحذر رقيباً ولا يخاف حسيبا وإنما نلجأ إلى السياحة من منغصات المجتمع وعوائقه وعقباته ولكي نفر من الناس ولكي أجد فسحة لفكري ومجالاً لخاطري ومتنفساً لأحساسي. حيث ينطلق من عنان التأمل ما كان قبل محبوساً ويرتاش من

جناح الوهم ما كان في المجتمع مقصوصاً إلا ذرنى برهة من أحاديث الخلان وأقاصيص الإخوان وأعطني سماء زرقاء وأرضاً خضراء وفجاً عريضاً وروضاً أريضاً وثلاث ساعات قبل الغداء ثم دعني وخاطري يسبح في آفاق التأمل ما شاء فلا أخالني إلا مطلقاً عنان المرح بين هاتيك الأودية والمروج أعدو وأثب كالطفل الصغير وأغرد من الطرب كالعصفور وأصعد على سلم الوهم إلى السحابة الوطفاء فأتعلق بأهدابها ثم ألقي من ثمت بنفسي في أعماق الزمن الماضي كما ينغمس الهندي الأحمر في هبوة اللجة الطموح فتقذف به إلى وطنه العزيز وتهديه إلى مسقط رأسه وعند ذلك تثير يد الذكرى دفائن الماضي وتخرج من بحاره غرقى الحادثات الخالية وكسور الآمال التي تحطمت سالفاً في زوابع الشسقاء على صخور النحس في جو قد خبت مصابيح هداه وغارت نجوم سعوده فتخرج تلك الحوادث الغرقى وكسور هاتيك الآمال واللذات والأماني من تحت أمواج الغابر وتبدو لعيني اللهيفة رافلة في أقشب حلل الجدة وأبهى رونق البهجة نعم وتستريح أذني من لجب الجدال وضجة المناظرة ويعوضها الله من سكوت المجالس تتخلله كواذب الفصاحة ومتصنعات الحكمة سكوتاً عميقاً محضاً هو في مذهبي عين الحكمة والفصاحة وليس أحد أميل مني إلى التورية والكناية وسائر صنوف البديع وإلى المحاججة والمحاورة والنقد والتحليل ولكني قد أسأمها أحياناً واللذة تحب وتسأم ولقد أقول مع القائل دعوني هينهة أسترخ! إنكم في شان وأن في شان فإن عبتم ما أنا فيه وقلتم باطل وغى وخمود القريحة ورقدة الذهن قلت لكم هكذا تحسبون وإنكم لفي ضلال وما كنت قط أحبى شعوراً مني الساعة وأيقظ وجداناً وأشد توقداً وأذكى ذكاء أوليست هذه الوردة لذيذة المجتلى من غير شرح ولا مناقشة؟ أولم يشرب إحساسي جمال هذه الزهرة من غير مساعدة برهان ولا معونة نظرية؟ إن قلبي ليطفر نحو هذه الريحانة وإن تلك الريحانة لتطفر نحو قلبي! فإن تسلني سبب ذلك فبينته لك سخرت منه وضحكت مني (وإنما السبب هو أنها تذكرني بحادث لذة مضى ربما احتقرته أنت ولكنه كان عندي مكان الروح قيمة ومقدارا) أفليس إذن من العقل أن أكتم السر في حشاي فأصونه عن مهانة سخرك منه واستهزائك؟ وأجعله لنفسي ذكرى لذيذة أقطع بها الساعات والمسافات ومن ثم لا أكون للمساير ذلك الرفيق المؤنس والصاحب الممتع فأولى بي أن أترك لنفسي فأسير منفرداً وقد يقول قائل لم لا

تجمع بين مسايرة الغير ومحادثة نفسك - بين مرافقة الصديق ومناجاة الخاطر والذكرى فلذلك القائل أقول إن هذا من سوء الأدب وانتهاك حرمة العشرة وإنه لمن الرياء وضرب من الخديعة وإنما يجب على المرء أن يترك نفسه إما لمشيئة الرفقاء مطلقاً وإما لمشيئة نفسه وقد سرني من المستر كوبيت إنكاره من الفرنسيين الجمع بين الغداء وشرب الراح في الوقت بعينه وكذلك أنا لا أقدر على الجمع بين الكلام والتأمل - بين المحاورة الحثيثة والتفكير العميق ولا أقول مع الكاتب ستيرن إن لم يكن في استصحاب الرفيق إلا أني أذكر له كيف يطول الظل على انحدار الشمس لكفي بذلك علة. لي على استصحابه. هذا قول بديع من ستيرن ولكني لا أوافق على الفكرة. لأن التحدث في شأن مناظر الطبيعة يضعف من روعة تأثير تلك المناظر في الشعور ويفسد من حسن وقعها في النفس. فإذا اكفتيت من الاسهاب في شرح جمال تلك المناظر بالاختصار ومن العبارة بالإشارة جاء قولك مقتضباً أبتر جافاً مبهماً. وإن شرحت وأفضت جولت لذة المنظر تعباً. وعفوه نصباً. وكتاب الطبيعة أن تنظر في سطوره يغرك بأن تفسر للرفيق آياته. وتشرح للمساير عباراته. ومن ثم إيثاري الانفراد في النزهة حتى لا أحمل على تنغيص لذة السكينة بالكلام وتكدير منهل الفكر باعتلاج دلاء المحاورة والمناقشة. وإنما للجمع والادخار تلك الساعة. وغيرها للتفسير والرأي والمناظرة. وإنما أريد أثناء النزهة أن أرى خواطري تطفو وترسب في ذهني كأنها نتف زغب الطائر تهفو على حاشية النسيم ولا أريد أن تنشب فيها أشواك الجدال والمباحثة. وإني لا آبي على أي امرئ أن أطوي معه عشرين فرسخاً بالمناظرة ولكني أعلم أنه لا لذة في ذلك. فإني إن ذكرت للرفيق أن ذلك الحقل طيب الرائحة جازان يكون مزكوماً أو معدوم حاسة الشم. أو أومأت إلى شيء قصى لم يبعد أن يكون قصير النظر فيستعين بمرقبه ثم قد تحس في الهواء لذة خفية أو تبصر في لون إحدى السحب بهجة غير معهودة تملأ وجدانك ثم يعيبك أن تصفها أو تبين سببها. فيصبح ليس بينك وبين الرفيق ائتلاف إحساس واتحاد خاطر. متلاصقين جثماناً متباعدين وجداناً وتحاول أن توجد تلك الألفة الاحساسية فيعييك فتساء وتختم بالسخط نزهتك. ولو أن في يدي مفاتيح خزائن اللفظ الأنيق وقد تفجرت على لساني ينابيع البلاغة والبيان لحاولت أن أوقظ تلك الخواطر التي ترقد على مذهب رداء الشفق

ومعصفر ملاءة الغروب. ولكن خيالي الضعيف متى واجه عروس الطبيعة أغضى هيبة وأطرق حيرة وطوى إبراده كبعض الزهر ساعة الأصيل وكذلك أعجز كل العجز عن صفة تلك المشاهد وأنا حيالها وبين أيديها. فأما بعد ذلك بزمن - بعد الادكار والاستحضار والروية - فذاك شيء آخر. وعلى كل حال فالصمت والسكينة للنزهة والطبيعة. وبديع الوصف وغريب التصوير للغرفة والمحفل. ولذلك كان صديقي الكاتب الممتع شارلس لام أسوأ رفيق في النزهة لأنه أحسن جليس في الغرفة ولا أنكر أن هناك موضوعاً واحداً يرتاح المرء إلى طروقه أثناء السياحة - وهو الكلام في شأن طعام العشاء وماذا نتناول من الألوان في المطعم الذي نحن قاصدوه بأقرب قرية. فإن هذه المحادثة لتستعير لذة وتستفيد حلاوة من الهواء الفضفاض من حيث أنه يشحذ الشهوة ويسن أنياب الجوع. وكل فرسخ يطوي بهذا الحديث يحسن طعم الطعام المنتظر ويطيب مذاق الألوان المتوهمة ثم ما أمتع أن يطرق الإنسان لدى مسقط ظلال الليل بلدة قديمة ذات أسوار وحصون أو يأتي قرية متاطمنة الذرى تتعثر أشعة أضوائها فيما يلفها من ملاحف الظلماء فيلقى بها عصار التسيار ويتبوأ دمثاً ليناً وثيراً. هذه يا سيدي نعم جليلة ولذات يجب أن لا تكدر بالشريك الذي لا يذوقها حق مذاقها ولا يلذها تمام اللذة. ولذلك أرى أن أصونها عن المزريات المجحفات وأن أخص بها نفسي وأتنزه فيها عن الشريك والمنازع. وأن أشرب كأسها الروية فأشتف صبابتها وبعد ذلك إن من الله بالفراغ والقدرة وصفتها باللسان ثم بلسان الدواة وما ألذ أن نتناقش بعد شرب الشاي - ذاك الشراب الذي يسر ولا يسكر - وبعد أن نترك أوعية العقول مجالاً ومرتقى لدخانه وضبابه - أن نأخذ في حديث ماذا نأكل للعشاء - بيضاً وشواء أم أرنباً دفيناً في البصل والأرز أم ماذا؟ وقد أذكر أن سانكو صمم في مثل هذه الحالة على كوارع وهو طلب ألجأته إليه الضرورة وليس بمنتهى الحطة. ثم ما ألذ أن تسمع في خلال نجواك. واثناء ذكراك. صليل المراجل والمغارف وآلات المطبخ وهرولة الخدام ولك ما يصحب ذلك من الحركة وأصوات الاستعداد والخدمة (لنصب الخوان للسيد الضيف) هذا والله العيش وتلك الرفاهية والخفض! وأنها لساعات من حقها أن تصان في هيكل الصمت وتقدس في محراب الخيال وتدخر في وعاء الذكرى

لتكون منبع طرب يغذي جداول الخواطر الضاحكة ومجاري الأفكار الهنية. وما كنت لا بد مدنساً طهارة الخيال بالمحادثة فلتكن مع أجنبي غريب. لا صديق قريب. ومع ابن سبيل. لأولى وخليل فإن الغريب ينتحل طباع المكان الذي تلقاه فيه ويأخذ صبغة الساعة التي تجمعك وإياه. وكأنما هو حلس من أحلاس النزل وبعض أثاثه وآلاته وهبه دجالاً فإنه أمتع لي وليس من المحتوم علي أن أنتحل خلقه وأتطبع بطباعه (وإن كان نفر من المشعوذين والمتشردين فذلك ألذ لي وأنا الذي طالما تمني أن يكون أحد هؤلاء وكيف ترى يكون إنكار الناس لهذا الرأي إن أنا أعلنت به وصرحت) هذا وإن منظر الأجنبي لا يذكرني شيئاً مما هربت منه من شؤوني وأحوالي. ولا يكون مقروناً في ذهني إلا بما يحيط بي من الأشياء والحوادث وجهله بي وبجميع أمري يعديني فأكاد أنسي نفسي وشخصيتي ولكن الصديق يذكرني بأمور كثيرة وينبش قبور الألم ويفسد سحر المقام والحال. ويحول بين الذهن وبين ما قد تخيله المرء لنفسه من الشخصية الوهمية بما قد يعرض أثناء الحديث من ذكر وظيفتك ومهنتك وأحوالك وشؤونك. أو بما قد يتفق من أن صديقك من القوم الذين يعرفون أخبث جوانب تاريخك وأقذر نواحي عرضك وسيرتك فيخيل إليك أن سائر سكان النزل والخدم والطباخين يعلمون ذلك أيضاً فتظل وما أنت بابن العالم وأخي الدنيا الذي تخيلت وتوهمت وإنما فلان القاطن بكذا الذي شأنه كيت وكيت. فيضيق بك ما كان انفسح حولك من دائرة الوهم ويرتد مغلولاً ما كان طم لك من شعاع الخيال. ويتضاءل ما كنت حسبت أنك أصبت من بذخ المكانة امتداد شأو الحال. أجل ما ألذ أن يصدع المرء عن نفسه أغلال المجتمع والرأي العام - وأن ينسى ذاته وشخصيته وهمومه بين عناصر الكون وأجزاء الطبيعة ويصبح ابن الساعة واللحضة خالصاً من كل قيد وربقة - لا صلة له بالعالم إلا لوناً من الحلوى أو صحفة من الفاكهة ولا دين عليه إلا ثمن مأكل اليوم ومبيت الليلة - غير مكترث لمدح ولا ذم ولا مبال بسخط ولا رضا ولا مسمى إلا بالسيد الضيف. فأما الآثار والخرائب والمتاحف ومعارض الصور والدمى والتماثيل فإنه يؤثر في زيارتها صحبة الرفيق أو الرفقاء على الانفراد والوحدة. وذلك لأنها مشتركة الفهم عند جميع المتأدبين متحدة المواقع في كافة النفوس ففيها للكلام متسع وللمناظرات مجال. وما يشعر نحوها من الإحساس والوجدان ليس بأخرس مستحيل النقل والبيان. بل ناطق طوع

الشفتين واللسان. وإن كانت بطاح سالسبرى وربى سلسكس مجدبة من شجر الانتقاد وأغراس المناظرة فما خرائب كنيلورث منها بمجدية. وعندي أن أول ما يجب السؤال عنه إذا أريد أن يخرج للتنزه مع الرفاق قصد السرور هو أين يذهب؟ فإذا كان خروج انفراد قصد التأمل والذكرى فالسؤال هو ماذا عسى المرء يصادف في طريقه فليس يراد في حالة الانفراد مكان بعينه. لأنها سياحة الذهن والذهن غني بنفسه عن ذلك المكان أو هذا. وهو بذاته إقليم ودولة في نفسه. وليس همنا أن نبلغ آخر السياحة. وأما السياحة في البلاد الأجنبية فهذا مالا أستطيعه إلا في صحبة رفيق من أبناء جلدتي وأهل وطني. وكيف ولا بدلى أن أسمع نغمة لغتي ولسان أمتي من حين إلى آخر. وإن في طبيعة الإنكليزي لكراهة غريزية للعوائد والأراء الأجنبية يحتاج أبداً إلى أن يداويها ويمحو أثرها بضدها من ذلك العطف الذي يجلده لابن جلدته ووطنه. وكلما بعد الإنسان عن وطنه اشتدت تلك الحاجة إلى الرفيق حتى تصير ضرورة شديدة وغليلاً مشتعلاً بعد أن لم تكن إلا تعلة وسلوة. ولقد يخيل إلى أني كنت أموت اختناقاً لو قد أصبحت يوماً ما وسط صحارى نجد أو قفار حضرموت بلا رفيق من أبناء وطني ولا ينكر أحد أن منظر روما أو أتينا ليس يخلو من شيء مدهش غريب على النفس والعين لا يصح أن يضن عليه بلفظة ويمر به اللسان راقداً. كما لا ينكر أحد أن الأهرام أضخم من أن تكتفي بتأملات خاطر واحد. وأبعد أقطاراً من أن يذرع مساحتها باع ذهن منفرد. هذا وإن المرء وحيداً بين المشاهد الأجنبية ليخيل إليه أنه نوع من الخليقة مغاير لمن يحيط به من الناس أو أنه عضو قد فصل عن جسم المجتمع فيحس وحشة أيما وحشة إلا أن يصادف إنسا من رفيق يشاكله وصديق يماثله. على أني لم أجد كل هذه الوحشة لدن مس قدمى شاطئ فرنسا الضاحك لأول مرة فوجدت بلدة كاليز غاصة الأرجاء بالزينة والبجهة وكان صوت حركة الإنسانية وأنس الحياة يتحدر كمنبت عقود الجمان ومرفض أسلاك الدر في مسمعي. ولم يشذ عن أذني غناء الملامح بفرع سفينة عتيقة السن قد شاب فؤداها ومسها من أولق الموج اولق ومن لوثة البحر خبال. وإنما كنت هناك أنشق نسيم الإنسانية ولما بسطت القدم في بساط تربها الدمث العبق وثراها المفوف قد نمنمته أيدي الأنواء ورشته لله كف صناع بسطت قدماً وثابة ممراحا وهززت عطفاً ملكته نشوة السرور وتقاذفته أريحيات الطرب

وما ذاك إلا لأنها أرض الحرية قد ضربت بها خيامها. ورفعت عليها أعلامها. ولم تحن فيها رقاب الأمم للظلمة والجبابرة! إن في السياحة بالبلاد الأجنبية لاحساسا لا يجده الإنسان في غير ذلك ولكنه أجدر بأن يكون لذيذا في وقته منه بأن يكون باقي الأثر. وذلك أنه لبعده عن أحوالنا العادية ليس حرياً أن يعترض في سياق أحاديثنا ومجرى كلامنا. ولا يلتئم بديباجة حياتنا كأنه كان قطعة من حياة غير الحياة الإنسانية أو كان حلماً من الأحلام وخيالاً توقد برهة ثم خبا. وأنه لمن أشد العناء على الذهن أن يتوهم ذلك الإحساس الغريب بعد زواله وعسير على المرء أن يخلع شخصيته الحقيقية فيلبس شخصية وهمية وصعب عليه أن يوقظ نبض اللذة التي ماتت وقبرت اللهم إلا أن استطاع أن يثب من فوق أسوار الحاضر في حشا الماضي. والشخصية الخيالية الغريبة وحش لا يصاد. وظهر لا يراض والوقت الذي أمضيناه في السياحة الأجنبية مقطوع عن عمرنا. مفصول من حياتنا لا سبيل إلى وصله ولا وسيلة إلى إدماجه والمرء ما دام خارج وطنه رجل آخر خلاف الذي كان هنالك. حتى أن المسافر ليودع نفسه فيمن يودع ولله در القائل خرجت من موطني ومن نفسي فمن أراد أن ينسي الحزن والشجن فليذهب إلى غير بلده من بلاد الله يجد في عجب المناظر وغريب الأحوال سلوة وروحاً. وتغب من عينه مذكرات الهموم وباعثات الأسى ولذلك كنت أنفق حياتي خارج بلادي لو وجدت من يقرضني حياة أخرى أنفقها في وطني حتى أقضى حقوقه. الصانع المسكين (رسالة في قالب قصصي) للروائي الكبير تشارلس دكنز هذا الصانع المسكين يعيش على ضفة نهر زاخر التيار طامي العباب اسمه الزمن يصب في اقيانوس عظيم مجهول اسمه الأبد وما زال ذلك النهر منذ بدء الخليقة يجرى ويطرد وكان ربما غير مجراه وانحدر في مسايل جديدة ومسائل حديثة تاركاً مجاريه القديمة غبراء يابسة ولكنه رهن الانحدار والمسيل حتى يفني الله الزمن ثم تراه لا يقف في وجهه شيء ولا يثبت أمام سيله الجارف ناطق ولا صامت بل كان ما على الأرض منقاد طوع تياره محمول على متنه إلى ذاك الاقيانوس المجهول -.

هذا الصانع المسكين يعيش في مكان ليس فيه إلا عاملاً كادحاً وهو من أكدح العاملين وأدأب الجاهدين. عيشه اليابس الوعر. ودهره العلقم المر. ورزقه ينفذ إليه من سم الإبرة. ويدر عليه من جانبي صخرة. ومع ذلك فقد كان قانعاً بقسمته. راضياً عن عيشته. يستقبل اليوم باسط الوجه منشرحاً. وينصرف عنه شاكر القلب مرتاحاً. وكان هو وسائر أهل طبقته. أناساً يكدون من لدن يرتفع النهار. إلى أن يقبض الليل الأبصار. ولم يكن لهم دون ذلك من مطمح ولا هم يريدون. وكانت دار الحكومة ناحية من مسكن هذا الصانع وكان لا يزال بها خطابة ولجب. وجلبة وصخب. ولم يكن للرجل بذلك علاقة اللهم إلا أن ينظر ويتعجب وكان يراهم (أعني رجال الحكومة) يقيمون التماثيل حديداً ومرمراً ونحاساً أمام مسكنه الحقير فيأخذون عليه منافذ النور والهواء بأشباح هذه الأفراس النحاسية. وأشخاص تلك الصور الحديدية وتمادي على تعجبه من هذه الأشياء وماذا يراد بها ثم ابتسم ابتسامته الساذجة ومضى في عمله. وكانت الحكومة (وهي مؤلفة من أضخم رجال البلد وأكثرهم جلبة وضوضاء) قد تكلفت أن تحمل عنه أعباء الإدارة ومؤنة التفكير فتدبر له شؤونه وتنظم أحواله. وكان الرجل يقول نعم ما تصنع بي الحكومة. ستعنى بأمري جزاء شيء من المال أجعله لها (والحكومة أيها القارئ ليست فوق مال الرجل) وذلك أنعم لي وأنفع ومن ثم ما ترى من تلك الخطب في دار الحكومة والصياح والضوضاء وما ترى من تلك التماثيل التي يكلف الرجل المسكين أن يسجد لها من دون الله. ويقول الرجل ويحك جبينه حيرة وعجباً أنا لا أفهم كل هذا. فعسى أن له معني يدق عن فهمي ويلطف عن إدراكي. فتجيب الحكومة معناه إن أعظم المجد والشرف للأعظم أعمالاً وآثارا. فقال أهو كذلك؟ وسره ما سمع. ولكنه نظر في التماثيل فلم يجد بينها صورة رجل فاضل ممن يعرف ولا صورة ذلك الرجل العظيم تاجر الأصواف الذي توفى آنفاً. ولا صورة رجل من كبار الأطباء الذين بفضلهم نجا هو وبنوه من آفة الداء ولا تمثال شجاع ممن أطلقوا العباد من رق الجبابرة وتركوهم أحراراً بعد أن كانوا عبيداً وأسرى ولا تمثال شاعر أو قصصي ممن أوجد للفقراء والمساكين من الخيال حياة أجمل وأعلى كلها لذائذ وعجائب

على حين أنه كان يجد بين تلك التماثيل صور أناس لم يعرف عنهم كثيراً من الخير وصور آخرين ما عرف عنه إلا النكر والضير. قال الرجل أنا لا أفهم ذلك. ثم ذهب إلى بيته وجلس إلى النار يصطلي ويحاول نسيان ما رأى. وكان بيته حقيراً تحفه طرقات مسودة ولكنه كان عزيزاً عليه حبيباً إليه وكانت زوجته قد كبرت قبل أوانها وخشن العمل كفيها وأيبس أناملها ولكنها كانت قرة عينه وكان اصيبيته قد انحلهم سوء الغذاء وحبس البؤس شبابهم ولكنهم كانوا زينة بصره وثلجة صدره وكان أبعد غايته وأقصى أمنيته أن يرى العلم لهم قريناً والعرفان الفا وخدينا حتى لقد كان يقول إذا كان الجهل منشأ خطأي وخطلي فليكفهم التعليم غلطي وزللي وإن تعذر على أن أقطف ثمار الكتب من الفائدة واللذة فليصبحن ذلك عليهم من السهل. ولكن الحكومة لم تر مارآه من حاجة اغيلمته إلى التعليم فأهملت تهذيبهم وتنويرهم فأبصر الرجل شيطان الجهل قد نبغ وسط داره فاستحوذ على بنيه ورأى ابنته قد أصحبت خرقاء رخوة متثاقلة وراح غلامه يركض أفراس الشهوة في سنن الغواية ويحدو اينق الباطل في سبل الجرم والجناية وأبصر نور الفطنة في أعين أطفاله يتحول مكراً وريبة حتى جعل يتمنى أنهم كانوا بلها وحمقى. وقال أنا لا أفهم هذه الأشياء ولكني أعلم أنه ما يراد بها خير وأما وهذه الأرض المقشعرة والسماء المكفهرة والجو المغيم والأفق المظلم أني لأنكر هذه الأعمال ولا أراها جوراً وظلماً!. ولما سكت عنه الغضب (وكان غضبه كالبرق الخاطف لا يهيج حتى يزول) نظر إلى الآحاد أيام فراغه والى الأعياد أيام بطالته ولهوه فلم يجدها إلا أسباب ملل ودواعي سأم وإلا السكر وما يعقب من المحن والمصائب فالتفت إلى الحكام وقال لهم نحن معشر العمال والمهنة أرانا قد ركب الله في طباعنا حاجة إلى اللذة النفسية واللهو الذهني فانظروا ماذا نقع فيه من الإثم والجريمة لحرماننا لذة الأنفس ومتاع الأذهان ألا فأبيحوا اللهو الحلال واستشلونا من هذه الوهدة وأطلقونا من ذلك الضيق. فضجت الحكومة وصاحت وهاجت وماجت عند ما نادى نفر قليلون يطلبون للرجل نعمة

التعليم كيما يبصر بدائع الوجود وعجائب الفنون حتى بهت الرجل وقال حائراً مندهشاً: أنا الذي أحدثت هذا؟ وهل كل ذلك لأني أعلنت حاجة نفسي والتمست المخرج من غمي وكربتي؟ ليت شعري ماذا يراد بنا وإلى أي طريق نحن مسوقون. وأنه ذات يوم لمكب على عمله إذ بلغته أنباء الطاعون يفتك في العمال ويصرعهم بالآلاف فخرج يستوثق من الخبر فإذا هو صحيح وإذا الموتى والذين في سكرة الموتى مختلطون هؤلاء بأولئك قد غصت بهم تلك المساكن الضيقة التي يعيش في أحدها فياله من سم جديد أضيف إلى ما قد أفعم به ذلك الهواء المنتن الخبيث ويا لها ضربة صعقت الأبناء والآباء والأقوياء والضعفاء ونكبة اجتمع فيها العقلاء والسفهاء والأعداء والأولياء. وماذا لديه من أسباب الهرب وسبل الفرار؟ الحمد لله لا منجى ولا مهرب ولا منفذ ولا مذهب ومكث الرجل حيث هو ومات أحبابه بعينيه وأتاه قسيس يحاول أن يخفف عنه ويرقق فؤاده في تلك المحنة التي تنسى المرء أخلاقه وتخرج الإنسان من سجيته ولكن الرجل أجاب قائلاً: أي فائدة في كلامك لرجل كتب عليه المقام في هذا المكان الخبيث فعادت نقمة وعذاباً كل حاسة أرادها الله له باب نعمة ولذة وأصبحت كل لحظة من عمره عبأ يضاف إلى ما يفدحه من الأعباء ويهد كاهله من الاثقال أعرني نظرة إلى السماء ونفساً من خالص الهواء وأكحل عيني بمرود الضياء واسقني جرعة من سائغ الماء وأعني على النظافة وخفف عني ثقل هذه الحياة ورقق من كثافة هذا الهواء وترفق بهذه الجثث وأحملها من هذه الغرف الضيقة فلقد ألفنا صورة الموت حتى كاد يذهب من نفوسنا جلاله وهيبته. كل ذلك والرجل منكمش في عمله ونه كذلك ذات يوم وبه من الحزن والوحشة ما به إذ وقف عليه رئيسه في ثوب حداد وكان قد فجع بزوجته وكانت جميلة وبرة كريمة ورزء كذلك ابنه ولم يكن عنده سواه. قال الرجل أيها الرئيس أنك قد رزئت جليلاً وفارقت خليلاً فعزاء حسناً وصبراً جميلاً وقد أعطيك السلوان لو أملكه ولكن أين مني ذلك. فشكره الرئيس ولكنه قال ويل منكم معشر العمال. منكم نبع الداء ونجم البلاء. ولو أنكم أطبتم معايشكم وعنيتم بأسباب النظافة والصحة لما بت أندب غلامي ثاكلا وأبكي زوجتي

أرملاً. فهز الرجل رأسه قائلاً إنه لن تصلح الأحوال حتى تشركنا الحكومة معها في الحكم والإدارة وأنا لا نستطيع إلى الصحة والنظافة سبيلاً حتى يهيء لنا ولاة الأمر أسباب ذلك ولا نجد الطريق إلى العلم حتى يأخذ ولاة الأمر بأيدينا ولا نهتدي إلى سبل اللهو الحلال حتى يهدينا ولاة الأمر إليها وإن مضار هذا الإهمال والتفريط وإن لم تنجم إلا بيننا ولكنها لا تنتهي عندنا بل تتعدانا إلى سائر الطبقات غيرنا حتى يفشو المصاب وتعم البلوي. ولكن الرئيس قال ويحكم معشر العمال ما نكاد نسمع ذكركم إلا مقروناً بإحدى المصائب!. فأجاب قائلا: ما منا تبتدئ ولا فينا تنتهي المصائب. وقد كان في قوله هذا من الحق في نازل الوباء من البؤس والضر ما حمل الحكومة على عزيمة إشراكه في شيء من الأمر - على الأقل في الاحتياطات اللازمة لأبادة الوباء ولكنه ما زال خوفهم حتى أنحوه عن زمرتهم واستبدوا بالأمر دونه فعاد الوباء أشد طغياناً وأحصد فتكاً.

أمالي البيان

أمالي البيان أقترح على البيان بعض أهل الفضل والأدب إدخال باب جديد بين زمرة أبوبه يكون موضوعه جمع ما هو مبدد في كتب الأدب - كالأغاني وكامل المبرد والعقد الفريد وزهر الآداب وإضرابها - من مستملح الأخبار ومستعذب الآثار. وسير الأدباء والشعراء والظرفاء والمغنين والمجان وأيام العرب وحكاياتهم المستطرفة حتى يكون ذلك مغنياً عن شتى الكتب ومطولات الأسفار وحتى يجد قارئ البيان من سير الماضين وأحوالهم ما فيه تفكيه للنفس وترويح للخاطر وتثقيف للفكر وأدب للناشئ وذكرى للمنتهى ولقد وقع هذا الاقتراح من نفسنا موقعاً حسناً وأصاب منها ما يصيب البارد العذب من الصديان فأجمعنا النية على أن نثبت في هذا الباب كل لذ ممتع من سير الماضين وآدابهم ونوادرهم مما تفرق في تضاعيف الكتب وثنايا السطور حتى يكون هناك شجرة أدب يانعة الثمر قريبة المتناول يهتصر قارئ البيان أغصانها ويجتني من كثب أثمارها وحتى تبلغ مسامع الكثير من شبابنا أخبار أسلافنا التي طال احتجابها عليهم وعز وصولها إليهم وهي عند النصفة أولى المعلومات بالعلم والمدارسة كيما نكون دائماً على ذكر من شؤن آبائنا الأولين وكيما يتصل السبب بينهم وبين نشئنا المولع بالغريب والمستهتر (المولع أشد الولوع) بالأجنبي الذي ليس بيننا وبينه لحمة جنس ولا لغة ولا دين مع أعراضه عن سلفه ورضائه بوصمة الجهل بشؤنهم وهي كما قلت نعمت المحصولات العلمية التي إذا جهلها منتسب لهذه اللغة استبدت به عجمة الأعجام وتقطعت حبال ما بينه وبين قومه وأنكرته آدابهم. ومحبته أذواقهم وكذلك ترى الكثير من أولئك في المحافل الحافلة على جانب عظيم من النكر وركود الريح ويبس الطبيعة فلا تأذن من ناحيتهم إلا كل قول أبنز عار لا تحليه ملحة ولا يزينه استشهاد ولا يتخلله أدب: كل ذلك لجهلهم بآداب أسلافهم وطرائفهم واحتقارهم إياها وهم بذلك إنما يجنون على أنفسهم ويسيئون إليها من حيث يدرون ولا يدرون فيا أيها النشء أبناء الماضيين عليكم أدب أسلافهم قبل أدب غيرهم وليس يجعل بكم وأنتم سلالتهم أن تجهلوا ما هنالك من أدب باهر. وظرف ظاهر. وفكاهات ونوادر ولا والله لن تغني عنكم آداب الأغيار مالم تبتن على أدبكم أنفسكم الذي به تعتزون. وبجهله تذلون. ولتعلمن أن من أجنى ما تجنون على قوميتكم أن تجهلوا ماضي آبائكم وتستبدلوا بهم من لا شبه بينه وبينكم وإنكم إن فعلتم ذلك واسترسلتم ولم تتداركوا نسيتم ما ضيكم فأنساكم الله

حاضركم ونسيتم سلفكم فأنساكم الله أنفسكم. وإذا كانت أمم المغرب لا تزال تعنى العناية كلها بآداب يونانهم ورومانهم وتعتمد في آدابهم أنفسهم عليها على نزارة آداب أولئك إذا قيست بآداب العرب وبعدما بين الجلين (الإفرنج - واليونان والرمان) من النسب والقرابة أفلا يليق بكم أنتم وأنتم أبناء العرب وبدينهم تدينون وبلغتهم تخاطبون أن تعنوا كذلك بآدابهم وتحرصوا على معرفتها كل الحرص. - نعم ولا نخالكم بعد أن سيبذل البيان جهده في تقريبها اليكم وجعلها منكم على طرف الثمام وحبل الذراع إلا فاعلين. أما هذه الأمالي فهي كشكول جامع يتنقل فيه القارئ بين جد وهزل وأدب وحكمة وخبر نادرة فمن أخبار شاعر إلى مجون ما جن إلى ظرف خليع إلى أدب مليك إلى كل ما تلتقى فيه الفائدة باللذة والفكاهة من أخبار الماضين ونوادر الأولين إن شاء الله.

أخبار السيدة سكينة

أخبار السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما كانت السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب سيدة نساء عصرها وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقاً وكانت عفيفة سلمة برزة من النساء تجالس الجلة من قريش وكان يجتمع الشعراء في فناء دارها ولها مع الشعراء والمغنين والمجان حكايات ونوادر تدل على أدبها وبصرها بالشعر وظرفها ولطف غريزتها فلا جرم أنا ذاكرون من أخبارها ما لا يخرج عن شريطتنا في هذه الأمالي إن شاء الله. كان اسم السيدة سكينة آمنة وقيل أمينة وقيل أميمة وسكينة لقب لقبت به وكانت أمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي الكلبي وفيها يقول الحسين رضي الله عنه: لعمرك أنني لأحب داراً ... تكون بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب وكانت السيدة آية في الجمال وكانت تصفف جمتها تصفيفاً لم ير أحسن منه حتى عرف ذلك وكانت تلك الجمة تسمى السكينية وكان عمر بن عبد العزيز إذ وجد رجلاً يصفف جمته السكينية جلده وحلقه - وتزوجت السيدة عدة أزواج وكان أول ما تزوجت عن عبد الله بن الحسين بن علي وهو ابن عمها وأبو عذرتها ثم خلفه عليها مصعب بن الزبير زوجه إياها أخوها علي ابن الحسين ومهرها مصعب ألف ألف درهم ولما حملها أخوها إليه رضخ إليه بأربيعن ألف دينار قالت السيدة دخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة في الليلة القراء وولدت من مصعب بنتاً سمتها الرباب فلما قتل مصعب ولى أخوه عروة تركته فزوج الرباب ابنه عثمان فماتت وهي صغيرة فورثها عثمان بن عروة عشرة آلاف دينار. حدثت سعيدة بنت عبد الله بن سالم قالت لقيت سكينة بين مكة ومنى فقالت قفي يا ابنة عبد الله فوقفت فكشفت عن بنتها من مصعب وإذا هي قد أثقلتها الحلي واللؤلؤ فقالت ما ألبستها إياه إلا لتفضحه. ثم تزوجت السيدة من عبد الله بن عثمان الخزامي ثم من زيد بن عمرو ابن عثمان ثم من الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ولم يدخل بها ثم من إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف

ولم يدخل بها وقيل في ترتيب أزواجها غير ذلك وكان أحد أزواجها زيد بن عمرو بن عثمان كما حدث أشعب (وكان قد اتخذته السيدة سميرا لها) انجل قرشى قال أشعب فخرج حاجاً وخرجت معه سكينة فلم يدع أوزة ولا دجاجة ولا بيضاً ولا فاكهة إلا حمله معه وأعطتني مائة دينار فخرجت ومعها طعام على خمسة أجمال فلما أتينا السيالة نزلنا وأمرت بالطعام أن يقدم فلما جيء بالأطباق أقبل أغيلمة من الأنصار يسلمون على زيد فلما رآهم قال أوه خاصرتي ارفعوا الطعام وهاتوا الترياق والماء الحار فجعل يتوجرهما حتى انصرفوا ودخلنا وقد هلكت جوعاً فلم آكل إلا مما اشتريته من التسوق فلما كان من الغد أصبحت وبي من الجوع ما الله به عليم ودعا بالطعام فأمر باسخانه وجاءته مشيخة من قريش يسلمون عليه فلما رآهم اعتل بالخاصرة ودعا بالترياق والماء الحار فتوجره ورفع الطعام فلما ذهبوا أمر بإعادته فأتى به وقد برد وقال لي يا أشعب هل إلى أسخان هذا الدجاج سبيل فقلت له أخبرني عن دجاجك هذا من آل فرعون فهو يعرض على النار بكرة وعشيا - وحكى أن أحد أزواجها زيد بن عمرو استأذنها أن يحج مع سليمان بن عبد الملك وأعلمها أنها أول سنة حج في الخليفة وأنه لا يمكنه التخلف عن الحج معه وكانت لزيد ضيعة يقال لها العرج وكان له فيها جوار فأعلمته أنها لا تأذن له إلا أن يخرج أشعب معه فيكون عيناً لها عليه ومانعاً له من العدول إلى العرج ومن اتخاذ جارية لنفسه في بدأته ورجعته فقنع بذلك وأخرج أشعب معه وكان له فرس كثير الأوضاح حسن المنظر يصونه عن الركوب إلا في مسايرة أمير أو يوم زينة وسرج يصونه لا يركب به غير ذلك الفرس وكان معه طيب لا يطيب به إلا في مثل ذلك اليوم الذي يركب فيه وحلة موشية يصونها عن اللبس إلا في يوم يريد التجمل فيه بها فحج مع سليمان وكانت له عنده حوائج كثيرة فقضاها ووصله وأجزل صلته وانصرف سليمان وكانت له عنده حوائج كثير فقضاها ووصله وأجزل صلته وانصرف سليمان من حجه ولم يسلك طريق المدينة وانصرف ابن عثمان يريد المدينة فنزل على ماء لبني عامر بن صعصعة ودعا أشعب فأحضره وصرصرة فيها أربعمائة دينار وأعلمه أنه ليس بينه وبين العرج إلا أميال وإن أذن له في المسير إليها والمبيت عند جواريه غلس إليه فوافى وقت ارتحال الناس فوهب له الأربعمائة دينار فقبل يده ورجله وأذن له في السير إلى حيث أحب وحلف له أنه يحلف

لسكينة بالإيمان المحرجة أنه ما صار إلى العرج ولا اتخذ جارية منذ فارق سكينة إلى أن رجع إليها فدفع إليه مولاه الدنانير ومضى قال ابن أشعب حدثني أبي أنه لم يتوهم أن مولاه سار نصف ميل حتى رأى في الماء الذي كان عليه رحل زيد جاريتين عليهما قربتان فألقتا القربتين وألقتا ثيابهما عنهما ورمتا بأنفسهما في الغدير وعامتا فيه ورأى من مجردهما ما أعجبه واستحسنه فسألهما عند خروجهما من الماء عن نسبهما فأعلمتاه أنهما من اماء نسوة خلوف لبني عامر بن صعصعة بالقرب من ذلك الغدير فسألهما هل يسهل على مواليهما محادثة شيخ حسن الخلق طيب العشرة كثير النوادر فقالتا وأني لهن بمن هذه صفته فقال لهما فأنا ذلك فقالتا له انطلق معنا فوثب إلى فرس زيد فأسرجه بسرجه الذي كان يركبه ودعا بحلته التي كان يضن بها فلبسها وأحضر الفسط الذي كان فيه طيبه وتطيب منه وركب الفرس ومضى معهما حتى وافى الحي فأقام في محادثة أهله إلى قرب وقت صلاة العصر فأقبل في ذلك الوقت رجال الحي وقد انصرفوا من غزواتهم وأقبلت تمر به الرعلة بعد الرعلة فيقفون به فيقولون ممن الرجل فينتسب في نسب زيد فيقول كل من اجتاز به ما نرى باساً وينصرفون عنه إلى قرب غروب الشمس فأقبل عليه شيخ فان على بجير هرم هزيل ففعل مثل ما كان يخبر من تقدمه فقال مثل قولهم قال أبي ثم رأيت الشيخ وقد وقف بعد قوله فأوجست منه لأني رأيته قد جعل يده اليسرى تحت حاجبه ورفعها ثم استدار ورأى وجهي وركبت الفرس فما استويت عليه حتى سمعته يقول أقسم بالله ما هذا قرشي وما هذا إلا وجه عبد فركضت فرسي وهو يقول من أنت واتبعني فلما يئس من اللحاق بي انتزع سهماً فرماني نه فوقع في مؤخرة السرج فكسرها ودخلتني روعة من ضربة أحدثت لها الحلة ووافيت رجل مولاي فغسلت الحلة ونشرتها فلم تجف ليلاً وغلس مولاي من العرج فوافاني في وقت الرحيل فرأى الحلة منشورة مؤخرة السرج مكسورة والفرس قد أضربه الركوب وسفط الطيب مفضوض الخاتم فسألني عن السبب فصدقته فقال لي ويحك أما كفاك ما صنعت بي حنى انتسبت في نسبي وسكت عني فلم يقل لي أحسنت ولا أسأت حتى وافينا المدينة فلما وافاها سألته سكينة عن خبره فقال يابنت رسول الله وما سؤالك إياي ولم يزل ثقتك معي وهو أمين على فسليه عن خبرى يصدقك عنه فسألتني فأخبرتها أني لم أنكر عليه شيئاً ولم أمكنه من ابتياع جارية ولم أطلق له الاجتياز بالعرج فاستحلفتني

فلما حلفت لها بالإيمان المحرجة فيها طلاق أمك (يخاطب ابنه) وثب فوقف بين يديها وقال والله يا بنت رسول الله لقد كذبك العلج أقمت بها يوماً وليلة وغلست بها عدة من جواري وها أنا تائب إلى الله مما كان مني وقد جعلت توبتي منهن وتقدمت في حملهن إليك وهن موافيات المدينة في عشية هذا اليوم فبيعهن وعتقهن إليك وأنت أعلم بما ترين في العبد السوء فأمرتني بإحضار الأربعمائة دينار فلما أحضرتها أمرت بابتياع خشب بثلثمائة دينار وليس عندي ولا عند أحد من أهل المدينة علم بما تأمر به ثم أمرت بأن يتخذ بيت من عود وجعلت النفقة عليه من أجر النجارين من المائة الباقية ثم أمرت بابتياع بيض وتبن وسرجين بما بقي من المائة دينار بعد أجرة النجارين ثم أدخلتني والبيض والتبن والسرجين في البيت وحلفت بحق جدها لا أخرج من ذلك البيت حتى أحضن ذلك البيض كله إلى أن يفقس ففعلت ذلك ولم أزل أحضنه حتى فقس كله فخرج الفراريج وربيت في دار سكينة وكانت تنسبهن وتقول بنات أشعب وحدث الرواة قالوا اجتمع في ضيافة السيدة سكينة جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب فمكثوا أياماً ثم أذنت لهم فدخلوا عليها فقعدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم ثم أخرجت وصيفة لها وضيئة قد روت الأشعار والأحاديث فقالت أيكم الفرزدق فقال لها ها أنا ذا قالت أنت القائل: هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انحط بازٍ أقتم الريش كاسره فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحي نرجي أم قتيل نحاذره فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا ... وأقبلت في إعجاز ليل أبادره أبادر بوابين قد وكلابنا ... وأحمر من ساج تبص مسامره قال نعم فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك هلا سترت عليك وعليها خذ هذه الألف والحق بأهلك ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت أيكم جرير قال ها أنا ذا فقالت أنت القائل: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام تجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدر من متون غمام لو كان عهدك كالذي حدثتنا ... لوصلت ذاك وكان غير ذمام إني أواصل من أردت وصاله ... بحبال لا صلف ولا لوام

قال نعم قالت أولاً أخذت بيدها وقلت لها ما يقال لمثلها أنت عفيف وفيك ضعف خذ هذه الألف والحق بأهلك ثم دخلت إلى مولاتها وخرجت فقالت أيكم كثير قال ها أنا ذا فقالت أنت القائل: وأعجبني ياعز منك خلائق ... كرام إذا عد الخلائق أربع دنوك حتى يدفع الجاهل الصبا ... ودفعك أسباب المنى حين يطمع فو الله ما يدري كريم مماطل ... أينساك إذ باعدت أو يتضرع قال نعم قالت ملحت وشكلت خذ هذه الثلاثة آلاف والحق بأهلك ثم دخلت على مولاتها ثم خرجت فقالت أيكم نصيب قال ها أنا ذا فقالت أنت القائل: لولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشأ الصغار بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصار قال نعم فقالت ربيتنا صغاراً ومدحتنا كباراً خذ هذه الألف والحق بأهلك ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت يا جميل مولاتي تقرئك السلام وتقول لك والله مازلت مشتاقة لرؤيتك مذ سمعت قولك: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذاً لسعيد لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد فجعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء خذ هذه الألف دينار والحق بأهلك. ورووا أن الفرزدق خرج حاجاً فلما قضى حجه خرج إلى المدينة فدخل على السيدة مسلماً فقالت له يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول: بنفسي من تجنبه عزيز ... علي ومن زيارته لمام ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام قال والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه قالت فاخرج عني ثم عاد إليها من الغد فدخل عليها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول: لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار كانت إذا هجر الضجيع فراشها ... كتم الحديث وعفت الأسرار لا يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار

فقال والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه فأمرت به فاخرج ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولدات كأنهن التماثيل فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها وقالت يا فرزدق من أشعر الناس فقال أنا فقالت كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول: إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا فقال يا بنت رسول الله إن لي عليك حقاً عظيماً ضربت إليك من مكة إرادة السلام عليك فكان جزائي منك تكذيبي ومنعي من أن أسمعك وبي ما قد عيل معه صبري وهذه المنايا تغدو وتروح ولعلى لا أفارق المدينة حتى أموت فإن أنا مت فأمري أن أدرج في كفني وأدفن في حر تلك الجارية: يعني الجارية التي أعجبته: فضحكت السيدة وأمرت له بالجارية فخرج بها آخذاً بريطتها (ملاأتها) وأمرت الجواري أن يدففن في أقفائهما ثم قالت يا فرزدق أحسن صحبتها فإني آثرتك بها على نفسي. ووقفت السيدة مرة على عروة بن أذينة فقالت له يا أبا عامر أنت الذي تقول: قالت وأبثثتها سري وبحت به ... وقد كنت عندي تحب الستر فاستتر ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقى على بصري وأنت القائل: إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم ابترد هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد قال نعم قالت هن حرائر وأشارت إلى جواريها أن كان خرج هذا من قلب سليم وهذا عروة بن أذينة كان من كبار العلماء وفحول الشعراء سمع ابن عمر وروى عنه مالك في الموطأ وهو القائل: لقد علمت وما الأشراف من خلقي ... إن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعنيني تطلبه ... وإن قعدت أتاني لا يعنيني لا خير في طمع يدني إلى طبع ... وغفة من قوام العيش تكفيني كم من فقير غني النفس تعرفه ... ومن غني فقير النفس مسكين ومن عدو رماني لو قصدت به ... لم آخذ النصف منه حين يرميني

ومن أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إن انطواءك عني سوف يطويني إني لأنظر فيما كان من إربي ... وأكثر الصمت فما ليس يعنيني لا أبتغي وصل من يبغي مقاطعتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني واتفق أن عروة وفد هو وجماعة من الشعراء إلى هشام بن عبد الملك فتبينهم فلما عرف عروة قال ألست القائل: لقد علمت: الأبيات فاظرق عروة ملياً ثم خرج من فوره ذلك فركب ناقته وخرج إلى الحجاز فافتقده هشام فلم يره وسأل عنه فقيل له راح إلى الحجاز فندم على ما كان منه وقال أنه شاعر ولسنا نأمن أن ينالنا من لسانه شيء فأرسل إليه بصلة جزيلة فوافاه الرسول بها حين وافى منزله بالمدينة فقال للرسول قل لأمير المؤمنين كيف رأيت صدقه في قوله - ومن شعر عرووة بن أذينة: إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوىً لها فيك الذي زعمت بها فكلاكما ... أبدى لصاحبه الصبابة كلها ولعمرها لو كان حبك فوقها ... وقد ضحيت إذاً لاطلها وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فادقها وأجلها لما عرضت مسلماً لي حاجة ... أخشى صعوبتها وأرجو ذلها منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها فدنا فقال لعلها معذورة ... في بعض رقبتنا فقلت لعلها رجع ما انقطع من أخبار السيدة سكينة (البقية تأتي).

الفكاهات والملح

الفكاهات والملح كاره الدنيا ما زال المستر اندرو ترفرتون منذ دب على صدر الوجود غريب الأحوال عجيب الأطوار تناقض أخلاقه أخلاق الخلق ويناقض بعضها بعضاً تحت ظلها الضئيل تلك المعاني الجمة والأمور الكثيرة - أعني كلمة شاذ والناس لحمقهم وجهالتهم ولضؤولة أذهانهم وضيق أفكارهم يرون كل ما خالف طريقتهم ونافى عادتهم أفناً وسفهاً ويحسبون غروراً وضلالاً أنهم على المنهج القويم والصراط المستقيم. فكل من حاد عنهم جار عن القصد. وما عن الرشد. والناس حيوانات عمي مقلدون من غير تأمل ولا استبصار. فهم كقطيع الضأن جلودها من أديم واحد وألوانها متشاكلة ويرى كل واحد منها حتم عليه أن يشبه سائر القطيع في كل أطواره وأحواله فيرد حيث ترد الجماعة ويصدر حيث تصدر ويقبل متى أقبلت ويدبر إذا هي أدبرت. فإذا أزعجها كلب فخافت وجب عليه أن يخاف معها فإن فرت حتم عليه أن يفر أيضاً. فإن بدأت الفرار بالظلف الأيمن وبدأه بالأيسر كان في نظرها جانياً مجرماً بل مختلط العقل به مس ولوثة. وقد اتفق أن المستر أندرو ترفوتون بدأ السير بين قطيع الآدميين بقدم مغايرة لتلك التي بدأ بها سائر القطيع فاضطغن عليه الجماعة هذه الغلطة وقاموا له بالمرصاد لا يدعون فرصة للتشهير به والنقمة عليه حتى ينهزوها ولا يتركون خصاصة للاقتحام عليه بالإيذاء أو يلجوها. فكان عندهم أعجوبة المهد هدف المدرسة. كرة القذاف في الكلية حيث جعل الأستاذ يشبه رأسه بسقف خلع منه حجر وإن سقفاً فقد أحدى لبناته لجدير أن ينهار إذا هو لم يصلح في أوان الإصلاح. والناس إن يبصروا سقف دار ينهدم لم يعجبوا وقالوا نتيجة إهمال: فما لهم إذا أبصروا سقف دار ينهدم لم يعجبوا وقالوا نتيجة إهمال. فما لهم إذا أبصروا سقف عقل ينقض - ملكهم العجب واستحوذت عليهم الدهشة ولم يفطنوا إلى أن السبب في ذلك هو إهمالهم وعدم مداواتهم خلل الذهن المعتل بأدوية الرأفة واللطف والمحاسنة والمعذرة والتجاوز والملاينة؟ ولم يكتف المجتمع بأنحائه بتلك المظالم على رأس أندرو ترفرتون حتى خيب آماله في كل عزيز ومحبوب - في الصديق والأخ والحبيبة. أعطاهم صفو الوداد وجزوه أقذاء البغض

وخولهم حسن الوفاء وأهدوه سوء الغدر وأنزلهم من قلبه مرعى كريماً. وارتعوه من لؤمهم مراداً وخيماً فلا غرو أن كره الناس وحنق على البشر وأصبح يقذى طرفه بصورة الإنسان وعاد نسخة أخرى لذلك البطل الخيالي الذي ألف عليه شاكسبير إحدى مصنفاته تيمون اتينا وإنما الفرق بين بطل الشاعر الأكبر وبين أندرو ترفرتون تيمون لندن هو أن الأول فر من لؤم العالم إلى شاطئ البحر وفر الثاني إلى كوخ منفرد بعراء لندن. وإن تيمون اتينا نفث حنقه وغيظه في إبداع الشعر وقذف تيمون لندن مراجم غضبه نثراً. وسكن قرية قد احتجبت عن الدنيا بأسوار عالية وانقطعت عن العالم بحائلين: حائل من الطوب والحجارة وحائل من النفرة والقطيعة. وأشيع عنه أنه أصبح أبخل الناس يشح بالسحتوت والدانق وليس الأمر كذلك ولكنه كره كل ملذة وزهد في كل منعم ومترف فأصبح لا يعرف فيم ينفق المال وأين وإن كان في العالم رجل يبغض المال. بغض الداء العضال. ويرى رنين القطع الذهبية كرنين ناقوس المنية فذاك هو اندور نرفرتون. واتخذ خادماً يدعى شرول كان أشد نقمة منه على العالم وبغضاً للدنيا ومنع داره أن تمس تربها قدم آدمية وتزعزع هواءها نغمة انسية. وأرسل لحيته وليحة خادمه وكان حمل اللحية إذ ذاك يرى آية على الجنون ولو عاش ترفرتون اليوم لما وصمت اللحية عقله وألقت الريبة على لبه ولكنها كانت تشين ولا شك سمعته وتلوث اسمه وكنيته وليست أنكر أن آراءنا في موضوع اللحية قد ارتقت اليوم وتحسنت وإن كان ينتظر لها رقي فوق ذلك ومنزلة أسمى. أو يحسب أحدكم أنه يتأتى لأحد موظفي المصارف المالية أن يجمع في وقت واحد بين لحيته ووظيفته؟ وكانت عيشة هذا الرجل وخادمه أشبه ما يكون بعيشة الرجل المتوحش في أوائل الزمن وطفولة الدهر. وكان مذهب المستر ترفرتون أن يقلل ما استطاع من معوله في شؤون الحياة والعيشة على معونة الناس الذين إنما يدعون المعونة في نظره دعوى كاذبة ويتخذونها ذريعة إلى الأذى والغدر والخديعة وكذلك أستغني عن خدمة الخضري بقطعة من الأرض وراء داره زرعها خضرا وبقولا. ولو فسح له الله في تلك القطعة لاستغني عن الفلاح وزرع حنطته بيده. ولكنه إن أعياه الاستغناء عن الزارع فلم يعيه عن الطاحن والخابز. فاستحضر رحي وقسم العمل بينه وبين خادمه فأخذ الطحين وأعطي الخادم العجن

والخبز. وجريا على هذه السنة كان يجلب اللحم قطعاً ضخمة فيأكلون منها جديدة ما شاء أو يقددان الباقي برغم أنف كل جزار: بقرى وضاني. وأما الشراب فقد رشيا منه بنبيذ الشعير وكانا يصنعانه بأيديهما وبهذا الأسلوب استطاع ذانك الرجلان - راهبا العصور الحديثة - أن يعطيا العيشة كل حق ويحرما معظم الباعة والتجار كل درهم. وكان كل منهما منفصلاً في جميع أمره عن أخيه لكل منهما مائدته وكرسيه ومجلسه ومتبغه وعباءته وكانت المراجل والقدور والصحاف مشتركة بينهما. ولم يكن لهما مواعيد غذاء ولا بسط ولا زرابى ولا مناضد ولا أسرة ولا صناديق ولا أدنى شيء من تحف الدور وآلة الزينة ولا خادمات للغسل والتنظيف والتنظيم والتأليف وكان أحدهما إذا أراد أكلاً أو شرباً تناول رغيفه وأخذ فلذة من اللحم فطبخها ولف هذه بتلك ثم نظف ثغره وارتشف ثغر كاسه من غير أن ينبس لرفيقه ببنت شفة أو يوميء إليه بنظرة وإذا جرى بخاطر أحدهما أنه في حاجة إلى غسل قميصه (وذلك نادر جداً) قام بنفسه إلى الحوض فغسله. وإذا اكتشف أحدهما أن جانباً من الدار قد تراكمت أقذاره عمد إلى سجل من الماء ومكنسة ثم اندفع يغسله كأنه وجار كلب. وإذا أراد أحدهما النوم تلفف في عباءته ثم انطرح على أحد مقعديه ونال من النوم ما شاء فربما كان ذلك في أوليات الليل وربما كان في أخرياته سيان عنده ذلك وذلك. وإذا لم يكن هناك عمل من طحن أو خبز أو غرس أو طبخ أو غسل أو كنس. جلسا متقابلين يطويان رداء الزمن بالتدخين من غير أن يتبادلا لفظة واحدة أو يقرع مسمع أحدهما صوت أخيه. فإذا فتح الله عليهما بالكلام تشاتما وكان حديثهما حرب رهان ومعركة لجائزة ختامها السب الصريح والقذع الفاحش. فمثلهما في ذلك مثل المتلاكمين يبدآن بالمصافحة ثم لا يلبثان أن يتقارضا من اللكزات ما يذهب عن وجه كل منهما صورة آدم. وكان شرول المنصور في كل هذه المعارك لانطلاق لسانه مما تقيد به لسان سيده من أغلال الآداب وآثار التعليم المدرسي. ولقد كان شرول وإن حمل لقب الخدمة السيد الآمر الناهي. بفضل سبقه المبين لرئيسه في جميع ميادين السباب والفحش وفضله عليه في آلات الاغتصاب والعنف. إذ كان أطول لساناً وأجش صوتاً وأعظم لحية. وعندى أن أضمن العقوبات وقوعاً عقوبة التياه الفخور. وقد كان ترفرتون أسرع الناس إلى الفخر

باستقلاله فلما وافته العقوبة أتته في صورة بشرية اسمها شرول. نزل المستر ترفرتون من أعلى غرف الكوخ ذات صباح إلى غرفة بأسفل الدار مما يسميه المتمدينونمنظرة ولكنه بلا اسم عند هذين المتوحشين. نزل إلى أسفل الكوخ يحمل على وجهه أشنع صور السخط والنكد وفي عينيه أصرم نظرات الكره والحنق. وكان طول الغم والحزن والبغضاء والحقد والمقت قد أنضب ماء محياه وعرق لحم صدغيه. وأخلق ديباجتيه. وأغار عينيه. وسربل وجهه سفعة وشحوباً وطوح بهيئته وراء سنه بمراحل فخيل شيخاً بالياً وما طوى بعد مسافة الشباب. نزل إلى أرض الدار أشعث أغبر غير مغسول الوجه متلبد خصل اللحية في جلباب كتان وسخ يضطرب عليه من فرط السعة وقلة الإحكام كأنه الجوالق. فكان ذلك الرجل الشريف المحتد الناصع النسب نجل العلية الأمجاد. وسليل السادة الأجواد. يبدو كأنه خرج إلى العالم في أعماق السجون وجعل حرفته بيع الأطمار الخلقة والأسمال الرثاث. وكان مغلقاً فوق المدفئة بالموضع الذي تعلق فيه المرآة في دار متمدينة قطعة من فخذ شاة. وعلى المائدة رغيف خشن غليظ أسمر وفي ركن الغرفة راقود من نبيذ الشعير. يتدلى فوقه من مسمارين على الحائط قد حان من الخشب مثلمان مشققان وكان ملقى تحت التنور شباك شواء كأنما قد نبذ النواة عقب استعماله آخر مرة. فأخرج المستر ترفرتون من جيب جلبابه سكيناً وضراً فأخذ فلذة من اللحم ثم ألقى الشباك على النار وأنشأ يشوي طعامه. وما هو إلا أن قلب الفلذة على الجمر حتى فتح الباب ودخل شرول في فمه متبغه يحتثه سائق الجوع مثل سيده. وكان شرول قصيراً لحيماً رهل اللبات أصلع بطيناً. قد عوضه الله من ناصيته لحية وحفة كثيفة حقق الله في فرعها الجثلين السبطين البالغين ثندوتيه آمال زارعها وغارسها (هو السيد ترفرتون). وكان عليه (الخادم) رداء مزدوج الذيل أصابه في سوق الاطمار وقميص كأنه صفحة من تاريخ الأولين وأزار قد لبسه الدهر طفلاً. وجذاء لا عهد له باليرندج منذ نفض منه اليدين الصانع قد قلصت شفتاه حنقاً على البشر. بين محاجره جذوتان تتقدان: يدير حجاجاه إذا الليل جنه ... شهاب لظى يعشى له المتنور ولو أن مصوراً أراد وجهاً آدمياً قد جمع بين لوائح البطش والقوة والقحة والقبح والفظاظة

والغلظة والمكر والحيلة لما وجد أجمع لرغباته. وأوعى لطلباته من وجه المستر شرول. ولم تخطر بين الرجلين كلمة تحية ولا مر بينهما صوت السلام ولا شعاع البصر. ووقف شرول صامتاً مفكراً ينتظر نصيبه من النار ليطبخ طعامه. ولما فرغ السيد من شي فلذاته أتى بها المائدة وأخذ نصف الرغيف وشرع يأكل ولم بلع أول لقمة تنازل لأن ينظر في وجه شرول الذي كان إذ ذاك يجرد نصل سكينه ويدنو من فخذ الشاة المعلق بخطوات ثعلب وعيني ذئب. فقال ترفرتون وأشار إلى قميص شرول إشارة المندهش المنكر قبحك الله أتلبس قميصاً نظيفاً! فتصنع شرول الرقة وتكلف الظرف وأظهر أنه حمل كلام ترفرتون أحسن محمل فقال أنا إن لم ألبس لهذا اليوم قميصاً نظيفاً فلا لبسته أبداً. أما تدري يا سيدي أن هذا هو اليوم الذي تستأنف فيه عدد سنيك أبقاك الله لأمثاله بأكمل خير وعافية وعساك حسبت أني ربما نسيت يومك هذا؟ كلا. وما كنت لأفعل. ولو نسيت نفسي. أبقى لي الله وجهك الحسن الجميل ما عمرك اليوم يا سيدي؟ ألا في سبيل الله عهد طفولتك إذ أنت مشرق الديباجة غض الاهاب مكتنز التنين حاظي البضيع يتلألأ قمر محياك فتبدو نجوم ثغرك وإذ رداؤك ومئزرك قطعة واحدة وفي جيدك طوق زينة تغرد فيه كما سجع في طوقه الهزار. وإذ يحيى بك الأضياف كما يحيون بالريحان وتتهادى الشفاه خدك المنتقب بالشفق كما تتهادى خد الصهباء في نقاب الزجاج. وإذ بين شفتيك من قطعة الحلوى الحمراء شفة ثالثة وإذ ي يدك اللعبة وفي جيوبك البلى! في سبيل الله أو في سبيل الشيطان ذلك العهد وتلك العصور! ثم لا تخش على هذا القميص أن أبليه بكثرة اللبس فإني أريده ليوم جنازتك الذي قد حم أو كاد. أو ليس كذلك؟ فأجاب ترفرتون قائلاً: لا تخسر قميصاً نظيفاً من أجل جنازتي فما تركت لك في تركتي نصيباً ولا ذكرت اسمك في وصيتي. فمتى سير بي إلى القبر سر بك إلى ملجأ المساكين. فقال شرول متصنعاً شدة الاهتمام والعجب أو قد كتبت وصيتك يا سيدي معذرة أيها الهمام إذا قلت لك أني ما زلت أراك تذعر من هذا الأمر. فأصاب شرول بكلمته هذه موقع ألم من نفس سيده حتى قرع السيد المائدة ونظر إلى شرول

مغضباً. وقال: أذعر أن أكتب وصيتي أيها الأحمق! أنا لا أذعر من ذلك ولا من الحمام فاغراً فاه متلعاً جيده. بيد أني لم أكتب وصية قط وما كان ذاك من مذهبي. وكان قد فرغ شرول من غذائه وأخذ يصفر وعاود ترفرتون الكلام فقال بلى ليس من مذهبي أن أورث دانقاً من ثروتي رجلاً من البشر. فإن الأغنياء الذين يتركون وراءهم تراثاً للورثة هم زرعة الشر وغرسة السوء. وإذا كان لامرئ جذوة مروءة تلتهب في قلبه فأردت إخمادها فأورثه مالاً. أو رأيت شريراً فأحببت أن تزيد شره فأورثه مالاً أوشئت أن تجمع فئة يكون عملها الفساد وشأنها الفسق والفجور والنكر فأورثهم مالاً وسمه إمدادا خيريا. أو كان لك فتاة فوددت أن تزوج من شر الناس طرا فأورثها مالاً. أو أردت بالفتيان والشباب الداهية الدهياء فأورثهم مالاً أو سرك أن تترك الشيوخ مصايد لقاذورات الخليقة وحشرات الأنس وبغاث الناس وأراذلهم فأورثهم مالاً. وإذا أردت أن تقطع الرحم وتفصم عرى المودات وتجذم أسباب القرابات. وتترك حرباً عواناً بين الابن وأبيه. والأخ وأخيه. والصهر وحميه. ورب البيت وكل من فيه. فاترك لهم مالاً. اكتب وصيتي! تظن أن كراهتي للنوع قد بلغت كل هذا؟ كلا إني وإن كنت قد نزعت في قوس تلك الكراهة فإنه ما زال بعد في القوس منزع. وإن اك قد كرعت في كاس تلكم البغضاء نهلاً وعلا فما اشتففت بعد الصبابة. وما كنت مهما بلغ حنقي على أبناء آدم لأنزل بهم مثل ذلك البلاء! وهنا أخذ المستر ترفرتون الزق وملأ قدحاً فشربه. وأرث شرول النار وقلب عليها فلذة الضأن وضحك في خفية. فسمع ضحكة ترفرتون وقال مغضباً لمن ترى أيها السفيه أترك ثروتي؟ ألاخي وهو الذي يحسبني وحشاً ضارياً؟ أم لابنة أخي - القينة الممثلة شمعة المسارح ومحط أبصار الرجال؟ - تلك الابنة التي تشأت على كراهتي فإن لبست على الحداد أسود حالكاً لبس فؤادها السرور أبيض ناصعاً؟ أم لك أترك ثروتي يا أيها القرد في جلدة إنسان! أنت الذي لا تكاد تنفض يديك من تراب قبري حتى تبني حول ذهبي وفضتي مصرف مرابي شره يمتص دماء الناس مع أموالهم وينشب مخلبيه في الأرملة واليتيم والشقي والمنكوب ويترك

عباد الله يئنون من وطأة الدين تحت جبل راسي وحز مواسي على صحتك يا مستر شرول واعلم أن الذي من عليك بنعمة الضحك لم يدعني منها عطلا - ولاسيما حين يلهمني أن أخرجك من ثروتي صفر اليدين أو بخفي حنين. وهنا أخذ الغيظ يسري في أحشاء شرول وانكشفت تلك الدماثة التي تصنعها عندما دخل الغرفة عن حقيقة خلقه من القسوة الخشونة والجفاء ونضا صوته ما كان قد تنكر فيه من غلائل الرقة عن حقيقة تكوينه من الغلظة والشدة وقال وقد جلس إلى طعامه حسبك مزاحاً وهزلاً وأي فائدة هناك في تكلمك عن مالك كلاما لا يعمل به ولا يسري؟ فسوف يرثك فيه ولا شك الوارث. قال ترفرتون سأتركه لمن أجده للمال مبغضاً محتقراً فلا قبل للمال بإفساد خلقه. فقال شرول أعني تتركه لغير أحد. قال السيد بلى قد أعلم ذلك. قال شرول ملحاً ولكن ذلك لا يكون أبداً ولا بد للمال من وارث. قال ترفرتون أترى ذلك مستحيلاً؟ عجباً! ألست حراً أفعل بمالي ما أشاء؟ أليس يمكنني أن أحوله جميعاً أوراقاً مالية أشعلها ناراً قبل ممات فأخرج من الحياة أحمد الله الذي مهد لي أن أتركها وما تركت بها ما يزيد شرها شراً؟ - وحسبي من العزاء ذلك! نقلاً عن قصة السر الميت للقصصي الشهير ولكي كولنز

المستر دير

المستر دير أو منتهى الذهول كادح صديقي دير من طول صحبة الكتب يصير كتاباً ولقد بصرت به منذ أيام واقفاً إلى جنب وعاء فيه كتب وهو صامت ساكن لا حراك به فوددت والله لو حملته إلى مكان التجليد فجلدته في أنفس الجلد المسكوفى ووضعته في المكتبة إذن لازدانت به المكتبة وحسبه الناظر قاموس جونسون أو إحدى مجلدات دائرة المعارف. وهو كثير الذهاب إلى معاهد العلم يقضي كثيراً من زمنه في التردد بينها وبين نزل كليفورد حيث يقطن بين أشابه خبيثة من المحامين وكتبة المحاماة والسماسرة - أفاعي القانون وذئابه - كأنه الحمامة المخفوضة الجناح في عش الغربان وقد نجاه صمته وانقباضه من شر ذلك الخليط وأنزله بنجوة من مخالب القانون وبمأمن من ابره وحماته تهب من فوق رأسه زوابع القضاء فلا تضيره وماذا تنال الضائرات من رجل لو زلزلت الأرض حوله وقامت الساعة ما أحس وما شعر فكان سكان النزل يرونه صباح مساء ولا يخطر ببال أحد أن يمسه بسوء اللهم إلا إذا استطاع الإنسان أن يمس بالسوء معنى من المعاني قد جرد حتى من اللفظ والصوت. وارتاع صديقي دير عند ما طلعت عليه في دار الكتب وليس ارتياعه لبغت المقابلة أو لأنه لم يك يتوقع لقائي بمثل ذلك المكان بل لأنه أشد الناس ذهولاً والرجل الشديد الذهول يروعه كل ما يهيب بعقله من عوالم الخيال ويوقظه من غفلة الذهن ومن آيات ذهوله أنه قصد منذ أيام دار صديقنا في ميدان بدفورد ولما بلغ الدار علم من الخادم أن أهلها قد رحلوا إلى مصيفهم بالريف ثم سيق إلى غرفة الجلوس بالمداد والقلم فدون اسمه في دفتر الزوار وحي الخادم معلناً أسفه وغمه ومضى وما هي إلا ساعة أو اثنتان حتى عادت به تجولاته إلى جوار تلك الدار فذكر أهلها وطيب عيشهم واشتعل خياله بتلك الذكرى فعمد نحو الدار مرة أخرى من حيث لم يشعر أنه قد زارها منذ ساعتين وقال له الخادم ما كان قاله قبله من غياب الأسرة وأبدى هو من الأسف والغم ما أبداه قبل وطلب من المداد والقلم ما كان قد طلبه قبل وجيء بالكتاب الذي جيء به قبل وإنه ليضع شفتي القلم على خد الطرس ليكتب اسمه وإذا بنفس ذلك الاسم ينظر إليه نظر الساخر الضاحك! فأصابه من الرعب ما يصيبك

إذا باغتك شخص نفسك وفاجأك خيالك من غير مرآة وقد عاهد دير نفسه أن لا يسترسل في الذهول إلى هذا الحد وأملي أن لا يكلف نفسه مؤنة الوفاء بعهده. وذلك لأن غياب المستر دير عن نفسه إنما هو حضوره بين يدي الله فإذا مر بك وعيناه تلقاء وجهك فلم يرك ومضي في طريقه كأنه لم يعثر بإنسان فاعذره واعلم أنه في تلك الدقيقة بمحراب الله في بيت المقدس أو طائف يدور بأضرحة الأنبياء ومقابر الأولياء والشهداء أو ربما كان في هذه اللحظة مع أرواح الفلاسفة أفلاطون وأرسطو وهارنجتون يفكر فيما عسى يرفع أمتك وبني جنسك جميعاً في مرقاة التمدين والسعادة. وكان المستر دير بدأ أعماله بعد تدآب الدرس وجهد المذاكرة مدرساً مع ناظر مدرسة فظ غليظ القلب جامد الكف جعد الأنامل مظلم الجناب موحش الكنف لا تندى راحته ولا يبض حجره بمرتب شهري قدره ستون قرشاً خلاف الأكل والشرب والمسكن وما حدث قط أنه أخذ أكثر من نصف ذاك المرتب البخس مدة إقامته مع ذلك الناظر السافل الوغد وكان إذا أثخن الدهر في ثيابه وأطل الفقر من خروق سراويله لدى الركبتين ومن نوافذ ردائه عند المرفقين فاضطر برغم خجله واحتشامه إلى التعريض بذكر المرتب النزر تشاغل عنه الناظر اللئيم وتغافل حتى إذا قام بعد العشاء بين التلاميذ واعظاً وخطيباً لم ينس أن يذكر في عرض كلامه جملة عن فوائد الفقر ومزاياه ومضار المال وبلاياه خاتماً مقالته بقول الإنجيل اللهم اكف عبادك الصالحين شر الثراء ونقمة الطمع! وما يماثلها من الآيات والجمل - فكانت لسائر الطلبة حكماً وعظات وكانت لصاحبنا دير وصلا كاملاً بجميع المتأخر له لدى الناظر.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة تاريخ حرب فرنسا مع ألمانيا أهدى إلينا الفاضل يوسف أفندي توما البستاني نسخة من كتاب بهذا العنوان فتصفحناه فوجدناه أوفى كتاب عربي لتلك الحرب المعروفة بحرب السبعين التي نشبت بين فرنسا وألمانيا سنة 1870 وكان قد وضع تلك المقالات الممتعة الفاضل البحاثة جرجي أفندي يني الطرابلسي صاحب مجلة المباحث ونشرها تباعاً في مباحثه فنهض اليوم يوسف أفندي توما وجمع مفرقها وطبعها على حدة في سفر تبلغ صفحاته نيفاً ومائتين فحبذا لو أقبل عليه محبوا الاطلاع على أسباب تلك الحرب ونتائجها ووقائعها وقيمة الكتاب عشرة غروش مصرية عدا أجرة البريد ويوجد في مكتبة البيان وفي سائر المكاتب. ديوان القاياتي يوجد بين ظهرانينا الآن شعراء مجيدون لا يكادون يتخلفون عن أولئك الذين ملأوا الدنيا شهرة والله يعلم أن شهرتهم هذه إنما كانت على الأكثر من ناحية أنهم هم أنفسهم يتكالبون عليها ولا يدعون وسيلة يتوسلون بها إليها وليست الشهرة عند العاقلين دليل الفضل كما أن الخمول ليس دليل التخلف - ومن بين أولئك الشعراء المجيدين الذين لم ينالو من الشهر كفاء استحقاقهم الأديب الكريم السيد حسن القاياتي (بالقاف لا بالغين) أحد خريجي الأزهر والمنقطعين إلى الأدب - وقد أهدى إلينا أخيراً ديوان شعره فنظرنا فيه فوجدنا الشاعر كثير الغوص على المعاني غير غافل مع ذلك عن اللفظ وإلى القراء قطعاً مختلفة من شعره. من قصيدة وهو في الوصف: ثم تقدمت في توق ... كواطي صفحة اليماني أرى نجوم الظلام فيه ... شتى رقاع بطيلسان ومنها في الترام: يرمى بأشباحنا إليها ... جم التلوى كافعوان يسوقه قائد خفي ... كأنه الحب في الجنان ومنها:

مجلسنا مسرق أنيق ... حديثنا فيه ذو افتنان يضفو علينا بديع نبت ... ككلة رقشت لباني يخال والطير فيه شاد ... ستور خزٍ على قيان كأنما الورد في ذبول ... جفون سكرى من الغواني وفي وصف الساعة: ومضمرة لهذا الدهر بغضاً ... يزيد على الزمان ولا يبيد تعدد ساعه حقداً عليه ... كذلك يصنع الحنق الحقود وما تنفك عن أنات صبٍ ... أقام بصدره وجد شديد وإن أحشاؤها اضمرن سراً ... يشافهني به وجه ودود ينم على الذي تخفيه فيها ... كما نمت على الخجل الخدود ويفضي بالسرائر من حشاها ... لسان ذو براعات حديد فكانت مثل ذي ود حميد ... يفوز بسره أخٌ حميد وتقضي الليل تسبيحاً بحمدي ... ترن وكافروا نعم رقود ومن ثانية في وصف التصوير: سمت لك بعد النوى صورتي ... كما واصل المولع المولع بعثيت بها لا تريب الرقيب ... وليست كعهدك بي تجزع تناجيك وهي صموت اللسان ... بما يشتكيه الحشا الموجع كذى الحب كتمه جاهدا ... فأظهر تبريحه المدمع حكتني لديك كما تنظري ... ن مرآة معجبة تلمع هي الجسم أثأر منه الجفا ... خيالاً مرائيه يسترجع لقد طلب الدهر مثلي علا ... فأتعبه النادر المبدع فأطلع من صورتي حاكياً ... وأعجزه خلقي الأرفع شهدت على ربها أنه ... ليحكي يد الله إذ يبدع إذا شاء صور طيف الخيال ... على أنه مجفل مفزع ولو شاء صور سرى الذي ... تكن الضمائر أو تودع

وطبٌ بتصوير وحي العيون ... تشكو جوى الحب أو تضرع يكاد يمثل في صورتي ... خفوق فؤادي كما يسمع ويجلو عليك ندوب الفؤاد ... ونار حشاي التي تلذع ويجلوك ماثلة في الضمير ... يحنو على شخصك الموضع ومنها في وصف آلة التصوير وحاكية من صنيع الفرنج ... ة أبدع في صنعها المبدع أظل إذا زرتها ساكناً ... لديها وقوف الذي يخضع وتقبل مني طويل الخشوع ... قبول صلاة الذي يخشع أهابت بظلي فلبى الدعاء ... مطيعاً كما يؤمر الطيع يقيم بأحشائها كالجنين ... إذا حان مولده يوضع ومن ثانية في وصف الفنوغراف: إيه رفيقي والرفيق مساعد ... في الصدر هم قد أقام وخيما فأذن لمسمعه الغناء تداوه ... إن شئت أن يحي بأن تترنما أشتاقها فكأن فيها مغرما ... ذهبت حشاشته يطارح مغرما ومنها: تصغي إلى قول المحدث مثل من ... يصغى لسر جليسه متفهماً وتصونه في القلب نقشاً لا كمن ... يلفي بسر خدينه متبرماً فمتى ترد يكن الحديث مسيرا ... ومتى ترد يكن الحديث مكتما ليست تعاب إذا حكتك بكذبة ... أويكذب الرسل الكرام على السما نقل الهواء لها الغناء فأقبلت ... تقرى المسامع منه درا نظما كالنحل يجني النور غضاً يانعاً ... فيرده أريا يلذك مطعما تقريك صوتاً لست تبصر ربه ... كالمنشد المطراب حين تلثما تتلوها تلك الصحائف إبرة ... هي غادرتها كالكتاب منمنما فعل الوليد إذا تقري لوحه ... أوحى بأصبعه إليه ليحكما ومن أخرى في وصف التليفون:

رب بشرى قد ساقها لقلوب ... مقفرات من السرور يباب فكان كالريح إذ تحمل الطل ... ع إلى عاطل من الثمار العذاب قرب الموقف الذي أنت فيه ... للمكان القصي كل اقتراب فغدا كالهوى يضم قلوب إلا ... حباب ضماعلي نوى الأحباب ومن ثانية في وصف راقصة والردف منها ناهد ... مثل الكثيب الملبد يزيد أحياناً وتن ... هاه عن التزيد تقلب الأمواج ب ... ين رائح ومغتدى يتبعها في رقصها ... خفق فؤادي الموقد فنفسي مردداً ... كرقصها المردد وجمر قلبي موقداً ... كخدها المورد رفيقة المس فهل ... تكحل عين أرمد تلقى الثرى بأخمص ... ما قر بل لم يكد فهل تدوس منصلاً ... عضب الشبا لم يغمد وفي وصف الطيران والطيارات ولو كنت لاثام لم أحتمل ... صنيعه ما طار من جنده شهدت له طيرة أوشكت ... تريني المجرة من ورده تعالى فأية نفس هناك ... عثايا المباراة لم تفده ترى كل قلب يطيل الخفو ... ق كأيدي المصفق في حمده ألا ليت شعري ماذا ابتغي ... من النجم أو شاء من عنده رآنا نصوغ عقود الثنا - ء فود الدراري في عقده هذا ما وقع عليه النظر بعض ما عثر به الاختيار من ديوان السيد القاياتي فنحتث المتأديين على اقتنائه وثمنه خمسة قروش مصرية ويباع في مكتبة البيان.

تاريخ الإسلام

تاريخ الإسلام المقدمة الثانية في الأديان نحن الآن بمعرض تاريخ الإسلام بمعرض تاريخ الإسلام دين من الأديان وقد نبع بين أمة كانت تدين قبله بدين وكان لكل جيل من العالم وقتئذ دين كذلك فجاء الإسلام واشتهرها وسفه أحلام أهليها ومحاها كما يمحو النور الظلام فكان حقاً علينا لذلك أن نلم إلمامة بالأديان التي كانت معروفة قبل الإسلام ولاسيما ما كان منها ذائعاً في جزيرة العرب وما ضاقبها حتى نكون على بصيرة تامة بالحركة الدينية في تلك الأعصر ونعلم هل كان هناك حاجة إلى دين صحيح ينتاش أهل تلك الأوقات مما هم مرتطمون فيه ويهديهم إلى صراط مستقيم - وحتى يتجلى لنا كثير من تلك الاصطلاحات الدينية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وعلى لسان السيد الرسول عليه الصلاة والسلام وفيما يمر بنا من التاريخ الإسلامي من مثل يهود ونصاري وصابئة ومجوس ومشركين ومن مثل بد وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وهبل ومن مثل بحيرة ووسيلة وحام إلى أمثال تلك الأسماء التي نجهل كثيراً من مسمياتها كما هي في الواقع وفي عرف الإسلام. إن الدين عند الله الإسلام وهو الذي أوصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى وأوتي النبيون من ربهم وأوحي بعد ذلك إلى خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. فدين الله واحد وإنما تتفاوت صوره وتتباين أشكاله بتباين استعدادات الأمم وما تمثله به أمزجتها وتكيفه به طبائعها وتدخله عليه من ضروب البدع وأفانين الأوهام. دين الله واحد وكذلك الحقيقة واحدة وإنما تتعدد ظواهرها بتعدد الأزياء التي تتزياً بها وكثرة ما تحلى به من صنوف الزخارف وأنواع الزينة (وإن كانت زينة كشينة) حتى تتوارى الحقيقة بالحجاب ولا يكون هناك إلا الزخرف والثياب. دين الله واحد لأن ينبوعه واحد - ينبوعه ذات الإله المقدسة وما الأنبياء والمرسلون إلا مبلغون عنها ما فيه صلاح الإنسان متضافرون على طريق هذا الصلاح لأنهم من عند الله الواحد لا من عند أنفسهم مرسلون. دين الله واحد وهل هو غير الفضيلة وكما الإنسان وأن يكون بحال من التقى والصلاح

تستدر عليه أخلاف السعادة وبلهنية العيش وتنفى عنه أكداره. ما هو الدين؟ هو كما أسلفنا وبعبارة أوجز وأجمع (الإسلام) وليس قولنا الإسلام كقولنا الإسلام والنصرانية واليهودية والمجوسية والصابئة والبوذية وما إلى ذلك وإنما هو كما جاء في القرآن الكريم وكما يشعر مدلول اللفظ أن تسلم وجهك لله وتخلص إليه التوحيد والعبادة وما يستتبع ذلك من الخلوص والتقى والصلاح وفعل الخير والتنكب عن الأذي والضير: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعن وقل للذين اؤتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد: لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه - والإسلام هكذا هو الدين الحنيف دين إبراهيم وموسى وعيسى وسائر النبيين بل هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبوراً ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك} {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. أما ما أصار الدين أدياناً وجعله فرقاً وألواناً وأوجد هذا الاختلاف المبين وذلك التعدد المشين فإنما هو ضيق الفكر الإنساني وما جبل عليه البشر من الطمع والأثرة وما يريده القائمون بأمر الدين لأنفسهم من الهيمنة والسلطان والاستبداد بالعقول وما يصيب العقول في بعض الأحايين من الانحطاط والوهن وما يتسرب إلى الأذهان من الأوهام والأفن حتى يستحيل كل ذلك على كر الغداة ومر العشى ديناً وما هو بدين. لذلك كانت هناك ملل ونحل ومذاهب وأديان: ولا يزالون مختلفين الأمن رحم ربك أسلفنا أن الدين عند الله الإسلام وأنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها فكان من البديهة لذلك إن الدين وجد مع الإنسان إذ لا حياة للإنسان بلا دين كما لا حياة له بلا قلب - وجد الدين مع الإنسان الأول ولكن لا في تلك الصورة التي نعرفها نحن وإنما في صورة هي أبسط وأليق بعقل الإنسان الموحش القديم وللعلماء في ذلك أي في ما هو أول معبود للإنسان وما الذي دفعه إلى التدين آراء مضطربة ومذاهب متناقضة لصعوبة أن يعرف

المؤرخ ذلك معرفة يقين وأن يعلمه علماً ليس بالظن فمن قائل أن أول ما عبد الإنسان آباؤه وأجداده وذلك أنه لما رأى ريب المنون يتخطف من كانوا معه من أهليه وذوي قرباه ولم يدرك ما هنالك من بعث ونشور خاف موتاه ثم عبدهم - ومن ذاهب إلى أن الإنسان استهول قوي الكون وخافها فساقه خوفه إلى التماس آلهة يذهبون عنه الروح فجعل يعبدها في الأنهار والأشجار والشمس والقمر وسائر الكواكب وما إلى ذلك فأفرخ ذلك من روعه وسكن من خوفه - وقريب من هذا ما قاله آخرون من أن الإنسان لما أحس ضعف نفسه وضؤولته حيال هذا الوجود وضخامته حاول التماس المعونة فيما يعالج من شؤون الحياة فطفق يقدس ما يظنه الها أو ما فيه روح من عند الله ويتقرب بالقرابين والذبائح وكل ما يظنه مجتلباً رضاء الآلهة ومعونتهم - أما ما ذهب إليه أكثر النظار من المتقدمين والمتأخرين وكات تتفق عليه كلمتهم فهو هذا. فرض الفلاسفة أنه لو ولد إنسان في جوف الأرض فترك ثمت حتى بلغ أشده وكمل عقله ثم اخرج بغتة إلى ظاهر الأرض فإذا الشمس بارزة في موكب لألائها نهاراً وإذا الكوكب الوقاد قد طلع له ليلاً كأنه ماسة تلتهب بلألاء أبهر مما نرى نحن - نحن الذين حجبت الألحاد والكفريات - فيشرق الكوكب في نواحي نفس ذلك الإنسان كما يشررق في نواحي الأفق ويظهر كأنه مقلة في وجه السماء تنظر إليه من أعماق الأبدية وتنم له عن رونق السر الأزلي القديم - ألا ينظر هذا الموحش إلى هذا المنظر الباهر كما ينظر الشاعر وإن لم يقدر على القصيد ثم ينفذ بصره الثاقب إلى ما أودع الله ذاك المشهد من روعة الجلال فيخر له ساجداً. فهذا هو أصل غريزة الدين وهذا هو ما كان من الإنسان الموحش القديم حتى إذا دبت الأيام ودرجت الليالي وجاء اللاحق على أثر السابق وتلقي عنه دينه وتقاليده محرفة غير منظور فيها إلى اللب والجوهر كما هو الشأن في التقليد والمحاكاة وتلوثت فطرة الإنسان وضعف إدراكه ونمت فيه غريزة الطمع والأثرة أخذ هذا السر يتضاءل وذلك الشعور الفطري السليم يختفي وقامت الأصنام والتماثيل مقام هذه المخلوقات السماوية القدسية فإذ ذاك يرسل الله أناساً ذوي بصائر نافذة وقلوب ذكية ثاقبة يفطنون إلى انحراف الإنسان عن الجادة ويقيمونه على الطريق المتسقيم وهكذا أرسل الله الأنبياء والرسل تترى لئلا يكون

للناس على الله حجة بعد الرسل فمن الناس من استرسل في غوايته وتشبث بتقاليده وعادته ومنهم من أنار الله بصيرته وعرفه الحق فانتهج محجته ومنهم مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن هنا بقيت على الأرض أديان كثيرة وعاشت أدهاراً طويلة وقصيرة (متلو). {وتلك الأيام نداولها بين الناس} بالأمس كانت العرب تغزو إيطاليا وتفري في أحشائها واليوم تغزو إيطاليا بلاد العرب وتعالج امتلاكها وليس يعلم إلا الله ماذا تلده الليالي فربما غزى العرب إيطاليا كرة أخرى. (للبيان كلمة بهذا العنوان ألم فيها بما كان بالأمس من فتوحات العرب في إيطاليا وما يكون الآن من إيطاليا في بلاد العرب وكلمة في تقويم طرابلس وتاريخها وقد كانت النية أن تنشر في هذا العدد بيد أنه لم تتسع لها صفحاته فأرجأناها إلى العدد الخامس واجتزأنا بنشر خريطة طرابلس وبرقة في هذا العدد وكذلك أرجأنا موضوعات وفيرة كثيرة من بينها شذرات فلسفية وباب النقد والتقريظ وتدبير الصحة وأخبار العلم ومقالات مختلفة لكتاب كثيرين - أرجأنا كل ذلك للأعداد التالية).

فصول من كتاب الأبطال

فصول من كتاب الأبطال فصل من مقدمة الباب السادس الذي عقده كارليل للكلام عن كرومويل ونابوليون بونابرت وقد تعرض هنا مسائل خطيرة ومباحث معضلة يمنعنا من طروقها ضيق المجال. وإنما نذكر كلمة شبيهة بكلمة (بيرك) حيث يقول (إسناد القضاء إلى نخبة من القضاة يشتركون في إصدار الأحكام هو روح الحكومة) فكذلك نقول نحن أن خلاصة أعمال المجتمع الإنساني سواء سارت على طريق الخطأ أم على منهج السداد هو الاهتداء إلى أعقل رجال بلدك وأفضلهم وأحزمهم ثم تقليده الحكومة والسلطة وإعطاؤه الخضوع والطاعة حتى يستطيع بذلك أن يهدي الناس حسبما يلهمه عقله ويوحي إليه فؤاده وإنما إلى ذلك قصدت البرلمانات وخطبها ولوائح الإصلاح والثورات فرنسية وغير فرنسية. اهتد إلى أعقل رجال بلدك وأكفئهم وأرفعه إلى المكان الأعلى وبجله وأكبره تحرز لبلادك خير حكومة. وإنك إن تفعل هذا فقد بلغت المدى وكل شيء بعد ذلك فضول ولغو. فإن أعقل الرجل هو أيضاً أكرمهم وأبرهم وأرحمهم. وليس فوق نصحه نصح. وقول الإمام امام القول. وكل ما يأمرنا به فهو ولا شك أحكم وأليق وأعلى ما نستطيع أن نجده تحت قبة الفلك. وهو ما يجب علينا أن نأتمره ونصدع به مع الحمد والشكر! وتلك الحكومة هي الضالة المنشودة والغاية القصوى. أقول الغاية القصوى والله يعلم أن الغايات تبلغ بالأمل. ولا تنال بالفعل وللأماني جياد سابحات تسبق وفد الرياح يرسلها الفكر في مضمار الوهم فتطير بأجنحة الرجاء إلى كل غاية أبعد منالاً من الثريا فإذا طلبت تلك الغاية بافراس العمل في ميدان الحقائق قامت العقبات. واعترضت النوب والآفات وسقطت الجياد أثناء المضمار طلحاً أنضاء جسرى من الجهد والإعياء. دامية السنابك من الحفا مهزولة الأعطاف من الأين والوجى. وكذلك تبقى الغايات من طعمة المنى سخرة الواقع كالخيال في المرآة يبيح العين ما يمنع الكف. أو كالسماء وكل ما زينت به ... وكبعدها وكقربها من لاق وأنا وإن استحال علينا أن نبلغ الغايات. فحسبنا أن نأخذ في سمتها أو نقع منها على مسافة ترضي وتسر! ولا يفعل أحد من الناس ما نهى عنه الشاعر الألماني (شلر) إذ قال (المرء

تلقاء الحوادث ضعيف فلا يقس أحد منكم مجهوده النزر القليل بمقياس الكمال) ومن خالف هذا القول كان مريض العقل بداء السخط مأفون الرأي مصدوداً عن الحق. ولكن لا ينس المرء مع ذلك أن تجعل الغاية نصب العين فإنه لا يقوم عمود صلاح الدين والدنيا على أساسه ويستقر في نصابه حتى ينزل الإنسان قريباً من الغاية فإذا لم يتم له ذلك انهارت دعائم الصلاح وتقوض رواقه. ونحن نعلم أنه ليس في العالم بناء يمكنه أن يشيد جداراً فيجعله في أقصى درجة العمودية أي أن يجعل الزاوية الحادثة بينه وبين سطح الأرض تسعين درجة بالضبط لا تنقص درجة ولا تزيد درجة كلا! فهذا مستحيل علينا فكيف باستحالته عملياً! ولكن إذا لم يدن البناء بالجدار من هذه الغاية بعض الدنو فأحر بجداره أن تنهار أركانه. وينهدم جثمانه. نعم إذا استهان بقانون العمودية وطرح مقياسه ومعياره وجعل يراكم الطوب بعضه على بعض بلا نظر ولا حساب كيفما اتفق فأجدر به أن تسوء عقباه ويشقي فإنه قد أغفل أمره ونسي نفسه. ولكن قانون التوازن - ناموس الطبيعة - لم ينس أن يسري عليه وعلى بنائه. وما هي إلا برهة حتى يسقط هو وبناؤه فيرتدا كثيباً مشوشاً ومعهداً خرباً! - وهذا هو أصل كل فتنة وتاريخ كل ثورة وحديث كل انفجار اجتماعي في الأزمان القديمة والحديثة أجل إنما سببها هو أنك وليت الرجل العاجز وجعلت غير الكفؤ على رؤس الأعمال! - الرجل الخسيس السافل الدنيء الكاذب. ونسيت أن هنالك قانوناً أو ضرورة طبيعية تستدعي تولية القادر الكفء وظننت أنه لا بأس عليك أن تراكم الطوب بعضه فوق بعض كيفما جاء واتفق بلا قاعدة ولا حساب. والرجل الكاذب إذا وليته كان جديراً أن يتخذ كل كاذب خبيث مثله ومن ثم يروح أمر الناس مختل النظام مبدد الشمل. تأكل جوفه الخيبة ويهدم أركانه الشقاء والبؤس. وترى الملايين من خلق الله قد اضطربت عليهم أمور دينهم ودنياهم واسودت في عيونهم ظلمات اللبس والحيرة فهم يمدون الأيدي استهداء ولا هادي ولا مرشد ويبسطون الأكف استعطاء ولا مانح ولا رافد. حينئذ ينفذ قانون التوازن حكمه وتسري نواميس الطبيعة وهي التي ما غفلت عن العمل طرفة عين. فتثور الملايين ويجن جنونهم. ويسقط البناء والبناء. إن من يفتش الآن المكاتب العامة والخاصة يلق بها أسفاراً ضخاماً. ومؤلفات جساماً.

تفيض في موضوع (حقوق الملوك المقدسة: ومعناه أن كل ملك مهما كان هو خليفة الله في الأرض قد ولاه الملك القدوس زعامة خلقه بعقد مقدس خفي فعقدت في رقاب العباد بيعته. ووجبت عليهم طاعته. واستحكمت في نفوسهم مهابته وخشيته) تلك هي عقيدة القرون الغابرة. ورأى آبائنا الأول. عقيدة دفنت معهم في قبورهم ورأي بان ببينهم. ومذهب عفت رسومه وطمس الدهر أعلامه ومجلدات كالقبور تبلى فيها أفكارها. وتنخر في أجوافها عظام محتوياتها. لا يزورها إنسان ولا يعوج بها مخلوق. وباطل لاح في ظلم الجهل ثم محا آيته نور اليقين. ودولة زور استقل نجمها ثم خوى واشمخر طودها ثم هوى. وأكذوبة أديل منها الحق. وإني مع ذلك لا أرى من كرم الطبع وشرف الشيمة أن نتبع ذلك الباطل المدبر لعناتنا. ونلحقه أهاجينا وشتماتنا. فحسبه هزيمته. وكفاه خزيه وفضيحته. بل أرى (ولا يعجب القاريء ولا يرع) أنه لا يحسن بنا أن نترك هذا الزور والمحال يمضي من غير أن نفتش أجزاءه ونفحص أنحاءه وأرجاءه. ونقلبه بطناً لظهر علنا نجد في ثناياه معنى من الحق وإن فيه لحقاً يجدر بنا وبسائر الناس ذكره. أما قول هذه المؤلفات أن أي إنسان تأخذه عينك من بين الناس وتمسكه يدك فتجعل على رأسه صفيحة من الذهب مكللة بالياقوت والزبرجد وتسميه ملكاً يرسل الله عليه في الحال شعبة من نوره ويمده بروح من عنده ويعمر فؤاده بأسراره القدسية ويؤهله في التو واللحظة لأن يحكم عليك حسبما تقتضي مشيئته فذلك حمق وخرافة وحسبه منا أن نتركه يبلي ويعفن في أجواف كتبه أو بعبارة أصدق أجواف قبوره. ولكني أقول - وهو ما عناه وأراده أرباب مذهب حقوق الملوك المقدسة وهو أنه يوجد في الملوك وفي جميع العلائق والمسؤوليات والسلطات التي تكون بين الولاة والرعية أما حق مقدس أو منكر شيطاني. لا بد من أحد هذين! إذ أنه من أفحش الخطأ والكذب ما قاله القرن السالف الكافر من أن هذه الدنيا آلة ومكينة. بل أن في الكون لألها وكل ما يجري بهذا العالم من حكومة وال وطاعة رعية بل كل عمل وحركة لا بد أن يبوء إما برضى وإما بغضب من الله. وأشرف ما يجري بين الرجل والرجل هو لا شك الحكومة والطاعة. والويل لمن يطلب من طاعة الناس ما لا يستحق ولمن يأبى أن يؤدي من الطاعة ما أوجبه الله عليه لزعيم أو أمير! بذلك يجري قانون الله المقدس مهما سنت شرائع البشر ونهجت نواميس الحكومات. نعم إن في كل دعوى يدعيها الرجل على أخيه

إما حقاً مقدساً أو منكراً شيطانياً. هذا أمر جدير بالنظر والتدبر. وخليق أن نذكره في جميع شؤوننا ولاسيما في أمر الزعامة والولاء أهم تلك الشؤون. وعندي أنه شر من مذهب حقوق الملوك المقدسة هو ذاك المذهب القائل أن العالم يدور على محور المصلحة الذاتية وتدبير الثورة وأنه لا معنى هناك مقدساً في تعاشر الناس وتخالطهم. وإني أكرر عليك قولي إنك إن تأتني بالملك القادر الكفء لأجعلن له عليَّ حقاً مقدساً. ولعل دواء أدواء الأمم في هذه العصور هو أن يوفقها الله بعض التوفيق إلى إيجد الملك الكفء وإن يلهمها طاعته والانقياد إليه إذا وجد! وإني أرى في الملك القادر - هادي الأمة في سبيل الأعمال الدنيوية - خلة الدين كذلك ومعنى القسوسية فهو أيضاً هادي الأمة في سبيل شؤونها الروحانية التي هي مصدر الشؤون الدنيوية فالملك لذلك رئيس الكنيسة أيضاً. ولندع بعد مذهب حقوق الملوك المقدسة يبلى في أجواف مؤلفاته أو قبوره لا نوقظ صداه ولا نستثير هامته. وحقاً إن التماس الرجل الكفء والحيرة في ذلك لمن أشق الأمور وأجسمها! وتلك هي آفة الأمم في هذه العصور والأزمة الحرجة. هذه أوقات ثورات. وإني أرى بناة شؤون الدنيا قد اطرحوا المقاييس والمعايير وأغفلوا قانون التوازن فانهار البناء بهم فإذا هم والبناء خليط أنقاض مشوش! وليست الثورة الفرنسة هي مبدأ هذا التهدم والسقوط بل لعلها الغاية والنهاية ولا نخطىء إذا قلنا أن المبدأ كان منذ ثلاثة قرون أي منذ نهضة لوثر. وكان داء العالم إذ ذاك تحول كنيسة الله أكذوبة ووقاحتها وصفاقة وجهها إذ تدعي لنفسها القدرة على غفران ذنوب العباد بالدرهم والدينار. وكان هذا مرضاً في الدين - داء في الروح والجوهر ومتى أدوى الجوهر واعتل الروح فأحر بالحسم والظاهر أن يفسد ويدوي - ثم تزداد فساداً ومرضاً. لقد كان الإيمان قد فني وباد وفاض الشك وتفشى الجحود والإلحاد. وطرح البناء معياره ومقياسه وقال لنفسه أي قيمة لقانون التوازن وأي فضل في الحساب والنظام. ضع الحجر على أخيه كيفما جاء واتفق ولا يعنيك أن نجشم النفس مراعاة قانون أو حساب! وكانت العاقبة يا للأسف كما تعلمون! -. وإني لأتبين اتصالاً طبيعياً والتئاماً تاريخياً ما بين مقالة لوثر إذ قال للبابا أنت أيها الملقب نفسه البابا أفكاً وزوراً ما أنت بأب في الدين ولا والد لنا في الله. إنما أنت أكذوبة يعجز

اللسان أن يجد بين الألفاظ المهذبة الرقيقة ما يليق بنعتك وصفتك! وبين صيحة الثورة الفرنسوية إذ علا بها ضجيج الثوار في قصر الإمارة يصيحون إلى السلاح: إلى السلاح. ولا يحسب الحاسبون أن هذه الصيحة الزعجة الجهنمية كانت شيئاً حقيراً أو باطلاً! كلا إنما كانت صوت الأمم النائمة هبت من رقاد كاد يخنقها أثناءه الكابوس - نعم صوت الأمم هبت من حالة بين الرقاد والموت. فبدأت تشعر أن الحياة شيء حق. وأن عالم الله ليس بمكينة تساس بالدهاء والمكر وتدبر بعلوم الاقتصاد والرياضة. نعم لقد هبت فأرسلت صيحة جهنمية - وإنما أتت جهنمية لأن طغاة الملوك وعتاة الحكام أبو ألا أن تكون كذلك. لقد هبت الأمم وقالت لا بد للأباطيل والأضاليل أن تنتهي ويخلفها نوع من الإخلاص كيفما كان. ولا بد لنا من عودة إلى الحق ولو جرت علينا أهوال ثورة فرنسية وجلبت على رؤسنا شر الفظائع وأشنع البلاء. هذه هي الثورة الفرنسوية - هي كما ترون حق ولكنه حق ملتفع في شواظ الجحيم ولظي جهنم! -. وكان قد ذاع لدى جماعات كثيرة من أهالي إنكلترا أن الأمة الفرنسوية كانت في تلك الأوقات (أوقات الثورة) قد جنت. وإن الثورة الفرنسوية كانت صنفاً من الجنون تحولت فرنسا وفرق عظيمة من سكان المعمورة أثناءه مارستانا. ذلك كان رأي العدد العديد من الإنكليز وفلافستهم أن الثورة كانت حريق جون شب ثم خمد وأصبح الآن في عالم الأحكام والأوهام والقصص والعجائب. والنوادر والغرائب! فليت شعري كيف كان وقع الثورة الثانية - ثورة 1830 في نفوس هؤلاء الفلاسفة الذين حسبوا أن الثورة الأولى كانت فلتة جنون وبيضة الديك وإن حديثها أصبح كحديث الخرافات لا يكاد يصدق؟ ماذا كان شعورهم حينما رأوا فرنسا قد ثارت ثانية إلى السلاح تكافح كفاح المستميت تذبح وتُذبح. وكل ذلك لتؤيد الثورة الأولى وتحفظ آثارها وأجدادهم ويأبون إلا تمسكاً به وإصراراً عليه. هم لا يبرأون منه إلى الله. بل يعملون على حفظ أثره. واستنتاج ثمره. باذلين الدماء والأرواح في سبيل ذلك. ولعل في هذا الحادث (حادث الثورة الثانية) أكبر مصاب لأولئك الفلاسفة الذين أسسوا مبدأهم وشادوا مذهبهم على أن الثورة الفرنسوية فلتة جنون تبرأ منها فرنسا ولا يعود بها الزمن أبدا. نعم إن في ذلك الحادث نكبة لأولئك الفلاسفة حتى لقد ذاب قلب الأستاذ المؤخ الألماني نيبور كمداً وتقطعت نفسه حسرة لما بلغه نبأ هذا الحادث. ثم اعتل

على أثر ذلك وقضى نحبه قتيلاً بداء الأيام الثلاثة (هو اسم ثورة 1830) وما هكذا تموت الرجال! ولست أشبه هذه الموتة إلا بموتة الشاعر الفرنسوي الكبير (راسين) الذي قتله أن لويز الرابع عشر تجهمه مرة ورمقه شزراً فياليت الأستاذ الألماني علم أن الكرة الأرضية صلبة جلدة وأنها طالما تحملت صدمات الدهر وضربات القضاء وأنه ليس من البعيد أن تعيش وتبقى وترى دائرة حول محورها بعد ثورة (الأيام الثلاثة) ولقد جاءت تلك الثورة الثانية لتعلم الناس جميعاً أن الثورة الفرنسوية لم تكن قط فلتة جنون ولكنها ثمرة حرة من ثمار هذا العالم - عالم الله. وإنها كانت حقاً يحسن بكل إنسان أن يعده حقاً لا باطلاً ولا جنوناً. فصل آخر من مقدمة الباب الخامس الذي عقد للكلام عن الكتاب جونسون وروسو وبارنز كثرت الشكوى الآن مما يسمونه اختلال نظام المجتمع وكيف أن كثيراً من العوامل الاجتماعية تسيء أداء وظائفها. وكيف أن كثيراً من القوى العمرانية الشديدة تكدح في غير مكدح وتكد في غير مكد. وتلك شكوى لا شك في صحتها. ولكن من نظر جهة الكتاب والكتب وجدها أشد الجميع اختلالاً وفساداً بل أصل كل اختلال وفساد - وجدها كأنها قلب يصدر عنه ويرجع إليه كل اختلاط وتشويش في العالم! ولست أرى حالاً أنكر من سوء ما يجزى به الكتاب على جليل ما يسدونه إلى الملأ. ولو غمسنا القلم في هذا المبحث غمسناه في بحر لا قرار له ولكن لابد لنا أن نمس شاطئ الموضوع إذ كنا غير خائضين عبابه إتماماً للفائدة. وأسوأ ما كان من أمر هؤلاء الثلاثة الكتاب أنهم وجدوا عملهم في هذه الحياة ومركزهم ضرباً من الفوضى. والسائح إذا صادف طريقاً مذللاً ومنهجاً واضحاً مضي في سننه وأمعن في قصده. فإذا أصاب طريقاً مذللاً ومنهجاً واضحاً مضي في سننه وأمعن في قصده. فإذا أصاب عقبة لا تقتحم وسداً لا يفتح فجعل يطعن فيه يبغى نفاذاً فأحر به أن يظل من عمله هذا في مصاب جلل وأوشك أن تمر به فريسة بين مخالب الهلاك! أدرك آباؤنا ما هنالك من الفائدة العظمى في خطاب الرجل للرجال وعظة المرء لأخوانه فأسسوا الكنائس والمساجد لذلك الغرض. فما من بقعة في العالم المتمدين إلا بها منبر يستطيع منه الرجل أن يعظ باللسان أخوانه في الله. وكانوا يرون ذلك من أهم الأمور وأنه

لا خير في الحياة من دونه ولله ما كان اتقاه عملاً وأجمله مشهداً فأما الآن وقد ظهرت صناعة الكتابة والطباعة فقد طرأ تغير كلي على ذلك الأمر. أو ليس الكاتب الذي يضع كتاباً خطياً ليست خطبته قاصرة على هذا البلد أو ذاك رهينة بذلك اليوم أو هذا ولكنها خطبة لكل إنسان في كل زمان ومكان؟ وحقاً أنه من يخطئ في عمله فأوجب الواجبات على كاتب الكتاب أن يتوخى الصواب والسداد والخطب العظيم والطامة الكبرى أن الناس لا يحفلون البتة أصاب كتاب الكتب أم أخطأوا - وجد كتاب الكتب أم فقدوا. نعم قد يكون للكاتب شيء من الأهمية عند طابع الكتب الذي يرجو أن يربح مبلغاً من وراء مؤلفه. فأما عند خلافه فلا. كلا ولا يعبأ الناس من أين جاء ذلك الكاتب وأين يذهب وكيف وصل وكيف يمكن أن تسهل له طرق التقدم والاستمرار. وإنما يراه المجتمع كأنما هو إحدى الشواذ فيتركونه يهيم كالذي لا يدري أين هو. أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود وصناعة الكتابة لا شك أكثر الفنون إعجازاً وأعجب ما أبدع الإنسان وحروف أو دين كانت أول عمل أتاه أول أبطال العالم. وليست الكتب في هذه الأوقات إلا من قبيل (حروف) أو دين والكتب حرسكم الله مستودع حكمة الغابرين وفيها تتجلى لنا أرواح العصور الماضية. والحقب الخالية. بعد أن فنيت أجساماً. وأصبحت أوهاماً وأحلاماً. ولا ننكر أن الجيش اللهام. والأسطول الضخم الجسام. والمرافيء والثغور. والمدائن والقصور. أشياء رائعة جليلة. ولكن ماذا مآلها وأين مصيرها؟ وإذا سألت اليوم عن أغا ممنون وبير كليس وينانهم رأيتها عهوداً تبكي وتذكر بعد أن كانت مشاهد تروع وتسر. ولم تنك عينك منها إلا دمنا عافيات. وطلولاً دارسات. ورسوماً داثرات. ومعاهد خربات كأنها صحف باليات تنشرها أيدي السحب السواكب وتطويها أكف الرياح الغرائب إذا نفشتها أقلام الهاطلات. مسحتها أنامل السافيات. لأيدي البلى فيها سطور مبينة ... عبارتها أن كل بيت سيهجر ولكن ماذا كان من أمر مؤلفات اليونان؟ هي اليوم عينها بالأمس. لم يغيرها الزمان. ولم ينكرها الحدثان ولا أبلتها العصور ولا أخلقتها الدهور. هذا وقد خلد الله اليونان بين أوراقها وصحفها. وأحياها في سطورها وحروفها. فكأنها لم تمت وإنما طوتها من تلك الكتب

صناديق وخزائن. وأصبحت في تلك الأسفار ودائع ودفائن. والكتاب رعاكم الله فؤاد العالم يعي كل ما طرأ عليه من حوادث وآثار. وخواطر وأفكار. ووجدانات ومشاعر وفعال ومآثر ومشاهد ومناظر. فنعم تراث الأوائل للأواخر وتحفة الغابر للحاضر! أو مازالت الكتب تأتي بالمعجزات كالتي زعموا أن حروف أودين كانت تأتيها؟ بلى حسبها أن فيها للناس دوافع ومحركات. وبواعث ومحرضات. ولن تعدم أحقر قصة واسخفها أثرها الحميد في قارئاتها ذوات الخرق والحمق من بنات الريف تفيدها بعد الزواج في ترتيب بيتها وتنظيمه ثم انظروا ما الذي شاد كنيسة سانت بول. هو كتاب التوراة الذي هو كلمة الرجل موسى الخارجي الطريد راعي الغنم في صحارى الطور! نعم لقد أقامت الكتابة في العالم دولة المعجزات وضمت الماضي والحاضر بأوثق العقد وأوكد الصلات ولاصقت بين الشرق والغرب. وصاقبت بين القطب والقطب. وجمعت بين طنجة وبكين في قرن. وألفت بين نوح ونابليون في زمن وغيرت للناس وجوه الأمور وصور الأعمال وجددت شأناً بعد شأن وحالاً بعد حال. فانظروا مثلاً إلى التعليم وما أحدثت فيه الكتب من الأثر الجليل. وحسن التغيير والتبديل لقد كانت الجامعات قبل الكتب هي الطريقة الوحيدة لاقتناء العلوم واكتساب المعارف. نشأت الجامعة حين لا كتب تذيع وتنتشر وحين كان الرجل يريد الكتاب فيبذر الضياع والعقد. وكان ذو العلم إذا أراد أن يعطي من علمه لم يجد بداً من جمع الطلاب حوله فيلقيهم العلم فماً لفم فإذا كنت في ذلك الوقت فأحببت أن تعرف من العلم ما يعرفه ابلادرد لم يكن أمامك إلا أن تذهب إلى ابلادرد حتى لقد بلغ قصاد ابلادرد وحجاجه نحواً من ثلاثين ألفاً يحتشدون حوله ليستمعوا فلسفته وإذ وجد بهذا المكان هذا العديد المجمهر من طلاب العلم رآها العلماء الآخرون فرصة يحسن اعتنامها فمن وجد في نفسه الكفاءة لتدريس علم رأى ذلك المكان أحق الأمكنة بأن يذهب إليه فيعرض في سوقه سلعة علمه وهكذا لكما زاد فيه عدد المدرسين زاد عليه الإقبال من الطلاب والمعلمين معاً. وبعد ذلك أصبح المكان لا يحتاج إلا إلى التفات السلطان إليه ليجمع تلك المدارس المتعددة في مدرسة واحدة ثم يمنحها المباني والمير والمنح ويسميها جامعة. وهذا هو في نظري منشأ الجامعات. ولكن انتشار الكتب وسهولة اجتلابها قلب الأمر قدماً لرأس. وذروة لأس. ومتى أوجدت

الطباعة نسخت أمر الجامعات وعلوتها علواً مبيناً. إذ لا يصبح المعلم في حاجة إلى أن يجمع الطلاب حوله ليسمعوا منه وما هو إلا أن تطبع الكتاب حتى يتناوله من بأقاصي الأرض غنيمة بلا عناء ويرتشفه شربة بلا رشاء - هنيئاً مريئاً وهو متكيء على أريكته مرتفق فوق وسادته ليقلب فيه البصر. وينعم في معاينه النظر! ولا شك أن في الخطبة لمزيد خاصة. حتى لقد يحسن أحياناً بكتاب الكتب أن يخطبوا طلابهم أيضاً. وحسبكم ما نحن فيه الآن! وأرى أنه ما دام للمرء لسان فسيبقى للخطابة فضل لا ينكر وقيمة لا تحقر ومنطقة للكلام خلاف منطقة الأقلام. ولكن الحد الفاصل بين المنطقتين لم يعين حتى اللحظة ولم توجد بعد تلك الجامعة التي يفرض معها نفوذ قوة الكتب وتأثير سلطانها. ولا عرف بعد كيف تكون تلك الجامعة وما معالمها وحدودها. فإذا كنا مفكرين في ذلك فمثل هذه الجامعة لن تكون إلا كأقدم جامعة أعني أن يكون من شأنها تعليم القراءة - القراءة في مختلف اللغات والعلوم - أي تعليم مبادئ كل صنف من أصناف الكتب. ولكن مأخذ العلوم ومقتبسها هو الكتب أعينها! ومبلغنا في العلم متوقف بعد على ما نقرأ بأنفسنا مهما صنع لنا المعلمون وأجاد المدرسون نخرج من ذلك على أن خير جامعة في هذه الأوقات هي مجموعة كتب. وأما من جهة الكنيسة فالتغيير الحادث عليها من نشر الكتب تغيير تام. والكنيسة هي جماعة القسوس والأنبياء ذوي الهداية والإرشاد من يهدون بعظاتهم عباد الله الصراط المستقيم. وقد كان اللسان يوم لا كتابة ولا طباعة هو الأداة الوحيدة لبث النور والهدى. فأما وقد ذاعت الكتب فقد أصبح كل كاتب يلين من قلوب الناس ويأخذ بزمامها نحو الحق فذلك بطريق أمته وأمامها. وطالما قلت أن كتاب الجرائد والمجلات والرسائل والشعر والكتب هم في الحقيقة الكنيسة العاملة الفعالة في الأمم الحاضرة. وليست الكتب خطباً لنا فقط بل هي أيضاً ضرب من ضروب العبادة وبعضها تكون قراءته أحسن صلاة لله وتسبيح. أوليس المعنى الشريف يزفه إليك البليغ في رونق اللفظ المصقول يختال من صفاء السبك وإشراق الديباجة في أكرم حلة وأبهج خلعة فيمتزح بأجزاء النفس ويجري مع الروح حتى: يظل سامعه لدناً مفاصله ... كأنما فترت أوصاله الكاس يفعل بالنفس ما تفعله العبادة ولعل الكثيرين لا يعرفون في هذه الأوقات الفاسدة من أساليب

العبادة إلا هذا الأسلوب. والشاعر الذي يريك من جمال الزهرة ما كان قبل غائباً عنك أليس كأنه أطلعك على مظهر من مظاهر قوة الله وعظمته وشعبة من ينبوع الجمال الإلهي الشامل وعلى سطر خطه القلم العلوي في صحيفة الكون فبدا مبيناً ناصعاً. جلياً ساطعاً. وكأنما غنى لنا نشيداً قدسياً فصدحنا معاً وإذا كان هذا شأن من يصف زهرة الروض فكيف الذي يتغنى لنا بمكارم أولى العزم ومآثرهم. ومناقب ذوي الفضل ومفاخرهم. مثل هذا كأنما يمس أكبادنا بجذوة من مجامر المحراب. ولعلها أشرف طرق العبادة. وما الأدب إلا كشف وجلاء لأسرار بدائع الله أو ما يسمونه السر الجلي وقد عرف الأدب فيشتي بأنه البيان المستمر لما يكمن من أسرار الله في الأشياء الأرضية العادية. فإن أسرار الله ما برحت كائنة في كل شيء وما برحت تصادف من هذا الكاتب وذاك من يبرزها في هذه الصورة أو تلك في مقادير مختلفة من الوضوح ودرجات متفاضلة من البيان كل حسب ما وهب الله من الفضل هذا هو الذي ما زال ذووا المواهب اللدنية من الشعراء والكتاب والخطباء والمتكلمين يصنعونه عمداً أو عفواً حتى لقد تجد أن شعر بيرون لا يخلو من تلك الأسرار برغم ما قد امتلأ به من زوابع الحنق وصواعق القذف والانتقام ومعاسف الغل والحقد والضغينة على بني البشر. وهي (الأسرار) أيضاً كائنة في متواضع شعر بارنز ذلك الفلاح الذي كان يختلس القوافي من خلال حركات الفاس والمحراث - صاحب القصائد التي كانها أغاريد القنبرة صاعدة من أديم التراب. إلى أعلى ذوائب السحاب. والحقيقة أن كل غناء صادق هو عبادة كما أن كل شغل صادق هو أيضاً عبادة وما الغناء الصادق لو نظرت إلا صفة للشغل الجيد الحر وتمثيل موسيقى مطرب ومن أنعم النظر رأى هنالك قطعاً جمة من الأناشيد الكنيسية. والصلوات الدينية. طافية على مياه ذلك البحر الخضم الذي يسمونه بحر الأدب: فالكتب أيضاً كنيستنا. ننتقل الآن إلى تأثير الأدب في الحكومة لقد كان البرلمان قوة عظمى تبرم أمور الرعية وتنقض وتعقد شؤون الأمة وتحل. وتصرف أعنة البلاد وتدبر. وتقطع أحكامها وتقرر. بعد طول الروية والنظر وإدمان التأمل والفكر. وإطالة المناقشة والمحاورة وإدامة المجادلة والمناظرة ولكن انظرو الآن أما ترون أن عمل البرلمان هذا يعمل الآن خارج البرلمان في طول البلاد وعرضها بواسطة المطبوعات من جرائد ومجلات. ورسائل ومؤلفات. وإن

كان البرلمان لما يزل باقياً ولقد قال بيرك أن البرلمان ثلاثة أركان ولكن بمجلس مخبري الجرائد ركناً رابعاً أهم من تلك الأركان الثلاثة ولم تك كلمته هذه بالمجاز والاستعارة ولكنها عين الحقيقة. وقد أصبحت خطارتها اليوم أجسم منها يوم قالها بيرك. فالأدب هو برلماننا أيضاً. والديمرقراطية أيدكم الله رهن الطباعة التي هي من نتائج الكتابة. وما هو إلا أن تخترع الكتابة حتى تتبع الديموقراطية فالكتابة تنتج الطباعة الطباعة العامة اليومية كما نرى اليوم فيصبح كل ذي لسان بوقاً يسمع الشعب وقوة وفرعاً من أفرع الحكومة راجح الميزان عند وضع الشرائع والقوانين. وجميع تصاريف السلطة. ولا ينظر إليه من أي طبقة هو وماذا يملك وماذا يلبس. وإنما الأمر الجوهري هو أصاحب لسان. وأخو بيان. فيصغي إليه ويقبل عليه. هذا لا غيره الأمر الأساسي فالأمة محكومة بكل ذي لسان من أبنائها. وهناك الديموقراطية ولا مشاحة. ضف إلى ذلك أنه ما من قوة موجودة في الكون إلا وسيريكها الدهر يوماً ما فعالة معترفاً بسلطانها. فهي لا تزال تعمل في خفاء وتكد تحت غطاء تدافع العوائق والعوائق تدافعها وتصارع الموانع والموانع تصارعها. حتى يجلوها صبح اليقين من غياهب الشبهات. وتطلقها يد النصر من سلاسل العقبات. فتذهب في شعاب الحق كل مذهب. وتضرب في مناصي الاصلاح كل مضرب. ولا تستريح الديموقراطية حتى تبرز للعيان. ويصطلي شمسها كل إنسان. أو ما يزال في كل شيء دليل على أن خير ما في طاقة امرئ أن يصنع وأعجب الأشياء طرا وأثقلها في النفوس وزناً. وأخفها على الأسماع حسناً. وألطفها في النفوس مكاناً. وأقلها في العقول رجحاناً هو كتاب لله تلك الرقع الواهية المرقشة المتون بلمع المداد الأسود أي جليل من الأمر لم تأت وأي شيء لم تصنع ولن تصنع! ولا غرو فهل كانت تلك الرقع مهما حقر ظاهرها إلا أشرف نتائج الذهن البشري؟ هي فكر الإنسان - الفضيلة الحرة التي بها يصنع كل شيء. وجميع ما يفعل الإنسان ويحدث إنما هو ثوب فكرة. وجسم روحه رأي من آرائه فمدينة لندن هذه بجميع ما بها من منازل ودور. وحلل وقصور وعدد وآلات وكنائس وبيعات وحركة وصخب. وجلبة ولجب - ما كل هذه إلا فكرة أو مليون فكرة ألف شملها نظام فصارت واحدة. ما هي الأروح فكرة جسيمة قد تجسدت في الطوب والحديد والخشب والتراب والدخان والقصور والبرلمانات والمركبات والمصانع وسائر ما تنظر من

الأشياء وما من طوبة صنعت إلا وقد أعمل بعض الرجال فكرته كيف يصنعها وما نسميه قطعاً من الورق عليها لمع من الحبر إنما هو أطيب مظهر للفكر البشري. فلا عجب أن يكون أنشطها وأكرمها. وقد طالما أقر الناس بفضل الكتاب وخطارة شأنهم في العصور الحديثة واستعلائهم على الكنيسة والبرلمان والجامعات وغيرها ولكنه إقرار لم يشفعه عون ولا مساعدة. وعسى أن يكون قد آن للعواطف أن تخلي مكانها للإمدادات المادية. وإذ كنا نقر ونعترف بأن للكتاب على المجتمع النعم الغراء والمنن البيضاء. وإنهم يحدون به في سبيل التقدم ويسمون به مراقي المدينة فما بالنا إذن نتركهم في أسوأ حال من نكد الحياة وجحد العيش. من أمرهم في حيرة عشواء وضلالة عمياء ويقيني أن كل شيء فيه فضيلة قوة خفية فسيحسر يوماً ما لثامه ويميط قناعه ويسفر لنا ناصع الصورة. واضح الغرة بين الإشارة جهير الصوت. فأما إن يلبس أناس زي الادب والكتابة ويقبضون أجرها. ويتضور من الجوع الكاتب الحقيقي صاحب الخير والمنفعة فما ذلك بعدل وإنما جور وعسف. ولكن رد هذه المظلمة لن يكون وآاسفاه. إلا بعد الجهد الجهيد. والزمن المديد! وكم دون ذلك من مشكلات ومعضلات الله وحده المعين على حلها. فإذا سألتموني ما هو أحسن نظام تجعل عليه حالة الكتاب في العصور الحديثة وما هي خير طريقة لتنظيم شؤونهم واستمرارها تكون على تمام مطابقة لمركزهم ولمركز المجتمع: استقلت من الإجابة على هذ1 السؤال لقصور مبلغ عقلي عنه. وأنها لمعضلة لو تتابعت عليها عدة عقول راجحة لما استطاعت لها حلا تقريبياً فكيف بعقل واحد؟ نعم ولا أحب أن أحد يقدر أن يقول ما هو أحسن نظام لأمر الكتاب فأما إذا سأل سائل ما هو شر نظام وأخبثه قلت هذا الذي هو كائن اليوم - هذا الخلط السائد والفوضي المستحكمة. وما أبعد ما بيننا وبين نظام صالح طيب. وثمت شيء لا يفوتني ذكره وهو أن هناك غير أمر العطايا المالية أمراً أهم وأعظم إلا وهو إجلال الكتاب وتقديسهم وهو أمر كان معدوماً في القرن الثامن عشر - قرن الجحود والكفر. فأما هبة العطايا وترتيب الرسوم فهي على ضرورتها في بعض الأحيان قلما تقربنا وحدها من النظام المطلوب لحالة الكتاب. وإني لأحد الذين أسأمهم كثرة ما يلغط به من

سلطان المال وفضله على كل شيء. بل أني أحد القائلين بأنه لا ضير على الحر أن يكون فقيراً وأنه يجب أن يكون من الفقر محك لأذهان الكتاب ومعيار لقيمهم وأقدارهم. وقد أوجدت الكنيسة النصرانية فرق الشحاذين من رجال أبرار قدرت لهم الشحذ والتسول ورأت الكنيسة أن ذلك من أسباب نشر روح الدين وتأييده. وهل أسست النصرانية نفسها إلا على الفقر والحزن والاضطهاد والصلب وسائر أصناف الغم والمهانة؟ ولنا أن نقول أن من لم يعرف هذه الأشياء فيتعلم منها درسها الذي لا تقدر قيمته فقد فاته من فرص التعليم أثمنها. ومن أسباب التقويم والتثقيف أمتنها: ومن فوائد التربية والتهذيب أكرمها وأحسنها. ولم تكن الشحاذة والحفاء ولبس المسوح وشد الحبال في الأواسط بالشيء الجميل أو الجليل في أعين الناس حتى جمله وشرفه مزاولة الكرام له وإتيان الجلة الأشراف إياه. وليس موضوع الشحاذة من أغراض هذا الكتاب ولكن من ذا الذي لا يقول بأن كاتباً كجونسون لم ينفعه الفقر وتفده الفاقة؟ ولقد كان مثله جديراً أن يعلم أن المال أو النجاح كيفما كان لم يكن الغرض الذي يسعى ليدركه. وكان ملياً أن يعرف أن فؤاده لم يخل مما قد جبلت عليه سائر القلوب من الكبرياء وحب الذات بجميع شعبه وفروعه. وأنه من أوجب الواجب اقتلاع هذه الأغراس اللئيمة من تربة النفس. ثم اذكروا أن بيرون مع غناه وشرف نسبه كان أقل فائدة وأصغر مأثرة من بارنز مع فقره وضعة نسبه. وما يدرينا أنه إذا وجد في المستقبل البعيد ذلك النظام المنشود كان الفقر لا يزال ركناً من أهم أركانه وكان الكتاب - أبطالنا الروحانيون - لا يزالون طائفة من الشحاذين متاحاً لهم العوز والتكفف حتى يجنوا مافيهما من كرائم الثمرات وينتفعوا بهما انتفاع غيرهم باليسار والغني؟ ولا أنكر أن الطيب الكثير يبلغ بالمال. ولكن ما يبلغ بالفقر أطيب وأكثر: وإنما علينا أن نعرف حد المال فنقف عنده ونعلم أن ما زاد على ذلك فضول حقه الرد والرفض. هذا ولو فرضنا وجود الامدادات المادية والرسوم المالية فأنى لنا بمعرفة الكاتب الكبير الذي يستحقها؟ أنه لا بد قبل ذلك من أن يجوز الامتحان اللائق. وأرى أن الحياة الأدبية - تلك التي كلها فوضي يتلاطم موجهاً ويتصادم لجها. هي نوع من الامتحان وما زال هناك عنصر من الحق في قولهم أن الجهاد في سبيل الصعود من وهاد الطبقات السفلى إلى ذرى الطبقات العليا هو من الأمور التي لا بد من بقائها لما يترتب عليها من استمرار رقي

العالم. إذ أنه ما زال يولد في الطبقات السفلى من ينبغي أن يكون في أرفع المازل وأسمى الطبقات. ولكن كيف ينظم ذلك الجهاد؟ هذه مسألة المسائل فأما أن يترك هذا الجهاد كما هو الآن رهناً بمحاسن الصدف فكلما أفلح فيه كاتب من عصابة خاب الباقون أو نجا واحد من ألف هلك في الطريق بعد التسعمائة تسعة وتسعون. ويترك مثل بارنز يجود بروحه ولا يجود عليه إنسان بدرهم ومثل جونسون يزجى الوقت بين الثؤباء والمطواء في حجرته ينطبق عليه قول القائل: نلوم على تبلدها قلوباً ... تلاقي من معيشتها جهاداً إذا ما النار لم تطعم وقوداً ... فأوشك أن تمر بها رماداً حتى إذا شرع يكتب راح وهو من دفعة العمل وعجلته مع البخس والوكس كأنه في مضمار أو كأن يديه يداً عائم يكافح التيار. ويترك مثل روسو على جمر الأعسار والاحتقار يتململ ويقذف بشرر الكلم اللذاع فيؤجج الثورات الفرنسوية - هذا وايم الله شر النظام أسوءه. فأما النظام إلا حسن فهيهات منه نحن وإني لنا به الآن! بيد أنه لا شك هناك في أن ذلك النظام آتٍ يحمله المستقبل البعيد في جوفه جنيناً في رحم الزمان الآجل وهذا ما أجرأ على أن أتنبأ به لأنه لا يكاد الناس يرون فضل الشيء حتى يأخذوا في تسهيله وتزجيته. وتنظيمه وترقيته. ثم لا يستريحون أو يروه قد بلغ منتهى ما يستطيعون أن يبلغوا به وقد قلت أنه ليس في سلطات الكنيسة والحكومات بأنواعها سلطة تستحق أن تقارن بدولة الأقلام. وقد قال الوزير بيت وقد سئل أن يكتتب بشيء من المال للشاعر الأكبر بارنز الأدب سيد نفسه يدبر زمامها ويسوسها وليس في حاجة إلى الناس قال المستر سوذى نعم هو سيد نفسه يسوسها ويدبر زمامها. وهو أيضاً سيدك يسوسك ويأخذ بخطام أنفك إذا أنت لم تلتفت إليه وتعرف له قدره!. وما معظم الضرر بواقع على الكتاب فإنهم أفراد وجزء ضئيل جداً من الجسم الكلي. وفي جهدهم أن يجاهدوا ويكابدوا. حتى يظفروا أو يموتوا فيعذروا. ولكنه يهم المجتمع أن يضع شهبه ومصابيحه في الذرى والغوارب وحيث ترى فتهدي. أم يجعلوها تحت أقدامهم ويبددوا جوهرها الساطع شرراً يستطير في حيث لا مقتبس ولا متنور ويعرضوا أنفسهم بذلك لما قد عساه يحدث من الحريق وقد حدث والنور هداكم الله هو رأس المنافع وأصل

الحياة وأول حاجات المجتمع وآخرها. وإن دنيا يتقدمها النور لجديرة أن تظفر في حربها مع الدهر وتكون للإنسان أحسن دنيا. وعندي أن مرض الفوضي الكتابية هو أصل سائر الأمراض فداوه تشف المجتمع من كل داء به وعلة.

صفحة من التاريخ

صفحة من التاريخ يوسف بن تاشفين سلطان مراكش وواقعة الزلاقة كان بر المغرب الجنوبي لقبيلة تسمى زناته فعبرت على ذلك حيناً من الدهر إلى أن ضرب الدهر من ضربانه وخرج عليهم من جنوبي المغرب من البلاد المتاخمة لبلاد السودان جماعات يعرفون بالملثمين يرأسهم رجل منهم يسمى أبا بكر بن عمر وكان رجلاً ساذجاً كريم الطبع مؤثراً لبلاده على بلاد المغرب غير ميال إلى الرفاهية والنعيم وكان ولاة المغرب من زناته ضعفاء لا طاقة لهم بمقاومة الملثمين فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط فلما حصلت البلاد لأبي بكر بن عمر سمع أن عجوزاً في بلاده ذهبت لها ناقة في غداة فبكت وقالت ضيعنا أبو بكر بن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب فحمله ذلك على أن استخلف على بلاد المغرب رجلاً يسمى يوسف بن تاشفين ورجع إلى بلاده الجنوبية - وكان يوسف هذا رجلاً شجاعاً عادلاً مقداماً اختط بالمغرب مدينة مراكش. وكان موضعها مكمناً للصوص. فكان إذا انتهت القوافل إليه قالوا مراكش ومعناه بلغة المصامدة امش مسرعاً - فلما تمهدت له الأمور وةاستوسق. ملكة واستخذت له البربر مع شدة شكيمتها تاقت نفسه إلى العبور لجزيرة الأندلس فهم يذلك وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها فلما علم بذلك ملوك الأندلس كرهوا المامه بجزيرتهم وأعدوا له العدة والعدد وصعبت عليهم مدافعته وكرهوا أن يكونوا بين عدوين الفرنج عن شمالهم والمسلمين عن يمينهم وكانت الفرنج (الاسبان) تشتد وطأتها عليهم وتغير وتنهب وربما يقع بينهم صلح على شيء معلوم كل سنة يأخذونه من المسلمين وكانت الفرنج ترهب ملك المغرب يوسف بن تاشفين إذ كان له اسم كبير وصيت عظيم لنفاذ أمره وسرعة تملكه بلاد المغرب وانتقال الأمر إليه في أسرع وقت مع ما ظهر من أبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة في المعارك من ضربات السيوف التي تقد الفارس والطعنات التي تنظم الكلى فكان له بسب ذلك ناموس ورعب في قلوب المنتدبين لقتاله. وكان ملوك الأندلس يفيؤن إلى ظله ويحذرونه فلما رأوا ما دلهم على عبوره إليهم وعلموا ذلك راسل بعضهم بعضاً يستنجدون آراءهم في أمره. وكان مفزعهم في ذلك إلى المعتمد بن عباد لأنه أشجع القوم وأكبرهم

مملكة فوقع اتفاقهم على مكاتبته يسألونه الأعراض عنهم وأنهم تحت طاعته وتلك صورة ما كتبوا. (أما بعد فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم ولم تنسب إلى عجز وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن. وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا فاختر لنفسك أكرم نسبتيك فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تسبق فيه إلى مكرمة وإن في استبقائك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت والسلام). فلما وصله الكتاب مع تحف وهدايا. وكان يوسف لا يعرف اللسان العربي غير أنه ذكي الطبع يجيد فهم المقاصد وكان له كاتب يعرف العربية والمرابطية. فقال له أيها الملك هذا الكتاب من ملوك الأندلس يعظمونك فيه ويعرفونك أنهم أهل دعوتك وتحت طاعتك ويلتمسون منك أن لا تجعلهم في منزلة الأعادي فأنهم مسلمون وذووا بيوتات فلا تغير بهم وكفى بهم من وراءهم من الأعادي الكفار وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من أهل المغرب. فقال يوسف بن تاشفين لكاتبه فما ترى أنت. فقال أيها الملك أعلم أن تاج الملك وبهجته. شاهده الذي لا يرد فأنه خليق بما حصل في يده من الملك والمال أن يعفو إذا استعفى وأن يهب إذا استوهب وكلما وهب جليلاً جزيلاً كان قدره أعظم فإذا عظم قدره تأصل ملكه وإذا تأصل ملكه تشرف الناس بطلعته وإذا كانت طاعته شرفاً جاءه الناس ولم يتجثم المشقة إليهم. وكان وارث الملك من غير أهلاك لآخرته. واعلم أن بعض الملوك الحكماء البصراء بطريق تحصيل الملك قال من جاد ساد ومن ساد قاد ومن قاد ملك البلاد فلما ألقى الكاتب هذا الكلام على السلطان يوسف بلغته فهمه وعلم صحته. فقال للكاتب أجب القوم واكتب بما يجب في ذلك واقرأ على كتابك فكتب بسم الله الرحمن الرحيم من يوسف بن تاشفين سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته تحية من سالمكم وسلم عليكم وأنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة. مخصوصين منا بأكرم إيثار وسماحة فاستديموا وفاءنا بوفائكم واستصلحوا أخاءنا بأصلاح أخائكم والله ولي التوفيق لنا ولكم والسلام. فلما فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه فاستحسنه وقرن به ما يصلح به من التحف والدرق اللمطية (نسبة إلى لمطة وهي بليدة عند السوس الأقصى وهي معدن الدرق

اللمطية) التي لا توجد إلا في بلاده وأنفذ ذلك إليهم. فلما وصلهم ذلك وقرؤا كتابه فرحوا به عظموه وتقوت نفوسهم على دفع الفرنج عنهم وأزمعوا إن رأوا من الفرنج ما يريبهم أنهم يرسلون إلى يوسف بن تاشفين يعبر إليهم أو يمدهم بإعانة منهم. وكان ملك الافرنج الأذفونش (الفونس السادس ملك الاسبان) لما وقعت الفتنة بالأندلس وثار الخلاف. وكان كل من حاز بلداً وتقوى فيه ملكه انتحل الملك لنفسه وصار ملوك الأندلس مثل ملوك الطوائف فطمع فيهم الأذفونش وأخذ كثيراً من ثغورهم فقوى شأنه وعظم سلطانه وكثرت عساكره وأخذ طليطلة الآن) من صاحبها القادر بالله بن المأمون بن يحيى بن ذي النون في منتصف محرم سنة 478 وفي ذلك يقول ابن العسال (أحد شعراء الأندلس): حثوا روا حلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها الأمن الغلط السلك ينثر من أطرافه وأري ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط وكان المعتمد بن عباد كما أسلفنا أعظم ملوك الأندلس ومتملك أكثر بلادها مشل قرطبة وإشبيلية وكان مع ذلك يؤدي الضريبة إلى الاذفونش (الفونس) كل سنة فلما تملك الاذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة المعتادة فلم نقبلها منه وأرسل إليه يهدده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة ليفتحها إلا أن يسلم إليه جميع الحصون المنيعة وبقيى السهل للمسلمين وتشطط وأمعن في التجني وكان السفير في ذلك يهودياً كان وزير الاذفونش فامتنع ابن عباد من ذلك فراجعه فأباه وأيأسه فراجعه اليهودي في ذلك وأغلظ له في القول وواجهه بمالم يحتمله ابن عباد فأخذ ابن عباد محبرة كانت بيديه وضرب بها رأس اليهودي فأنزل دماغه في حلقه وأمر به فصلب منكوساً في قرطبة فلما سكت عنه الغضب استفتى الفقهاء عن حكم ما فعله باليهودي فبادره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل إذ ليس له ذلك. وقال للفقهاء إنما بادرت بالفتوى خوف أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجاً وبلغ الاذفونش ما صنعه ابن عباد فأقسم بآلهته. ليغزونه بأشبيلية وليحاصرنه في قصره فجرد جيشين جعل على أحدهما كلباً من مسامير كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس ويغير على تلك التخوم والجهات ثم يمر على لبلة

إلى اشبيلية وجعل موعده أمام طريانة للاجتماع معه ثم زحف الازفونش بنفسه في جيش آخر عرمرم فسلك طريقاً غير الطريق التي سلكها الآخر وكلاهما عاث في البلاد وخرب ودمر حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قبالة قصر ابن عباد. وفي أيام مقامه هنالك كتب إلى ابن عباد زاريا عليه - كثر بطول مقامي في مجلسي الذباب واشتد على الحر فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بها على نفسي وأطرد بها الذباب عن وجهي فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية تروح منك لا تروح عليك إن شاء الله فلما وصلت الأذفونش رسالة ابن عباد وقرئت عليه وعلم مقتضاها أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف ابن تاشفين والاستظهار به على العدو فاستبشر الناس وفرحوا بذلك وفتحت لهم أبواب الآمال وأما ملوك طوائف الأندلس. فلما تحققوا عزم ابن عباد حذروه عاقبة ذلك وقالوا له الملك عقيم السيفان لا يجتمعان في غمد واحد فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة رعي الجمال خير من رعي الخنازير ومعناه أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيراً يرعى جماله في الصحراء خير من أن يكون ممزقاً للاذفونش أسيراً له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعذاله يا قوم إني من أمري على حالين حالة يقين وحالة شك ولا بد لي من إحداهما أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الاذفونش في الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه وفي الممكن أن لا يفعل فهذه حالة شك. وأما حالة اليقين فإن إن استندت إلى ابن تاشفين فإني أرضي الله وإن استندت إلى الاذفونش أسخطت الله تعالى فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه فقصر أصحابه عن لومه ولما عزم أمر صاحب بطليوس المتوكل عمر بن محمد وعبد الله بن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة أن يبعث إليه كل منهما قاضي حضرته ففعلا واستحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم وكان أعقل أهل زمانه فلما اجتمع عنده القضاة باشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد وأسند إلى وزيره مالا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود

السلطانية. وكان يوسف بن تاشفين لا تزال تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين بالله والإسلام مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته فيسمع إليهم ويصغي لقولهم وترق نفسه لهم فما عبرت رسل ابن عباد البحر إلا ورسل يوسف بالمرصاد ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم وأكرم مثواهم واتصل ذلك بابن عباد فوجه من إشبيلية أسطولاً نحو صاحب سبتة فانتظمت في سلك يوسف ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات ثم انصرفت إلى مرسلها ثم عبر يوسف البحر عبوراً سهلاً حتى أتى الجزيرة الخضراء ففتحوا له وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات وأقاموا له سوقاً جلبوا إليه ما عندهم من سائر المرافق وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيه فامتلأت المساجد وةالرحبات بالمتطوعين وتواصى بهم خيراً. ثم سار إلى اشبيلية على أحسن الهيئات جيشاً بعد جيش وأميراً بعد أمير وقبيلاً بعد قبيل وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف وأمر عمال البلاد بحلب الأقوات والضيافات ورأى يوسف ما سره من ذلك ونشط وتواردت الجيوش مع أمرائها على إشبيلية وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من أشبيلية في مائة فارس ووجوه أصحابه فلما أتى محلة يوسف ركض نحو القوم وركضوا نحوه فبرز إليه يوسف وحده والتقيا منفردين وتصافحا وتعانقا وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والخلوص وتواصيا بالصبر والرحمة ثم افترقا فعاد يوسف إلى محلته وابن عباد إلى جهته وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوةا وصلوا الصبح ركب الجميع وساروا نحو إشبيلية ورأى الناس من عزة سلطانهم ماسرهم وكان الاذفونش لما تحقق الحرب استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها ورفع القساوسة والرهبان والاساقفة صلبانهم ونشروا أناجيلهم فاجتمع له من الجلالقة وةالافرنجة مالا يحصى عدده وجواسيس لك فريق تتردد بين الجميع. وكان الاذفونش قبل ذلك كتب إلى امير المسلمين يوسف كتاباً يغلظ له في القول ويصف ما معه من القوة والعدة والعدد فلما وقف عليه يوسف أمر كاتبه أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه وكان كاتباً مفلقا فكتب وأجاد فلما قرأه على الأمير قال هذا كتاب طويل وأحضر كتاب الأذفونش وكتب في ظهره (الذي يكون ستراه) ثم أردفه بكتاب يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو الجزية أو الحرب ثم وافت الجيوش كلها بطليوس فأناخوا بظاهرها وخرج

إليها صاحبها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود وجاءهم الخبر بشخوص الاذفونش ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد الأذفونش وجعل يتولى ذلك بنفسه وجاءت الطلائع تخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم وهو يوم الأربعاء فأصبح المسلمون وقد أخذوا مصافهم فرجع الأذفونش إلى أعمال المكر والخديعة فعاد الناس إلى محلاتهم وباتوا ليلتهم ثم أصبح يوم الخميس فبعث الأذفونش إلى ابن عباد: غدا يوم الجمعة وهو عيدكم والأحد عيدنا فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت فعرف المعتمد بذلك السلطان يوسف وأعلمه أنها حيلة منه وخديعة وإنما قصده الفتك بنا يوم الجمعة فبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس وبعد مضي هزيع من الليل جاء فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة الاذفونش وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة ثم جاءت الجواسيس من داخل محلتهم تقول استرقنا السمع فسمعنا الاذفونش يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حافظ وذوي بصائر في الحروب فهم غير عارفين بهذه البلاد فاقصدوا ابن عباد واهجوا عليه واصبروا فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده فبعث ابن عباد الكاتب أبا بكر بن القصيرة إلى السلطان يوسف يعرفه بأقبال الاذفونش ويستحث نصرته فأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة الاسبان فيضرمها ناراً مادام الفونس بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فهاجت الحرب وحمى الوطيس واستحر القتال في أصحاب ابن عباد وصبر ابن عباد صبراً لم يعهد مثله لأحد واشتد عليه وعلى من معه البلاء وأتخن جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت يمنى يديه وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يميناً وشمالاً ثم أقبل السلطان يوسف بعد ذلك وطبوله تصعد أصواتها إلى الجو فلما أبصره الفونس وجه حملته إليه وقصده بمعظم جنوده فبادر إليهم السلطان يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم وانتظم به شمل ابن عباد واستنشق ريح الظفر وتباشر بالنصر ثم

صدقوا جميعاً الحملة فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم وأظلم النهار بالعجاج والغبار وخاضت الخيل في الدماء وصبر الفريقان صبراً عظيماً ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملة جاء معها النصر. فانكشف الفونس وفر هارباً منهزماً وقد لصق به أسود من سودان يوسف وقبض على عنانه وانتضى خنجراً كان متمنطقاً به فأثبته في فخذه فهتك حلق درعه ونفذ من فخذه مع بداد سرجه ولجأ الفونس إلى تل كان يلي محلته في نحو خمسمائة فارس كل واحد منهم مكلوم وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم واستولى المسلمون على ما كان في محلته من الأثاث والانية والمضارب والأسلحة وكانت شيئاً كثيراً يخطئه العد وقد عف عن جميعها السلطان يوسف - وأقبل ابن عباد على السلطان وصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه وشكر السلطان صبر ابن عباد وحسن بلائه وجميل صبره - وكتب ابن عباد إلى ولده الرشيد كتاباً يخبره فيه بالنصر وأطار به الحمام - وكان موضع هذه الواقعة يسمى الزلاقة وهو مكان أفيح من الأرض على أربعة فراسخ من بطليوس - وكانت هذه المعركة سنة 479 للهجرة الموافقة سنة 1086 للميلاد - وهذا الأذفونش هو الفونس السادس ملك قشتالة ولاون وجليقية. للكلام بقية وفيها ما حصل للأندلس عقيب هذه الوقعة من استيلاء السلطان يوسف بن تاشفين عليه وقبضه على المعتمد بن عباد وسجنه بأغمات وما قاله الشعراء في ذلك.

أثار المتقدمين والمتأخرين

أثار المتقدمين والمتأخرين فصل من رسالة في الحاسد والمحسود لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 1 والحسن أبقاك الله داء ينهك الجسد ويفسد الاود علاجه عسر وصابه ضجر وهو باب غامض وأمر متعذر وما ظهر منه فلا يداوى وما بطن منه فمداويه في عناء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم دب اليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء. وقال بعض الناس لجلسائه أي الناس أقل غفلة فقال بعضهم صاحب ليل إنما همه أن يصبح فقال أنه لكذا وليس كذا وقال بعضهم المسافر إنما همه أن يقطع سفره فقال أنه لكذا وليس كذا وقال بعضهم المسافر إنما همه أن يقطع سفره فقال أنه لكذا وليس كذا فقالوا له فأخبرنا بأقل الناس غفلة فقال الحاسد إنما همه أن ينزع الله منك النعمة التي أعطاكها فلا يغفل أبداً ويروى عن الحسن أنه قال الحسد أسرع في الدين من النار في الحطب اليابس وما أتى المحسود من حاسده إلا من قبل فضل الله عنده ونعمته عليه قال الله عز وجل: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً}. والحسد عقيد الكفر وحليف الباطل وضد الحق وحرب البيان فقد ذم الله أهل الكتاب به فقال: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم: منه تتولد العداوة وهو سبب كل قطيعة ومنتج كل وحشة. ومفرق كل جماعة وقاطع كل رحم من الأقرباء ومحدث التفرق بين القرباء وملقح الشر بين الحلفاء يكمن في الصدر كمون النار في الحجر - ولو لم يدخل على الحاسد بعد تراكم الغموم على قلبه واستكمان الحزن في جوفه وكثرة مضضه ووسواس ضميره وتنغص عمره وكدر نفسه ونكد عيشه إلا استصغاره نعمة الله وسخطه على سيده بما أفاد غيره وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه وأن لايرزق أحداً سواه لكان عند ذوي العقول مرجوماً وكان لديهم في القياس مظلوماً وقد قال بعض الأعراب ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم وقلب هائم وحزن لازم والحاسد مخذول وموزور والمحسود محبوب ومنصور والحاسد مغموم ومهجور

والمحسود مفشي ومسرور. والحسد رحمك الله أو خطيئة ظهرت في السموات وأول معصية حدثت في الأرض خص به أفضل الملائكة فصي ربه وقايسه في خلقه واستكبر عليه فقال خلقني من نار وخلقته من طين فلعنه وجعله إبليساً وأنزله من جواره بعد أن كان أنيساً وشوه خلقه تشويهاً وموه على مثليه تمويهاً نسى به عزم ربه فواقع الخطيئة فارتدع المحسود وتاب عليه وهدى ومضى اللعين الحاسد في حسده فشقى وغوى وأما في الأرض فابنا آدم حسد أحدهما أخاه فعصي ربه وأثكل أباه وبالحسد طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فقد حمله الحسد إلى غايته القسوة وبلغ أقصى حدود العقوق فأنساه من رحمته جميع الحقوق إذا لقى الحجر عليه تفادخا وأصبح عليه نادماً صارخاً ومن شأن الحاسد إن كان المحسود غنياً أن يوبخه على المال فيقول جمعه حراماً ومنعه أيتاماً وغلب عليه محاويج أقاربه فتركهم له خصماً وأعانهم في الباطن وحمل المحسود على عطيعتهم في الظاهر فقال لقد كفروا معروفك وأظهروا في الناس ذمك ليس أمثالهم يوصلون فأنهم لا يشكرون وإن وجد لهم خصماً أعانه عليه ظلماً. وإن كان ممن يعاشره فاستشاره غشه أو تفضل عليه بمعروف كفره. أو دعاه إلى نصر خذله وإن حضر مدحه ذمه وإن سئل عنه همزه. وإن كانت عنده شهادة كتمها. وإن كانت منه إليه ذلة عظمها. يحب أن يعاد ولا يعود. ويرى عليه القعود. وإن كان المحسود عالما قال مبتدع لرأه متبع حاطب ليل. ومبتغى نيل. لا يدري ماحمل. قدر ترك العمل. فأقبل على الحيل قد أقبل بوجوه الناس إليه وما أحمقهم إذ انثانوا عليه فقبحه الله من عالم ما أعظم بليته. وأقل رعيته. وأسوأ طعمته وإن كان المحسود ذادِين قال يتصنع أن يوصى إليه. ويحج بشيء عليه ويصوم لتقبل شهادته. ويظهر النسك ليودع المال بيته. ويقرأ في المسجد ليزوج جاره ابنته. ويحضر الجنائز لتعرف شهرته. وما لقيت حاسداً قط إلا تبين مكنونه بتغير لونه. وتخوص عينه. وإخفاء سلامه. والاقبال على غيرك. والاعراض عنك والاستثقال لحديثك. والخلاف لرأيك وكان عبد الله ابن ابي قبل نفاقه نسيج وحده لجودة رأيه وبعد همته. ونيل شيمته. وانقياد العشيرة له بالسيادة. واذ عانهم بالرياسة وما استوجب ذلك إلا بعد ما استجمع لهم لبه. وتبين لهم عقله وفقد بينهم جهله. ورأوه لذلك أهلاً لما أطاق حملاً فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة

ورأى غيره تشمخ بأنفه. فهدم أسلامه لحسده. وأظهر نفاقه وما صار منافقاً حتى صار حسواداً. ولا صار حسوداً حتى صار حقوداً. فحمق بعد اللب. وجهل بعد العقل. وتبوأ النار بعد الجنة. ولقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فشكاه إلى الأنصار فقالوا يا رسول الله لا تلمه فأنا كنا عقدنا له الخرز قبل قدومك لنتوجه ولو سلم للمخذول قلبه من الحسد لكان من الإسلام بمكان ومن السؤدد في ارتفاع فوضعه الله لحسده وأظهر نفاقة ولذلك قال القائل: طال على الحاسد أحزانه ... فاصفر من كثرة أحزانه دعه فقد اشتعلت في جوفه ... ما هاج من حر نيرانه العين أشهى عنده لذة ... من لذة المال لخزانه فارم على غاربه حبله ... تسلم من كثرة بهتانه للرسالة بقية القراءة والمطالعة لفيلسوف الإنكليز اللورد باكون الكتب أنس في الوحدة ولذة في الخلوة. وزينة في المحفل وصقال الخاطر ومشحذ القريحة تترك الرجل عليماً بتصريف المسائل وسياسة الشؤون والرجل المحنك الحاذق رما أجاد إنفاذ الأمور والحكم في الجزيئيات على انفراد ولكنك إذا أردت رب مشورة وأخا نظر وتدبير فابغه بين الكتب والدفاتر والتمسه بين الصحف والمحابر هذا وانفاق جميع أوقات المرء في القراءة نوع من الكسل والاسترخاء وقصر العلوم والمعارف على التحلي بها والتزين ضرب من التصنع والرجوع إليها عند كل مشكل والصدور عن رأيها في كل أمر صنف من الخطل وضعف العقل وإنما الكتب تهذب الفطرة. والحنكة تهذبها فهي ثقاف الطبع والتجربة ثقافها والملكات الغريزية كالنبات تحتاج من العلم إلى مشذب والعلم يعطيك الآراء مبهمة تحتاج من التجربة إلى حدود فاصلات. وموضحات بينات وأهل المكر والدهاء يحقرون الكتب والقراءة وذووا السذاجة يعجبون بها وأولوا العقل والأدب ينتفعون بفوائدها فأن لها خلاف المعلومات المستفادة منها فضل بصيرة ونظر تتوفر للذي يقرن القراءة بالتأمل ويشفع النظر في نواحي الصحف بالنظر في نواحي الأمور وإذا تناولت

الكتاب فلا تجعل همك معارضة ما تقرأ ومناقضته ولا التسليم به والتصديق ولا اللهو ودفع الملل وإنما نقد الكلام ووزنه - واعلم أن من الكتب ما يتذوق ومنها ما يسترط (يزدرد ويبتلع) وقليل جداً ما يمضغ ويهضم وبيان ذلك أن من الكتب ما يتصفح ومنها ما يقرأ لكن بغير تدقيق وتدبر وقليل ما يقرأ كله مع التأمل والانعام ومن الكتب مايكلف الرجل أن يقرأها ثم يعطيه أحسنها وإنما يكون ذلك في القل قيمة وقدراً والمختارات فيما عدا ذلك كالمياه المقطرة لا طعم لها. والقراءة تترك الرجل مفعم الوعاء فياض الإناء والجدال يتركه سريع الخاطر شديد العارضة والكتابة تصيره محكم الحساب مستجمع الفكر فلذلك إذا كان الرجل قليل الكتابة احتاج إلى أن يكون قوي الذاكرة ضنين الحافظة وإذا كان قليل المناظرة استحق أن يكون طلق البديهة حاضر الذهن وإذا كان قليل القراءة وجب أن يكون كثير الدهاء حتى يوهم الناس أنه عالم بالذي لايعلم والتاريخ يترك قارئه حكيماً والشعر يتركه لبيباً والحساب يجعله سريع الذهن والفلسفة الطبيعية تصيره عميق النظر. وعلم الأخلاق يدعه شديد الوقار كثير الجد وعلوم البلاغة والمنطق ترده قديراً على المحاجة جلداً على المجادلة: وما من عورة في الذهن إلا ولها من بعض العلوم سداد ولا مرض في العقل إلا وله دواء في هذا الفن أو ذاك كما تداوى الأمراض البدنية بأنواع الألعاب فالكرة لمرض الكلى والرماية لداء الرئة والصدر والسير اللين لعلة البطن وركوب الجياد للدوار والصداع فكذلك إذا كان بعقل الرجل شرود فعالجه بعلوم الحساب لأنه إذا شرد به ذهنه أثناء البرهان أدنى شرود اضطر إلى إعادة الدليل وإذا أتى الرجل من ضعف تمييز ومعرفة بالفروق فداوه بالأدب لأن الكتاب قوم يجزئون الذرة ويقسمون الهباءة وإذا كان يعجز عن تشبيه الشيء بالشيء والاستشهاد على ذلك الأمر بذاك فاجعل له جولة في قضايا المحاكم وهكذا لكل داء من علل الذهن دواء. خطرة ضمير للأديب المفضال محمد أفندي صادق عنبر يا نائياً والفؤاد في أثره ... مضناك سله إن شئت عن خبره قد عزه شوقه فأسهره ... يا ويح للمستهام من سهره يطوى من الليل برده تعبا ... لم يشك من طوله ولا قصره

مرددا في نجومه بصرا ... حتى تمل النجوم من بصره كلما لاح بينها قمر ... هفا به شوقه إلى قمره يا رحمتا للمحب ما صنعت ... به عيون المها على حذره كم يشتكي من صدود فاتنه ... إذا غفا عاذلوه في سحره ويرسل الدمع من محاجره ... يسيل منظومه بمنتثره يا ساكن القلب وهو ملتهب ... سلمت من حره ومن شرره رفقاً بمضنى غدا على خطر ... وراح من حبه على خطره من مسعد الصب في هوي رشأ ... الحسن في دله وفي خفره والغصن يهتز في غلالته ... والبدر بادٍ منها لمنتظره منية العاشقين ناظره ... ومنية العاشقين في حوره يا خائف السحر لا مررت به ... فالسحر في لحظه وفي سمره ويا صريع العيون خذ حذراً ... من فاتك الطرف جد منكسره ما أنس لا أنس ساعة عدلت ... عمري مد الإله في عمره نعمت فيها من أنسه طرباً ... بالحسن يبدو في الجم من صوره يؤنسني والعذول يضجره ... أفديه في أنسه وفي ضجره رحماك يا هاجري بلغت مدى ... هجر الذي أنت منتهى وطره تجد في التيه ما يجد به ... هداك مهلا أسرفت في ضرره يا نظرة قد جنت عليّ وهل ... جنى على مغرم سوى نظره لم أجن غير الهوى وما ظفرت ... يداي إلا بالمر من ثمره

العلوم والفنون

العلوم والفنون ننشر في هذا الباب كل مجد من المباحث العلمية البحتة والفنون المختلفة من طبيعية وكيماوية وفلكية وطبية وزراعية وما إليها حتى تتم الفائدة وتكمل العائدة ويجد كل طالب طلبته وكل ناشد ضالته إن شاء الله. في الزراعة الدورة الزراعية او نظام التعاقب الزراعي للفاضل البحاثة أحمد أفندي الألفى 1 ترتيب زراعة الأرض بأنواع النبات وتعاقبها زرعة بعد زرعة وتواليها سنة بعد سنة - هذا هو نظام تعاقب الزروعات المسمى بالدورة الزراعية وإذا نظم التعاقب الزراعي على أن يزرع الصنف الواحد في الأرض الواحدة كل سنتين اثنتين مرة واحدة وصفت الدورة بأنها ثنائية أو على أن يزرع كل ثلاث سنين وصفت بأنها ثلاثية وعليه قولهم الدورة الثنائية والدورة الثلاثية. وأصول الفلاحة والاقتصاد تقضي بزراعة الأرض بترتيب يساعد على زيادة ربحها وتيسير خدمتها وتوفير خصبها إذ هو أهم مادة في رأس مال الفلاح والنظر في ذلك يستدعي البحث في مسائل عديدة تتعلق بالتربة والنبات والمناخ (الجو) والبيئة (الصقيع) ووسائل الخدمة والاقتصاد وغيرها فلنبحث فيما ذكرنا أولاً لكل نوع من أنواع التربة - طبقة الأرض الزراعية - أصناف من النبات تجود فيه أكثر من جودتها في غيره فيجب أن يزرع في كل أرض الصنف الأحسن نمواً فيها. ففي الأرض الصفراء - أجود الأراضي - تجود أنواع النبات المختلفة عدا القطن فإن جودته فيها أقل منها في الأرض الكحلة أي السوداء الخفيفة وعدا النبات الذي أكثر ما يجود في الأرض الرملية كالفول السوداني مثلاً. وفي الأرض السوداء تنجح أكثر أصناف النبات المعروفة ماعدا نبات الأرض الرملية

والنباتات الدرنية والبصلية كالبطاطس والقلقاس والبصل والتوم فلا تجود إلا في الأرض السلسة الرخوة وأحسن ما يجود في هذه الارض السوداء القطن والقمح والفول. وفي الأرض الرملية يزرع الشعير والذرة الرفيعة خاصة وبعض النباتات الصغرى كالحنا والفول السوداني والسمسم والنباتات البصلية والدرنية والخضروات بشرط أن تسمد كل هذه النباتات بما يوافقها من الأسمدة وينجح فيها بدون تسميد أكثر نباتات الفصيلة البقلية المخصبة للأرض كالبرسيم والحلبة والترمس. وفي الأرض الرقيقة والمستحدثة لا ينجح إلا القطن والبرسيم والشعير والأرز إلى أن تتوفر فيها المواد العضوية ويتم تحسين طبيعتها فيمكن أن ينجح فيها القمح ثم الذرة أخيراً. وقد اختبر من وجهة اقتصادية أن تزرع الأصناف الأكثر أهمية وربحاً كالقطن والقمح والقصب والفول والذرة في الأرض إلا على جودة وأن تزرع الأصناف الأخرى كالشعير والحلبة والترمس والحنا في الأرض الأقل خصباً وإن كانت هذه الأصناف كغيرها أحسن ما تجود في الأرض الخصبة. ثانياً إن بعض النباتات كالقطن والقصب والنيلة يجهد الأرض أو كما يعبر الفلاحون يتعبها أو ينخعها أو يعييها أكثر من غيره فإذا كثرت زراعته في أرض استفرغ خصوبتها وأضعفها عن إنماء سائر النبات إنماءً جيداً كما لوحظ ذلك الآن في الأرض التي يزرع القطن فيها بكثرة. فلحفظ جودة الأرض يجب الاقتصار في زراعة ذلك النبات المنهك للتربة إلى الحد الذي لا تجهد الأرض معه هذا مع تنويع زراعتها بالنبات المخصب للتربة كالبرسيم والفول والحلبة ونحوها من الزروعات التي تسمى الأرض عقبها باق وهذه اللفظة في العرف الزراعي دليل الخصب والجودة. وزراعة القمح عقب القطن مخالفة لأصول الدورة وإن كان الأول أقل إجهاداً للأرض من الثاني فإن الغرض المنشود أن يعوض المحصول التالي على الأرض ما أفقده المحصول السابق منها لا أن يكون أقل إجهاداً لها منه ونبات القمح يحتاج لعنصر الازوت فيمتصه بجذوره السطحية من سطح التربة فيفقره منه ويكون القطن قبله قد أفقر جميع التربة من هذا العنصر المهم بامتصاص جذور الطويلة له مع عمقها واذن تصير التربة بعد هذين

المحصولين مجهدة من ظاهرها إلى عمقها. وأغلب أصناف الذرة من النبات الذي يحتاج نموه الجيد لغذاء وفير والمدة القليلة التي تمكثها الذرة في الأرض لا تكفي لاغتذاءه منها الغذاء الكافي لنموه النمو المناسب بدون أن يجهد خصوبتها فيلزم تسميد الأرض له بكمية كبيرة من السماد الجيد وإذن يكون فيه عوض بل ونفع للأرض أما إذا لم تسمد بكمية وفيرة فإن محصوله فيها لا يكون جيداً ويكون مع ذلك ذا تأثير منهك للتربة خصوصاً إذا كانت الذرة من الصنف الأمريكي. ثالثاً لكل نبات قدرة مخصوصة به على أخذ الغذاء المناسب له من الأرض قاذا زرع صنف واحد مرتين متعاقبتين على أرض واحدة فلا يجد نبات الزرعة التالية في الأرض كفايته من الغذاء الذي يحتاجه لتمام نموه لأن المحصول السابق يكون قد استهلك أكثره منها فتأتي الزرعة التالية أقل نمواً وأشد تأثيراً وإذن لا يصح زراعة قمح بعد قمح ولا فول بعد فول لضعف استعداد الأرض وقابليتها عن إنماء الزرعة التالية بما استغرقته منها الزرعة السابقة. والفول وإن أفاد التربة في الازوت الذي هو أهم عنصر في خصبها فإنه ينقص منها عنصر آخر هو البوتاسا ولايسد مسده وفرة عنصر آخر غيره وخصوبة الأرض لأي محصول إنما تكون بوفرة جميع العناصر اللازمة لنموه وإنما كان الأزوت أهم عنصر في خصب الأرض لأنه ألزم من غيره لنمو النبات ولكن لأنه لا يوجد فيها الابقلة فإذا زاد هو عن حاجة زرع ما ونقص عنصر آخر يحتاجه ذلك الزرع اعتبرت الأرض غير خصبة له للمقال بقية.

المقالات والرسائل

المقالات والرسائل الجمال والحب وأثرهما في الحياة للكاتب الفاضل محمد حسين هيكل لعل أرقى غاية يعيش من أجلها الإنسان أن يصل إلى اكتشاف الجمال المكتن في الأشياء التي تحيط به ولعل كل القوى التي يصرفها في أعماله والمجاشم التي يتجشمها والمتاعب الكثيرة التي تثقله بحكم الحياة والآلام التي تنتابه من حين إلى حين. لعل ذلك كله على الرغم مما كان يقتضيه بالطبيعة من إدخال اليأس إلى نفسه وتشجيعه على مغادرة عيش مملوء بالأحلام الفظيعة أكبر دليل على أن هناك له مقصداً سامياً غير الغرض المادي الذي يريد: هذا المقصد السامي هو تقديس الجمال وعبادته. سألت نفسي مراراً ما معنى الحياة ومن أجل ماذا أعيش. وسألت آخرين هذا السؤال فلم احر جواباً في الأولى ولا رد على من سألت في الأخرى إلا بنوع من الحيرة تخالطه دهشة وغرابة حتى كأن صاحبي لم يسمع هذا السؤال حياته. والواقع أنه سمعه مراراً. ولكن لما لم يكن يدري الغرض المحدود الذي يرنو له والذي يريد أن يظفر به من حياته. لما لم يكن يدري المعاوضة التي سيجدها يوم يريد أن يودع أرضنا إلى الفناء الأبدي المهيب لم يجد جواباً يجيبني به غير الدهشة والحيرة. أما أنا فأعتقد أن أرقى الناس مدارك وأدقهم إحساسات إنما يعيشون ويعملون ويحبون الحياة حباً في الجمال الذي تحويه. ذلك شأنهم من أيام ما قبل التاريخ وشأنهم اليوم. ولو أنك أخذت أقدم الكتب التي يمكن أن تقع تحت أيدينا لوجدت المعنى الشعري يتمشى فيها من أولها إلى آخرها ولتبين لك مقدار خيال الغابرين من أجداد الإنسانية وولوعهم بالطبيعة التي تحيط بهم وتقديرهم لما تحويه من جمال. كما أن الكتب العلمية البحتة في هذه العصور الحاضرة أي حين جاهد الكتاب للتفريق بين العلوم والآداب ما أمكنهم لا تخلو من الوصف الدقيق والولوع بالجمال في أدق الأشياء إلى حد كبير. بل أن أكثر الناس ولوعاً بالطبيعة وجمالها جماعة العلماء أمثال دارون وسبنسر. وكفى دليلاً على ذلك بحثهم فيها وتنقيبهم عن مخبآتها. والواقع أن العلم فتح أمامنا باباً واسعاً نقدر منه تقديراً أدق ما تحويه الأشياء من إبداع

ونحن مدينون له (كما قال السير جون لبك في كتابه بدائع الطبيعة) بتوسيع دائرة مشاهداتنا فنرى غير ما تراه العين العارية من الدقائق المتناهية في الصغر والجلائل المتناهية في الكبر ما ترفع الحجاب عن الأنبوبتان السحريتان - المكرو سكوب والتلسكوب. هذا السعي الدائم من كل الناس نحو الإحساس بما تحتويه المحيطات من بديع الخلق غير محس النتيجة عند الأكثرين ولكنك تراه ظاهراً وأضحاً عند الإنسان كلما ارتقى في الإنسانية وصار أوسع علماً بنفسه وبغيره ولاشيء أدل على ذلك من أن كل الذين اتفقت الإنسانية على تسميتهم عظماء الرجال مهما كانت مشاربهم ومذاهبهم لهم تعلق خاص بكل أنواع الجمال أو ببعض منها وإذا كان هناك من يستثنى من هاته القاعدة ممن جازف الناس في تسميتهم عظماء وكانوا لا يحبون الجمال فهؤلاء إن حللنا نفوسهم ودققنا بعض الشيء في تاريخهم نجدهم دائماً ناقصين نقصاً كبيراً في درجتهم الإنسانية وإن الذي أعطاهم العظمة ليس إلا نوعاً من أنواع الجنون الذي يعتري العقل فيجعل صاحبه يفرط في شهوة من الشهوات ويجد من مركزه مساعداً على ذلك كمن يضعه مولده على كرسي الملك ثم يسرف في القتل وسفك الدماء وينال بذلك اسماً في التاريخ. وليسوا هم العظماء وحدهم الذين يقدسون الجمال بل ذلك كما قدمنا سعي كل شخص مالك قواه الطبيعية. فإن تجربتي الشخصية أظهرت لي أن الناس من جميع الطبقات وفي جميع الأعمار لهم به ولوع خاص وإلى حد غير محدود ألا ينام الطفل ساعة تغني له أمه بأغانيها الهادئة الساكنة فينتقل من تهيجه الشديد وبكاءه إلى تخدر الأعصاب الذي يتبع النشوة والطرب ثم ينتقل من ذلك إلى عالم الموت الأصغر (النوم). وكثيراً ما يحدث أنه إذا نام ثم سكتت أمه تعاوده اليقظة ويرجع للبكاء لأن المؤثر الذي كان قد زال ولم تصل أعصابه إلى سكونها الكافي لراحته. كذلك أذكر حين كنت صغيراً وأخرج بعض ليالي الصيف الساهرة للجرن الفسيح لألعب مع الأولاد هناك أنني كنت أجد بعضهم أحياناً واقفاً محدقاً للسماء يرنو إلى البدر ثم يقلب نظره في النجوم وهو تائه في عالم عظيم من الأحلام لا نهاية له وليس ذلك الصغير إلا فلاحاً ساذجاً من الذين لا يعرفون حتى ولا القراءة والكتابة تتوج جمال الطبيعة العظيم وتجلس على عرشه المرأة. في ذلك المخلوق الإنساني الرقيق وراء الجمال المحس جمال آخر أكثر تأثيراً في النفس وامتلاكاً للقلب وسلطاناً على

العواطف. فيه روح شفافة بديعة تجمع إليها من المعاني مالا تجمعه الأشياء الأخرى لذلك لا نكون مغالين إذا قلنا أنها ملكة الجمال. هذا المركز يعترف لها به الناس جميعاً. وأنك إن شئت أن تمثل أرقى المعاني وأرقها في صورة محسة ملموسة. إذا خطر ببالك أن تجمع في جسم من الأجسام الصفات الدقيقة المحبوبة لنفوسنا فأول ما يخطر بذهنك أن تمثلها فيه أن تجعل لها المرأة مثالاً. وباعتبارها ملكة الجمال فأنها تحل من نفوس جميع الناس أعماقها ومن قلوبهم حباتها. ومهما يكن ولوع الإنسان بالطبيعة وما عليها عظيماً. مهما يكن محباً للسماء ونجومها والأرض وأبحارها وجبالها وأشجارها ورياضها وأزهارها فإنه يحني رأسه اعترافاً بأنه إنما على رأس ذلك الجمال الذي يعبد توجد المرأة وقل إن تجد لهذه القاعدة استثناء. كانت المرأة من أجل هذا موضع الحب الذي يملك الحواس والنفس ويستولى على كل وجودنا ويسهل علينا معه أن نندفع لعمل كل المستحيلات والوصول إلى أبعد الغايات وبلوغ كل شيء ولو كان الموت الزؤام. هذا الحب المخصوص الذي ننسى معه أنانيتنا وحبنا لذاتنا من أجل محبوب لنا له من الأثر في الحياة أكبر ما يمكن تصوره. كما أن الولوع بالموجودات الحية والجامدة يشكل وجودنا بشكل مخصوص يكون له على أعمالنا من الأثر ما يجعلها تختلف باختلاف مقداره. وهذا الأثر الذي للحب والجمال يتعدانا إلى ما حولنا ويؤثر في المجموع لتأثيره في أفراده حتى ليكون حتماً علينا أن ننظر فيه بتدقيق ونفتش عما عساه يأتي به في حياة كل فرد وفي حياة الأمة. ذلك هو السبب الذي دفعني إلى البحث في موضوع كهذا يحسب خطأ عندنا ذا أهمية ثانوية وإن هو إلا صاحب الدرجة الأولى في الحياة النفسية مهما رجعنا في التاريخ إلى الوراء ومهما فتشنا في العصور القديمة فإن محالاً أن نجد عصراً كان أصم أمام الجمال بل أنه ليخيل إلي أن أول ما فتح الإنسان عينيه للوجود: أول ما جاء آدم إلى الحياة ورمي بنظرة على ما حوله لا بد أن يكون قد دخل إلى نفسه معنى الجمال فأخذ بصره أشياء أكثر من أشياء أخرى وبلغ بعضها من الأثر فيه إن أوصلته إلى الإعجاب بها وإدامة النظر إليها والشعور بالغبطة لمرآها: أي انه قد خالطه من أول وجوده الإحساس بالجمال.

ليس الإنسان وحده الذي يقدر الأشياء الجميلة ويحبها بل أن كثيراً من الحيوان له من الولوع بذلك ما يفوق التصور. وإذا كنا لا نقيم وزناً لما يروى بعض المؤرخين من إنصات سباع الفلاة لمغن متقن فإن حب بعض الدواب كالثعابين لسماع الموسيقى معروف حتى عند العامة كما أن من الحيوانات ما يبلغ منه الطرب كالخيل التي تسمع الموسيقى فتهتز كل أجزاءها وترقص معها أو كعيس البيداء تنسى نفسها وتنسى التعب إن تسمع الحادي يوقع غناءه توقيعاً حسناً. كما شوهد كذلك أن بعض الطير تعني عناية خاصة بتنظيم عشها وتجميله فتضع حولها أوراقاً مخصوصة لا لغاية أخرى سوى أن ترى العش جميلاً. . . بل أنه ليخيل إلينا أن من الجمادات ما يحس الجمال وإذا كانت الأشياء لا تقدر على إبداء ذلك بحركة إذ لا حركة لها فإن ما أجده من بعضها من الرقة وما يثيره عندي أغلب الاحايين من الاحساسات الغريبة. يجعلني أقدر لها حياة خاصة تستطيع معها أن تتأثر بالمحيطات بها. ما هذا الجمال الذي يحسه الإنسان والحيوان والأشياء، أي شيء هو، وهل في الإمكان تعريفه. ليس من غرضي هنا أن أبحث عن المعنى الذي نجده في القاموس لكلمة الجمال فذلك معروف كما يذكره بعضهم ولكنما أريد أن أصل إلى شيء غير هذا أريد أن أصل لأقول أن الجمال هو السحر الذي تحويه الأشياء فتجذب به إليها سليم الذوق وتعمل في حواسه ما يتركه تحت أثرها مملوأ بالسرور أو الأعجاب أو بتلك اللذة المخدرة التي نتيه معها في عوالم الأحلام الواسعة ناسين أنفسنا والمحيطات بنا. فبمقدار الأثر الذي يحدثه الشيء في نفوسنا يكون مبلغه من الجمال. إذا مررت أمام صورة متقنة جذبك إليها جمالها فكم من الزمن تبقى محدقاً بها رائحاً في إعجابك إلى قصى حدوده. زمن لا يمكنك أن تقدره لأنك في تلك الساعة تنسي الزمان وتقديره وتنسي كل شيء إلا الصورة الجميلة التي أمامك. بل أنك لتنسى نفسك حتى ليهون عليك أن تعمل مالاً تعمله وأنت مستقل مالك كل حواسك كنت العام الماضي في أفنيون وزرت متحفها فاستوقفتني فيها صورة كلما ذكرتها تأوبني لها من الخضوع مالا أفهم. . . تلك صورة عذراء أمامها مستتيب. فتاة رقيقة القوام حادة

الأنف ساحرة العينين قد انسدل فوق جسمها الخصيب ثوب فضفاض ثم لفتها سحابة سماوية اللون. كنت كلما تركتها خيفة أنتهاء الوقت وطمعاً في أن أرى ما سواها رجعت إليها غير مستطيع أن أفارقها الفراق الأخير وحدقت منها بتلك الصورة الملائكية الناطقة. كذلك هنا في باريس في متحف الكسميور تمثال للعذراء على أمتار من شمال الداخل. تمثال مصقول محكم بديع لا تلبث أن تراه حتى يسرق من وقتك ما لا تأسف على ضياعه. هذا السحر الذي تحويه الأشياء الجميلة. هاته القوة التي تجذبنا إليها وتأسرنا بسلطانها وتضطرنا للخضوع لها مسرورين بخضوعنا راضين بأسرنا. هذا السر الكامن تجتليه حواسنا وتجد فيه من الابداع ما يبعث إلينا النشوة أو الطرب - هذا كله هو روح الشيء وحياته. وما من شيء مما يحيط بنا إلا فيه جمال في أية ساعة من النهار تنظر السماء تجد لها العظمة والجلال في صفوها أو الحزن المهيب في قتومها أو الزينة البديعة ساعات الشفق حين تغيب الشمس وراء الآفاق وتبعث إلى القبة الهائلة بألوانها ثم حين يتبدد ذلك قليلاً قليلاً ويأتي على جميعه آية الليل ويدخل الوجود كله تحت ستاره العظيم. وإن أنت اجتليتها بالليل وكنت في أيام القمر حين يخطر الكوكب العاشق وسط السماء ويبعث للعالمين بنظراته الهائمة ويرنو لمحبيه بعين رائقة سائغة ثم يجري من تحته غمام يجعله أشد نحولاً وأكثر عشقاً إن أنت اجتليتها في هذه الساعات الصامتة حين تسكت الخليقة ويتهادى النعيم وسط الجو الساكن ويترنح البدر ثملاً في الفضاء الهائل وجدت بها من الجمال مالا يحويه إلا الخيال. والبدر وحده ما أحلاه وما أجمله. ما رأيته إلا أخذني حسنه وبقيت محدقاً به الزمان الطويل. وإني لأذكر أياماً كنت فيها على شاطئ البحر وأرى مشرق القمر من بين موجاته يبدو محمراً كأنما خرج رغماً من بعد جدال ثم يسري عنه ويراجعه هدوءه ويبسم من جديد ويرسل على الكون كله لجة النور فتغرق فيها الموجودات ويلمع الضوء على صحيفة الماء وتتخطفه الأمواج متلاعبة به ثم قاذفة نفسها وإياه إلى الشاطئ. كذلك أذكر أياماً أخرى كان البدر لي فيها نعم الصديق وأنا بين البحيرات والأجبال. أذكر مرة كنت مسافراً على القارب من جنيف إلى مونتريه وقد غابت الشمس ونحن في

منتصف الطريق وطلع القمر وأنا مشغول ببعض كتابة في يدي لم يذهلني عنها إلا أن سمعت خادمة المطعم من ورائي تنادي صديقاً لها تعال شوف فوضعت أنا الآخر كراستي ولم أكد أرفع نظري حتى رأيت أبدع منظر. رأيت الجبال يلفها الضباب في ثوبه الشفاف والقمر بين قممها كبيراً متورد اللون أخجلته الأنظار الكثيرة التي اتجهت في تلك اللحظة إليه فرمى بنظراته إلى ما تحته وبعث على البحيرة الوديعة الهادئة خطاباً من ذهب ثم صار يحبو. متثاقلاً بطيئاً وسط لجة السماء وبين صخور الجبال ويلقى عنه ثوبه الوردي ليظهر بجماله ولا يفتر يرنو للبسيطة وما عليها ويتبع قاربنا في مسيره وقد رسم إلى جانبه فوق سطح الماء سكة لجية تتماوج حتى تضيع في ظل الجبل. هذا جمال السماء وليست الأرض أقل جمالاً. ليست جبالها العالية تخرق الجو ثم تنحدر يغطيها الشجر الأخضر والنبات والعشب أو تجلل رؤوسها بتيجان الثلوج الناصعة. وبحارها الواسعة تقصر العين دون آفاقها وتتابع موجاتها عالية هابطة وتكن في جوفها من السر ما نعجز دونه. وسهولها الهائلة تقوم فوقها الزروع شتى ألوانها. وأنهارها وغدرانها وأشجارها وما يحويه ذلك كله ثم حيواناتها باشكالها الجميلة المتباينة وطبائعها المتخالفة العجيبة ما تكنه من معان يحار الذهن دونها. ليس ذلك كله إلا شيأ يأسر اللب ويأخذ بالنفس ويجعلنا نحس أن ما حولنا وما يحويه من جمال هو سبب الحياة ومعنى السعادة. (للرسالة بقية).

عبرة وذكرى

عبرة وذكرى حديث الهجرة طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعى أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع بهذه البيوت الشعرية العذبة التي يترقرق فيها ماء الإخلاص فكأنها السيل المنحدر لسهولتها وخلوصها رفع النساء والولائد والصبيان أصواتهم على تلول المدينة في رونق الضحى عند شروق شمس النبوة عليهم ووفدة خاتم النبيين محمد بن عبد الله إليهم كما ترفع البلابل والأطيار والعصافير والديكة أصواتها عندما يغمر نور الفجر هذه الحياة: فما أليق بنا الآن وبعد الآن أن نستشعر إخلاص أولئك الأصفياء ونستظهر شعرهم هذا السهل الصافي من كدر التعمل والرياء ونترنم به في مثل هذا اليوم من كل عام ونعلم أن الإخلاص هو لب التقى وروح الإسلام. في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام 622 لميلاد السيد المسيح هاجر السيد السند والرسول الامجد فخر ولد عدنان وصفوة بني الإنسان سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي عليه صلوات الله وتسليماته من مسقط رأسه وريحانة نفسه البلد الأمين (مكة) إلى بلد آخر أجنبي يسمى يثرب في سبيل إعلاء كلمة الدين وبث روح اليقين بعد أن كشرت له الشدائد عن أنيابها ومدت له المنايا بأسبابها وتألبت قريش وسائر قرابته عليه وأجمعوا على قتله والاستراحة منه قبل أن يبلغ رسالات ربه ويتمم هدايته - فصدق بذلك فعله قوله لعمه أبي طالب يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته وأقام لنا بذلك أنصع برهان على صدقه وإخلاصه وأنه على الحق الابلج الوضاح وألقى علينا درساً من أعود الدروس وأردها وأفيدها لمن يعنيه الفوز والظفر ببغيته ذلك هو الثبات والصبر على (المبدأ) ما دام الإنسان يعتقده حقاً مهما لاقى في طريقه من الصعاب والشدائد ومهما طغا الباطل على حقه فإن الباطل عمره قصير وإن الله ليقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.

حديث الهجرة مأخوذاً من أوثق المصادر أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين وجد في أثنائها الأمرّين (الشدائد) حتى إذا ماتت زوجه السيدة خديجة وعمه أبو طالب نالت منه قريش من الأذى مالم تكن تنال منه في حياة زوجه وعمه فخرج رسول الله إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به عن الله فردوا عليه أقبح الرد وآذوه وأغروا به سفهاءهم - ثم صار النبي يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة فلا يجد أحداً ينصره ويجيبه حتى أنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم فإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة وأبو لهب وراءه يقول لا تطيعوه فإنه صابيء كذاب فيردون على رسول الله أقبح الرد ويؤذونه ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك وهو يدعو إلى الله ويقول اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا. وكان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانوا يسمعون من يهود المدينة أن نبياً من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وارم وكان الأنصار يحجون البيت كما كانت العرب تحجه دون اليهود فلما رأى الأنصار رسول الله يدعو الناس إلى الله عز وجل وتأملوا أحواله قال بعضهم لبعض تعلمون والله يا قوم إن هذا الذي توعدكم به يهود المدينة فلا يسبقنكم إليه وكان سويد بن الصامت من الأوس قد قدم مكة فدعاه رسول الله فلم يبعد ولم يجب حتى قدم أنس بن رافع أبو الحيسر في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف في قريش فجاءهم رسول الله وقال هل لكم في خير مما جئتم له أن تؤمنوا بالله وحده ولا تشركوا به شيئاً فقال إياس بن معاذ وكان شاباً حدثاً يا قوم هذا والله خير مما جئنا له فضربه أبو الحيسر وانتهره فسكت ثم لم يتم لهم الحلف وانصرفوا إلى المدينة - ولما جاء الموسم تعرض رسول الله عند العقبة لستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج وهم أبو إمامة أسعد بن زرارة وعوف ابن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله فدعاهم إلى الإسلام وإلى معاونته

في تبليغ رسالة ربه فآمنوا به وصدقوه وقالوا إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل وهذا هو بدء الإسلام لأهل المدينة فلما كان العام المقبل جاء منهم اثنا عشر رجلاً الستة الأول خلا جابر بن عبد الله ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم وذكوان بن عبد القيس - وقد أقام ذكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة فيقال انه مهاجري أنصاري - وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة والعباس بن عبادة فاجتمعوا برسول الله عند العقبة قال عبادة بن الصامت فبايعناه بيعة النساء - وذلك قبل أن يفترض علينا الحرب - على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء غفر وإن شاء عذب وهذه هي العقبة الأولى فلما انصرف القوم عن رسول الله بعث إليهم مصعب بن عمير وعمرو بن أم كلثوم وأمرهما أن يقرآنهم القرآن ويعلمانهم الإسلام ويفقهانهم في الدين فنزلا على أسعد بن زرارة وطفقا يدعوان بقية الأوس والخزرج إلى الإسلام فأسلم على يديهما بشر كثير منهم أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل وذاع الإسلام في المدينة وانتشر ثم رجع مصعب إلى مكة ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأوس والخزرج من المسلمين والمشركين وزعيم القوم البراء بن معرور فلما كانت ليلة العقبة وقد انقضى هزيع من الليل تسلل إلى رسول الله ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان قال كعب ابن مالك - وكان أحد هؤلاء - فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله حتى جاءنا معه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له فلما جلس كان العباس أول متكلم فقال يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمي الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - أن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وأنه قد أبي إلا الانحياز اليكم واللحوق بكم إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما علمتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد بعد الخروج به اليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده قال فقلنا له قد سمعنا ما قلت

فتلكم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت قال فتكلم رسول الله فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فأخد البراء بن معرور بيده ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك ممن نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر فاعترض القول: والبراء يكلم الرسول: أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت أن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله وقال بل الدم الدم والهدم والهدم أنا منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم فاخرجوا منهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخرزج وثلاثة من الأوس فقال لهم رسول الله أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسي بن مريم وأنا كفيل على قومي يعني المسلمين قالوا نعم - ثم قال لهم رسول الله ارفضوا إلى رحالكم فقال له العباس بن عبادة بن فضلة والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل مني غدا بأسيافنا فقال رسول الله لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتي جاؤنا في منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه قال وقد صدقوا لم يعلموه. قال: ونفر الناس من منى وذهب الأنصار إلى المدينة وأذاعوا فيها الإسلام. بدء الهجرة قال محمد بن إسحاق المطلبي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل وكانت قريش قد اضطهدت على من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم فهم من بين مفتون في دينه ومن بين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد فراراً منهم: منهم من بارض الحبشة ومنهم من بالمدينة وفي كل وجه فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة وكذبوا نبيه وعذبوا

ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه اذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم فكانت أول آية أنزلت في أذنه له في الحرب قول الله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور - ثم أنزل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة - أي حتى لا يفتن مؤمن عن دينه - ويكون الدين لله} - أي حتى يعبد الله لا يعبد معه غيره - فلما أذن الله للنبي في الحرب وتابعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار فخرجوا أرسالا ثم أقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة ولم يتخلف معه بمكة أحد إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله في الهجرة فيقول له الرسول لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً فيطمع أبو بكر أن يكونه. خبر دار الندوة ولما رأت قريش أن رسول الله قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا منهم منعة فحذروا خروج رسول الله إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة. وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها: يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله حين خافوه وقد اجتمع فيها أشراف قريش مثل عتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم ممن لا يعد من قريش فقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم فإنا والله ما نأمنه علي الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأينا ثم تشاوروا فقال فقال قائل منهم احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب

أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيراً والنابغة ومن مضى منهم من الموت حتى يصيبه ما أصابهم - وقال آخر نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا أخرج عن فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت - فقال أبو جهل إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة شاباً فتي جليداً نسيباً وسيطاً فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدون إليه فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم - فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله ينام في برده ذلك إذا نام - وكان بين المجتمعين أبو جهل فقال وهم على الباب إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها - ثم خرج عليهم رسول الله فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات من يس والقرآن والحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم إلى قوله فأغشيناهم فهم لا يبصرون حتى فرغ رسول الله من هؤلاء الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنظرون ههنا قالوا محمداً قال خيبكم الله قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته أفما ترون مابكم فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله فيقولون والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا - وكان مما أنزل الله من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو

يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين - أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} - ثم أذن الله لنبيه عند ذلك في الهجرة. هجرة النبي إلى المدينة قال ابن اسحق وكان أبو بكر رجلاً ذا مال فكان حين أستأذن رسول الله في الهجرة فقال له الرسول لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً قد طمع بأن يكون رسول الله إنما يعني نفسه حين قال له ذلك فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك: حدثت عائشة أم المؤمنين قالت كان لايخطيء رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار أما بكرة وأما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسول الله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهر اني قومه أتانا رسول الله بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها فلما رآه أبو بكر قال ماجاء رسول الله هذه الساعة إلا لأمر حدث فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله عليه وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر فقال رسول الله اخرج عني من عندك فقال يا رسول الله إنما هما ابنتاي وما ذاك فداك أبي وأمي فقال إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال الصحبة قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ ثم قال يا نبي الله إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا فاستأجرا عبد الله بن أرقط: رجلاً من بني الديل بن بكرو كان مشركاً: يدلهما على الطريق فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما قال ابن اسحق ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر أما علي فإن رسول الله فيما بلغني أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم - فلما أجمع رسول الله الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غار بثور: جبل بأسفل مكة: فدخلاه وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر ابن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاراً

ثم يريحها عليهما يأتيهما إذا أمسى في الغار وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما - فأقام رسول الله في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله وأبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفى عليه حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيرهما وبعير له وأتتها أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاماً فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاماً ثم علقتها به فكان يقال لأسماء ذات النطاق بذلك قال ابن اسحق فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله قدم له أفضلهما ثم قال إركب فداك أبي وأمي فقال رسول الله إني لا أركب بعيراً ليس لي فقال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به قال كذا وكذا قال قد أخذتها به قال هي لك يا رسول الله فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق - حدثت أسماء قالت لما خرج رسول الله وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر قلت لا أدري والله أين أبي فرفع أبو جهل يده وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا - وحدثت أسماء قالت لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه قلت كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً قالت فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيه ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال فوضع يده عليه فقال لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم - ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك - قال ابن اسحق حدثنا سراقة بن مالك قال لما خرج رسول الله من مكة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم قال فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ

أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مرّوا عليّ آنفاً إني لأراهم محمداً وأصحابه فأومأت إليه بعيني إن أسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم قال لعله ثم سكت قال ثم مكثت قليلاً ثم قمت فدخلت بيتي ثم أمرت بفرسي فقيد لي إلى بطن الوادي وأمرب بسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي ثم أخذت قداحي التي استقسم بها ثم انطلقت فلبست لأمتي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة فركبت على أثره فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فلما بدا القوم ورأيتهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه ثم أنتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني فناديت القوم وقلت أنا سراقة بن مالك انظروني أكلمكم فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم من شيء تكرهونه فقال رسول الله لأبي بكر قل له وما تبتغي منا فقال لي ذلك أبو بكر قلت تكتب لي كتاباً يكون آية بيني وبينك قال اكتب له يا أبا بكر فكتب لي كتاباً في عظم أو في رقعة أو في خزفة ثم ألقاه إليّ فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت فسكت فلم أذكر شيئاً مما كان حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله وفرغ من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت في كتيبة من خيل الانصار فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك إليك ماذا تريد؟ فدنوت من رسول الله وهو على ناقته والله لكأني أنر إلى ساقه كأنها جمارة فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابك لي أنا سراقة بن مالك فقال رسول الله يوم وفاء وبر ادنه فدنوت منه فأسلمت ثم تذكرت شيئاً أسأل رسول الله عنه فما أذكره إلا أني قلت يا رسول الله الضالة من الأبل تغشي جياضي وقد ملأتها لأبلى هل لي من أجر في أن أسقيها قال نعم في كل ذات كبد حرى أجر ثم رجعت إلى قومي فسقت إلى رسول الله صدقتي - قال ابن اسحق فلما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج ثم استجاز بهما حتى عارض

الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُديداً ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار ثم سلك بها ثنية المرة ثم سلك بهما لقفاً ثم أجاز بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مدلجة محاج ثم سلك بهما مرجح مجاج ثم تبطن بهما مرجح ذي العضوين ثم بطن ذي كشر ثم أخذ بهما على الجداجد ثم على الأجرد ثم ذا سلم من بطن أعداثم مدلجة تعهن ثم على العبابيد ثم أجاز بهما القاحة وقيل الفاجة ثم هبط بهما العرج وهي من منازل الجادة بين مكة والمدينة ثم سلك بهما من العرج إلى ثنية العائر عن يمين ركوبة حتى هبط بهما بطن رئم ثم قدم بهما قُباء على بني عمرو بن عوف وذلك حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول كما أسلفنا. تتمة الحديث قال ابن اسحق حدث رجال من الأنصار قالوا لما سمعنا بمخرج رسول الله من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلاً دخلنا وذلك في أيام حارة حتى إذا كان اليوم الذي قدم رسول الله جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا وقدم رسول الله حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله علينا فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء فخرجنا إلى رسول الله وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر في مثل سنه وأكثرنا لم يكن رأى رسول قبل ذلك وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر حتى زال الظل عن رسول الله فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك - قال ابن اسحق فنزل رسول الله على كلثوم بن هدم أخي بني عمرو بن عوف ويقال بل نزل على سعد بن خيثمة ونزل أبو بكر على خبيب ابن اساف أحد بني الحرث بن الخزرج بالسنح - قال ابن اسحق وأقام عليّ ابن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى ادي عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم ابن هدم فكان عليّ بن أبي طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو اثنتين: يقول كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة قرأيت إنساناً يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئاً معه فتأخذه فاستربت

بشأنه فقلت لها يا أمة الله من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئاً لا أدرى ما هو وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك قالت هذا سهل بن حنيف بن واهب قد عرف أني امرأة لا أحد لي فإذا أمسى عدا علي أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا - قال ابن اسحق فأقام رسول الله بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الاربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة فأدركت رسول الله الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم بن عوف فقالوا يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة: لناقته: فخلوا سبيلها فانطلقت - وهكذا صار كلما مر بقبيلة من قبائل العرب قال له رئيسها أقم عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمنعة فيقول لهم خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار ثم من بني مالك بن النجار وهما في حجر معاذ بن عفراء: سهل وسهيل ابنى عمرو: فلما بركت ورسول الله عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله وقال ههنا المنزل إن شاء الله فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله ووضعه في بيته ونزل عليه رسول الله وسأل عن المربد لمن هو فقال معاذ ابن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسأرضيهما منه فاتخذه مسجداً فأمر به رسول الله أن يبني مسجداً ونزل رسول الله على أبى أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه ثم انتقل من بيت أبي أيوب إليها. ثم تلاحق المهاجرون فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس أما المدينة فعم أهلها الإسلام. وبعد ذلك ابتدأت الأعمال العظيمة من التشريح والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين مما نرجي الكلام عنه إلى موضعه ن تاريخ الإسلام الذي ينشر في البيان تباعاً إن شاء الله.

مقدمة تاريخ أداب العرب

مقدمة تاريخ أداب العرب لأبي السامي مصطفى صادق الرافعي صدر المجلد الأول من هذا التاريخ الذي عقمت بمثله العصور العربية إلى اليوم وقد كتب له صاحبه مقدمة سالت من ذلك القلم النوراني كما يسيل الندى من مقلة الفجر، وسقطت على الأرواح كما يسقط ذلك الندي على الزهر فهي النور المشرق في صفحة الصباح ينبعث من أفق واحد ويضيء على كل الآفاق وكذلك تراها في أوراق هذا الكتاب ولا ترى مثلها في سائر الكتب والأوراق. وقد رأينا أن نحلى بها البيان لأنها طراز في الإنشاء لايدانيه طراز ونمط أن رأى فيه صاحبه النابغة معنى الاعجاب رأى الناس فيه معني الإعجاز قال حفظه الله: (أما بعد) فإن هذا التاريخ علمٌ قد كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام، واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عجلة الرأي ولجاجة الأقدام، وقد أخصب في الأوهام، حتى نفشت في واديه كل جرباء وامتزج أمره بالأحلام، فلم يمس كتابه علماء حتى أصبح قراؤه أدباء، على أنهم تجاذبوه انتهاباً فجاء واهياً في وثيقته، وتناكروه اهتياباً فخرج ضعيف الشبه بين ظاهره وحقيقته، وما منهم إلا من يحسب أنه أمال بالقلم يده فمضي مرخى العنان، مخلى له عن طريق السبق إلى الرهان، وإن للقلم لو أطلقوا لنفرةً أيسر خطبها الجماح ولكنه مذلل كالطائر أهون ما يطرد إذا كان مهيض الجناح. كثرت الكتب وهي إما أعجمي الوضع والنسب، وإما هجين في نسبته إلى أدب العرب، يلتفت فيها الكلام التفاتة السارق إلى كل ناحية ويسرع في مره إسراع السابق على كل ناجية، فلا يحققون ولكن يخلدون إلى سانح الخاطر كيفما خطر، ولا ينقبون ولكنهم يجدون في كل حجر أصابوه معنى الأثر، وإذا كتبوا تاريخ الرجال فكأنهم يكتبونه على ألواح القبور، ثم ينطلق الكتاب وفي صدره اسمُ (المؤلف) يسعل به كما يسعل المصدور، وهم لو علموا منطق المعاني لرأوا كلاماً كثيراً يدعوهم أن يدعوه، وكان يرفعهم لو أنصفوه ولم يضعوه ولكنهم يأخذون في جانب ويضمون ماضم حبل الحاطب، وإنما العلم كالروض يقصر بعض أغصانه فيسهل على كل متناول، ويطول بعض فروعه فيكد يد الفارع المتطاول وهذا التاريخ قد طوي في رؤس أهله فكانت جماجمهم غلاف كتابه، وغابت

حقائقه في القبور كما يغيب أثر الميت في ترابه، فلم يبق إلا انفاق الأعمار وسيلة لاستدراك ما فات، وليكون ما يموت من عمرُ الأحياء فداءاً لآثار الحياة بعد من مات، وفي ذلك هم من الكد يلحف القلوب والأكباد وحرقة تتلذع حتى في القلم والصحيفة والمداد. وضيقٌ يخيل للباحث أن بين الأوراق. بحاراً ذات أعماق، وأن رأسه يصطدم من أحرف السطور بحروف الصخور، وضجر يتوهم به الكاتب أن روحه تثب من جسده إلى يده، فيجد للقلم حزاً كالحز في الوريد، ومسامن نفسه كمس المبرد للحديد، بل يرى كأن المعاني لا تنضج إلا إذا جعل رأسه قدرها وأوقد من فكره جمرها، فيتنسم وكأنه يتنسم بعض دخانها، ويزفر وكأنما يزفر من حر نيرانها. وأنا لم أصور للقارئ هذا الجحيم الذي خلق للكتاب، ولا ذكرت ما أعد لهم فيه من أنواع العذاب، لأدعي أني الكاتب الذي لا يصرف غيره الأقوال، ولا أن كتابي يعد شيئاً إذا الأشياء حصلت الرجال، ولا أن لي محابر الأقلام ومدادها وبياض الصحف وسوادها، فإني لست في هذا (العصر) ممن تخدعه الشمس بطول ظلله، أو تغره النفس بكثرة وقله، ولكني رأيت من كتب في هذا التايخ يريد أن يستولي على الأمد وادعاً في مكانه، ويلحق الطريدة ثانياً من عنانه، ويستبد بالسبق من قبل أن يجري في رهانه، ومن ألف فقد استهدف أيما استهداف والراي كما قيل ميزان لا يزن الوافي لناقص ولا الناقص لواف، ولا أكذب الله فإن كتب القوم في الأيدي كالثياب المتداعية كلما حيصت من ناحية تهتكت من ناحية، اقتصروا فيها على تمزيق الأسفار، فجعلوا القلم كالمقراض، واختصروا من التاريخ أقبح الاختصار، فكأنه لم يكن للعرب أمرٌ ماض، وهذا العلم إن لم يزاول بقوة النية خرج ضعيفاً والقلم غصن روحي فإن لم تروه النفس أصبح قصيفاً. لا جرم أن هذا التأليف ليس إلا مدرجة التلف، بعد أن أغفله من سلف وعفا الله عما سلف، وقد يقتحمه رجل الهمم، فلا يلبث من فرقه، أن تراه كالصبي في مشيته يتخلع، ويركبه فارس القلم، فلا يلبث من نزوه وقلقه، أن تراه كالجبان في سرجه يتقلع، فإنما هي حقائق بعضها متمني فات، وبعضها لا يزال حملاً في بطون المؤلفات، فليس الصبر على نفض تراب المناجم، حتى يخرج معدن الذهب، بأشد من الصبر على فض الكتب والمعاجم، حتى يخلص تاريخ الأدب.

بيد أني وإن طاولت التعب فيما استطعت من الاتقان والتجويد، وحسبت زمني في إغفال حسابه كأنه عمر قديم ليس فيه يوم جديد، لا أقول إني أتيت منهُ على آخر الادارة، ولا أزعم أني أوفيت على الغاية من الإفادة فذلك أمر تنصرم دونه أعمار، وللكمال عمر لا يحسب بالسنين ولكن بالإعصار، وجهد ما بلغت من همة النفس أن أكون بنجوة من التقصير، وإن أدل بما جمعته من حوادث التاريخ على أن عمر التاريخ غير قصير، ولقد رميت في ذلك المرمي القصى، وعالجت منه الطيع والعصى، ولو أن لي قلماً ينفض مداده شباباً على الإفهام، ويكون في جنة هذا التاريخ آدم الأقلام لخرج منها وليس عليه من حلته، إلا مثل ما هبط به آدم من ورق الجنة في قلته. بيد أن الورقة من أحدهما تعد في بركتها بأشجار، ومن الآخر تعدل في منفعتها بأسفار، وحسبي ذلك عذراً أن جريت على العادة في تقديم الأعذار.

نوابغ الكلم وروائع الحكم

نوابغ الكلم وروائع الحكم حكم روشفكول فرنسوا دوق دي لاروشفكول من أكبر نبلاء فرنسا ولد في 15 ديسمبر سنة 1615 وتوفي سنة 1680، عاصر ريشليو ومازارين وكان له شأن معهما، وقد نجذته الشدائد وقومته الزعازع فتلقن الحكمة من أستاذ الدهر. وهذه الشذرات التي ننقل عنها هي كل ما ساهم به في سوق الأدب. قال فولتير إنها من الكتابات التي تساعد على تهذيب ذوق الأمة الفرنسوية وتبث فيه روح الضبط والتدقيق وقال الدكتور جونسون النقاد الإنكليزي أنه الكتاب الفذ الذي خطته بنان رجل من الظرفاء على أنه جدير بغيرة الأدباء والمؤلفين وكتب عنه اللورد شستر فيلد في رسائله المشهورة إلى ولده فقال لا أوصيك بغير كتاب روشفكول لتدرس فيه طباع الناس وأسرار ضمائرهم قبل أن تبلغ بك السن أن تدركها بالمعاشرة والاختبار وقال هلام المؤرخ والأديب المعروف ينبغي أن يتلوه الفليسوف بشيء من الاعجاب: (1) ليست فضائلنا إلا رذائل متنقبة. (2) إن الذي تدعوه فضيلة ليس إلا أعمالا ومآرب شتى ساقها الاتفاق أو زواج بينها حذقنا في تدبير مبتغياتنا فكثيراً ما تصدر الشجاعة والعفة لا عن قوة النفس في الرجال ولا عن طهارتها في النساء. (3) إن حب المرء لذاته أخدع له من أكبر الخادعين والمتزلفين. (4) لايتوقف استمرار عواطفنا على ارادتنا إلا كما يتوقف عليها استمرار حياتنا. (5) قد تنجح العواطف أضدادها. فيغري الجشع بالسخاء ويؤدي السخاء إلى الشجع وإن المرء ليصير صلباً في ضعفه، جسوراً في خوفه بعض الأحيان. (6) المرء أسرع إلى نسيان الاساءة منه إلى الاحتفاظ بالحسنة بل ربما وجدته يبغض المحسن إليه ويتناسى بغض المسيء إليه. ويظهر أن الشعور بضرورة الانتقام للأذى أو مكافأة الإحسان نوع من الرق لا تطيق النفوس البقاء في ربقته. (7) يبدي بعض المحكوم عليهم بالقتل ثباتاً أمام الموت واستخفافاً به، يشيحون عنه لا استهانة برهبته ولكن فراراً من مواجهته. وكأن هذا الثبات عصابة يسدلونها على عقولهم

كتلك التي تسدل على أعينهم قبل إمضاء الأمر فيهم. (8) إن الفضائل التي تعوزنا لوقاية أنفسنا في وسط النعيم لا جرم تكون أكبر من تلك التي تعوزنا لوقاية أنفسنا في وسط المحنة والشقاء. (9) ان نقائصنا لا تجلب إلينا من البغض والاضطهاد ما تجلبه إلينا محامدنا. (10) لم نكن قط سعداء أو تعساء كما نتصور في أنفسنا. (11) مهما عظمت المواهب التي تمنحها الطبيعة أفذاذ الرجال، فليس بها وحدها بل باشتراك الصدف وعناية الجد معها، ينشأ الرجل العظيم. (12) إن التقزز الذي يبديه الفلاسفة والحكماء للغنى ومتاع الحياة إنما هو ميل خفي إلى الاقتصاص لأنفسهم من ظلم الحظ لهم باحتقار تلك النعم التي حرمهم إياها. أو هو إحساس يرفعون به أنفسهم عن ضعة الفقر. أو هو طريق خلفية يصلون منها إلى ما هم قاصرون عن بلوغه على سروات الطريق. (13) لم يعمل الحق الصراح من الخير للعالم قدر ما عمل الحق المموه من الضرر له. (14) متى وجد الحب فلا شيء يكتمه أمداً طويلاً. ومتى فتر فلا شيء يمارى في إظهاره. (15) إذا نحن حكمنا على العشق بما ينجم عنه في بعض الأحوال فأنا نراه إلى أن يكون بغضاً أقرب منه إلى أن يدعى حباً. (16) ليس حذر الشيخوخة بأقرب إلى الصواب في أكثر المواقف من تهجم الشباب. (17) البعد قد يمحو العواطف الهنية ولكنه ينمي القويّ منها. كالريح تطفي القنديل وتضرم الحريق. (18) يصعب علينا أن نحب من لا قدر له في أعيننا وأصعب منه حبنا لمن نرى له من القدر فوق ما نرى لذواتنا. (19) ليس وفاء أكثر الناس إلا طمعاً في الاستزادة من النفع. (20) إني لا أرى أكثر فضليات النساء إلا كالكنوز المخبرءة، بقيت مصونة من أيدي السرقة لأنهم لم ينقبوا عنها. عباس محود العقاد حكم لأفلاطون

قال لا تصحبوا الأشرار فإنهم يمنون عليكم بالسلامة منهم. وقال إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات وقال لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وقال لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده فإن الناس ليس يسألون في كم فرغ من هذا العمل وإنما يسألون عن جودته. وقال لا تحقرن صغيراً يحتمل الزيادة.

الحب والزواج

الحب والزواج للفاضل عباس محمود العقاد دافيد هيوم أكبر فيلسوف إنكليزي في مباحث ما وراء الطبيعة وهو من فطاحل رجل الأب والتاريخ والاقتصاد السياسي عندهم. وهذا فصل من فصوله كتبه على أسلوب له يمزج فيه الحقيقة بالخيال ويورد الأفكار طي الفكاهات والدعابات. قال: لا أعلم ما بال النساء وحدهن يغضبهن كل بحث يتناول التنديد بالزوجية أو يتنسم منه رائحة الدعوة إلى العزوبة كأنما يحسبن أنهن المعنيات دون الرجال بكل ما يقال في هذا الصدد وكأنما يحسبن أنهن المعنيات دون الرجال بكل ما يقال في هذا الصدد وكأنما يرين أن قسطهن من الخسارة يكون أكبر من قسط سواهن إذا جر ذلك التنديد إلى نتيجة المرقوبة، وهي التنفير من الزواج. أو لعلهن يدركن أن تلك المآخذ والنقائص التي ينعيها الكتاب على الزوجية إنما ترجع إلى عملهن وان أسبابها آتية من تلقائهن. فإذا صدق حدسي فما أجدرهن أن لا يضعن هذا السلاح الباتر في أيدي أخصامهن - وأعني بهم الرجال - أو يوجهن خواطرهم إلى هذه المظنة. ولقد طالما حدثت نفسي أن أكتب فصلا في الزواج يلتئم عند بنات الجنس اللطيف مع تلك النزعة المأثورة عنهن فأعوزتني المواد وتعارضت الآراء وخرجت من التفكير وقد رأيتني إلى الهجاء أميل مني إلى الاطراء وقلت لنفسي إذا لم يكن بد من الثناء فلأذيلن تلك الأمدوحة بأهجوة وإلا فالسكوت أولى. أما أن أشوه جمال الحقيقة أو أمس طلعتها الناصعة بدهان الدهان، فذلك مالا أظنهن يدعونني إليه أو يرقهن أن يسمعنه عني. ذلك على أنه ربما كان في قلب وجوه الأحوال من المناوأة لهن أكثر مما فيه من النفع والجدوى. ولا يفوتهن أن الحقيقة ينبغي أن تكون أحب إلي وأدنى إلى قلبي حتى من بنات حواء. فأنا الساعة سأكون سفير أبناء جنسي لدى النساء، أفصح لهن عن أشد ما نشكوه من الزوجية والزوجات فإذا آنست منهن ميلاً إلى المفاوضة والاتفاق في هذه المسألة التي نعدها أم المسائل وكبرى ذرائع الخلاف فلا بأس نرجيء بقية الخلافات والتجنيات فتلك أمرها هين وخطبها متدارك.

فإذا لم يكن قد تطرق الخطأ إلى حكمي على الرغم منى فإن أطوار المرأة تنبيء بأن حب الهيمنة على الرجل والتفرد بالأمر والنهي دونه من أخص صفاتها وألزم طباعها. وأن ما كان بينها وبين الرجل من شقاق ونزاع فإنما مثاره هذه الصفة. وإن كان تعلقنا بهذه النقطة واستنادنا إليها قد يعد في عرف بعضهن دليلاً على أننا ننعتهن بوصف قد امتلك عقولنا واستحوذ على حواسنا. ولقد يبدو لي مع هذه أنه ليس في أميال المرأة ميل له من السلطان على نفسها والتحكم في أخلاقها ما لهذا الميل. وفي نوادر التاريخ رواية ظاهرة في تأييد ما أقول. فقد رووا أنه حدث فيما غبر من الأيام أن نساء (سيثيا) ضقن ذرعاً بما يكابدنه من الرجال فأهبن بكيدهن العظيم وتآمرن فيما بينهن على الإيقاع بهم، ثم كتمن الأمر وأخفينه - وذلك أغرب مافي هذه المؤامرة! - حتى تمكن من تنفيذه قبل أن يفطن إليهن أحد، فباغتن الرجال في أسرة النوم وعلى موائد الطعام والشراب فشددن وثاقهم وغللن أيديهم إلى أعناقهم وقيدن أرجلهم ثم جمعنهم في صعيد واحد وتنادين إلى مجلس عام يتدبرن فيما ينزله بأولئك الأعداء الألداء من صنوف العذاب وضروب التشفى والتنكيل وينظرن في الانتفاع بهذا الظفر فلا يقعن بعد ذلك في أصفاد الأسر والاستخذاء. فأما إبادة الرجال جميعاً فذلك مالا أحسب أنه خطر لأحداهن أو جامت حوله آراؤهن، رحمة منهن ورفقاً وإن لم يبق موضع للرحمة والرفق بعد ما تجرعنه منهم من غصص العيش وكابدنه من مضض العسف والجور. فقر رأيهن بعد الحجاج الشديد واللغط والفديد على أن يسملن أعينهم وتجاوزن في سبيل الحرية والسلطة عن تلك الخيلاء التي كانت تحلو لهن إذ يترنحن بين التيه والدلال ويعرضن الجمال على أعين الرجال. فودعنها وإن كانت أعز مودع عليهن وبكين الزينة والخضاب، وزخارف الحلي والأثواب، ثم هون عليهن أمرها أنهن سيتعوضنها بالحرية والنجاة من الأسر - قلن إننا لن نسمع بعد تأوهات العشاق ومناجاة الأحباب ولكن لايغيب عنا أننا سوف لا نسمع أيضاً صيحات الامر وزعقات السيادة والزجر. وسيرحل عنا الحب أبداً ولكنه سيحمل معه الاستعباد. ولشد ما أحزن البعض هذا الحكم فرثوا لأولئك المناكيد وقالوا ما كان أقسي قلوب النساء على الرجال المساكين، فإنهن حرمنهم نعمة البصر لينقادوا إليهن ذلك الانقياد الأعمى ولئن

أبقين عليهم مسامعهم فما هي بمغنية شيئاً بعد الإبصار ولو كانت تغني لصلمنها ولم يتعدينها إلى الأعين فيفقأنها وأنا أعلم أنه قل بين أهل الخبرة بأحوال الزواج من لا يستخف فقد الاذن بالقياس إلى فقد البصر لاسيما وأن وراء فقد الأذن الراحة من سماع المطالب الجمة والقوارص المصمة. وكيفما كان هذا الرأي فإن كثيراً من بنات اليوم من لا يعولن كل التعويل على هذه الطريقة ولا يبالين أن يتركن لأزواجهن عيونهم اعتقاداً منهن أنهن أدرى بتسخيرهم صاغرين سواء ذهبت أبصارهم أو بقيت في رؤسهم ولسوء حظ الرجال أن كان هؤلاء الأزواج ممن لا يصونون الجميل أو يعترفون بالإحسان فاقتسروا نساءهم على أن يحذون حذو أخواتهن لاسيما بعد أن صرح الزمن زهرة صباهن وأطفأ في وجوههن رونق الشباب وما أيسر الأمر إذا كان للمرأة النفوذ والسيطرة. ولا أدري لعل سيداتنا الأيقوسيات يقلدن جداتهن السيثيات ولكني طالما تولاني العجب إذ كنت أرى امرأة منهن تنتقي من بين الرجال زوجاً مغفلاً غبياً وتؤثره على سواه رفيقاً لها في الحياة وكأنها ترى أن غفلته وغباوته مما يعنيها على تذليله وترويضه. فما ترددت في الجزم بأن بين جنبيها نفساً تربو على نفوس أولئك السيثيات بربرية بمقدار ما تزيد عين البصيرة التي تسلمها هذه عن العين الباصرة التي قد سملها أولئك. بيد أني لا أكون عادلاً إذا أنا لم أنجح بسر يختلج في صدري ويتردد على لساني، فلقد يكون ولع النساء هذا بالسلطة أثراً لسوء تصرف أبناء جنسنا بسلطتنا. وقد أنبأت حوادث التاريخ أن الطغاة إذا أرهقوا رعاياهم ولجوا في الطغيان والعدوان أحفظوا أولئك الرعايا وحفزوهم إلى التمرد. فإذا تمردوا فتكوا وأهلكوا ونكبوا وأخربوا وضيعوا وروعوا، وانقلبوا هم طغاة كأولئك الطغاة الذين ينقمون عليهم بل أشد. ومن يدري لعل أمر النسوة معنا على حد ما علمنا؟ هذا ما صيرني أود لو تخلى كل منا عن مزاعمه فلا حاكم ولا محكوم ولا سيد أو مسود بل نجري في الأمور بالهوادة بيننا ويأخذ كل منا فيما يخصه بلا رقابة أو إيحاء من الآخر كأننا ندان متساويان ولا ننس أننا شطرا جسد متعادلان كما قال أفلاطون. فقد جاء في مرويات ذلك الفيلسوف الحاذق أن الإنسان لم يكن في أصله كما نحن الآن.

وإنما كان بدنا مندمجاً جامعاً بين الذكر والأنثى في جسد واحد فكان زوجاً وزوجة يشتركان روحاً وجسداً. ولا حاجة بنا إلى القول بأن هذا الإنسان المركب قد كان في منتهى الكمال والهناء فكان كل فرد مزدوج منه يعيش ملتئما متحداً لا يفكر في الانفصال ولقد أبطرت السعادة هذا النوع، وقديماً ترافق البطر والسعادة، فانقلبوا على الآلهة ونفضوا عنهم مخافة الأرباب. قال فأراد الآلة الاقتصاص منهم وقال قائل منهم إننا إن نقتلهم نيأس مما يقدمونه لنا من البخور والنذور فاختاروا لهم معشر الآلهة قصاصاً غير القتل. وبعد أن تشاوروا ما أجمعوا على أن يكتفوا بايهان قواهم فعمدوا إلى كل إنسان فشقوه شطرين، فانفصمت وحدته وضعفت بذلك منته. ومنذ ذلك العهد انقسم النوع الإنساني رجالاً ونساء. بيد أن ذلك الانقسام لم يمح من أنفسهم تلك الذكرى القديمة فما زال كل شطر يصبو إلى شطره ويتلهف عليه فينقب عنه ويفتقده حتى إذا التقيا تضاماً باشتياق وابتهاج وأخذا في عناق والتزام ووفاق والتئام. ولكن كثيراً ما كانت الأشطر تضل الاهتداء إلى بعضها فتتصل بغير شطرها. ففي هذه الحال يعودان إلى الفراق والطلاق ولا يزالان في انطباق وافتراق واتصال وانفصال حتى يعثر كلاهما بجزء يندمج فيه كل الاندماج ويطابقه تمام الانطباق كذلك ارتأى أفلاطون منشأ الشقاق والوفاق بين الأزواج ولو أتيح لي أن أكمل هذه الأسطورة الأفلاطونية لقلت وهاك أسطورتي: بعد أن شق جوبيتير الذكر والأنثى ندم على ما أحله بنوع الإنسان من النقمة الشديدة وأخذته الشفقة على عبيده في الأرض بعد أن عاين ماحاق بهم من الويل واستولى عليهم من القلق فباتوا وقد هجرتهم السكينة وفرت منهم الطمأنينة ورأى كيف أنهم مالبثوا منذ حلت بهم نقمته يضجرون من الحياة ويتأففون من هذا الوجود ويحسبون ما وهبهم من نعمة الحياة شقاء وبلاء قد أصبح النوع الإنساني منذ ذلك الحين ولا هم له إلا الأسف على ذلك التآلف القديم والحنين إلى استرجاعه فعطلوا العلوم وكفوا عن الأعمال ولم يجدوا في ملذات الدنيا ومسراتها ما يملأ ذلك الفراغ الذي أحدثه في كل جسد بعد نصفه عنه. فصحت نية ذلك الإله الغفور الرحيم على أن يصفح عن زلتهم ويتجاوز عن رعونتهم وطيشهم وإذا كان لا سبيل إلى ذلك التآلف وجوبيتير لم ينس بعد عصيانهم وتألبهم على

الآلهة. فلا أقل من أن يعوضهم عنه بما يسيهم ذكره وينسيهم خبره. فأوحى إلى ملكي الحب والزواج أن اهبطا إلى الأرض فاجمعا تلك الأعشار المتفرقة والأشطر المحطمة وألحماها وأرأبا ما تصدع منها كأحسن ما في وسعكما فصدع الملكان بالأمر الإلهي وهبطا إلى الأرض فوجدا من شوق الناس إلى التلاحم والتواصل ما مهد السبيل لهما وسهل عليهما قصدهما فدأبا بلا مال وانكبا على العمل. وما زال النجاح موالياً لهما فلحما ورقعا وأصلحا. ولكن حدث في يوم من الأيام أن شجر بنهما الخلاف لشأن من شؤونهما فتغير كل منهما على صاحبه وأسر في نفسه الكيد له وتصديه في عمله. وكان للزواج معاون في شغله هو الحسبان. كان هذا المعاون لا يفتأ يملأ رأس رئيسه بهواجس المستقبل ومشاغل العيش وهموم العائلة والأطفال والخدم فقلما راعياً في أعمالهما غير ذلك. واصطفى الحب له نصوحاً هو الطرب وما كان أسلم من الحسبان نصحاً لمولاه أو أصوب منه رأياً فكان يمنعه أن يمتد ببصره إلى أبعد من لذة برهة وطرب ساعة. وبعد أن نسي الناس مصابهم أو كادوا. جاء هذا الشقاق بين الحب والطرب من جانب والزواج والحسبان من الجانب الآخر فجدد لهم هماً شاغلاً وحرك في نفوسهم قلقاً ساكناً. فكان الحب إذا أصلح نصفين ووفق بينهما أسرع الحسبان واستصحب معه الزواج ففصلا هذا من ذاك وألصقاه بنصف آخر قد أعداه له. فإذا أراد الطرب أن يثأر لنفسه عمد أيضاً إلى نصفين وفق بينهما الزواج فتسرب اليهما خلسة واستعان بالحب فجعلا يصلان أحدهما أو كليهما بصلة خفية إلى نصف من أنصافهما المهيأة لهذه المآرب. ولم يطل على ذلك الأمد حتى علا ضجيج البشر إلى لاسماء وجأروا بالدعاء إلى عرش جوبيتير فاستدعى إليه الملكين وأمرهما أن يقدما إليه صحيفة أعمالهما. فطفقا يتحاوران ويتنصلان وجوبيتير يسمع. فلما فرغا من الأخذ والرد والتنصل والاتهام رأى أنه لا سبيل إلى إسعاد البشر إلا بالتوفيق بين الحب والزواج فأصلح بينهما. وأراد أن يكون واثقاً من دوام هذا الصلح إلى ماشاء فشدد عليهما أن لا يبر ما أمراً أو بيتاً في عقد إلا بعد مشاورة معاونيهما الحسبان والطرب واسترضائهما. فأيما قران تحققت فيه إرادة أبي الآلهة وتراضى عليه الحب والزواج والحسبان والطرب

فذلك القران السعيد الذي يتألف منه ذلك الإنسان المركب ويجتمع به النصفان الغائبان. نعم إننا أضعنا منوال جوبتير الذي يحيك حاشيتيهما ويحبك طرازيهما. ولكن لنا من خيوط القلوب وعلائق الأرواح ما هو أمتن وأقوى على أن يدمج ذاتين في ذات واحدة. يحدب كلاهما على صاحبه فيضحك لضحكه ويبكي لبكائه وتمتزج أوطار نفسيهما فتحس كل نفس أن ألم الأخرى ألمها وأن ما يسر إحداهما يجب أن يسر الثانية فتخشى خشيتها وترجو رجاءها.

شذرات

شذرات مقتبسات من امرسن رالف والدو إمرسن أشهر كاتب أمريكي على الإطلاق ولد في مدينة بوستن للخامس والعشرين من شهر مايو عام 1803 وتوفي في السابع والعشرين من شهر أبريل عام 1882. وأحرز مكانة عالية بكتاباته فأصبح معدوداً من كتاب الطبقة الأولى في اللغة الإنكليزية. وإليك بعض مقتبسات من فصوله: (1) فلسفة الفنون الحد بين الطبيعة والصناعة في الفنون الجميلة الموسيقى والفصاحة والشعر والتصوير والنحت والمعمار، إذا نحن سردناها كما نفعل الآن لم يكن ذلك إلا إحصاء ظاهرياً للفنون الجميلة. ولقد أغفلت فن البلاغة لأنه لا يبحث إلا في وضع الشعر والفصاحة. وأرى المعمار والفصاحة من الفنون المشتركة التي يقصد بها الجمال حيناً والنفع أحيانا. ومما يشاهد أن شيئاً من روحية كل فن من هذه الفنون يذهب عنها حتى يتهيأ تجسدها ووضوحها للحس فيتلاقى عندها فعل الصناعة بفعل الطبيعة وأن لكل منها ناسوتا من المادة يتلبس به. وفي كل منها تقف الفكرة المبتدعة إلى حد محدود عند تلك المادة التي يتجلى فيها ذلك الفن. فالشعر ناسوته الألفاظ ولئن لم تكن الألفاظ مادية إلا من جانب واحد فقد وضعها الناس من قبل وتداولتها الألسنة في آرابها. فالشاعر لن يبتدعها ابتداعاً لأداء مقاصده. فهي ليست اذن من بنات فنه ولا من ثمرات الروح الملهمة في ذلك الفن. والموسيقى قاعدتها تموجات الهواء واهتزاز الأوتار الأدوات المرئية وإن نبرة من خيط أو سلك مشدود لتبعث في النفس من لدن الأذن سرورها بالرنة العذبة. ذلك وإن لم يؤلف الموسيقار من تلك النبرات لحناً أو يستنزل وحي الأنغام والأدوار من آلهة فنه. والفصاحة في الحيز الذي تعتبر من قبله فناً جميلاً، نراها تتحسن وتكتسب شيئاً من تأثيرها وفعلها في النفوس من أحوال الخطيب الجسدانية في الإشارة والإيماء ورنة الصوت وقوة الصدر وتغير السحنة. وفي كل ذلك من النقص من روحية اللذة والسرور قدر ما فيه من

النقص في عمل الصناعة نفسها، نقصاً يرجع بها إلى حيز الطبيعة (والطبيعة والصناعة في الاصطلاح الفني كلمتان متقابلتان من حيث أن الحالة الطبيعية للأشياء هي بقاؤها على ما هي عليه. وإن الحالة الصناعية لها هي انتقالها من ذلك الطور وتشكلها في أطوار أخرى). وفي التصوير تزيغ الألوان والنقوش البصر قبل أن ينفذ إلى سر الجمال المودع في رسم المزرعة أو المنظر الطبيعي. وكذلك في النحت والمعمار فالمادة في الأول كأن يكون التمثال من مرمر أو حجر مجب مثلا، والمادة والحجم في الثاني تحدثان في نفس الرائي سرورا لايمكن إلا أن نعده سرورا مستقلاً عن ذات الفن في ذلك التمثال وتلك البنية. فرح الفن تبدو في النموذج والطريقة. إذ أنه في هذين لا في التمثال أو الهيكل من حيث هما تظهر قدرة الصانع. فالرونق الذي يزيد به تمثال المرمر على نموذج الطين، والفخامة والعظم والجلال التي يمتاز بها الصرح الممرد أو الهرم المشيد على رسميهما في القرطاس. ذلك من عمل الطبيعة وليس من عمل الصناعة. (2) الشجاعة المعرفة ترياق الخوف. ويدخل في هذه المعرفة التجربة والتعقل. فالخطر على الطفل من الصندوق أو الموقد أو حوض الاستحمام أو السنور قد لا يقل عن الخطر على الجندي من المدافع والكرات والخنادق والمتاريس وكلاهما يتغلب على خوفه حالما يعرف وجهة الخطر ويلم بوسائل الدفاع والدرء عن نفسه. وكلاهما قد يستسلم لذعر أو قلق ليسا في الواقع إلا نتيجة تصورات وخيالات ولدها في المخيلة الجهل بحقيقة الخطر المحدق بكليهما فالمعرفة تؤيد القلب فلا يجفل من اقتحام المخاطر، وهي التي تنزع الخوف من الصدور. ومثلها التجربة وما معناها إلا المعرفة من طريق الاختبار. إنما يقهر من يأنس من نفسه القدرة على القهر. وإن الذي لا يحجم عن الأمر إنما هو الذي أقدم عليه مرة قبل ذلك. والسائس المروض للجواد الجامح هو الذي يستطيع أن يمتطيه آمنا. وليس إلا الجندي المدرب يرى شظية القذيفة فيتزحزح عن طريقها ساكناً. والعادة تخلق جندياً باسلاً ممن لا يجعله الشعور بالواجب جندياً وإن كان ذلك الشعور فيه مكينا: ذلك لأن كثرة ممارسته للخطر مكنته من تقدير الخطر. فقد رأى رأى العين إلى أي حد

يبلغ فلم يدع للخيال موضعاً للتخمين والتقدير. النواتي لا تساوره المخاوف إلا ريثما يحسن أن يقبض على الشراع ويقوي على تسخير الريح أو تصريف البخار. والجندي لا يجد الفزع إلى قبله سبيلاً ما دام يحمل على كتفه رامية متينة ويحكم التصويب والتسديد. وذلك النواتي الخبير يعد لكل خطر مفاجئ عملاً يتقيه به. فالتقلبات والطوارئ التي تخلع قلوب السفر هلعاً لا يقابلها الرجل إلا بإصدار الأوامر المتوالية والإشارات المتتالية. والأعاصير والتيارات والجنادل لا معنى لها عنده إلا أنها داعية العمل الكثير. لا أكثر ولا أقل. والصياد لا ترعبه الدببة والضواري التي يثيرها ولا الراعي يخاف ثوره كلا ولا مربي الكلاب كلبه العادي ولا العربى السموم. . . . . . . . الشجاعة هي وزن الخطر وما يعادله من القوة كذلك هي في كل غرض ومعرض. سواء في شؤون الحياة أو العلم أو التجارة أو المجلس أو العمل. ومدارها في كل هذه المواضع على اقتناع النفس بأنها لا تقف أمام قوة أكبر منها. ويجب على القائد أن يقرر للجنود أنهم رجال وأن أعداءهم ليسوا إلا رجالاً. فالمعرفة هي العلاج كله. فإن الوهم هو الخطر الحقيقي وهو منشأ الجبن والذعر وما أسهل ما تذعن العين. فإن الطبول والإعلام والخوذ اللامعة ولحى الجند وشواربهم كثيراً ما تتملك قلب المرء قبل أن تصل سيوفهم وحرابهم إلى جسده. ولا ينبغي أن ننسى اختلاف البنى والأمزجة فإن لها أثراً كبيراً في استعداد المرء لمقاومة الطوارئ. وقد لاحظوا أن أضيق الناس خيالاً أقلهم خوفاً، تراهم يلبث أحدهم جامداً حتى يشعر بالألم. أما أصحاب الأمزجة الدقيقة الحساسة فهم يتوقعونه ويتألمون من خوف الألم أكثر من الألم نفسه. ولا شك أن الوعيد يكون أحياناً أرهب للنفس من العقاب. وقد يمكن أن يحس المشاهد ألماً أشد مما يحسه المصاب. فما الآلام البدنية إلا وهم سطحي مقره في الجلد والأطراف والغرض منها أن تنبهنا إلى أخذ الحيطة لأنفسنا في حين اقتراب الخطر. وهي لا تتعمق في الإنسان إلى أعضائه الحيوية وأجهزته الرئيسية فقد لا تحس هذه ألماً حتى في حال الموت، وقد لا تتأثر حواس المرء بالجرح البالغ والصدمة القاتلة تأثرها بالخدوش واللكز الخفيف.

قلنا أن الألم وهم سطحي، والخوف إنما هو من الألم فليس الخوف إلا وهم سطحي مثله. وإنه ليخيل لي أن الشهيد الذي كان يحترق بالنار ما كان يحس من لذعها ما يحسه واقف ينظر إليه عن بعد. فإن عذاب ذلك الشهيد ليس إلا هواجس تقوم بأذهاننا وإن أول ما يمس بشرته هو آخر ما يحسه. أما الآلام الأخيرة فأنها تضيع في غيبوبة الذهول والإغماء. (3) حافظ الشيرازي كان حافظ أمير شعراء فارس. ولقد خص بمواهب خارقة، فكانت له قريحة كقرائح بندار وأنا كريون وهوراس وبيرنس وزاد عليهم نظرته الصوفية إلى أعماق الطبيعة وأحشاء الكون: نظرة تتغلغل إلى أبعد مما يصل إليه نظر واحد من هؤلاء الشعراء. . . . . . ولقد كان يتغنى بالصهباء، ويبسم للورود الحمراء، ويتغزل بالفتيان، وينسب بالعذارى الحسان، ويطرب لأهازيج العصافير، ويبتهج بالصباح المشرق المنير، ويهتز لشجى الألحان، وتوقيع القيان، ولكنه كان يخفى وراء ذلك ولها متأصلاً بكل صورة من صور الجمال وتهافتاً على الطرب والأنس يمزجه بازدراء قداسه المرائين وحكمة قصار الأنظار من الغافلين. ذلك ما كان يدور عليه أكثر شعره. فإذا هممت باتهامه في أخلاقه وشيمه ألقى إليك بيتاً من الشعر يلوح لك منه كيف أن الشهوة كانت أصغر مشتهيات الرجل، وقذف العالم بأكبر ما سمع من احتقار مظاهره وحظوظه. ومن تلك الأبيات ما يهبط إلى الناس من أعلا ذروة الفكر الإنساني كقوله: آتنى بالكأس أحيي الر ... وح من أعذب راح ما يرى في عالم الأر ... واح مخمور وصاح أو ملوك وعبيد ... بين أبناء القداح . . . . . قيل أنه أبصر غلاماً مليحاً في أسواق شيراز فقال فيه: وهبتك قلبي يا ابن شيراز مدنفا ... وقلب الفتى أغلى وأكبر ما أهدى ولو كنت ذا ملك وهبت لخاله ... بخارى متاعاً سائغاً وسمرقنداً فتناشد الناس البيتين واتصل خبرهما بتيمور في قصره فأمر به فأحضر. فلما مثل بين يديه، قال له: أيها الرجل كيف اجترأت أن تنزل هكذا من شأن مدينتي اللتين ما رفعتهما

إلا بعد أن دككت المعاقل والحصون ولا عمرتهما إلا بعد أن دمرت المدن والبلاد؟ قال عفواً يا مولاي! إنني لولا كل هذا السرف والبذل في لم أكن من العوز والفاقة بالحال التي ترى!! عباس محمود العقاد كيف يكتب الكاتب من فصل لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ واختر من المعاني ما لم يكن مستوراً باللفظ المنعقد مفرقاً في الإكثار والتكلف فما أكثر من لا يحفل باستهلاك المعني مع براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن يتبين له القول - وما زال المعنى محجوباً لم تكشف عنه العبارة فالمعنى بعد مقيم على استخفائه وصارت العبارة لغلوا وظرفاً خالياً - وشر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيء المعني عشقاً لذلك اللفظ وشغفاً بذلك الاسم حتي صار يجر إليه المعنى جراً ويلزقه به إلزاقاً حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعني اسماً غيره ومنعه الإفصاح عنه إلا به والآفة الكبرى أن يكون ردئ الطبع بطيء اللفظ كليل الحد شيديد العجب ويكون مع ذلك حريصاً على أن يعد في البلغاء وتصفح دواوين الحكماء ليستفيد المعاني فهو على سبيل صواب ومن نظر فيها ليستفيد الألفاظ فهو على سبيل خطأ - والخسران ها هنا في وزن الربح هناك لأن من كانت غايته انتزاع الألفاظ حمله الحرص عليها والاستهتار بها إلى أن يستعملها قبل وقتها ويضعها في غير مكانها ولذلك قال بعض الشعراء لصاحبه أنا أشعر منك. قال صاحبه ولم ذاك. قال لأني أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه وإنما هي رياضة وسياحة والرفيق مصلح والآخر مفسد ولا بد مع هذين من طبيعة مناسبة - وسماع الألفاظ ضار ونافع فالوجه النافع أن تدور في مسامعه وتغيب في قلبه وتخيم في صدره فإذا طال مكثها تناكحت ثم تلاقحت وكانت نتيجتها أكرم نتيجة وثمرتها أطيب ثمرة لأنها حيئذ تخرج غير مسترقة ولا مختلسة ولا مغتصبة ولا دالة على فقر إذ لم يكن القصد إلى شيء بعينه والاعتماد عليه دون غيره - وبين الشيء إذا عشش في الصدر ثم باض ثم فرخ ثم نهض وبين أن يكون الخاطر محتالاً واللفظ اعتسافاً واغتصاباً فرق بين. ومتى اتكل صاحب البلاغة على الهوينا والوكال وعلى السرقة والاحتيال لم ينل طائلاً وشق عليه النزوع

واستولى عليه الهوان واستهلكه سوء العادة. والوجه الضار أن يحفظ ألفاظاً بأعيانها من كتاب بعينه أو من لفظ رجل ثم يريدان يعد لتلك الألفاظ قسمها من المعاني فهذا ألا يكون إلا بخيلاً فقيراً وحائفاً سروقاً ولا يكون إلا مستكرهاً لألفاظه متكلفاً لمعانيه مضطرب التأليف منقطع النظام فإذا مر كلامه بنقاد الألفاظ وجهابذة المعاني استخفوا عقله وبهرجوا علمه ثم اعلم ان الاستكراه في كل شيء سمج وحيثما وقع فهو مذموم وهو في الظرف أسمج وفي البلاغة أقبح وما أحسن حاله ما دامت الألفاظ مسموعة من فمه مسرود في نفسه ولم تكن مخلدة في كتبه وخير الكتب ما إذا أعدت النظر فيه زادك في حسنه وأوقفك على حده.

الروايات والقصص

الروايات والقصص صريع الكاس للكاتب الروائي الأشهر تشارلزد كنز عربها إبراهيم عبد القادر المازني الأستاذ بالمدرسة الخديوية ليس بين من يسيرون في شوارع لدره المزدحمه من لا يذكر أنه راى في بعض مغاديه أناساً تقتحمهم العين وتنبو عن منظرهم الأحداق لسوء متوسمهم وقبح هيئتهم كانوا فيما خلا من الأيام يرفلون في برود النعيم ويخطرون في مطارف السعادة ثم ما زال بهم الدهر يتخونهم ويسقط من جاههم ويخفض من حالهم حتى ألقاهم في مراغة الفقير وحمأة الهوان فلو رأيت أحدهم للعج فؤادك ما صار إليه من رقة الحال وخساسة المنزلة ومن ذا الذي تقلب بين الناس وحاضر طبقاتهم وتخلل دهماءهم فلم يعرف في بائس من هؤلاء إذ يمر به في سمل رث وقد شفه المرض وأضوته الفاقة ذلك التاجر السرى أو الوجيه الأغر ومن من الفراء لا يعرف من بين معارفه واحداً أوضعه الدهر وضعضعته الأيام فلصق بالتراب من الفقر ولصقت بطنه بظهره من الجوع وباعده من كان يمنحه الود والدهر مقبل ونفر منه الناس جميعاً. ألا أن ذلك كثير الوقوع وعندي أن علة ذلك الولع بالشراب - تلك الشهوة الشديدة التي تحمل المرء على حتفه وتسوقه إلى حمامه وتختم على قلبه وتضرب على سمعه فيطرح زوجه وبنيه وصاحبه وعشيره وسعادته ومنزلته ويندفع في طريق الخراب والذل والموت. ومن هؤلاء من بلغت المحنة مجهوده وملكت عليه مذاهبه فتدلى إلى الاثموواقعه حتى صار إلى مثل ما وصفنا من ضعة الشأن وحقارة القدر فقد تحول ضروف الليالي بين المرء وما يؤمل أو ينزل الحمام بمن تيمه وذهب بفؤاده فتتقطع نفسه حسرات وتتصدع زفرات ويخونه الصبر ويسلمه الجلد فيختلط عقله. ويجن جنونه. ولكن جل هؤلاء قد عاقروا الخمر مختارين وطرحوا نفوسهم مفتوحي العيون في تلك الهوة التي لا ينجو منها أحد ولا يزال المرء فيها يهوى حتى تعز النجاة ويستحيل الخلاص. ولقد وقف مرة واحد من هذا الصنف بإزاء زوجته وقد أظلها الحمام وبلغت روحها التراقي وكان حولها بنوها يبكون وقد اختلطت دعواتهم بزفراتهم وصلاتهم بعويلهم وكانت الغرفة

حقيرة الأثاث وحسب الناظر أن يرى ذلك الوجه الشاحب وصاحبته في سياق الموت تجود بأنفاسها ليعلم أن الأسى والفاقة والهموم قد اعتلجت في ذلك الصدر سنين طوالا. وكان يسند رأسها أمرأة ذاوية العود خاوية العمود قد لجت في الاستعبار واسترسلت في البكاء وعلى ذراع الزوجة طفلة هي ابنتها. غير أن ذلك الوجه الشاحب لم يرفع إليها فقد كانت يدها الباردة المنتفضة ممسكة ذراع زوجها وعيناها ترنوان إليه في سكون وهو ينتفض من لحظهما: وكانت ثيابه رثة خلقة. ووجهه ملتهباً وعيناه كالفبس غير أن فيهما فترة الشراب وثقلة الخمار فقد كان في بعض الحانات بين الكؤوس والأقداح يرتشف الراح ويرتضع نثر الكأس فاستدعوه إلى سرير الموت. وكان إلى جانب السرير مصباح ينبعث من بعض جوانبه نور ضئيل. وقد شمل سكون الليل كل شيء خارج البيت وبات سكون الموت ملء الغرفة إلا ساعة على رف واهنة الدقات ولكنها دقات تهتك حجاب القلب ما سمعها أحد ممن التفوا حول السرير إلا أخذته رعدة وأحس أنها بعد ساعة ستدق للموت. فظيع منظر الموت وارتقابه وإن نعلم أن الرجاء سحاب خلب وإن البرء لا مطمع فيه ولا مغمز - وإن نقضي الليالي الطوال تعد الساعات البطاء ولكن أفظع من هذا وذاك أن يبوح المريض وقد رنقت عليه المنية بما طوى من دفائن صدره وستر من مخبآت نفسه فلا ينفعه اكتتامه وحرصه إذا برجت به الحمى وأخذه هذيانها فقد قص الناس وهم في نزاع الروح أغرب القصص - جرائم وأوزار اجترحوها في حياتهم وغيبوها في صدورهم ففضت ختمها الحمى - حتى لقد ارتاع من قام عليهم ففروا لئلا تستلب عقولهم مما رأوا وسمعوا وكم من بائس قضى نحبه وهو يهذي بما ركب من الأثام ويحدث جدران الدار بجرائم جبن أقوى الناس جائشاً واثبتهم جناناً عن سماعها. ولكن لم يسمع أحد شيئاً من ذلك في الغرفة التي تقدم ذكرها فقد كانت المرأة المسكينة ساكنة وحولها بنوها ركعاً يبكون ولما وهي ذراعها ورفعت طرفها إلى بنيها وزوجها وهي تجاول النطق عبثاً ثم سقطت رأسها على الوسادة كان يخيل للناظر انها اضطجعت لتنام. فأشرفوا عليها ونادوها برفق بادئ الأمر ثم صوت اليائس وصرخة القانط فلم يجبهم أحد. فاستمعوا إلى نفسها فلم يجدوا له حساً فأقبلوا بسمعهم على قلبها فلم يسمعوا له ركزا لقد

زهقت نفسها وطاحت روحها. وارتمى الزوج على كرسي بجانب السرير واشتبكت يداه على جبينه الملتهب وجعل يصفح بنيه وكلما التقت عينه بعين عبرى نكس بصره وأغضاه ولم يعزه أحد في مصيبته ولا رق له بل نفروا منه جميعاً واجتنبوه ولم خرج يترنح من الغرفة لم يحاول أحد أن يتبعه ليواسيه. لقد مرت به أيام لو نزل به فيها مثل هذا الخطب لتسابق إخوانه إلى ساحته ليشاطروه أحرانه ويضربوا له الأسى وأين هم الآن؟ لقد جفاه الإخوان والأقارب والناس جميعاً واجتووا عشرة السكير وعافوا صحبته ولم يحفظ له العهد في الرخاء والجهد والشدة والخفض والاعتلال والفقر غير زوجته وكيف كان جزاؤها؟ لقد جاء يتمايل من الخمارة ليشهد موتها. وخرج من البيت وانصلت يعدو في الشارع وقد ننازعه الندم والخوف والخجل وغلب عليه الشراب وذهب بعقله ما رأى في ليلته فعاد إلى الخمارة التي تركها منذ قليل. وطيف عليه بالكاس بعد الكاس فدبت الخمر في عظامه وعملت فيه الصهباء الموت. شريعة كل الناس واردها. وما كانت إلا فرجاً مثل كافة الناس. ولقد انقضت أيامها فأي غرابة في ذلك أو بأس. لقد كانت أبر مني وأمثل ولقد قال لي ذلك أهلها مراراً لعنهم الله. ألم يقطعوها ويجذموا حبلها ويتركوها تنطع مراحل الوقت بالبكاء. لقد ماتت ولعلها اليوم أسعد حالاً ولعلني. فاسقنيها بحتا صراحا ما أعذب طعم الحياة وأحلى مذاقها. ودرجت الأيام وتصرمت الليالي وشب من بنيه أربعة أخطاتهم المنايا فجاوزوا حد الصغر وأبوهم على ما يعهد القارئ من الفقر المدقع وضعة الشأن ودناءة المنزلة والإدمان وكان قد فر من أولاده الغلمان فتشردوا في الشوارع وبقيت البنت تكدح له وتصل نهارها بالليل وصباحها بالمساء ابتغاء الرزق وكلما كسبت شيئاً سلبها إياه تارة بالقول اللين وأخرى بقرع العصا وصرفه في الخمارة ولبث على هذه الحال ردحا من الزمن وفي ليلة ليلاء من ليالي الشتاء بمم داره في الساعة العاشرة - وذلك خلاف عادته ولكن الفتاة كانت مريضة فلم يجد ما يصرفه في الخمارة - أقول في الساعة العاشرة من هذه الليلة يمم داره فسار وهو يحدث نفسه ويقول أنه ينبغي أن يسألها مم تشكو (وهو مالم يتكلفه حتى اليوم) أو أن يستوصف لعاتها لتقوى على السعي والكسب:

وكانت الليلة قرة ذات رياح وأمطار فاستمنح أحد المارة بضع بنسات وابتاع رغيفاً (لأن من أصالة الرأي أن يطعم الفتاة حتى لا تهمد من الجوع) ثم أغذ السير إلى البيت. فألفى بابه أو ما بقي منه مفتوحاً إلى آخره. ليتسنى لكل ساكن أن يلج البيت من غير أن يكلفه ذلك عناء. وصعد مدرجاً قديماً متهدماً وهو يوشك من فرط الظلمة أن يمشي على راحتيه ورجليه وينال الأرض بوجهه. فلما صارت غرفته منه قاب قوسين أو أدنى فتح الباب وظهرت فيه فتاة ذات وجه ظمآن وجثمان تخونه السقم ودكه المرض وأذوت نضرته الفاقة. وفي إحدى يديها شمعة أظلتها بالأخرى. ونظرت بمجامع عينها إلى القادم ثم قالت أهذا أنت يا أبي؟ فتعبس وقال ومن غيري كنت تتوقعين، وما بالك ترعشين، إني لم أنقع إلى الساعة غلتي ولقد طال تلوحى ولا سبيل إلى الري إلا بالمال ولا مال إلا بالعمل فما خطب الفتاة. فقالت الفتاة إني عليلة وصبة وتحدرت عبرتها وتساتلت على وجنتها عقود دمعها. فزقر الرجل زفرة من لا يجد مناصاً من الاعتراف بأمر لا يندى على كبده يود لو استطاع أن يتلهى عنه ويسهو. وقال يجب أن تصحى وتثوبي إذ لا بد لي من المال ولذلك يجب أن تستوصفي طبيب الكنيسة ليحسم عنك داءك قبل أن يستغز بك ويعطيك بعض الاشفية لعنهم الله فلا بد من دفع ثمنها، مالك تقفين في وجهي. دعيني أدخل فأوصدت الباب وراءها وهمست إليه أبي لقد عاد وليام فقال وقد نالته فزعة شديدة من؟ قالت صه - ويليام. أخي ويليام فقال الرجل وهو يحاول أن يسكن جأشه وماذا يبغي مني أخوك وليام. ألمال، أم اللحم، أم الشراب لقد ضل فليس هنا قراه. اعطني الشمعة - اعطنيها ياغبية - فلا بأس على أخيك ولا مكروه واختطف الشمعة من يدها ودخل الغرفة. فانس فيها شاباً في الثانية والعشرين من عمره رث الكسوة باذ الهيئة جالساً على صندوق قديم ورأسه مسندة إلى يده وعيناه ترنوان إلى نار قد خبا سعارها وفتر ضرامها. فلما أحس أباه حملق إليه وقال لأخته أو صدى الباب يا ماري أو صدى الباب أراك يا أبي تنظر إلى كانك لا تعرفني إن عهدك بطردي بعيد لا ريب وأنت معذور إذا نسيتني.

فجلس الأب على دكة وقال وماذا تبغي مني الآن قل ماذا تبغي. أريد أن تبوأني كنفك وتأويني إلى ظلك فقد حدثت على حادثة وحسبك هذا فإذا ظفر بي الشرط فأنا ميت لا محالة وهم لا ريب ظافرون بي إن لم تحلني دارك وقد حدثتك بأمري فأشر كيف تأمر، فقال الأب أتعني أنك سرقت أو قتلت، نعم. أعني ذلك. وهل فيه ما يعجبك يا أبي ثم أتأر إليه بصره ولكنه ما عتم أن غضه ونظر إلى الأرض. وقال الأب بعد سكتة طويلة وأين أخوتك هم حيث لا ينالك منهم أذى. أما جون فقد ذهب إلى أمريكا وأما هنري فقد - مات: فارتعدت فرائص الأب على الرغم منه وقال مات،. نعم مات - وفاضت نفسه بين ذراعي - رماه حارس الصيد فتساقط إليّ وسال دمه على يدي - لقد كان الدم يجري كالماء - وكان ضعيفاً فغشى عليه ولكنه ما لبث أن ركع على الأرض واستغفر الله ثم قال لقد كنت قرة عين أمي ومحل أنسها يا ويليام وأنه ليثلج نفسي ويطيب قلبي أني لم أبكها يوماً إني ليلة ماتت - وإن كنت إذ ذاك حديث السن - ركعت عند قدميها وجوانحي تكاد تنقض وحمدت الله على ذلك. أي ويليام كيف تودي ويبقى أبي، هذه كانت كلماته وهو في نزاع الروح فتبين منها ما تشاء. لقد لطمت وجهه في خمارك يوم تشردنا وهذا ما صار إليه أمرنا جميعاً فانتحبت الفتاة وأطرق الأب وجعل يميل يمنة ويسرة ورأسه بين ركبتيه وعاد ويليام إلى الكلام فقال: هذا وإذا قبض على الشرط ذهبوا بي إلى الريف وأباؤوني بذلك الحارس وذلك من فوق امكانهم إلا أ، تمدهم بعلمك وتكون وهم يداً واحدة علي وكأني بك تفعل ذلك فإذا كذب ظني وأخلق به أن يكون كاذباً فإني أقيم حيث أنا حتى تلين لي أعطاف الأمور ويستيسر لي الفرار. وقبع الثلاثة في كسر غرفتهم يومين كاملين وأقاموا بها لا يبرحونها وفي مساء اليوم الثالث اشتد على الفتاة المرض وفدحها ونفد طعامهم فكان لا مندوحة لأحدهم من الخروج ولما كانت الفتاة لأقبل لها بذلك خرج الأب وعلى الأرض غيابات الطفل. فاستجدى المارة واشترى ببعض مالديه بعض الأشافي للفتاة وجاءته في أوبته بنسات ست

فصار معه من المال ما يكفيهم جميعاً يومين أو ثلاثة ومرفى طريقه على الخمارة فراودته نفسه فتلكا ثم مضى ولم يلو عليها ثم سولت له نفسه الدخول فتباطأ ونزل على حكم الشيطان فدخل وكان على كثب منه رجلان يتبعانه رسل النظر وقد كادا يضمران اليأس من مطلبهما فاسترعاهما تريثه وتردده فتتبعا آثاره وتعقبا خطواته ودخلا وراءه وناوله أحدهما كأساً دهاقاً وقال عاطنيها يا سيدي وما كاد يشتف ما في الكأس حتى أترعها له الأخر وقال وأنا أيضاً وليشرب بعضنا نخب بعض. وذكر الرجل بنيه الجائعين وموقف ولده المسكين ولكنه لم يكترث لذلك ولم يحفله فالح على الشرب حتى خرج الرشد من كفيه. ورآه أحد الرجلين بهم بالخروج بعد أن أضاع نصف ما معه ولعل حياة ابنته رهينة به فهمس في أذنه ما أبرد ليلتنا وانداها ياواردن. فقال الآخر هي كما يشتهي إخواننا المختفون ياواردن فاجتذ به الأول وانتبذ به جانباً وقال له إجلس. أنا نطلب ابنك لنبلغه أن الفرصة سانحة والزمان مؤات ولكن قعد بنا عن ذلك جهلنا مقره وليس في هذا غرابة. فإن أقرب الظن أنه جاء إلى لندره وهو لا يعلم من هذا شيئاً أليس كذلك. فقال الأب صدقت فتسارق الرجلان النظر وعاد الأول إلى الحديث فقال إن في الميناء سفينة ستقلع إذا انتصف الليل وقد هيأنا له أسباب السفر فيها فسيسافر متنكرا هذا إلى أن ثمن التذكرة قد دفع نالله لقد أمكنتنا الفرصة من قيادها: فقال الثاني صدقت وبررت فقال الأول ونظر إلى صاحبه عن عرض إن جدنا عظيم فمال الآخر ونقد إليه بنظره عظيم جدا ونادى الأول هات كأساً أخرى - عجل ولم تمض بعد ذلك دقائق معدودات حتى أمكنهما من ولده من حيث لا يدري. وكان الولد وأخته في أثناء ذلك ينتظران في مكمنهما وهما لا يتقاران من الضجر فأرهفا أذنيهما لأستراق السمع وتوجس الأصوات فمر بسمعهما وقع قدم ثقيلة الوطأة وما هي إلا

برهة حتى دخل عليهما أبوهما يترنح من السكر وقد عبقت به أنفاس لحمياً وصرعته الخمر. وجسته الفتاة بعينها فأدركت أنه سكران طافح فدنت منه والشمعة في يمينها. غيرانها وقفت بغتة وصرخت ثم هوت إلى الأرض فاقدة الإحساس فقد رأت خيال رجل على الأرض. ودخل اثنان (يعرفهما القارئ) وما هي إلا وثبة ثم صار الفتى أسيراً يرسف في الأغلال. وقال أحدهما للأخر لقد أدركنا طلبتنا عفواً صفواً وقيدنا أسيرنا في سراح ورواح فشكرا للشيخ أبيه. أنهض الفتاة ياتم. وأنت يا سيدتي تعزى وكفكفي الدمع فإن البكاء لا يرد هالكاً قضى الأمر ولا حيلة لك فيما لا تستطيعين دفعه. فانثنى الفتى على أخته برهة يقبلها ويودعها ثم انثنى على أبيه يلعنه وكان قد تطرح إلى الحائط وجعل يرمقهم جميعاً بعين من غبى عنه معنى ما يرى فقال الفتى لأبيه راعني سمعك ياأبي إن دمي ودم أخي في عنقك. ضيعتنا صغاراً فستسأل عنا كباراً ما أعرفك حنون علينا يوماً أو عطفت. أو عنيت بنا أو حفلت. وما أظنك ترجو أن أغتفر جريمتك وأهب لك فعلتك وقد علمت أن ذنبك لا تسعه مغفرة ولا تتغمده رحمة. فأنا لا أغفر لك ولا أعفو عنك حياً وميتاً. مت كيف شئت ومتى شئت فإني معك. إني أكلمك وأنا في عداد الموتى فاعلم أن الله لا يتجاوز عن جرمك وسيجتمع بنوك جميعاً يوم تقف أمام خالقك ويطلبون منه بلسان واحد أن ينتصف لهم منك ويجزيك بإساءتك ولتعلمن نبأه بعد حين ورفع يده مثقلة بالحديد بتوعده ورشقه بنظرة قام لها قلبه وقعد ثم خرج يمشي على هينته ولم يره بعدها أحد. ولما تمزق ستر الليل وتنفس الصبح في تلك الحجرة الحقيرة انتبه واردن فلم يجد معه أحداً فهب ونفض الغرفة فوجد الفراش القديم لم يمسسه أحد وألغى كل شيء كما رآه أخر مرة وإذا كل الدلائل تبنى أن المكان لم يبت به أحد سواه. فسأل جيرانه وسائر السكان فاجتمعت كلمتهم جميعاً على أنهم لم يروا الفتاة ولا سمعوا لها حساً فخرج إلى الشوارع وجعل يقلب طرفه في كل أنثى بائسة ثم رجع أدراجه وقد أنبت حبل رجائه وتقلص ظل أمانيه ولما زحف الليل آوى إلى غرفته محلول العرى مهدود القوى يئن من التعب ويتوجع من الكلال.

ولبث على هذه الحال أيا ماغير أنه لم يجد للفتاة أثراً ولم يسمع عنها خبراً فأضمر اليأس منها ولم يدهشه ما فعلت فقد كان ينتظر منها أن تهجره لتسعى على نفسها وها هي قد تركته ليموت وحده جوعاً فنزت في رأسه سورة الغضب وعض على ناجذيه ولعنها. وجعل يستجدي المارة. ويستمطر غيث معروفهم ويلفق لهم أحاديث هو ناسج بردها وكلما منّ عليه أحد بدرهم أضاعه فيما يعرف القارئ. ومضى على ذلك حول كامل لم يظله فيه إلا السجون وكان إذا خرج منها ينام على الأعتاب وفي مصانع الآجر وحيثما وجد معاذا من البرد ومعصما من الامطار ولكنه ما زال سكيراً على الرغم من فقره ومرضه وحاجته. وفي ليلة قارسة صردة تساقط على بعض الأعتاب خائراً فاتر القوى وقد نهكته الخمر وهده الإدمان فأصبح بادي الفصب غائر العينين كليل البصر لا تتبعه رجلاه قد حطمته الأيام وأرعشه البؤس والفسوق. فكرت أمام عينه صفحات حياته وخلص إلى نور الذكرى ما كان قد غاب في ظلمات النسيان. فتمثل له بيته القديم - إيه ما كان أهناه - ونفض غبار الموت عمن عمروه فالتفوا حوله واحتشدوا أمامه. وخيل له أن الأرض قد انشقت عن أكبر بنيه فبرزوا له ملفوفين في الأكفان. حتى لكاد من فرط الوضوح والجلاء يلمسهم بيده ويفضي إليهم بحواسه ورشقته نظرات نسى وقعها من قديم ووردت على سمعه أصوات أسكتها الموت ولكن ذلك لم يدم إلا برهة ثم استسرت الوجوه وخفيت المنازل وهمدت الأصوات وصرح الحق عن محضه فانحلت عقود الغمام وتناثرت لآلئ المزن. فادمعها سح وسكب وديمة ... ورش وتوكاف وتنهملان وعض الجوع بالشر أسيف واصطكت الأسنان من البرد فنهض وجر رجليه بضعة أمتار وهما يئنان من التعب ويتأففان من السعي وكان الشارع ساكناً والليل بائماً إلا عدداً قليلاً كانوا يمرون به مهطعين حال بينهم وبين ندائه هول الليل وتهطال السماء وهبت ريح جربياء قف منه جلده وتقبض فانتبذ مدخل بيت وحاول النوم ولكن عينه لم تكتحل بغمض كأن الرقاد هجرها وجفاها وكأنما اعتراه مس من خبال وإن لم يغب عنه إدراكه وعقله فرنت في أذنه قرقرة الشراب إذ يضحك الواحد بملء فيه حتى يمسك صدره - وصور له أن ثغر الكأس على ثغره وأن المائدة غاصة بألون الطعام الشهية

- لقد كان كل ذلك بمرأى منه ومعان وليس عليه إلا أن يمد يده ليتناول منه ما شاء - غير أنه لم يرتب في أن ذلك خيال كاذب ووهم باطل - وإن كان باطلاً أشبه بحق - وإنه وحده في شارع مهجور ينظر إلى الطل وهو يتساقط على الحصباء وأنه قد أشفى على الموت وأشرف على التلف وأنه ليس له في الحياة من يكترث له أو يعبأ به. ثم وقف بغتة وهو يرتعد من الذعر فقد سمع صوته في سكوت الليل من غير ما سبب وتبع ذلك أنه وأخرى - لقد مسه الجنون وخرجت من فمه كلمات مقتضبة وحاولت يداه أن تمزق لحمه ثم ثار ثائر جنونه فجعل يصرخ مستنجداً حتى خانه الصوت. فرفع رأسه وسرح طرفه في الشارع وذكر أن بعض من نفاهم عن الناس الهم والتشريد مثله وقضى عليهم أن يطوفوا في الشوارع ليل نهار قد سلبت عقلهم الوحدة فجنو. وذكر أنه سمع منذ عهد بعيد أن الناس وجدوا بائساً من هؤلاء في ناحية منزوية يشحذ سكيناً صدية ويرهف حدها ليغمدها في قلبه مؤثرا الموت على حياة التشريد. فدبت في مفاصله الحياة وقام في رأسه خطة وانجرد يعدو لا يلوى على شيء حتى بلغ عبر النهر فمشى هوناً ونزل على رود حتى أتى الماء فقبع في ركن وحبس نفسه حتى يمر الحارس فلا والله ماهش سجين للحرية والحياة واهتز لهما اهتزاز هذا البائس للموت. ومر عليه الحارس ورآه المسكين عين عنه وظل في مكمنه حتى غاب الحارس في ظلام الليل ثم خرج من ظلمة الاستتار ووقف تحت حنية عند مرسى النهر. فجرى الماء عند قدميه. وكانت السحب قد رقأ دمعها وسكنت الرياح وسادت السكينة في البر والبحر وجرى الماء بيطئاً ريثا وخلصت إلى سطحه أشباح غريبة وأشخاص جعلت تومئ إليه وتستدنيه. ورمته من الماء عيون دعجاء الحدق كأنما تسخر من تردده وتهزأ واستحثته من ورائه أصوات جوفاء. فتراجع بضع خطوات ثم اندفع يجري ووثب وثبة الشيطان واحتوى عليه الماء. ولم تمض إلا ثوان خمس حتى طفا على وجهه - ولكن ما أعظم الفرق. وما أكبر ما طرأ عليه من التغير في أفكاره وشعوره الحياة - الحياة - في أي صورة - الفقر أو البؤس أو الجوع - أي صورة إلا الموت فكافح الماء واعتلج الموج فوق رأسه فصرخ مذعوراً ودويت أذنه بلعنة ابنه - ودنا من الشاطئ حتى صار بينهما نحو قدم وحتى كاد يلمس سلمه. ولكن التيار ساقه تحت حنايا الجسر احتمله فهوى إلى

القاع. ثم طفا مرة أخرى وجاهد في سبيل الحياة وتراءت له المباني على جانبي النهر والأضواء على الجسر الذي مر من تحته والماء الأسود عن يمينه وشماله والسحب سابحة في الأفق صريحة واضحة. ثم هوى مرة أخرى وطفا فارتفع من الأرض إلى السماء عمود من لهب زاغ فيه بصره وصوت الرعد بلسان الماء في أذنه فذهب بحسه. وبعد أسبوع من ذلك لفظ الماء جثته مشوهة منتفخة فلم يعرفه أحد ولم يرث له ديار ثم حملت على الحرج وأودعت اللحد ونفضت من ترابها الأيدي. الأستاذ (قصة غرامية) للكاتب الإنكليزي الكبير وليم ثكارى تعريب الكاتب العبقري محمد السباعي الفصل الأول تحتوي مدينة هاكني فيما تحتويه من الزخارف والتحف. والنفائس والطرف. عدة مدارس للفتيات. ومعاهد للغانيات. فلا تكاد ترى داراً أبيقة بيضاء. في طرقة نضيرة خضراء إلا وعلى بابها لوح ينبئك أنها مدرسة للسيدات وكان مكتوباً على إحدى هذه الدور السطر الآتي: (بيت بلغاريا) مدرسة للجنس اللطيف من سن ثلاث إلى عشرين لصاحبتها ومديرتها المسؤولة السيدة بيدج وشركائها. (تنبيه ممنوع البصق) وكانت المدرسة تتولى تعليم تلميذاتها من الفنون والعلوم مالم تزل السيدة الإنكليزية بفضله في طليعة النساء وفوق سائر الأوربيات أدباً وفضلاً. فتلقى الصغيرات مبادىء الغرز على اختلاف أنواعها وضروب الأناشيد والأدعية ولاسيما الأنشودة التي أولها بين خضر الرياض والجنات ... منزل شيد للتقى والصلاة

وتلقن الكبيرات أوزان النغم وأصول التوقيع. والضرب على الأوتار والنفخ في المزمار. والنقر بالدف. وسائر صنوف الشدو والعزف. إلى كثير من المعلومات التاريخية والجغرافية. والطبية والميكانيكية وألسنة الفرنس والألمان. والمجر والطليان والبرتقال والاسبان. خلاف علمى الرقص والألعاب الرياضية وكان يقوم بتعليمهما الأستاذ دوندولو وكان الأستاذ برغم إيطالية اسمه إنكليزي السحنة واللسان قد أخذ لهجته من صميم بلدة لندن وارتدى شمائل سكان تلك الناحية وحمل في كل عضو وجارحة وفي كل إشارة وعبارة وحركة وسكنة حلية أولئك القوم وسيماهم فكانه أحدهم نشأ وسطهم ودرج بينهم. ولم ير ناساً غيرهم. ولا وطأ إلا أرضهم. أو سكن إلا ديارهم وكان مدير القامة عادي الألواح عريض المنكبين. طويل الشاربين. براق المقلتين. ولست أدري أني حصل السيد المذكور في مدرسة المسز بيدج أم كيف وجد السبيل إلى ذلك المنصب على أنه أشيع أنها عرفته أول ما عرفته في مرقص ثم تأكدت المودة بينهما حى إذا وقع الحادث الذي أنا ذاكره لك الآن برئت السيدة إلى الله من كل صلة بالإستاذ وعلاقة. ومن كل نسبة إليه وصداقة. وقالت أنه ما كان لمثلها قط أن يأتي بمثله إلى مثل مدرستها وأنها ما كانت لتنزله بين جدران مكانها لولا لجاجة المسز أولدرمان جرامباس. ومن ذلك يتبين للقارئ أن سيرة الأستاذ في عهده الأخير بالمدرسة لم تكن بالحميدة - وأنه لكذلك فعسى تعلم صاحبات أمثال هذه المدارس بعد ذلك أنه قد تخطئ الظنون في الأصدقاء. وتضاع الثقة ولمودة عند غير الأكفاء. وأن بعض الصداقة خيانة وربما تنكر الغدر في زي الأمانة. أقول وجعل الفتى الغطريف دوندولو يعجب الفتيات بخفته ورشاقة حركته ويروعهم بسرعته ونشاطه وميعته في مجال الرقص وكرته. ويدهشهم بأيده وقوته. وشطاطه وقامته. فمن نتيجة تعليمه أنه استطاع في مدة قصيرة من الزمن أن يمكن الفتاة بنكس وكانت مفرطة السمن قطيع الخطو تبهرها المسافة القصيرة من اتقان أعجل فنون الرقص فكانت تجول الجولة كأنها ظبية الرمل أو أسرع. ولكن أنجب تلميذاته وأملحهن جميعاً كانت الفتاة إديليزا جرامباس قرة عين أبيها ومناط أمل أمها وفخر أبويها وكانت مليحة عذراء قد ارتوت من ماء الشباب وغلا بها عظم وناهزت التاسعة بعد العشر. بعينين زرقاوين يعى

بوصفهما كل أزرق من الحبر ون بلغ في الزرقة أقصاها. وفي جمال الصبغة منتهاها. وجبين بسنا الصباح مصقول. وطرف بفنون السحر مكحول. وشعر كذوائب الظلماء مسدول كأنما عناه الذي قال: وفاحم وارد يقبل ممشا ... هـ إذا اختال مسبلاً غدره ولكن أين منا نعتها وأنها لغاية تنكل عنها سوابق الأفهام. وتحسر دونها مبالغ الأوهام. وما أراني أزاء وصفها إلا كما قيل: يسهل القول أنها أحسن الاش ... ياء طراً ويعسر التحديد وحسب القارئ أن يذكر أول فتاة عشقها ثم يصوغ على شكلها غانيه هذه القصة المسز أديليزا. أقول فلما رآها الشاب دوندولو وكانت فيمن عهد إليه بتعليمهن عشقها شأن كل فتى على شاكلته له صبوة وفيه غزل وخلاعة. هذا وليعلم القاريء أن أكثر الناس فرصة لبلوغ وطره من الغانيات هو إستاذ الرقص وإن أوضح الناهج وأزلف الوسائل إلى نفوس الحسان هو باب الرقص. ولأستاذ الرقص على متن تلميذته وذراعيهما وكتفيها وكفيها سلطان تام ثم هو جدير بأن يمد ذلك السلطان إلى قلب الفتاة وينهيه إلى نفسها. فكان يقول للمسز اديليز بصوت يذيبه الشغف ويبريه الشجي وهو يعلمها مدى قدميك أصبعا يا مسز اديليز وأنصبى قناتك ثم يأخذ يدها في رفق ولين ويرفعها حتى يحاذي بها شحمة أذنها ثم يمس بأنامل يسراه فقارها ويرنو إليها بعين هائم وله! وذلك لعمر الله منظر يوقظ الهوى ويثير الداء. ولا طاقة لأنثى بمثل هذا الموقف وهذه النظرة قط فلما رنا الفتى إلى العذراء أول نظرة فالثانية لم تعرها إلا رجفة الحياء وحمرة الخجل فلما رنا الثالثة أغضت ونكست وعلا وجهها اصفرار. وصاحت قدحا من الماء! وخيف عليها الإغماء. فأسرع معلم الرقص لقضاء حاجتها حتى إذا عاد بالماء فصبه في فيها همس في أذنها بصوت أرق منه الشوق وقطعته الصبابة عبدك ما عشت وأسيرك ما بقيت يا اديليزا فاستلقت الفتاة بين ذراعي المسز بنكس وقد رآها العاشق الظافر ترفع طرفها إلى سماء الغرفة وتناجي نفسها دوندولو! دوندولو! وطالما كانت بعد ذلك تخلو إلي خليلتها وثقتها المسز بنكس فتقول دوندولو! لقد كان هذا

الاسم فيما مضى من الزمان علماً على بطل جليل وشهم نبيل. وهو ذلك الاسم الذي ضج به الآلاف المؤلفة من عباد الله منذ خمسمائة عام في مدينة فينيس - زينة البحر وعروس الماء - وكان جيش العدو أزاءها بالمرصاد فلما دوت في آذانهم صيحة الفينسيين دوندولو! وارتجت لها أرجاء الدأماء. ومادت جوانب الغبراء. ورجعت صداها القبة الزرقاء. طارت قلوب الأعداء فزعاً. ونحبت أفئدتهم هلعاً. بينما الفينسيون تارجعت هممهم. وهبت عزائمهم لتلك الصيحة التي تضمحل عندها زماجر الرعد القاصف. وتتضاءل لديها جلاجل المدفع القاذف. واها لهاتيك الأيام يا بنكس! وهنا تميل الفتاة على ذراع خليلتها وتغمزها غمزة امرأة ضاق بالكتمان صدرها ثم تقول أليس عجيباً يا بنكس أن يبقى أحد ذرية هذا البيت المجيد. ذى الحسب العتيد. والسؤدد الوطيد. حتى يومنا هذا وإنه ما بقي إلا لكي يعشقني؟ ولكني أنا أيضاً كما تعلمين من بنات البحر. وإنما قالت أنها من بنات البحر لأن أباها كان سماكا. وكانت قد أكثرت من قراءة القصص والحكايات وأشرب عقلها ذخرا وافراً من الخياليات حتى استبد الخيال في نفسها بالتمييز والتدبر وتغلب الوهم في ذهنها على النظر والتبصر. وكان أبوها قد أقصاها عن داره فبعث بها إلى هذه المدرسة لما رآها عشقت فتى من غلمان حانوته. عل في أقصائها ذلك ما يشفيها من داء الهوى وهيهات ليس لداء الحب من شاف. ما للمحب إذا تفاقم داؤه ... غير الحبيب يزوره من راق لا أستفيق من الغرام ولا أرى ... خلوا من البرجاء والأوصاب فكان لا يلذها إلا أحاديث الحب ونوادر العشاق ولا تقرأ من القصص إلا الغرامية ولا من القصائد إلا الغزلية ولا تزال تحفظ خصلة من شعر الشاعر الغرامي توماس مور وقطعة من شعره. وكذلك بدا المستر دوندولو لظنها المكذوب ووهمها المخدوع كأنه نجل بيت من أشرف بيوتات فينيس فحسبها لذة وفخرا أن يعشقها وتعشقه. وكانت المسز اديليز قد أحرزت بفضل زيادة كانت تدفعها في أجر التعليم مزيداً في امتيازات جعلتها أكثر حرية من سائر الطالبات فمن ذلك أنه كان يمكنها الطواف في ضواحي المدرسة مع صاحبتها بنكس وزيارة المكتبة وحدهما والذهاب في بعض حاجات سيدة المدرسة والمسير إلى الكنيسة لا ثالث لهما. وأنه ليسوءني جداً أن أخبر القارئ أن

دوندولو كان يتبعهما أو يلاقيهما في كثير من تلك الغدوات والروحات. وكانت المسز بنكس تتناقل في مشيتها حتى تنقطع عن صاحبتها أديليز وهنالك يلتقي العاشقان وتقابل بنكسر أيضاً صديقاً لمعلم الرقص فيرون مثني كتؤامى الورد والجلنار. وقران القمرى والهزار. يتشاكون الغرام. ويتباثون لواعج الهيام. ويتزودن من سحر النظر وسحر الكلام. ما يكون تعلة الفراق حتى ساعة الانضمام. فليت كل صاحبة مرسة تصادف مقالتي هذه فتعترف من كوامن الأسرار. ما هو جدير بالذكر والاعتبار. وتعلم أنه لا يليق ترك الغانيات. يخرجن منفردات لا راع ولا رقيب. ولا داع ولا مهيب. فيكن كالغنم المهملة لا تؤمن عليهن فتكة الضيغم وعيثة الذئب. وكانت اديليز تقول لعاشقها في مثل هذه الخلوات عجباً يا دوندولو كيف كنت في الأيام السالفة تجاذب الفتاة زيلا بيدج اهداب الكلام ولا تنازعني لفظة واحدة؟ فيجيبها الفتى قائلا إن لم تخاطبك يوم ذاك شفتاي فطالما خاطبتك عيناي (إلى هذا الحد من سقوط الكلفة وضياع الاحتشام كان قد وصل العاشقان). فتقول الغانية ولا تحسب أني كنت عنك إذ ذاك ذاهلة الفؤاد مصروفة الطرف. فأينما سرت فعيني كانت على الأثر وإنما كانت تتلوك لعجزها أن تلاحظك وأنت بحياء الفتيات أعلم. وأنه وإن كان قد فات أذنك إذ ذاك دقات لساني فما أظن أنه قد فاتها دقات قلبي! وهنا يجيها الفتى قائلاً ظنك عين الصواب ولقد كنت أسمع دقات قلبك كما أسمع حديثك الآن وما منعني عن خطابك يوم ذاك إلا خوفي أن أوقظ راقد الظن وأثير كامن التهمة. ثم اذكري أنه لم يجيء بي إلى هذه المدرسة إلا حبيك الذي دفعني إلى مصادقة ربة المدرسة والتزلف إليها ولم يتم لي ذلك حتى تنكرت في زي أستاذ للرقص كما ترين. (وهنا كان يعلو وجهه ابتسامة جهنمية. وتبرق في عينه نظرة شيطانية) ويمضي في كلامه فيقول. نعم لقد أسقطت مرؤتي. وامتهنت شرفي ووصمت سمعتي. وأفسدت حسب قومي ومجد أسرتي. وحملت الخزي ولبست العار بين طرتي هذا الثوب الخبيث والبرد الخسيس وما تجشمت كل ذلك إلا من أجلك وفي سبيل هواك يا اديليزا وهنا يهم السنيور دوندولو أن يركع تحت قدمي الفتاة فلا يمنعه إلا وحل الطريق وبلله. ولكن لابد لنا من ذكر الحقيقة وهي أن سيدة المدرسة المسز زيلابيدج صادفت ذلك الرجل

في مرقص وكان رجلاً عاطلاً من الحرف والصناعات. جواب بلدان وفلوات. فقدم إليها فهويته. وادعى أنه استاذ ألعاب فقبلته ثم نظرته الفتاة اديليز فعشقته. ورأت صاحبة المدرسة أن أديليز قد فطنت إلى ميلها لدوندولو فتغاضت لها عن كثير وأعارتها أذنا سميعة صماء. وعيناً بصيرة عشواء. حتى حصل ما حصل. ولنعد بعد إلى ما كنا فيه من محاورة العاشقين فنقول وكذلك كانت اديلزا تجيبه بقولها يا لهذا النبأ الغريب. والسر العجيب! ويالقومي ما أخفى شأنك وأعظم أمرك! وياويح نفسي من أنا حتى أعشق مثلك وأي سانح قد جرى لي باليمن وشارق قد طلع بالسعد حتى ساقك القدر من ديارك لتستبي لب اديليزا وتحتبل فؤادها فيقول ما أصدق ما تقولين يا أديليزا. فما حقيقتي كما تنظرين ولا أستطيع أن أكشف لك الحقيقة وإنما هو نبأ عظيم. وأمر جسيم. وحديث يهول. وقصة شرحها يطول. ولكني على ذلتي وشقائي. وخمولي وخفائي. تنكر أمري وسوء حالي. وتجدد لوعتي وعفاء آمالي أهواك يا اديليزا. وإنما أهواك بذلك القلب الطاهر الذي كنت أحمله بين أضلعي في سالف زمني إذ أنا نقي صحيفة الحسب طاهر ذيل الذكر ساطع شهاب الصيت تلحظني عيون السعادة وتنام عني أعين الدهر. أهواك بذلك القلب الطاهر وتلك النفس البيضاء. لا بقلبي المشوب الذي يخفق الآن بين يديك فإنه أحط منك درجة وأسفل مقاماً! بلى ياصفوة الفتيات. ونخبة السيدات وزبدة العفاف وخلاصة الكرم وعصارة الفضل أني الآن نهب الخطوب وسلب الملمات. للحزن شطر مني وللضعة شطر. ولكن حسبي من زمني الغشوم أني أحبك وأنك حلم نومي وشغل يقظتي. ومطمح أملي ومجال لذتي. وإني عبس لي الدهر الآن وتجهم فلطالما هش في وجهي وتبسم. والحياة سجال يوم لك ويوم عليك. فاصفرت وجنة الفتاة واصطكت قدماها. وخارت قواها. وكانت لا محالة تسقط من قامتها لولا أن تداركها داندولو فرفع بضبعيها. وأخذ بيديها ثم تعلقت بعطفيه. ولاذت بحقويه. وقالت. أنا لا أسألك من أنت ولا أبالي أسأت أم أحسنت. ولكني أحبك كيفما كنت. فقال دوندولو أتقولين أسأت أم أحسنت؟ أأسيئك أنا؟ أيسيء دوندولو منية نفسه أديليزا! إذن لقد خولطت في عقلي وجن جنوني! وهنا جذبها نحوه ونثر القبل على قناعها ونقابها بل على وجهها. وكان في فعله ذلك من شدة الوجد كالذي أصابه خبل ومس. ثم قال لها ولكن

خبريني أيتها المليحة الحسناء من أنت؟ اني أخلني لا أعرف منك إلا اسمك على أنه حلو الرنين لذيذ المسموع. فأطرقت خجلاً وقالت أنا من أسرة وضعة فقال الفتى فكيف إذن بلغت أن تكوني بهذا المدرسة وإني لك بدفع أجرها: قالت إن أبوي على ضعة النسب في ثروة قال فمن أبوك قالت هو واخجلاه سماك فصاح دوندلو بارفع صوته سماك! هذا مالا يكاد يحتمل. ثم سل يده من يد الفتاة وأطرق صامتاً فلم يفه يلفظة حتى عادا إلى جدار المدرسة وكانت المسز بنكس وصاحبها يعجبان من سكوتهما فلما صاروا من المدرسة بمراى قالت أديليزا هذه المدرسة يادوندلو فلا بد أن نفترق! ثم ألقت بنفسها بين ذراعيه من شدة الوجد والوله. وهنا صدمت مسمعيهما صيحة من المسز بنكس فالتفتا نحوها فإذا هي تعدو نحو المدرسة مسرعة وإذا خليلها ثابت مكانه كالذاهل وإذا صاحبة المدرسة المسز زيلا بيدج واقفة من الفتى والفتاة على كثب. والتفتت ربة المدرسة إلى دوندولو آسفة غضبي وقالت ويحك يا دندولو! أكذلك تكذبني وتخدعني؟ الاجل ذلك كان إتياني بك إلى هذه المدرسة ترتع من جنابها خصباً مريعاً. وتنزل من كنفها رحباً وسيعاً بعد استنقاذك من وهدة الفقر وانتياشك من مخالب الجوع والباسك القشيب الجديد. وحملك على الفاره الحديد؟ أبعد ذلك كله تخفر ذمتي. وتنكث عهدي؟ وتستبدل في خرفاء ورهاء كهذه الفتاة التي يدعونها اديليزا أحق ما أراه أم باطل وحقيقة أم حلم؟ وهل تصدقني عيناي؟ فزمجر دوندولو صائحاً قلعت عيناك! ثك قذفها بنظرة كأنها شواظ من نار وولى مدبراً وهو يسب ويلعن حتى إذا غاب شخصه عن الأبصار لم تغب عن الأسماع لعناته ودعواته. ووصله في غد تلك الليلة قرار رفته من المدرسة فكان ذلك اليوم آخر أيامه هنالك. وفي الليلة التالية تحطمت نوافذ المدرسة جميعها بالحجارة. وبعد ذلك اليوم بثلاثة أيام كانت ترى مركبة تطوى الطريق إلى البلد وفي جوف هذه المركبة تجلس أديليزا قد أرمضت عينها الدموع وأنحل بدنها الهم والسهر.

الفصل الثاني ولكن الأمر لم ينته عند هذا وذلك إن خروج أديابزا من المدرسة أثار منها أسراراً كان كتمانها أوفر لعرض السيدة بيدج وأبقى على سمعة المدرسة حتى إذا فشت وذاعت جرت على ذلك المعهد سبة وعاراً. وفضيحة وشنارا. فهجرتها التلميذات مثنى وثلاث ورباع ومنهن المسز بنكس والمسز يعقوب وغيرهما ممن لم تذكر بهذه القصة أسماؤهن. حتى إذا مضى على هذا الحادث نصف عام أقفرت عرصات المدرسة إلا من تلميذتين. ابنتين لرجل عطار كانتا تدفعان أجر التعليم شمعاً من حانوت أبيهما وبناً وصابوناً وشاياً. فلو اطلعت على السيدة ومدرستها إذ ذاك لرأيت منظراً محزناً ومشهداً أليماً - رأيت امرأة ناحلة البدن معروقة العظام عارية الأشاجع تجوب مكانا قفراً خربا. وخاوياً تربا لا يجيبها فيها إلا صوت خطاها ورجع صداها. وهي ترثي حالها تارة بالصمت وآونة تقول بلى لقد خبروني عنك يادوندولو إنك مشؤوم الفال ماطلعت على امرأة قط إلا بالنحس ولا عشقت أنثى إلا عشقها معك الشقاء. وإنك مابزغت في روضة الحب على قوام مياس إلا أذبلت فينانه. ولا أطلت ثمت على خد صقيل إلا أشحبت أرجوانه. ويحك يادوندولو لقد تركت داري للعفاء مسكناً وللبلى موطناً وسلبتها حلاها وما حلاها إلا الخرد الغيد. والبيض الرغاديد. ومالي أشكر عفاء منزلي وخواء داري؟ وقلبي على بعدك أعفى جنابا. وأكثر خرابا. وهنا تنهل عبراتها فكأن في كل عين سحابة وطفاء. أو سقاء. وأهي الخروق في كف خرقاء وما هو إلا أسبوع بعد ذلك حتى عطلت المدرسة ومحي عن بابها العنوان. عثرة لم تنعش منها آخر الأبد. وإنك إن تأت ذلك المكان اليوم قرأت على بابه قاعة موسكو للمستر سويشتال وشركائه والله وحده يعلم أين اختفت السيدة بيدج وفي أي زوايا الأرض أخفت عارها وعبراتها. ولم تصادف المسز اديليزا عند والدها احتفالاً ولا احتفاء وأني تصادف ذاك من أهملت درسها وأضاعت أدبها وكات تقع للمرة الثانية فريسة في مخالب الفجرة وتخسر دينها للخسرة الكفرة فحق لأبيها أنه منعها الخروج إلا إلى الحدائق لشم النسمات. أو إلى الكنائس لشم الصلوات. وأنه رغماً من يقينها أن الفتى لعهد الوداد خافر. ولذمة الحب خاتر. غير

أنها لم تستطع إلا لهفاً عليه. وحنيناً إليه. وادكاراً له. وجنونا به. أما دوندولو فكان قد اهتدى إلى دار أبيها فجعل يذهب ثمت ويطوف بالبيت يتحين الفرص لاستراق اللمح ويرصد الغفلة لاختلاس النظر وكان يرقب الفتاة في غدواتها إلى الكنيسة فيقفو أثرها. وكم من مرة كنت ترى العاشقين يتلاصقان في الزحام فيشفيان ببرد التلامس حر غليل الفؤاد. ويأسوان بالتضام جراح الأحشاء والأكباد. ويدس الفتى إلى الغادة في شفاعة الزحام رقعة تشرح الهوى. وتصف الجوى. فسرعان ما تختطفها الفتاة فتلفها في منديلها أو تجعلها تميمة لصدرها. كل ذلك بحيلة الهوى! قاتل الله الهوى! فما ألطف حيلته. وأكثر وسيلته. وأنجح وساطته وأكرم شفاعته وما أصح تفكيره. وأبلغ تدبيره فهو الملئ بأن يتخذ من خيط العنكبوت سلما إلى غايته. ومن الشعرة سبباً إلى حاجته! وكذلك كنت ترى العاشقين وإن باتا من لذة اللقاء محرومين ولكنهما أصبحا بلذة التراسل فائزين وقد تمكنت الغادة برشوة الخادمة من إرسالها للفتى تسعة كتب في الأسبوع كان يرد إليها منه الرد على معظمها. وإليك بعض تلك الرسائل وهي من الفتاة إلى خليلها. ماذا طرأ على حبيبي دوندولو من سوء الحال وتغير الهيئة؟ ولماذا أراه في تلك الثياب الرثة. أبه فقر. أم به تنكر؟ وهل ركبه دين فادح. أو ورى كبده حزن فادح. أم ألحت عليه الغرماء. أم طارده طالب بدماء ألا ليت أني على معونته وحوطه قديرة. فإني بذلك مليئة وجديرة اديليزا. ذيل - لما أعلمه عنك من حبك السمك بعثت إليك بحيتان كالتي تشتهيها مع خادمتي سوسان اديليزا ملحق - أتحب المحار؟ ستحضر لك الخادمة كمية من منديل من الحرير عليه رباط من شعر حبيبتك ايليزا ذيل - مع الرسول وعاء من شهد وخابية من نبيذ بوردو. فياليتني في هذه الخابية اديليزا فيظهر من تلك الرسالة أن دوندولو قد تغير زيه بتغير حاله. وأنه يلبس لكل دهر ملبساً ولك دعوى زيا فلما ادعى أنه من أسرة كريمة طليانية وأنه أستاذ لبس حلي فاخرة. حتى إذا أسلمته جنايته إلى العدم والأتراب وأفضت به جريمته إلى الفضاء والتراب. راح في

أسمال وأخلاق. وأطمار وإسحاق. وحذاء يمتاز عن أمثاله بالغبرة والوحل. على أنه كان مع تلك الرثاثة يبدي نخوة وكبرياء. وزهوا وخيلاء. يميل قلنسونة حتى يمس بها حاجبه ولا تزال يده في بمباغه تسويه لتحكمه ويبعث بكفه في جيبه إن كان به دراهم ليسمع الناس رنينها وكذلك يرى القارئ أن دوندولو لم يكن إلا متشرداً قد أصاب من اديليزا طعمة سهلة ولقمة سائغة. والأستاذ وإن سرته رسالة الفتاة فقد كان بذيولها وملحقاتها أشد سروراً حتى جعل يلتهم ألفاظها بعينه ثم قام فالتهم مدلولات تلك الألفاظ (هدايا الغادة - السمك والمحار والنبيذ والعسل) بفهمه. وفي غد ذلك اليوم وردت على الفتاة من حبيها رسالة ففضت ختامها بيد راجفة. وحشا واجفة. حتى إذا قرأتها لم تجد بها سروراً عظيماً وإليك الرسالة. كرمك ياعزيزي يفوت كل وصف ويعي كل واصف. على أنه ما كان إنسان أحوج مني إلى مثل هذا الكرم وأفقر من حبيبك البائس إلى مثل ذلك السخاء ولقد صدقت في فراستك إذ تقولين أبك فقر. أم تنكر. وهل ركبك دين فادح وورى كبدك حزن قادح. وهل ألحت عليك الغرماء. وطاردتك طلاب بدماء. بلى بي كل ذلك وأبرح. وأصابين جميع ما تذكرين وأقرح. وتف قلبي من الهم ما تصفين وأقدح ورماني الدهر بما قد عشت وأوفر. واكتفني من المحن ماسردت وأكثر. نعم لقد حال بعدك الزمن وتغير وساء بعدك العيش وتنكر. وعبس بعدك الدهر وتنمر. وكشف لي الخطب عن ساقه وشمر: وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي ياعز لايتغير أجل لقد تغيرت أحوالي زيا وثياباً. وزادا وشرابا. ولذة وهناء. وغبطة وصفاء. اللهم إلا أمراً واحداً أنا لازم له مالزمت الحرارة النار. باق عليه مابقى الليل والنهار. وذلك حبيك. وغرامي بك! وبعد فلتسمعي نبأي: أنا سليل بيت طلياني عريق في المجد أصيل في السؤدد يحل من شرف النسب في الغارب والسنام. وتبدو أبناؤه لنصاعة الأحساب غرراً في جباه الأيام وينزل من أكرم البيوتات حيث يلقي صميم الرأس مجتمع الشؤون. من بيت لا أكون مغالياً إن قلت أنه أمجد بيوتات فينيس ولقد أتى علينا حين من الدهر كنا في غبطة وسرور. ولذة

وحبور وثروة وفراء ونعمة فيحاء ولكن الظالم الجبار قددهم فينيس فحل رباها. واستحل دماها. واستباح حماها وسلب حلاها. واشتف صبابتها. بعد أن امتص عصارتها فقسم قبائلنا بين القيد والنصل. والنفي والقتل. فكان النفي قرعتي والغربة قسمتي يقاسمني إياها أم ضعيفة وجدة مقعدة وأخوات لباسهن الخوف والذلة. والبؤس والقلة وهنى نحاف. صفر عجاف لا طاعم لهم ولا كاس. ولا معاون ولا مواس. ولقد دافعت عنهم الدهر وحاربت دونهم البؤس والضر. بجيوش الحيل وكتائب الصبر فما دفعت عنهم هجماته. ولا صددت دونهم حملاته. وماذا أقول يا اديليزا أأقول لك أني احتجت الخبز والماء. وافتقرت إلى المئزر والرداء وإلى الفراش والقطاء؟ وبعد فلقد وجدت السمك شهياً. وأكلت العسل هنياً. وشربت النبيذ مريا. ولكن المزيد المزيد من هذه الطيبات فإن ما وصلنا منها لا يشبع النهمة ولا يقطع الغلة على أني أستزيد وبي من الخجل ما يتعثر معه القلم في أذيال بيانه ويحمر منه خد الطرس. وسلام الله عليك ورحمته من محبك الولهان. وصبك اللهفان. فريدريك دوندولو نقول لما قرأت اديليزا هذه الرسالة أول مرة نالها سخط وغضب وذلك لما بدا بين سطورها من آيات العدم والإفلاس. ولا غرو أن يمتعض من كان له رقة مزاج الفتاة ويشمئز من تلك الصورة الشنعاء - صورة الفقر المدقع. والجوع الموجع. ولكن امتعاض الغادة مالبث أن اضمحل فزال وأعقبه رحمة أخذتها على الحبيب البائس ورقة. ورأفة وشفقة. ولاسيما عند ذكرها ذلك العدو الظلوم. والجبار الغشوم. الذي نملك وطن الفتى وأمته. وأذل قومه وأسرته واغتصب حريته واستلب غزته. ورفع على تلك الربى وهاتيك البطاح رأيته فرددت قراءة الرسالة ولاسيما تلك الفقرة وكلما مر طرفها على تلك الكلم الخحزنةذابت مهجتها. وفاضت مقلتها وصاحت لأبلغن في سبيلك مجهودي وإن كان فيه حتفي! ثم بدا لها في الأمر صعوبة وهي أنها لا تعرف وهي أنها لا تعرف اني تجد ما يعرض بطلبه دوندولو من المال ولكنها مالبثت أن انفتقت لها الحيلة فأصابت شيئاً من الدنانير وما هي إلا بضع ساعات حتى سمعت بحانوت أبيها ضجة عظيمة وسمع أبوها يصيح على

غلامه بالويل والحرب. ويدعو عليه بالبرص والجرب ويتهمه بأنه سرق جميع ما بالصندوق من المال وتركه في أحرج موقف وأسواء حال. ثم ساقه إلى دار الخصام. وبيت الأحكام. وهو مما قرف به يعلم الله براء ومما وصم به طاهر الذيل نظيف الإناء حتى إذا حضرا مجلس القضاء أشرقت حجة البرئ. وأخزى الله المسيء. ولكنه طرد من خدمة السماك ظلما. وذلك لأن للفتاة عاشقاً معدما. وأرسلت اديليزا إلى حبيبها الدنانير طيّ الرسالة الآتية: عزيزي: أيكفيك ستة دنانير ونصف دينار فإنها وربك أقصى ما بلغته حيلتي وانتهت إليه وسيلتي. وصحيفة عذرى بعد ذلك وضاحة غراء وديباجة حجتي وضاءة بيضاء هذا وقد سنح لي خاطر وهو أن غلامنا قد طرد وأبى لا يشهد الحانوت ليلاً وكذلك يمكنني أن أقضي نصف الليل بالحانوت. اديليزا وما وصلت هذه الرسالة دوندولو حتى صحت على مقابلة الفتاة نيته قائلاً سألقاها وأدخل ذلك الحانوت الملعون وقد دخله وإنما دخله ليعجل بالخسران على نفسه. وفي هذه الليلة قامت اديليزا وأمها على الحانوت تدير شؤونه وجعلت الأم والسكين في يدها تقشر المحار ليقدم للآكلين. ولم تكن السن قد قللت نشاطها. ولا شمخت بها الثورة عن مزاولة مهنة كانت سبب ثروتها وجعلت ايليزا تنساب في أنحاء الحانوت كأنها الأوزة في الماء وهي تحمل أثناء ذلك إلى الآكلين رغفان الخبز وقطع الزبد وزجاجات الخل. وكان معهما صبي صغير فكان يروح ويغدو بين الحانوت وبين خمار أمامه يحمل إلى الآكلين ما شاؤا من خوابي الخمر. فلما انتصف الليل وكانت اديليزا تنظر من وراء زجاج النافذة إلى نور القمر تقارن بينه وبين نور الغاز الوضاء ينعكس سناه على صدور الحيتان المصقولة فإنها لكذلك غرقة في بحار الخيال تائهة في بيداء التشبيه إذا بانف رجل قد التصقت بزجاج النافذة فتأملته فإذا هو دوندولو. فطار قلبها فرحاً ومالت على المنضدة وكان يغمى عليها. وكان دوندولو يصفر لحنا فاستمر في صفيره ودخل الحانوت يديه في جيبه يميل زهوراً ويميد عجباً. وتظاهر بأنه لا يعرف

اديليزا البتة وسلم على الأم وابنتها سلام خليع متظرف قائلاً أسعد الله ليلتك سيدتي وانحنى أمام الأم. ما أحر هذه الليلة. حران وجوعان أيها السيدة كما يقول المثل. شد ما استهواني منظر هذه الحيتان ولاسيما إذ كان مقروناً بمنظرك أيتها السيدة فلما سمعت الأم هذا التغزل الرقيق قالت واحمرت حياء أو حاولت أن تحمر دينك أيها الشاب فقال الشاب أنت خير من ديني. انت معبودتي. ولكن من هذه السيدة اظنها أختك وأشار إلى اديليزا وهي صامتة مبهوتة قد ملكتها حيرة وعراها ارتباك وخانتها قواها فمالت على كثبان من زجاجات الجنجر وارتاحت الأم أيما ارتياح إلى مقال دوندولو إذ يرى شبهاً في الهيئة وقرباً في السن بينها وبين ابنتها فيقول أظنها أختك ثم قالت كلا ولكنها ابنتي. ثم التفتت إلى الصبي فقالت يا ادلي افرش نضداً للسيد. أتريد محاراً أبها السيد أم حيتانا فقال دوندولو كليهما سيدتي فإني أتيت على قدمي من مكان قصى ومحلة نازحة. وقد نهكني الكد. وأعياني الجهد. فيا حبذا لو أسعفتني بمقدار من كليهما. وقد نهكني الكد. وأعياني الجهد. فيا حبذا لو أسعفتني بمقدار من كليهما. وسأبدأ إن شئت بالحيتان. ويا حبذا زعانفها فما أرى أشبه بها في الحمرة والرقة إلا شفتيك. قال ذلك وانقض على الحيتان كأن يديه شبكة لا تبقى منها ولا تذر. فسرت الأم بحسن آداب الفتى وحدة شهيته. ثم أقبلت تشق له سمكات دقاقا. ودلف السيد يترنح ويترنم حتى أتى مقعداً إلى منضدة فجلس جلسة المغتبط المحبور. وما كاد يستوي جالساً حتى سمعت الأم من ناحيته شهيق ضحك مكتوم وصوت لثم وتقبيل وتلتفتت تطلب ابنتها فلم تجدها فخالجتها ريبة وصاحت يا اديليزا فعادت إليها الفتاة وقد لبست وجنتها حمرة الجلنار بعد صفرة البهار. فأمرت الأم ابنتها أن تلزم مكانها وسارت هي بالسمكات إلى الفتى حتى إذا جاءته وضعتها أمامه وقالت عابسة واخجلاه أيها السيد! وما هو إلا كطرفة العين حتى شرعت المرأة تضحك كما كانت تضحك ابنتها وختمت عبارتها التي أولها واخجلاه أيها السيد بقولها انته

ودعني أذهب ولم أك معهما إذ ذاك فاعرف ماذا دار بينهما وماذا عكس الأمر وصرف السيدة عن الغضب إلى الرضا وعن العبوس إلى الضحك على أنه يظهر لي أن دوندولو يغازل كل من صادف من الإناث ويعشق النساء بالكميات الجسيمة. والمقادير العظيمة. وعادت الأم إلى مكانها تمسح عن شفتيها - لا أدري ماذا؟ وقد عادت إلى أكمل حال من الانشراح والصفاء وأرسل الصبي إلى حانوت الخمار ليحضر زقاً من الجن وراقوداً من نبيذ التفاح. وصاح دوندولو من أقصى المكان وهو يلتهم السمك التهاماً أسرع! وساء اديليزا إن رأت أضراس حبيبها تسرع في الطعام كالنار في الحطب وما هكذا تكون العشاق في حضرة حبائبهم. حتى أنشد لسان حالها: فلو كنت عذري المحبة لم تكن ... أكولاً وانساك الهوى كثر الأكل والحقيقة أن دوندولو كان يأكل كالذي لم يذق الزاد قط. وإليك مقدار ما أكل وثمنه كما قدمته إليه المرأة أم اديليزا يوجد جدول ويلزمه تقديم ثمنه إلى المستر صمؤيل جرامباس قال المستر دوندولو عند ما قدمت إليه ورقة الحساب كلا يا سيدتي يجب أن تسقطي لي شيئاً في المائة فضحكت الأم وابنتها والصبي من هذه الكلمة وقال دوندولو ولكن ما علينا وما أحسب أنا سنتشاحن من جراء الطعام وثمنه. ولكن أضيفي إلى الحساب زجاجة أخرى من الكنياك وأحضرينهيا متى جرى لها ما سيجري لي الآن؟ قالت المرأة ماذا تعني بقولك هذا؟ قال أعني أحضريها متى وصلت. مثلما وصلت الآن عجيزتي إلى هذا الكرسي ثم جلس في كرسيه وكان واقفاً. فانصرفت المرأة تضحك من فكاهة الفتى ووقاحته وأخذ الصبي من بين أقدام دوندولو هرماً ضخماً من قشر المحار. وصاحت المرأة بالصبي يا سام اذهب إلى الخمار فأت بزجاجة كينياك للسيد. ولكن لا تفعل فإنك من التقاطك هذا القشر في عمل أهم وأعظم اذهبي أنت يا اديليزا

فساء ذلك الأمر الفتاة لأنه حرمها اختلاس الكلام مع حبيبها. ولعل الغيرة هي التي بعثت الأم أن تصنع ذلك الصنيع مع ابنتها. فذهبت الفتاة ساخطة مغتمة وما كادت تذهب حتى أقبل أبوها وكان في حفلة أنس والرجل على فرط حبه للهو والعبث لا يفرط في شيء من أمره ولا يضيع مثقال ذرة من حزمه وجده. فما دخل الحانوت حتى نضا عنه حلله ولبس مباذلة ثم أقبل على امرأته يسألها ماذا حدث بعد ذهابه وماذا باعت؟ فقالت حال لا بأس بها. عندنا في الصندوق ليرتان. وورقة بليرة وثمانية شلنات ثم أسلمته الورقة. فنظر فيها وابتسم ثم قال وكم كان آكلو هذا المقدار؟ فقالت المرأة كم تظن؟ قال إذا كان آكلوه ثمانية فلنعم ما صنعوا ولشد ما أجادوا فضحكت المرأة وقالت فما قولك في واحد؟ إنه قد أكل كل ذلك وقد ذهب الصبي ليأتيه ينا جود من الخمر فوق ماشرب فذعر الرجل وارتاع وقال أو أحد يفعل كل ذلك؟ ثم تقولين أنه لم يدفع فأخذ الرجل الورقة وأسرع يعدو حتى دخل المطعم. وكان الصبي لا يزال يلتقط قشر المحار وكان لا يعد ولا يحصى. ودندولو أمام المائدة ثملاً يضحك وينكش بالسواك أسنانه. ومثل المستر جرامباس أمام الفتي النشوان وليس في جسمه جارحة إلا ترتعد وترتعش وقد خطر بباله خاطر مزعج مشؤوم وهو أنه قد رأى ذلك الوجه قبل ذلك وأنه وجه لص. فتناول درندولو الورقة ورمى بها في الهواء هازئاً وقال بصوت كالرعد ما أبلهك وما أجنك إذ تحسب أني أدفع دانقاً من هذا المبلغ؟ أأنا أدفع فلساً؟ ألا تعرفني. أنا دوندو! فهرع الحاضرون من مجالسهم لينظروا الفتى المشهور واندهش الصبي فسقط من كفيه مئتان وأربعون قشرة محار. وجرى المستر جرامباس إلى باب الحانوت يصح ويصيح مستغيثاً برجال الشرطة. وبينما كان يجري عثر في طريقه بشبه فتاة منطرحة على الأرض إلى جانبها خابية من النبيذ.

وقصارى الكلام أن الفتاة لما رجعت بخابية النبيذ سمعت الفتى تنطق ذلك الإسم المشؤوم داندو اسم شرير مشهور ومجرم معروف ثم أبصرت الفتى يميد من شدة السكر ويترنح ويصيح ويضحك ضحكاً شنيعاً ممقوتاً فسطعت الحقيقة لعينيها فسقطت مغشياً عليها. فأكب الأبوان وهيعلى ابنتهما المغمى عليها وقد ذهلا عن كل ماعداها وأدنت الأم زجاجة الخل من خياشيم الفتاة وسلط الأب عليها رشاش الصودا فعادت إلى حسها ولكنها لم تعد قط إلى عقلها وإنما أفاقت من تلك الغشية مجنونة! وماذا صنع الكاذب الغشاش؟ انسل هارباً من بين الجماعة وهم في شغل عنه بالفتاة فلو بصرته وهو مفلت إذ ذاك أبصرت نذلاً جباناً ووغداً خسيساً يمر كالذي لايبالي بما جرى حوله ولا يحفل قد أمال القلنسوة عجباً وخرج يميد ويميس خيلاء ويترنم بلحنه السافل الممقوت. ولما كان الصبي ينظف الحانوت في غد تلك الليلة افتقد من متاع المكان وما عونه شوكتين من الفضة وصحفة من الصفر وطبقاً من الصيني وأبريقاً ولا أحسب القارئ في حاجة إلى معرفة من هو السارق. أيها السادة هذه قصتي قد قلتها. فإن صلحت عليها نفس فاسدة. وتطهرت بعظاتها من أدران الخبث روح واحدة فقد نلت غايتي. وبلغت أربتي وحسبي أنها تنبه رئيسات المدارس. من غفلتهن. وتصحي التلميذات من سكرتهن. وتبصرهن بأساليب الدهاة المكرة فيعرفنها ثم يجتنبنها. وتفطنهن إلى مسالك الفسقة الفجرة. فيتعلمنها ثم يتحامينها. وتحذر الفتيان مخابث الشره وعواقبه. ومتالفه ومعاطبه وما يجر إليه من العورات والسوآت. والآفات والنكبات. أجل لو أي هذه لدروس أفادت قصتي هذه لكان ذلك حسبي اربي.

العلوم والفنون

العلوم والفنون عجائب الطبيعة حكى رجل فرنسي من المولعين بالأسفار قال: ركبت سفينة بخارية شراعية وهي أول سفينة صنعت لتسير بالبخار لم تبلغ آلاتها من الاتقان المبلغ الذي وصلت إليه الآلات الحديثة وكنا نفاخر بهذه السفينة ونحرص عليها كأثر نفيس لأن أجدادنا الذين لم تسبق لهم رؤية فعل البخار كانوا يعدونها من معجزات الأيام. وفيما نحن سائرون في عرض البحر والليل قد أرخى سدوله هبت علينا ريح زعزع هصرت القلوع وكسرت الادقال ومرقت بنا السفينة كالسهم إلى لج البحر الخضم وطغت علينا الأمواج فدخلت إلى قلب السفينة وكادت تطفئ حرارة المرجل الذي يولد البخار فيها فهلعت نفوس الركاب وهرعوا إلى الربان يسألونه رأيه في مصيرهم فقال أنه لا حيلة له في مغالبة الطبيعة ولم يعد في وسعه إلا التسليم ليد الأقدار. وظللنا الليل كله على هذه الحال نعالج سكرات المنون والأمواج تعج وتزأر فترتفع بنا الماعونة كما إلى قمة جبل ثم تهبط إلى العمق وجوانبها تهصر هصر أو العواصف تزداد اشتداداً والموت منا قاب قوسين أو أدنى وكأنما السفينة والرياح التي تتلاعب بها منجذبتان معاً بقوة خفية هائلة. شخصنا حينئذ إلى الأفق فرأينا نقطة سوداء وأخذت هذه النقطة تكبر شيئاً فشيئاً إلى أن تبينا الأرض وليتنا ما تبيناها فإنها كانت صخوراً شاهقة مائلة في الفضاء تسوقنا إليها الرياح رغم أنوفنا. انشق عمود الفجر ولاحت تباشير النور وظهرت في سفح الكهف ثغرة سوداء واسعة كانت الريح تجري إليها وكنا نحن والعاصفة معاً نساق إلى قلب الأرض سوقاً وكأنما الأرض فغرت فاها لابتلاعنا وفيما نحن في هذا الذهول أنذرنا جرس الخطر بالاصطدام ولم يكن إلا كلا ولا حتى اصطدمت السفينة بسور من حديد صدمة مزقت أوصالها وأطارت شظاياها إلى كل ريح وقد قذفت بي إلى فوق كالقنبلة تخرج من فم المدفع وفي الحال غاصت السفينة إلى الأعماق. كل هذا جرى وأنا فاقد الشعور لما أصابني من الذهول ولم أع إلا وأنا فوق الماء وحولي الخشب المبعثرة وأطواق الحديد الملتوية. ثم سكنت الريح بغتة وجزر ماء البحر فحمل معه

الغرقى وكان من حسن حظي أني سقطت في ماء ضحضاح ولو وقعت في عرض أليم لما استطعت أن أسبح إلى البرلماني من التعب المبرح وألم الجراح. غير أني استمسكت بحبل الرجاء وجعلت أعالج نفسي حتى بلغت البر وانطرحت على الأرض معيا. ولما استطعت أن أتبين ما حولي رأيت أن ذلك الثقب المفغور في الكهف قد زال وقام مقامه سور حديد ظهرت عليه آثار صدمة السفينة فعلمت أن هذا الباب الحديد سدّ في وجهنا في الحين المناسب ليمنع انحدارنا منه إلى تلك الهوة الهائلة. ثم التفت إلى يميني وإذا ربان السفينة يحييني وهو الرجل الوحيد الذي كتبت له السلامة معي وقد مزقت ثيابه وكسى وحلاً وهو يجاهد في البلوغ إلى البر. ولما استتب به المقام بجانبي نظر إلي وقال يالها من مصيبة أوقعتنا في هذا المكان المجهول. لا ريب عندي أن هذه الجزيرة هي جزيرة الكور وهي لم تكن قبلاً وإنما شخصت من قلب البحر بفعل البراكين منذ نحو قرن تقريباً والجغرافيون الذين رأوها ورسموها في خرائطهم جعلوها في وسط الاوقيانوس الهندي. فقلت كيف يكون ذلك وهل تبقى جزيرة في العالم ولاسيما في بحر مسلوك كهذا غير مكتشفة وقد اكتشف الجغرافيون كل المجهولات ولم يتركوا شيئاً. قال الحقيقة هي كما رويتها لك. فإنه لما شخصت هذه الجزيرة كانت أرضاً قاحلة والبراكين تتقد فيها وبقيت كذلك زمناً والرسو عليها ممكن ولكن منذ عدة سنين تبين لنا أن هذه الجزيرة أخذت تمتنع على السائحين وكل من أراد الدنو منها لاستقصاء أحوالها ومعرفة مكنوناتها. وسواء كان هذا الأمر حقاً أوليس بحق فقد ثبت أن كل الذين حاولوا الوصول إليها دفعتهم العواصف عنها فقد قيل لي أنه تخرج منها عاصفة كما من كور عظيم تدفع السفن عن شواطئها لوذلك سميت جزيرة الكور. وفيما نحن كذلك التفت إلى الباب الحديدي العظيم وقلت لصاحبي لاريب أن العاصفة خرجت علينا من هذا المكان ووجود هذا الباب الحديدي برهان صريح على تداخل يد البشر فيه فلا ريب بعد ذلك أن الجزيرة مسكونة وأن سكانها متمدينون بل مهندسون حاذقون. فتنهد الربان وقال عسى أن تصدق أحلامك ثم نظرت إلى البحر فرأيت قارباً صغيراً يسير

أمامنا سيراً حثيثاً وقد دار حول اللسان الخشبي البارز في الماء وهو لا قلوع فيه ولا مجاذيف له بل يسير بمحرك داخلي وفيه رجل يشير إلينا إشارات التحية ثم دنا منا لقد ساءنا جداً ماوقع لكم على أننا بذلنا أقصى مجهودنا لدفع ما ألم بسفينتكم فلم أستطع إلى ذلك سبيلاً غير أننا تمكنا من قفل الباب ولو بقي مفتوحاً لهوت سفينتكم ومن بها إلى هاوية الهلاك فقفل الباب إنما كان الوسيلة الوحيدة الممكنة لنجاتكم. ثم التفت إلى الجثث المنتثرة وتأوه وقال - أظن أن قفل الباب جاء متأخراً فلم يستفد منه كثير منكم غير أننا سنجتهد في القيام بدفن موتاكم بما يلزم من الوقار والاجلال أما أنتما فهيا معي إلى القارب. أما أنا والربان فعجزنا عن أداء واجب السكر لهذا الرجل الكريم فدخلنا إلى قاربه وجعل القارب يمخر بنا الماء بسرعة عظيمة وقد حاولنا أن نخبره بذهولنا من سكوت العاصفة بغتة ومن فعل القوة السرية التي جذبتنا إلى الجزيرة فقال لنا: إن مارأيتموه ليس شيئاً بازاء ماسترونه من العجائب فإننا نحن سكان هذه الجزيرة من رجال الاختراع والاستنباط الذين حدت بهم الحاجة وعدم تصديق الذين يديرون دفة الأموال إلى اعتزال العالم واستيطان هذه الجزيرة والذين لم يجنوا في أوروبا وأميركا مجالاً لإخراج بنات عقولهم من حيز الفكر إلى القوة لجأوا إلى هذا المكان وغرسوا فيه بذور قرائحهم فحولوا هذه الصخرة القاحلة إلى رياض غناء وصاروا يضحكون من الذين سخروا بهم قبلاً وزعموا أن ذكاءهم خيالات وتخرصات. اخترنا هذه الجزيرة مقراً وهي كما تشاهدان واقعة في ممر العواصف الطبيعية ونحن بذكائنا واقتدارنا نظفر بهذه القوات ونستأسرها كما يظفر الصياد بصيد فراخ الحمام فننتفع بقواتها في بيوتنا وحوانيتنا وقد كنا الليلة الماضية نخزن ما يلزم لنا من الرياح في كهوفنا العميقة المبثوثة تحت الأرض فأصابكم ما أصابكم لما وقعتم في منطقة الهواء الجاري وهذا الهواء المنضغط لا يكلفنا شيئاً ولكن خزنه عندنا يفيدنا فوائد لا تحصى. وفيما كان هذا الرجل العجيب الذي يصرف الرياح كيف يشاء يكلمنا دنا القارب بنا من رصيف الميناء فتأملناه وإذا هو من أبدع مارأت العيون لأنه ليس مبنياً من حجارة بل من صفائح حديد قائمة على محور يدور فيسمع له صريف كصريف الأوتار كلما هاج البحر وزفر التفت إلينا محدثنا وقال تريان أننا قادرون أن نستفيد من حركة الأمواج وبيان ذلك أنه متى صدم الماء صفائح الحديد أدار عجلة ذات أسنان داخل اللسان فتنقل القوة إلى

كل المعامل المبثوثة حول الشاطئ الجزيرة فتحرك الأنوال حركة دائمة. والبحر هو الخادم الأمين الذي لا يعي ينسج لنا أكسيتنا وما يلزم حتى الخيش الذي نظلل به بساتيننا من فعل الحرارة الجوية والرطوبة. وعند ذلك خرجنا ويممنا المدينة فدفع دليلنا باباً فانفتح وقال لنا هيا انظرا ما يفعله البحر إن هذا البهو العظيم الذي أمامنا لا يقع منه ضوء الشمس إلا على خيوط مشدودة وعجلات عديدة وسيور دائرة بقوة الكهرباء ووشائع تدفع في السدى ذات اليمين وذات اليسار كما بايد غير منظورة بسرعة البرق في إيماضه ونساء حسان تشتغل بطي النسيج الذي بعبضه رقيق شفاف وبعضه سميك مدفئ وتسلطنا على البحر فجعلناه كالمطية الذلول وقد استعصى على من سبقنا وفتك بالمئين والألوف منهم. فقاطعه الربان قائلاً وما تفعلون إذا هاج البحر عليكم فقال إنه إذا هاج البحر فإنما يسرع في إنجاز أعمالنا لا غير. قال الربان وماذا يكون من أمركم عند وقوع المد والجزر. فأجاب أن البحر يمد عادة تسع ساعات في اليوم وتسع ساعات على ما أظن تكفي لتأدية الأعمال في كل بلاد متمدينة. اضطررت في الأيام الأولى من وصولي إلى الجزيرة أن ألازم الفراش وقد كنت أظن أن هذا الاكتشاف البديع يعمل في شفائي ولكن شدة الصدمة والجروح الناجمة عنها وإن لم تكن خطرة كانت مؤلمة على أني تمكنت من الإشراف على المدينة من غرفتي فرأيت أن كل التربة البركانية حولت إلى أحسن ما يمكن تصوره بحذق المهندسين ومهارتهم فقد بنيت البيوت من المواد المصهورة وكان منظرها جميلاً ومع أن السكان ليسوا بكثيرين إلا أن مظاهر العمل والنشاط بادية عليهم وعربات التزام تخترق الشوارع الكبرى والقوات الطبيعية التي تذهب ضياعاً في أوربا وأميركا وسائر جهات المعمور تسخر هنا لقضاء حاجات الناس ففي أوربا وأميركا يسخرون إلا الريح والشلالات وينفقون كثيراً على توليد القوات الكهربائية من الفحم أما جزيرة الكور فلا فحم فيها وقد اكتشف سكانها مصادر للقوة من الطبيعة فاستخدموا الريح والبرق والمطر ومياه الاوقيانوس ونار البركان لقضاء أوطارهم فبات معظم قوات الطبيعة طوع بنانهم.

ومن المحال أن أحاول تعداد الفوائد الناجمة من قوة الريح فهم يخزنون الرياح لوقت الحاجة وحصروا النيران البركانية في القشرة التي تحت سطح الأرض وقد جعلت قوة النيران هذه القشرة كالأنابيت العظيمة المستديرة وكل أنبوبة منها متصلة بتجويف عظيم في مركز الجزيرة وتمكنوا من نقل القوة بهذه الأنابيب إلى اسطوانات بها مكابس وأداروا قضبان هذه المكابس بقوة نار البركان التي لا تنفذ وجعلوا قمة البركان بمثابة مرجل بخاري عظيم ورفعوا الماء من البحر إلى فوهته فمتى هاجت النيران تحت الماء تحركت القضبان المتصلة بالمرجل وأدارات الآلات وانفتحت الثغرة العظيمة ورجعت المكابس التي في الطلمبات إلى خلف فملأت الرياح التجويف الذي بها ولا تزال كذلك حتى تكتفي الجزيرة من أخذ مؤونتها ويستخدمونها لإدارة جميع الأعمال من المطحنة العظيمة إلى عجلة الخزاف الصغيرة وإذا جن الليل وهب الهواء قليلاً كفى ذلك لتنظيف الشوارع بدقة تفوق كل نظام بلديات أوربا وقد بلغ من تسخيرهم الهواء لارادتهم أن صاروا يستعملونه في الأشياء التافهة كنفخ النار في البيوت. وإذا سخنت الحرارة الجوية يضغط المرء على زر بجانب فراشه فيجري في غرفته هواء بليل ينعش العليل ويحي النفوس. وقد زارني منقذي مراراً عديدة قبل أن أتمكن من الخروج وهو رجل عظيم نيط به إدارة معمل خزن الهواء وتوزيعه وقد قضى العمر في الاكتشافات العلمية فاكتشف مقياساً للحرارة الجوية وآخر للرطوبة وغيره لقياس كثافة الغازات وهي متصلة بخزانات عظيمة تحت الأرض. وعليه أيضاً أن يراقب ساعة بعد أخرى حال المجاري الجوية ويصون الجزيرة من عبث الذي يريدون استقصاء شؤونها وتجسس أحوالها خوفاً من تداخلهم في شؤؤن استقلالها فمتى لاحت سفينة عن بعد لا يحفلون بقيمة الهواء المخزون ولا يخطر ببالهم فكرة اقتصاده بل يفتحون كل نافذة وشق ويفرغون كل خزان فتخرج العاصفة من أحشاء الأرض وتهاجم السفينة فتحولها عن وجهة مسيرها حتى لا تصل إلى الجزيرة فيبقى سرها مكتوماً عن العالم. أما سفينتنا فما وقع لها إنما كان لأنها دخلت في منطقة عمل الآلات وهي تمتص الهواء لاختزانه ولم تنج من الوقوع في الهوة إلا بقفل الأبواب فجأة وقلت لصاحبي ذات يوم أظن أنكم تستمدون الكهرباء من المطاحن الهوائية لإنارة بيوتكم ومعاملكم. فقال نعم بالهواء نستيطع أن نعمل كل شيء ولكن تكليف الهواء جميع الأعمال

يكون فوق طاقته. ولذلك استخدمنا غيره من القوى الطبيعية كما رأيت فالمد والجزر ينسجان الملابس والبرق يمدنا بالكهربائية والمنطقة التي نحن فيها تثير السحب والعواصف مساء كل يوم فيلعلع البرق ويهزم الرعد. أنظر هوذا الغيم يتكاثف في الأفق والعواصف مزمعة أن تثور. ثم أشار بإصبعه إلى الجو فأراني عدة طيارات صاعدة من كل صقع ومكان من المدينة حتى كادت تحجب وجه السماء ثم قال هذه الطيارات مغشاة بصفائح من القصدير وقد اتصلت بها حبال غطت في مياه قلوية فهي في الحقيقة قضبان صاعقة ولكنها بدلاً من أن تفرغ كهربائية السحب في الأرض نفرغها في بطاريات لنختزنها على أننا لا نجمع الكهربائية من الغيوم فقط بل من البخار أيضاً ألا ترى هذا البركان العظيم. إنه خدامنا المقتدر الذي لم يقم خادم مثله وتلك قمته صافية الاديم لا ينبعث عنها دخان فتظنه لأول وهلة خامداً ولكنه ليس كذلك لأن فوهته الكبيرة التي كانت تقذف حمماً ومواد مصهورة تحولت إلى مرجل كبير تضطرم تحته النار دائماً وقد ملئت تلك الفوهة ماء والبخار الخارج منها يتصل بأنابيب تدبر الآلات والمعامل التي في الجزيرة فتسمع مدى النهار صوت المطارق في المصانع التي تحيط بالجبل والبركان يمدها بالقوة اللازمة ويطرق المعادن أيضاً. ذهبت مع رفيقي الربان في أحد الأيام لزيارة هذه المعامل وكان ذلك عند الفجر فبلغناها بعد مسيرة ساعتين وسمعنا دقات المطارق تكاد تخسف الأرض. شخصنا إلى الجو المحيط بالبركان فرأينا قبته تضيء كالنحاس المصقول وقد ركب عليها بلبوس يفتح عند الاقتضاء لافلات البخار وجوانب الجبل مملؤءة من الحمم المصهورة والمواد الذائبة التي رسبت عليها من قبل أن تتداخل فيه يد الاصلاح والأنابيب الطبيعية تخترقه من جانب إلى جانب ومنها تفلت المواد الذائبة. ورأينا المطاحن والمطارق والأزاميل تملأ الأغوار والكهوف والصفائح المطروقة توضع على موائد من نحاس. وبعض المطارق كبير يبلغ ثقله عدة أطنان فمتى وقعت واحدة منها على المعادن أثارت شراراً لامعاً وكان المعدن أمامها كالعجينة تكيفه على ماتشاء ومتى أكمل العمل يغط المعدن المطروق في إناء عظيم مملوء ماء فيسمع له أزير وزفير. ثم أشرت إلى الفوهة وقلت لصاحبي هذا هو المرجل الذي يحول الماء بخاراً فقال لي نعم

ونحن نحول منه أكثرمن ستمائة طن يومياً. قلت ومن أين لكم هذا القدر والمطر الذي ينزل في كل الجزيرة لا يكفي ذلك قال نرفعه من البحر. قلت أترفعون 600 طن إلى هذا العلو كل يوم؟ قال لسنا نحن نرفعه ولكن المد والجزر يكفل لنا ذلك. ألم تعرف أننا نستخدم المد والجزر أيضاً. قلت وهبكم تستخدمونه فكيف تدفعون به الماء إلى علو 600 قدم فوق سطح البحر في حين أنه متى علا الماء لا يتجاوز 20 قدماً في الارتفاع فابتسم ابتسامة الظافر وقال ذلك أمر هين لأننا صنعنا مخلاً على هيئة زاوية قائمة وأركزناه على عمود متين صلب الدعائم يبلغ قياس ذراعه الأطول 600 قدم وفي طرفه دلو من القصدير (التنك) يسع 300 طن وذراعه الأصغر يبلغ نحو 20 قدماً ربطت به سلاسل حديدية قوية ووصلت هذه السلاسل ببكرات حديد أيضاً ليسهل تعديلها عند اللزوم وأثبتت تلك البكرات بصنادل قوية ملئت حديداً ومواد ثقيلة. فمتى كان المد ارتفعت هذه الصنادل فارتفع معها الذراع الأقصر وانخفض الذراع الأطول حتى يمس الماء فيمتلئ ولما يأخذ الماء بالجزر تنزل الصنادل بثقلها فيهبط ذراع المخل الأقصر ويرتفع الذراع الأطول راسماً قوس دائرة نصف قطرها مساوٍ لطوله فيرفع الماء إلى قمة الفوهة أي إلى علو 600 قدم ثم يصب مابه فيها. ويقتضي للمخل ست ساعات صعوداً وست ساعات في هبوطه وأنت تعلم أن المد يقع مرتين في اليوم فلذلك يدفع الستمائة طن المطلوبة. وقد بذلنا منتهى الجهد في تركيب هذه الآلة ولكنا منذ ركبناها سارت في عملها بنظام مستمر وصارت أمراً مألوفاً لدينا فقلما نلتفت إليها. وما زلنا نطوف ونحن نشاهد المصانع والعجائب التي ابتكرتها قرائح الإنسان إلى أن أمسى السماء فنزلنا عن الجبل ونحن سكوت كأن على رؤوسنا الطير إلا أن صاحبي الربان قطع وحشة السكوت بقوله ألا ترى إلى هؤلاء الناس كيف هم في خطر أفلا تظن أن الطبيعة تنقم عليهم في بعض الأيام وتقتص منهم. قلت وهل إلى ذلك من سبيل وهم قد حبسوها كما يحبس الطائر في قفصه وتصرفوا بقوانينها كما شاءوا.

انظر كيف اشتغلوا بتحويل قفارها إلى جنات فأنشأوا بها المزارع الواسعة والحدائق الغناء. لقد عرفوا من أين تأكل الكتف لأن الذي يجول في أكناف بركان فيزوف يعلم أن التربة المحيطة به في غاية الخصب والجودة وها هم قد زرعوا الزيتون والفاكهة والحبوب المختلفة وليس ذلك فقط بل حفظوا مزروعاتهم من برودة الجو وحرارته فهم إذا اشتدت حرارة الغيظ أرسلوا من الهواء الخزون نسيماً بارداً ينعش الزروع. وإذا برد الهواء أطلقوا الأنابيب الساخنة فوزعت الحرارة في سائر أرباضها وإذا نزل المطر لم يخشوا منه على إتلافها بل حولوه إلى منافع وجعلو هذه الجزيرة بمنزلة الفردوس فياله من ذكاء مفرط وحذق عظيم وقد غاب عني أن أذكر لك مافعله أحد أطباء الألمان ممن استوطن هذه الجزيرة. فإنه حلل نور الشمس بالموشور فرأى خلف الشعاع البنفسجي طيفاً أسمر عرفت خصائصه الكيماوية من عهد بعيد ولكن له شعاعاً آخر ذا خصائص عجيبة من شأنها أن تزيد القوات الحيوية. وقد خطر لهذا العالم أن يصنع قرصاً محدباً فوق قمة الجبل شفافاً كالبلور يدور على محور كالساعة ليسير مع الشمس إني اتجهت وحصر شعاعه في نقطة المحترق بكيفية قوية وزعها على بستانه فعكست سائر ألوان قوس قزح عليه وكانت أشعتها كصفائح الحرير أخذ ضياؤها الأبصار. ومما زاد النظر بهجة هو أن توزيع هذه الأشعبة كان على نسب جميلة لأن النباتات نمت بواسطتها نمواً عظيماً لا يمكن لحالة جوية أن تفعل مثل هذا الفعل في أية بلاد كانت فعظم البرتقال وبلغ محيط جذع الشجرة منه عشرين قدماً وصارت البرتقالة الواحدة كالبطيخة وبلغ العنب مبلغاً من النمو لا يصدق فالعنبة الواحدة تشبه البرتقالة حجماً وسرى هذا الأسلوب في كل مزارع الجزيرة حتى أصبحت منقطعة النظير. ولكن لما كان دوام الحال من المحال أصبحت ذات يوم وأنا أستنشق الهواء العليل وإذا الجبل يدخن والنار تضطرم في جوانبه والناس يروحون ويجئون كالمجانين وقد انقلبت سخناتهم واربدت وجوهم ثم أخذوا يصرخون الانفجار الانفجار! وتلا ذلك صوت دوت له جوانب الجبل فخرجت الحمم والمواد المصهورة واقتلعت المعامل وقذفت الأنابيت والمكابس وطارت شظايا الحديد إلى كل ناحية لأن البركان استعاد قوته وهجم على الأحياء

الذين حوله فذهب بكل حي وجماد وزاد المصاب هولاً تفرقع الغازات المخزونة وانصب ذلك كله في البحر فأرغى وأزبد ثم هاجت الأمواج وقام فيها إعصار عظيم فخارت قواي ولم أشعر إلا وأنا في قلب البحر فرفعت عيني لأرى ما حولي وإذا الجزيرة خسفت خسفاً وغاص من كان فيها وما عليها في لجة اليم وفيما أنا أنازع البقاء إذا بسفينة إنكليزية ذاهبة إلى هونغ كنغ بصرت بي فانتشلني من اليم وكنت أنا اللقاطة الحقيرة التي نجت من ذلك المصاب الهائل لأروي خبر هذه الغرائب التي عفت آثارها ولم تبق إلا أخبارها. الدور الزراعية أو نظام التعاقب الزراعي 2 (4) إن النبات يغتذي من التربة بجذوره من عمق يختلف تبعاً لمقدار طول هذه الجذور فإذا تعاقب زرع نباتين متماثلي الجذور فالنبات اللاحق لاتجد جذوره في التربة مقداراً وافياً من الغذاء الفعال لجودة نموه لأن النبات السابق يكون قد استفرغ معظمه منها وإذاً فلا يزرع مثلاً قطن بعد قصب ولا قصب بعد قطن لأن كليهما جذوره طويلة متعمقة ولا كتان بعد ذرة لأن كليهما جذوره سطحية فإذا زرع واحد منها عقب الآخر أجهد الأرض ولم يجد محصوله الجودة التي تكون له لو زرع عقب نبات جذوره مغايرة لجزوره حتى أن القمح لايجود عقب الذرة جودته عقب القطن مع أن القطن ينهك الأرض أكثر من الذرة الذي تكون الأرض معه عادة مسمدة له بكمية وفيرة من السماد الذي لم يتحلل كله لتغذية الذرة بل يبقى معظمه لفائدة الزروعات التالية له أما جودة الذرة النيلى بعد القمح - مع أن الأول منهما جذوره سطحية والثاني جذوره غير متعمقة فيغتذيان غالباً من طبقة متقاربة محدودة - فتعزى لأحوال أخرى ليست لزارعة القمح بعد الذرة. منها أن القشرة السطحية عقب القمح تكون أقل اجهاداً منها عقب الذرة ومنها أن أرض القمح تبقى جافة مدة وتستريح عقبه زمناً فتستجم بذلك خصبها أما في حالة زراعة القمح بعد الذرة فإن الأرض تستمر رطوبتها وإشغالها بالنبات لأن زراعة القمح تتلو إخلاء الأرض من الذرة مباشرة.

ومنها أن الأرض تسمد بمقادير كبيرة للذرة لأن نباته لا يجود إلا بذلك فقد استقر عند الفلاح أعداد أكبر كمية من السماد له وليس كذلك الحال لزراعة القمح خصوصاً أن جذوره وهو نبت صغير لا تكون قد تعمقت فلا تجد في الطبقة السطحية التي استفرغتها الذرة من الخصب ما يكفي لتعاني نموها. (5) إن بعض النبات يخصب الأرض ويحسنها كنبات الفصيلة البقلية التي منها البرسيم والفول والحلبة والعدس والترمس والجلبان والبسلة لأنها تستفيد بجذورها كثيراً من الآزوت الجوي الذي يعتبر لقلته في الأرض أهم عناصر خصبها للمزروعات وهذا الكثير الذي تستفيده من الآزوت الجوي يزيد عن حاجة نموها فيتراكم خصوصاً في جذورها التي تبقى في الآرض عقب إخلائها من تلك الزروعات التي تسمى مولدة للآزوت وتعرف الأرض عقبها في العرف الزراعي بالأرض الباق. والبعض الآخر من النبات وهو الأكثر كالقطن والقمح والذرة والقصب والنيلة والكتان يستفرغ الآزوت من الآرض وتسمى بالنباتات المستهلكة للآزوت وتعرف الأرض عقبها في العرف بالأرض البرايب أو الشماهة أو الحصيد تبعاً لاختلاف العرف في الجهات. فالأحوال تقتضي أن لا تتعاقب زراعة الأرض بأصناف النبات المستهلك للأزوت بل يراعي التناوب بينها وبين زراعة النباتات المولدة للآزوت حتى إذا أجهد الأرض محصول عوضها محصول آخر. ولولا هذه النباتات المولدة للآزوت لعز الأمل في حفظ خصوبة الأرض طويلاً لأن السماد لا يمكن أن يفي بتعويض الأرض ما يستفرغه سائر النبات من خصبها حتى أرض حياض الصعيد التي تستفيد سنوياً من طمى النيل ولا تزرع إلا مرة واحدة في العام لا يجود إنباتها إلا إذا روعيت تلك القاعدة في تعاقبها الزراعي فإذا زرعت في سنة أصناف شماهة زرعت في السنة التالية أصناف باق وإلا فإن محصولها وخصبها ينحطان عن معتادهما. وإذا نقصت كمية السماد في أي أرض عن حاجتها فليس لدى الزارع وسيلة أنفع وأقرب من الالتجاء إلى زرع تلك النباتات لتخصيب الأرض لأصناف النباتات الأخرى. والأرض التي تقل فيها المادة العضوية كالأرض الضعيفة والمستجدة وعلامتها إن لا تظهر فيها فائدة التسميد بالسماد البلدي عاجلاً وتسمى بالأرض الجيعانة وليس أنفع لخصبها من

زراعة هذه النباتات البقولية. فهذه النباتات بما تفيده للأرض تعتبر ملجا طبيعياً، وينبوعاً عظيماً لإخصابها الذي هو رأس مال الفلاح وأعز ذخيرة عنده. (6) إن الحشرات والفطريات تتكاثر وتنتشر بعض أنواعها مع بعض من النباتات دون البعض الآخر فتفتك بها فتكاً ذريعاً كديدان القطن والبرسم والذرة وسوس القصب والحبوب وغيرها فإذا توالى أو كثرت زراعة هذه الأصناف وجدت تلك الآفات البيئة المناسبة لتناسلها وتكاثرها وانتشاهر فيستشرى الضرر منها حتى يصعب تلافيه كما هو حاصل الآن في زراعة القطن فإذا نوعت زراعة الأرض بأصناف النباتات الأخرى لا تجد تلك الآفات الغذاء الموافق لمعيشتها فتضعف وأخيراً تموت. ويقال مثل ذلك في الحشائش الضارة التي توجد أصناف منها بكثرة مع بعض مزروعات مخصوصة كالحامول مع البرسيم والهالوك مع الفول والدنيبة مع الأرز فإذا نوعت زراعة الأرض الملونة من بذور هذه الأعشاب المؤذية بأصناف النباتات الأخرى التي لا توافقها فقدت تلك الأعشاب البيئة الملائمة لها فتقل إلى أن تتلاشى في النهاية. عرف الفلاح أن زراعة الفول مثلاً في الأرض التي كثير الهالوك بها زراعة خاسرة فنوعها بزراعة نباتات أخرى لانوافقه فيختفي إلى أن يضمحل بتاتاً فيمكن العود إلى زراعتها فولاً بنجاح. ولما يعرف أن زراعة القطن مع فتك الديدان بها هي زراعة متعبة وخاسرة فلو قال الإكثار من زراعته واعتنى بخدمته وإبادة ديدانه أمكنه الحصول من القدر الذي صارت زراعته إليه على محصول أكثر وأحسن وأربح واسهل مما يتحصل له من القدر الكثير الذي كان يزرعه بدون أن يمكنه حمايته من آفاته. وينتفع بزراعة الأرض التي وفرها بأنواع النباتات الأخرى التي اشتدت الحاجة إليها كنبات الغذاء للإنسان والعلف للحيوان. (7) إن بعض المزروعات تستدعي كثرة العمل والمصروف والعناية في خدمتها مدة طويلة كالقطن والقصب والأرز وبعضها يكفيه بعض ذلك كالقمح والشعير والفول والبرسيم فإذا كثرت زراعة النباتات الأولى أجهد الفلاح وقصرت وسائله عن آداء الواجبات الزراعية

باقتدار وإتقان وحينئذ يكون الضرر عظيماً على محصولاتها كما يحصل للقطن. فمثلاً عند ما يصرح بري الشراقى لزراعة الذرة يضطر الفلاح إلى التعجيل بخدمة أرضه وتسميدها للإلحاق على زراعتها زراعة مبكرة لأنها المورد الوحيد لغذائه فلا يمكنه مع ذلك أن يوفي خدمة القطن كما ينبغي لاتساع مساحته وكثرة عمليات خدمته فيكون عن ذلك أسوأ تأثيراً على محصوله بحيث يبلغ ضرره بضعة ملايين من الجنيهات خصوصاً كلما كان التصريح بري الشراقى بكيراً فإنه يصادف موسم خدمة القطن وتكاثر ديدانه به فلملافاة ذلك تجب الموازنة في زراعة الأرض بين النباتات التي تستدعي عنية أكثر والتي تستدعي عناية أقل وبين قدرة الفلاح واستعداده وذلك بتنويع زراعة الأرض بالنباتات المختلفة وعدم الاستكثار من زراعة الأصناف التي تستدعي مجهوداً كبيراً قد لا يمكن للفلاح القيام به وبالتالي تتلف زراعته. (8) إن لطول مكث زراعة بعض النباتات في الأرض تأثيراً أهم في تنويعها فإن القطن وهو محصول صيفي يمكث ثمانية شهور بالأرض ومثله القصب لكنه يمكث أكثر منه لا يكفي غالباً لتنويع الأرض بعده خصوصاً مع حالة الفلاح الحاضرة زراعتها بغيره من الحاصلات الأخرى لمدة سنة واحدة فقط وبالأخص إذا كانت زراعتها بنبات من غير الفصيلة البقلية ولم تسترح الأرض أثناءها مدة كافية لاستجماعها خصبها. وقد لوحظ أن الأرض المتبعة فيها الدورة الثنائية ينظامها الحالي ووسائلها القاصرة قد أجهدت تربتها وانحطت محاصيلها. وإذا فالواجب أن يراعى مع زراعة الأرض بأنواع النبات ذات التأثير الحسن والنباتات الأقل إجهاداً أن يستمر ذلك مدة تكفي لمنع تأثير النباتات المنهكة للأرض أي الأشد تأثيراً والأكثر إجهاداً لخصوبتها. (9) إن لطرق إفلاح الأرض وخدمتها لأنواع النبات تأثيراً مهماً على تربتها فإذا أكثرنا مثلاً من زرع الأرض بالنباتات الحشيشية والحبوبية بالتوالي كالبرسيم والقمح والفول والشعير ونحوها من الزروعات التي لا تستدعي حرثاً عميقاً ولا عزيقاً نكون قد حرمنا التربة من التأثير الحسن الذي يكون عن إجراآت الخدمة المتقنة المتكررة الزائدة في خصبها وسمكها عمقها والمستأصلة للأعشاب المؤذية منها كما ينبغي لكنها إذا نوعت

بالأصناف الأخرى التي تشتد في الحرث العميق مراراً والعزيق تكراراً والخدمة الجيدة دواماً كالقطن والذرة والبصل وغيرها من المحصولات التي تزرع في خطوط - أمكن مع ذلك تعميق التربة وتنظيفها من بذور الأعشاب المؤذية وتطهيرها من جراثيم الآفات الضارة وتعريضها أكثر للمؤثرات الجوية التي لا بد منها لفائدتها. (10) إن لطريقة الري المتبعة الشأن الأول في الترتيب الزراعي ففي حياض الصعيد حيث لا تروى الأرض إلا في فصل الخريف من ماء النيل مدة فيضانه فقط لا تزرع الأرض إلا أصنافاً شتوية قمح وفول وبرسيم وشعير وحلبة وعدس وترمس وجلبان الخ يبذر بذرها تقاويها عقب تصفية المياه عن تلك الحياض ثم تترك الزراعة إلى أوان الحصاد أو الرعي إذا كانت من نباتات العلف - بدون شيء من الخدمة غالباً ثم بعد إخلاء الأرض منها تترك بائرة إلى الفيضان التالي فتروى وتزرع كالسابق وهكذا أما في أرض الترع حيث توجد مياه الري طول السنة تحت تصرف الزراع ومثلها بعض أرض الحياض القريبة من ساحل النيل أو التي بها آبار ارتوازية تزرع الأرض بأنواع الزروعات الشتوية والصيفية والنيلية. فبوجود المياه دواماً يمكن تنظيم دورة زراعية تامة أي لا تقتصر على فصل دون فصل ولا مزروعات دون مزروعات ويمكن للزارع استغلال الأرض بأقصى ما يتيسر له من الوسائل الأخرى الممكنة. فبعض المزروعات تستدعي رياً منتظماً في فترات متقاربة مقدرة طول مدة وجودها بالأرض كالقطن والقصب والتيل والبرسيم المسفاوى الخ وبعضها يكفي فيه الري مرة واحدة قبل البذار كالقمح والشعير والفول والبرسيم البعلي وغيرها من المزروعات التي في أرض الحياض. فمن هذه الوجهة ذات الشأن الأول تنقسم الدورة الزراعية إلى قسمين أصليين الدورة المتبعة في أرض الري المستديم والدورة المتبعة في أرض الري الموقت ومما يلاحظ هنا أن بعض النباتات يستدعي وفرة المياه لنموها كالنباتات المائية التي أشهرها الأرز والدنيبة فإنها لا تنمو إلا بوجودها في الماء دواماً واذاً فلا تزرع بنجاح إلا حيث تكون المياه وفيرة حتى في فصل التحاريق الذي تقل فيه المياه عادة لذلك يجب أن

يراعى في زراعة مثل هذه النباتات التحقق من وجود المياه بغزارة مدة نموها. (11) إن لبيئة الأرض تأثيراً أولياً في زراعة أنواع المزروعات وتفضيل بعضها على بعض ففي الوجه القبلي لجفاف أرضه وحرارة جوه يجود فيها بعض أنواع من النباتات أكثر مما تجود في غيره كالقصب والفول والعدس فإن في الوجه البحري خصوصاً في شماله حيث الجو أقل جفافاً لا تجود جودتها بالصعيد. كذلك أرض الصعيد لخلوها أو لندرة الأملاح فيها عما هي في أرض الوجه البحري خصوصاً شماليه أيضاً تجود فيها النباتات الحبوبية عنها في غيرها. والوجه البحري خصوصاً الجهات الجنوبية منه لجفافها وانتظام حرارتها ورطوبتها يجود فيها القطن أكثر من الجهات الأخرى. وشمالي الدلتا لرطوبتها وملوحتها تفضل فيها زراعة النباتات المائية كالارز والدنيبة يتلى. أحمد الألفي

أمالي البيان

أمالي البيان أخبار السيدة سكينة (تابع) وكان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة وآلى يميناً أن لا يغني ونسك ولزم المسجد الحرام حتى عوفي ثم خرج فأتى المدينة ونزل على بعض إخوانه من أهل النسك والقراءة فأقام في المدينة حولا ثم أراد الشخوص إلى مكة وبلغ ذلك سكينة فاغتمت لذلك غماً شديداً وضاقت به ذرعاً وكان أشعب يخدمها وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره كما أسلفنا فقالت لأشعب ويلك إن ابن سريج شاخص وقد دخل المدينة منذ حول ولم أسمع من غنائه قليلاً ولا كثيراً ويعز على ذلك فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتاً واحداً فقال لها أشعب جعلت فداك وأني لك بذلك والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه فارفعي طمعك وامسحي بوزك تنفعك حلاوة فمك فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه وخنقته حتى كادت نفسه أن تتلف ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجاً عنيفاً فخرج على أسوء الحالات واغتم أشعب لذلك غماً شديداً وندم على ممازحتها في وقت لا ينبغي له ذلك فأتي منزل ابن سريج ليلاً فطرقه فقيل من هذا فقال أشعب ففتحوا له فرئ على وجهه وليحته التراب والدم سائلاً من أنفه وجبهته على لحيته وثيابه ممزقة وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق ومات الدم فيها فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه فقال له ماهذا ويحك فقص القصة عليه فقال ابن سريج إنا لله وإن إليه راجعون ماذا نزل بك والحمد لله الذي سلم نفسك لا تعودن إلى هذه أبداً قال أشعب فديتك هي مولاتي ولا بد لي منها ولكن هل لك حيلة في أن تسير إليها وتغنيها فيكون ذلك سبباً لرضاها عني قال ابن سريج كلا والله لا يكون ذلك أبداً بعد أن تركته قال أشعب قد قطعت أملي ورفعت رزقي وتركتني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد وهي ساخطة علي فالله الله في وأنا أنشدك الله ألا تحملت هذا الإثم فيّ فأبى عليه فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع قال في نفسه لا حيلة لي وهذا خارج وإن خرج هلكت فصرخ صرخة فتحت آذان أهل المدينة ونبه الجيران من رقادهم وأقام الناس من فرشهم ثم سكت فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن راعهم فقال ابن سريج ويلك ما هذا قال لئن لم تسر

معي إليها لأصرخن صرخة أخرى لا يبق أحد بالمدينة إلا صار بالباب ثم لأفتحنه ولأرينهم ما بي ولأعلمنهم أنك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان يعني غلاماً كان ابن سريج مشهوراً به فمنعتك وخلصت الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى ففعلت بي هذا غيظاً وتأسفاً وإنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه فقال ابن سريج أعزب أخزاك الله قال أشعب والله الذي لا إله إلا هو وإلا فما أملك صدقة وامرأتي طالق ثلاثاً وهو يخير في مقام إبراهيم والكعبة وبيت النار والقبر قبر أبي رغال إن أنت لم تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلن ما قلت لك فلما رأى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه ويحك أما ترى ما وقعنا فيه وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكاً فقال لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث وتذمم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب اخرج من منزل الرجل فقال رجلي على رجلك فخرجا فلما صارا في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب امض عني قال والله لئن لم تفعل ماقلت لأصيحن الساعة حتى يجتمع الناس ولأقولن أنك أخذت مني سواراً من ذهب لسكينة على أن تجيئها لتغنيها سراً وأنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه فقال امض لا بارك الله فيك فمضى معه فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل من هذا فقال أشعب قد جاء بابن سريج ففتح الباب لهما ودخلا إلى حجرة خارجة عن دار سكينة فجلسا ساعة ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة فقالت يا عبيد ما هذا الجفاء قال قد علمت بأبي أنت ما كان مني قالت أجل فتحدثا ساعة وقص عليها ما صنع به أشعب فضحكت وقالت لقد أذهب ما كان في قلبي عليه وأمرت لأشعب بعشرين ديناراً وكسوة ثم قال لها ابن سريج أتأذنين بأبي أنت قالت وأين قال إلى المنزل قالت برئت من جدي إن برحت من داري ثلاثاً وبرئت من جدي إن أنت لم تغن إن خرجت من داري شهراً وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهراً إن لم أضربك لك يوم تقيم فيه عشراً وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو شفعت فيك أحداً فقال عبيد واسخنة عيناه اذهاب ديناه وافضيحتاه ثم اندفع يغني: أستعين الذي بكفيه نفعي ... ورجائي على التي قتلتني ولقد كنت قد عرفت وأبصر ... ت أموراً لو أنها نفعتني

قلت أني أهوى شفا ما ألاقي ... في خطوب تتابعت فدحتني فقالت سكينة فهل عندك يا عبيد من صبر ثم أخرجت دملجاً من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالاً فرمت به إليه ثم قالت أقسمت عليك إلا ما أدخلته في يدك ففعل ذلك. ثم قالت لأشعب أذهب إلى عزة الملاء فاقرئها مني السلام وأعلمها فأسرعت المجيء فتحدثوا باقي ليلتهم ثم أمرت عبيداً وأشعب فخرجا فناما في حجرة مواليها فلما أصبحت هيء لهم غداؤهم وأذنت لابن سريج فدخل فتغدى قريباً. منها مع أشعب ومواليها وقعدت هي مع عزة وخاصة جواريها فلما فرغوا من الغداء قالت ياعز إن رأيت أن تغنينا فافعلي فقالت أي وعيشك فتغنت لحنها في شعر عنترة العبسي: حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليل مظلم فقال ابن سريج أحسنت والله ياعزة وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمته لها وقالت صيري هذا في يدك ففعلت ثم قالت لعبيد هات غننا فقال حسبك ما سمعت البارحة فقالت لا بد أن تغنينا في كل يوم لحنا فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع مما تسأله غني: قالت من أنت علي ذكر فقلت لها ... أنا الذي ساقه للحين مقدار قد حان منك فلا تبعد بك الدار ... بين وفي البين للمبتول أضرار ثم قالت لعزة في اليوم الثاني غني فغنت لحنها في شعر الحرث بن خالد: وقرت بها عيني وقد كنت قبلها ... كثير البكاء مشفقاً من صدودها وبشرة خود مثل تمثال بيعة ... تظل النصارى حوله يوم عيدها قال ابن سريج والل ما سمعت مثل هذا قط حسناً ولا طيباً ثم قالت لابن سريج هات فاندفع يغني: أرقت فلم أنم طرباً ... وبت مسهداً نصباً لطيف أحب خلق الله ... إنسانا وإن غضبا فلم أردد مقالتها ... ولم أك عاتباً عتباً ولكن صرمت حبلي ... فأمسى الجهل منقضباً

فقالت سكينة قد علمت ما أردت بهذا وقد شفعناك ولم نردك وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام فاذهب في حفظ الله وكلاءته ثم قالت لعزة إذا شئت أقمت أو انصرفت ودعت لها بحلة ولابن سريج بمثلها وانصرفت وأقام عبيد حتى انقضت ليلته وانصرف فمضى من وجهه إلى مكة راجعاً. وهذا ابن سريج هو (متلو)

النقد والتقريظ

النقد والتقريظ تاريخ آداب العرب أطرفنا صديقنا نابغة الفنين من البيان والأدب، وذو الرئاستين على النظم والنثر من لغة العرب أبو السامي مصطفى صادق الرافعي بنسخة من المجلد الأول من هذا التاريخ النفيس الذي طال تشوق الأدباء إليه وارتقابهم مطلعه منذ سنيات حتى جعلوا ينتقمون من إبطاء الأمل بتعجيل اليأس فيرون أن الكتاب لا يصدر ثم يذكرون عزيمة صاحبه وكفايته فيعودون إلى التأميل ويعتصمون بالصبر الجميل ويتركون الثمرة لغصنها إذ كان لا بد له في إنضاجها من وقت موقوت. واليوم قد صدر المجلد الأول في قريب من 450 صفحة من الغرار الكامل وهو يحتوي الكلام في تأريخ اللغة وتأريخ روايتها وما يداخل هذين البابين. وقد بقي من التاريخ عشرة أبواب تقع في أربعة أجزاء من غرار هذا الجزء وحجمه - هكذا كتب الرافعي على غلاف الجزء الأول وإن حقاً على (البيان) - وهو الذي أرصدناه للآداب العربية - أن يفيض في القول على هذا الكتاب بما يوفيه بعض حقه فأنا أعلم الناس بما عاناه صاحبه من اقتحام هذه الخطة المنكرة المتوعرة ومطاولة التعب فيها حتى يضارع تقدير الذين أملوه من الأدباء وثقة الذين استكفوه من الفضلاء. لما فتحت الجامعة المصرية أسقطت الآداب العربية من دروسها دون آداب اللغات الأخرى ومرت على ذلك زمناً حتى اشتهرها الرافعي وتبهها إلى هذا الواجب الذي ينبغي أن تجعل ما سواه نافلة بالنسبة إليه فنشرت الجامعة على الأدباء اقتراحاً تسألهم فيه أن يضعوا لها كتاباً وافياً في تاريخ آداب اللغة العربية على أن تكون مدة التأليف سبعة أشهر فقرأنا يومئذ في الجريدة الغراء مقالة للرافعي ليس أبلغ منها في باب التهكم والتقريع أوليس هذا الاقتراح نفسه مادة نادرة من مواد الهزل الذين يراد به الجد والا فأي أديب أو شبه أديب يطمع أن يؤلف ذلك الكتاب الوافي في سبعة أشهر وهو لو وجده في مكتبة الجامعة. .! مثلاً وأراد أن ينسخه ويدعيه لما كفته هذه الأشهر التي هي بطبيعتها مدة الحمل الناقص. فتداول مجلس ادارة الجامعة الأمر لأطال مدة التأليف إلى سنتين وقد خلت وإن الثالثة لتوشك أن تنقضي ومع هذا لم يقدم للجامعة كتاب ولا شبه كتاب. وكانت تعلم حق العلم أن

الرافعي يعمل في هذا التاريخ فلا ندري كيف تفهم اليوم هذا المعنى البليغ الصامت وهو طي الكتاب دونها ونشره للناس. ونحن فقد قرأنا كتباً مختلفة سماها أصحابها تاريخ أدبيات اللغة العربية فلم نر إلا مايصح أن يسمى دروساً ابتدائية. أما للعلم الذي لايكون إلا بعد النظر والنظر الذي لا يكون إلا بعد البحث والبحث الذي لا يكون إلا مع الروية وبسطة الذرع فلم نر منه وفي الحقيقة أن الذي يطمح لأن يضع كتاباً في تاريخ الآداب العربية إنما يضطلع بعمل كان ينبغي أن يتوزعه كثير من العلماء والرواة المتقدمين في عصور مختلفة ولكنهم أهملوه فلم يبق إلا أن يقوم وحده مقامهم جميعاً وفي هذا من العنت والبلاء مالا يمكن لقلم أن يصوره ويصفه بأبلغ مما جاء به الرافعي في مقدمة كتابه المنشورة في غير هذا الموضع وإن العثور على مواد هذا التاريخ لايسر التعب فيه وإن كنت لاتجدها إلا متبددة ولا تجد المتبدد منها إلا ناقصاً ولا تجد الناقص إلا بعيداً كل البعد عن صورة التاريخ فأهون العمل في التأليف أن تقرأ عشرات المجلدات صابراً محتسباً فإن عثرت علي أشياء وأردت أن تستنبط منها التاريخ وتربط أجزاءه وتتم نقصه بالاستنتاج والتنظير فهناك العقبة الكؤد التي لا يصعد فيها إلا النسر. وعلى هذا ترى أنه لايمكن أن يجيء التاريخ من مؤرخ أو لغوي أو شاعر أو كاتب أو خطيب بل من مجموع هذه كلها حتى تكون شخصية المؤلف واضحة في كل باب فيكتب في التاريخ مؤرخاً وفي اللغة لغوياً وفي الشعر شاعراً وفي النثر كاتباً وفي الخطابة خطيباً ثم لا يفوته أن يكون جريئاً في الحق نقاباً عليه فإن التقديس الكاذب الذي أضعف جرأة العلماء المتقدمين من أهل الأدب هو الذي ضيع مواد هذا التاريخ وطمس على كثير من أصوله كما ترى شرح ذلك في مواضع متعددة من الكتاب الذي بين أيدينا. ولسنا نعلم أحداً في أدباء العصر يتقدم في تلك الأبواب كلها غير صاحب هذا الكتاب. لذلك ترى النقص ظاهراً كل الظهور في كل الكتب التي وضعها فضلاء المستشرقين كما تراه في هذه الكتب والدروس التي ابتلى بها طلبة المدارس في مصر أعلاها وأدناها من كل كتاب مكتئب وأسلوب مسلوب وتحقيق غير حقيق. هذا في رأينا أكبر أسباب النقص أما أصل الخطأ الذي وقع فيه كل المؤلفين في تاريخ الآداب العربية فقد وصفه الرافعي في كلمته التي عقب بها على المقدمة وهو يرى أن ذلك

إنما يجيء من تقسيم التاريخ إلى عصور متباينة اتباعاً ومساوقة لكتاب الأوربيين في وضع آدابهم مع أن بين الصنفين فروقاً طبيعية واضحة. قال الرافعي بعد أن بسط هذا المعنى بسطاً شافياً: إذا تدبرت هذا وأنعمت على تأمله علمت السبب في حشو مانراه من كتب الأدبيات التي ترتب على العصور بالطم والرم من تاريخ العلوم الدينية والدنيوية وبالتراجم الكثيرة التي تخرج بشطر الكتاب إلى أن يكون سجل وفيات ثم بتعداد الكتب والمؤلفات التي تلحق شطره الآخر بكتب الفهرست. ومؤلفوا هذه الكتب لا يدرون أنهم مرغمون على ذلك بحكم هذه الطريقة العقيمة التي تتبنى ولا تلد إذ ليس في تفتيش هذه القبور عن بقايا الحياة إلا العظام ومن يرجع إلى ورائه لا يقطع شيئاً إلا الأمام. ثم هم يجهلون أن لتاريخ كل أمة تباين غيرها مباينة طبيعية مزاجاً معنوياً تتعلق به حوادثها كما تتعلق أخلاق الفرد بنوع مزاجه الفطري ومن أين يكون للعصبي في أبواب التحمل والأناة والسعة والخفض ما يكون لذي المزاج الليمفاوي مثلاً. فأيما أمرؤ أجرى على الاثنين حكماً واحداً ظلمهما كليهما وكذلك الأمر في أمزجة التاريخ. وأنت خبير بأن الرجال في تاريخ الآداب الأوروبية هم قطعه التي يتألف منها لأنهم متصرفون في اللغة كأنها إنما توضع لعهدهم أوضاعاً جديدة فكل رجل منهم في طريقته ومذهبه فن علم أو هو على الحقيقة قطعة متميزة في تركيب التاريخ العقلي. ولكن الرجال عندنا في قياسهم بأولئك ينزلون منزلة التشبيهات من المعاني الأصلية إلا ماندر ولا حكم للنادر وذلك لأن في لغتنا معنى دينياً هو سرها وحقيقتها فلا نجد من رجل روى أو صنف أو أملي في فن من فنون الآداب أول عهدهم بذلك إلا خدمة للقرآن الكريم ثم استقلت الفنون بعد ذلك وبقى أثر هذا المعنى في فواتح الكتب والقرآن نفسه حادثة أدبية من المعجزات الحقيقية التي لا شبهة فيها وإن لم يفهم سر ذلك من لا يفهمونه أفيصلح بعد هذا أن يكون تاريخ الأدب العربي مبنياً على غير حوادثه التي كونته وتعلق بأكثرها رجاله دون أن تتعلق بهم كما هو الشأن في سواه انتهى كلام الرافعي. وهذه هي الحقيقة بعينها فإن تطور التاريخ الأدبي لا يكون من تطور الدول واختلافها كما يقال الدولة الأموية والعباسية مثلاً وإنما يكون من تطور الشعوب والجماعات في أخلاقها وعاداتها وهو انقلاب لا يكون من تأثير الدولة وحدها ولكن من تأثير العلماء والأدباء

وهؤلاء لا يتعلقون بالعصور السياسية إلا من أضعف الجهات الأدبية كما هو واضح في التاريخ العربي على الخصوص. قال الرافعي ولذلك رأينا الطريقة المثلى أن نذهب في تأليفنا مذهب الضم لا التفريق وأن نجعل الكتاب على الأبحاث التي هي معاني الحوادث لا على العصور فنخصص الآداب بالتاريخ لا التاريخ بالآداب كما يفعلونه وبذلك يأخذ كل بحث من مبتدئه إلى منتهاه متقلباً على كل عصوره سواء اتسقت أم افترقت فلا تسقط مادة من موضعها ولا تقتسر على غير حقيقتها ولا تلجأ إلى غير مكانها ثم لا يكون بعد ذلك في التاريخ إلا التاريخ نفسه لا ما يزين به من العبارة المونقة ولا ماتوصل به الحقائق القليلة من تصورات الخيال وشعر التأليف إلى أمثال ذلك من مواضع الاستكراه وضيق المضطرب وأمثلته فيما بين أيدينا ماثلة لا تحتاج إلى انتزاع وهي على نفسها شاهدة فلم يبق في أمرها نزاع. وقد جعل أبواب كتابه اثني عشر باباً ضمن الجزء الأول منها بابين اثنين وهما باب اللغة وباب الرواية والرواة وقدم بين يدي ذلك فصلين في تاريخ كلمة الأدب وفي أصل العرب. وأكثر ما تراه من الفصول في باب اللغة مبتكر لم يسبق إليه وخصوصاً آراءه الاجتماعية التي طبق عليها تاريخ اللغة اما باب الرواية فهو بجملته ابتكار محض لم يسبقه إليه متقدم ولا متأخر. ولا نعلم أحداً اجترأ عليه مع أن التاريخ لا يتحقق إلا به لمجيء كل الآداب العربية من طريق الرواية وقد وضع هذا الباب في نحن 160 صفحة تحتوي على فرائد اثيرة وفوائد كثيرة مما يعز العثور عليه ويندر التوفق إليه. وبالجملة فأنت تقرأ هذا الجزء من أوله إلى آخره فتستمرئ أسلوبه الفصيح البارع الذي يكفي في وصفه أن يقال أنه من قلم الرافعي وتستغزر مواده النادرة غير أنك لا ترى في وضع مثله صعوبة إذ تجد نهج التاريخ. واضحاً ونسقه مطرداً واذ لا تجد حشوا ولا تكلفا ولا تعسفا ولا اضطرابا ولا نحو ذلك مما يدل على الحيرة وتقطع المادة ونضوب البيان وهي أخص عيوب الكتب التي وضعت في تاريخ الآداب ولكنك لو تماديت في ظنك وأردت أن تتحقق سهولة العمل من صعوبة وحملت نفسك على معارضة فصل واحد مما في الكتاب لأنفقت زمناً طويلاً ثم لا ترى إلا أنك أصبحت تقلب كفيك على ما أنفقت لأنك

تجد الفصل الواحد في حكم الكتاب كله لا يتأتى لك إلا بعد الاستقراء والتتبع وتصفح الأسفار الكثيرة وإنضاء الخاطر والإنفاق من سواد القلب قبل الإنفاق من سواد المداد وليس ذلك فقط بل لا بد من اشتمالك على روح خاص يكون مفطوراً من الذكاء على قوة آلهية تتسلط على أرواح التاريخ وبعبارة أجلى بياناً لا بد من أن تكون نابغة نبوغاً غير مكيف ولا محدودا بصفات معينة بل هو في كل وقت يلبس مظهراً جديداً. ولا ننكر أن الرافعي لم يخلق مواد كتابه ولا هي كانت خالصة له من دون الناس بل هي لا تزال مبتذلة في كل مكتبة ولكن أديب ولكن من غيره وفق لاستخراج هذه المواد وتنظيمها واستنباط التاريخ منها على هذا النهج الواضح حتى كأنه كذلك في أصل الوضع لقد ظهرت في الشرق مجلات وكتب أدبية كثيرة وتفرغ أناس من اهل الذكاء والاطلاع لخدمة الأدب وقضوا في ذلك مدة العمر الأطول فما الذي كان يصرفهم عن هذا العمل وما الذي كان يمنع مثل الأستاذ اليازجي أن يجعل هذا التاريخ من فصول مجلاته التي قام على إنشائها وأرصدها للآداب وقد أغنت في اللغة والإنشاء غناء كبيراً ولم تغن في تاريخ الأدب إلا شيئاً يسيراً؟ هذا على أن صاحب (تاريخ آداب العرب) تبه في عدة مواضع من كتابه إلى أنه يتفادى من التطويل والبسط والاتساع في الأمثلة ويضرب صفحاً عن كثير مما كان قد أعده للنشر في فصول هذا الجزء. فواها للشرق وأهله يضطلع النابغة بالعمل الشاق ويفترع الخطة العذراء وينزع كل منزع في طلب الكمال ثم لا يرى من يشد أزره أو يعينه في اظها عمله وتتركه الأمة فرداً يكتب ويطبع وينشر فيضطر إلى الاقتصار على مالا بد منه وينقص برغم نقص القادرين على التمام كأن الأديب ليس لقباً تاريخياً لأمة عليها أن تزيد في حاضرة ليزيد في مستقبلها لأنه قطعة من هذا المستقبل فهي إن شاءت جعلتها قطعة رثة بالية تظهر مظهر الرقعة في اسمال المحتاج وإن شاءت جعلتها قشيبة سابغة تنزل منها منزلة الطراز على الديباج. ينبغي أن نتحول كما تحولت الأمم وأن نجانس هذه الأمم الراقية فنكون معها على السواء لا أن نطابقها فنكون معها على النقيض وهيهات أن يكون ذلك إلا إذا عمل أدباؤنا وجاءت أعمالهم ناضجة لا فجة تورث الحمى الاجتماعية. .! وإنى لهم ذلك وقد فقدوا المعاونة من

سراة الأمة وحكومتها معاً على أن لنا ناشئة من الأمل الوثيق في هذا النشء الكريم الذي نهضت به الأمة هذه النهضة العالية ولعمري لو أقبل أفراد هذا النشء على كتاب الرافعي وأنفوا لجنسيتهم العربية فعاونوه بالإقبال على إظهار ما بقي من أجزائه لكان لنا بفضلهم موسوعات تامة نباهي بها آداب الأمم ولكان تمام هذا التاريخ تاريخاً جديداً على أنهم حياة هذه النهضة المباركة ولعلهم فاعلون إن شاء الله. عتاب واستصراخ للشاعر العصري الكبير خليل مطران صدقت في عتبكم أو يصدق الشمم ... لا المجد دعوى ولا آياته كلم يا أمتي حسبنا بالله سخرية ... منا ومما تقاضى أهلها الذمم هل مثل ما نبتاكى عندنا حزن ... وهل كما نتشاكى عندنا ألم إن كان من نجدة فينا تفجعنا ... فليكفنا ذلنا وليشفنا السقم تمتعوا وتملوا ما يطيب لكم ... ولا ترعكم محاظير ولا حرم أو اعلموا مرة في الدهر صالحة ... علما تؤيده الأفعال والهمم بأي جهل غادونا أمة هملا ... وأي عقل تولت رعينا الأمم لا تنكروا عذلي هذا فمعذرتي ... جرح بقلبي دام ليس يلتئم نحن الذين أبحنا الراصدين لنا ... حمي به كانت العقبان تعتصم هي الحقيقة عن نصح صدعت بها ... وما النصيحة إلا البر والرحم لم أبغ من ذكرها ان تيأسوا جزعاً ... خير من اليأس أن يستقدم العدم اليأس منهكة للقوم موبقة ... في حمأة تتلاشى عندها الشيم ما مطلب الفخر من أيد منعمة ... رطيبة ونفوس ليس تحتدم يأس الجماعات داء إن تملكها ... فهو التحلل يتلوه الردي العمم كالشمس يأكل منها ظل سفعتها ... حتى يبيد شعاع الشمس والضرم لا تقنطوا كره الله الالى قنطوا ... اليوم يعتزم الأبرار فاعتزموا اليوم تنفس بالأوطان قيمتها ... عن كل شيء وتدنو دونها القيم اليوم إن تبخلوا أعماركم سفه ... والجاه فقر ومقصوراتكم رجم

إني لأسمع من حزب الحياة بكم ... نصراً لأمتنا سحقاً لمن ظلموا نعم لتنصر على الباغين أمتنا ... لا بالدعاء ولكن نصرها بكم لتبق يقظى على الأدهار نابهة ... لا إلا من يهفو بها سكرى ولا النعم لتحي وليمت الموت المحيط بها ... من حيث يدفعه أعداؤنا الغشم إن نبغ إعلاءها لاشيء يخفضها ... فهل تموت وفيها هذه النسم لسنا من الجبناء الحاسبين إذا ... نجوا نجاة العبدي إنهم سلموا الشعب يحي بأن يفدى ومطعمه ... مال البنين مزكى والشراب دم مهما منحناه من جاه ومن مهج ... فبيعة البخس بالغالي ولا جرم عودوا إلى سير التاريخ لا تجدوا ... شعبا قضى غير من ضلوا الهدى وعموا أولئكم إنما بادوا بغرتهم ... وإنهم آثروا اللذات وانقسموا لا شعب يقوى على شعب فيهلكه ... فإن تر القوم صرعى فالجناة هم يا أمتي هبة للمجد صادقة ... فالنصر منكم قريب والمنى أمم عاذت بآبائها الماضين دولتنا ... من أن يلم بها في عهدنا يتم فاحموا حماها ولا تهتك ستائرها ... عن منجبات العلى يستحيها العقم واحر قلباه من حرب شهدت بها ... سطو الثعالب لما أقفر الأجم هانت علينا وإن جلت مصيبتها ... لو أن خطاب ذاك الفخر غيرهم أي طيف عثمان لم يبرح بهيبته ... حياً على أنه بالذكر مرتسم أني تخطي حدوداً أنت حارسها ... جفلى الطلايين لم يخشوا ولم يجموا أني وقد علموا من جارهم قدما ... ومن بنيه غزاة الروم ما علموا لورعت يا طيف من غيب مسامعهم ... بزأرة حين جد الجد لانهزموا أو كنت تملك وثباً من نوى لرأوا ... من ذلك الليث ما لا تحمد النعم ظنوا بملكك من طول المدى هرما ... سيعرفون فتي لا يعرف الهزم يحميه عزم إذا اغتروا بهدنته ... فما به وهن لكن بهم وهم خذوا حقيقة ما شبهتموه لكم ... مما تخبره القيعان والقمم هل في جزائركم أم في مدائنكم ... مالم تطأه له من سالف قدم

أبناء عثمان حفاظ وقد عهدوا ... تاريخ عثمان فيه الفتح والعظم هم الحماة لاعلاق الجدد فلن ... يرضوا بأن ينثر العقد الذي نظموا خلتم طرابلس الغنم المباح لكم ... وشر ما قتل الخداع ماغنموا هناك يلقي سراياكم وإن ثقلت ... احلاس حرب خفاف في الوغاي هضم يغشون بكر الروابي وهي ناهدة ... فتكتسيهم على عرى وتحتشم وربما طرقوا الطود الوقور ضحى ... فهو الخليع يصابيهم ويغتلم ورب واد تواروا فيه ليلتهم ... فحاطهم بجناحيه وقد جثموا عطف العقاب على أفراخه فإذا ... تواثبوا قلقت من روعها الأكم أتنظرون بني الطليان معجزهم ... وتذكرون الذي أنساكم القدم هل في الجيوش كما فيهم مباسطة ... مع المكاره أما لزت الأزم جند من الجن مهما أجهدوا نشطوا ... كأنما الضيم بالأعداء دونهم مهما تشنعت الحرب الضروس لهم ... أعارها ملمحاً للحسن حسنهم متى صلوها وفي الجنات موعدهم ... فالهول عرس ومن زيناته الخذم والأرض راقصة والريح عازفة ... والجد يمزح والأخطار تبتسم مغلبين ولا دعوى ولا صلف ... معذبين ولا شكوى ولا سأم وقد يكونون في بؤس وفي عطش ... فما يقي الغرماء الري والبشم الجوع قبح من كفر وإن ولدت ... منه أعاجيبها الغارات والقحم هو القوي الذي لا يظفرون به ... وهو الخفي الذي يفنى ويهتضم لا تتركوه يراديهم وقد قعدت ... بلا قتال تلاشي بأسها البهم يارب عفوك حتى الماء يعوزهم ... فمر تجدهم بنقع الغلة الديم لا خطب أبشع من خطب الأوار وقد ... باتت حشاشاتهم كالنار تضطرم لكن أراهم وفي أروحهم علل ... مما تواعدها الثارات والنقم كونوا ملائك لا جوع ولا ظمأ ... وليغلبن نظام الخلق صبركم ألستم الغالبين الدهر تدهمكم ... منه الصروف فتعي ثم تنصرم أليس منكم أوان الكركل فتى ... يصول ماشاء في الدنيا ويحتكم

صعب المراس على الآفات يتعبها ... جلد تحاذفه الأنوار والظلم وكل ذي مرة يمضي برايته ... إلى الجهاد كما اعتادت ويغتنم يقول للعلم الخفاق في يده ... فيئ من الأرض ما تختار يا علم وكل آب بقاء أن أباه له ... عز لدولته أو مطمع سنم يهوى وفي قلبه رؤيا تصاحبه ... من آية الفتح حيث العمر يختتم الموت مالم يكن عقبي مجاهدة ... نوم تبالد حتى ما به حلم بعض الثرى فيه آمال يحس لها ... ركز ونبض وفي بعض البرى رمم أولئكم منصفونا يوم كربتنا ... من الأولى غاصبونا الحق واختصموا أرعد حديدا أبرق في كتائبنا ... أغلظ ورق كما يبغيك بطشهم ابصق دخاناً بوجه المعتدي ولظى ... إذا التفت تحاذيه وفيك فم أو التمع في نصال لا عداد لها ... خطافة تتغنى وهي تقتسم فحيثما اعوزتنا منك ذات لهى ... تسيل منها الحتوف الحمر والحمم فليخطب السيف فصلاً في مفارقهم ... يدن لذاك البيان القاطع العجم أولاً فكن هنة في كف مقتحم ... منا ويصلم أذن المدفع الجلم ليبرز العلم من تلك الصفوف لنا ... علام يمكث فيها وهو ملتثم إنا عرفناك أنت اليوم قائدهم ... وكل آياتك الكبرى لهم خدم هل جئت تبترنا أم جئت تزجرنا ... من حيث توقظنا الأوجاع والغمم تالله لو طار فوق النسر طائرهم ... وذللت لهم الأبحار فلكهم وسخرت كل آيات الفناء لهم ... حتى الجوارف والأرياح والرجم لن يملكوا نفس حر في طرابلس ... ولن يضيعو اسوي الأشلاء إن حكموا ولن يكون لهم من كسب غزوتهم ... إلا الشقاء وعار خالد يصم قل لامرئ لم ترقه مصر دائلة ... عدلاً لدولتها منهم بما اجترموا أتحرم الرفد جيراناً يضورهم ... جوع وتنكر قتلى الحرب إن رحموا أم تدعي أن مصراً أن تبر بهم ... تشبب بها فتن جوفاء تلتهم إذا أبو الهول أبدى مصر مرعبة ... فما يخبر عن طاعاتها الهرم

كيد يروع لولا أن كائده ... أوطانه الأوهام والسدم بزعمه يقتل الأيام فلسفة ... وربما قتلته هذه الحكم الحمد لله لا تفني كتائبنا ... بقول قال ولا الأسطول ينحطم يا أيها الوطن الداعي لنجدته ... لبتك مصر ولبى القدس والحرم ما كان خطب ليدهانا ويبكينا ... كما دهانا وأبكى خطبك العرم لقد شعرنا بما نالت جهالتنا ... منا وبالغ في تأديبنا الندم أشر بما شئت تكفيراً لزلتنا ... يشفع لنا عندك الإخلاص والكرم أموالنا لك وقف والنفوس فدى ... وعش ولا عاش في نعماك متهم النقد للكاتب النقادة الشيخ طه حسين حقيقته. أثره في الأمم. شروطه ومضار الغلو فيه ميز الخبيث من الطيب والغث من السمين واستخلاص الحق من الباطل والصواب من الخطأ وفك العقول من أسار التقليد وعقال الجمود وإعانة الطبيعة على إحياء النافع وتخليد المفيد كل هذا هو النقد الذي نرغب فيه وندعو إليه ونود لو اشتدت عناية الناس به وكثر اقبالهم عليه لأنه أقوم سبيل إلى نمو العقل المصري وبلوغه أقصى منزلة تسمو إليها الأمم الناهضة من الرقي الصحيح. ذلك بأن أرقى ما يفزع إليه المصلحون في التربية العقلية للأفراد والجماعات أن يمدوا ظل العقل ويبسطوا سلطانه على جميع الأعمال والآمال وكافة النزاعات والحركات النفسية والجسمية التي تصدر عنا في كثير من الأحيان من غير أن يكون للعقل شعور بها أو سلطان عليها. فالعقل الإنساني الآن سراج قاصر الضوء لا تكاد تهتدي به النفس إلا إلى قليل من حقائق هذا العالم على كثرتها وتشعب أطرافها وتعدد مناحيها. وإذا تلمسنا مصدر هذا القصور لم يعد بنا البحث شيئاً واحداً هو ذلك السحاب المركوم الذي اشتركت العادة والقوة والرواثة في إقامته حجاباً كثيفاً يحول بين هذا السراج وبين كثير من الحقائق المختلفة في الدين والسياسة والاجتماع.

وقد كان هذا السحاب علة حقيقية لجمود العقل ووقوفه عن الحركة أو قلة نصيبه منها حتى لزمه كثير من الضعف والفتور. والغرض الحقيقي الذي يسمو إليه المصلحون من علماء التربية هو علاج العقل والطب له حتى يبرأ من هذا الضعف ويسلم من هذا الفتور ويصبح قادراً على أن يتناول جميع الحقائق أو أكثرها بالبحث والتمحيص ويستخرج منها وجه الصواب وهذا ما يسميه العلماء بقوة الحكم وشدة الملاحظة وما نسميه نحن الآن بالنقد الصحيح. فطهر من هذا شيآن أحدهما أن النقد ليس مقصوراً على أنواع القول وفنون الكلام من نظيم ونثير بل هو عام يستطيع أن يتناول كل شيء من صنائع وأعمال وعلوم ونحو ذلك. الثاني إن سبيل النقد مظلمة مشتبهة الاعلام لا تسلك إلا بعد كثير من اقتحام العقبات وتجشم الأهوال وبعبارة واضحة لا يمكن أن تبلغ أمة من النقد نصيباً موفوراً صالحاً إلا إذا استطاعت أن تقهر العادة والقوة والوراثة أي إذا تغيرت حالتها الفكرية تغيراً ظاهراً واضح الأثر. فنحن إذا لا نستطيع أن نبلغ من النقد ما نريد إلا إذا أمن أحدنا من أن يشاع عنه الكفر والالحاد إذا بحث بحثاً عقلياً صحيحاً عن قضية من قضايا الفلسفة والدين وإذا لم يخف أن يرمي بالخيانة والمروق إذا نازع السواد الأعظم قضية من القضايا السياسية فلم ير رأيهم فيها ولم يمالئهم عليها وإذا لم يخش أن تبطش به القوة وينال منه البأس إذا نقد شيئاً من أعمالها وبين أنه مضر أو غير مفيد ومما لا شك فيه أننا لا نسطيع أن نبلغ هذه المنزلة إلا بعد أن نرقى فينا أساليب التربية رقياً كثيراً حتى تؤدي بنا إلى هذا الطور الصالح من أطوار الحياة فسبيلنا إلى النقد إصلاح التربية وتهذبيها وإطراح الفاسد من أساليبها حتى ينشأ الشبان أحرار العقول قابلين البحث عن كل شيء معترفين بأن الحق لا يمكن أن يكون مقصوراً على فرد من الناس دون فرد ولا محصوراً في فريق منهم دون فريق. وإذا كان كل إصلاح لا يمكن أن تشعر الأمة بالحاجة إليه إلا إذا شعر بهذه الحاجة فذ من أفذاذها ونابغة من نوابغها وأخذ يدعوها إليه مرة بالشدة ومرة باللين. وإذا كانت مخالفة العادة وإطراح القديم مبغوضاً من كل أمة ممقوتاً في كل جمهور كان من اليسير علينا أن نتبين السبب الحقيقي والعلة الصحيحة التي نشأ عنها بعض المصريين

للنقد ومقتهم للناقدين. إنهم يحبون الحق وشفقون به ولكنهم يعتقدون بحكم العادة والوراثة أن الحق ما هم فيه وإن غيره هو الباطل فإذا قام بينهم من يقبح عادة من عاداتهم أو يسوئ رذيلة من رزائلهم نقموا منه وزروا عليه ونهضوا لتسفيه رأيه وتهجين خطته بمقدار ما أوتوا من قوة الدفاع عما يعتقدون أنه الحق وتلك طبيعة الإنسان في كل زمان ومكن فليس للناقد إذا كان مخلصاً إلا سبيل واحدة وهي صدق العزيمة واحتمال الاذاة في نفسه وعقيدته حتى يصل إلى ما يريد. إنهم يكرهون أن يقبل أحد منهم الدرهم والدينار من غير أن ينقد ويتبين مكانه من الجودة والرداءة ولكنهم لا يكرهون أن تتقبل نفوسهم حقائق العلم وأنواع المعقولات من غير بحث ولا تمحيص ومن غير تفريق بين غثها وسمينها وليتهم إذ كرهوا أن يجهدوا أنفسهم بالنقد تركوا غيرهم وما يريد من تمحيص الحقائق لهم وتحقيقها قبل أن تصل إلى عقولهم ولكنهم لا يستطيعون لأنهم خاضعون لذلك السلطان القوي القاهر سلطان الاحتفاظ بالعادة والحرص على القديم. إنهم يجهلون مقدار المشابهة الشديدة بين النقد في المعنويات وعمل الطبيعة في الحسيات فلا يعلمون أن عمل الطبيعة في تحليل المادة وتركيبها وتحويلها من صورة إلى صورة أخرى ليس إلا نوعاً من النقد الحقيقي بل هو أسح أنواع الانتقاد لأن أقرب نتائجه ابقاء النافع المفيد وإفناء الفاسد المضر فالرجل لا يموت إلا إذا حقت عليه كلمة الطبيعة بعد النقد الصحيح وعرفت أنه لم يبق صالحاً للحياة وإن وجوده أصبح من أنواع العبث الذي يجب أن تبرأ منه الطبيعة ويتنزه عنه الله عز وجل وليس النقد في الأشياء العقلية والمعنوية إلا نوعاً من هذا النقد الفطري فنحن إذا عمدنا إلى قضية في الفلسفة فبينا بعدها ما نعتقد أنه الحق وأوضحنا نصيبها من مخالفة حكم العقل والحيرة عن طريق الصواب لم يكن عملنا هذا إلا إعانة للطبيعة على ماهي بإزائه من محو الضار وإبقاء النافع. ولو أنهم علموا بذلك وأنعموا النظر فيه ما استطاعوا إلا أن يكونوا للنقد أنصار ولرجائه مؤيدين نعم إن النقد في المعنويات ليس إلا إعانة للطبيعة على عمله فكلنا نعترف أن الباطل في نفسه مفسد للعقول مقوض للعمران وإن أقدس واجب على الإنسان هو بإزهاق الباطل وإظهار الحق ولئن كان هذا ظاهراً في قواعد العلم وقضايا الفلسفة فهو في فنون

القول وأنواع الكلام ظاهر أيضاً لا يحتاج إلا إلى شيء قليل من البحث والتفكير فأننا إذا عمدنا إلى قصيدة من الشعر فعرضناها على النقد الصحيح وبينا وجوه الخطأ في ألفاظها ومعانيها وفي نظمها وتنسيق الخيال فيها ثم طلبنا إلى القراء أن يتجنبوا ما أشرنا إليه من هذا الخطأ ويتلمسوا ما بيناه من الصواب لم نزد على أن بينا الحق والباطل ودعونا إلى نصر أحدهما وخذلان الآخر ولا شك في أن أقل نتيجة تنتج عن ترك هذا النوع من النقد أو التقصير فيه هي فساد الشعر واضطراب أمره وقصوره عن أن يؤدي ما خلق له من إصلاح العقول والوجدان وإحياء الحق والفضيلة وإزهاق الباطل والرذيلة. وهذا ما نحن فيه الآن فقد نشأ من بغضنا للنقد ورغبتنا عنه ومن زهدنا فيه ومقتنا إياه انتكاث فتل الأدب العربي وانتقاض أمره فأصبح الشعراء والكتاب يسيرون في الشعر والنثر على غير هدي لا يميزون خطأ من صواب ولا يفرقون بين فاسد وصحيح فقصائدهم ورسائلهم ليست إلا خليطاً سيئاً من الألفاظ الصحيحة والفاسدة ومن المعاني التي نصيب الباطل منها أكثر من نصيب الحق. . . وهم على كل ذلك معجبون بأنفسهم مدلون بمكانتهم والجمهور فيهم مغرور وبهم مخدوع لا يرى الكلمة إلا لهم ولا الحق إلا منهم ولا الصواب إلا فيهم أما الناقدون فهم عند الجمهور وعند هؤلاء الكتاب والشعراء أدعياء واغلون قد أكل الحسد قلوبهم وأفعمت الموجدة صدورهم وعبث حب الصيت بنفوسهم فاتخذوا من نقد النوابغ وأفذاذ الرجال سبيلاً إلى الشهرة وطريقاً إلى سمو المنزل وعلو المكان. كلا كلا أيها الشعراء المفلقون والكتاب المجيدون والجمهور المخدوع ليس النقد كما تظنون سبيلاً من سبل الشهرة أو طريقاً من طرق الصيت وإنما هو مقياس الخطأ والصواب ومميز الحق من الباطل وهو المنظم لحركات عقولكم المصلح لنفثات أقلامكم الحافظ لمجيدكم حق الإجادة والمرغم رديئكم على اتباع الجيد وابتغاء الرقي وإن أحدكم إذا نال الشهر وبلغ الصيت بإعانة النقد له وعدم قدحه فيه ونعيه عليه كان ذلك خيراً له من أن ينال تلك الشهرة ويبلغ هذا الصيت مكتفياً بثناء الجمهور وتقريظ الجمهور أولئك الذين لا ينفع ثناؤهم ولا يضر هجاؤهم لأنهم لم يؤتوا من العلم نصيباً قليلاً ولا كثيراً. إذا فالنقد لكم صديق وليس عليكم حرباً كما تظنون فكونوا له كما هو لكم فإن بلوغكم رفعة المنزلة وسمو

المكانة رهين بذلك موقوف عليه. أثر النقد في الامم بعد ما بيناه من حقيقة النقد ومكانه من إصلاح العقل وتنظيم حركته لسنا في حاجة شديدة إلى أن نكثر القول في بيان أثره في الأمم مما لا شك فيه أن رقي العقل وانتظام حركته هما أرقى مطلب بطلبه المصلح في أي أمة من الأمم أي ليس للأمم مطلب اسمي ولا أجل من هذا المطلب وإذا كان النقد كما بينا ليس مقصوراً على أنواع القول وفنون الكلام بل هو عام يشمل أنواع الأعمال والصناعات والعلوم كان رقي الأمة فيه من أوضح الأدلة على رقيها في هذه الأشياء فإن الصانع لا يبلغ من النقد في صناعته منزلة صالحة إلا إذا مهر فيها وأحاط بدقائقها واسرارها وكذلك الأمر في النقد الأدبي والعلمي وغيرهما من أنواع النقد ومن هنا يتبين أن من الأسباب الحقيقة لسقوط أمر النقد في مصر ضعفها المطلق في أنواع العلوم والصناعات وفي اليوم الذي ترقى مصر فيه رقياً ظاهراً فتدرك من الإجادة في كل شيء طرفاً غير قليل لا يكون لها بد من إجلال النقد وإكباره ومن تصديق الظن به وتحسين الرأي فيه. ذلك شأن الأمم لا ترقى في شيء حتى تجعل النقد مقياس جيده ورديئه ومرآة خطئه وصوابه ومن اليسير علينا أن نتبين ذلك واضحاً جلياً في تاريخ العرب في جاهليتهم وإسلامهم وفي بداوتهم وحضارتهم فإنهم لما لم يكن لهم في العصر الجاهلي نصيب موفور من الرقي في غير فنون القول كان نصيبهم من النقد موقوفاً عليه ومحصوراً فيه فبلغ النقد الأدبي عندهم في هذا العصر أرقى ما يمكن أن يبلغه في أمة بدوية تمتاز بالفصاحة وحسن الإعراب وبزلاقة الألسنة وذرابتها وصدق البصائر وإصابتها ولك من أنباء عكاظ وأخبارها ومن أحاديثها وآثارها أصدق دليل على ذلك بل أن هناك دليلاً ليس أنصع ولا أسطع منه على مكانة أولئك الناس من النقد الأدبي فإن الله عز وجل لم يجعل القرآن الكريم معجزة نبيه وبرهانه إلا لأن أولئك الناس الذين بعث فيهم النبي كانوا من رسوخ القدم في النقد اللفظي والمعنوي في المكانة التي لا يساميهم إليها مسام ولا ينازعهم فيه شريك. . ولو أن أولئك الناس لم يكونوا ذوي امتياز في النقد وتفوق كثير ما كان الكتاب على

فصاحته ومكانته من البلاغة قيماً عندهم ولا مستجاداً لديهم وتلك قاعدة فطرية فإن الشيء ذا القيمة الغالية والمكانة العالية لا ينبه شأنه ولا ينبل أمره إلا عند من له بأمثاله علم ومعرفة. وبعد ظهور الإسلام وارتقاء العقل العربي ارتقت منزلتهم في النقد واشتدت عنايتهم به ورغبتهم فيه وأخبارهم وآثارهم المستفيضة في ذلك تغنينا عن إقامة الحجة وتكلف البرهان وجملة القول أن النقد لا يكون راقياً عالي المنزلة في أمة ما إلا إذا كانت هي في نفسها راقية سامية المنزلة في الموضوع الذي يتناوله النقد ويقصد إليه ولنا بعد هذا كله أن نقول أن ما تبلغه الأمم من رقي في الحضارة وتفوق في العلم وفوز بالسيادة وتمتع بأنواع الحرية العقلية والسياسية والشخصية ليس إلا نتيجة لازمة لرقي النقد فيها فالنقد هو أحسن مقياس يمكن أن يقاس به صعود الأمم وهبوطها ورفعتها وانحطاطها. شروط النقد أما شروط النقد فقد كثر فيها قول القائلين وتعددت مذاهبهم واختلفت أهواؤهم ولاسيما في هذا البلد الذي ليس للنقد فيه إلا مكان المبغض القالي ومنزل الممقوت الذميم. فترى الكاتب أو الشاعر إذا ألح به الناقد فبين نصيب نثره أو شعره من الخطأ والصواب ومن الصحة والفساد أبرق وأرعد وأرغى وأزبد ورمى الناقد بتهم أقلها ممالأته للهوى واستجابته للحسد واسترساله في الشتم والسب وغلوه في الادعاء والغرور ولست الآن بإزاء القول المفصل في شروط النقد ولكني أقول على سبيل الإجمال أن النقد نوع من أنواع المناظرة فكل ما يشترط في الجدل يشترط فيه إذ كلاهما لم يصطنع إلا لإظهار الحق وخذلان الباطل ولا شك في أن الشتم والسب والتقريع والتأنيب ليس شيء منها بطريق إلى الحق وإنما الحق نتيجة البحث الهاديء المعتدل الذي يبرأ من الاستجابة لعواطف الحب والبغض ونحوهما فلا يمكن أن يكون الناقد منصفاً إذا استجاب لعاطفة من هذه العواطف فمالأ خصمه وانحاز إليه أو ظلمه وألح عليه وإنما الانصاف مزاج لا يعتدل إلا بصدق النية وحسن المقصد وتحكيم العقل ورفض الهوى وعدم الاستسلام إلى العواطف والوجدان. وإذا كان النقد في كل شيء لا يصدر إلا عن ذي العلم بذلك الشيء والتفوق فيه كان نقد الجاهل نوعاً من لغو القول وسخف الحديث وكان من الشروط الضرورية في النقد العلم

بالموضوع الذي يبحث الناقد عنه ويتكلم فيه. قالو ومن ضروريات النقد أن يعترف الناقد بحسنات خصمه قبل أن يذكر سيئاته ليكون ذلك ادعى إلى تصديق الظن به وتحسين الرأي فيه وعدم أتهامه بالميل أو الحسد أو الاستجابة للأهواء ولست أرى هذا الرأي ولا أميل إليه لأني أعتقد أن النفس التي لا تميل إلى الحق إلا إذا توسل إليها بأنواع من الملق والتزلف وفنون من المدح والاطراء خليقة أن لا يحفل بها الناقد ولا يلتفت إليها لأنها إنما ترغب في الحمد والثناء لا في الحق والصواب قالوا وإذا كان الكتاب مؤلفاً في الفلسفة الإلهية مثلاً فمن الجهل نقد أغلاطه اللغوية ولست أدري من أين لهم هذا الرأي فإن للعالم بالفلسفة أن ينقد الكتاب في موضوعه وللعالم بالألفاظ أن ينقد الكتاب في ألفاظه ولم يقل أحد أننا إنما نريد الرقي في موضوع دون موضوع وإنما نريد أن نرقي في ألفاظه ولم يقل أحد أننا إنما نريد الرقي في موضوع دون موضوع وإنما نريد أن نرقي في ألفاظنا كما نريد أن نرقي في أفكارنا ولو أننا شايعناهم في هذا الرأي ومالأناهم عليه لانعقدت ألسنتنا وتحطمت أقلامنا وغلت أيدينا بإزاء ذلك الكاتب الذي يؤلف كتابه في الطب والمنطق بلغة العامة ودهماء الناس. قالوا ولا يحسن بالناقد إلا أن يكون معتدل اللهجة بريئاً من الغلو في التشهير بخصمه والقدح فيه وهذا حق لاينكره إلا مكابر أو عنيد ولكن مالهم يكرهون قول الحق والاعتراف به ويعدونه نوعاً من الشتم وقاسي الكلام فلو أني قرأت فصلاً من كتاب فضحكت من سخفه أو خجلت من جهل صاحبه وقلت في نقده أنه مخجل أو مضحك لم أكن عنده إلا سبابة سفيهاً مع أني لم أقل إلا الحق ولم أمل إلا إليه ومبلغ القول أن شروط النقد كلها تنحصر في شيء واحد وهو الاعتدال وعدم الميل إلى الهوى والغلو في الثناء أو الهجاء. هذه كلمتنا المجملة على النقد في نفسه ومما لا شك فيه أن النقد ينقسم بانقسام موضوعاته أقساماً شتى يهمنا منها النقد الأدبي والعلمي أي الذي يتعلق بفنون الكلام ولهذا النوع من النقد شروط وأركان خاصة نحن آتون عليها في الأجزاء الآتية وسنبدأ منها بنقد الشعر في الجزء الآتي إن شاء الله.

الجمال والحب

الجمال والحب وأثرهما في الحياة (تابع) هذه المحيطات بنا وما تحويه من الرواء والبهجة هي أكبر الأسباب في استدامتنا الحياة وإبقائنا على أنفسنا. والا فقل لعمرك ما معنى العيش على مابه من آلام وغصص إذا لم يكن حباً في الأرض والسماء والمخلوقات التي حولنا. . لم نريد من كل قلوبنا البقاء في هذا الوجود أطول زمن ممكن ونحن لا نفتر نضج من الأهوال التي ترهقنا إلا إذا كان في العالم الذي نعيش فيه من السحر ما يذهلنا عن متاعبنا وينسينا آلامنا وينفث فينا من السرور ما ينعشنا ويحيينا. أو أن كل العرض من الحياة استبقاء النوع كما يرى شوبنهور وإن كل ما في الوجود إنما يخدم هاته الغاية فتقديرنا للجمال وميلنا إليه وحبنا وجهادنا ونصبنا وكل ما نعمل وما نحتمل إنما هو من أجل الأجيال القابلة وتحسينها وإذا صح هذا وكان غاية الطبيعة من كل الأجيال المتعاقبة هي هذه فأي شيء يكون نتيجة ذلك كله وما الذي سيحدث بعدما لا نهاية له من الأبناء وأبناء الأبناء. إني أميل لأن أصدق إلى حد غير قليل بنظرية استبقاء النوع وتحسينه ولكني لا أستطيع أن أجعلها الغاية التي من أجلها كانت كل الوسائل كما جعلها شوبنهور. وعلى هذا فأني أعتقد أن الفرد يعيش لنفسه لا للنوع فقط وإن عواطفه وإحساساته إذا كان فيها شيء يميل بالطبيعة لجهة استمرار الإنسانية فإن فيها غير ها كثيراً جعل لأسعاده هو وتغلبه على مضض الأيام بأن يبعث إليه من العالم الذي حوله أريجاً منعشاً للآمال يزيد قوة الحياة فيه ويخدر أعصابه إذا اضر بها الألم كما أن قواه العاقلة كلها تعمل لهذه الغاية من غير ملل وتنجح دائماً في الوصول إليها. من الأيام القديمة حين كانت الإنسانية لا تزال في طفولتها نرى في أقوال السالفين من التغني بالجمال أو تصويره وتمثيله ما يدلنا على إحساس هؤلاء الناس به وإذا كنا نقتصر في أمثلتنا على مشاهدات التاريخ فإن ما خلفه قدماء المصريين وراءهم من التماثيل يدلنا على هذا كما أن شعر المتقدمين كله يبين لنا عن حبهم لأشياء مخصوصة يصفونها بالجمال وكلما تقدمنا مع العصور تقدم ولع الناس زاد شغفهم ورق نظرهم واجتلوا من المكنون في

الأشياء الصامتة فإذا ما أخذت مثلاً أشعار هوميروس وما تكنه من الخيال رأيت من خلالها ما كانت تحويه نفس الشاعر ونفوس أهل زمنه من البحث عن الجميل في الأشياء القدسية وما يلقبونه الإله. ثم إذا تقدمت مع الزمان وأخذت أسفار العرب في صدر الإسلام بل أخذت القرآن نفسه مثلاً ظهر لك أن الناس صاروا يفهمون الجمال في غير الأشياء القدسية وغير النساء: صاروا يفهمونه خارج هذه الدائرة الضيقة المحدودة التي تكاد لا تقع تحت الحواس ويختص بها الخيال فيما هو أكثر تحققاً في الواقع ووقوعاً تحت حكم النظر والسمع فإذا ماقلبت صفحات ديوان من دواوين الشعراء الأقدمين أو أي كتاب من كتبهم رأيتهم يذكرون المحيطات بهم بنوع من الأعظام ويعدون فيها من المعنى ما يدل على تقديرهم لها التقدير العالي. ولا أذهب بعيداً لآتيكم بمثل فهذه صحيفة بين صحائف القرآن الكريم الكثيرة ملأى بهذا المعنى جاءت تحت يدي لأول ما فتحت المصحف. قال تعالى في سورة النحل: {والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس أن في ذلك لآية لقوم يتفكرون}. وإنه ليخيل لي أن إحساس الناس بالجمال سار كغيره من كل الأشياء أو على الأقل من أكثرها على سنة النشء والارتقاء. فكان أول ما أخذ بنظرهم جمال المرأة من جانب الرجال وجمال الرجل من جانب النساء. ولم يكونوا في ذلك إلا كبقية الحيوان مدفوعين بقوة الطبيعة وعامل الانتخاب الجنسي لأدخال شيء من العزاء لنفوسهم عن شدائد الحياة ولاستبقاء النوع أيضاً وتحسينه. والذي يحملني على هذا الاعتقاد ليس هو فقط ماجاء في التاريخ فإن أقدم ما نعرف منه لا يكفي لذلك تمام الكفاية وإن أظهره لحد كبير. ولكن الأمم الحاضرة التي لا تزال في حالة البربرية وتحكي بتكونها تكون الأمم البائدة والأمم القديمة جداً تعطينا فكرة تكمل ما نأخذه عن التاريخ. وهاته الأمم ينحصر الجمال أمام أنظارها في المرأة وفي أشياء أخرى قليلة جداً مما يستعمل للزينة.

وإذا تقرر لدينا أن هذا التزين من جانب الرجال إنما حرض عليه حبهم التقرب من النساء كما تفعل الذكور من الطيور مثلاً أمام إناثها إذ تنشر ذات الريش الجميل ريشها (راجع دارون. تسلسل الإنسان صحيفة 141) وتصدح مغنيات الطيور بأغانيها البديعة أيام فصل الحب لتجتذب الأنات علمنا أن أول من أحب كل فرد من أفراد الجنس هو فرد من أفراد الجنس الثاني من الفصيلة بعينها وفقد جماله. ثم صارت تنسب الأشياء في جمالها بعد ذلك إلى المرأة. ومن هذا نعلم السبب الذي من أجله كان كل جميل في العصور السالفة يأخذ حسنه نتيجة شبهه بها أو قربه منها. أي أن الإنسان حين ابتدأ يؤمن بجمال الأشياء مما حوله لم يؤمن به إلا بواسطة تداخل محبوبه فيما بينها: فإذا ما جلس الصب ذاكر دار محبوبته لبست الأشياء التي فيها ثوباً يجعلها عزيزة عنده مهما كانت صغيرة ضئيلة في نفسه. فتراه يندب الأطلال والأماكن التي أقامت فيها ويتشوق إلى حيث هي الآن ويذكر من توابعها ما كانت تلبس أو تتزين به أو تميل إليه ثم إذا جنه الليل ورأى الكواكب التي أمامه تطل عليها والبدر يرنو إليه واليها وذلك الظلام الهائل يلفه ويلفها أحب تلك الأشياء وصحبتها فأوحت هي إليه من جمالها ما يزيده بها تعلقاً وشغفاً. وأي منا قرأ شعر العرب قبل الإسلام وبعده في العصر الأول منه أي أيام الدولة الأموية يجده مملوأ بهذا المعنى وما يؤيد ما نقول. كما أن الكتب السماوية: وكلنا يعلم مبلغ فناء أصحابها في حب الله: إنما يحب أصحابها من الجمال والعظمة والسر الخفي في كل الخلوقات لأن فيها من أثر محبوبهم المقدس ما يجعلها عزيزة عليهم ذات قيمة كبيرة أمامهم. تقدمت الأيام وسارت الفكرت العامة في تقدير الجمال هي الأخرى للأمام ولم يكن عصر العباسيين عند العرب حتى ابتدأ الكتاب والشعراء يقدرون في الأشياء جمالاً خاصاً بها يحسونه من غير واسطة ولا وسيلة. ومن أجل هذا ابتداء أبو نواس يعيب على المتقدمين أكثر من مرة في قصائده المختلفة كثرة النوح على الأطلال والدمن وإذا كنا لا نستطيع أن نقول أن هذا يقوم حدا دقيقاً بين تقدير الجمال لذاته ولعلاقته بالمحبوب فأنه من العلائم الهامة التي تدلنا على تقدم الشعور تقدماً محسوساً نحو اجتلاء الجمال من كل شيء يدلنا على ذلك كثير من كلام أبي نواس نفسه كقوله مثلاً:

واغدُ على اللهو غير متئد ... عنه فهذا أوان مقتبله أما ترى جدة الزمان وما ... أبدع فيه الربيع من عمله وافي وجدة الزمان غادية ... عند اقتراب الشتاء من أجله فاحتل أرجاءها فأدركها ... من زهر نواره ومن حلله أدركت في أخريات شتوته ... ما كان عز الربيع في أوله وأدركته السحاب ترضعه ... درة وقدٍ تحي على بلله فاشرب على جدة الزمان فقد ... وافى بطيب الهوى ومعتدله وقوله يصف نزول المطر: همت السماء برذاذ ثم بطش ثم برش ثم بوابل ثم هتنت حتى إذا تركت الربى كالوهاد ريا تقشعت فأقلعت الخ الخ. يجد الإنسان في هذا الكلام وفي كلام المعاصرين وبعض من سبق ابا نواس وعصره تقدير الناس لجمال الطبيعة في ذاته مجرداً من نسبته للمحبوب وإذا ما أردنا الأمثلة من الأزمان التي تلت وخصوصاً إذا وصلنا عصر الأندلس وجدناها كثيرة تفوق الحصر. فإذا دخلنا في القرن الثالث عشر والربع عشر والخامس عشر أي حين ابتدأت حياة الفن في إيطاليا تأخذ رونقها دخلنا في عالم هائل تظهر فيه متتالية الأوصاف الكبيرة الكثيرة وحب الناس للجمال وإظهاره على صورهم والتغني به في شعرهم. ففي أول هاته القرون الثلاثة ظهرت قصة دانتي ثم ظهرت في القرن الخامس عشر (غنوة) رولاند للاييت وفي القرن السادس عشر كنا نرى شكسبير في انكلترة وكتاب ذلك القرن الكثيرين في فرنسة. وبقي ذلك الارتقاء في الإحساس بالجمال يتقدم حتى أيامنا هذه حين أصبح له حظ كبير جداً في الحياة العامة عند كل الأمم الراقية وصارت طبقة جماعة المشتغلين بالفنون تشغل المحل العظيم الذي تشغل. ويختلف تقدير الجمال إلى يومنا هذا ما بين أمة وأمة وبالحرى ما بين جنس وجنس. ولقد أفرد دارون للتدليل على ذلك قسماً من كتابه تسلسل الإنسان واستشهد عليه بأقوال جماعة العلماء من السياح. فالهنود الشماليون يقدرون الجمال عند ذي وجه عريض مسطوح

وعيون ضيقه واصداغ عالية وجبهة منحدرة وذقن عريضة واسعة. وتمتدح الآذان الهائلة عند جماعة الصينيين. وعند أهل سيام يحب الأنف الصغير والفم الواسع والشفاه الغليظة والوجه الكبير. أما عند جماعة السودان فجمال المرأة في عظم أردافها حتى أنه إذا أرادوا زوجة صفوا النساء صفاً واختاروا منهن من تغلب عندها هذه الصفة. (واحسب ذلك كان محبوباً عند العرب بدليل ما جاء في أخبار عمر بن أبي ربيعة عن جمال عائشة بنت طلحة) - أما عن اللون فإن من أجناس العبيد من يعقد حواجبه اشمئزاز أن يرى اللون الأبيض والجميل الجميل عندهم من يزيد في السواد على أقصى الدرجات حتى لقد كان الأطفال ينادون وراء اوزلى (انظر إلى الرجل الأبيض ألا تراه كالقرد) وفي الهند الصينية كانوا يشيرون إلى أسنان سيدة أوربية منتقدين بياضها بحيث تظهر كأسنان الكلب وعابوا عليها تورد خدودها لأن ذلك يشبه زهر البطاطس وغير هذا من الأمثال التي جاء بها دارون كثير. ولعل ذلك هو مادفع بعض من كتب عن الجمال كرالف والدوامرسن الأمريكاني على الامتناع عن تعريفه والاكتفاء بالإعجاب به وإظهار آثاره. وعندي أن اختلاف الأذواق راجع إلى تأثير الوسط على الناس إذ أن الطقس والمحيطات تشكل الأفراد بشكل مخصوص وتعطى لسحناتهم من الملاءمة للطبيعة التي يعيشون فيها ما يجعلهم يرون الأشياء بعين تخالف نظراتها نظرات سكان الأقاليم الاخرى. وكل امتياز في الصفات التي تميز إقليمه بدقتها أو تناسبها عد جميلاً. وبذلك يستطيع الفرد من أهل هذه الديار أن يجد على مقربة منه ما يوافق ذوقه وطبعه ويدخل بذلك السرور إلى نفسه ويعزيه عن متاعب العيش وفي الوقت عينه ما يدفعه لاستبقاء النوع وتحسينه وترقيته من الوجهة التي حدتها له الطبيعة. وهذان أهم وظائف الجمال من الوجهة الاجتماعية. أما لو كانت المحيطات بنا لاتعزينا بل تضايقنا. لو أنا وجدنا أنفسنا بين أشياء لا نقلب أنظارنا فيها حتى تنقبض قلوبنا وتشمئز لمرآها وكنا لا نجد جمالاً في الخيال الذي لا يتحقق فاحسب مؤكداً أنا نفضل الانفراد والوحدة وأن نعيش في أنفسنا لأنفسنا ثم يعرونا من ذلك ضيق وهم لانجد له مفرجاً فيما حولنا فتناوبنا فرة التخلص من الحياة ونهم بأنجازها وتكون الطبيعة لم تكمل بذلك شيئاً من أغراضها. أما وكل مايحيط بنا قد أودع فيه

من السحر ما يجذبنا ويستوقفنا أمامه وأعطي من الجمال ما يحببه إلينا ويجعلنا نود البقاء إلى جانبه فأنا مستبقين حياتنا حريصين عليها. كذلك وجود المرأة على رأس هذا الجمال كله يدفعنا بالغريزة للأبقاء على النوع والعمل لتحسينه. هذا أثر الجمال في الحياة العامة للوجود. وله إلى جانب ذلك من الآثار ما يقوم أخلاق الأمم ويبعث إلى نفوس الأفراد أرقى الاحساسات وأشرفها ويخلق من كل إنساناً رقيق الطبع عالي الهمة محباً للخير والسلام العام. أو لو رأيت إنساناً يرقب أمامه غروب الشمس وقد تورد القرص وأحر الأفق وانتشر في السماء ذلك اللون الذهبي السريع ثم تنحدر الغزالة مسرعة إلى غياباتها وهي تزداد احمراراً كأنما تختنق ويزحف الليل يطارد كل ما في السماء وينشر عليها غطاءه الأسود الهائل: لو رأيته تلك الساعة وهو يرقب فناء هاته الأشياء كلها وفتح لك نفسه كم تجد متأثراً عمل فيه ذلك المنظر الساكن الحزين. ثم كم يبتهج إذا رأى النجوم تعدت كلها لامعة من خلال الظلمة فبعثت مكان ذلك الموت المطلق أملاً يحي للغبراء ومن عليها. مثل هذا الابتسام يطوق ثغور الناس عامة حين جدة الزمان ومقتبل الربيع حين تأخذ الأرض زينتها ويلبس كل شيء أبهى كسائه والسرور الذي يداخل نفوسهم ويظهر على وجوههم حتى لا ترى إلا سنا ضاحكاً وقلباً طروباً وفؤاداً يملأ الصدر فرحاً حين يبتسم الوجود وقد قام من رقدة الشتاء وغادره ذلك الرداء القاتم الذ يأتي على كل الموجودات في الفصل البارد. وليس بنو آدم وحدهم هم المنتشين بل لقد كنت أجس في شهر مايو من العام الماضي أن كل شيء حتى الجمادات الصامتة في نشوة بما حوله من الخلق الجديد. وأينا دخل حديقة من الحدائق الكثيرة هنا في ذلك الشهر لا بد رأى أوراقها ضاحكة بلونها الزاهي البديع وزهرها كذلك يتوج هاته الهامات الكبيرة الثملة تحت نور شمس الربيع. وفي هذه الأيام العاشقة لا يستطيع الإنسان أن يحبس قلبه مهما جاهد عن أن يحب. تراه مدفوعاً بقوة أكبر منه نحو الجنس الآخر وكله العاطفة الشريفة المجردة من كل غرض وتهب الطبيعة للنساء من الحسن مالم يعرفن في غير ذلك الوقت فتراهن قد لبسن جمالاً. يروع العين وظهرن وسط الزخرف الهائل الذي يتزين به الكون ملكات ذلك الزخرف ورباته. ولا يفتأ الإنسان يسجع قلبه يصدح وحيداً في ظلمة القفص الذي يحيط به بأناشيد

الغرام راجياً حبيباً يضمه إليه شاكياً الانفراد لأنه يريد أن يخبر حبيبه بمتاعه بكل ما حوله فإن في ذلك ضعف المتاع. وحقاً إن الوحدة في هاته الأيام الناضرة الزاهرة بؤس وس النعيم وشقاء بين السعداء. . كان أولى أن يسرح الإنسان وسط الجنات التي تحيط به فرحاً هائماً في عوالم الخيال الواسعة. ولكن كأن لا خيال أكبر من الواقع يومئذ فالخارج عن الواقع خارج عن دائرة الموجودات السعيدة لذلك لا قلب ينصح صاحبه بالتعلق بالخيال أياً كان بل هو ينسى كل شيء وينسى الأنانية المركبة في الإنسان ويميل بجمعه طالباً قلباً آخر يطير معه وسط رياض الربيع الناضرة عالماً أن الحياة متاع وأن من فاته الشباب والربيع فقد ولت حياته. الجمال رسول الحب كما قال أمرسن وقائد الأرواح الشابة المتقدة إلى محبوبها يجمعها معاً ليسعد كل صاحبه وليزيد في قوة حياتهما ويجلو نفوسهما ويعوض كلاً عن انفراده الأول سعادة مضاعفة بذلك الاجتماع الجديد. والحب هو العاطفة الطبيعية التي تولد يوم يولد الإنسان وتنمو فيه حتى إذا جاءته أيام الشباب وتكاملت قواه لم تسطع هاته العاطفة القوية أن تبقى محبوسة في الصدر مستسلمة لسجنها ساكنة فيه بل هي تثور وتسوقنا رغماً عنا لنطلب شريكاً نجد فيه ما يكمل وجودنا وكل جهاد منا لإخماد نار الحب في نفوسنا جهاد ضائع (متلو) محمد حسين هيكل

طريق السعادة

طريق السعادة عربها عن الإنكليزية احد الأفاضل حرية الإرادة هي القوة التي تحكم العقل وتهيمن على النفس ولا يتأتى للإنسان الحصول على هذه القوة ما لم يكن له الإدراك الكافي. ولا يراد من ذلك أن يشتغل المرء بالمباحث النفسية العقيمة لأن الغاية من الحياة هي الوصول إلى السعادة وذلك يتم باستقصاء أحوال الطبيعة البشرية والوقوف على سيرة مشاهير العصور الخالية ذكوراً كانوا أم إناثاً وأول درس تلقنه لنا الحياة هو ضبط النفس لأنه مرقاة النجاح وسلم الظفر وبديهي أن غاية كل أمرٍ في الدنيا أن تتم له هذه الأمنية أمنية النجاح والتوفيق في الأعمال. وإذ عرف ذلك وجب علينا أن نبحث في المعنى المراد من النجاح المذكور. إن النجاح كلمة نسبية لا مطلقة يعبر عنها قوم بالسعادة وآخرون بالقناعة وغيرهم بالمال. وغني عن البيان أن المال كان قوة لا يستهان بها وسيظل كذلك مادامت له اليد الطولى والقدح المعلى في إدارة دفة الأعمال. على أنه ينبغي لنا أن نضع نصب عيوننا أن النجاح في الحياة هو النجاح في الأعمال ولا يعكس فقد قال أحد الفلاسفة أن النجاح لا يستطيع أن يبتاع السعادة وغالى أحد فلاسفة اليونان الزاهدين فقال أن الإنسان قد يشتري الشقاء بالمال. فإذا أحظاك الجد وتوفر لديك المال وجب عليك أن تعرف كيف تستخدمه في قضاء حاجتك وذلك يتضي عقلاً راجحاً وفكراً مستنيراً إن في العقل صفة تؤهله للقبض على عنان القوة والنجاح وبغير هذه الصفة لا تكون الحياة شيئاً لما يتخللها من حبوط المساعي واليأس وبها يبسم الدهر عن ثغر ألمى وتسفر عروس الحياة عن طرف أحوى وتكون جميع العقبات والمصاعب بمنزلة منارات تدلنا على مقدار سيرنا في سبيل النجاح والسعادة بل هي حجر الحكمة الذي يحول كل ما يمسه ذهباً. هذه الصفة هي التفاؤل أي النظر إلى المستقبل بعين الرجاء والأمل بالخير وضدها التشاءم أو النظر إلى المستقبل بمنظار أسود يري الجو أقتم مكفهراً والحياة سوداء كالحة. والتفاؤل كحرية الإرادة هبة سماوية يمكن ازديادها بالتمرن والعمل وتعطيلها بالبطالة والكسل. ولا ريب في أن الغاية من خلق الإنسان هي التفاؤل لأن التشاؤم علة طارئة على العقل لا وجود لها في الطبيعة. فالمتفائل يرى السحب في جو السماء فيقول أن لكل سحابة نوراً أما المتشائم فإذا رأى السحب

بيضاء قال أنها نذير بتلبد الغيوم. المتفائل يقول نعم وإن تلبدت الغيوم فإنها لا تحجب الشمس إلا إلى زمن لأن الشمس موجودة خلفها وهي أقوى من كل السحب ومتى حان الوقت فرقتها أشعتها الحارة أيدي سبا. إن التفاؤل في الأعمال يقصد به الرغبة في العمل والميل إلى إتمامه فالذي يشتهي أمراً ويرغب فيه لايرى أمامه إلا الغرض الذي يسعى إليه. قد يخسر خسائر وقد تعترضه صعوبات ولكنه يعرف أن أمامه غرضاً وإن الوصول إليه أمر لا بد له منه فإذا تطرقت إليه الشكوك فترت عزيمته وتراخت همته لذلك ينبغي نفي الشكوك لأن النجاح موكول للعزائم والعزائم مقرونة بنواصي الفكر وكل يوم تعمل فيه عملاً تسير فيه خطوات في سبيل النجاح ولو لم يسفر العمل عن نتيجة راضية. وكل مسألة تحلها تساعد في إدراك الغاية لأنه تنشئ الشعور بالرضى وتسهل متابعة العمل والسرور به فترى من هذه المقدمات أن كل نجاح مادياً كان أم أدبياً مرتبط بخاصة التفاؤل وأننا كلما امتلكنا ناصية هذه الخاصة (الصفة) ازددنا نجاحاً وسعادة. ومن ثم وجب على من يروم السعادة أن يكون من المتفائلين إذ التفاؤل رائد النجاح. لأن المتشردين والبلة الذين يزحمون الشوارع على المارة وينامون في الطرقات ليلاً ويكونو عالة على المجتمع الإنساني لم يكونوا كذلك لو كانوا من طائفة المتفائلين. ولا ريب أن بعضهم هووا إلى هذه الوهدة لفقد الذراع القوية التي تنتشلهم من هاوية الخمول ولو كان لهم قوة الاعتماد على النفس التي تنشئ التفاؤل لما كفوا عن الجهاد وبعضهم سقطوا فيها بسبب المسكر إن المسكر ينشيء سدوداً صناعية لأنه يبلد العقل والإنسان يرغب فيه بمحض الإرادة ولو كان الناس كلهم متشائمين لأصبح العالم جحيماً لا يطاق وسكناه علقماً مر المذاق. ومن المؤكد أن في العالم قواماً ينيرون فضاءه كما ينير ضوء الشمس فضاء الكون أولئك هم المتفائلون ولا ريب في أنهم يؤثرون على غيرهم فيحملونهم على مشاكلتهم والتشبه بهم. فإذا أردت أن تكون إنساناً بالمعنى الصحيح وجب عليك مماثلتهم فذلك خير لك ولمن هم حولك واعلم أن تأثير قدوتك كموج البحر يسير في دوائر متسعة فيؤثر في الذين تلاقيهم والذين لا تلاقيهم وتكون قدوتك سبباً في تحسين أحوال العالم ومتى قمت بهذا الواجب عملت خيراً ونلت ثناء الناس وعطفهم وظفرت بالسعادة المثلى والنجاح مادياً

وأدبياً. يظن البعض أن الإنصاف بصفة التفاؤل متعذر فنقول له كلا لأن هذا التفاؤل هو من مقتضيات الطبع لا التطبع وكل ما يجب عليك عمله هو أن تنظر إلى المتسقبل بنظارة بيضاء. تأمل في هذا الموضوع قليلاً وتبسم الا تشعر بسرور من هذا العمل. ارفع عينيك إلى سقف الغرفة التي أنت فيها الا يحول ذلك أفكارك عن الموضوع الذين أنت مفكر فيه. إذا لم تشعر بعد ذلك بتحسن فاخرج إلى خارج مكانك واشخص إلى الجو تذهب عنك الهموم وتنجل عنك الغموم لأن ليس في الطبيعة مكان للتشاؤم. لأن التشاؤم ينشأ بين صغار الأحلام والعقول الضيقة. إذا طالعت سفر الحياة تجد أن لك عمل جزاء فإني أعرف رجلاً أراد في صباه أن يكون صحافياً فطلب أن ينتظم في سلك الصحافيين فلم يفز بطائل وقدر له أن يشتغل بالتجارة فذهب إلى بيته يائساً كئيباً يود لو أن عجلات الترام مرت عليه وسحقته سحقاً فذهبت بحياته وبنكد طالعه والآن هو رئيس مهنة يربح منها ثلاثة أو أربعة أضعاف ما كان يعطاه لو كان صحافياً فما ظنه بلاءً وشؤماً كان بدء نجاحه وسبب سعادته. إذا كان عملك اليومي شاقاً فابذل جهدك في اتمهامه عالماً أنه صفحة من صفحات أخلاقك وإن إتقانه يؤهلك إلى النجاح في المستقبل فالمستر غلادستون المشهور كان يكره الحساب في المدرسة إلا أنه قوي على هذه العاطفة وأتقنه فصار بعد ذلك ناظراً للمالية فرئيساً للوزارة. تيقن أن الصعب الذي تفوز به ينشئ فيك الاختبار ويكيف أخلاقك فكن متفائلاً تنل المرام. فوائد المتاعب - انظر في ماضي حياتك إلى أمرين فقط أولهما كل المسرات التي حصلت لك في الحياة وثانيهما كيف كانت كل تلك المتاعب التي مرت بك بداية أزمنة السعادة والنجح إذ بالتعب تدرك الراحة على حد قول الشاعر: دعيني أجد السير في طلب العلى ... فسهل العلى في الصعب والصعب في السهل تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من أبر النحل إن مزية العقل على المادة هو أنه يوجد لنفسه الحال التي يكون عليها أخرج إلى الأماكن التي تغشى جوها السحب ترها مطلمة ولا يمتد نظرك إلى بعيد ولكن متى طلعت الشمس

من وراء الغيوم يظهر بطلوعها الوف من الأشياء المتوارية. ومعلوم أن الشمس لم تخلقها لأنها كانت حيث هي من قبل وإنما أنت لم ترها قط. وهكذا كل جمال الأرض أمامك تراه إذا اهتممت بالنظر إليه واستخدام ضياء شمس أفكارك عند الحاجة إليه. إذا أدخلت نور الشمس إلى غرفة سوداء لا تمتص حيطانها منه إلا قليلاً فتبقى مظلمة قابضة مهما كان النور في الخارج أبيض ناصعاً. وعلى الضد من ذلك الغرفة البيضاء فإنها تزهو وتلمع في ضياء الشمس فتنير ولو كان الجو أقتم فإذا أردت أن تجعل عقلك محزناً لضياء الشمس العقلي وجب عليك أن ترفع من أولاً كل الأفكار المظلمة وتستبدل بها أفكاراً سارة مضيئة لأن المرء ينبغي أن يكون حارساً على أبواب عقله ويقبل ما يريده من الأفكار ويرفض مالا يريده. إن من الامتيازات التي خص بها الإنسان هو أن ينشئ لنفسه متى أراد جنة أرضية بإيجاد أفكار نيرة تضيء حياته. يظن بعض المحدثين أن السماء وجهنم مسائل فكرية أعني أن السماء هي من عمل الفكر النير وجهنم من عمل الفكر المظلم ومهما يكن من بعد ذلك عن دلائل الكتب المنزلة فإن فيه دليلاً على ما يجب على الإنسان أن يكون. فإذا سمح المرء لليأس والحزن بالدخول إلى باحة بيته العقلي وطرد الرجاء والقناعة يخطئ خطأ بيناً. الذي يستولي على قلبه الحب يرى العالم جنة مزدانة بالزهور مؤرجة بالعطور فإذا جاء يوم السوء سمت نفسه وارتفعت ووطأ العالم بقدميه ولا يرضى أن يبدل بحاله حال الملوك لأن الملوك يحسدونه على ما هو عليه إذ ليس لهم ماله. وهذه الحال العقلية أوجدها هو لنفسه وهو قادر على إيجاده في أي وقت شاء. وإذا قيل إما من علاج لداء التشاؤم قلت بلى لكل دواءٍ دواءٌ والعقل مسود بالأشياء التي يعيرها اهتمامه فإذا قصر المرء فكره على العمل فقد عمي عن كل المؤثرات المحيطة به وإذا مال كل الميل إلى الموسيقى أو إلى التأمل في صورة جميلة فمهما حدث حادث في الخارج لا يؤثر على أفكاره. الولد الصغير وهو عائد إلى منزله مساءً يصفر تشجيعاً لنفسه يريد بذلك أن يستبدل بالخوف الذي يغشاه الشجاعة التي يحدثها الصفير فإذا شعر المرء بالانحطاط عليه أن يطرده بالأفكار المنيرة لأن الرجاء يزيل الخوف والأمل يحدث الشجاعة.

هذا والتوفر على الجهاد في إنارة الأفكار يحي العقول فإذا شعر أحد بتعب مفرط أو جهاد مبرح فليبتسم ويضحك وحينئذ تتوارد عليه الأفكار السعيدة وإذا احس الكسل فلينشد الأناشيد المفرحة وعند ذلك يشعر بنشاط يعينه على استبدال المسرة بالكدر. إن كل إنسان يكون كما يريد أن يكون فإذا عبس ساعد الكدر على استباحة باحة عقله فكأنه أعطى العدو فرصة لمهاجمته ولكن إذا ابتسم فكأنه رفع راية نقش عليها البيت مملوءٌ سروراً فلا محل للكدر واليأس. ولا يغيبن عن الذاكرة أن المحيط الذي حولنا يؤثر في أفكارنا فمن الثابت المقرر أن المناظر الجميلة وضياء الشمس تبعث السرور في النفس كذلك إذا أراد الإنسان نقاء أفكاره ينبغي أن يسكن بين عشراء فضلاء فبعض الناس يهتمون بجعل لون غرفة النوم بسيطاً جلباً للراحة ويجعل لون غرفة الجلوس بهجاً لجلب السعادة والسرور ويجعلون لون غرفة الطعام أحمر توليداً للشهية والمرح ويقولون أن اللون الأخضر مفرح فهو يناسب أن يكون لون غرفة العمل. أما أسباب السعادة فكثيرة منها أن تذكر الكتب السارة التي قرأتها والأحاديث اللذيذة التي سمعتها والمناظر المبهجة التي رأيتها والأماكن الجميلة التي زرتها والأزمنة السعيدة التي قضيتها: تناس متاعبك واعتد السرور مهما غشيك من المصائب وجالس أرباب الزهو والبسط فمعظم الناس ينفرون من الكدرو إذا ابيت الانقباض يضطر عشراؤك أن يجاورك فتنسون كل ماهو ليس بسعيد. إن الحياة قصد بها البهجة فالنهار منير ولو لم تكن الشمس طالعة والليل يضاء بنور القمر ونور الأمل يشعشع في أظلم الأوقات والإيمان يرينا جزاء الصابرين والمثل الدارج يقول انظر إلى الجانب المنير أن العوائد التي يعتادها الإنسان تنمو بنموه فعليه أن يرفض كل ماهو مظلم ولا يؤذن له بالدخول إلى عتبة عقله ومعلوم أنها لا يمكن أن تدخل ما لم يؤذن لها. دواء الحياة - ضياء الشمس هو الدواء العظيم بل القوة التي تكسب الأرض حرارة وتجعلها تخرج زهراً والضياء العقلي يذهب المرض ويمنع فتكه ويؤثر في الجسم كله والأطباء يعلمون ما لقوة الفكر من التأثير في الشفاء فالأفكار المظلمة تحط القوى الحيوية

والأمل يحي العظام ويعين الجسد على مقاومة فتكات الأمراض. والجسد يؤثر في العقل أيضاً ولذلك كانت نظافة الجسد من الذرائع الطبيعية لسلامة العقل وقد قيل النظافة من الإيمان وقال الحكماء أن الحمام البارد كل صباح يؤثر تأثيراً صحياً في الجسم لانه يهيج الدورة الدموية وينشط العقل ووجود المرء موقوف على سلامة العقل وللمرء سلطة على العقل ولا دخل لأحد في شأنه فهو يضع فيه ما أراد ويدربه على ما يشاء فإذا أردت السعادة فاجعل عقلك موئلا للفرح ومسكناً للسرور فتشتد وتصح وإذا تشآءمت وأظلمت الدنيا في وجهك فالخطأ واقع عليك لا تستحق عليه عطفاً العالم مملوء نوراً وبهجة افتح عينيك لترى النور وتستخدمه حين الحاجة إليه ضياء شمس العقل من هبات الحياة الفضلى فمن له النور فليسلك في النور ولتكن له عبرة بالذين لم يفلحوا لأنهم يسيرون إلى هوة الشقاء وهم لا يدرون.

إيطالية وطرابلس الغرب

إيطالية وطرابلس الغرب فذلكة تقويمهما وتاريخهما ألم بهذه البلاد العربية الآمنة في سربها ما ألم من طمع إيطالية الأحمق وجشع الغول الأوربي الذي لانعرف له غاية ولا ندرك له نهاية اللهم إلا أن يأتي المشرقيون عامة والمسلمون منهم خاصة على الذماء الباقي من الفضيلة والكرم والحياء والإيثار (حب الغير) والمروءة والرحمة والدين ويستبدلوا بها اللؤم والقحة والأثرة (حب الذات) والقسوة والإلحاد (غفرانك اللهم) ويعدوا لتلك الأمم - التي تسمي نفسها كذباً على الله والناس أمم التمدين وما تمدينها إلا التوحش المنظم - مااستطاعوى من قوة ومن مدافع وأساطيل وطيارات (أبابيل) ويعلموا أن السياسة والدولة ليست إلا كما قال أبو تمام: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب استغفر الله بل يحتذوا حذو آبائهم الأولين الذين جمعوا إلى الفضيلة والدين عزة الجانب وقوة البأس والاعتصام بحبل القوة والعلم حتى خضعت هذه الدول المدلة علينا الآن بسلطانها إلى سلطانهم واغتذت بلبان معارفهم فيستعدوا مجدهم ويسترجعوا عزهم وسلطانهم ولا يبعد بعد ذلك أن تخفق أعلامهم في أجواء أوروبة كرة أخرى فإن هذا الدهر بالناس قلب. إن دان يوماً لشخص ... ففي غد يتقلب وقديماً وطئت أقدام العرب أرض أوروبة واستولوا على بلدانها أدهاراً طويلة وسادوهم وبهروهم بعلومهم واختراعاتهم حتى ذعروا منها وعدوها سحراً وحرم قساوستهم الانتفاع بها وكان ذلك في قصبة بلاد هذه الدولة الإيطالية التي استولى العرب على جانب عظيم من بلادها نيفاً ومائتي سنة وأنت تحت نير الأغاير مئات السنين ولم تتنسم ريح الاستقلال إلا بأخرة من سائر الأمم وجاءت اليوم ناسية أو متناسية فضل العرب عليها وانقضت كما ينقض الذئب الطاوي بغرة من فريسته على هذه الولايات العربية لتذيع فيه ما تذيع وتأتي على تلك الأخلاق الطاهرة والسجايا العربية الكريمة فإنا لله ولا حول ولا قوة إلا به. وليس من حق البيان ولا من (مبدئه) الآن أن يرخى عنان القلم في مثل هذا الشأن الذي قام به

كتاب العربية ووفوه حقه في الصحف اليومية وإنما الذي علينا أن نقول كلمة على تقويم البلدين (إيطالية وطرابلس) وتاريخهما بأجزا اختصار إيطالية فذلكة تقويمها وتاريخها إيطالية مملكة في جنوب أوروبة تضم إليها شبه جزيرة إيطالية الممتدة في البحر الأبيض المتوسط كذنب السرحان وجزيرتي صقلية وسردينية وهي واقعة بين 38َ 36ْ و 40َ 46ْ من العرض الشمالي وبين 30َ 6ْ و 33َ 18ْ من الطول الشرقي. وهذه المملكة محصنة تحصناً طبيعياً من جهة فرنسة وسويسرة والنمسة بجبال الألب وتبلغ مساحتها مع صقلية وسردينية 110 ألاف ميلاً مربعاً فمساحتها تقل عن مساحة الجزائر البريطانية بنحو عشرة أميال ويبلغ عدد سكانها 33 مليوناً وهم جنس واحد مؤلف من أمم شتى تداولت البلاد ففي الجنوب وصقلية ترى مزيجاً من العربي والإيطالي الأصلي وفي الشمال ترى العنصر الجرمانى ظاهراً غير أن الغالبين (السلت) والرومانيين هما العنصران الكبيران اللذان يتألف منهما أكثر الصنف الإيطالي الحديث: وقد اختلف العلماء في اشتقاق هذه اللفظة (إيطالية) فذهب بعضهم إلى أنها مأخوذة من إيتالوس اليونانية ومعناها عجل أو ثور وإنما سميت كذلك لكثرة البقر فيها وذهب آخرون إلى أنها مسماة كذلك باسم ملك يدعى إيتالوس. ومن مشهور مدائن هذه المملكة (رومة) وهي قصبة هاتيك البلاد وفيها يقيم البابا و (نابولي) وهي ميناء حربية على كثب من بركان ويزوف و (ميلان) وهي واقعة في سهول لمبردية و (جنوى) على خليج جنوى أحد خلجان البحر الأبيض والبندقية (فينيس) في شمال البحر الأدرياتيكي و (مسينة) إحدى مدائن جزيرة صقلية على البوغاز المسمي بهذا الاسم (بوغاز مسينة) و (بلرم) قصبة صقلية بساحل هذه الجزيرة الشمالي و (برندزي) بجنوب إيطالية الشرقي على البحر الأدرياتيكي - والمذهب السائد في هذه البلاد هو المذهب الكاثوليكي الذي يقوم عليه البابا ولها من المستعمرات مستعمرة الارتيرة وبلاد الصومال وكلتاهما في أفريقية - فذلكة تاريخها

قامت إيطالية على أنقاض القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية وذلك أنه بعد أن سقط هذا القسم ذاعت الفوضى في هذه البلاد وانتهت باستيلاء القوط عليها وعبرت على ذلك حيناً من الدهر ثم فتحها الامبراطور يوستنيانوس في منتصف القرن السادس للميلاد وسنة 568 غزاها اللمبرديون واسوافيها مملكة عظيمة لا يزال اسمها يطلق على قسم منها الآن. وفي أواخر القرن الثامن هدد اللمبرديون رومة وكانت لم تزل تحت حكم البطارقة فاستنجد البابا (ببين) ملك فرنسة فزحف ببين على إيطالية وفتح الأكسر وخسية ثم تخلى عنها للكنيسة واقتفى شرلمان انتصارات أبيه ففتح مملكة اللمبرديين سنة 774م وضمها إلى الامبراطورية الفرنسية وفي عيد الميلاد من سنة 800 البس البابا لاون الثالث شرلمان تاج الامبراطورية الرومانية فأحيا بذلك الامبراطورية الغربية وفي ستة 843 قسمت امبراطورية شرلمان بين حفدته فكانت الولايات الإيطالية من نصيب لوثير أحد حفدة شرلمان وفي غضون ذلك شرع العرب بعد أن فتحوا جزيرة اقريطش (كريد) في فتح صقلية وجنوب إيطالية وذلك أن صقلية كانت تابعة لمملكة الرومان الشرقية ومقرها في القسطنطينية وكان عليها وال من قبل امبراطور الرومان يسمي قسطنطين وكانت أفريقية تونس والجزائر وطرابلس الغرب تحت ولاية زيادرة الله ابن الأغلب كان والياً عليها من قبل الدولة العباسية ففي سنة 212 هجرية استعمل قسطنطين والي صقلية على أسطوله قائداً رومياً يسمي فيمي (يوفيميوس) وكان حازم شجاعاً فغزا سواحل أفريقية وعبث فيها وبقي هناك مدة وبعد ذلك كتب امبراطور الروم إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي وتعذيبه فنمي الخبر إلى فيمي فانتقض وتعصب له أصحابه وسار إلى مدينة سرقوسة أحد مدائن صقلية فملكها فسار إليه قسطنطين فالتقوا واقتتلوا فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية فسير إليه فيمى جيشاً فقبضوا عليه وقتلوه واستولى فيمي على صقلية وخوطب بالملك وولى على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة فاتفق بلاطه هو وابن عم له يسمي ميخائيل كان والياً على بلرم وجمعاً عسكراً كثيراً وقاتلا فيمى فانهزم فيمي وركب في أسطوله إلى أفريقية مستنجداً بزيادة الله بن الأغلب فسير معه جيشاً في أسطول واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان وأقلعوا من سوسة (هي الآن من أعمال ولاية تونس

واقعة على البحر الأبيض المتوسط على مسافة 110 كيلو متراً من تونس إلى الجنوب الشرقي) فوصلوا إلى مدينة مأزر من صقلية وساروا إلى بلاطة الذي قاتل فيمي فهزموه والروم الذين معه وغنموا أموالهم وهرب بلاطة إلى قلورية (كلابرة - جنوب إيطالية) فقتل واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة وجرت وقائع كثيرة بين الروم وبين المسلمين امتدت سنين طوالا وانتهت باستيلاء المسلمين على جميع جزيرة صقلية - ولما استولى عبيد الله المهدي على أفريقية ودانت له وبعث العمال في نواحيها بعث على جزيرة صقلية الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي من وجوه قواده فذهب إلى صقلية ومهد الأمور واكتسح بلاد قلورية (كلابرة) وتغلغل في أحشائها وبني بمدينة ريو مسجداً كبيراً في وسط المدينة - وجملة القول أن العرب بلغوا من الفتوحات في إيطالية ان استولوا على معظم البلدان الجنوبية وقرعوا أبواب رومة وحالفهم أهل نابلي وتمتعوا بخيرات إيطالية وسادوا أهلها وعبروا على ذلك حيناً من الدهر وبقيت صقلية في يد المسلمين نيفاً وخمسين ومائتين جعلوها في أثنائها بلاداً عربية بحتة فكنت لا ترى في شوارعها إلا العمائم والبرانس والخفاف والنساء بالخمار والنقاب والأزار: وقد زارها ابن حوقل الرحالة المشهور في منتصف القرن الرابع الهجري وقال فيما قال عنها: وقصبة صقلية مدينة بلرم وهي مدينة كبيرة سورها شاهق متسع مبني من حجر وجامعها كان بيعة وفيها وفي الحارات المحيطة بها نيف وثلثمائة مسجد وقد رأيت في بعض الشوارع على مقدار رمية سهم عشرة مساجد بعضها تجاه بعض: وقد أنجبت من العرب المسلمين علماء وشعراء وفلاسفة وفقهاء - ذكرنا بعضهم في كتاب حضارة العرب في الأندلس - أما كيف أخذت صقلية من يد العرب فإنك ترى ذلك مفصلاً في ترجمة ابن حمديس الصقلي المذكورة في العدد الثاني من البيان صحيفة 124 وما يليها - هذا ولما تقلص ظل العرب من جنوب إيطالية خضعت إيطالية الجنوبية إلى مملكة الروم في القسطنطينة ومضت على ذلك نحواً من قرن وكان سائر إيطالية عدا ذلك تحت نيرجرمانية ثم استظهر النرمنديون على العرب والروم وملكوا جنوب إيطالية وصقلية وسنأتي على باقي تاريخ إيطالية القديم والحديث في مقال آخر واف وننتقل الآن إلى ذكر فذلكة تاريخ طرابلس الغرب وتقويمها. طرابلس الغرب

تقويمها وتاريخها طرابلس الغرب ولاية عثمانية على ريف أفريقية الشمالية يحدها شمالاً بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وجنوباً صحراء ليبية وفزان - وشرقاً صحراء ليبية ومصر - وغرباً تونس والجزائر واقعة بين 23ْ 15َ 33ْ عرضاً شمالياً - وبين 10ْ، 20ْ طولاً شرقياً على وجه التقريب وتبلغ مساحتها نحوا من 1. 050. 000 كيلو متراً مربعاً فتكون مساحتها مثلى فرنسة وثلاثة أمثال مساحة إيطالية ومع ذلك لا يكاد عدد سكانها يعدو ألف ألف نسمة وهم ما بين بربر (مغاربة) وعرب (نزحوا إليها قبل الفتح الإسلامي وبعده) وترك وزنوج ومالطيين وإيطاليين. وجميع العرب والترك والبربر مسلمون عدا فئة قليلة من اليهود وهي تنقسم الآن إلى خمس متصرفيات (1) متصرفية طرابلس وقصبتها مدينة طرابلس وهي على أنفٍ داخل في البحر ويبلغ سكانها نحواً من (60) ألف نسمة معظمهم مسلمون وهي مرفأ مأمون محصن بالقلاع أشبه بمضيق ويحيط بها صور قديم من الجهات الثلاث واستحكامات وماقل على هضاب طبيعية وهي مركز تجارة الولاية كلها مع ما وليها من داخل أفريقية وأكثر تجارها من اليهود وتتصل تجارتها في البحر مع مالطة وبلاد اليونان ومرسيلية وتريستة وسائر بلاد المشرق - وتسير منها القوافل إلى كل ما جاورها من البلاد - ويكتنف المدينة حدائق ورياض وأرض خصبة وفي المدينة آثار هياكل وسدود رومانية أهمها (قوس النصر) المشيد سنة 164م وهو مبني بالمرمر وعليه كثير من النقوش الجميلة وفيها مسجد كبير قائم على ستة عشر عاموداً من المرمر وكان في القديم بيعة للنصارى. وستة مساجد أخرى كبيرة عدا المساجد الصغيرة والزوايا. وثلاث كنائس للنصارى. ودير للفرانسيسكانيين. وثلاثة معابد لليهود. وحمامات وأسواق. وشوارعها ضيقة معوجة وأكثر بيوتها طبقة واحدة. وينسب إليها كثير من العلماء والأدباء مثل عمر بن عبد العزيز بن عبيد بن يوسف الطرابلسي المالكي المتوفي في بغداد سنة 510 هجرية - وأبي الحسن علي بن عبد الله ابن مخلوف صاحب تاريخ طرابلس الغرب المتوفي في مكة سنة 522 هجرية - ومحمد بن شعبان الذي قدم الاستانة سنة 1016 هجرية وولاه شيخ الإسلام صنع الله بن جعفر قضاء بلده وله من التآليف كتاب تشنيف المسمع في شرح المجمع وهو شرح

مجمع البحرين. (2) متصرفية الجبل الغربي. وقصبتها غدامس الواقعة وسط الصحراء ويبلغ سكانها نيفاً وخمسة آلاف. (3) متصرفية (خمس) - ومن مدنها (خمس) و (لبدة) و (مصراطة) و (سرت) وكلها على الساحل إلى الشرق من مدينة طرابلس. (4) متصرفية (فزان) وهي جنوبي الولاية وقاعدتها مدينة (مرزوق) والى الجنوب منها واحة (غات) وهي قضاء تابع لمتصرفية (فزان). (5) متصرفية (برقة) وأكثر سكان هذه المتصرفية عرب سنوسيون. وقاعدتها مدينة (بني غازي) ومن مدنها (درنة) وهي فرضة بحرية فيها تلغراف لا سلكي ترسل الاشارات البرقية منه إلى رودس. والى الجنوب منها واحة الكفرة سميت بذلك نسبة إلى قبيلة من السود كانت مقيمة فيها. وهواء هذه البلاد معتدل إلا صحاريها فإنه فيها جاف - وهي وفيرة الريع في بعض جهاتها الجبلية ولاسيما حول مدينة طرابلس وبرقة. ويكثر فيها النحل وعسله الجيد والنخل والفواكه والزيتون وفيها الخيول المطهمة والنعام والغنم. وفي شواطئها معادن الذهب ومغاوص الاسفنج والمرجان. وفيها معامل للمنسوجات الصوفية والحريرية والقطنية. ولاسيما الطنافس والدباغة. وفي (برقة) ينابيع كثيرة ومراع طيبة يسرح فيها الأعراب غنمهم وماشيتهم. وفي سهول برقة يقيم كثير من السنوسيين الذين لهم نفوذ عظيم في تلك البقاع. والسنوسيون ينسبون إلى رئيسهم الأول السيد محمد بن علي السنوسي الحسني المتصل نسبه بالحسن بن علي بن أبي طالب ولد في أوائل القرن الثالث عشر الهجري في (مستغانم) من أعمال الجزائر ونشأ بها وطلب العلم بمدينة (فاس) ثم ارتحل منها وأخذ يجول في الصحراء يحث الناس على الصلاح والتقى وجاء إلى مصر ثم رحل منها إلى مكة وتقابل مع الأستاذ الشيخ أحمد بن أدريس الشريف الفاسي أشهر أهل عصره في العلم والصلاح فسار به في الطريقة الصوفية فما لبث أن برع السيد السنوسي في العمل يتعاليمها فكافأه الشيخ الشريف على جده ذاك فألبسه خلعة الخلافة على المريدين وأمره

بإعطاء العهود والمواثيق فلما ظفر بطلبته بني زاوية بجبل أبي قبيس ثم رحل إلى الجبل الأخضر بأرض طرابلس في أواسط القرن الثالث عشر الهجري وأقام به ما يقرب من الثماني سنوات أسس فيه كثيراً من الززوايا واجتمع عليه خلق لا يحصيهم العد. ثم اشتقاقت نفسه إلى البلاد المقدسة فأسرع في العودة إلى مكة وأقام بزاوية بجبل أبي قبيس سبع سنين يعلم الناس الحديث والفقه وغيرهما فذاع صيته واشتهر أمره في الهدى والرشد. ثم رحل مع أستاذه الشريف الفاسي إلى اليمن فتوفي أستاذه بها فعاد السيد السنوسي إلى مكة وأقام فيها يعمل على طريقته. ثم اضطرب جو السياسية بمكة فرحل السيد السنوسي منها إلى مصر فبنى له عباس باشا الأول والي مصر زاوية على مقربة من باب الحديد خارج القاهرة فعدل عنها إلى كرداسة وهي إحدى قرى مديرية الجيزة وكانت شهرته بالتقوى والصلاح قد أفعمت هذا القطر فتكاثر الناس عليه تكاثر الجراد على جيد الثمار. فلم يلبث إلا ريثما تحول إلى الجبل الأخضر السابق الذكر ورمم هناك قصراً قديماً وسماه بالعزيات وأقام به حولين ولما أنس حب أهل البادية لطريقته. وكان يبغض القرب من الحكومات لكثرة ما بها من الوشايات - استخبر العرب عن أجود البقاع هواء وأجملها جواً فحدثوه عن الجغبوب وهو على ثلاثة أيام من واحدة سيوه فرحل إليه وأقام به ثلاثة أعوام يعمل على طريقته السالفة حتى أتاه الأجل المحتوم سنة 1276 فدفن هناك رحمه الله رحمة واسعة - وقد كان مولعاً بالتأليف ومن أشهرها (إيقاظ الوسنان في العمل بالسنة والقرآن) و (السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين) و (المنهل الرائق في الأسانيد والطرائق) و (الشموس الشارقة في سماء مشايخ المغاربة والمشارقة). ثم قام بالأمر بعد ابنه السيد محمد المهدي السنوسي. ومعه أخوه السيد محمد الشريف ينشر طريقة أبيه فتزايد عدد المريدين ودخل الناس في طريقته أفواجاً واتبعه ملك (وداي) وجميع أهل مملكته - وكانت الدولة العلية قد أرادت منه أن يحضر إلا الاستانة فأبى وترك الجغبوب وابتعد عنها ونزل بالكفرة على طريق وداي ومنزلته عند قومه لا تساميها منزلة أحد من الملوك والعظماء وكان قد دعاه أيضاً محمد أحمد المتمهدي السوداني ورغبه في الإسراع إليه ليعقد له على الخلافة بعد ولي العهد فأبى ذلك عليه. وكانت همته منصرفة إلى توطيد عرى الوفاق بين المريدين وتنشيطهم إلى التمسك بالدين

القويم فازدادوا به وثوقاً ولمنزلته تعظيماً حتى ظنوا أنه المهدي المنتظر وفي سنة 1900 م تقدم الفرنسيون إلى البلاد التابعة له ففتحوا (برنو) وقتلوا سلطانهم رابح الزبير ثم استولوا على (باقرمي) ولما لم ينجح السنوسي في رد صدماتهم غمه ذلك كثيراً فضى نحبه سنة 1902م فنقلت حثته إلى (قرو) إحدى أعمال (وداي). ثم خلقه ابن أخيه واسمه أحمد الشريف وهو رئيس السنوسين الآن. فأما عدد السنوسيين فإنه لا يعرفه أحد وذلك لكثرة عددهم وتفرقهم في البلاد الكثيرة المتباعدة والصحارى الشاسعة فهم منتشرون بكثرة في طرابلس وبرقة والجانب الشرقي من الصحراء الكبرى - ووداي جيمعها سنوسيون وكذلك يوجد عدد وافر في تونس والجزائر وبرنو ودارفور والجانب الغربي من الصحراء الكبرى وكذلك في مكة والمدينة وأكثر بقاع الحجاز (وسيأتي الكلام على تاريخ طرابلس في العدد السابع لضيق موضعه هنا).

تاريخ الإسلام

تاريخ الإسلام (المقدمة الثانية) في الأديان تابع هذه كلمة مجملة تمهيدية للكلام على تاريخ الأديان التي كانت موجودة قبل الإسلام ولاسيما في جزيرة العرب وما جاورها وليس علينا في هذا المقام أن نفيض القول في الدين وفي مذاهب العلماء والفلاسفة وأرباب الأديان فيه مما هو خارج عن دائرة المؤرخ وإن لذلك لموضعاً قد نطرق هذا المبحث فيه إن شاء الله. الأديان التي كانت موجودة قبل الإسلام ليس من السهل على المؤرخ أن يستقصى الديانات كلها دقيقها وجليلها فإن ذلك مما يخطئه العد والإحصاء وإنما الذي تناله الاستطاعة هو معرفة الديانات المشهورة التي عرفها التاريخ ولها أتباع معروفون ولذلك سيكون كلامنا في هذه المقدمة على الصابئة والمجوسية والبوذية والبرهمية واليهودية والنصرانية وعبدة الأصنام (المشركين) وبيان ما كان من هذه الديانات في جزيرة العرب وكل ذلك باخصر ما يمكن من القول إن شاء الله. الصائبة من الديانات القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب ديانة الصابئين أو المندائين الذين أرسل إليهم في القديم أخوهم إبراهيم الخليل وجرى بينهم وبينه ما هو معروف ومشهور. ومهد هذه الديانة هي بلاد بابل وآشور أو مهد الإنسان الأول كما يقولون ولذلك أرسل إليهم في القديم أخوهم إبراهيم الخليل وجرى بينهم وبينه ما هو معروف ومشهور. ومهد هذه الديانة هي بلاد بابل وآشور أو مهد الإنسان الأول كما يقولون ولذلك كانت البقية الباقية إلى الآن من أهل هذه الديانة محصورة في بعض البلدان الواقعة على ضفاف الفرات ودجلة قرب مصبهما. وقد اختلف العلماء في أصل هذه الكلمة (صابئة) فذهب علماؤنا إلى أن الصابئة مأخوذة من صبأ عن الشيء إذا مال عنه وانحرف والصابئون قد انحرفوا عن سنن الحق في نبوة الأنبياء إلى عبادة الكواكب أو عدلوا عن التقيد بجملة كل دين وتفصيله إلى محاسن الديانات ومارأوه منها حقاً وكانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم صابئاً والصحابة

الصبأة لأنهم مالوا علما ألفته قريش وعن وثنيتهم إلى الإسلام - هذا مجمل ما قاله علماء اللغة والمفسرون وهو قد يكون صحيحاً في تأويل ما ورد من هذه المادة في القرآن ومعناها كما يريده الكتاب الكريم وفي تبيين معنى هذه اللفظة في اللغة العربية الحيلة وما يريده العرب الفصاح منها أما إذا قصدنا إلى سر تسمية هذه الطائفة بهذا الاسم عند نفسها إن كانت تسمي نفسها كذلك أو إلى معنى هذه اللفظة في أصلها الوضعى فربما كان أقرب إلى المعقول أن يكون اشتقاقها على ما قاله بعض الباحثين في علم اللغات من صبأوت العبرية ومعناها جند السماء دلالة على أنهم يعبدون الكواكب والعربية أخت العبرية وإن كان لا يعرف أيتهما السابقة أو ما هي أمهما - وقد تطورت هذه الديانة تبعاً لتطور أصحابها في أحوالهم الاجتماعية على أطوار شتى وذلك أنها كانت في الأول مبنية على تقديس الكواكب والأجرام السماوية في حين أنها عنوان عظمة الله وجلال خالقها أي أن تقديسها لم يكن إلا تقديساً لله جل شأنه كما هو الشأن في أصل غريزة الدين كما أسلفنا ثم وقفت بعد ذلك عند عبادة الكواكب ولم تعدها إلى ما وراءها أي أن أهلها صاروا يرون الكواكب آلهة. وعبروا على ذلك حيناً من الدهر حتى إذا رأوا الكواكب تختفي بالنهار وفي بعض أوقات الليل رأى فريق منهم أن يجعلوا لها أصناماً وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا أصناماً وتماثيل بعدد الكواكب المشهورة وسموها بأسمائها وفي هذا الطور أرسل إليهم إبراهيم الخليل الذي نشأ في أور الكلدانيين قبل ميلاد السيد المسيح حسبما جاء في التوراة بنحوٍ من ألفي عام وجرى بينهم وبينه ما هو مذكور في القرآن الكريم وقد بينه الشهرستاني صاحب الملل والنحل أحسن تبيين وقد سمي العرب والكتاب دين إبراهيم - الذي خالف به قومه الصابئة - الحنيف حتى صار اللفظتان (صابى وحنيف) من الألفاظ المتقابلة: وقد اضطربت كلمة اللغويين والمفسرين في معنى هذه الكلمة (حنيف) ونحن نورد هنا ما جاء في اللسان بخصوصها قال: وحنف عن الشيء وتحنف مال والحنيف المسلم الذي يتحنف أي يميل إلى الحق وقيل الذي يستقبل قبلة البيت على ملة إبراهيم وقيل هو المخلص وقيل من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيء فهو حنيف وقال أبو زيد الحنيف المستقيم. تعلم أن سيهديكم إلينا ... طريق لا يجوز بكم حنيف وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل: {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً} قال من كان على دين

إبراهيم فهو حنيف عند العرب وقال الأخفش الحنيف المسلم وكان في الجاهلية يقال من اختتن وحج البيت حنيف لأن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت فكل من اختتن وحج قيل له حنيف فلما جاء الإسلام تمادت الحنيفية فالحنيف المسلم. وقال الزجاح نصب (حنيفاً) في هذه الآية على الحال والمعنى بل نتبع ملة إبراهيم في حل حنيفيته ومعنى الحنيفية في اللغة الميل أي أن إبراهيم حنف إلى دين الله ودين الإسلام (والمراد بالإسلام هنا معناه الأصلي كما قدمنا في أول هذه الكلمة) وإنما أخذ الحنف من قولهم رجل أحنف ورجل حنفاء وهو الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها بأصابعها وقال الجوهري الحنيف المسلم وقد سمي المستقيم بذلك كما سمي الغراب أعور وتحنف الرجل أي عمل عمل الحنيفية ويقال اختتن ويقال اعتزل الأصنام وتعبد قال جران العود: ولم رأينا الصبح بادرن ضوءه ... رسيم قطا البطحاء أوهن أقطف وأدركن أعجازاً من الليل بعدما ... أقام الصلاة العابد المتحنف إلى آخر ما جاء هناك مما لا يكاد يغاير ما أثبتناه هنا - وكل ما قاله اللغويون في ذلك على أن ظاهره الخلاف فإنه مجمع على أن الحنف الميل فإما ميل عن الشيء وهو أصل معناه وأما ميل إليه وقد تكلفوه من تسمية دين إبراهيم به أما الحنيفية فكالإسلام كلتاهما من الألفاظ التي انتقلت من وضعها الأصلي إلى معنى اصطلاحي لمكان المناسبة بينهما فدين إبراهيم حنيفاً لأنه مال عن دين الصابئة دين الأصنام وعبادة غير الله إلى دين يخلص إلى الله التوحيد والعبادة ويشتمل من أنواع العبادة وضروب الفطرة على الحج إلى بيت الله والاختتان وما إليهما فهذا مثار ما ترى من ذلك الغبار - قلنا إن الصابئة لما رأت الكواكب تختفي بالنهار وفي بعض أوقات الليل تخذت لها أصناماً وتماثيل على مثل الكواكب والنيرات فكان ذلك دليلاً على أنهم ما كانوا في الأصل ليعبدوا الأصنام لذاتها وإنما لتقربهم إلى الله أو إلى الكواكب وتقوم مقامهم - قال شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية في كتابة (إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان) الصابئة هم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه وهو مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى فمنهم عباد الشمس. زعموا أنها ملك من الملائكة

لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها وهي عندهم ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والدعاء. . ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنماً بيده جوهر على لون النار وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث مرات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعونه ويستشفون به وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها وإذا غربت وإذا توسطت الفلك. . وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنماً وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه. تدبير هذا العالم السفلي ومن شريعة عبادته أنهم اتخذوا له صنماً على شكل عجل أو نحوه من ذوات الأربع وبيد الضم جوهرة يعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياماً معلومة من كل شهر ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات بين يديه. . ومنهم من يعبد أصناماً اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم. وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وعبادة تخصه - وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام فإنهم لا تستمر لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه. ومن ههنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناماً زعموا أنها على صورتها فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعل الصنم على شكله وهيئته وصورته ليكون نائباً منابه وقائماً مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلاً لا ينحت خشبه أو حجراً بيده ثم يعتقد أنه الهه ومعبوده انتهى كلام ابن قيم. وهذا الذي قاله ابن قيم منذ ستة قرون هو الذي أطال في شرحه كارليل في كتابه الأبطال وجملته أن عبادة الأصنام في الأصل كانت لأن الصنم يمثل الإله وإن الإله كائن وفيه بشكل ما وكذلك فكل عبادة أية كانت هي عبادة بالرموز أو بالأشياء المنظورة وسواء تمثل الإله للعين الخارجية في صورة منظورة أو للعين الداخلية أعني للذهول أو للخيال فإنما هو فرق عرضي لا جوهري إذ لا تزال تبقى هذه الحقيقة وهي أن هناك شيئاً ينظر - بالعين أو بالذهن - دليلاً على الأدلة أعنى وثنا. وليس يخلو أورع الناسكين وأولع المتصوفين من الممثلات الذهنية للأشياء المقربة وبها يعبد الله ولولاها ما وجد للعبادة سبيلاً -.

أخبار الخوارج

أخبار الخوارج للإستاذ الشيخ أحمد سليمان العبد أحد خريجي مدرسة الفضاء الشرعي بسم الله الرحمن الرحيم والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله أجمعين مقدمة إن ماجاء به هذا الدين من نبذ الحال التي كان عليها كثير من الأمم في ذلك العهد من تقديس شخص من أفرادها وتغاليها في الخضوع لمليكها ورفعها إياه إلى منزلة الأله الواحد القاهر وما نشره هذا الدين المحكم من المساواة بين الناس لأفضل لأحد على غيره في الحقوق العامة - لا يعظم شريف أمام هذا الدين فيميل معه في اغتصاب ضعيف ما له ويعينه على انتهاك عرض ذليل ضئيل. إن كل هذا قد بث في الأمة الإسلامية روح الصراحة في القول وجملها بثوب الشجاعة الأدبية - وجعل أفرادها يستعذبون الموت الزؤام. إذا حال بينهم وبين الجهر بخطل ما يرونه خطأ. سواء أخطأوا في الواقع أم أصابوا. وكأني بهذا المبدأ (مبدأ المساواة) وهو ناصر النفس وعضدها القوي الذي يزيل عنها الخور والخمول ويخرج بها إلى واد فسيح من الحياة الشريفة تجديه رقيها ورفعتها ويقذف بها في ميدان شاسع من الشجاعة الأدبية فيشيد الإنسان لنفسه ولأمته بذلك صرحاً من الشرف باذجاً يهرم الدهر وهو يتريع شباباً وتنفد الأيام وهو يتجدد ذكراً وثناء. ومن هنا يظهر السبب الذي دفع كثيراً من أفراد المسلمين في الصدر الأول من الإسلام إلى إظهار رأيهم في المواقف الحرجة والمآزق الضنكة. فلا غرو بعد هذا أن ينظر الإنسان في التاريخ الإسلامي فيرى العباس ابن مرداس السلمي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم عقيب تفضيله رجالاً من المؤلفة قلوبهم من المسلمين بزيادة عطائهم من غنائم (حنين) فيقول في شعره. وكانت نهاباً تلافيتها ... بكرى على أطهر في الأجرع وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع

أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينه والأقرع وقد كنت في الحرب ذا تدرأ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع إلا افائل أعطيتها ... عديد قوائمه الأربع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهمو ... ومن تضع اليوم لا يرفع فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضي بالعطاء. ولا عجب أن يغضب عمر بن الخطاب من أبي بكر رضي الله عنهما لأنه لم يجبه إلى القود من خالد بن الوليد لما قتل هذا مالك بن نويرة في حروب الردة - وأن يقوم عمر إلى خالد إبان دخوله المسجد وينزع اسهماً كانت حلية عمامة خالد ويحطمها بحضور أبي بكر الصديق وهو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار وأول من آمن به من الرجال وإن كان قتل خالد مالكاً ناشئاً عن سوء تفاهم لاختلاف اللغات في جزيرة العرب كما تواتر هذا في أساطير المؤرخين ولا غرابة من أن عمر بن الخطاب (ض) مع شدته وارجافه قلوب العرب لم تمنع درته ذلك الأعرابي الذي جاء إليه عصر خلافته يستفتيه في أمر عرض له فلما أخبره بحكم الله صرح ذلك الأعرابي بما أخذه على أمير المؤمنين (ض) وكان من خبر هذه الواقعة أن رجلاً أعرابياً واسمه قبيصة بن هانئ أتى عمر بن الخطاب (ض) فقال أني أصبت ظبياً وأنا محرم فالتفت عمر إلى عبد الرحمن بن عوف وقال قل - فقال عبد الرحمن يهدى شاة - فقال عمر للأعرابي اهد شاة. فقال الأعرابي والله مادرى أمير المؤمنين ما فيها حتى استفتى غيره فخفقه عمر بالدرة وقال أتقتل في الحرم وتفحص الفتيا ان الله عز وجل قال {يحكم به ذوا عدل منكم} فأنا عمر بن الخطاب وهذا عبد الرحمن بن عوف. وما حديث هذا المعنى في عهد عثمان بن عفان بالأمر المستور خبره أو المعفى أثره. هذا وإن نتائج هذا المبدأ (مبدأ المساواة) قد أينعت ثمارها وظهرت بأجلى صورها في عصر ذلك الرجل الورع التقى الطاهر القلب السليم الطوية الحسن النية النبيل الذكر الشريف النفس الصابر على البلاء المتجنب الكبرياء اعلم أهل دهره بكتاب ربه وسنة نبيه وصى النبي المصطفى وابن عمه سيدنا علي كرم الله وجهه.

فقد خرج عليه قوم كثير عددهم شديد بأسهم لأمر أخذوه عليه ورأوه غير مرضى لديهم ودافعوا عن رأيهم ذلك بالسيف والرمح واللسان أشد دفاع حتى أكلتهم الحروب وذهبت شوكتهم وفنى سوادهم ولم ينج منهم إلا من لا يرفع الناس به رأساً ولا يشغل أمرهم رأي أحد - وهؤلاء هم (الخوارج) الذين عزمنا على ذكر أخبارهم وحروبهم إن شاء الله. أخبار الخوارج كان من خبر هذه الطائفة أنهم لما رأوا ما فعله عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان في وقعة (صفين) من رفع المصاحف على أطرا الرماح وقتما أحسا بالهزيمة - حملو سيدنا علياً (ض) على ترك القتال فأبى ذلك عليهم وتردد كثيراً وأبان لهم أن هذه خدعة فلم يقبلوا ذلك منه فطاوعهم مكرهاً. ثم تخابر الجيشان في الأمر فعينا حكمين ليفصلا في شأن إمارة المؤمنين وهما عمرو بن العاص من قبل معاوية وأبو موسى الأشعري من جهة على وذلك في شهر صفر سنة 37 فسكن الهرج على أن يكون حكم الحكمين في رمضان من تلك السنة ولما اجتمع الحكمان وختل عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري فخلع هذا عليا وأثبت عمرو صاحبه عاد سيدنا علي إلى مطاولة معاوية ومقاومته لخطأ الحكمين وتركهما مراعاة السنة والكتاب وما سجل عليهما في كتاب عقد الصلح. وعند ذلك قام هؤلاء القوم الذين أكرهوا علياً كرم الله وجهه أولاً على ترك القتال وقبول التحكيم - وثانياً - على تعيين أبي موسى حكماً واجتمعوا في دار زيد بن حصين الطائي وبايعوا عبد الله بن وهب الراسي ثم الازدي وذلك لعشر خلون من شوال سنة 37هـ -. فلما بلغ أمرهم علياً كرم الله وجهه بعث إليهم ابن عباس (ض) مرات لمناظرتهم وكذلك توجه إليهم بنفسه. فمن مناظرة ابن عباس لهم أنه قال لهم ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين - قالوا قد كان للمؤمنين أميراً فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان فليتب بعد أقراره بالكفر نعد له فقال ابن عباس لا ينبغي لمؤمن لم يَثُب إيمانه شك أن يقر على نفسه بالكفر - قالوا إنه قد حكم قال ابن عباس إن الله عز وجل قد أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال عز وجل: {يحكم به ذوا عدل منكم} فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين - فقالوا أنه قد حكم عليه فلم يرض

فقال أن الحكومة كالإمامة ومتى فسق الإمام وجبت معصيته وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما - فقالوا له إذا كان على حق لم يشكك فيه وحكم مضطراً فما باله حين ظفر (في واقعة الجمل) لم يسب فقال ابن عباس (ض) أفكنتم سابين أمكم عائشة فوضعوا أصابعهم في آذانهم وقالوا أمسك عنا غرب لسانك يابن عباس فأنه طلقٌ زلقٌ غواص على موضع الحاجة. ومن مناظراتهم مع علي كرم الله وجهه أنه قال لهم ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لم رفعوا المصاحف قلت لكم إن هذه مكيدة ووهن وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني ثم سألوني التحكيم أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني قالوا اللهم نعم. قال فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل فإن خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء أو أنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني قالوا اللهم نعم ثم قالوا الله نعم ثم قالوا قد حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرون بأنا قد كفرنا ونحن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشام - فقال علي (ض) أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأة فقال تبارك وتعالى {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} وفي صيد أصيب في الحرم كأرنب يساوي ربع دينار فقال عز وجل {يحكم به ذوا عدل منكم} فقالوا إن عمراً لما أبى عليك أن تقول في كتابك: هذا ما كتبه عبد الله على أمير المؤمنين: محوت اسمك من الخلافة فقلت عليُّ بن أبي طالب فقال لهم رضي الله عنه لي برسول الله صلى الله عليه وسلم اسوة حسنة حيث أبى عليه سهيل بن عمرو ان يكتب هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو فقال له لو أقررنا بأنك رسول الله ما خالفناك ولكن أقدمك لفضلك ثم قال اكتب محمد بن عبد الله فقال لي يا علي أمحُ رسول الله فقلت يا رسول الله لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة فقال عليه الصلاة والسلام قفني عليه فمحاه بيده عليه السلام ثم قال اكتب محمد بن عبد الله. ثم تبسم إلي فقال ياعلي أما أنك ستسام مثلها فتعطي - فرجع معه منهم ألفان. ثم ظهروا بعد ذلك بحروراء: بناحية الكوفة: ولذلك أطلق عليهم الحرورية وكانوا إذ ذاك في جيش عظيم وجمع كبير فتوجه إليهم علي كرم الله وجهه فقاتلهم قتالاً شديداً حتى أبادهم إلا تسعة رجال منهم فأنهم أفلتوا من الحرب.

فذهب اثنان منهم إلى عمان والتجأ اثنان آخران إلى كرمان وفر اثنان كذلك إلى سجستان وقصد اثنان آخران الجزيرة وذهب تاسعهم إلى (تل مورون) ياليمن وانبثوا بين ظهراني أصحاب تلك البلاد يرغبون الناس في مقالتهم ومذاهبهم حتى اتبعهم خلق كثير عددهم. هذا - ولم يمنعهم انقسامهم على أنفسهم ومحاربة بعضهم بعضاً لاختلاف بينهم في بعض الفروع - عن أن يشغلوا بال أمراء الإسلام من الدولة الأموية في الشام والدولة الزبيرية في الحجاز فقد أشعلوا نار الحرب الزبون مدة مديدة على الدولتين وأخافوا القواد والشجعان وهم في منازلهم واستولوا على كثير من البلاد العظيمة الإسلامية مثل كرمان - ومكران - وكازون - وفارس والمدائن - وأرجان ورام هرمز وسلا وسليرا وغير ذلك. وقد أحاطوا بالبصرة حتى ترحل أكثر أهلها منها وكان الباقون على الترحل - ولم يكسر شوكتهم ويفلل حدهم إلا الملهب بن أبي صفرة فأنه لما تولى قيادة جيش الأمويين هزم الخوارج إلى الفرات ثم إلى الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ولم يفلت منهم بعد أن لبث يحاربهم مدة تتجاوز العشرين عاماً إلا بعض قليل ذهب فريق منهم إلى المغرب الأقصى وأسس مذهب الاباضية هناك وهي إحدى فرق الخوارج - ولها ذنب دقيق إلى الآن لا يكاد يظهر. واختفى فريق آخر في الصوامع والجبال يتزهد ويعبد الله فمنهم من ظفر أمراء الأمويين به كعروة بن أدية فقتلوه ومنهم من مات حتف أنفه.

آثار تاريخية

آثار تاريخية آثار مصرية - آثار فارسية - آثار يابانية - آثار عربية - آثار رومانية الحكمة المشرقية وهذا هو مجموع الآثار الأولى الثلاثة قال الفاضل محمد لطفي جمعة معرب هذا الكتاب ومهديه إلى البيان: الحكمة المشرقية هو كتاب ذو أجزاء ثلاثة الأول يشتمل حكم فتاحوتب وزير الملك ايسوسي احد ملوك الأسرة الخامسة كتبه يعلم ابنه الحكمة ويرشده وهو من الكتب النادرة التي بقيت من آثار الأدب المصري القديم الجزء الثاني يشتمل (جولستان) أو روضة الورد في الحكمة والزهد والأمثال لحكيم الفرس وشاعرها الأشهر مصلح الدين سعد الشيرازي من أهل القرن السادس للهجرة وشهرة هذا الكتاب تكفي في الدلالة على مايحتويه الجزء الثالث في تربية الاناث اليابان وضعه أحد مشهوريهم في القرون الوسطى وله مقدمتان الأولى في تاريخ نهضة اليابان الحديثة والثانية في موضوع الكتاب - وهذا هو الجزء الأول من كتاب الحكمة المشرقية وقد وضع له العرب الفاضل ثلاث مقدمات قال حفظه الله. المقدمة الأولى كانت حكم فتاحوتب لدي قدماء المصريين من الكتب المعتبرة حتى أنهم كانوا يعلمونها أولادهم في المكاتب والمدارس ويقرأونها في المنازل والمجالس لهذا عثر البحاثون في الآثار المصرية على نسخ عدة من هذا الكتاب النفيس ولا يخفى أن كثيراً من الكتب النافعة الممتعة وجدت حيث كانت معاهد العلم ولولا تعدد نسخها ما عثرنا ببعضها بعد مرور ستين قرناً من تاريخ تأليفها وانتشارها. وقد علمنا من ورق البابيروس (البردى) أن طلاب دار العلوم المصرية القديمة كانوا يكتبون في اليوم ثلاث صفحات من حكم فتاحوتب ليحسنوا خطوطهم ويهذبوا نفوسهم وليتخرجوا في فنون البلاغة والإنشاء لسلاسة أسلوب الحكم والنصائح المذكورة وتلك الكراسات التي كتبها شبان المصريين القدماء هي التي يصرف محبوا الآثار في هذا العهد أيامهم ويوقفون أعمارهم على البحث عنها والتنقيب عليها ونقلها من اللغة القديمة إلى اللغات الحديثة لينعم أبناء هذا العصر نظرهم في حكمة أبناء القرون الغابرة.

أما النسخة الأصلية التي فسرها العلامة باتسكومجن العالم الأثري الإنجليزي وهي معتمدنا في هذا التفسير العربي فقد عثر بها العلامة المؤرخ الفرنسي بريس دافن ومعها غيرها من الآثار الأديبة في شتاء عام 1847 وذكر هذا المؤرخ أنه شراها من فلاح مصري كان يعمل في الحفر والتنقيب على مقربة من مقابر طيبة ويذهب البعض إلى القول بان تلك الآثار الأديبة الثمينة وجدت في أجداث ملوك حنتف وهم أفراد الأسرة الحادية عشر التي أقام امنمحعت الأول على إنقاضها دعائم دولته وانتزع الملك من آخر ملوكها وحصره في أسرته الثانية عشر. وقد اهدى العلامة بريس دافن هذه النسخة إلى دار الكتب الملكية بباريس حيث لا تزال معروضة لأنظار الزائرين وطول القرطاس التي كتبت فيها حكم فتاحوتب بالذراع البلدي ثمانية ونصف وعرضها ذراع وهذا قياس البابيروس المعروف لهذا رجح المؤرخون رأي القائلين بالعثور بتلك الأوراق في قبور الملوك. أما ورقة البابيروس المذكورة فمؤلفة من ثماني عشرة صفحة مكتوب بعضها بالمداد الأسود وبعضها بالأحمر. ويحسب رائيها لأول وهلة أنها حديثة لأن طول القدم لم يصبها بآفات التبديد والتشتيت حتى إذا تبينها وقلب صفحاتها ظهر له أنها لم تنج من آفات القدم التي اغتالت بعض الأوراق وتركت البعض الآخر أثراً بعد عين. ومما أبقاه لنا الدهر من أوراق ذلك العهد كتاب كامل وهو حكم فتاحوتب وآخر ناقص وهو نصائح كاجمني أما نسبة الكتاب الثاني إلى كاجمني فمن باب الحدس والتخمين لأن العث لم يبق على شيء يستدل منه على اسم واضع الكتاب ولأن المفسرين لم يعثروا فيه من أوله إلى آخره إلا على علم واحد وهو كاجمني فظنوه اسم واضع السفر. وأهمية هذا الكتاب هي في أنه أقدم ما كتبه البشر حسبما نص علماء الآثار أما تاريخ الكتاب الكامل الشامل لحكم فتاحوتب فمعروف ولا خلاف في أمره لأن مؤلفه ذكر عن نفسه أنه وضعه في عهد الملك ايسوسي وهو آخر ملوك الأسرة الخامسة فكأن فتاحوتب وضع كتابه في القرن السادس والثلاثين قبل المسيح أي منذ خمسة آلاف وخمسمائة سنة. والعجيب في أمر هذا الكتاب وغيره مما كتبه المصريون الأقدمون أنها لا تزال جديرة باعتبار القراء في كل زمان ومكان. وقيمة حكم فتاحوتب عظيمة لأنها تشمل الشريعة

الأدبية في قالب نصائح تهذيبية يلقيها على ولده وخليفته وزير خبير بشؤون حياة مصر الاجتماعية. فلعل أبناء اليوم يستفيدون من نصح ذلك الحكيم وإرشاده كما استفاد أجدادنا الأوائل وقد نكون إلى هذا النصح منهم أحوج وهو بنا أجدر وأخلق. المقدمة الثانية في كتاب حكم فتاحوتب أقل ما يقال في وصف هذا الكتاب المستطاب أن واضعه لم يترك بحثاً اجتماعياً إلا وطرق بابه ولم يدع موضوعاً أخلاقياً إلا وخاض عبابه فبينا تراه يذكر آداب الجدل والبحث ويصف كل مجادل ويشرح ما ينبغي في حقه كالإذعان لذي الحجة أو الرد عليه بالتي هي أحسن أو الاعراض عنه بلطف حسبما يقتضيه خلقه وتدعو إليه حاله إذا هو ينصح لابنه أن يغضي لأيدي الأمراء والحكام وأن يسترشد العلماء والمرشدين ليهتدي بهديهم ويتعظ بخبرتهم وتجاربهم. ولم يكن نصح فتاحوتب قاصراً على تلك المسائل التهذيبية بل تناول أهم المسائل الاجتماعية فشرح مايليق بالرجل نحو المرأة وما يجب في حق الوالد على الولد وأفاض في وصف معاملة الخدم وأمر بالإحسان إليهم والعطف عليهم وذكر حقوق الاجراء والعمال على أرباب المال والأعمال. وإذا حاولنا أن نلخص حكم فتاحوتب في كلمة واحدة تكون شعاراً لمبدئه في الأخلاق فلا نختار لذلك أفضل من قوله كن محبا للخير والناس تكن سعيداً في الدنيا والآخرة ولكنا نأخذ على الحكيم المصري أنه لم يكن يرمي إلى نشر المبدأ الذائع لدى علماء الأخلاق وقادة الأفكار من أهل المدينة الحديثة وهو حب الخير لذاته وإنما كان يذكر على الدوام أن الطاعة والخضوع وفعل الخير والتأدب في الحديث والاعتدال في العيش والاحسان إلى الفقراء تؤدي جميعها بالمرء إلى السعادة. وبعبارة أخرى يقول فتاحوتب للإنسان إنك إذا أطلعت أباءك في صغرك وولي أمرك في كبرك وأحسنت السياسة في رئاستك وغمرت بكرمك خدمك وحشمك ومن يلوذ بك واعترفت بذنوبك وتبت عنها إلى الله فإنك تنال رضى الملوك وتبلغ أسمي الدرجات وتكون لدى الله من المقربين. ويرى القارئ أن الرادع الذي استعان به فتاحوتب لصد البشر عن فعلا الشر هو رادع مادي محض أو هو من قبيل أعمل تؤجر وهذا الرادع المادي من وضع حكماء الشرق

الأقدمين. وكان هؤلاء الحكماء يفضلونه على الرادع الأدبي وهو محاسبة النفس وتأنيب الضمير لا لأنه أفضل منه بل لأن قيادة العامة بواسطته أسهل فهو من هذه الوجهة وحدها أولى وأنفع وعلى هذا المبدأ جاءت الديانات كلها فلا سبيل للاعتراض عليه إلا بالاعتراض عليها. وقد يأخذ بعض الناقدين على الحكيم فتاحوتب أغفاله ذكر أمور شتى كالرفق بالحيوان فإنه لم يذكر في قانونه كلمة في هذا الشأن مع أن التاريخ لا يحفظ ذكر أمة كانت أرفق بالحيوان من الأدمة المصرية التي وصل بها حبها للأنعام وإشفاقها عليها أنها حرمت ذبحها أو قتلها وجعلت منها آلهة اتخذتها للعبادة وانتحلت لذلك أسباباً وأعذاراً شتى. وقد عثر النقابون في قبر فتاحوتب واضع هذا الكتاب على سطور منقوشة مؤداها أنه كان يستدعي في كل صباح قرداً وثلاثة كلاب يطعمها بيده ويمسحها إشفاقاً منه عليها ويؤخذ هذا الخبر وغيره من الأخبار دليلاً داحضاً على أن الحكيم لم يغفل ذكر بعض الأخلاق الفاضلة والعادات المستحبة إلا لأنها كانت مشاعة لدى أمته. ومن المسائل الجديرة بالنظر ذكر المؤلف لإله واحد غير متعدد (مع العلم بتعدد آلهة المصريين) ووصفه ذلك الإله الفرد بأنه يعاقب المذنب ويثيب المحسن ويعطي السائل وينظم الكون ويحب مخلوقاته ويرقب أعمالهم حسنها وسيئها ويكلأهم بعين لا تأخذها سنة ولا نوم ويرى القارئ أن هذه الصفات اسمي ما يوصف به الخالق سبحانه وتعالى ولو كان الواصف من أساتذة اللاهوت في النصرانية أو علماء الكلام في الإسلام. فهل كان فتاحوتب موحداً كإبائه الكهنة وكان يريد بتوحيد الله في كتابه التصريح والاعتراف بالوحدانية من طرف خفي ولسنا نخوض عباب هذا البحث لأنه يدخل في باب الحكم على الغائب بالغيب وهذا الحكم لا يصدق إلا مصادفة وليس للمصادفات مجال في ميدان الحقائق إنما نجيب على هذا السؤال بما يظهر لنا ويجوز موافقته للحقيقة مع خروجه عن حد الفرض المستحيل فنقول ربما رغب الحكيم أن يكون لحكمه تأثير نافع في انتشار كتابه في سائر المدن والأقاليم فرمز لله بأنه الفرد القادر على كل شيء ذلك لأن أهل كل مدينة مصرية قديمة كان لها إله خاص لهم كآمون بطيبة وفتاح بمنف وغيرها من الأرباب فلو أنه ذكر واحداً من تلك الآلهة المتعددة لكان نصيب كتابه من التأثير قاصراً على أهل بلد دون غيره

لذا ذكر المؤلف لفظ الجلالة مطلقاً غير مقيد بزمان أو مكان أو اسم معروف فكان أبناء كل بلد يقرأون الحكم ويقفون على ذكر الله المطلق فيحسبون أن المقصود هو ربهم وقد انطلت تلك الحيلة الدقيقة على قدماء المصريين فكانوا إذا رأوا ذكر الله الغفور المحسن المعطي توجه كل بقلبه ولبه إلى معبوده وربه وها نحن نكتفي بجواب الأثري المصري الوحيد أحمد كمال بك في محاضرة ألقاها بنادي المدارس العليا في خريف 1907 عن التوحيد عند قدماء المصريين قال: قال تعالى {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} هذه هي صيغة التوحيد عند المسلمين وهي موافقة تقريباً للصيغة التي كان يدين بها المصريون قبل عصر الملوك ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية وجدت في أوراق البردي القديمة - وهنا ترجم الخطيب صورة لهذه الصيغة رسمها على لوحة الطباشير بما يأتي: الله وحده لا ثاني له يودع الأرواح في الاشباح. أنت الخالق تخلق ولا تُخلق خالق السموات والأرض وأخذ الخطيب يبين للحاضرين دلالة الرسوم الهيروغليفية على معانيها فذكر أن الله كان يرمز له بصورة رجل مهيب جالس على كرسي وأن لا النافية يرمز لها بذراعين ممدودين على خط مستقيم وإن الأرواح يرمز لها بثلاثة من الطير وبهذه المناسبة ذكر الحديث المشهور (أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر) وتكلم على ما يعتقده عامة اليوم من (تقمص أرواح الموتى للذباب الاخضر) وإن العابد يرمز له برجل رافع يديه تعبداً والأرض بقوس تحته حصى. وقال إن الافرنج كانوا يعتقدون إلى ماقبل عشر سنين أن قدماء المصريين وثنيون ولكن زال هذا الاعتقاد باكتشاف هذه الصيغة التي يعززها عدم وجود أصنام في مقابر ذلك العهد القديم. من أين التوحيد لقدماء المصريين على هذه الصورة؟ أتاهم التوحيد من نوح عليه السلام فقد كان موحداً بدليل قوله تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} والخطاب للمسلمين الذين قدمنا عقيدتهم في التوحيد وهنا يتجه اعتراض مؤداه أن الشرك كان شائعاً عند قدماء المصريين بدليل قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {أءرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} ومعلوم أن يوسف كان سجيناً عند

فرعون مصر. ونجيب على هذا بأن عقيدة الشرك لم تدخل مصر إلا مع العرب الذي دخلوا مصر في العهد القديم أي قبل عصر الأسرات ولذلك كان المصريون يطلقون على بلاد العرب اسم بلاد الوثنية - ثم ذكر الخطيب أن الوثنية سليلة بلاد العرب بدليل أن محمداً صلى الله عليه وسلم وجد بالكعبة 365 صنماً فهشمها ثم أكد الخطيب أنه جمع أسماءها العربية فوجد أسماء تشابهها في اللغة الهيروغليفية مما يدل على نقلها من العربية وضرب مثلاً بضم اسمه بوانه الذي حرفه الفرنج فجعلوه فينكس لأن الباء تنطق في الهيروغلفية كالفاء وقد ذكر العرب هذا الصنم باسم فقنس وقال أصحاب الأساطير أنه طائر يأتي من جزيرة العرب ويقف على معبد عين شمس ثم يرفرف بجناحيه فيتقد ناراً تلتهمه ثم يخلق منها ثانية وما نقله العرب هذا حديث خرافة كالخرافات اليونانية. ومن هذه الأصنام العربية اللات والعزى ومنات وإن لها ذكراً في اللغة الهيروغليفية مع بعض التحريف ثم سئل الخطيب كيف تغلب الشرك على التوحيد فقال أن ذلك راجع إلى قوة المتغلب وسئل عن صيغة التوجد التي أوردها آنفاً فقال أنها موجودة في أوراق البردى القديمة ثم استطرد إلى تعريف البردى فقال أنه نبات يزرع في الوجه القبلي وتخرج منه غلة تشبه القمح كان المصريون يقتاتون منها وذكر أنهم كانوا يأخذون أوراقه ويلصقونها بعضها ببعض بالصمغ وقد وجد الخطيب منها قطعاً يبلغ طول بعضها ثلاثة أمتار. أما اللوتس (البشنين) فإنه يزرع في الوجه البحري وهو ينتج ثمرة مثل الشعير كانوا يقتاتون بها أيضاً ويختلف عن البردي في أن أوراقه مسننة لا مستديرة وقد سطر المصريون على هذه الأوراق علومهم من طب وهندسة وحساب ورؤى فيها تمرينات على هذه العلوم ومسائل وأشكال هندسية. ثم قال حضرة الخطيب أن هذين النبتين يرمز بهما لمن حكم الوجهين البحري والقبلي فإذا رأينا كرسياً مرسوماً عليه صورة البردي واللوتس عرفنا أن الملك الجالس عليه كان يحكم الوجهين البحري والقبلي لأن من يملك الغذاء يملك الرقاب المقدمة الثالثة تاريخ الأسرة الخامسة المصرية التي دونت في عهدها حكم فتاحوتب

كانت منفيس وما والاها من المدن مقر ملك الأسرة الخامسة المصرية التي بدأت دولتها في وادي النيل سنة 2750 ق. م أي منذ ستة وأربعين قرناً وكان ملوك تلك الأسرة إذا ورت أحدهم الملك وتربع في دست سلفه أضاف إلى اسمه لقب ري وقد حقق المؤرخون أن الكهنة هم الذين نصحوا الملوك تلك الأسرة بإسناد هذا اللقب إلى أسمائهم لأن فيه رمزاً دينياً يجعل دار الملك مرتبطة أبداً بالسلالة المقدسة ومعنى ذلك تسليم الملوك أمورهم جلها أو كلها لرجال الدين وإشراكهم في النفوذ والسلطان ودليل المؤرخين على ذلك أن الكهنة حاولوا إقناع أفراد الأسرة الرابعة وكلهم من الجبابرة العتاة بناة الأهرام الكبرى ومؤسسوا الآثار الخالدة أن يشفعوا هذا اللقب الديني (ري) بأسمائهم فلم يرض ملوك تلك الأسرة ولم يفلح الكهنة في سعيهم. ومما يؤكد ويؤيد حجة المؤرخين في قولهم بخضوع الأسرة الخامسة لرجال الدين واستسلامهم لهم أن الكهنة فرضوا على كل ملك من ملوكها أن يبني على مقربة من قصره معبداً فخيماً يسميه هيكل الشمس المقدس وكانت هذه الهياكل تمتاز عن غيرها بأنها مربعة الشكل وفي كل واحد منها غرف رحيبة وفي مؤخر المعبد مرتفع من البناء عليه مسلة منقوشة باذخة يرمز بها إلى إله الشمس رافعاً رأسه إلى السماء. وكانت غرف المعبد المذكورة آنفاً مزدانة بالصور والنقوش التي تمثل منابع النيل وما حولها من البحيرات والجبال وفي بعضها صورٌ تمثل الصحراء الواسعة الأكناف والبحر المحيط المترامي الأطراف وبعضها يمثل أهل مصر في مزارعهم ومتاجرهم ومصانعهم. وكان في كل معبد مكان خاص بالملك يصور فيه حوادث عهده الحربية والسلمية ويظهر ان الكهنة الذين أشاروا على ملوك الأسرة الخامسة بتشييد تلك المعابد أمروهم بالعناية بها ووقف ريع الضياع والحقول عليها وتعهدها من حين إلى حين بالهدايا والتحف وكانت تلك الهياكل في الواقع كأديرة النصاري وتكايا المسلمين يقتسم خيراتها من الكهنة من تقدم في السن أو لحقته الأدواء والعاهات العائقة عن القيام بشعائر الدين وقد انضم بعض شبان الكهنة إلى مشايخهم حيث كانوا يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل وحث الناس عليها ويذكر المؤرخون إن ذلك العهد كان بدء نهضة علمية أدبية ففي أيام الملك ايسوسي آخر ملوك الأسرة الخامسة نشأ حكماء فضلاء وكتاب مجيدون أشهرهم واضع هذا السفر الجليل الوزير فتاحوتب (الفتاح العليم) وهو وزير مصر ومحافظ المدينة وقاضي القضاة ووارث

كهنة فتاح. وكانت تلك النهضة الأدبية معززة بنهضة سياسية أخرى لأن ملوك تلك الأسرة تنازلوا عما كان عليه أسلافهم من البطش والتفرد بالسلطة المطلقة وأذنوا لاكابر وزرائهم باقتسام نفوذهم والاشتراك معهم في تدبير شؤون الملك وقد وصل الأمر بالوزراء إلى أنهم انتحلوا لأنفسهم لقباً ثابتاً هو لقب فتاحوتب فكان فرعون في الإمارة وفتاحوتب في الوزارة ثم أن الوزير الأكبر كان يترك منصبه لابنه يرثه بعده كما كان الملوك يورثون الملك بعضهم بعضاً فكأن البلاد كانت في الواقع محكومة باسرتين متضامنتين متكافلتين ومنشأ هاتين الاسرتين من الكهنة ورجال الدين الذين تغلبوا على أذناب الأسرة الرابعة فغلبوهم على أمرهم وانتزعوا الملك من أيديهم ثم اقتسموه بينهم فكان الملك نصيب كهنة مدينة الشمس هليوبوليس والوزارة نصيب كهنة فتاح وهم لا ريب أضعف من كهنة مدينة الشمس نفوذاً وأقل شأناً وشأواً. وهذه الحقيقة التاريخية تعلل تساهل ملوك الأسرة الخامسة مع رجال الدين واستسلامهم لهم تعليلاً حسناً لأنه لولا ذلك اللين وتلك المحاسنة مااستطاع فريق من رجال الدين أن يستقل بالملك مادام الكل يطمع فيه والشعب المصري المسكين يمرح في نعيم الجهل بعد أن حجب هؤلاء الخونة المستبدون من رجال الدين وغيرهم عنه نور العلم وضياء المعرفة وخلوه يرسف في قيود الذل ويعمه في ليل من الغفلة ولولا ذكر بعض حسنات الكهنة في كتاب بعض المؤرخين وثقتنا بهم وسعة اطلاعهم لارتبنا في وصفهم كهنة الأسرة الخامسة بالصلاح وقولهم عنهم أنهم كانوا في معابدهم يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل وحث الناس عليها. بيد أن القوة المهولة الساهرة على حياة الشعوب التي لا تأخذها سنة ولا تغفل عما يفعل الظالمون انتقمت للضعفاء من الأقوياء وانتصرت من الباطل للحق فحدث ما كان في الواقع نتيجة منطقية لتلك المقدمات وهو أن عمال الحكومة كبارهم وصغارهم رأوا كيف انتزع الكهنة الملك من أيدي أصحابه وتعلموا على أيديهم طرق الاغتيال فسنوا لأنفسهم سنة جديدة وهي أن يورثوا أولادهم مناصبهم من بعدهم فكان كل عامل يخلفه ولده ليكون خير خلف لخير سلف. . وبعبارة أخرى كانت الحكومة المصرية في ذلك العهد وراثية (بيروقراطية) وفي هذا النظام من منازعة الحكام والعمال للملوك نفوذهم مالا يخفى لأن كل حاكم أو عامل في الحكومة يرى لنفسه حقاً وراثياً فيها فلا يستطيع الملك أن ينال من

السلطة مالا يود عماله ولما كان أغلب صغار الحكام من طبقات الأمة المتوسطة سرت روح الحرية شيئاً فشيئاً حتى بلغت الفئات النازلة. ثم أن الملوك أنفسهم كانوا يقرون بفضل فئة من أشراف المصريين عضدتهم وشدت أزرهم ورفعتهم إلى عرش الملك فكانوا يملقون هؤلاء النبلاء ويسبغون عليهم ذيول العز ويغمرونهم في كل آن بوافر النعم وجزيل الإحسان حتى إن أول ملك من ملوك الأسرة الخامسة استعمل على مصر السفلى حاكماً كان قبل نبيلاً وقد أوشك هذا العامل أن يستقل بولايته لولا ضعف حزبه وأنصاره على أن كل الذنوب السياسية تغتفر في سبيل ما أرغم ملوك الأسرة الخامسة على نشره من العدل في ربوع مصر فشعر الشعب الذليل بنعمة الحرية بعد أن ذاق صنوف المذلة والهوان على أيدي جبابرة الأسرة الرابعة أمثال خوفو وخفرع ومنقرع القساة القلوب الغلاظ الأكباد العتاة الظالمين الذين سجلوا على نفوسهم ذنوباً لا يمحوها كر الدهور ولا ينسخها مر العصور بل ما دامت الأهرام الكبرى تناطح السماء وتقاوم طوارئ الحدثان وتهزأ بتعاقب القرون على القرون والأزمان على الأزمان وتشهد بأن كل صخر من صخورها هو دمع متحجر من دموع الشعب الذليل المهان الذي سيق رغم إرادته والشمس المحرقة ترشقه بسهامها والصحراء الحامية تدمى أديم أقدامه بجمر أديمها والسوط المثلث مصوب إلى ظهره والسيف المرهف مكان الغلالة من نحره سيق هذا الشعب المظلوم على تلك الصورة المفزعة تنفيذاً لرغائب عتل زنيم ومعتد أثيم أصابه مس من الجن فظن أن نفسه الخبيثة لا يليق بها إلا ذلك الهرم الجسيم أو أراد أن يخلد ذكره على صحيفة مصر فسفك دماء أبنائها ليكتب بها سطراً في الصحراء لابد أن يمحوه الزمان وما زوال ذكر الظالمين وآثارهم على الظالمين بعزيز! لست أدري لماذا ألوم ذلك الظالم الجهول خوفو اوكيوبس الذي تعددت أسماءه تعدد أسماء ابليس اللعين واللوم خليق بالمؤرخين الذي ذكروه وذكروا أمثاله من الظالمين أشباه نابوليون الصغير ونيرون أكثر مما ذكروا صولون وسقراط وأرسطو وأفلاطون وكان الجدير بهم أن يمحوا أسماءهم من كتبهم لئلا ينالوا بهذا الذكر ما كانوا يروجونه من الصيت العتيد والشأو البعيد. نقول ومدح الأسرة الخامسة في عرض الكلام على عتاة الأسرة الرابعة عدل انظر إلى

ماحاول ملوك تلك الأسرة تشييده من الأهرام مجاراة للسلف الصالح في الجيزة وأبي صير وصقارة فقد جاءت كلها ككهوف القرون الأولى فلا جلال لها ولاسيما للوقار عليها وقد تهدم معظمها وعن قريب لا يبقى منها إلا ذكرها في كتب الأخبار وهذا الضعف في البناء لا يؤخذ دليلاً لى تقهقر فن العمارة في مصر في عهد تلك الأسرة إنما يؤخذ دليلاً على انتشار روح الحرية الشخصية لحد محدود وبرهاناً على ضعف نفوذ الملك بحيث صار عاجزاً عن سوق الشعب لتشييد جبال الظلم والاستبداد كما تساق الأنعام للذبح وقد ذكر المؤرخ الكبير العلامة جمس هنري بريستد الذي نعتمد على مؤلفاته في معظم ما نكتب أن مصر تقدمت في عهد الأسرة الخامسة تقدما مادياً وأديباً وأن الصنائع والفنون ارتقت ارتقاء باهراً كما أن الآداب نهضت نهضة شماء فألفت الكتب وصنفت الرسائل ودونت المقالات الطويلة والأبحاث العلمية الشائعة وذكر هذا المؤلف في صحيفة 107 من كتاب تاريخ مصر القديم (طبع نيويوك) إن النهضة الأدبية وإن كانت في عهد الدولة الخامسة في إبان نشأتها فقد أنجبت كتاباً وحكماً هيهات أن يسمح الزمان بمثلهم في بدء أية نهضة في أية أمة ومن هؤلاء الحكماء بوضع الحكمة في قالب الامثال والمواعظ ولم ينقطع أحدهم للتحرير والتحبير إلا بعد أن حنكته الليالي والأيام ودربته الحوادث والتجارب وقد شاعت مؤلفاتهم وتداولتها الناس كافة وأقبلوا على حكم فتاحوتب خاصة ولا بدع إذا نالت تلك الحكم في الزمن الحاضر ما نالته في الغابر فهي من أقدم ماكتب الكاتبون وأفضل ما حبره الحكماء الخبيرون أهما قاله العلامة بريستد وقد ذكر بعد ذلك أن أسلوب التصنيف كان في ذلك العهد واحداً وإن الألفاظ التي استعملت في الكتب قليلة محصورة واستدل بذلك على ضعف اللغة الهروغليفية في عهد الأسرة الخامسة ولكن غيره يرون غير رأيه ويقولون إن جال الشعب من العلم ومكانته من المعرفة كانتا تستلزمان البساطة في التعبير والسهولة في الإنشاء والعناية بانتقاء الألفاظ التي تقرب من ذهن عامة الناس وهذا خير من التقعر وذكر مالم يصل إليه علم المتوسطين. حكم فتاحوتب هذه حكم الوزير فتاحوتب وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة في عهد الملك ايسوسي ملك الملوك وأمير الأمراء وصاحب مصر السفلى.

قال الوزير فتاحوتب وزير مصر وحاكم المدينة وقاضى القضاة للملك ايسوسي اعلم يا مولاي أن سراج حياتي أوشك أن ينطفئ فأخذ الفناء يدب في جسدي دبيب الشيب في الرأس وتمكن الضعف من بدني تمكن القنوط من النفس فعادت نضرتي ذبولاً وغضاضتي محولاً وجسامتي نحولاً وقل الخير والنفع وذهب البصر والسمع وعقد اللسان بعد أن ختم على الجنان فلا قول نافع ولا برهان قاطع ولا ذهن يعي ولا بيان شافع يعيد ما مضى من عهد الفتي الالمعي. فاسمح يا مولاي لخادمك وعبد رحمتك وصنيع نعمتك أن يخلى منصبه لولده من بعده ومرني أن أعلمه ما علمتنيه حنكة الشيوخ فقد قيل أنهم مهبط الوحي ومسقط الحكمة عفا الله عنك وارشد بك شعبك وهداه بهديك. فأجاب الأمير النبيل والملك الجليل ايسوسي صاحب مصر السفلي أذنت لك أن تعلم ابنك الحكمة فلعله يجيء فذاً بين الأولاد موفقاً إلى سبل الرشاد فيكون قدوة لأمثاله يسيرون على نهجه ويختطون خطته ويختارون حكمته فيهتدون في تقويم اعوجاجهم بهداه ويسترشدون في إصلاح ما فسد من شؤونهم بصلاحه وتقاه. فكتب فتاحوتب وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة لولده يعلمه الحكمة وأدب النفس: - (متلو) آثار رومانية ست عشرة رسالة حكيمة من رسائل الفيلسوف سنيكا إلى صديقه لوسليوس الرسالة الأولى (في المحافظة على الوقت) فرّغ نفسك أيها الصديق لنفسك وحافظ على وقتك الذي قد يضيعه عليك الناس سدى أو يسلبونك إياه سلباً أو يفر ويفلت منك أنت هباء فاحرص عليه وضن به وتعلم صونه وحسن تصريفه وثق بأن أوقات حياتنا إما أن تؤخذ منا أخذاً أو تنتهب انتهاباً وإما أنا نحن

الذين نضيعها على أنفسنا عبثاً ونجعلها تُنقص من أعمارنا بدداً وشرّها هذا الذي يضيعه علينا منها إهمالنا ولعمري أنك لو أنعمت النظر لرأيت أن شطراً من حياتنا يذهب في تافه ما نعمل في الحياة والشطر الآخر وهو أعظمها قد يضيع علينا في لاشيء وأنا على الحالين غير عاملين إلا فيما يجب علينا ألاَّ نعمل وإلا فخبرني أين هو ذلك الذي يحافظ على وقته ويقدره قدره ويعرف قيمة اليوم الذي تطلع عليه فيه شمسه ويدرك أنه في كل ساعة تمر عليه يقترب من الموت وفي كل لحظة تكر يدنو منه الأجل، لا جَرَم أنا واهمون في اعتقادنا أن الموت أمامنا على حين أنا قاطعون منه مراحل كثيرة خلفنا فكل ما مضى من أعمارنا إنما هو منه أو من حقوقه المستردة، فاعمل أيها الصديق بما ضمنته كتابك الأخير إلىّ أن تجمع ساعات يومك وتستحضرها وما دمت محافظاً على الحاضر من وقتك مراعياً حسن التصرف فيه فلا تبال بالمستقبل منه وما ضبط امرؤ حاضر وقته وأحسن التصرف فيه إلا جرت حياته لعمرك أحسن مجرى إن كل ما بقي بعد الوقت ليس لنا بل هو أجنبي عنا أي لا حكم لنا عليه إلا هذا الوقت فقد وهب لنا قياده فهو الشيء الوحيد الذي منحتنا العناية حق التصرف فيه لأنفسنا بأنفسنا ولما كان لعمري من الفرار والفلت من بين أيدينا بمكان عظيم فقد يسلبنا إياه أول قادم ويشغلنا عنه أقل شاغل ومما مُنِيَتْ به الناس من ضروب الحمق أن تشغلهم الصغائر والسفاسف الممكن تداركها وتلافي أمرها على ظن أنها من العظائم الواجب العناية بها أما الوقت فلا يحفلون به ولا يظنونه من النعم الواجب شكرها والاحتفاظ بها على حين أنه من أكبر النعم المطوق بها أجيادهم ولا يوفونها مع ذلك حقها ولا يقدرونها قدرها، ولعلك سائلى وما تصنع أنت يا من تعلمنا الحكمة فأجيبك بالصريح أعلم أني مثل رجل الفقير المقتصد في معيشته لا يفوتني محاسبة نفسي على ما أنفق من عمري بالدقة على أني لا أفتخر بأنه قد لا يفوتني ضياع شيء منه هباء ولكني أعرف ما يضيع علىّ وكيف ضاع ولم ضاع وبذلك يمكني على نضوب عودي أدراك حالي وفقه شأني وما حالي وأيم الحق إلا كحال المكدود عن جده لا عن كده وهذا قد يرثى له الناس ويرقون له ولكن لا يمد له يد المعونة إنسان أما أنت فأني أختار لك على كل حال أن تقتصد في أمرك وتبادر إلى انتهاز الفرص من ثمين وقتك واعلم أن الأقدمين منا قد ضربوا مثلاً جليلاً للشيخوخة هو خير تمثيل في الواقع لحالها فقالوا: إذا بلغ ما في الإناء

نهايته فلا اقتصاد ثَمَّ ولا ادخار لأنه لم يبق فيه غير الثفل وهو قليل في الكمية رديء في الكيفية. الرسالة الثانية (في الأسفار والمطالعات) تنبئني رسائلك ويدلني ما يأتيني من أخبارك على ما أومل فيك من لخير فأن الأسفار والانتقالات لا تقلق لعمري راحة نفوسنا وإنما كل تلك الحركات لا تزعج إلا خواطر أصحاب العقول المريضة وأول علامة على سلامة النفس وصحتها معرفة المرء كيف يسكن بنفسه إلى نفسه. ولكني أحذرك مطالعة كل تلك الطائفة من الكتب الكثيرة والأسفار المختلفة التي قد تفضي إلى تشويش الذهن واضطراب الفكر فيجب عليك ألا تتعلق إلا بمطالعة المختار من أسفار كبار المؤلفين التي تغذي روحك مادتها إذا أنت أحببت أن تستفيد شيئاً يرتسم في عقلك وينتقش في نفسك واعلم أن كثرة الانتقال من مكان إلى مكان كلا انتقال من مكان وإذا قضي المرء أيامه في التنقل والأسفار فهو إنما يستكثر من المضيفين لا من الأصدقاء كذلك حال أولئك الذين لا يداومون على مطالعة مؤلف واحد بالدقة والإمعان وإنما من ديدنهم أن يمروا بأبصارهم على كل ما يقع لهم من الكتب مراً سريعاً كأنهم يركضون ركضاً والأغذية إذا خرجت من المعدة بسرعة على أثر تناولها لا تفيد الجسم ولا يكتسب منها البدن وكذلك في باب العلاج ليس أضر على البدن من كثرة تغيير الأدوية والعقاقير، وكثرة وضع الضمادات على الجراح قَلَّ أن تفيدها والإكثار من نقل غراس الأشجار من مكان إلى مكان يوجب ضعفها ويقل نماءها وبالجملة لا شيء تفيده العجلة في هذه السبيل، أجل إن مطالعة الكتب الكثيرة قد تسلى العقل وترطب الذهن ولكن لما كان ليس في قدرة الإنسان إلا مطالعة ما تصل إليه طاقته من الكتب فيجب عليك في هذه الحال أن تنتقي كتبك وأن لا تحرز يداك من الأسفار إلا ما تروق مطالعته والاستفادة منه ولعلك تقول لي إنما أرغب أن أطالع هذا الكتاب وأروض فكري في ذلك السفر فأقول لك أن شوق النفس إلى تناول الألوان الكثيرة ما هو إلا دليل على ضعف معدة صاحبها لأن كثرة الألوان لا تغذي بل هي قد تضر أكثر مما تنفع وصفوة القول أنه يجب عليك أن تثابر على مطالعة كبار المؤلفين المعتبرين وإن رأيت أن تنتقل منهم إلى سواهم بين حين

وآخر فلا تفوتنك العودة إلى ربوعهم وأن تجمع وتستخلص من مطالعاتك كل يوم قوات جديدة وعلاجات مفيدة تطبب بها علل نفسك وأدواء مخاوفها من مثل الفقر والموت ونحو ذلك من الأرزاء والمصائب وأن تجعل لنفسك من مطالعتك اليومية مندوحة للفكر بها يستعين على هضم ما اكتسب منها في يومه وهي الطريقة التي أجرى عليها أنا فأني أطالع كثيراً ولكني أبقي لنفسي مندوحة ومستروحاً لذلك وهاك أتاوتي من الحكمة في هذا اليوم وهي مستمدة من أبيقور الذي ألجأ إلى ساحته عادة لمثل هذا الغرض لا عن عجز وتقصير وإنما للتوضيح والتنوير قال السرور بالفقر من الأحوال الشريفة ولعمري إذا كان ثَمَّ سرور ورضا في النفس فليس ثمّ فقر لأنه ليس بفقير ذلك الذي يقنع بقليله بل هو غني وإنما الفقير من تكثر أطماعه وتزداد رغائبه ولا غرو فإنه لا عبرة بأن تكون خزائن الإنسان طافحة بالنضار وحواصله مشحونة بالأقوات والأرزاق وأنه يملك العدد العديد من قطعان الأنعام وأن له من الموارد ما يعد بالجزيل إذا هو طمع وشره وتمني المزيد وهل من يستقل ما في يديه طمعاً فيما يتمنى ويؤمل الحصول عليه إلا فقير ما هو قياس الغني أليس هو لعمري الضروري أولاً ثم ما يكفي ثانياً؟ الرسالة الثالثة (في اختيار الأصدقاء) كتبت تخبرني أن الذي يحمل إليَّ رسائلك صديق لك وتحذرني منه في نفس هذا الكتاب وألاَّ أحدثه بكل ما يتعلق بك زاعماً أنه ثرثار يحدث بكل ما سمع فكتابك لعمري تضمن الضدين وجمع بين النقيضين وكأنك تقول لي أن هذا الشخص صديق لك وليس بصديق لك وكأن هذه الكلمة كلمة الصديق ما جاءت على أسلةِ قلمك إلا توفية للرسم وصورة لما اصطلح عليه في سعادة الناس كما اعتدنا مثلاً أن نسمي طلبة العلم أهل الفضل وأن ندعو من نقابله لأول مرة ونجهل اسمه بالسيد والمولي ولكن لندع هذه القشور اللفظية جانباً وننظر في اللباب والجوهر: فاعلم أن اعتقاد المرء في بعض الناس أنه صديقه ثم هو لا يراه موضع ثقته كما يرى نفسه ما هو إلا تطوح غريب وشطط عجيب في إدراك معنى الصداقة وحقيقتها، فصديقك يجب أن يكون موضع سرك في كل دخائلك ولكن بعد أن تكون قد اختبرته وسبرت أحواله إذ الثقة ينبغي أن تتبع الصداقة والحذر والاحتياط يجب أن

يسبقاها أما ما يباين ذلك فليس إلا خلطاً وخبطاً في الواجبات المفروضة وخروجاً عما قاله تيوفراسطس الحكيم من أن إيصال حبال الصداقة قبل المعرفة ما هو إلا قطع بها بعد التعارف. فتروّ طويلاً ودقق في اختيار الصديق وإذا أنت ظفرت بصديق صادق فافتح له قلبك واجعله موضع ثقتك كما تثق بنفسك بل أشير عليك بأن تكون محبتكما خالية من التكلف جامعة إلا لما فيه مطمع لطعن الأعداء فيما تتبادلان من الأفكار والآراء وأن تجعله موضع سرك إلا ما جرت العادة بجعله سراً بين المرء ونفسه، فينبغي أن تبثه أحزانك وأشجانك وتطارحه أفكارك واعتقد فيه الإخلاص لك تجده مخلصاً إذ كم من مرة في الواقع علم الإنسانُ الغش والخيانة من اعتقاد الناس فيه أنه غشاش خائن لأن عدم الثقة قد يولد الخيانة، وما معنى الصداقة إذا كنتُ أكتم صديقي سراً أبوح به للناس؟ ولمَ لا أعتقد أنني وصديقي إذا اجتمعنا إنسان واحد؟ على أن في الناس من قد يبوح لأول قادم بما لا يجوز إلا للصديق وحده معرفته والاطلاع عليه ويصدع آذان الناس بأسراره التي لا تحتملها نفسه، ومنهم من هم على العكس من ذلك يخشون إفشاء أسرارهم حتى إلى أخلص أصدقاءهم وأعز أحباءهم وعلى أنفسهم لو أمكنهم ذلك كتمانها في أعماق قلوبهم فتجنب أنت هذين الطرفين في شؤونك وأسرارك لأن الثقة بكل إنسان وعدم الثقة بإنسان رذيلتان متشابهتان وفي الأولى منهما من سلامة النية بمقدار ما في الثانية من فرط الاحتياط، ومما يجب أن يلام المرء عليه أيضاً ملازمة الحركة أو مداومة الراحة فالحالة الأولى وهي مما يعجب به الجمهور من الناس تدل على قلق النفس وشرتها والثانية وهي كراهة الحركة واختيار الراحة أن هي إلا طريق الضعف والسقم واسمع لهذه الحكمة التي قرأتها اليوم في مؤلف بومنيوس حيث قال: إن من الأعين أعيناً لا تبصر جيداً إلا في ظلمة الليل ولكنها تعشو في ضوء النهار فينبغي أن نجمع بين الحالين ونؤلف بين الطرفين فنتبع العمل الراحة والراحة العمل وسائر الطبيعة تجبك بأن بارئها أوجد فيها الليل والنهار فجعل النهار معاشاً والليل سباتاً. (متلو) آثار عربية من ملك إلى ملك رسالة هارون الرشيد إلى قسطنطين ملك الروم - يَقِفُه (يوقفه) فيها على الإسلام ويبين له

بالدليل الناصع صدق المصطفى عليه السلام. بويع الخليفة العباسي هارون الرشيد يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة للهجرة ومات يوم السبت لأربع ليال خلون من جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة فكانت ولايته ثلاثاً وعشرين سنة وستة أشهر وولى الخلافة وهو ابن إحدى وعشرين سنة ومات وهو ابن أربع وأربعين سنة وأربعة شهور - وكان على مملكة الرومان الشرقية في خلافة الرشيد قسطنطين السادس من سنة 780 - 792م ثم نيسوفورس المعروف عند العرب باسم - نيقوفور - من سنة 792 - 811م وقد عثرنا على هذه الرسالة في كتاب اختيار المنظوم والمنثور الموجود في المكتبة الخديوية معنونة بهذا العنوان الآتي - ومن الرسائل المختارة رسالة أبي الربيع محمد بن الليث إلى قسطنطين ملك الروم - ثم افتتح الرسالة بما يأتي - من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى قسطنطين عظيم الروم الخ الخ فبحثنا في كتب التاريخ التي تحت أعيننا عن هذه الرسالة وعمن كتبها ومن كتبت عنه ومن كتبت إليه فلم نر ذكراً لشيء من ذلك وغاية ما يمكن معرفته هو أن هذه الرسالة أرسلها هارون الرشيد إلى قسطنطين السادس والذي كتبها عن الرشيد هو أبو الربيع محمد بن الليث - أما الرسالة فأثر من أحسن الآثار وأسلوبها أسلوب الطبقة الأولى من كتاب العربية الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وابن العميد وأضرابهم ولذلك آثرنا نشرها في البيان وهذه هي: من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى قسطنطين عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى فأني أحمد الله الذي لا شريك معه ولا ولد له ولا إله غيره الذي تعالى عن شبه المحدودين بعظمته واحتجب دون المخلوقين بعزته فليست الأبصار بمدركة له ولا الأوهام بواقعة عليه انفراداً عن الأشياء أن يشبهها وتعالياً أن يشبهه شيء منها وهو الواحد القهار الذي ارتفع عن مبالغ كذا صفات القائلين ومذاهب لغات العالمين وفكر الملائكة المقربين فليس كمثله شيء وله كل شيء وهو على كل شيء قدير. أما بعد فإن الله جل ثناؤه وتباركت أسماؤه قال لنبيه صلى الله عليه فيما أنزل من آيات الوحي إليه: أُذعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين: فرأى أمير المؤمنين من أحسن

قوله وأفضل فعله أن يكون إلى سبيل ربه داعياً وبرسوله صلى الله عليه متأسياً ولقوله: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال أنني من المسلمين: موافقاً وكنت من كتب الله المُنزلة وآياته المفسرة وخَلقه الكثير بحيث رجا أمير المؤمنين استماعك لموعظته وانتفاعك بمجادلته انتفاءً بشّرٍ كثير وخلق عظيم قد بُؤتَ بأوزارهم مع وزرك واحتملت من آثامهم إلى إثمك فأحب أن يدعوك ومن رجا أن ينتفع بدعوته معك إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن توليتم عن ذلك رغبة عنه أو تركتموه زهادة فيه فأشهدوا بأنا مسلمون واستمعوا ما أمير المؤمنين واصفٌ لكم ومحتجٌّ به إن شاء الله عليكم بقلوب شاهدة وآذان واعية ثم اتبعوا أحسن ما تسمعون ولا قوة إلا بالله فإن الله عز وجل يقول فيما أنزل من كتابه واقتصَّ على عباده: وبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. إن الله تبارك اسمه وتعالى جده وصف فيما أنزل من آياته وشرح من بيناته الأمم الماضية والقرون الخالية والملل المتفرقة الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى لا برهان لهم بها ولا حجة لهم فيها فقال يا أهل الكتاب: لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون: قالت العرب الذين يعبدون الملائكة وأهلُ الكتاب الذين يقولون ثالث ثلاثة بايتما آية يا محمد تزعم أن الله إله واحد فأنزل الله عز وجل في ذلك آية تشهد لها العقول وتؤمن بها القلوب وتعرفها الألباب فلا تستطيع لها ردّاً ولا تُطيق لها جحداً ذَكر فيها اتصال خلقه واتفاق صنعه ليوقن الجاهلون من العرب والضالون من أهل الكتاب أن إله السماء والأرض وما بينهما من الهواء والخلق واحد لا شريك له خالق لا شيء معه فقال: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس: فتفكر في تفسير هذه الآية من كلام الرب عزّ وجلّ وما أوضح فيها من بيان الخلق فإنه ما من مفكر ينظر فيما ذكر الله فيها مما بين السماء والأرض إلا رأى من اتصال بعض ذلك ببعض مثل ما رأى في تدبير نفسه وعرف من اتصال خلقه فيما بين ذوائب شؤون رأسه إلى أطراف أنامل قدمه وفي ذلك أوضح آية

وأبين دلالة على أن الذي خلقه وصنعه إله واحد لا إله معه ولا من شيء ابتدعه ولا على مثال صنعه. قد ترون بعيونكم وتعلمون بعقولكم أن الله عز وجل خلق للأنام الأرض وجعلها موصولة بالخلق فليست إلا لهم ولا يديمها إلا معهم وجعل ذلك الخلق متصلاً بالنبت لا يقوم إلا به ولا يصلح إلا عليه وجعل ذلك النبت الذي جعله متاعاً ومعاشاً لأنعامكم متصلاً بالماء الذي ينزل من السماء بقدر معلوم لمعاش مقسوم فليس ينجم النبت إلا به ولا يحيا إلا عنه وجعل السحاب الذي يبسطه كيف يشاء متصلاً بالريح المسخرة في جو السماء تثيره من حيث لا تعلمون وتسوقه وأنتم تنظرون كما قال عز وجل: وهو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور: ووصل الرياح التي يصرفها في جو السماء بما يؤثر في خلق الهواء من الأزمنة التي لا تثبت الهواجر إلا بثباتها ولا يزول عنه برد إلا بزوالها كذا ولولا ذلك لظل راكداً بالحر المميت أو ماثلاً بالبرد القاتل ووصل الأزمنة التي جعلها متصرفة متلونة بمسير الشمس والقمر الدائبين لكم المختلفين بالليل والنهار عليكم وجعل مسيرهما الذي لا تعرفون عدد السنين إلا به ولا مواقع الحساب إلا من قِبَله متصلاً بدوران الفلك الذي فيه يسبحان وبه يأفلان ووصل مسير الفلك بالسماء للناظرين سواء كذا فهذا خلق الله عز وجل ما فيه تباين ولا تزايل ولا تفاوت كما قال سبحانه وتعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولو كان لله شريك فيه أو معه ظهير عليه يمسك منه ما يرسل ويرسل منه ما يمسك أو يؤخر شيئاً من ذلك عن وقت زمانه ويعجله قبل مجيء ابَّانه - لتفاوت الخلق ولتباين الصنع ولفسدت السموات والأرض ولذهب كل إله بما خلق كما قال وكذب المبطلين: بل أتيناهم بالحق وأنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون: والعجب كيف يصف مخلوق ربه أو يجعل معه إلهاً غيره وهو يرى فيما ذكر الله من هذه الأشياء صنعة ظاهرة وحكمة بالغة وتأليفاً متفقاً وتدبيراً متصلاً من السماء والأرض لا يقوم بعضه إلا ببعض متجل بين يديه ماثل نُصب عينيه يناديه إلى صانعه ويدله على خالقه ويشهد له على وحدانيته ويهديه إلى ربوبيته فتعالى الله عما يشركون أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون حقاً ما كرر هؤلاء الجاهلون بربهم الضالون عن

أنفسهم في خلق الله النظر ولا رجعوا كما قال الله عز وجل الفكر ولو اعملوا فكرهم واجتهدوا نظرهم فيما تسمع آذانهم وترى أبصارهم من حوادث حالات الخلق وعجائب طبقات الصنع لوجدوا في أقرب ما يرون بأعينهم من التأليف لتركيب خلقهم والأثر في التدبير لصنعهم ما يدلهم على توحيد ربهم ويقف بهم على انفراده بخلقهم فإنهم يرونه في أنفسهم بأعينهم ويجدونه بقلوبهم مخلوقة أي أنفسهم صنعة بعد صنعة ومحولة طبقة عن طبقة ومنقولة حالاً إلى حال سلالة من طين ثم نطفة من ماء مهين ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً كساه الله عز وجل لحماً ونفخ فيه روحاً فإذا هو خلق آخر فتبارك الله أحسن الخالقين الذي خلق في قرار مكين من ماء قليل ضعيف ذليل خلقاً صوره بتخطيط وقدره بتركيب وألفه بأجزاء متفقة وأعضاء متصلة من قدم إلى ساق إلى فخذ إلى ما فوق ذلك من مفاصل ما يعلن وعجائب ما يبطن ليعلم الجاهلون ويوقن الجاحدون أن الذي جعل ذلك وخلقه ودبره وقدره وهيأ ظاهره وباطنه إله واحد لا شريك معه فلا يذهبن ذكر هذا صفحاً عنكم ولا تسقط حكمته جهلاً به عليكم وفكروا في آيات الرسل وبينات النذر فإن في ذلك فكراً للمبصرين وبصراً للمعتبرين وذكرى للعابدين والحمد لله رب العالمين. وأمير المؤمنين واصف لكم ومقتص من ذلك إن شاء الله عليكم ما فيه شهادات واضحات وعلامات بينات ومبتدئ بذكر آيات نبينا محمد صلى الله عليه فيما أنزل الله منها في الوحي إليه فإنه ما أحد يقرع بآيات النبوءة قلبه ويخصم بينات الهدى عقله إلا قادته حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه لا يجد إلى إنكار ما جاء به من الحق سبيلاً فأردت أن تكونوا على علم ومعرفة ويقين وثقة من أمر محمد صلى الله عليه وحقه وما أنزل إليه من ربه عز وجل فأحضر كتاب أمير المؤمنين فهمك وألق إلى ما هو واصف إن شاء الله سمعك. إن الله عز وجل اصطفى الإسلام لنفسه واختار له رسلاً من خلقه وابتعث كل رسول بلسان قومه ليبين لهم ما يتقون ويعلمهم ما يجهلون من توحيد الرب وشرائع الحق لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً فلم تزل رسل الله قائمة بأمره متوالية على حقه في مواضي الدهور وخوالي القرون وطبقات الزمان يصدق آخرهم بنبوّة أولهم ويصدق أولهم قول آخرهم ومفاتح دعوتهم واحدة لا تختلف ومجامع ملتهم ملتئمة لا تفترق حتى تناهت الولاية والوراثة التي سيدنا عيسى عليه السلام عليها (كذا ولعلها فقام

عليها) وبشر بها إلى النبي الأمي الذي انتخبه الله لوحيه واختاره لعلمه فلم يزل ينقله بالآباء الأخاير والأمهات الطواهر أمة فأمة وقرناً فقرناً حتى استخرجه الله في خير أوان وأفضل زمان من أثبت محاتد ارومات البرية أصلاً وأعلاً ذوائب نبعات العرب فرعاً وأطيب منابت أعياص قريش مغرساً وأرفع ذري مجد بني هاشم سمكاً محمد صلى الله عليه وسلم خيرها عند الله وخلقه نفساً على حين أوحشت الأرض من أهل الإسلام والأيمان وامتلأت الآفاق من عبدة الأصنام والأوثان واشتعلت البدع في الين وأطبقت الظلم على الناس أجمعين وصار الحق رسماً عافياً وخلقاً بالياً ميتاً وسط أموات ما أن يحسون الهدى صوتاً يسمعونه ولا للدين أثراً يتبعونه فلم يزل صلى الله عليه وسلم قائماً بأمر الله الذي أنزل إليه يدعوهم إلى توحيد الرب عز وجل ويحذرهم عقوبات الشرك ويجادلهم بنور البرهان وآيات القرآن وعلامات الإسلام صابراً على الأذى محتملاً للمكروه قد أعلمه الله عز وجل أنه مظهر دينه ومعز تمكينه وعاصمه ومستخلفه في الأرض فليس يثنيه ريب ولا يلويه هيب ولا يعييه أذى حتى إذا قهرت البينات ألبابهم وبهرت الآيات أبصارهم وخصم نور الحق حجتهم فلم تمتنع القلوب من المعرفة بدون صدقه ولم تجد العقول سبيلاً إلى دفع حقه وهم على ذلك مكذبون بأفواههم وجاحدون بأقوالهم كما قال الله عز وجل العليم بما يسرون الخبير بما يعلنون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون بغياً وعداوة وحسداً ولجاجة افترض الله عليهم قتالهم وأمره أن يجرد السيف لهم وهم في عصابة يسيرة وعدة قليلة مستضعفين مستذلين يخافون أن يتخطفهم العرب وتداعى عليهم الأمم تستلحمهم الحروب فآواهم في كنفه وأيدهم بنصره وأنذرهم بمقدمة من الرعب ومسعلة كذا من الحق وجنود الملائكة حتى هزم كثيراً من المشركين بقلتهم وغلب قوة الجنود بضعفهم انجازاً لوعده وتصديقاً لقوله: إن جندنا لهم الغالبون: فأحسن النظر وقلب الفكر في حالات النبي صلى الله عليه من الوحي قائماً لله لتجدن لمذاهب فكرك وتصاريف نظرك مضطرباً واسعاً ومعتمداً نافعاً وشعوباً جمة كلها خير يدعوك إلى نفسه وبيان ينكشف لك عن محضه - وأخبر أمير المؤمنين ما كنت قائلاً لو لم تكن البعثة للنبي صلى الله عليه بلغتك ولم تكن الأنباء بأموره تقررت قِبَلك ثم قامت الحجة بالاجتماع عندك وقالت الجماعة المختلفة لك أنه نجم بين ظهراني مثل هذه الضلالات المستأصلة والجماعات المستأسدة

التي ذكر أمير المؤمنين من قبائل العرب وجماهير الأمم وصناديد الملوك ناجم قد نَصَب لها وأغري بها يجهل أحلامها ويكفر أسلافها ويفرق الأفها ويلعن آباءها ويضلل أديانها وينادي بشهاب الحق بينها ويجهر بكلمة الإخلاص إلى من تراخى عنها حتى حميت العرب وأنفت العجم وغضبت الملوك وهو على حال ندائه بالحق ودعائه إليه وحيداً فريداً لا يحفل بهم غضباً ولا يرهب عنتاً بقول الله عز وجل يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وأنا أعصمك من الناس: أكنت تقول فيما تجري الأقاويل به وتقع الآراء عليه إلا أنه أحد رجلين إما كاذب يجهل ما يفعل ويعمى عما يقول وقد دعا الحتف إلى نفسه وأذن الله لقومه في قتله فليست الأيام بمادة ولا الحال بمواتية إلا ريثما تستلحمه أسبابهم وينهض به حلماؤهم غضباً لربهم وأنفة لدينهم وحمية لأصنامهم وحسداً من عند أنفسهم وأما صادق بصير بموضع قدمه ومرمى نبله قد تكفل الله عز وجل بحفظه وصحبه بعزه وجعله في حرزه وعصمه من الخلق فليست الوحشية بواصلة مع صحبة الله إليه وليست الهيبة داخلة مع عصمة الله عليه ولا سيوف الأعداء بمأذون لها فيه ثم أنكم يا أهل الكتاب لو قيل لكم أن الرجل الذي يدعي العصمة وينتحل المنعة نجمت الأمور به على ما قال وسلمت الحال له فيما ادعى حتى نصب لغمارات العرب وجماعات الأمم يقاتل بمن طاوعه من خالفه وبمن تابعه من عانده جاداً مشمراً محتسباً واثقاً بموعود الله ونصره لا تأخذه لومة لائم في ربه ولا يوجد لديه غميزة في دينه ولا يلفه خذلان خاذل عن حقه حتى أعز الله دينه وأظهر تمكينه وانتقادات الأهواء له واجتمعت الفرق عليه ألم يكن ذلك يزيد حقه يقيناً عندكم ودعوته ثبوتاً فيكم حتى تقول الجماعة من حلمائكم وأهل الحنكة من ذوي آرائكم ما كان الرجل إذا كان وحيداً فريداً قليلا ضعيفاً ذليلاً معروفاً بالعقل منسوباً إلى الفضن ليجترئ أن يقول أن الله عز وجل أوحي إليه فيما أنزل من الكتاب عليه أن يعصمه من العرب جميعاً ويمنعه من الأمم صرا حتى يبلغ رسالات ربه ويظهره على الدين كله ويدخل الناس أفواجاً في دينه إلا وهو على ثقة من أمره ويقين من حاله: فسبحان الله يا أهل الكتاب ما أبين حق النبي صلى الله عليه لمن طلبه وأسهله لمن قصد له فاستعملوا في طلبه ألبابكم وارفعوا أبصاركم تنظروا بعون الله إليه وتقفوا إن شاء الله عليه فإن علامات نبوته وآيات رسالته ظاهرة لا تخفى على من طلبها جمة لا يحصى عددها منها خواص تعرفها

العرب وعوام لا تدفعها الأمم فأما الخواص المعروفة لدينا المعلومة عندنا التي أخذتها الأبناء من الآباء وقبلها الأتباع عن الأسلاف فأمور قد كثرت البينات فيها وتداولت الشهادات عليها وثبتت الحجج بها وتراخت الأيام ببعضها حتى رأيناه عياناً وقبلناه إيقاناً فهي أظهر فينا من الشمس وأبين لدينا من النهار ولكن غيبت الأزمان عنكم أمرها ولم ينقل الآباء إليكم علمها وما لا يدرك إلا بالسمع موضوع الحجة عن العقل فليس أمير المؤمنين بمحاج لكم ولا قاصد إليكم من قبلها - وأما الآيات العوام والدلالات الظاهرة في آفاق الأرضين القاطعة لحجج المبطلين التي لا تنكر عقول الأمم وجوب حقها ولا تدفع الباب الأعداء صحة فسيولجها أمير المؤمنين مسالك أسماعكم ويعتد بها كذا حجة الله في أعناقكم من وجوه جمة وأبواب كثيرة إن شاء الله.

باب العلم

باب العلم علوم الاجتماع والأخلاق 1 الشخصية والأخلاق للكاتب الأمريكي الأكبر رالف والدو امرسن عربها عن الانكليزية المازني قرأت في بعض الكتب أن الذين كانوا يستمعون إلى خطب اللورد شَتَام كانوا يجدون في الرجل ما هو أشد خلابة من منطقه. ولقد أخذ بعض النقاد على مؤلف تاريخ الثورة الفرنسية أن كل ما ذكره عن ميرابو لا يكفي للحكم على فحولته وعندي أن أبطال بلوتارك (فلوطرخس) لا تتكافأ شهرتهم ومآثرهم ولم يأت السير فيليب سيدني والإِرل ساسكس والسير ولتر رالى عظيماً ولكنهم مع ذلك من ذوي النباهة والصيت ولو شاء أحد أن يستطلع السر في عظمة واشنجتون من تاريخ أعماله لخاب مسعاه. أضف إلى ذلك أن اسم شيلر أكبر من مؤلفاته. فما معنى ذلك التفاوت بين العمل والشهرة. وهل يكفي في التماس العلة لذلك أن يقال صدى الرعد أطول من الرعد كلا. بل أن في نفس العظيم قوة تبعث طول الأمل فيه وحسن الثقة به. وجل هذه القوة كامن كمون النار في العود وهذا هو ما نسميه الشخصية - فهي قوة في النفس لا تحتاج إلى واسطة وسر من أخفى الأسرار وأغمضها أو هي شيطان ينزع المرء عن قوسه ويأتم بهديه يأتنس به في وحدته ويسكن إليه في خلوته فلا تكاد ترى ذا الشخصية إلا منفرداً بنفسه خالياً بشيطانه يؤثر العزلة ويستأنس بالوحشة. وترى صاحب الأدب البارع آنا يعلو وآونة يسفل ولكن عظمة الشخصية لا تتضاءل ولا تصغر وذو الشخصية يبلغ بفضلها حيث لا تبلغ الهمم والمواهب والبلاغة. يسبق الناس قاعداً ويفوتهم متمهلاً ويستولي على الأمد باهلاً ويحرز النصر لا باشتجار الأسنة ولكن بإظهار سبقه وعظمته ويفوز لأن وجوده يقلب وجه الأمور ويغير مجرى الحوادث. سئل أيولى يوماً كيف عرفت أن هيركيوليز إله؟ فقال: نظرت إليه فكانت تلك النظرة حسبي فلما أبصرت (ثسيير) وددت أن أراه في مواقف القتال وقد تنازل الفرسان وتصادم الأبطال ولكن هيركيوليز كان يبهر الناس قائماً وقاعداً ويظفر برغائبه

على الرغم من أنف الزمان. يرى القارئ مما تقدم أن الإنسان - وهو في العادة رهن الحوادث لا تكاد تجمعه بالعالم الذي يعيش فيه ماسكة جامعة أو شابكة صلة - في مثل هذه الظروف يساهم الأشياء حياتها ويقاسم الطبيعة روحها ويكون مثالا لتلك النواميس التي تعنو لها الشمس ويذعن لها البحر وتخضع الأعداد والكميات. ومالنا لا نضرب الأمثلة بما هو أقرب منالاً. أعني الانتخابات السياسية التي لا تخلو منها أمة ضربت في المدينة بسهم. فإن الناس ليعلمون أنهم متفرقون إلى رجال جمعوا إلى الذكاء قوة تجعل الناس يطمئنون إلى ذكائهم ويركنون إلى مواهبهم وليس بنافعهم أن يرسلوا إلى مؤتمرهم خطيباً وأرى الزند بعيد الأمد بسيط اللسان مشرق ديباجة البيان إذا كان الله سبحانه لم يختره لتأييد حقيقة ما قبل أن يختاره الناس لينوب عنهم - حقيقة هي في تقديره اليقين الصابح الذي لا مراء فيه ولا ريب. فإذا وجدوا ضالتهم أرسلوه لينوب عنهم ويمثلهم ولا حاجة به إلى سؤال منتخبيه عما يرون لأنه هو الأمة التي ينوب عنها وهي التي تصير إلى ما يرتأى لها وتصدر عن مورد رأيه ومشرع فكره. وتظهر هذه القوة أيضاً في التجارة فإن فيها نوابغ وفحولاً كما في الحرب والسياسة والأدب. وليس من سبب لفوز هذا أو ذاك بنجح أمانيه وفلج مساعيه سوى ما وهبه الله من قوة النفس وعظم الشخصية وهذا كل ما نعرف وغاية ما وصل إليه علمنا. وحسب الناظر أن يسرّح في وجهه طرفه ليقف على سر نجاحه وعلة رفعته وهل سمعت أن أحداً تأمل وجه نابليون فلم يبصر فيه شاهداً من خبره وأني ليخيل لي إذ تأخذ عيني تاجراً بالطبع أن الطبيعة قد كفته الاهتمام بشأنه والعناية بأمره وأنه ليس تاجراً يبيع ويشرى وإنما عامل لها استوزرته على التجارة - وأذكر (التاجر بالطبع) فأراه بعين الظن جالساً في غرفته وعلى وجهه دلائل الكد وآثار الجهد وهو يحاول أن يبسط ما انزوى من بين عينيه وأرى كذلك أي عظيمة أقدم عليها في يومه وصعبة راضها بقوة ثباته ومضاء عزمه وكم قال لا غير هيّاب ولا وجل على حين دفع غيره نحس الطالع ونكد الجد فقالوا نعم وكأني به يعرف أنه لا واحد له وإن المرء إذا لم يخلق تاجراً فلن يلقنه التجارة أحد. ولقوي النفس شديد الشخصية سلطان على من كان ضعيفاً كسلطان النوم إذا دب في الأجفان ثنى الرؤوس وأمال الأعناق ولعلّ هذا هو قانون الطبيعة العام فإن العالي إذا

استصعب عليه أن يذرى من السافل وينعشه هوّده وفتره كما يروض أحدنا الدابة حتى تُصحب وللإنسان على أخيه سلطان خفىّ ولكم جاء تأثير الرجل القوي فيمن حوله مصدقاً لأساطير السحر! سئلت مرة امرأة كونسيني كيف استقادت لك ماري دي مديسي وماذا بذلت في سبيل ذلك فكان جوابها لم أبذل شيئاً غير ما للعقل القوي على الضعيف من التأثير. ولو كان قيصر أسيراً أفكان يعييه أن يكسر القيود ويفك الأغلال ويجعلها في يد السجّان؟ وهل فك قيد مطلب محال ومرام لا يكون. ولنفرض أن نخاساً اختطف من أواسط أفريقية جماعة من العبيد والحبشان وانهم جميعاً كانوا من أشباه واشنجتون. أفكانوا في تخمينك يبلغون كيوبا وفي أنوفهم بُرَة الأسر والنخاس عليهم أمير؟ أليست ثمت شيء غير الإسار؟ شيء كالحب والإجلال؟ وهذه القوة طَبعيّة كالضوء والحرارة والسبب الذي من أجله نشعر ببعض الناس ولا نحس ببعض بسيط كالجاذبية. فإن الحق غاية الوجود وأعلى مراتبه والعدل تطبيقه. وطبائع الناس في ميزان. فمن طاب عنصره وخلص جوهره رجح ومن خبث شال وإرادة الأول تجري إلى غيره جري الماء من إناء عال إلى آخر سافل. وليس في وسع أحد أن يحبسها أو يقطع عليها متوجهها. فإنك لتستطيع أن تقذف بالحجر في الهواء ولكنك لا تقدر أن تمنعه من السقوط ومهما يكن من أمور الناس فلا مناص للعدل من أن يسود في الأرض. والنفس الصحيحة في نظام واحد مع العدل والحق كالمغناطيس والقطب. وصاحبها في رأي العين واقف بين الناس وبين الشمس يشف عنها ولا يحجبها فمن أم وجهتها فقد أمه قبلها. فهو أبداً منظور ممن لا يدانونه مرموق ممن لا يشاكلونه ولو أنا قلنا أن ذوي الشخصية من الناس هم ضمائر أمتهم ما كنا مبالغين. ومقياس هذه القوة مقاومة الحوادث ومكافحة الظروف فإن صغير النفس ينظر إلى الحياة باديةً في مرآة الحوادث والأفكار والناس ولا يتفطن للأمر حتى يكون وأني لمن لم يهبه الله صفاء النفس ولطافة الحس وحدة الفؤاد أن يستشف جرثومة الأمر من بين مثاني الحوادث ويتبين صفته من خير أو شر ولمّا تلده الليالي بعد. هذا ولكل شيء في الطبيعة قطبان موجب وسالب - ذكر وأنثى - روح وحقيقة - شمال وجنوب فالروح هي الموجب

والحادثة هي السالب والإرادة هي القطب الشمالي والعمل هو القطب الجنوبي والشخصية منزلها الشمال فهي تشاطر الشمال تياراته الجاذبة فأما النفوس الضئيلة فمدفوعة إلى الجنوب ومسوقة إلى القطب السالب. وهي (أي النفوس الصغيرة) تنظر إلى العمل من خلال النفع والضرر فلا تفطن إلى مبدءٍ ما حتى تبصره مجسّماً في رجل. تحاول أن تؤتي محابّ القلوب لا أن تتسربل بالحسن وترتدي بالملاحة. وذوو الشخصية لا يكرهون أن تعد معايبهم وتحصى معايرهم والفريق الأول لا يهتز لذكر العيوب ولا يهتش لنعى المثالب يقدس الحوادث ويجتزئ بما يطفُّ له من الحقائق والعلائق والظروف وأين هذا من البطل الفحل الذي يرى أن الحوادث ما كانت إلا لتتبعه وما خلقت إلا ليردفها وراءه. وتقلب الظروف وانتقال الأحوال لا يصلحان فساد النفس ووهن الشخصية. ولطالما تباهى أهل هذه العصور بأنهم قد نقضوا مرة الخرافات وقهروا عزتها وهذا من فاسد الأوهام وبعيد المزاعم - وأي جدوى على في أني لا أذبح للآلهة الذبائح ولا أتوسل إليهم بالقرابين إذا كانت قوائمي ترجف من الرأي العام - كما ندعوه - وجناني ما يستقر من فزعي من اللصوص وجيران السوء وأراجيف الغواة وإشاعات الفتن والثورات. الحقيقة أن عيوبنا تتشكل في صور شتى وأشكال عديدة فإذا كنت هيوباً فلا بد أن يأخذك الرعب ويستفزك الفرق لأن المرء يسير في الحياة تحيط به نفسه وليس في وسعه أن يخلص منها. وأنه لمن العار أن يلجأ المرء إلى الحوادث لتثبت له صدقه وقدره فإن المالي لا يعمد في كل ساعة إلى السمسار بل يكتفي بأن يرى في الصحف أن أسهمه ارتفعت كذلك المسرة التي يدخلها على النفس وقوع خير الحوادث على خير وجه أحلى منها شعر المرء أن منزلته صاعدة في معارج الرفعة وأنه أصبح بفضلها وفي يده قياد الحوادث وزمام الأمور. وآية الشخصية الاكتفاء بالنفس وأنا أجل الرجل الغني الوجه أعني الذي أراه فاذكر الأريحية والسماحة والبذل ولا أذكر الوحشة والفاقة والنفي والشقاء والشخصية قطب تدور حولها رحى الأمور وتجول وهي ما لا يمكن قلبه. وصاحبها يرينا معنى الكتلة فإن المجتمع طياش رقيع يقطع الأيام خِرَقاً والحديث شجوناً تذهب ببعضها الرسميّات وبالبعض الآخر الاعتذارات ولست أقنع من الرجل الأروع بما يبوئنا من كرمه ويجود علينا به من خلقه ولطفه فإني لأوثر على ذلك أن أحس قوته واستشعر مُنته واعلم أني قد لقيت امرأ ذا صفة

جديدة. وجبة فإن ذلك أمتع لي وله وحسبه أن لا يحفل بتقاليد الناس وآرائهم - وليس من شيء نافع أو صحيح إلا وهو صالح لأن يكون موضعاً للاقتتال. فإن دورنا لتدوي بأصوات الضاحكين وأحاديث السمار والمتفكهين ولكن ذلك كله لا خير فيه ولا فائدة ولا ترجى منه منفعة أو عائدة ولكن الرجل الصعب الخشن القليل الغناء الذي هو في نفسه عقدة تتهدد المجتمع والذي لا يستطيع الناس أن لا يلتفتوا إليه فهم بين أمرين أما أن يعبدوه ويعنوا له وأما أن يبغضوا وينبوا عنه والذي تحس كل الجماعات والزعماء والسقاط أن بينهم وبينه نسباً وصلة - هذا هو الرجل النفاع الذي يخطئ أمريكا وأوروبا ويبهر الإلحاد القائل إنما الإنسان لعبة فدعنا نلعب ونلهو فذلك خير ما نصنع بنور الهداية والإرشاد فإن مواطأة الملأ ومتابعة الرأي العام والإلتجاء في كل أمر من دلائل ضعف الأيمان وخمود شعلة الذكاء فإن ذا البصيرة المظلمة ليعييك أن تصور له البيت أو يراه قائماً ولكن اللوذعى لا يشغل باله لا بالكثرة ولا بالقلة ولا بمن يلتف حوله أو ينفض عنه لأنه قوي في ذاته قانع بنفسه. وينبغي أن تقوم أعمالنا حسابياً على مادتنا. فإن ميزان الطبيعة ميزان صدق لا يغل شعيرة وجاذبية الرطل من الماء في البحر العاصف أو في البركة الراكدة سواء وكل شيء يعمل حسب صفته وقيمته. وليس يحاول ما لا يستطيع غير الإنسان فإنه واسع فسحة الأمل طويل عنان الرجاء كثير الزعم في غير مزعم والكدم في غير مكدم لا يستحي أن يحاول ما لا تصل إليه مقدرته أو يبلغ إليه مرتقى همته. وكل عمل فاشل إذا هو لم يقم على أساس من الحقيقة لا الخيال: وليس ثمت عمل خيراً من العامل فإذا كان في الرجل قوة كامنة لا تنفك تحفزه وتحثه فهو خليق أن يبلغ ما في نفسه. وليس يكفي أن يعرف العقل العلة وطبابها فإن ذلك لا يبلغ بالمرء حيث تبلغه تلك القوة. ولست أجد لذة في إحسان لا يقاس إلا بآثاره فإن الحب لا نهاية له وهو وإن فرغت بيادره لا يزال ينفس الكرب ويزيل البث وحامله يطهر بأنفاسه الهواء ومنزله يزين الأرض ويعين الحق. والناس لا يغيب عنهم هذا الفرق فإنا لنعرف الكريم من وجهه لا بمقدار ما اكتتب به لجمعيات البر والرفق وى المرء وضاعة أن تعد محاسنه. وأنت خليق أن تخاف إذا قدر أخوانك أن يحصوا مآثرك تحت عينك فأما إذا لقوك بعيون يغض منها الإجلال

والكره ورأيتهم قد أحجموا عن الحكم عليك فأنت خليق أن تشيم مخايل الرجاء. ويخيل لي أن من يعيشون للمستقبل أنانيون في نظر من يعيش للحاضر. لذلك كان من السخافة أن يعدد ريمر حسنات جويتي فيقول أعط كذا ديناراً لفلان وكذا درهماً لفلان وفلان ومكن الأستاذ فلاناً من وظيفة غزيرة الفائدة وأدخل فلاناً في حاشية الدوق - الخ الخ فإن عدد هذه المبرات قليل وإن كثر وإذا كنت تزن المرء بما تحصي من نوافله فما أحراه أن يشيل في الميزان لأنها جميعها شواذ فأما كرم جويتي فقد عرفناه من رسالة مسهبة بعث بها إلى الدكتور أكرمان يشرح فيها كيف صرف ماله وقد قال فيها لقد كلفتني كل كلمة طيبة قلتها كيساً من الذهب ولقد فيّحت نصف مليون من مالي الخاص الذي ورثته وبددت وظيفتي وكل ما كسبته من الكتابة والأدب - أضعت كل ذلك لأعرف ما أنا اليوم به عليم - ولقد رأيت عدا ذلك الخ الخ. والشخصية هي الطبيعة في أشرف صورها وأسماها والذي يحاول أن يحكيها أو يكافحها يحاول أمراً بعيداً ويروم مراماً معضلاً لأن في هذه القوة قدرة على المقاومة والثبات ترمي المنافس بالفشل وتسِمُه بالعجز - ويوجد صنف من الناس يظهرون من حين لحين وبينهم فترات يشقى بها صبر الأمم. فلا يسع الناس إلا الأيمان بهم وبرسالتهم لما يرون فيهم من الفضيلة وبعد الغور وصدق المنزعة وهؤلاء الرجال يولدون ذوي شخصية أوهم كما قال نابليون خلقوا للنصر يتلقّاهم الناس بادئ الأمر على حرف لأنهم جدد ولأنهم يعرون سابقيهم مما علق بشخصياتهم ويجردونهم مما ليس لهم. والطبيعة أعزك الله لا تلتزم في عظمائها ما نلتزم في الشعر من القافية فلا تشق اثنين من نبعة واحدة ولا تقد رجلين من أديم ولا تجيء بعظيمين على غرار فأيما رجل رأى في عظيم مشابه من آخر فلا يحسب أن الليلة لذلك شبيهة بالبارحة فإن شخصية المرء مسألة لا يحلها إلا صاحبها على طريقة لم يسبقه إليها أحد. والحفر في رأيي نوع من التاريخ فإن ابولو وجوف ليسا مستحيلين يكسوهما اللحم ويجري في عروقهما الدم والصانع إنما نظر فرأي فرسم ولعل في العالم ما هو أبدع من تمثاله وأروع من دميته ولقد رأينا نظائر ذلك ولكنا خلقنا وفي نفوسنا بذرة الأيمان بالعظماء وما أهون أن يقرأ أحدنا في الأسفار القديمة أيام الرجال قليل عن أضأل الأعمال وأحقرها.

نحب أن يكون الرجل ضخماً عملاقاً مالئاً ل ليكون حقيقاً أن يكتب له في صحيفة الخلود مثل ما يأتي جمع ذيله وحسر عن ساقه ويده وقام قاصداً المكان الفلاني وأحق الأعمال بالتصديق أعمال رجال تطامنت لهم المفارق لأول ما ظهروا واقتنعت بصدقهم المشاعر كما وقع للحكيم الشرقي الذي بعث ليسبر غور (زوريستر) ويبلو ما عنده فقد زعم الفرس أن الحكيم اليوناني لما وصل (بلخ) أمر جوشتاسب بالحكماء والعلماء أن يجتمعوا لديه في يوم معلوم ونصب لمجلس اليوناني كرسياً من الذهب فلما جاء اليوم المعلوم واحتشد الحكماء ومشي زوريستر وسط جموعهم ورآه الحكيم اليوناني قال تاالله لا تكذب هذه الطلعة ولا تلك المشية وما كان الكذب ليجد إلى لسان هذا الرجل سبيلا وقال أفلاطون محال أن لا نصدق أبناء الآلهة وإن كانت حججهم لا محتملة ولا ضرورية غير أنه لا حاجة بنا إلى إثارة دفائن القرون الماضية فإن أعمى الناس من لم تهده تجاريبه إلى قوة السحر وهل يستطيع أجمد الناس وأشدهم مراء أن يسير من غير أن يصادف في طريقه مؤثرات مستعجمة العلل متنكرة الأسباب هذا يرشقه بنظرة فتنشر الذكري ما مات وفات وذلك يحدجه ببصره فتنضب قريحته ويمتنع عليه القول ويحس كأن مفاصله تفككت. ويدخل عليه صديق له فيتحدر تحدر السيل ويتدفق تدفق اليعبوب وتجري الفصاحة بين شفتيه ولهاته والبلاغة بين لسانه وفؤاده هذا إلى أنه لا يستطيع إلا أن يذكر أناساً بعينهم قد أوروا في صدره حياة أخرى! ونحن إذا كان من وراء طاقتنا أن نبلغ رتبة العظماء ومنزلة ذوي الشخصية فما أحرانا أن نعرف لهم قدرهم ونخفض لهم جناح الضعة فإني لا أعرف لمن لا يفطن لصاحب الشخصية عذراً ولا أصفح عمن يتجاهله أو يعرفه فينكره ويلقاه فيتجهمه فإن ذلك ذنب لا تسعه مغفرة وجرم تقفل من دونه فاعله أبواب السماء. 2 الواجب للفيلسوف جول سيمون تعريب الأستاذ محمد لطفي جمعه

تمهيد 1 الوسط الأدبي والعلمي الذي نشأ فيه جول سيمون حياة جول سيمون تشغل القرن التاسع عشر بأجمعه فقد ولد في أوله وتوفي في آخريات سنيه وكان قدره في الفلسفة والسياسة كقدر أشباهه وأقرانه الذين ولدوا في فجر هذا القرن وغربت شموس حياتهم قبيل غروب شمسه أمثال فيكتور هيجو وجيزوه وتيير ومن عداهم وكلهم من فحول الأدب والعلم ومن أبطال السياسة. ويصدق على جول سيمون قول من قال أن الرجال ثمرات عصورهم وصور مصغرة لحوادث الجيل الذين يعيشون فيه فقد كان القرن التاسع عشر قرن نهوض سياسي في أكثر أنحاء العالم لاح فجره بتغيير النظام الحكومي في فرنسة وبدئ بانقلاب مماثل له في بلجيقة وبلاد اليونان وايطالية وقامت دول جديدة كدولة محمد علي على ضفاف النيل ودولة المهدي في أحشاء أفريقية. وقام في بلاد الانكليز رجال عاصروا جول سيمون أمثال غلادستون فغيروا الشؤون في بلادهم وكان العالم عدا ذلك كله يخطو خطوات واسعة في ميدان العلم فنشأ من العلماء الطبيعيين أمثال هيكيل في جرمانية وداروين وهوكسلى في انكلترة واستعادت الفلسفة صباها على أيدي أوجست كونت الفرنسي وهربرت سبنسر الانكليزي أما فرنسة ذاتها فقد كانت في القرن التاسع عشر مهد حركة فلسفية أدبية لم ير العالم مثلها فنشأ فيها من فطاحل الكتاب شاتوبريان واضع كتاب اتالا ومالك ناصية النثر ولامارتين الشاعر الجليل الذي كان وهو في فقره المدقع يصل إلى السماكين بخياله السامي وشعره الصقيل: وفيكتور هيجو كاتب المئات من الكتب وناظم مثلها من الدواوين مرعب الامبراطرة ولسان الحق ونصير البائسين والفرد دي موسيه شاعر الليالي وواضع اعتراف فتى العصر وهو الذي تصل معاني شعره إلى النفس قبل وصول صوت الألفاظ إلى الأذن صريع الغواني وقتيل بنت الكروم. وبالزاك القصصي الساحر مؤلف مضحكات الحياة في أربعين كتاباً وعارض أشكال البشر في ألف ألف صحيفة والدايوجين جرانديه طريد الفاقة وحليف الأسى وشيخ كتاب القصص. وميشليه صاحب كتاب تاريخ فرنسة في ثلاثين جزءاً كأنها لعذوبتها السحر

الحلال وكتاب الوطن والبحر والمرأة ابن عامل في مطبعة وصل بجده إلى منصة التدريس في النورمال والسوربون. وظهر في فرنسة قبيل هذا العهد بقليل. لجراناج ومونج ولابلاس وهم نفر من الرياضيين والفلكيين بلغوا المجد قبل بلوغ العشرين فكانوا أساتذة الشيوخ وهم في شرخ الشباب فأسسوا مدرسة الهندسة ومدرسة المعلمين العليا نورمال بباريس وأشهرهم بالإجماع ثالثهم الذي اشتهر في أنحاء الأرض بمذهبه المعروف في أصل الأرض وانشقاقها عن الشمس مصداقاً لما جاء في القرآن الشريف وكانتا رتقاً ففتقناهما واشتهر من الكيماويين وعلماء الفيزيقي أمبير وراجو وجاي لوساك فبرز الأول في البحث في المغنطيس الكهربائي والثاني في تمدد الغازات والثالث في الكيميا العضوية. ونبغ من الطبيعيين جيفروسانت هملير وكوفييه فدونا الكتب في تاريخ العلوم ودرسا علم الحيوان وعلم وظائف الأعضاء. ونبغ من العلماء البحاثين شامبوليون الذي حلَّ الغاز اللغة الهيروغليفية واشتغل غيره بالسنسكريتية وغيرها من اللغات القديمة ومحض العلماء تاريخ الشعوب الهندية الأوربية الشاملة للهنود والفرس والأرمن والإغريق والسلاف والجرمان والقلت واللاتين والشعوب السامية الشاملة للأشوريين والكلدانيين والفينيقيين والعبرانيين والعرب. 2 الوسط السياسي الذي نشأ فيه جول سيمون أما حياة فرنسة السياسية وهي العنصر الثاني الذي تكون منه الوسط الذي نشأ وتهذب فيه جول سيمون فقد كانت في القرن التاسع عشر في أقصى درجات الاضطراب وكأن فرنسة كانت تعبر ذلك القرن تحت نجم شيء الطالع أخذ من كل حظ نصيباً فكانت الحرية التي شريت بالدماء والجهاد المستمر تباع بأرخص الأثمان وتتلوها سلطة الملوك المطلقة وكان الشعب لا يوشك أن يستريح من شن غارات نابليون الأول حتى دعوه للذود عن حياض الوطن ولا تكاد الأمة تفرح بانتهاء عهد الانقلاب حتى توقظها نواقيس انقلاب جديد. فقد تحكم في فرنسة من 1815 إلى 1848 ثلاثة ملوك أولهم لويس الثاني عشر من 1815

إلى 1824 فرد إلى فرنسة حقوقها وقد تعددت لعهده الأحزاب السياسية ومنها الحزب الملكي المتطرف وهم أنصار العرش وأعداء رجال 1789 وحزب المستقلين وهو حزب الحكومة والحزب الملكي الدستوري. أما لويز الثامن عشر نفسه فقد كان ملكاً إِمعة ذا عاهات نفسية وبدنية ضعيف الحول والإرادة وكانت ثلاث وعشرون عاماً قضاها منفياً قد كسرت من شوكته وأطفأت من جذوة قوته وجبروته فلما رأى تألب الأحزاب وبطش المجالس تنحى عن الملك وخلفه على العرش أخوه كونت دارتوا الذي سمي بعد ذلك شارل العاشر وهو الذي قال يظهر بغضه للدستور الفرنسي أنني أفضل عيشة الحطاب على عيشة ملك انكلترة لما هو فيه من القيود الدستورية وقد حكم من 1824 إلى 1830 فسخر الدولة لإشراف العهد القديم وندب إلى الوزارة رجالاً لا ميزة لهم إلا جهلهم وغشومتهم وقنن القوانين القاسية فلما تأفف الشعب وبلغه ذلك وهو في قصر سانكلو بظاهر باريس قال أنه لم يضع لويس السادس عشر سوى تساهله وأصدر في يوم واحد أربعة قرارات. الأول بالقضاء على حرية الصحافة الثاني بحل مجلس النواب الثالث بتحوير قانون الانتخاب الرابع بضرب موعد للانتخاب التالي. وكان ذلك في 25 يوليو عام 1830 فحدث في باريس الهياج المشهور فتنازل شارل عن الملك هو وابنه ونصب حفيده ملكاً وعين دوق أورليان وصياً على الملك الصبي ولكن الشعب كان قد انتخب هذا الدوق وأطلق عليه اسم لويز فيليب الأول فحكم من 1830 - 1848 وكان في السابعة والخمسين لما بلغ العرش واشتهر بحبه للفقراء ومسايرة الزمان والاعتماد على المصادقات وكانت الأحزاب السياسية لعهده كثيرة منها اثنان في المعارضة وهما حزب الشرعيين أي الذين قالوا بأحقية الملك الصبي حفيد شارل العاشر للملك وسموا لويز فيليب بالمغتصب والحزب الجمهوري القائل بمبادئ 1789 وكان كذلك للحكومة حزبان حزب التقدم وحزب المقاومة وانقسم حزب المقاومة إلى حزبين حزب اليمين وحزب الشمال وقد انتهى الأمر بالحزبين الأولين المعارضين إلى الاشتهار بمحاربة الأسرة المالكة على رؤوس الأشهاد. وقد حدث في عهد لويز فيليب هذا انقلابات شتى أحدها في 1831 والثاني في 1834 وانتهت بانقلاب 1848 الذي تأسست بعده الحكومة الجمهورية

الثانية وتولى منصب الوزارة في عهده رجلان من أكبر رجال فرنسة في القرن التاسع عشر هما جيزو وتيير واشتهر هذا الملك بمناصرته لمحمد علي وهو الذي كتب إليه كتاباً مشهوراً جاءَ فيه أن صداقة مصر أصبحت ضرورية لفرنسة. وفي عهده ظهرت المبادئ الاشتراكية بظهور رجالها أمثال لويس لبلانك (1812 - 1882) ولاكورديير (1802 - 1861) ثم قامت حركة 1848 الشهيرة فسقط لويز فيليب وسقطت حكومة الملكية وقامت على أنقاضها حكومة الجمهورية الثانية 1848 وهي الحكومة التي أسستها الحكومة المؤقتة التي تألفت من لامارتين ولدرورولان ولويز لبلانك واثنان صحافيان غيره. ولما تكونت حكومة الجمهورية الثانية وانتخب نابليون الثالث رئيساً للجمهورية انتظر سنين قليلة ريثما يتمكن من التسلط على الأمة ويجتذب عامة الشعب ثم هيأ الانقلاب المشهور الذي عكس الآية وصارت الجمهورية إمبراطورية وأصبح نابليون الثالث إمبراطوراً وقد دون فيكتور هوجو هذه الحوادث في كتاب شهير اسمه تاريخ جريمة. وقد حارب أرباب القلم والبيان من كبار كتاب فرنسة أمثال هوجو وروشفور حتى حاربه القضاء عام 1870 فانكسر وانكسرت فرنسة ولم يُقلها من وهدتها سوى رجال من الأمة أبرار بها أمثال غمبتا وتيير وجول سيمون. هذا هو الوسط الأدبي السياسي الذي نشأ فيه جول سيمون أتينا على وصفه بغاية الإيجاز وسنذكر الآن أهم حوادث حياته ونأتي على نبذة في أخلاقه قبل الشروع في تفسير أعظم كتبه. جول سيمون واسمه بأجمعه فرنسوا جول سويس سيمون ويطلق عليه جول سيمون اختصاراً فيلسوف وسياسي فرنسي ولد بلوريان في 27 ديسمبر 1814 وتوفي بباريس في 8 يونيو 1896. وكان أبوه يشتغل بتجارة الأقمشة وقد نَبُه ذكر الأسرة بفضله - تخرج سيمون من مدرستي لوريان وفان الثانويتين ثم عين معيداً ومعيناً للأساتذة بمدرسة رين الثانوية وبدأ منذ فجر شبابه بالتحرير في مجلة بريتاني الأدبية. وفي 1833 التحق بمدرسة المعلمين العليا نورمال وعين أستاذاً للفلسفة بمدرسة كايان سنة 1836. ثم عين في الوظيفة نفسها بمدرسة فرسايل بعد ذلك بسنة.

وقد شهد فيه فيكتور كوزان أستاذ الفلسفة بمدرسة السوربون شغفه باللغة اليونانية وآدابها وقيامه بنقل مؤلفات أفلاطون إلى الفرنسية فقربه إليه ثم خلف كوزان في منصبه فشغل مركزه وقام بتدريس الفلسفة وألقى دروساً عن فلاسفة اليونان لا سيما أفلاطون وأرسطو وكانت هذه الدروس منهل الواردين من محبي العلم من سائر الطبقات. ثم بدأ بالتحرير في مجلة العالمين. وكان ممن أسسوا مجلة حرية الفكر عام 1847. ثم بدأ يشتغل بالسياسة فرشح نفسه للانتخاب في مقاطعة لانيون وبذل مجهوداً كبيراً ولكنه فشل بمساعي حزبي اليمين والشمال المتطرفين (1847) ولكنه عاد فانتصر انتصاراً باهراً بعد ذلك بعام حيث انتخبته مقاطعة الشواطئ الشمالية في 23 ابريل 1848 عضواً للمجلس الواضع للدستور فكان مركزه بين المعتدلين واشتغل شغلاً وافراً في اللجان الكبرى ثم حارب فكرة الكوميونيزم وتفرغ للبحث التي كانت شغله الشاغل ثم استقال في 16 ابريل 1849 ليدخل مجلس الحكومة ولكنه فقد فجأة كل مناصب الحكومة فلم يعد انتخابه في مجلس الحكومة عند ما تجدد انتخاب ثلث أعضائه ولم يعد انتخابه في المجلس الواضع للدستور ووشك أن يفقد منصبه في دور العلم ولكنه بعد الانقلاب السياسي الذي حدث في 2 ديسمبر 1851 الذي تمكن به نابليون الثالث من إسقاط الجمهورية وإعلان حكومة الإمبراطورية ذهب جول سيمون إلى درسه في مدرسة السوربون وألقى الخطبة الآتية التي ذاع منذ ذلك الحين صيتها وتناقلتها الألسن قال: أيها السادة: أنني أقوم هنا بإلقاء درس في الآداب وإنني اليوم مدين لكم بنموذج فعلى لا بدرس ألقيه عليكم. إن الأمة الفرنسية مدعوة لتجتمع غداً في مجالسها لتقرأ أو لتنكر الحوادث التي حدثت قريباً. فلو أن الأمة ستنكر هذه الفعال فقد جئت أقول لكم على رؤوس الأشهاد أنني أنا من المنكرين فكانت نتيجة هذه الخطبة أنه أقيل من منصبه وحرم من منصب التدريس في مدرسة المعلمين العليا. فاعتزل الأعمال وقصد مدينة نانت فشغل فراغه بالأبحاث التاريخية ثم نشر كتاب الواجب (1854) مقاوماً به نظام الإمبراطورية فكان لهذا الكتاب دوي عظيم.

ثم نشر بعد ذلك الكتب الآتية الدين الطبيعي (1856) والحرية (1857) وتلا تلك الكتب سلسلة محاضرات بليغة حماسية في المسائل الاشتراكية والفلسفية. ثم كان في الوقت نفسه يجاهد جهاداً سياسياً. فإنه بعد أن فشل في انتخابات عام 1857 في الخط الثامن من مقاطعة السين انتخب عضواً في مجلس التقنين في أوائل يونيو 1863. وكان لبلاغته وشدة عارضته تأثير شديد وسلطة كبرى في المجلس رغم مخالفته للجماعة. وكانت خطبته التي ألقاها في مصالح المرأة في طبقة العمال وفي حرية العبادات وفي مسألة رومة أحسن وسيلة لانتشار ذكره في أنحاء فرنسة وفي 1863 انتخب في مجمع العلوم الأدبية والسياسية وفي سنة 1869 انتخب في مقاطعة السين والجيرون ففضل المقاطعة الأخيرة وقاوم فكرة الحزب وفي 4 سبتمبر انتخب عضواً في الحكومة المؤقتة التي كونت للدفاع عن الوطن وكان في اختصاصه ثلاث وزارات المعارف العامة والأديان والفنون الجميلة وحدث له بعد حصار باريس خلاف شديد بين الحكومة وبين وفد بوردوه فان غمبتا كان يريد أن يقصي عن انتخابات الجمعية الوطنية كل رجال العهد الإمبراطوري وقد وكل إلى جول سيمون أن يلغي أوامر غمبتا بحجة كونها مقيدة لمبادئ الحرية العامة في الانتخاب فحدث شقاق شديد بين وفدبوردو وبين غمبتا أدى إلى استقالة هذا الأخير وانتخب جول سيمون بعد ذلك عضواً في الجمعية الوطنية عن مقاطعة المارن ولما شكلت وزارة تيير اختاره وزيراً للمعارف (1871) (متلو)

باب الأدب

باب الأدب الفكاهة في شعر العرب ً // للكاتب العبقري عبد الرحمن شكري الفكاهة نوعان فكاهة خيالية وفكاهة لفظية والفكاهة الخيالية هي نوع من الخيال ومجالها حيث يتضاءل الجد فيه فهي الخيال في حال تبسطه ومن أجل ذلك كانت الفكاهة لا تستعمل في مكان الجد ولكن صعباً على من لم يتعود النقد أن يعرف الحد الفاصل بين مكان الجد ومكان الفكاهة فمن الناس من يعد في الجد ما يعده آخر في باب الفكاهة ومن الناس من يعد في الفكاهة ما يعده غيره في باب الجد ورجحان رأيه بقدر نصيبه من صحة الذوق وسنبين ذلك في هذا المقال فمن أمثال الفكاهة الخيالية قول ابن الرومي في رجل أصلع: يأخذ أعلا الوجه من رأسه ... أخذ نهار الصيف من ليله وليس كل خيال يجري بالفكاهة لأن الخيال إذا لم يكن وثاباً امتنعت عليه سبلها لأنها تخرج من التأليف بين الحقائق المتباعدة والصور المتنائية وتباعد الصور ليس دليلاً على تباعد الصلة التي بينها فإن ابن الرومي في بيته السابق قد ألف بين صورتين متباعدتين وهما أن صلع الرجل جعل وجهه مغيراً على رأسه آخذاً منه وإن تزايد نهار الصيف يُجنَي من تناقص ليله ووجه الشبه الذي بين الصورتين قريب متين وأني لأحسب أن تطير ابن الرومي بينه وبين فكاهته الخيالية سبب لأن التطير يبعثه سوء الظن وسوء الظن يدعو المرء إلى اتهام الناس بمعاداة صاحبه وذلك يبعث على تطلب السبيل الدمث لهجائهم وانتقاصهم وأوجع الهجاء ما جعل المهجو ضحكة في أفواه الناس فأكبر ظني أن سوء رأي ابن الرومي في الناس هو الذي استقدح الفكاهة في خياله وهذا بيرون كان مر النفس فاتخذ من مرارة نفسه رائداً إلى الفكاهة اللاذعة انظر كيف يصف وزيراً من وزراء الانجليز حيث يقول فلان ذو الذهن الخصيّ فإن تشبيهه الغباوة بالخصى من الفكاهة الخيالية وهذا المتنبي قد سما بنفسه بين الثريا والسماك ومن كان يربأ بنفسه أن يُعدَّ في الناس عرف من أين تؤتى الفكاهة اللاذعة انظر إلى قوله في رجل أعور: فيا ابن كَرَوَّسٍ يا نصف أعمى ... وأن تفخر فيا نصف البصير ومرارة النفس تزيد الفكاهة قوة ورسوخاً في النفس غير أنها تلبسها زياً أسود يلائم زيها

وتستخدمها في إنفاذ أمرها وتقريب غرضها أما إذا لم تجد الفكاهة في النفس ما يرنق صفوها ويمر مذاقها كانت كالنهر حين تدفقه بين الصخور صافي الماء عذبه هذا جوزيف أديسون لطيف الفكاهة شريفها مهما غلا في نقد العادات والأخلاق ومن أجل ذلك كان خليقاً أن يحمل النفس على الخروج عما يشوبها من غير أن يضيع ثقتها بضميرها ومن غير أن يثير عداء الناس ويحرك بغضهم باللفظ الجارح فقد كانت الفكاهة في لسان سويفت اوكارليل كالسيف في يد الجَلود أو السوط في يد الجلاد. وأحسن الفكاهة ما صدر عن رغبة في إصلاح فاسد وتقويم معوج من العادات والأخلاق والعرب تستعمل الفكاهة في الهجاء والسخر والتعجيز والوصف انظر إلى قول المتنبي في رجلين قتلا جرذاً وأبرزاه ليعجب الناس من كبره: وأيهما كان من خلفه ... فإن به عضة في الذنب انظر إلى الصورة الخيالية المضحكة التي في هذا البيت صورة شجار بين رجلين وبين جرذ وانظر كيف ادعى الشاعر أن أحدهما قد عض الجرذ في ذنبه ولكن المتنبي يمزج الهجاء بالفحش في كثير من شعره ومن الفكاهة ما كان يستعمله الشاعر في المديح تغالياً في إعلاء ممدوحه وتكثيراً لما يستخرجه من المعاني وأكثر هذا النوع سخيف لأنه أقرب إلى الذم منه إلى المدح وأني ما قرأت قوله: خفت إن صرت في يمينك أن تأ - خذني في هباتك الأقوام ألا تملكني الضحك من ذلك المنظر الغريب المودع في هذا البيت وذكرت ما يشبهه مما يحدث يوم الجمعة عند باب السيدة زينب حيث يتسابق الفقراء والمساكين إلى التمر والكعك والفطير الذي تفرقه النساء صدقة وقد بلغني أن امرأة وضعت حذاءها في ناحية فأخذه أحد المساكين حاسباً أنه من هباتها وقد خاف المتنبي أن صار على قرب من ذلك الكريم أن تأخذه الأقوام حاسبة أنه عبد من هباته ومثل هذا قوله: وقلبك في الدنيا ولو دخلت بنا ... وبالجن فيه ما درت كيف ترجع أليس هذا أقرب إلى السخر والتهكم منه إلى المدح ولكن هكذا الشاعر القدير إذا لم يراقب خياله أتى بالمستهجن ولا يحسب أن المتنبي أراد أن يمزج بمعاني المدح شيئاً من الفكاهة وهو خروج بالمدح عن حده وليس هذا من أدب المدح وإنما دفعه إلى مثل هذا الغلوُّ وحب

الابتداع وهما شيئان مقرونان في قَرَن. أما شعراء الجاهلية وصدر الإسلام فإنهم وجدوا الفحش وهُجْر الكلام أنكى وأوجع وقد يمزجون به شيئاً من الفكاهة هذا سبيلهم في الهجاء إلا في القليل النادر وأما شعراء الدولة العباسية فإنهم يستعملون الفحش في الهجاء أيضاً ولكنهم تفننوا في استعمال الفكاهة اللاذعة وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام يستعملون الفكاهة في السخر والتعجيز أكثر من استعمالهم إياها في الهجاء أو الوصف هم يستعملونها كثيراً في الوصف إذا أريد منه السخر وممن استعمل الفكاهة من الشعراء العباسيين فأجاد أبو نواس ومن بديع شعره في هذا الباب قوله في البخيل: خبز الخصيب معلق بالكوكب ... يحمى بكل مثقف ومشطب جعل الطعام على بنيه محرماً ... قوتا وحلله لمن لم يسغب انظر إلى قوله (وحلله لمن لم يسغب) ويعجبني في هذا الباب قول حافظ إبراهيم في الفقر: وخال الرغيف في البعد بدراً ... ويظن اللحوم صيداً حراما وقال أبو نواس: رأيت الفضل مكتئباً ... يناغي الخبز والسمكا فأسبل دمعه لما ... رآني قادماً وبكى فلما أن حلفت له ... بأني صائم ضحكا إذا كان لأهل الفضل والأخلاق الحميدة أن يبيحوا الهجاء فلا أكثر من هذا والشاعر خليق أن ينزه منطقه عن مثل ما وقع بين الفرزدق وجرير والأخطل والبعيث أو مثل ما وقع بين بشار وحمّاد عجرد أو مثل أهاجي ابن الرومي في بوران أو هجاء المتنبي لأبن كيغلغ وماذا يري الأديب مما تسيغه النفس المهذبة في هجاء البحتري للمستعين حيث يقول: وما كانت ثياب الملك تخشى ... جريرة بائل فيهن خارى أو قول الأخطل: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار أو قول المتنبي يحمي ابن كيغلغ الطريق وعرسه ما بين رجليها الطريق الأعظم إلى آخر

الهجاء. وممن استعمل الفكاهة في الهجاء من غير أن يبيح حرمة الأدب أبو العلاء المعري حيث يقول: رويدك أيها العاوي ورائي ... لتخبرني متى نطق الجماد وأبو تمام حيث يقول: ألصقت قلبك من بغضي على حرق ... أضر من حرقات الهجر للجسد أنحفت جسمك حتى لو هممت بأن ... ألهو بصفعك يوماً لم تجدك يدي ومن بديع ما سمعت من الفكاهة قول أبي نواس وكان قد حبسه الفضل بن الربيع في أيام الأمين حتى أشاع أهل خراسان أنه يصطفي ماجناً خليعاً ويقضي معه ليله ونهاره فأقام أبو نواس في السجن زمناً ثم استتابه الفضل فتاب فعفا عنه فبعث إليه بهذه الأبيات: أنت با ابن الربيع ألزمتني النس - ـك وعودتنيه والخير عاده فارعوى باطلي وأقصر حبلي ... وتبدلت عفة وزهاده المسابيح في ذراعي والمص - ـحف في لَبّتي مكان القلاده وإذا شئت أن ترى طرفة تعـ - ـجب منها مليحة مستفاده فادع بي لا عدمت تقويم مثلى ... وتفطن لموضع السجاده تر إثراً من الصلاة بوجهي ... توقن النفس أنه من عباده لو رآها بعض المرائين يوماً ... لاشتراها يعدها للشهادة ولقد طال ما شفيت ولكن ... ادركتني على يديك السعاده وهناك نوع من أنواع الفكاهة يسميه الأفرنج الفكاهة اللفظية وشيخ هذه الصناعة (فولتير) ورب الفكاهة الخيالية عندهم هو جان بول رختر الألماني أما شكسبير فنصيبه من النوعين أوفر نصيب والعرب تستعمل الفكاهة اللفظية ولكنهم قد يغالون فيها فتجيء سمجة والفكاهة اللفظية مثل قول المتنبي: كأن السُماني إذا ما رأتك ... تصيدّها تشتهي أن تصادا ويعجبني منه استخدامه هذه الفكاهة اللفظية في الاعتذار حين عاتبه بعض أخوانه لأنه لم يرد سلامة فقال:

أنا عاتب لتعتبك ... متعجب لتعجبك إذ كنت حين لقيتني ... متوجعاً لتغيبك فشغلت عن رد السلا - م وكان شغلي عنك بك فهذا الاعتذار مالطة ولكنه مغالطة مليحة فهو من الفكاهة اللفظية لأن الصلة التي بين شغله بالتوجع لغياب صديقه وشغله عنه صلة توهم وليست مثل الصلة التي بين أخذ أعلا وجه الأصلع من رأسه وبين أخذ نهار الصيف من ليله في بيت الرومي فإنك إذا نظرت إلى الصورة المودعة في هذا البيت أي صورة وجه الأصلع ورأسه ثم رأيت كيف يجني تزايد يوم الصيف من تناقص ليله علمت كيف تميز الفكاهة الخيالية من الفكاهة اللفظية التي أصلها المغالطة في مثل اعتذار المتنبي والفكاهة الخيالية يلتذها المرء بخياله والفكاهة اللفظية يلتذها المرء بملكة المنطق لأنها مغالطة منطقية كان يريد صاحبك أن يبرهن لك مزاحاً باضطراب في المنطق أن شيئاً خطأ هو رأس الصواب أو أن شيئاً صواباً هو رأس الخطأ واعتذار المتنبي هو مثل من أمثال ذلك: أما الفكاهة الخيالية فهي التي تعرض عليك صورة من صر الخيال يبسم لها القلب وتحسب أن البيت الذي يحتويها صورة لا بيت شعر أما الفكاهة اللفظية فهي مغالطة يبسم لها الذهن فإنك إذا قرأت اعتذار المتنبي أعجبتك مهارته ولطف تخيله وهذا شيء مصدره الذهن وكذلك إذا عرض عليك قوله: كأن السماني إذا ما رأتك ... تصيدها تشتهي أن تصادا ولكن إذا عرض عليك قول ابن الرومي في الرجل الأصلع الذي يأخذ وجهه من رأسه أخذ نهار الصيف من ليله الأح لك بصورة فكاهية وقد تكون الفكاهة اللفظية أجلب للضحك من الفكاهة الخيالية لأن المغالطة عند العامة هي مصدر ضحكهم. وليس لنوعي الفكاهة حدود معينة فلا تقدر أن تقول هذا حد الفكاهة الخيالية وهذا حد الفكاهة اللفظية فإنهما قد يمتزجان أنظر إلى قول الرومي في رجل بخيل: فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد هذا البيت يليح لك بصورة فكاهية صورة رجل من بخله يتنفس من منخر واحد ولكنها مغالطة مليحة لأن البخيل مهما كان بخيلاً لا يجد نفعاً له في أن يتنفس من منخر واحد حتى لو استطاع ذلك ولكن لا مغالطة في تشبيه تطاول وجه الرجل الأصلع على رأسه

بتزايد نهار الصيف وتناقص ليله لأنه ليس معنى التشبيه أن المشبه والمشبه به سواء فإذا نظرت إلى قول ابن الرومي في البخيل وجدت الفكاهة اللفظية ممتزجة بالفكاهة الخيالية وذلك أيضاً كائن في بيت أبي العلاء: رويدك أيها الغاوي ورائي ... لتخبرني متى نطق الجماد على أن أكثر الفكاهة اللفظية يجيء ممزوجاً بشيء من الفكاهة الخيالية وبقدر نصيبه منها يكون نصيبه من روح الشعر وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام يستعملون الفكاهة الخيالية أكثر من الفكاهة اللفظية وهذا دليل على صحة أذواقهم ولكن شعراء الدولة العباسية قد أكثروا من استعمال الفكاهة اللفظية لأنهم تفننوا في أنواع المغالطة المنطقية وقد يجيئون بها مليحة وقد يجيئون بها سمجة. ولكن أكبر عيوب شعرائنا هو استخدامهم الفكاهة في موضع الجد وهم لا يعرفون أنها فكاهة وقد ذكرت من أمثال ذلك استخدام المتنبي الفكاهة في المديح وهو لا يعرف أنها فكاهة وأقبح من هذا استخدامهم الفكاهة في الرثاء مثل قول إمام العبد في قصيدة يرثي بها الشيخ محمد عبده ما معناه أنه لبس سواد جلده حداداً عليه قبل مماته وإمام العبد لم يرد أن يمزح فيخالف أدب الرثاء ولكنه أتى بالمزح من غير قصد وعمد لأنه تعود قراءة أمثال هذا المزح في الرثاء والمتنبي إذا استخدم المغالاة في الرثاء حسبت أنه يمزح مع الميت أو أنه يسخر منه ويهزأ به ومن أمثال المزح في الرثاء قول شاعر يرثي إماماً العبد ويقول له في رثائه أعرني سواد جلدك كي ألبسه حداداً عليك هذا أقرب إلى باب السخر والتهكم واستعمال المزح في الرثاء دليل على سقم في ذوق الشاعر وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام كانوا أصح أذواقاً من العباسيين لأنهم لم يستخدموا الفكاهة في موضع الجد من مدح أو رثاء أو حكمة إلا أن يجيئوا بها على سبيل التهكم أو السخر أو التعجيز وهم يريدون ذلك هذا مذهبهم إلا في القليل النادر ولكن بدأت الشعراء تستخدم الفكاهة في مواضع الجد وهم لا يعرفون أنها فكاهة في أواخر الدولة الأموية ثم في أيام الدولة العباسية وما زالوا يغالون في ذلك حتى جاؤا بالغث المستهجن في باب المديح والرثاء والحكم وشعراء هذا العصر يتابعونهم في سقم ذوقهم. فخليق بنا أن نلتمس سلامة الذوق في شعر شعراء الجاهلية وصدر الإسلام وأن نضع

المعنى موضعه كما نلتمس حسن الابتداع ولطف التوليد في شعر شعراء الدولة العباسية.

باب التاريخ

باب التاريخ أخبار الخوارج فرقهم واعتقاداتهم قد كانت الخوارج بادئ بدء على رأي واحد فكانت لذلك فرقة واحدة تخطئ علياً كرم الله وجهه في الرضا بالحكمين وتغض منه لعدم رضائه بحكمهما وتعيب عليه عدم السباء بعد الظفر يوم الجمل ثم تغالت فكفرته بذلك وطلبت منه أن يتوب ويعود إلى الإسلام. وكذلك كانت ترضى عن سيدنا عثمان (ض) إلى ست سنين من خلافته ثم تلعنه بعد ذلك وتقول أنه قد أحدث أحداثاً لا يقبلها الدين القويم. ودليلك على ذلك ما روي من حديثهم مع الرجل الورع عبد الله بن خَبّاب أحد كبار المحدثين المشهورين فإنه لقيهم يومً وفي عنقه مصحف ومعه امرأته وهي حامل فقالوا أن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك فقال ما أحيا القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه فوثب رجل منهم على رُطَبة فوضعها في فيه فصاحوا به فلفظها تورعاً وعرض لرجل منهم خنزير (أثناء ذلك) فضربه الرجل فقتله فقالوا هذا فساد في الأرض فقال عبد الله بن خبّاب ما على منكم بأس إني لمسلم قالوا له حدثنا عن أبيك قال سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه يمسي مؤمناً ويصبح كافراً فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل قالوا فما تقول في أبي بكر وعمر فأثنى خيراً فقالوا فما تقول في علي قبل التحكيم وفي عثمان ست سنين فأثنى خيراً قالوا فما تقول في الحكومة والتحكيم قال أقول أن علياً أعلم بكتاب الله منكم وأشدُّ تَوَقِياً على دينه وأنفذ بصيرة قالوا أنك لست تتبع الهدى إنما تتبع الرجال على أسمائها ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه فامذَقَرَّ دمه أي جري مستطيلاً على دِقَّةٍ. وهلم إلى حديثهم مع ابن الزبير لتعلم منه ما يرونه عيوباً على عثمان وغيره. فقد روي أن نافع بن الأزرق وهو من رؤوس الخوارج المعدودين ذهب مع أصحابه إلى مكة المكرمة ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم فأظهر لهم أنه على رأيهم حتى أتاهم مسلم ابن عقبة وأهل الشام فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية ولم يبايعوا ابن الزبير ثم تناظروا فيما بينهم فقالوا ندخل إلى هذا

الرجل فننظر ما عنده فإن قدم أبا بكر وعمرو بريء من عثمان وعلي وكفر أباه وطلحة بايعناه وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده فتشاغلنا بما يجدي علينا فدخلوا على ابن الزبير وهو مُتَبَذِل وأصحابه متفرقون عنه فقالوا إنا جئناك لتخبرنا رأيك فإن كنت على الصواب بايعناك وإن كنت على غيره دعوناك إلى الحق ما تقول في الشيخين قال خيراً قالوا فما تقول في عثمان الذي أحمى الحمى وآوى الطريد وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين. وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا وأخرجا عائشة تقاتل وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهن وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا ونسأل الله لك التوفيق وأن أبيت إلا نصر رأيك الأول وتصويب أبيك وصاحبه والتحقيق بعثمان والتولي في السنين الست التي أحلت دمه ونقضت بيعته وأفسدت إمامته خذلك الله وانتصر منك بأيدينا. فقال ابن الزبير إن الله أمر وله العزة والقدرة في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرأف من هذا القول فقال لموسى ولأخيه صلى الله عليهما في فرعون (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تؤذوا الأحياءَ بسب الموتى فنهي عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول والمقيم على الشرك والجاد في المحاربة والمتبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة والمحارب له بعدهم وكفى بالشرك ذنباً وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبى أن تقولوا أتبرأ من الظالمين فإن كانا منهم دخلا في غمار الناس وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني (أي لم تغضبوني) بسبب أبي وصاحبه وأنتم تعلمون أن الله عز وجل قال للمؤمنين في أبوابه وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً وقال جل ثناؤه وقولوا للناس حسناً وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج وأوضح لمنهاج الحق وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه فروحوا إلى من عشيتكم هذه اكتشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله.

فلما كان العشى راحوا إليه فخرج إليهم وقد لبس سلاحه فلما رأى ذلك نجدة قال هذا خروج مُنابذ لكم فجلس على رفع من الأرض. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرته فيها فجعلها كالماضية وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح وأن القوم استعتبوه من أمور وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً ثم أعتبهم بعد محسناً. وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العُتبي ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم فدفعوا الكتاب إليه فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به وقد أمر بقبول اليمين ممن ليس له مثل سابقته مع ما اجتمع له من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانه من الإمامة وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف على حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف وقد قال رسول الله (ص) من حلف بالله فليصدق ومن حلف بالله فليرض فعثمان أمير المؤمنين كصاحبه وأنا ولى وليه وعدو عدوه وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت أصبع طلحة سبقته إلى الجنة: وقال أوجب طلحة وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد قال ذلك يوم كله أو جله لطلحة - والزبير حواريُّ رسول الله وصفوته وقد ذكر أنهما في الجنة وقال عز وجل (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل لذلك هم وأن يكن زَلة ففي عفو الله تمحيصها وفيما وفقهم له من السابقة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ومهما ذكرتموها به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها فإن أبي آبٍ أن تكون له أمّا نبذ اسم الأيمان عنه قال جل ذكره وقوله الحق (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزاجه أمهاتهم). فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه فصارت طائفة إلى البصرة وطائفة إلى اليمامة وقد جعلت الطائفة التي ذهبت إلى البصرة نافع بن الأزرق رئيساً عليهم فمضى بهم من البصرة إلى الأهواز سنة 64 من الهجرة وكان عدد من تبعه اثني عشر ألف رجل كلهم أهل جد وقوة وبأس وصبر.

وإلى ذلك الوقت لم يكن وقع بينهم خلاف في فرع ما ثم تشبعت بعد ذلك آراؤهم واختلفت أهواؤهم فافترقوا إلى اثنين وعشرين فرقة أو يزيدون وذلك لمسائل عرضت وآيات اضطربت أفهامهم فيها وحارت أفكارهم في تأويلها فكان من جَرّاء ذلك أن حارب بعضهم بعضاً واغتال فريق منهم الآخر فتشبعت بهم المسالك وافترقت بهم المقاصد. ولكن هذه الفرق الكثيرة العدد يمكن إرجاعها إلى أربع فرق مشهورة وهي: أولاً - الأزارقة وهم أصحاب نافع بن الأزرق وكنية أبو راشد. ثانياً - النجدية وهم أصحاب نجدة بن عامر الحنفي. ثالثاً - الصفرية وهم أصحاب زياد بن الأصفر أو ابن صفار - وقيل سموا بذلك لصفرة وجوههم من كثرة الصيام بالنهار والقيام بالليل. رابعاً - الأباضية وهم أصحاب عبد الله بن أباض المُرِّي - (متلو)

الآثار التاريخية

الآثار التاريخية الحكمة المشرقية حكم فتاحوتب إذا أوتيت العلم فكن متواضعاً وجادل الجاهل بالتي هي أحسن كما تجادل قرنك واعلم أن الإنسان جاهل مهما اتسع نطاق علمه لأنه ليس للذكاء حد وليس لفضل والفطنة نهاية وما ملك أحد ناصية الحكمة: وأعلم أن كلمة الحق لدى الحر أثمن من يتيمة الدر. إذا جادلك حكيم عاقل وكان أرجح منك فضلاً وعلماً وأقوى حجة وأرسخ قدماً فاخفض له جناح الذل ولا تُعرض عنه إذا خالف رأيه رأيك واحذر أن تفوه بما يُحفظه وإياك أن تصدمه في حديثه فإذا استكبر وتواضعت رفعت نفسك في نظره واستللت بلينك من قلبه سخائم الكبر وربما سكن إليك وأحاطك بما لم تحط به خبراً. وإذا تجادل قرينك وألفيته لا يخرج في القول عن حده ولا يميل عن الحق إلى ضده فلا تغض عنه فإن الأغضاء يورث الأحقاد ويغرس بذور العداوات وإذا جادلت من هو أقل منك قدراً فلا تسخر منه ولا تحتقر شأنه لفقر فيه أو لضعف طرأ عليه ولا تلحف عليه بالسؤال فيما لا يعنيك حباً في استطلاع أمره وإذا أغضبك فلا تصبّ على رأسه جام سخطك فما ظلم الناس شر ممن هزأ بهم وما آلمهم شر ممن استكبر نفسه واستصغر نفوسهم وإن خدعتك نفسك وأغرتك بالشر فاعصها واغلبها على أمرها فإن هذه صفات الأبرار الصالحين. وإن كنت يا أيها الولد زعيماً ترشد قوماً أو قائداً تقود شعباً فكن كريم الأخلاق حسن الشيم لا تشوب أدبك شائبة واعلم أن الصدق أعظم النعم وله حول وطول ولن يخذل صاحبه وما كان الباطل ليغلبه أن للباطل جولة لا تبقى أكثر من ساعة وأن للحق دولة تدوم إلى يوم الساعة واعلم أن الإذعان للحق فضيلة لا تنكر وأن الاعتداء عليه ذنب لا يغفر ولا يعتدي على الحق إلا ذو مطمع دنيء والطمع في الدنايا مضر بصاحبه في شرفه وماله فهو يقوده إلى الشر والشر مطية الدمار. أما من يذعن للحق ولا يتطلع إلا إلى ما يستطيع نيله بالحق فثوابه عند الله عظيم واغتباطه بنفسه أعظم لأن الحق ميزان الحياة وأساس العدل والعدل فضيلة كبرى كامنة في النفوس الخيرة يحث عليها الآباء الصالحون ويوصى بها الحكماء والنبيون.

لا تكن يا ولدي سبباً في إرهاب النفوس بغير حق وحذا أن تكون نذير السوء فما تحكمت نفس في أخرى بغير حق إلا ولقيت من الله شديد العقاب واعلم أن الرجال ثلاثة رجل يدفع بنفسه في تيار الآمال ويترك الحقيقة طوعاً ويتعلق بأهداب الخيال فيكون نصيبه الخزي وعقابه الحرمان ورجل يدعي لنفسه البطش والقوة ويحاول أن ينال بهما ما يريد فيسحقه الله بيد من حديد ورجل يعطي السائل ويغيث الملهوف ويولى المعروف ويواسي الحزين والضعيف فيمده الله بروح من عنده فكن يا ولدي كذلك الأخير رقيق القلب رحيماً بالمعوزين تكن محبوباً لدى الناس وعند الله من المقربين. إذا دعاك عظيم فأجب دعوته وإذا أكرمك كريم فتقبل كرامته وإذا جلست إلى مضيفك فلا تطل النظر إلى وجهه ولا تبدأ بحديث قبل أن يفاتحك لأنك لا تدري أي الأشياء لديه أحب وأيها يستدعي لديه الغيظ والغضب: وإذا دارت رحى الحديث بينكما فلا يكن كلامك إلا جواباً على سؤال فإن في ذلك حفظاً لكرامتك وإرضاءً لمحدثك. إذا كن ضيفاً في دار فلا تحزن إذا كان نصيبك من خيرها قليلاً لأن رب الدار يكرم أضيافه حسبما توحي إليه نفسه. وكل أمريء في بيته سيد مالك فليس لك أن تجبهه أو تعترض عليه واعلم أن رزقك في يد الله ولن يهملك الذي خلقك. إذا أوفدك عظيم إلى عظيم مثله فاقتد بمرسلك في خلقه فإياك أن تعكر الصفاء بينهما بالخطأ في تبليغ الرسالة فقد يؤدي تحريف الكلم إلى العداء وكم من كلمة بدلت فدمرت بلداً ولفظ غيّر فكان مجلبة الشقاء وإذا فتح لك أمير أو حقير خزائن قلبه وباح لك بما يصونه من غيرك فلا تفش حرفاً مما اؤتمنت عليه لأن إفشاء الأسرار منقصة تلحق بصاحبها المذلة. إذا زرعت زرعاً فقم عليه وكن حريصاً حتى ينبت وينمو ويثمر فيبارك الله لك فيه وإذا حرمت النسل فلا تحسد من رزقه بل اغتبط به إذا رأيت مسرته وإذا لم تلد لك زوجك فلا تشاكسها. فإنك لا تعلم هموم الآباء إذا لم تكن والداً فقد يكون أحدهم سعيداً بماله شقياً بنسله وليس نصيب المرأة من النسل بأقل شقوة من أنصبه الآباء فإن الأمهات أكثر النساء هماً وغماً وأدناهن من القبور لشدة ما ينال إحداهن من الحزن وما تلقاه من الآلام في العناية بولدها في نومه ويقظته في مرضه وصحته في حزنه ومسرته. إذا كنت صغير القدر غير ذي شأن فالجأ إلى حكيم حازم والتصق به واجعل نفسك وقفاً

عليك فيرفعك بحكمة من حضيضك إلى أوجه ويقوم من عوجك بمثلما قوَّم من عوج ذاته. إذا رأيت رجلاً أصابه خطر حسن فنال منصباً سامياً لا يستحقه وكنت واقفاً على سره خبيراً بحقيقة حاله فلا تهزأ به لما تعلم من أمره بل كن كغيرك في إكرامه والحفاوة به وكفاه ما حاز من الفخر مبرراً لعيوبه فقد تحسن حاله بعلو مكانته واعلم أن الشرف والثراء لا يكونان لك عفواً صفواً وإنما للمرء من الخير قدر ما سعى. واعلم أن الله لم يشرع طرقاً أكثر من طرق الحلال لكسب الحال. لا تطع في الحياة إلا قلبك واعص نفسك في هواها ولا تجبها إلى سؤالها فيما لا يعلي قدرك. ولا تقض عمرك كله في تحصيل المال وكنزه فإن كنز المال وصرّه متعبة ولا خير فيما يتعب المرء في تحصيله ليزداد بوفرته نصباً. إذا رزقك الله ولداً فلا تهمل تهذيبه بل اسهر على تربيته وإرشاده إلى سواء السبيل فإن أثمر عملك فقد نلت ثوابين الأول ثواب من عمر في الأرض وعمم الخير والثاني ثواب من زرع زرعاً وبارك الله له فيه وإن كان لك بنت فلا تفرط في شأنها وارعها بقلبك كما ترعاها بعينك وإلا كان عقابك كمن ولى ملكاً ولم يحسن سياسته. وإن عصاك ولدك وأطاع هواه وكان فظاً غليظاً متشدداً في الشر غير حسن الخلق فاضربه حتى تهذبه فإن العصا تقوم باعتدالها ما أعوج من أمره وحذره من عشرة قرناء السوء ممن لا يعنون بالفضائل فإنهم يقودونه إلى حيث لا تريد واعلم أن من يلقى مرشداً لن يضل. إذا جلست في مجلس الدولة فاسترشد بمن كان أقدم منك عهداً فهو أعرف منك بقواعد الحكم ولا تستهن بالمواظبة فإن الانقطاع عن مقر منصبك والتراخي في عملك يضعفان ثقة الرئيس فيك وربما أدى ذلك إلى ضياع نصيبك من السلطة. كن على الدوام مستعداً للقول إذا كان المجال ذا سعة. ولا تهمل الجواب عن سؤال يوجه إليك وإذا شئت أن تبقى في المجلس ذا سلطة عالية وقول نافذ فاجعل لنفسك فيه شأناً بحيث لا يستغنى عنك واعرف مكانتك من أهله يعرفها غيرك واجلس حيث يؤخذ بيدك وتُبر. واعلم أن مجلس الدولة يسير على نظام معروف وكل ما يحدث به يدور على محور الدقة وإن علو الكعب فيه نعمة يحرص عليها العاقل ويسعى إليها الطامع في العلا. إذا كنت في عشرة قوم فحبب نفسك ما استطعت إليهم وليكن قلبك وقفاً على مودتهم ما دمت ترى إخلاصهم لك وعطفهم عليك فيرتفع ذكرك بين الملأ وتتدفق عليك نعم الله وتلقى

في كل مكان صديقاً وتنال ما تتمنى من دنياك واعلم أن أسمى الفضائل أن تقدر على كبح جماح شهواتك في السر والجهر وأن أدنى الرذائل أن يطيع الرجل بطنه وفرجه. وقد رأيت قوماً أطاعوا بطونهم وفروجهم فكبرت أجسامهم وصغرت أحلامهم وأصابتهم في ألسنتهم بذاءة يؤذون بها الأخيار. فكان لهم من بطونهم وفروجهم أعداء لا يستطيعون مخالفتها ولا يقدرون على دفع شرها. كن يا ولدي صادقاً في قولك أميناً في عملك وإذا جلست بين يدي الملك في مجلس الدولة فلا تخف عليه شيئاً من أمرك واعلم أنه لا حرج عليك إذا أنبأته بأمر كان يعلمه لأن في ذلك أداء الواجب وهو من أسمى الحلال وأكرمها. ولا يضعف عزمك أن يخطئك الملك مرة فإنه لا يخطئك أخرى وربما رجع إلى قولك إن كان حقاً. إذا كنت زعيماً فاختط لنفسك خطة مثلى واسع جهدك في انجازها وكن ممن ينظرون في العواقب ويتخذون من الحاضر أهبة للمستقبل حتى إذا جاء اليوم العصيب الذي لا يستطيع المرء فيه حلاً ولا عقداً تر محجتك واضحة وسبيلك جلياً ظاهراً فلا تدركك أزمة الضيق ولا يصيبك من حرج الموقف ما يصيب البله والبسطاء وبذا تستطيع أن تربأ بنفسك عن مواطن الفشل. ولا تكن محسوباً على أحد فإن ذلك يورث المذلة ويدعو إلى التراخي ولا تكل أمرك إلى غيرك فتصاب بداء الكسل. (متلو)

باب العلم

باب العلم العلم الاجتماعي 1 الأكاذيب المقررة في المدينة الحاضرة للنقادة الاجتماعي الأشهر ماكس نوردو لخصها الفاضل عباس محمود العقاد من أبناء جيلنا الأحياء عالم فيلسوف ألماني أصاب شهرة في الخافقين قل من يوفق لمثلها في أيام حياته، ذلك هو ماكس سيمون نوردو، ابن عالم إسرائيلي، ولد في مدينة بودابست من مدن النمسة في التاسع والعشرين من شهر يوليو لعام 1849. وأتم دروسه الطبية في عام 1872، ثم قضى بضع سنين في التطواف والتنقل من إقليم إلى إقليم كانت هي خميرة معارفه عن العالم الأوربي، إلى أن استقر بمدينة بست سنة 1878. وهناك افتتح له مستوصفاً طبياً، ثم غادر المدينة إلى باريس في سنة 1880، وبقي ثمت يدرس مذهب لمبروزو العلامة الإيطالي المبرز في علم العقل، فاقتنع به وتشبع بآرائه، وأخذ يطبق مقرراته على الفنون والآداب، ناهجاً في ذلك منهج التمحيص العلمي المستمد من قضايا علمي السيكولوجي أي علم النفس والفزيولوجي أي علم وظائف الأعضاء، فالعالم عند نوردو حيوان عظيم الفرد خلية منه فهو يفحص علله وأدواءَه ولا يلقي مشرطه من يده، وقد توخى في جميع مصنفاته الحقائق المرئية والوقائع المجردة، مع إعمال الروية وإدامة النظر، فجاءت آراؤه محكمة سديدة، وسلم في أكثرها من التعسف أو الضعف، والأول خطأ المغالين في الوقوف عند المحسوسات، والثاني خطأ الهائمين في أجواز الخيالات، وهو عاتي الفكر، صارم القلم، حديد النظر، لا يصلب في محكه رأي قديم أو سنة مرعية أو اصطلاح متواضع عليه، يميل في آرائه إلى الاشتراكية وقلب نظامات الحكم الحاضرة، ملكية كانت أو إمبراطورية أو جمهورية، لأنها تأخذ من الفرد أكثر مما تعطيه، ولأنه يراها كلها صوراً شتى لنظام واحد، يستقل فيها بالحكم بضعة رجال من الأقوياء فيصرفون الأمور كما يحلو لهم، ويوافق منافساتهم الحزبية، وعنده أنه ليس على ظهر الأرض حكومة تمثل فيها إرادة الأمة، وكل ما في الأمر أن فئة من أصحاب النفوذ الأدبي أو المالي

يسوقون الناس إلى انتخابهم لا بكفاءتهم وأخلاقهم وسعة مداركهم. فإن هذه قد لا تغني في مخاطبة الشعب واجتذابه، بل بوسائل التأثير والمشوقات التي ليست من الصدق في شيءٍ، ثم يجتمع هؤلاء فيقال أنهم نواب الأمة يبرمون وينقضون باسمها، ويفكرون وينطقون كما يلائم مرافقها. كأنما تسلّبوا عن أنفسهم أو فنوا في كيان الأمة، والحقيقة أنهم يسيرونها كما كان يسيرها نبلاء القرون الوسطى، وإنما هو اسم مبتكر لهيئة قديمة أو كما يقول خمر جديدة في دنان عتيقة. قال ماكولى عن فولتير أنه قوض مئات من المبادئ ولم يؤسس مبدأً واحداً وقد يسوغ لنا أن نقول مثل ذلك عن ماكس نوردو فأنه من أولئك الباحثين الذين ذهبوا في إصلاح البشر مذهب القائلين بتلافي النقص واستدراك الخطأ، وعندي أن الهادمين من الفلاسفة أقرب إلى الصواب من البناة منهم، فإنه يسهل علينا الإلمام بما كان ولا يسهل التكهن بما سوف يكون. ولا محل للخطأ إلا قليلاً في الاهتداء إلى فساد نظام سبق تطبيقه وبين الزمن نفعه وضرره على أنه لا سبيل إلى التحرز من الخطأ في وضع سنة لا يمكن أن يستجمع واضعها في ذهنه كل ما قد يتأتى عند تطبيقها من اختلاف أحوال الزمن وتجدد طوارئه، ويتعذر عليه أن يحيط بكل ما يلزم الناس فيودعه سنته، والخطل قريب من أصحاب المبادئ لأنهم لا يملكون أنفسهم أن لا يتشيعوا إلى مبادئهم، فيقلل ذلك من تسامحهم في قبول الحقائق والآراء التي لا تتفق مع آرائهم. وكتاب الأكاذيب المقررة من أهم كتب الرجل بل لعله أهمها. وقد نقل إلى أكثر لغات أوروبة فأثار حوله ضجة في كل لغة نقل إليها وطبع مراراً في أكثرها. نحي فيه منحى غريباً في نقد مساوئ الاجتماع وكشف طلاء غشه. وقد فضح بهارج المدنية الغريبة فأبان كيف أنها قائمة على غير أساس وكيف تختلف ظواهرها عن بواطنها وتناقض دعاويها وحقائقها. وقد صادرت الكتاب حكومة النمسة، وفي بلادها كان مسقط رأس الفيلسوف، زاعمة أنه يجرئ الناس على احتقار شخص الإمبراطور ويصدهم عن إحياء شعائرهم الدينية، وهو المزعم الذي طالما لجأت إليه الحكومات كلما خشيت على سلطتها من كتاب أو فكر جديد، وهي لا تخشى عليها من الباطل لأنها قائمة عليه وإنما تخشى من الحق ونوره الذي ينبه إليها عسس العقول ويغري بها بصر العدل، وهب نوردو كتب كتابه

ليزين للناس السجود أما الإمبراطور، ونسيان ذواتهم في ذاته، والتجرد عن حقوقهم لأجله، أفكانت ترى فيه حكومة النمسة أو سواها الأكل خير وبركة؟؟ وهل تراها واجدة فيه ما وجدته الآن من الخطر على النظام والضرر بالأمة؟؟ ولم يأبه نوردو بهذه المصادر بل قابل قرار الحكومة النمسوية بكلمات وجيزة كتبها مقدمة للطبعة السادسة، قال فيها أنه لا يتعرض لشخص هذا الإمبراطور أو ذاك وإنما يتكلم عن الإمبراطور حيث كانت وفي أي شخص تمثلت، وعجب من أن كتاباً يصد الناس عن إحياء شعائر الكنيسة وأنه لعجيب حقاً أن لا تفرق حكومة بين سلطان الدليل على العقول وسلطان القوة الغاشمة على الأبدان. واحسب أن هذا الكتاب سيكون للملأ الأوربي ما كأنه عقد روسو للأمة الفرنسية. فما هو إلا أن تتداوله الأيدي وقد تداولته، وتتفهمه العقول وهي جانحة بطبيعة روح العصر إلى تفهمه، وتشربه النفوس وهو واضح البيان صحيح البرهان. فهنالك تهب الطامة التي ليست الثورة الفرنسية إلى جانبها إلا مناوشة صغيرة بين الطلائع. ويثب من وراء كل حرف في كلماته مارد جبار كأنما هي حروف الطلاسم والأرصاد التي نقرأ عنها في كتب القدماء، فتقوض دعائم هذا الهيكل المتداعي وتدك جدرانه المتصدعة، فتقوم إذ ذاك المدينة التي يحلم بها نوردو، مدينة الحق والحب والإيثار والرضى. وقد لا يكون ذلك اليوم بعيداً جداً فإن الناس لا يطيقون البقاء طويلاً على هذه الحال التي ما أظن العالم نزل إلى أردأ منها في عصر من العصور ونحن مخلصون منه هنا أهم فصوله بالنسبة إلينا وهو فصل الزواج. أكاذيب الزواج قال في دلالة الزواج على حياة النوع أو الأمة: أقوى غرائز الإنسان التي تسيطر على حياته وتحرك كل عواطفه وأعماله اثنتان، هما غريزة حفظ الذات وغريزة حفظ النوع وأبسط مظاهر الأولى السغب كما أن أبسط مظاهر الثانية الحب ونحن لا نعلم سر القوى الغذائية أو التناسلية. على أن جهلنا إياها لا يمنعنا أن نراقب فعلها جلياً، فنحن لا ندري كيف أن فرداً من الأفراد يكمل دورة نمائه في سنين معدودة بخلاف فرد آخر، ولا نعلم مثلاً كيف أن الحصان وهو الحيوان القوي الكبير ينمو

ليبلغ خمساً وثلاثين سنة ثم لا يتخطاها، وأن الإنسان وهو حيوان أضعف منه جسداً وأصغر حجماً يبقى إلى السبعين وما فوقها، أو كيف أن الغراب يعمر مائتي عام بينما لا تعيش الإوزة إلا عشرين منها. ولكن الذي نعلمه علم اليقين أن لكل كائن أجلاً يقضيه في الحياة، يبدأ من ساعة ولادته، فكأن الساعة تملأ تروسها لتدور إلى عدد معروف من الساعات. وقد ينقص هذا الوقت لطارئ يطرأ على ذلك الكائن. ولكنه لا يزيد بحال من الأحوال. وللنوع كما للفرد أجل مقدور، فهو مثله ينشأ في وقت من الأوقات فيولد ثم ينمو ثم ينضج ثم يموت بعد ذلك. إلا أنه لا سبيل إلى وضع عدد السنين التي يقضيها كل نوع في حياته كما هو شأن أعمار الأفراد، ولكننا نعلم عن طريق علم الأحافير البالنتولوجي قواعد نستنتج منها أن صحة بنية النوع مرتبطة بنواميس مطابقة للنواميس التي تجري عليها صحة بنية الفرد، فما دام الفرد لم يبدد ما ركب فيه من القوى الحيوية فإنه يناضل بكل ما فيه من قدرة ليحمى نفسه ويرد عنها أذى أضداد بقائه، فإذا اضمحلت تلك القوى أو ضمرت وهت عزيمته في الاحتفاظ بنفسه وفتر شوقه إلى مقومات وجوده فيفنى، وعلى هذا النمط تظهر قوى النوع الحيوية في ميله إلى الاحتفاظ بنفسه أو معناه ميل أفراده إلى التناسل وتكثر عددهم، فما دامت هذه القوى مصونة حية رأيت كل فرد من النوع مسوقاً بغريزته في سن الفتوة إلى التماس زوج له، فإذا اعتراها الضعف والانحلال بدأ ذلك يظهر في قلة اكتراث أفراده لأمر التناسل حتى ينتهي أمرهم إلى أن يروا فيه ذلك الواجب الضروري الذي لا غنى عنه. ولدينا وسيلة لا تخيب في قياس القوى الحيوية في النوع أو الجنس أو الأمة فإن ذلك يكون على نسبة انتشار الأثرة الأنانية بين الأفراد التي يتألف منها ذلك المجموع، فكلما كثر عدد الفريق الذي لا يعني إلا بمصالحه الشخصية، يضعها فوق كل واجب من واجبات المجموع ويفضل التمسك بها على التمسك بالآداب والشعائر التي من شأنها تكاثر النوع وبقاؤه، كان ذلك عرضاً يشير إلى قرب الموت والفناء والأمر على عكس ذلك في البيئات التي يحس أفرادها بغرائز تدفعهم من تلقاء أنفسهم إلى خلال الشهامة والمفادة بالنفس ونسيان الذات، فإن هذا ينبئ بأن روح النوع قوية في أجزائه. إن انحلال الأمة كانحلال العائلة تلوح علائمه في تأصل الشره والأنانية من الأفراد،

ورعاية المرء مصلحته البحتة دون نظر إلى ما يكون من أثرها في المجموع علامة صادقة في الدلالة على أن روح التماسك قد ضعفت في الأفراد وأن النوع قد فقد قواه الحيوية التي تنهض بأفراده إلى كل ما يؤيده وينميه، ويتبع ذلك ضعف القوى الحيوية في الفرد إلا إذا اعتصم ببعض الذرائع الاستثنائية، ومتى شط النوع إلى مثل ذلك من الأثرة أضاع أبناؤه الاستعداد للحب الطبيعي المشروع، وماتت في نفوسهم عاطفة الألفة العائلية فلا يرغب الرجل في الزواج لأنه لا يطيق العناية بشأن غيره أو إلقاء تبعة أشخاص سواه على عاتقه، وتتحاشى المرأة آلام الأمومة ومتاعبها، وإذ اتصلت إلى رجل بآصرة الزواج لم تحجم عن تعقيم نفسها. ثم ترى غريزة التناسل ماتت في بعض الأفراد بعد أن يكون قد بطلت فطرتها التي تقصد بها إلى تجديد النوع، واتخذت في غيرهم وضعاً من أنكر الأوضاع فإذا بأسمى قوي الجسم التي لا تتم في إنسان إلا بعد أن يتم نضوجه. وأعني بها حاسة النسل التي قرنتها الطبيعة بأقوى ما يمكن أن يتأثر به الجهاز العصبي من الانفعال قد تسلفت إلى نوع من اللعب الشهواني لم يبق فيه موضع للنظر في استدامة النوع أو المبالاة يغير إرضاء الحواس والشهوات. وإذا اتفق فانعقد قران بعد حب ولو جريا على ناموس الرجعة في الوراثة، فلا يكون معنى ذلك التئام شطري فردين ناقصين في شكل من الفردية أرقى وأكمل، أو انتقالاً من حياة انفراد عقيمة إلى حياة زوجية مثمرة تمتد بتناسل ذريتها إلى أبعد ما قدر لها من الخلود في المستقبل، ولا يكون معناه ذلك الشوق اللاشعوري إلى طرح الأنانية حباً في الإيثار أو الغيرية أو إفراغ معين الحياة الفردية الراكد في مجرى الحياة لنوعية المتفجر المطرد، كلا! وإنما هو نزوة غريبة لا تبين حتى لنفسها، فقد تكون نوعاً من الضلال الحسي والانفعال العصبي نشأ من خليط مما قرأه المرء أو سمع به مضافاً إلى أهواء عاطفة منهوكة معتلة، وقد تكون هوساً محضاً مثاره نزعات النفس ووزغات الهوى. ثم انتقل من ذلك إلى تطبيق هذه القضايا والآراء على حال أوروبة في هذا العصر فخلص إلى أنها لا بد صائرة إلى عاقبة من أوخم العواقب، إذا أطرد سيرها في هذا المسلك لأنها تدابر سنن الطبيعة، وبين كيف أن الإنسان قد انساق على غير علم منه إلى معرفة الواجب عليه في تخليد النوع، مستشهداً على ذلك بغلبة نوادر الحب ووقائعه في آداب الأمم جمعاء،

واهتمام الجماهير منذ القدم بإشهار حفلات الزواج وإعلانها للملأ. قال وأن أكاذيب المدنية قد مسخت طبيعة الزواج، فليس الزواج في العصر الحاضر إلا اتفاقاً بين فردين على تبادل المنفعة لا يختلف في كنهه عن اتفاق تاجرين على المعاوضة في متجر بينهما، فلا يُتحرى فيه فائدة الأجيال المقبلة بل كل ما يراعى فيه فائدة الشخصين المتعاقدين، وأنه يغلّب الأنانية على الغيرية بدلاً من أن يغلب هذه على تلك، فليس معناه أن يعيش كل من الزوجين لأجل الآخر في هذه الصلة الجديدة، بل معناه أن يتمتع كل فرد منهما بما لم يكن يتمتع به لو بقي على حدته. ثم آنس في هذا الموضع اعتراضاً قد توسوس به نفس القارئ، فقد يقول قائل: مالنا نندد بالمدنية وهذه سنة الزواج من قديم الأزمان، فإن رجل القبيلة كان ربما اختطف أول سبية تعرض له، فيحتملها إلى خصّة لتكون هناك زوجه وأم بنيه، فأين الحب الذي أفسدته المدنية، وأين الصدق الذي موهته أكاذيبها؟؟ قال: ولكن الحال في المدنية تختلف عما هي في البداوة، ففي دور الفطرة كل الرجال متشابهون كما أن كل النساء متشابهات، فالمسألة مسألة ميل جنس إلى جنس، والزواج بينهم إنما هو علاقة أي رجل من جنس الرجال بأية امرأة من جنس النساء، وإذا ظهر تفوق أحد أفراد الجنس على سائره فهنالك تسمع عن العشق القاتل والعراك العنيف. والأمر غير ذلك في أدوار المدنية حيث يعم التفاوت وتكثر الفوارق في الصفات والأقدار، فلا مناص هنا من الانتقاء الذي رائده الانتخاب الجنسي أو الحب بمعناه الصحيح، فإنه لا بد بين هذه الطبائع المتفاوتة من انجذاب طبيعتين متفقتين تتمازجان ببعضهما امتزاجاً كيميا وليس اختلاطاً ظاهرياً فقط، والزواج إنما هو مزج كيمي كما قال جوث، يفقد فيه كل من المتمازجين خصائصه الأولية، وأنه كما يمتزج الأوكسجين بالبوتاسيوم، وكما لا يمتزج النيتروجين بالبلاتينوم، كذلك ترى الرجل يصبو إلى تلك المرأة دون سواها، وترى المرأة تتعشق هذا الرجل وترد كل من عداه. ثم استطرد إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، فقال أنها لا تكون إلا واحدة من اثنتين: فأما علاقة حب متبادل غايتها النسل، أو علاقة لا يكون النسل غايتها الأولى ولا غرض منها إلا إرضاء المطامع، والأولى هي العلاقة المشروعة المرضية، أما الثانية فأنها علاقة

الدعارة والفجور كيفما كانت صيغتها وإلا فأي فرق بين رجل تنفق عليه صاحبته وبين رجل يخطب المرأة لمالها أو لينال وظيفة بجاه أبيها؟؟ وأي فرق بين البغي التي تعرض نفسها على رجل لا تعرفه لتبتزه شيئاً من ماله وبين العروس التي تزف نفسها إلى رجل لا تحبه ولكنها ترجو أن يرفعها إلى منزلته ويحليها بفاخر الثياب ونفيس الجواهر؟؟ ثم ما هي نتيجة مثل هذا الزواج؟ أب اختير لا لفضله وأخلاقه، وأم اختيرت لا لصفاتها وآدابها؟؟ أب لا هم له إلا غشيان الملاعب والنوادي ومعاقرة الخمور ومطالعة أوراق الميسر، وأم لا شاغل لها إلا التردد على المراقص وتتبع الأزياء والإيقاع بأترابها والزراية بهن؟ وأي شيء يتربص بنسل هذين الزوجين غير الانحطاط الفطري يلحقه انحطاط التربية والأخلاق؟ نعم إن الغنى والمنصب قد يدركان بهذا الزواج ولكن أصحاب الغنى والمنصب يخسرون أنفسهم وذريتهم به، فتنتقم الطبيعة لمدابرة سننها ونواميسها، ومن يستقص دخائل البيوت الكبيرة والعائلات العريقة التي لا يكثر هذا الزواج في طبقة من الطبقات كثرته بينها، علم أن أكبر أسباب انحلالها وسقوطها راجع إلى هذه العلة. وبعد أن التمس للفقراء بعض العذر لخروج الأمر عن اختيارهم، قال أن زواجهم ليس أقرب إلى سنن الطبيعة من زواج غيرهم من الطبقات، فليس الرجل والمرأة في طبقة الفقراء زوجاً وزوجة اجتمعا بجاذب من الانتخاب الجنسي، وإنما هو رجل يريد خادمة وامرأة تريد عائلاً. قال: وقد يتم على هذه الصورة قران قوم فطرتهم مستقيمة، وعاطفة الحب فيهم خالصة سليمة، أما لنقص عندهم في الفهم، أو لوجوم منهم عن اقتحام معركة التنازع على البقاء بين جمهور غلبت عليه الأثرة والأنانية، فلا يزال هؤلاء الأزواج في برم وضجر، وربما التقى أحدهم بمن يحرك فيه عاطفة الحب، فينفسخ عقد القران شرعاً أو فعلاً. ثم انتهى من هذا القول إلى هذه النتيجة وعلى هذا ففي كل عشرة عقود تسجل في أوربة تسعة قائمة على أبعد الصلات عن الصدق والإخلاص فيفضي بها الأمر إلى أضر النتائج بمستقبل النوع، ويجد أصحابها أنفسهم عاجلاً أو آجلاً في موقف تتنازعه واجبات الزوجية وحكم الحب القاسر، فإما اضطروا إلى سلوك مالا يليق إلا بالسوقة والسفلة. أو قادهم إلى الهلاك والضياع، وكذلك يكون الزواج بمثابة انتحار للنوع بدلاً من أن يؤدي إلى تجديد

قواه وحفظ فتوته. ثم أقبل يعلل هذه المعائب، فأسند معظمها إلى نقص في النظام الاقتصادي الحاضر وطريقة الحكم، فإن الحكومات قد وجهت كل عنايتها إلى الأفراد وصرفت أنظارها عن المجموع فأباحت لكل فرد التصرف كما يحب ما دام لا يضر بفرد آخر معين، ولا يعنيها بعد ذلك أعاد عمله بالنفع على المجموع أم بالضرر، فانطلق الأفراد يستكثرون من النقود ويجمعون الأموال وفشا الجشع فأصبح الناس يقدرون الرجل بقدر دراهمه، وتعلقت القلوب بالدراهم والدينار، ومن كان يتوخى سبيلهما في أعماله وآماله فعلام يحيد عن طريقهما عند الزواج؟؟ ألعله حبا في الإنسانية؟؟ وما هذه الإنسانية؟؟ وماذا استفاد منها!! أتراها تشبعه إذا جاع؟؟ أم تفتح له أبواب العمل إذا سدت في وجهه!! أم لعلها تطعم أطفاله إذا نادوه يطلبون القوت!! وإذا وافاه أجله، أتراها تتكفل بمؤونة أرامله وأيتامه؟؟ كلا. وإذا كان لا شيء من ذلك يكون، فعلام يفرط في آماله من أجلها ويتألم بسببها! قال وأنه كلما اشتدت الأثرة اشتد النزاع على الحياة وصعب على المرء تحمل أعباء سواه، وكلما تتابع الفشل في أحوال الزواج صد الناس عنه وآثروا العزوبة عليه، وكل ذلك كما تقدم من المحللات التي تنبئ باضمحلال قوي النوع الحيوي. ويتلو هذه المقالة القسم الثالث من الفصل وهو يبحث بحثاً دقيقاً وافياً عن الطلاق وطبيعة العشق الجنسي، وهل يجوز أو لا يجوز تقرير استمرار الزوجية مدى الحياة اعتماداً عليه. عباس محمود العقاد (البيان) سينشر هذا القسم الثالث في العدد التاسع وكذلك أفيد مباحث هذا الكتاب

التربية الطبيعية

التربية الطبيعية أو أميل القرن الثامن عشر وضعه جان جاك روسو وعربه ابراهيم عبد القادر المازني الكتاب الأول الطفولة - مبادئ عامة كل شيء حسن لدن يخرج من يد الصانع الأكبر مبدع الخليقة ومبديء الطبيعة فإذا انتقلت به الحال إلى يد الإنسان خبث وفسد بئس لعمري الإنسان زرّاع الفساد أما تراه يحمل الأمم على مكروهها ويطعم الشعوب جنا أرض غير أرضها ويُحمل الأشجار غير ثمارها وهو الذي يرهج الرياح ويخبثها ويهدم كل قائم ويشوه كل جميل ويذلل أخاه الإنسان كما تذلل الفرس الجموح حتى تصبح طوع العنان كأنما الإنسان شجرة في بعض رياضه يغرسها حيث يشاء: وكما أن الماء قوام النبت كذلك التربية قوام الإنسان فلو أن الناس خلقوا طوالاً أشداء وهم مع ذلك يجهلون المنفعة من ذلك لما اغني عنهم طولهم وقوتهم شيئاً ولكان وفاء الطول وشدة الأسر أضرّ بهم لامتناع التعاون وانقطاع التناصر إذ كانوا بطريق ذلك جاهلين ولهلك الناس من الحاجة قبل أن يحيطوا بحاجاتهم خُبراً. ولقد رأيت الناس يرثون لحال الطفل ويتوجعون لحظة وما دروا أن النوع البشري كان يهلك لو أن الإنسان لم يكن في بادئ أمره وأول حياته طفلاً! خلقنا الله ضعفاء فنحن محتاجون إلى القوة وخلقنا معدمين فنحن مفتقرون إلى المعونة وخلقنا بطاء الحسّ مغلقي الأذهان فنحن محتاجون إلى ما يرهف أذهاننا ويضرم شعلة الذكاء فينا. وهذه أصلحك الله حاجة لا يسدها شيءٌ غير التربية. والتربية على ثلاثة أقسام: التربية المكتسبة من الطبيعة والتربية المكتسبة من الناس والتربية المكتسبة من الأشياء: فأما نماء قوى المرء العقلية والجسمية فهذه هي التربية

المكتسبة من الطبيعة وأما استخراج المنافع من ذلك واجتلاب الفوائد فشيءٌ نقتبسه من الناس ونحمله عنهم وأما تجارب المرء وما يهديه إليه نظره فيما حوله فذلك ما اسميه التربية المكتسبة من الأشياء وكذلك يتواطأ على تخريجنا وتربيتنا أساتذة فمن تعارضت فيه دروسهم وتباينت تعاليمهم فذهب الخُلف بكلٍ مذهباً فقد ساء تخرجه ولم تحسن تربيته وأما من تدامج فيه تأديبهم وتسايرت كلمتهم واتحدت وجهتهم فهذا الذي حسنت تربيته فصار حقيقاً أن يعيش أكمل عيشة وأرغد حياة. وإذا نحن تأملنا هذه الأنواع الثلاثة وجدنا أن التربية المكتسبة من الطبيعة مستقلة عنا من بينها لا دخل لنا فيها وأن التربية المكتسبة من الأشياء رهن بنا من بعض الوجوه وليس درج أيدينا وتحت حكمنا إلا التربية المكتسبة من الناس. بيدَ أن هذا صحيح نظراً لا عملا إذ من ذا الذي يرجو أن لا يغفل الطفل طرفة عين وأن يراقب حركاته وسكناته ويوقظ رأيه لكل ما يقال ويفعل على مسمع من الطفل ومرأى حتى لا يسمع لغو الكلام ولا يرى فعال الأشرار. ومتى صارت التربية فناًّ فقد أوشكت أن يصير نجاحها أمراً لا تبلغ إليه وسيلة ولا تناله حيلة لأنا لا نملك كل شروط النجاح وأسباب الفوز وغاية ما تصل إليه مقدرتنا هو أن ندنو من الغاية القصوى جهد المستطاع فأما بلوغها فلا يكون إلا بمساعدة الحظ وهذا مالا يصح أن نعتد به أو نعتمد عليه. وما عسى هذه الغاية تكون؟ هي التي يهدينا إليها سراج الطبيعة لأنه لما كان تآزر الأنواع الثلاثة ضرورياً لتمام التربية كان من الضروري كذلك أن نجعل ما في أيدينا ذريعة إلى الظفر بما ليس فيها ولما كان لفظ الطبيعة من الغموض والاستبهام بحيث لا نأمل أن يفهم الناس ما أوقعناه عليه من المعنى لذلك رأينا أن نفصح عن مضمونه ونعرب عن مكنونه حتى لا تلتبس علينا وجهة الصواب. قالوا الطبيعة هي العادة والمرء مما تعود. وهذا قول يحتاج إلى إيضاح فاعلم أن المرء قد يجري في حياته على عادات لا محيد له عنها ولا سبيل إلا إليها من غير أن يغير ذلك من الطبيعة أو يؤثر فيها فهو في ذلك كالعود الذي أخذت عليه طريقه وحلت بينه وبين مسيره الرأسي فإذا خليته وشأنه بعد ذلك لم يرجع عما رسمت له بل يمضي حيث أكرهته ولكن

العصير النباتي لم يغير من أجل ذلك مذهبه الأول وإذا استرسل العود في النماء فلا بد أن يستقيم اعوجاج ما طال منه وكذلك أميال الإنسان التي تخلقها العادة والتي هي أجنبية من فطرته لا تتغير أو تتبدل الأحوال فتنبذ العادة وتعود الطبيعة إلى مجراها الأول. وليست التربية إلا العادة وأن في الناس من ينسى ويترك وآفة العلم الترك فيخسر ما أفاد من التربية وفيهم كذلك المعتصم بحبالها المستمسك بأسبابها فما علّة هذا الاختلاف؟ لئن كنا نقصر لفظ الطبيعة على ما توافق مع الطبيعة من العادات فما أحرانا أن ننزع عن هذا الجهل ونقصر عن هذا السخف؟ الصواب أن الطفل يولد شديد الحس تتناول مشاعره كل شيء فإذا شب وتنبه لما يحصل في نفسه من الإحساسات رأيته يميل إلى ما أثارها من الأشياء أو ينفر أولاً من حيث هي طيبة لذيذة أو ثقيلة بغيضة ثم من حيث هي ملائمة له أو غير مشاكلة ثم من حيث ما يتبين فيها من الارتباط بمعاني السعادة أو الكمال. وذلك إذا بلغ كمال العقل. وهذا الخُلق جدير أن يشتد ويقوي على قدرٍ ما لصاحبه من صفاء النفس ولطافة الحس ولكن العادة قيد فهو يتبدل تبعاً لأفكارنا وهذا الخُلقُ - قبل أن يتحول - هو ما أدعوه الطبيعة. وإذ قد نفضنا غبار اللبس عن لفظ الطبيعة وحسرنا عنه ظلال الإبهام فلنعد إلى ما كنا بصدده فنقول ينبغي أن نرد كل شيء إلى هذا الخلق وقد كان هذا يكون ممكناً لو كانت أنواع التربية الثلاثة التي ذكرناها فيما أسلفنا مختلفة وليست متعارضة ولكن ما العمل وهي متنادة متعارضة وما الحيلة ونحن بدل أن نربي المرء لنفسه نربيه لسواه؟ ألا إن الاتفاق محال لأنه لا محالة من مكافحة الطبيعة ومقاومة أوضاع البشر فأما أن نربي الطفل ليصير رجلاً وأما أن نربيه ليصير حضرياً لأن الجمع بين الغايتين من وراء الطاقة. والرجل الطبيعي كامل في ذاته غير ناقص فهو كالوحدة الحسابية أو العدد الصحيح نسبته إلى نفسه أو رفاقه فأما الحضري فما أشبه بكسر الوحدة الذي هو رهين بالمقام فإن قيمته ليست في نسبته إلى نفسه ولكن في نسبته إلى الكل - وهو المجتمع الإنساني. ولقد أعملت في المجتمعات الروية وقلبتها ظهراً لبطن حتى عرفت مظهرها ومخبرها فرأيت خيرها عند الناس أقدرها على مسخ الإنسان وسلخ وحدة وجوده منه لتفنى في الوحدة العامة بحيث يدرك كل أحد أنه جزء من الكُل وليس واحداً صحيحاً مستقلاً وأنه لا

حياة له إلا بالجماعة ولا إحساس له إلا مع الجماعة. ولكي نكون شيئاً معدوداً ذا شخصية مستقلة لا تتجزأ ينبغي أن يكون لساننا صورة قلوبنا وفعلنا مطايقاً لقولنا وأن نكون ذوي زَمَاع إذا هممنا بأمر لم يحلنا عن قصدنا شيء ولم تحسبنا عن لُبانتنا بَدَاة. ومن لي بأن أرى هذا الرجل لا علم أرجل هو أم حضري أم الاثنان معاً وكيف استطاع أن يكونهما أو يؤلف بينهما. ولقد كان من آثار هذا الاختلاف أن ظهر نوعان من التربية متناقضان كذلك أحدهما عام والثاني خاص فإذا أردت أن تحيط بالتربية العامة خُبراً وتسعها علما فعليك بجمهورية أفلاطون فإنها ليست كما يظن من يأخذ بالعنوان مؤلفاً في السياسة والحكومة ولكنها كتاب فريد في التربية لم يصنف في بابه أجمع منه. على أني مع ذلك رأيت الناس إذا ذكروها أدخلوها في باب الخرافة ولعمري لو كان ليسرجاس دون نظريته في التربية لكانت ادخل في هذا الباب فقد شوه الإنسان ومسخه فأما أفلاطون فقد طهره وشتان بين هذا وذاك. أما التربية العامة فلا وجود لها اليوم ولا يمكن أن يكون لها وجود لأنه لا بد كي تتهيأ أسباب ذلك من أمة وإلا فمن تريد أن تربي والأمة لا تتألف حتى يلم شعثها ويضم شتاتها بلد والأمة والبلد لفظان أصبحا لا ينبئان عن معنى ولا يسفران عن مدلول فصار حقاً علينا أن نمحوهما من لغاتنا الحديثة وعندي على ذلك البراهين القيمة والحجج اللائحة ولكن في الصدع بها خروجاً عما نحن فيه. ولست أعد هذه المعاهد والمدارس إلا أضحوكة من الأضاحيك وسخرة تضحك وتبكي ولا اعتداد عندي بهذا الأسلوب الذي جرى عليه العالم في التربية لأنه يرمي إلى غايتين متناقضتين والتناقض داعية الفشل وباعثة الخيبة وهذا القالب الذي يُضرب عليه في تأديب النشء وتربيتهم إنما يخرج لنا رجالاً ذوي وجهين أدعياء وإذا عمت الدعوى فنحن خليقون أن لا ننخدع بها وكل سعي في هذا السبيل ذاهب أدراج الرياح. بقيت التربية الخاصة أو الطبيعية ولكن أي غناء للناس في رجل لم يرب إلا لنفسه، ولو استطعنا أن نجمع في رجل واحد بين الغايتين ونوفق بين الغرضين بأن أزلنا مناقضات الحياة البشرية لذللنا بذلك كوؤداً ظاهراً في طريق سعادته وهذا أصلحك الله مطلب يقصر

عنه باعنا ويفوت مبلغ ذرعنا ولا بد لنا كي يتمثل مثل هذا الرجل لعالم تصورنا من رؤيته وقد بلغ كماله والإحاطة بأمياله ومراقبته في تقدمه وتعقبه في طريق نموه أي لا بد لنا من معرفة الرجل الطبيعي واستطلاع طلعه وهذا كلام سيحيط القارئ بجملته وتفاصيله بعد الفراغ من قراءة هذا الفصل. وقد آن لنا أن ننظر فيما ينبغي علينا فعله لنظفر بهذا المخلوق النادر فاعلم أن علينا واجبات جمة شتى جلها ينحصر في أن لا نفعل شيئاً وأن لا ندع شيئاً يفعل فإن الملاح إذا ركب ظهر البحر في ريح رخاء وأراد أن ينساب مع التيار انسياب الحُباب فليس به إلى الحذق والمهارة حاجة كبيرة فإذا التطمت الأمواج واصطرعت كتائب الماء فإن السلامة في أن يلقى الملاح خيرزانته والحزامة أن لا يكافح معتلج الأذى فإياك إياك أيها الملاح أن توكل بسفينتك الأرواح وتتركها رهن الأمواج وتلقى أزمتها إلى أيدي التيار فيلتهمك طامح اليم وتطوح سفينتك في مهاوي العباب. وفي الدائرة الاجتماعية حيث لكل منزلة معلومة ينبغي أن يربى كل امرئ لمنزلته فإذا ترك أحد مكانه الذي أعدّ له فليس بصالح لسواه فالتربية لا عائدة فيها إلا إذا كان السعد ألفاً للأب في وظيفته والزمان مساعفاً والأيام مسالمة فأما فيما عدا ذلك فهي ضارة بالطفل ولو كنا في مصر حيث يتوارث الأبناء وظائف الآباء لهان الخطب ولقلنا قد عرف كل امرئ آخرته ومصيره ولكنا في بلاد أهلها يتغيرون ومراتبهم ثابتة على حالها الأولى ولست أدري إذا أعد الرجل بنيه لمرتبته الاجتماعية أهو ناظر في ذلك إلى صالحه أم صالحهم؟ ولكن الناس متساوون ووظيفتهم المشتركة هي الرجولة فمن حسن إعداده لها فهو خليق أن ينهض بما يحمل وينفذ فيما يندب له وليس يعنيني أن تلميذي أميل سيكون في مستقبل أيامه عاملاً في الجيش أو الكنيسة أو القضاء فإن الطبيعة قد أغفلت عمل أبويه ودعته إلى الاضطلاع بواجبات الحياة البشرية وما كنت لأعلمه من ضروب التجارة إلا كيف يعيش ولست أنكر أنه لا يكون بعد نفض يدي من تأديبه قاضياً بمعنى الكلمة أو جندياً أو قسيساً ولكنه سيكون رجلاً قبل كل شيء وأنه لحقيق بعد ذلك أن لا يتعاظمه أمر ليس يعجز سواه ومن كان كذلك فليس بضائره مرَّ الليالي وانتقال الأحوال. وأولى العلوم بتوجهنا إلى تحصيلها وانقطاعنا لطلبها هي درس الحياة وتعرفها فإن أحسن الناس تربية هو عندي أردهم لنفسه على محبوبها ومكروهها وأجلدهم على مضّ الحياة

ومن هذا ينتج أن التربية الحقة ليست نصائح يصبها المرء في أذن طفله ويسديها إليه من حين لحين ولكنها الدربة وعجم الخطوب وأدب الزمان وسبك الدهور فهي تبتدئ مع ابتداء الحياة كالعود يسقى الماء وأول مؤدب للطفل ظئره. (متلو)

الطبيعة ونواميسها

الطبيعة ونواميسها مبحث في فلسفة الطبيعة وما ورائها للفاضل صاحب الإمضاء الطبيعة هي القوة المتسلطة على جميع الكائنات وفي جملتها الإنسان ومصدر الحقائق الطبيعية هو الطبيعة ومصدر الطبيعة واجب الوجود. والأشياء الطبيعية هي الموجودة في حال ليس للإنسان يد فيها - كالجو والغيوم وسيارات النظام الشمسي والبحر بصخوره والشواطئ الرملية والدلغانية والجبال والأدغال والنبات والحيوان والسمك والطيور. أما الأشياء الصناعية فهي الطبيعة أصلاً. وإنما دخلت فيها يد الإنسان فركبتها أو جزأتها أو فرقتها - كالبيوت والأثاث والعربات والآلات فإنها تركبت أو تهيأت بصنع الإنسان. على أن الأشياء الصناعية تدخل تحت حكم الطبيعة عند إطلاقها. مثال ذلك: كأس ملآنة ماء. فالكأس شيء صناعي أي أشياء طبيعية أصلاً قد استحضرت وسلطت عليها الحرارة حتى ذابت فأصبحت زجاجاً. وهذا الزجاج قد جعله الصناع على هيأة كأس. وأما الماء فهو شيء طبيعي جاء من نهر أو بركة أو نبع أو من الميازيب التي يجري فيها المطر النازل على السطوح. فالكأس والماء داخلان تحت كلمة الطبيعة وأحكامها. والممكن للإنسان أن يغير هيئة بعض الموجودات وأن ينتفع بشيء من القوات الطبيعية ويتقي شيئاً من أضرارها. وغير مستطاع له أن يخلق شيئاً غير موجود فإن ذلك منوط بخالق الأشياء ومبدع طبائعها والإنسان نفسه هو جزء من الطبيعة أو الأشياء الطبيعية وله قوات طبيعية بها يغير بعض الأشياء التي يعرف قواتها وخصائصها فيجعلها صناعية لفائدة الإنسان. وينتج من ذلك أن مزاولة كل صناعة تستلزم معرفة بعض الأسباب الطبيعية ونتائجها. إذن فإتقان الصنائع وترقيتها يتوقفان على زيادة العلم بخصائص الأشياء وقواتها الطبيعية والوقوف على كيفية تحويلها لمنفعة الإنسان. على أن الأشياء العظمى في الطبيعة وحلقات الأسباب والنتائج المتعلقة بها تجري على رغم إرادة البشر وقواتهم فلا سلطان لهم عليها - كشروق الشمس وغروبها واستهلال القمر وابتداره وامحاقه واختلاف الفصول وتعاقب الحر والبرد والمد والجزر وهبوب الرياح وثوران العواصف والبراكين وحدوث المطر والصحو والنوء والهدوء والتموج والرهو

والتفريخ والنمو والخصب والجدب والرعد والبرق والصواعق والزلازل والأوبئة والبلاء والموت وتكاثر بعض أنواع الحيوان والنبات أو تفرقها أو انقراضها. وكلها قوات طبيعية تلعب بالإنسان لعب الأمل به أو الولد بالأطيار. على أنّا كلما ارتقينا في المعرفة والعلم استطعنا أن نجلب لأنفسنا بعض المنافع وندفع عنها بعض المضار. وتجري الطبيعة على نواميس ثابتة سنها الباري للحكم على الكائنات فتجري عليها الأشياء الطبيعية قسراً بترتيب واحد ونظام غير متغير فلا يحدث شيء في الطبيعة عرضاً أو مصادفة وإن عجز الإنسان عن تعليله. أول شيء تعلمه الإنسان عندما عني بدراسة الطبيعة هو أنه فطن إلى بعض الحوادث الطبيعية فرأى أنها تحدث بترتيب ونظام. وأن أسبابها تنتج دائماً نتائج واحدة. فالشمس تشرق على الدوام من جهة واحدة. وتغرب في الجهة الأخرى وتغيرات القمر تتبع بعضها البعض بسلسلة نظامية في أوقات معينة متشابهة وبعض الكواكب لا يغيب تحت أنق أي مكان نعيش فيه. الفصول تجري على نظام قياسي تقريباً. الماء يجري دائماً في الأودية. النار تحرق على الدوام. النبات ينمو من البذرة ويعطي بذراً كجنسه يطلع منه نبات آخر مثله. الحيوانات تتوالد وتنمو فتصل إلى سن البلوغ فتهرم ثم تموت جيلاً بعد جيل في طريق واحدة. هكذا وصلت إلى عقل الإنسان بالتدريج فكرة نظام الطبيعة وتجلى له ثبوت العلاقة بين السبب والنتيجة في جميع الأشياء الكونية. وكلما تجلت للإنسان سيادة هذا النظام شعر بوضوح الأشياء فأدركها. ثم حكم على الأشياء التي لا يفهمها بأنها تحدث مصادفة أو اتفاقاً. على أننا كلما تعمقنا في دراسة الطبيعة وأنعمنا البحث زاد هذا النظام جلاء ووضوحاً لدينا. وما كان يظهر أنه يجري على غير سنن نظامي يثبت لدينا أن أمره لم يكن إلا مغلقاً أو ملتبساً علينا نظراً لقصور الفطرة في الإنسان. ومن هنا لم يبق في عصر المدينة جاهل يعتقد أن شيئاً من الأشياء يحدث اتفاقاً أو أن هناك مصادفات في الأشياء التي ليس لها سبب ظاهر. وإذا قلنا أن هذا الشيء قد حدث اتفاقاً فهم الكل أننا نعني بذلك أننا لا نعلم علته الحقيقية أو سبب حدوثه. فالمصادفة إذاً أو الاتفاق من أحكام الجهل.

فدراسة النواميس الطبيعية واجبة لأن معرفتها ترشدنا إلى العمل وتهدينا إلى حسن التصرف. ومثلنا في ذلك مثل إنسان قصد أن يستوطن بلاداً فوجب عليه العلم بأحوال تلك البلاد وأحكامها وإلا كان جهله بها مجلبة بالطبع لما لا يرضي لنفسه. وهكذا شأن من يحاول أن يعيش بغير لفت إلى نواميس الطبيعة. فإنه يقصر عمره على الأرض. ويقضي حياة غاصة بالاضطراب وتلقى نفسه لجهله ما قدره الجهل من العقاب. وهذه النواميس تنفذ بالقوة القاهرة التي أودعها الباري الطبيعة فلا تقبل رشوة ولا محاباة ولا تميز الغني على الفقير ولا الأمير على الحقير فكم من ألوف وملايين يعيشون بالشقاء والخبل ويموتون في زهرة العمر مخلفين البلايا لنسلهم من بعدهم بسبب الجهل ودماؤهم على رؤوسهم. فمن عرض نفسه لعاديات الطبيعة من الحر والبرد والجوع بما يوسوس له الجهل مختاراً في ذلك غير مضطر ولا ملتمس منه نفعاً قريباً معلوما - ومن عدا على البدن بما يؤلمه من ضرب وجلد وتمزيق وإهمال بما يزينه الوهم راضياً في ذلك غير مكره ولا مفيد منه شيئاً - ومن شوه الجسم أو اسقط منه عضواً لازماً مفيداً كائناً ما كان ذلك العضو بما يموه له الطمع أو الخيال الفاسد عامداً في ذلك غير مجبر ولا مفتد سائر البدن بذلك الجزء كمن يقطع اليد الفاسد وقاية لبقية الجسم. ومن اجترأ على حريته الذاتية بالمحو أو الإنقاص والإضعاف بما يبعث عليه الكسل أو القسوة أو دناءة النفس راغباً في ذلك غير مقسور عليه - كل هؤلاء مخالفون لأحكام الطبيعة مناقضون للحكمة الإلهية الأزلية التي هي عين الجمال ومظهر الكمال ومصدر الوجود وعلة البقاء. التعليل العلمي إن المبدأ المتخذ أساساً لكل علم من العلوم هو: أن العلل المتشابهة معلولاتها متشابهة. وهذه الحقيقة مبنية على اختبار نام. أما علة الشيء فهي سببه المسبب عن شيء آخر وهذا عن آخر قبله وهلم جراً حتى ينتهي إلى علة العلل. وكلما تقهقرنا في سلسلة الأسباب والنتائج زدنا التعليل كمالاً. فكل تعليل ناقص لأن معرفتنا بالأسباب قاصرة: ولكنا إنما نبحث عن الحد الذي نكتفي به. أو يمكننا الوصول إليه.

وليست العلة والناموس واحداً وإنما يطلق عليها تسامحاً. والفرق بينهما كالفرق بين الشريعة وعدم الامتثال لها. والفرق بين الناموس الطبيعي والناموس البشري هو أن الأول ترتيب طبيعي لا يخل البتة. ولا يعد ناموساً طبيعياً إلا ما قام عليه البرهان. أيده العقل. وأثبته الامتحان. وأما الثاني فهو عبارة عن أوامر ونواه مفروضة على أصحاب مشيئة واختيار. إن شاؤا أطاعوا وإن شاؤا عصوا. فمن أطاع لم تؤيدها طاعته ومن عصى لم تبطلها مخالفته. ثم أن الأول يشمل جميع الأشياء الطبيعية وفي جملتها الإنسان وما يتعلق به. وأما الثاني فمقصور على الناس وأعمالهم. وتعرف النواميس الطبيعية بواسطة ثلاثة أمور: وهي الملاحظة والامتحان والتعقل - من باب علمي. أما الملاحظة العلمية فهي الرصد الدقيق. أو المراقبة الكاملة النافية للزعم والوهم والاستنتاج الباطل. وأما الامتحان العلمي فهو التجربة الدقيقة التي تجري على شروط مفروضة محققة. وأما التعقل العلمي فهو إدراك الحقائق بطريقتي الاستقراء والاستنتاج وإثباتها بهاتين الطريقتين يقال له التعليل العلمي. أما الاستقراء فهو تقصي الجزئيات للاستدلال منها على الكليات فتوضع قواعد عامة مبنية على ملاحظات أفراد متعددة في أماكن شتى وظروف مختلفة. مثال ذلك: إذا لاحظنا أن حجر المغناطيس يجذب قطعة من الحديد متى أدنيت منه وامتحنا ذلك في كثير من قطع الحديد وضعنا هذه القاعدة: أن المغنطيس يجذب الحديد. وأما الاستنتاج فهو الاستدلال من الكليات على الجزئيات: مثال ذلك: إذا قربنا قطعة حديد من حجر فجذبها حكمنا بالاستنتاج أنه حجر مغنطيس. الرأي والحقيقة الرأي الفرضي أو الوضعي - ويقال له التقديري أو المحتمل - هو ما يقدر في الأذهان من الظنون لما ينتهي إليه الأمر الطبيعي، إذا استطعنا أن نتبعه إلى نهايته، أو إلى درجة نحو تلك النهاية.

وقيمة الرأي الوضعي تتوقف على كفايته للتعليل عن كل ظاهر الأمر الطبيعي تحت الفحص. فإن قام رأي يعلل ذلك عول عليه إلى أن يظهر فساده أو يقوم رأي أكمل منه، أو مثبت بالبرهان القاطع، فيؤخذ به ويهمل الأول فالتمسك برأي محتمل يعين على التعليل أفضل من عدمه، لأنه يدل على طريق الحقيقة بقدر الإمكان وقد يكون مديناً لظهورها. مثال ذلك: أنه منذ 17 سنة كان الماء معدوداً عنصراً بسيطاً، كما أن الزئبق معدود اليوم بسيطاً. أما اليوم فقد عرف أن الماء مركب من عنصرين، وهما الأكسجين والهيدروجين، وأن هذين الغازين قد اتحدا بدرجة عظيمة من الضغط والبرودة حتى صار مزيجهما مائعاً. وكل من هذين العنصرين مركب من جواهر كجوهر الزئبق لا تتجزأ إلى أبسط منها. ولا يبعد في المستقبل أن يحل الزئبق ممتحن بحاثة فيظهر فساد هذا الرأي الوضعي ويحل الزئبق إلى عناصر أبسط. وهذا هو الفرق بين الرأي والحقيقة. وعليه فالحقيقة ضالة العاقل ينشدها أنى كانت. الطبيعة والخالق يميل العقل البشري إلى الوقوف على بعض الآراء في أصل العالمين. وهذا ظاهر من أن لكل أمة على وجه الأرض رأياً في أصل هذا العالم وعلة كونه وأسلوب تكوينه. فلقدماء الفرس والهنود والمصريين والصينيين في آراء شتى يرمون بها إلى اكتشاف ذلك السر العظيم وأكثرها على غاية الغرابة. أما اليونان فقال فريق منهم أن ليس في الوجود سوى الجواهر الفردة والفضاء الفارغ. ولكن عجز ديموقراطيس ولكريشوس عن إثبات صحة ذلك بالحجة القاطعة والبرهان الدامغ. ونشأت أفكار كثيرة عن البيضة الأولى. ولكننا نتعجب ممن لا يسلم بأن تلك البيضة صنع خالق قدير حكيم أزلي سرمدي. حكي أن أمير أهدى إلى خطيبته بيضة كبيرة من الحديد فنظرت إليها بازدراء ودفعتها على الأرض فانفتحت عن آح من الفضة ومح من الذهب وفي المح تاج ذهب وخاتم ماس. وما هذه بالنسبة إلى تلك البيضة العظيمة التي بعض ما فيها نجوم السماء التي لا تحصى وكل أحياء الكون وجواهره!! وهنا نستميح القارئ في بسط حديث مختصر بين مناظرين أحدهما مؤمن والآخر لا أدري

- كمثال لما يقع من الجدل في هذه المسألة العظيمة. م - أتنكر أن لا نهر الأوله ينبوع؟ ل - وأي صبيان المكاتب لا يعرف ذلك؟ نعم إن من الأنهر مالا يمكن الجزم بتعيين ينبوعه كنهر النيل. ولكن الجغرافيين قرروا أخيراً أنه في جبال القمر وأصله آخرون إلى ما وراء ذلك. م - إذاً أنت تعرف أن لا مسبب بلا سبب ولا أثر بلا مؤثر. أليس كذلك؟ ل - ذلك من أولي البديهيات إذ لا بد لكل معلول من علة. وإن كان التوصل إلى العلة من أصعب المطالب. م - أصبت فقد كنت أظنك تقول كداود هيوم أنه لا ارتباط بين المعلول والعلة وليس بينهما سوى التوالي كما بين النهار والليل. ل - إن هيوماً مخطئ في ذلك. فإن الليل والنهار متواليان لعلة ليست أحدهما. فليس بينهما ارتباط العلة بالمعلول كما بين انطلاق المدفع وهزيمه. م - أظنك لا تقول بأن المعلول والعلة واحدة. فانطلاق المدفع وهزيمه أمران مختلفان في الذات. أما هما كذلك؟ ل - بلى. م - فانتبه يا صاحبي فأني أراعي هذا المبدأ في شأن تلك البيضة العجيبة. ل - لا أرى مكاناً لمراعاته في شأنها. م - أنعم النظر ترَهُ. فأين ينبوع تلك البيضة، أو ما مصدرها، أو علتها وعلة كل ما فيها من الخصائص فأنت تقول أن ينبوع كل ذلك أو علته هو الطبيعة أم كل شيء. فأسألك أن تعلمني ما الطبيعة، ومن أين أتت. وكيف أتت. ومتى أتت؟ وقبل كل ذلك قل لي ما هي؟ ل - إن تحديد الطبيعة من أعسر الأمور. ولكني أقول مع برنيت أخرج إلى ما تحت السماء وأصغ إلى تعليم الطبيعة أو مع بوب ما معناه: شيم الطبيعة لا تنفك عاملة ... والجوهر الفرد يبغى مثله أبدا هذا إلى ذاك مجذوب وذاك إلى ... هذا كذلك كان الكون واتحدا م - لا اعتراض لي على بلاغة هذا الشاعر المجيد لكن ما أوردته يا صاح من قوله ليس

فيه ما يبين حقيقة الطبيعة فأنت تذهب إلى أن الطبيعة قد باضت تلك البيضة وأنقفتها، فنشأ عنها كل ما في العالمين على اختلاف حقائقه وصوره. وأنا لا استطيع التسليم بذلك ما لم أعرف الطبيعة وماهيتها، أتظن أنها ملك؟ ل - لا بمعنى ملك عندك. م - أروح هي؟ ل - لا أقول أنها روح. م - أغول هي إذاً أم عنقاء؟ ل - أرجو اعتزال المزح في مثل هذه المسألة الهامة. م - ولكنني أريد أن تعلمني سبيل الحقيقة لأنهج منهج الحد. فأني لم أقرأ في كتب اللادريين مقالاً في شيء مجهول العلة إلا وفيه أن علته الطبيعة وأن الطبيعة أم كل شيء فأولاد الطبيعة فيها لا تحصى كالرمال التي على شواطئ البحار ومع هذا فقد عجزوا عن الإتيان بتعريف لها. ل - أرى الطبيعة تكبر عن أن تحد وأنها تشتمل على السماوات والأرض والنواميس. م - أفلا ترى الطبيعة موجوداً غير منظور وعاملاً مستقلاً عن الجواهر الفردة؟ ل - نعم فإن الفيلسوف ستورث مل قال: ليست الطبيعة كل محدث بل ما يحدث من غير اختيار الإنسان وقوته العاقلة. أفليس ذلك قريباً من حد الطبيعة؟ م - هذا يقتضي أن السماء والأرض والأزهار والرياض وسمك البحار من الطبيعة. ل - لا ريب في ذلك. م - ولكن على قولك أن كل الأشياء حتى البيضة الأولى قد أخذت قواها من الطبيعة. فما الفرق بين الطبيعة والبيضة الهيدروجينية أخبرني بذلك وحسبي. ل - يصعب أن نفرق بين الأمرين وليس في وسعي أن أرسم خطاً فاصلاً بينهما. م - إنك لا تستطيع أن تفرق بينهما فهما واحد. فليس لك أن تجعل أحدهما على للآخر. ل - نعم. لكنني سأفكر في الأمر قليلاً لعلي أهتدي إلى حل هذا الإشكال. م - لك أن تفرض ما شئت في العالمين. مصدراً لتلك البيضة أما أنا فأقول: لا بد من إله خلقها واعتنى بها وانشأ منها سائر المخلوقات المشاركة لها في المادة. والنشؤ نفسه دليل

قاطع عل إثبات الإله الأزلي القدير الحكيم. ل - ولكنني لا أسلم بإلهك ولا بخالقيته ولا بعنايته. م - بل لزمك أن تسلم بإلهي أو بمن يكون مثله إذا أطرحت الغرض ولم تتعلم عن الحق الواضح. لأن البيضة التي تؤمن اعتباطاً بوجودها تستدعي موجداً عاقلاً. فإن الساعة التي ترى آلاتها تدور أمامك تنطق بأفصح بيان بأن يداً عاقلة صنعتها. وإن قلت أن البيضة واجبة الوجود جعلتها إلهاً فألّهت العالمين. وإلا فلابد من مبدع ومعتن فدعك من التكلف يا صاح ولا تستح من الحق أن ترجع إليه. ل - لقد ضيقت عليّ كثيراً. فأعترف لك أنك أعظم مما كنت أظن وأرجح رأياً مما كنت أخال.

النقد والمناظرة

النقد والمناظرة روح اللغة وروح الدين حديث لفيلسوف الشرق وإمامه المرحوم الشيخ محمد عبده نشأت في هذه الأيام ناشئة من الفتنة اللغوية أرهج في صحفها بالسواد، وأثار فيها نقع المداد، عصبة خفاف الأحلام، ضعاف الأقلام، لا يرون عهدة الخلق في أنفسهم أسراً، ولا رقة الدين في قلوبهم كسراً، وكأنهم منذ درجوا من بيوتهم صغاراً ما عرفوا من اللغة إلا ما تظهره السابلة أو تبطنه الحوانيت بل كأنهم منذ خرجوا من مدارسنا التي تفتح أبوابها كأفواه الخرس - على سعة بدون فائدة - ما عرفوا غير كراسة الإنشاء ولا راضوا من جماح القول غير تلك المجلدات البليدة التي تطير على وجهها في يد الصبي كلما ساطها بلسانه وهو قد يتعتع في أقصر سورة من القرآن، وأصغر عبارة من البيان. فأولئك لا يطلعون علينا إلا كالجيش يظهر بعد الهزيمة فُلُّهُ، ويذهب كُثره بالمجد ثم يرجع بالخيبة قُلُّه، وقد زعموا أنهم أُرسلوا إلينا بدعوة جديدة في الإصلاح اللغوي فإذا سألتهم ما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين يحتفظون بلغة يزعمونها لهم وهي لغة العرب ويحرصون على تاريخ هو تاريخ العرب. ويتأدبون بآداب قديمة هي آداب العرب. وآية لهم أنا نريد أن نجعلهم نبطاً مستعربين أو عربا مستنبطين أو مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟ فسبحانك اللهم لشد ما خذلتهم فتحجروا مما أبحت واسعاً، وشبهوا على الناس أمراً ساطعاً، وما نأمن أن نحن وسعناهم بالحلم، وأغضينا عنهم أعضاء أهل العلم، أن يعودوا فيقولوا وأن لكم ديناً أنتم بعروته مستمسكون، وبحبوته معتصمون، وهو كذلك ليس دسنكم ولا دين آبائكم الأولين وإنما هو دين العرب. . . . ثم أن لكم كتاباً (القرآن) نقرؤه ولا نفهمه لأنه لم ينزل باللغة المصرية بل نزل باللغة المضرية التي هي لغة العرب. ثم لا يكون من هذا الورم إلا أن ينفجر صديداً، وينقلب داثراً جديداً، ويصبح أمراً شديداً، وما أحد عندنا أولى بغصة النصيحة وأن شرق بها وتوجر الملام المرّ وإن اختنق به من هذا المريض بذات قلبه الذي لا يهزأ به فيما نري إلا من توهمه صحيحاً، ولا يسخر منه إلا من ظنه صريحاً، ولقد يكون وأنت ترى الثوب البالي أحسن وجهاً من عافيته، وأمتن أسباباً في الصحة من

بيته وقافيته على أن ركن اللغة الفصحى قد تعاورته قبل هذه الآونة معاول كثيرة أقربها عهداً بنا قلم القاضي ولمور الانجليزي ذلك الرجل الذي ما أحسبه اقتلع قلمه المسموم إلا من بين أنياب الشيطان فقد أراد أن يمسخنا مسخا، وينسخ شريعتنا نسخا، ويدع شيوخنا في المكانة اللغوية (كمشايخ الحارات) وفتياننا في الرطانة البربرية كخدم (البارات)، ولكم رأينا بعد ذلك من مثله ولموراً مصرياً لم يجن عليه إلا نقص تعليمه وضعف تقويمه، فأمسى حرباً على الحق ولكنه أصبح وحده المخذول فيها كما قال أستاذنا الإمام رحمه الله. فقد يممت ذات يوم تلك الدار دار الحكمة فأصبت الإمام في ظل شجراته وهو ينظر في بعض أوراق من كتاب المخصص الذي لولا همته، ما ظفرت به أمته، وكان يمر على كثير منه بعد أن يعاني ضبط روايته ذلك الحافظ الكبير المرحوم الشيخ محمد محمود الشنقيطي. فأخذت مجلسي وأنا من إجلالي للإمام كأنما أضع قلبي في كل حرف يقرؤه فما أن استتم الباب حتى التفت إلي مبتسماً وقال أيعجبك المخصص. قلت يا مولاي إنك قلبت البديع فجعلت براعة الاستهلال تجاهل العارف وإلا فإن الذي نشأ على أن تعجبه ألاجرومية كيف لا يعجبه المخصص. فضحك إلي وكان رحمه الله يعرف مبلغ حرصي على تقييد ألفاظه والتقاط حكمته والضن بآثاره ويلمح أني إنما أدخر من لدنه علماً فكان يطيل أحياناً في بيانه، وينير كل مشتبه ببرهانه ويسلس لكل معنى من عناته. فقلت له فيما قلت: ولكن يا مولاي هل تظن نشأنا الحديث يقبل على المخصص وهو ما هو في بسط العبارة واتساعها واستفاضة الأطراف إلى ما يفوت أجل المستفيد، وأمل المستزيد، فضلاً عما فيه من تحقيق ليسوا لمثله وتدقيق ليس لمثلهم؟ فقال: لا أظن ذلك في النابتة الحديثة ولا في الجذوع القديمة. . . . (الشيوخ) وإنما علينا أن نعمل في إصلاح أمر دنيانا ليوم سيأتي كما نعمل في إصلاح أمر آخرتنا ليوم سوف يجيء. وإذا كنا ننصرف عن العلم لندرة أهله والمقبلين عليه فلا بد من يوم يكون فيه هذا النادر معدوماً لأن سنة النقص عند أسبابها كسنة الزيادة عند أسبابها والوجود لا يدرك مقدار ما نقص منه ولا ما زاد فيه فلا يعبأ بالموجودين وأحوالهم وإنما يدرك من له قوة الإدراك. نحن نظهر المخصص ونصبر على مضض ما نعانيه في ذلك لخلال ثلاث فأما واحدة فلئلا

نفقده كما فقدنا غيره من قبل وأما الثانية فليجده معنا من يكون من أهله حتى ينتفع به. وأما الأخرى فلتنشأ بعدنا به الأمة الجديدة. وهي آمال ليس لنا من ثلاثتها إلا الأول فعلينا أن نوجد العمل وعلى الزمن أن يحد مقدار الحاجة إليه. قلت يا مولاي نعم ولكن قد كان المخصص مفقوداً أو في حكم المفقود فما أحسسنا أننا فقدنا شيئاً رزئنا به أمراً جسيما. وكانت هذه الكلمة سقطة انطويت فيها تحت لساني فطارت لحظات الإمام كأنها لهب البرق ثم أغضي وقال: ذلك لأننا لا حس لنا وإنما نحن منوَّمون تنويماً خرافياً فلا نشتغل إلا بعقول الماضين التي استهوت عقولنا ببقايا آثارها في الكتب فإذا قيل لنا أن فلاناً قد نص على كيت وكيت جعلنا ذلك نصاً إلهياً على فقد إرادتنا وحجة على وجوب استسلامنا. فهم قد عاشوا لأنفسهم ولنا أما نحن فكأننا نعيش لهم ونموت لأنفسنا فقط. وبذلك فقدنا الشعور بالجنسية المستقلة وإن لم نفق الجنسية نفسها. أرأيت علماءنا يعرفون من تاريخ العلم كله غير أسماء معدودة ورثوها كما تورث العادة؟ فنحن نريد أن نخرجهم من هذا الجمود ليعلموا أن الأسماء كثيرة وأن بعضها كبعضها إذا صار الأمر للتاريخ وقد أصبحت كلها لدينا سواء نقدر منها بعقولنا لا بعقول غيرنا فإذا أخذنا أخذنا عن بينة وإذا تركنا تركنا عن بينة. وهذا لا يكون إلا إذا أحسسنا أننا في الوجود الحقيقي لا في الوجود التاريخي ولسنا نحس إلا إذا اعتدنا إدراك الفرق بين الوجودين ولن نعتاده إلا إذا جددنا ذلك التاريخ العتيق المتعلق ببعض الكتب التي ألفناها وعكفنا عليها هيهات بتجدد ذلك إلا إذا أكثرنا من إحياء آثار السلف كالمخصص وغير المخصص. فقلت ولكن المصيبة في النابتة شر من المصيبة في الجذوع لأن هذه لا تنخر إلا في زمن طويل أما مصيبة النابتة فهي القصف السريع وقد نراهم لا يكتفون بهجر لغتنا وآدابها والانسلاخ منها بل ينقلبون حرباً عليها وعلى أهلها. فقال رحمه الله: ذلك زيغ من الشبان يمكن تقويمه إذا استمرت حركة الإصلاح الديني في مجراها لأن التيار يعين على الإسراع في اكتساح مالا يَسبَح وما نشأ كره اللغة العربية في أمثال هذه المفتونة قلوبهم إلا من إهمال الدين فلو عرفوا أن دينهم يقوم بالكتاب والسنة

وأنهما عربيان وأن عربيتيهما نمط عال لسموا إلى هذا النمط ولكان من اندفاع رغباتهم إليه بالدرس والبحث والتنقيب على آثار العلماء حياة الجنسية في قلوبهم المريضة فإن نهضة الشرق لا تكون إلا بالجنسية الإسلامية الصحيحة التي أساسها الدين والكتاب. ولكنهم فقدوا روح الدين ففقدوا معه روح اللغة وأصبح ظاهرهم فيه الرحمة وباطنهم من قبله العذاب فهم منسوبون إلينا نسبة الوجوه المطمئنة وخارجون علينا خروج القلوب الكاذبة. ولو سئلت رأيي في المدارس التي يخرج منها أمثال هؤلاء لأشرت بأن تجعل مستشفيات لغوية. وأعلم أنه لولا شيوخنا يتعبدون بألفاظ القرآن تعبداً ينسيهم ذوق أسلوبها وحلاوة تركيبها لأحيتهم روحه اللغوية حياة أخرى ولكنهم لم ينظروا إلى أن اللغة كانت هي الأصل في هذا الكتاب الكريم حين أنزل إلى قوم ليس لهم من الدين الفطري السليم إلا دين اللسان وحده فنسوا ما قبل النتيجة ولذلك لم يحسنوا الانتفاع بها وسقطت عندهم إلى رتبة المقدمات التي لا تفيد بذاتها إلا قليلاً. غير أننا لا نيأس من روح الله ما دامت فينا طائفة تعمل عملاً صالحاً وأن كثر العائبون والمعارضون فقد يمسي حرباً على الحق ولكنه كثيراً ما يصبح المخذول فيها. قلنا وهذه قارعة نقرع بها أولئك الذين يريدون أن تكون لنا لغة مصرية مصبوغة باللون الأُمي فإن ذلك لا يكون إلا يوم يصبح لنا دين مصري. . .! ولو نظر هؤلاء إلى أبعد من أطراف أنوفهم ولو قليلاً لرأوا أنه ليست لنا سياسة مصرية أيضاً وما تربية الأمة السياسية بأعضل من تربيتها اللغوية ولا سيما في مصر فلو توخينا هذه الأخيرة وسعينا لها سعيها على الطريقة التي تربي بها الأمم - طريقة الروية والحزم والصبر الطويل الذي يعدل عمر جيل أو أجيال - لكان جزاؤنا منها موفوراً ولم يكن بيننا وبين ما نسعى إليه إلا جيل يسقط وتسقط معه تلك الفئة التي تستجهل أهل الفصاحة حتى يقوم الجيل الذي يشمئز من اللكنة وينتفي من عارها. فقبل أن يطلب اللون الأمي في لغة من اللغات ينبغي أن يسأل عن مقدار التربية الأمية في أبناء تلك اللغة فقد يكون هذا اللون بما ينطوي تحته من العلل كصفرة السل أو بياض البرص أو حمرة الرمد أو سواد الوجه عند الله. . . . وتربية الألكن لا تكون بالإشادة إلا زادته الإشارة لكنة كما أن تربية الأبكم لا تكون بالكلام

إلا زاده الكلام بكماً وإنما دواء العلة ما يقدره الطبيب دون ما يرضاه العليل فقد يكون ألم العلة في وهمه أخف من ألم العلاج وفي هذا تبصرة وذكرى.

رباعيات الخيام

رباعيات الخيام بقلم الأستاذ محمد لطفي جمعة منذ ست سنين في صيف 1906 كنا جماعة من أقطار الأرض لا تربطنا سوى عروة الإنسانية وحب الجمال على ضفاف بحيرة ليمان بمدينة ذات مناظر حسناء وطرق منحدرة لا أصرح باسمها لأنه صار لديَّ من المضنون به على غير عشاقها فإن فطنت إليها فمكافأتك في معرفتك. وكنا جميعاً في ربيع الحياة نعشق الحسن في الطبيعة وفي القول. نجتمع في ضوء القمر بليال ما كان أقصرها وددنا لو تكون أبدية وكنا ننشد أغاني شاعر قديم كان لها في نفوسنا فعل السحر فكان بعضنا يحفظها عن ظهر قلب والبعض يقول عنها أنها إنجيله المنزل. وهذه الأناشيد هي رباعيات الخيام. المدفون في قبر تنمو حوله شجيرات الورد ويهب عليه النسيم من كل جانب. شعر الخيام الشاعر الفلكي الصوفي المؤمن الجاحد المتصبب العاشق الزاهد الحائر هو زهرة من رياض آداب الفرس بل درة من بحرها الزاخر وعجيب بنا أن يقل لدينا العارفون بها وبه وقد ألم أهل الغرب بكل دقيق وجليل من شؤونها ونقلوها إلى ألسنتهم ولها من اهتمامهم وإعجابهم نصيب وافر. فكان في آدابنا الحديثة فراغ حاول فريق من الأدباء أن يملؤوه فكتب الأديب عيسى اسكندر معلوف فصلاً في الهلال الأغر عن الخيام ثم دوَّن الألمعي أحمد حافظ عوض فصلاً في مجلة الموسوعات ثم أقبل الكاتب العبقري عباس محمود العقاد ففسر بعض رباعيات عمر الخيام في جريدة الدستور ولكن شاءت الأقدار أن يكون تمام التفسير على يد فرع الدائحة البستانية وهو الألمعي الضليع وديع البستاني. لا يزال شعر الخيام لغزاً على منشديه وقرائه وقد كانت الحياة كلها لغزاً في نظر عمر. كانت الحياة في نظره لغزاً لا يحل ومن حاول حله ضلوا. ولكن قليلين يفطنون إلى معانيه ومقاصده وهم الذين تألموا مثله وحارت ألبابهم في فهم معجزة الكون وفي قلوبهم نار تتأجج ولا تخمد وبنفوسهم ظمأ لا يطفأ صحونا ففطنا فدهشنا فبحثنا فلم نهتد وعدنا بصفقة المغبون وحسرة النادم وحاولنا إخفاء الحزن بقرع الكؤوس ومغازلة ذات حسن كاعب - هذه فلسفة الخيام التي صاغها في أجمل قالب رباعيات تتملك من أركان القلب الأربعة وأن

من يستوعب لسان الفرس العذب ليعروه الطرب كلما أنشد: - مائيم ومي ومصطبة وتون خراب ... فارغ زميد رحمت وبيم عذاب جان ودل وجام وجامه بردرد شراب ... آزاد زاخاك وباد اوز آتش وآب انظر كيف جمع أدوات الصفاء والأنس في سطر فيرتسم في مخيلتك لدى قراءة الربع الأول منظر المجلس والكؤوس والكانون. ثم إذا عرض لك الاعتراض عليه لشربه خرجت من أعماق قلبه صرخة خيامية: فارغ زميد رحمت وبيم عذاب أيها اللائم أليك عني فما أنا بخاش تعذيباً ولا براج رحمة أي بعد أن شقيت بنفسي وذبت حسرة بعد الدرس والبحث أصبحت لا أدري نفعاً في الرحمة ولا ضراً في العذاب. وإن للفتى في الحياة الساعة التي هو بها أن هو حظي بها وسعد فاز ون لم يحظ فقد جني على نفسه. بيد أن هذا ليس قول المدمن ولا الجاهل الراغب عن رحمة الله الساخر من عذابه إنما هو يأس العقل القوي والروح الحائر. بل هذه وسيلة من وسائل إظهار الحزن والأسى. أما عن صوفية الخيام فلست من القائلين بها. لأن الخيام لم يكن بطبيعته الفكرية ولا بحالته النفسية من فئة المتصوفة الضيقي الفكر اللائذين بأمور معينة يعتقدونها كل شيء إنما كان الخيام حياً شاعراً بحياته ومفكراً قوياً قادراً قوته قدرها والذين نسبوه إلى التصوف أرادوا تبرير قوله في الخمر والحب كما فعلوا في تفسير شعر حافظ الشيرازي البادئ ديوانه بالمطلع الآتي: ألا يا أيها الساقي ... أدر كأساً وناولها متى ما تق من تهوى ... دع الدنيا وأهملها والذي دعا كثيرين ممن اشتغلوا بدرس آداب الفرس إلى انتحال الأعذار الصوفية للخيام والشيرازي ظنهم أن النفس البشرية اليوم هي غيرها بالأمس وأن أبناء القرون الخالية ما كانوا يلتمسون ملجأ من هموم الحياة في الحب والسكر وكل ما جاء عنهم في هذا الباب إنما هو مجاز وكناية على أن عشاق سقراط وابن سيناء لم يلتمسوا لأحدهما عذراً ولم يفسروا قولهما تفسيراً صوفياً لأنه لم يكن في حياتهما مبرر لمثل هذا التفسير ولأن أصحاب العقول

الكبرى غير مسؤولين حيال غيرهم من البشر عن حياتهم ما دامت تفيض على العالم نوراً. أما التفسير العربي الذي قدمه الأديب وديع البستاني لقراء العربية فأقول أنه في مجموعه جيد ولكن فيه مآخذ شتى لا تقلل من قدره سيما وأن الشاعر الشاب أول من بدأ هذا العمل الجليل وأتمه ولولا ثقتي من أن وديعاً يعلم أن نقد الشيء جزءٌ من تقديره ما قلت له الكلمات الآتية: أولاً - إن الشاعر خرج برباعيات الخيام عن طبيعتها إذ عربها سباعيات أي نقل كل أربعة أسطر انكليزية إلى سباعية ذات سبعة أسطر والرباعية ضرب من الشعر الفارسي والسباعية ضرب من العربي وقد احتفظ المفسرون الأجانب بضروب الخيام ونقلوا شعره رباعيات وفي طليعتهم فتزجيرلد الأيرلندي الذي نقل عنه الأديب البستاني وقد أدى نقل أربعة أسطر في سبعة إلى الإسهاب الغير المقبول كقوله في السباعية الثانية عشر: فعتيد نزولنا في القبور ... في القبور النزول دان عتيد كذلك اضطر المفسر العربي في بعض سباعياته إلى تأليف لا يأتلف ومع روح الرباعيات الخفيف العذب كقوله: والمليك الصيَّاد صيدَ وأردى ... ومن العرش حطّ حطّا للحد وجمع طاعة لأمر القوافي في إحدى سباعياته بعض الألفاظ الجافية الغير الشعرية كقوله: ولكم قام في الورى من كليم ... وكليم وفيلسوف عظيم * وأتونا بكل قول عقيم * فالحكيم والفيلسوف واحد. وانصراف الذهن إلى القصد من الكليم بمعنى الناصح الواعظ المرشد الهادي صعب لأول وهلة وقوله بكل قول عقيم قول لا يوافق شعر الخيام. ثم تلاه قوله: وهم اليوم في الثري ساكنونا ... لا خطاب يلقونه صامتونا ثم هناك بعض التصرف في النقل لعل الفاضل البستاني اضطر إليه لكن فيزجيرلد قد سبقه في هذا الميدان وهاك مثالاً في السباعية الثانية والعشرين: زحل كان موطئي إذ رحلت ... بخيالي وفي السماك حللت وصعابا من المشكلات حللت ... واجتليت الغوامض المبهمات

غير أن الآجال والموت فيها ... ولقيت الحقائق السافرات ذاك سر لم أنض عنه نقابا وها نحن أولاء ننقل هذه الرباعية الفارسية وتفسيرها الحرفي ليتبين الفرق بين الأصل والنقل: اد قعر كل سيارة تالوج زحل ... كردم همه مشكلات كيتي راحل بيرون جشتم زبندهر مكروحيل ... هريد كشوده شدومكر بندأجل وهاك التفسير العربي: بلغت في البحث مقر الحمأ المسنون من بطن الأرض وملتقي السماكين في العلا. وحللت عقدة مشكلات الدهر وقفزت في دائرة ذات حبالة خيوطها صنوف المكر والحيل. وبعد هذا كله تراني عاجزاً عن حل أول قيد ألا وهو قيد الأجل. على أن حسنات التفسير العربي أكثر من أن تحصى والثناء على همة الأديب البستاني وفضله واجب على سائر قراء العربية ومن سباعياته المرقصة قوله: ومقامي غصن مُظِلٌّ بقفر ... ورغيفان مع زجاجة خمر كل زادي والأهل ديوان شعر ... وحبيب يهواه قلبي المعني وشجى يذيبني يتغنى ... هكذا أسكن القفار نعيما * وأرى هذه القصور خرابا * على أن الخيام نظم رباعياته كهلا وهي تقابل ليالي الفريد دي موسيه في الفرنسية. أما الخيام فقد نظم بعد أن عاش وتألم وبحث ودرس وحار وضل وعشق وأبغض وسكر وصحا ورجا ويئس. بعد أن صنعت الحياة الإنسانية به ما تصنع النار بالذهب. وصديقنا الأديب وديع لا يزال في عنفوان الصبى قلبه مملوء بأحلام الشباب ولم يستوعب ما استوعبه الخيام من مهيئات الحزن الأعظم الذي يغير النفوس. فرجائي إليه أن يعيد التفسير وهو في الخمسين من عمره فسوف يرى الرباعيات بغير العين التي يراها بها اليوم ويصوغها في قالب ترضاه نفسه الناضجة الخالدة.

أساليب الكتابة

أساليب الكتابة إلى محمد حسين هيكل للفاضل إبراهيم عبد القادر المازني نعيت على كتاب البيان اختلاف أساليبهم وفخامة تراكيبهم وعدولهم كما زعمت عن مذاهبه السهولة إلى جفوة الأعراب وخشونة البادية وقلت أن اللفظ السهل يخف محمله على السمع ويسهل جريه على اللسان ووروده على الطبع وأنه ما ملكت القلوب ولا استرقت الإفهام واختلبت الألباب بمثل اللفظ الواضح المشرق الذي يجلي عن نفسه ويشف ظاهره عن باطنه ويمهد له وطاء الطبع قبل أن تمتلئ منه العين وهو كلام ليس فيه مساغ للطعن أو مجاز للشبهة وقد كنت ألومهم معك وأعذرك منهم لو كانوا أثاروا كما زعمت مدفون الألفاظ واستخرجوا مهجور الكلام ولم تذهب أنت إلى ما هو أبعد من ذلك حيث جعلت النزول إلى درجة البسطاء والانحطاط إلى مرتبة العوام فرضاً على الكاتب واجب الأداء وقد نسيت صانك الله أن لكل مقام مقالاً ولكل طبقة كتاباً ولكل صحيفة قراء فإن كان ظني صادقاً وكان قد غاب ذلك عنك فأعلم وأنت المجرب العارف والعوان لا تُعلّم الخمرة أن ما تدعوننا إليه لا يقدمنا خطوة وإن كان يؤخرنا عشراً لأن في الناس العالم والجاهل والكاتب لا يستطيع أن يولج المعنى أفهامهم على السواء مهما تبذل في أساليبه وتسفل في تراكيبه والرجل لا يكتب ليقرأ كل الناس ولقد رأيت لك كلمة في البيان في الجمال والحب وأثرهما في الحياة فهل حسبت أن كل قراء البيان قد قرأوها أو أن كل الذين طالعوها فهموها على قرب منالها وسهولة أسلوبها وإذ كنت خبيراً بأسرار الجمال وكنت عارفاً بموارد الكلام ومصادره خبيراً بمحاسنه ومساوئه فهلا ذكرت أن اللفظ المهذب والديباجة الأنيقة موقعاً في القلب ومخالطة للنفس وهل كان عمر بن أبي ربيعة يبلغ من معشوقاته مثل ما بلغ لو كان قال لهن أحبكن وسكت وبماذا فتن الناس بشار وهو أعمى مشوه الوجه؟ أليس بحلاوة لفظه ورشاقة معناه وهل ترى للجاحظ إلا لفظاً منضداً وسياقاً مطرداً وحبكاً جيداً وكلاماً منسجماً وهو مع ذلك من أكابر الكتاب ومشاهير المترسلين فإن قلت ذاك زمان وهذا زمان قلنا لك أن البلاغة في كل زمان نصفها لفظ لأن اللفظ جسم وروحه المعنى فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للكلام وهجنة عليه لا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ واللفظ

الرث يفسد المعنى والشائق من الألفاظ يزينه ولو كان مبتذلاً. أنظر إلى قول جرير (ويروي للمعلوط السعدي): إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته بسيطاً وانظر قول بشار: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة ... ذُرى منبر صلى علينا وسلما فهذا كلام فخم جزل وهو أذل على القوة وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار ثم انظر إلى قول لبيد: ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح فهذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق وكذلك قول النابغة: خطاطيف حجن في حبال متينة ... تَمد بها أيد إليك نوازع فإن ألفاظه ليست جياداً ولا مبينة لمعناه لأنه أراد أنت في قدرتك علي كخطاطيف عقف وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف على أن المعني ليس جيداً ولا غنى بالكاتب الذي يحاول أن يملك أعناق المعاني ورقاب الخواطر ولا الخطيب الذي يريد أن يضع لسانه حيث شاء عن الإقتداء بالأولين والاقتباس من المتقدمين واحتذاء مثال السابقين فيما سلكوه من طرقهم ونهجوه من سبلهم والمقلُّ من الألفاظ يعجز عن ذلك واللفظ أصلحك الله زينة المعنى وأن يكن المعنى عمادَ اللفظ فليس ينبغي أن تكون الألفاظ غير مشاكلة للمعاني في حسنها ولا المعاني غير مشابهة للألفاظ في جمالها وما مثل المعنى الرائع في اللفظ المبتذل إلا كمثل المليحة الحسناء في طمر خلق وبراعة الشكل وظرف الهيئة نصف الجمال ونصفه الثاني حسن المُجَرَّد فليست عناية الكاتب باللفظ إلا كعناية الغادة بثيابها واللفظ أغلى من المعنى ثمناً وأعز مطلباً فإن المعاني موجودة في طباع الناس يستوي الجاهل فيها والحاذق ولكن العمل في الكتابة الأدبية على جودة الألفاظ وحسن السبك وصحة التأليف ألا ترى لو أن رجلاً أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر وفي الإقدام

بالأسد وفي المضاء بالسيف وفي العزم بالسيل وفي الحسن بالشمس فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة والحلاوة لم يكن للمعنى قدر. وعلى قدر تفاوت اللفظ يتفاوت حسن المعنى انظر إلى قول المتنبي في استعطافه المشهور: وكيف ينم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب وقول الآخر: فإن انتقم منه أكن مثل رائش ... سهام عدو يستهاض بها العظم وقول قيس بن زهير: فإن اك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني وقول الحرث بن وعلة: قومي هُم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لا عفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي وقول العديل: وأني وإن عاديتهم أو جفوتهم ... لتألم مما علّ أكبادهم كبدي وقول النميري: فإنك حين تبلغهم أذاة ... وإن ظلموا لمحترق الضمير فقد جاؤا بشيء واحد لا تفاضل بينهم فيه إلا من جهة حسن السبك ومن جهة الإيجاز في اللفظ وهذا مثال آخر قال النابغة: إذا ما غزا بالجيش حلقّ فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب جوانح قد أثبتن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غائب وقال أبو نواس: يتوخى الطير غدوته ... ثقة باللحم من جزره وقال مسلم بن الوليد: وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل

وقال المتنبي وقد خرج إلى غير المقصد الذي قصدوه فأغرب وصار كأنه المبتدع لهذا المعنى: وذي لجب لاذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم تمر عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم فأما كون الناس ليسوا كلهم أدباء فلا ينبغي أن نكلفهم فهم مالا يعرفون فصحيح ولكن الذنب في ذلك ليس للكاتب الذي يصور ما يتمثل له من الخواطر على الأسلوب العربي الصحيح بل للذين لا يعلمون النشء علوم اللسان ويقفونهم على أخبار العرب ويروونهم أشعارها وأمثالها وللذين لو شاؤا لمهروا فيها وملكوا عنانها وتوسطوا باحتها. (متلو)

الرأي العامي في العربية الفصحى

الرأي العامي في العربية الفصحى هذا مذهب من الكلام في اللغة كثيراً ما يشتبه فيه اليقين حتى لا يُنفذ إلى تمحيصه، ويلتوي الظن حتى لا يطاق على تخليصه، وأنت فكيف مددت عينك في هذا الجيل فلست آمناً أن تقع من نشئه الذين يطمحون إلى مشيخة الكتب. . . على كل ضيق المجم، ضئيل الهم، ألفّ اللسان، ملتف البيان، وهو مع ذلك يُسمّع بالفصاحة والفصحاء، ويستطيل في البلاغة والبلغاء، ويبسط في هذا الرهان. من جلده علي هزاله، ويفسح في هذا الميدان. من خطوه علي كلاله، ومهما أخطأك فيما يَعمى عليك من حقيقة أمره، ويكاتم مهب ريحك من دخانه وجمره، فلا يخطئك أن تستبين منه رأياً كأنه في رأسه نزوة ألم، وعقلاً مدنفاً لو هو مات لما قطرت له دمعة من قلم. ومن آفة الجهل أنه على استواء واحد في نظر أهله على ما يتحرون بزعمهم من النصفة والمعدلة فلو تدسس أحدهم إلي كل مكروه وأصعد في كل بلاء لكان بعض ذلك كبعضه سواء في بادي الرأي وعند تقليب النظر لا بدرك فرق ما بين درجاته، ولا فصل ما بين صفاته، حتى إذا ضرب كل سبب في غايته، واتصل كل مبدئ بنهايته، ووقعت الواقعة بركن أمة كان قائماً وتعثرت المصيبة بشعب كان متقدماً، عرف ذلك الجاهل من مقدار الرزيئة مقدار جهله وعلم حينئذ أنه كان يملك من الكف عن هذا البلاء مثل الذي ملك من التسبب له وأسَفَّ من ذلك ولكن بعد أن يكون السهم قد مرق والأمر قد مضى وبعد أن لا يكون قد أفاد من الجناية إلا معرفته كيف جناها فكأن المصيبة على هولها إنما حلت لتفهمه أنه جاهل وما أعزها كلمة لا تفهم إلا من مصيبة. وليس ينفك الجاهل بالشيء إذا رأى فيه رأياً من خصال: فأما واحدة فاقتضابه الرأي لا يغبه للخبرة ولا يبلوه بالتثبيت ولا يكاد يرى فيه مذهباً لتقليب النظر فما هو إلا أن ينزو في رأسه نزوة أو نزوتين حتى يكون قد وزنه ورازه وعرف مقداره صواباً من خطأ وخطأ من صواب فيصدره على أنه مما أنبطه الزمن من قليب قلبه وافتكَّهُ من عقال عقله وعلى أنه الحق لا مراء فيه وعسى أن لا نجد في باب المراء مثلاً أدل منه على الرأي القائل كيف يهلك أو يفيل. وأما الثانية فتزين ذلك الرأي له على فسولته وضؤلته حتى يدفع عنه كل الدفع ويحوطه بكل حجة ملجلجة وحتى يرى أن الكد في ذلك هو يثبته وأن الثبات على الكد هو يحققه فلا

يزال يخور بمقدار ما يشتد في أمره ثم لا يصيب من وجه الأمر إلا ما يضل في مجاهله فيكون قد تأتي من سبيل الثقة إلى الغرور ومن سبيل الغرور إلى الباطل وكبر ذلك مقتاً وساء سبيلا. وأما الأخرى من تلك الخصال فأن الرأي متى تماسك بما يجم حوله ويلتقي إليه ويستمر عليه من الخواطر فأنه سيكون منه عقد (اعتقاد) يخرج عن أن يكون رأياً موضوعاً، إلى أن يصير وحياً مرفوعاً، ويكبر عن أن يكون مضطرباً في العقل بين الحجج والبراهين، فينحدر إلى القلب عند مستقر العاطفة والدين، ثم لا يكون من هذا إلا ما تراه في كل جاهل من الرأي يصدره شرعاً معصوماً لا يزيغ عنه الزائغ إلا بخذلان من الله. . . فأن هو لم يتبع عليه ولم يتشيع له فيه أحد كان هذا الجاهل نبي نفسه لا يبالي ما ترك الناس مما اتبع ولا ما اتبعوا مما ترك. وتلك خصال في نسق واحد وعلى نظم مطرد لا هوادة بين أولها وآخرها فهي وإن تعددت إلا أنها كما يتعدد الموج تنتصب منه أشباه الجبال ثم لا يستند منها الغريق إلا إلى الماء الذي يغرق فيه وهذا تفسير القول إن الجهل على استواء واحد في نظر أهله. لا جرم كان العنت كل العنت والبلاء كل البلاء أن تفهم من لم يستجمع أداة الفهم لما تلقى إليه وأن تناظر صاحب الرأي وليس له مما قبلك ألا أنه يرى وألا أنك تدفع فإن الحجة في مثل هذا وإن وضحت واستبانت بيد أنها لا تصيب من غرض يستهدف لها وإنما تستعرض ما يستعرض السهم من الهواء يمر فيه منطلقاً لا يلتوي فمهما نلت من ذلك لا تنال سبباً إلى الإقناع وليس لك بعد إلا أن تطيب نفساً عن نتيجة أنت فرغت من مقدماتها، وترتد عن غاية كنت في ظل قصباتها، لأن الحجج لا تنتهي إلى الحق إلا إذا كانت متكافئة فهي تختلف متدابرة ولكنها متى تواجهت وأخذت كل حجة برقبة الأخرى فاختصمت ثم ارتفعت إلى العقل قضى بينها وكشف القناع عن وجه الإقناع. أما الحجة الواهية التي لا يسد منها علم ولا تنهض في جانب اطلاع فهذه تظل مدبرة وإنما قوتها في إدبارها ولياذها بكل منطلق فأنت تجد في كل الناس إلا في صاحبها مقنعاً ومعدلاً وما أن تزال معه في إدبار ثم لا تزال مقبلاً منه على مدبر عنك حتى تنكص عنه غالباً كمغلوب، وتنقلب طالباً كمطلوب. وأنا لا أدري ولا جرم ما الذي زيَّنَ لفلان من الناس أن يكون صاحب رأي في

العربية وآدابها وأن يتمحل لرأيه ويشتد للنضال عنه ولا يعدو بالخصومة فيه من لا يقاره عليه أذلك حين بذلت له اللغة مقادتها أم حين حجمت عنه وحين استطاع له علمه أم حين طوع له وهمه، وما فلان هذا والعربية وآدابها والمراء في كل ذلك وهو بعد في حاجة من هذا العلم إلى استئناف الطفولة كرة أخرى. . . أئن التوي عليه أمر اللغة منذ دراسه فيها طلبة يسمونهم من فلم يفيدوه من المعرفة حتى ولا معرفة كيف يعلم نفسه. . . رمى هذه اللغة بالنقص وجعل الكمال لله ثم له فأراد أن يحيلها عن وضع انحرف به حَوَل عينه ويخرجها من حيز لم ينله ضيق ذرعه فذهب في طنطنته الضئيلة كل مذهب وافترش لسانه البكئ كل مفترش وهل اللغة إلا علم بعد أن انتقضت فينا الفطرة واختبلت الألسنة وهل يناظر في كل علم إلا أهله. ولم لا ينصب هذا وأمثاله لمن يقدم على أداة من الآلات البخارية فيقول له لو كانت هذه القطعة مكان تلك ولو كان هذا التركيب القبيح أجمل مما هو ولو أخرت أو قدمت ولو زدت أو أقللت ولو نقضت أو أقمت ولو فعلت وفعلت! وليت شعري ما يكون أمره وأمر صاحبه ذاك وكيف يراه ويرى فيه من لسن كله وعلم كله جهل؟ ألم يأن أن يعلم هؤلاء أن من الرأي غررا وأن راكب الخطر من ذلك إنما يركب رأسه وأن في الصمت زاوية مظلمة باردة تسمى قبر المخزيات ولو عرف الجاهل معنى المخزية. . .! إن العجز مطواع وأن ما يعي أهل الحزم يهم به العاجز ويراه سهلاً لأن ذلك هو الذي يحقق معنى عجزه وما زال من يعجز عن الكتابة هو الذي يريد أن يصلح لغتها وأساليبها ومن يعجز عن الشعر هو الذي يضطلع بتخفيف أوزانه وتجفيف بحوره وهلم إلي أن تستوعب الباب كله فقد قالوا أننا نخاطب الدهماء والأجلاف ومن يُسف إلى منازلهم بكلام أهل نجد وألفاظ أهل السَّراة ونتوهم من سبل الحاضرة بوادي قيس وتميم وأسد وبالجملة فنحن نضرب في حدود الفوضى التي لا مخرج منها ولا وجه فيها وفي ذلك مضرة على الأمة وفساد كبير. قالوا هذا وما يجري مجراه ولم يستحوا أن يصدعوا به وهم يرون إلى جانبهم من المستشرقين أعاجم قد فصحوا وأقبلوا على آدبنا وتاريخنا فوسعوها بما اتسع لهم من العلم وأحاطوا بها على ما أطاقوا بل كادوا يكونون أحق بها وأهلها ولقد كانوا في غنى عن كل

ذلك بلغاتهم وآدابهم وما أفاء الله عليهم ومكن لهم فيه. ثم لم يشفقوا أن يبتلوا تاريخهم بالعقوق وهو الثكل الذي لا عزاء معه فأرادونا على أن نخلع بأنفسنا عن هذا التاريخ لا نعطيه طاعة، ولا نبايع له منا عن جماعة، ثم نكون كزنوج إفريقيا إذا غابت عنهم الشمس غاب عنهم التاريخ وإذا طلعت عليهم استأنفوا تاريخاً جديداً. أليسوا ينقمون منا أننا نشد أيدينا على لغة ليست لنا فلم لا ينقمون أننا نصرف وجوهنا إلى قبلة ليست في أرضنا؟ ثم يقولون أنهم يهجنون التصرف في اللغة وإرسال الألفاظ والأساليب على وجوهها العربية ويريدون أن يزيلوا التدبير في هذه الصناعة عن هذا الوجه لأنهم لا يحسنونه. ولا ينفذون فيه إذا تعاطوه ويريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كدَّ الصناعة لتكون من عجائبنا صناعة بلا كد. ولعمري كيف يؤاتيهم هذا الأمر أو يستوسق لهم إلا إذا قلبوا أوضاع الكلام وزايلوا بين أوصاله وذهبوا فيه مذهب الترقيع في الخلق بالجديد وفي الجديد بالخلق. لقد أهملنا اللغة ثم أهملناها حتى صارت معنا إلى حال من الجفوة جعلتها كالواغلة علينا والغريبة عنا وجعلتنا من نقص فهمنا فيها بحيث نضطر إلى التماس شيء غيرها نفهمه فصار إصلاح اللغة كأنه دُربة لإفسادنا وإفسادها فيما نتوهم دُربة لإصلاحنا وإنما هما خطتان لا تفضي كلتاهما إلى شر من أختها مبدأ أو منقلباً وأن أقبح ما ترى في شيئين أن يكون أحسن الرأي تركهما جميعاً. زعموا أنهم يريدون أن تسهل الألفاظ وتنكشف المعاني وتكون الكتابة في استوائها وجمالها كصفحة السماء فهل البلاغة العربية إلا تلك وهل هذا أمر غير عربي؟ بلى وهل يعرفون أصلحهم الله أن الطفل يرى كل ما يدور في مسمعه من ألفاظ والديه كأنه إنما يتفق لهما اغتصاباً واعتسافاً واستكراهاً إذ لا يفهم من كل ذلك شيئاً إلا بمقدار ما يعتاد وعلى حسب ما تبلغ حاجته. فلم لا يكون الرأي أن ينزل الآباء إلى لغات أطفالهم ويقتصر هذا المنطق الإنساني على المترادف والمتوارد من أسماء الألعاب الصبيانية وما يلتحق بها؟ ثم ما هو حكم العامي - وهو في كل أمة الطفل العلمي - بجانب أهل العلوم أتراه يلقف عنهم إلا بميزان تلك الغريزة الفطرية في الطفل الصغير مع أبويه فلم لا تمحي العلوم

وألفاظها ومصطلحاتها وأساليب التعبير عنها ونحو ذلك مما تتراخى به شقة الفهم إذا تعاطاه ذلك العاميّ أو حاوله ويكون سداد العلماء فيما تطيقه العامة وسداد العامة فيما يطيقه الأطفال. . .؟ وأنت إذا تخطيت أمر الطفل اللغوي والطفل العلمي وأسندت في حدّ هذه الطفولة لم تر إلا طراز أصحابنا وهم أطفال الأقلام فهل يكبر عليهم أن يكبروا ويشتدوا وأن يساوقوا الفطرة في مجراها فيأخذوا الشيء بأسبابه، ويأتوا الأمر من بابه ويدعوا الأمر حتى يكونوا من أربابه؟ يصدرون رأيهم على جهل فإذا كشفت لهم معناه وبصرتهم بمصايره ووقفت بهم على حدوده وأريتهم وجوههم في مرآة النصيحة أنكروا ما جئت به وحسبوك تفتري الكذب وأصروا واستكبروا استكباراً لأن رأس علمهم أن يظنوا لا أن يحققوا ما يظنون فالرأي هو الرأي في ذاته لا ما يتعلق به ولا ما يتأدَّى إليه. اللغة مظهر من مظاهر التاريخ والتاريخ صفة الأمة والأمة تكاد تكون صفة لغتها لأنها حاجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها ولا قوام لها بغيرها فكيفما قلبت أمر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها واشتمالها جلدَة أمة أخرى فلو بقي للمصريين شيء متميز من نسب الفراعنة لبقيت لهم جملة مستعملة من اللغة الهروغليفية ولو انتزت بهم أمة أخرى غير الأمة العربية لهجروا العربية لا محالة وكذلك يتوجه هذا القياس طرداً وعكساً كما ترى وأن في العربية سراً خالداً ذا الكتاب المبين (القرآن) الذي يجب أن يؤدى على وجه العربي الصريح ويحكم منطقاً وإعراباً بحيث يكون الإخلال بمخرج الحرف الواحد منه كالزيغ بالكلمة عن وجهها وبالجملة عن مؤداها وبحيث يستوي فيه اللحن الخفي واللحن الظاهر. ثم هذا المعنى الإسلامي (الدين) المبني على الغلبة والمعقود على أنقاض الأمم والقيم على الفطرة الإنسانية حيث توزعت وأين استقرت فالأمر أكبر من أن تؤثر فيه سورة حمق أو تأخذ منه كلمة جهل وأعضل من أن يزيله قلم كاتب ولو تناهت به سن الدهر حتى يلقى من الأمة أربعة عشر جيلاً كالتي مرت منذ التاريخ الإسلامي إلى اليوم. والقرآن الكريم ليس كتاباً يجمع بين دفتيه ما يجمعه كتاب أو كتب فحسب إذ لو كان هذا أكبر أمره لتحللت عقده وإن كانت وثيقه عليه الزمان أو بالأحرى لنفّس من أمره شيء كثير من الأمم ولاستبان فيه مساغ للتحريف والتبديل من غال أو مبطل ولكانت عربيته

الصريحة الخالصة عذراً للعوام والمستعجمين في إحالته إلى أوضاعهم إذا ثابت لهم قدرة على ذلك ولو فعلوه لما كان بدعاً من الرأي ولا مستنكراً في قياس أصحابنا. . . لأنهم لم يعدوا منفعة طلبوها من سبيلها، وخطة انتهجوها بدليلها. وليس يقول بهذا إلا ظنين قد انطوي صدره على غل واجتمع قلبه على دخلة مكروهة وإلا جاهل من طراز أولئك لا يستطيل نظره بتجربة ولا ينفذ بعلم وإنما هو آخذ بذنب الرأي لا يوجهه ولكن يتوجه معه ولا يقبل به ولكن يدبر به الرأي. إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية فلا يزال أهله مستعربين به متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكماً حتى يتأذن الله بانقراض الخلق وطي هذا البسيط. ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس وردهم إليها وأوجبها عليهم لما أطرد التاريخ الإسلامي ولا تراخت به الأيام إلى ما شاء الله ولما تماسكت أجزاء هذه الأمة ولا استقلت بها الوحدة الإسلامية ثم لتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين ونضب ما بينهم فلم يبق إلا أن تستلحقهم الشعوب وتستلحمهم الأمم على وجه من الجنسية الطبيعية - لا السياسية - فلا تتبين من آثارهم بعد ذلك إلا ما يثبت من طريق الماء إذا انساب الجدول في المحيط. إنما الله علينا بلاء فتياننا لأنهم ينشؤن في أرضنا نشأة المستعبد الرقيق وأنّ غنما لهم أن نحرص على ما بقي من جنسيتنا العربية وأن نشعب لحفظ الصلة وتوثيق تلك العقدة بيننا وبين أسلافنا ونمد من ذلك سبباً إلى حاضرنا ثم إلى مستقبلنا فلا يكون في تاريخنا اقتضاب ولا بتر ولكيلا نكون على ديننا ولغتنا ما كان أولئك إلا وشاب والزعانف من الترك والديلم إلى غيرهما من أصناف تلك الحمراء التي اجتاحت العرب منذ الدولة العباسية ورتعت في أمور الناس وجعلت بأسهم بينهم لعلة المباينة في الجنسية اللغوية حتى لم يكن في ثمانمائة سنة من استبدادهم ما يعدل ثمانين سنة كانت منذ أول العهد بالإسلام ولكن أني لفتياننا ذلك وهم لا يأخذون من لغتهم ولا يصيبون من آدابها إلا كما يأخذ الإسفنج من الماء ينتفخ بقليل منه ثم لا يلبث أن يمجه أو يجف فيه. على أنك لو اعترضت كل من يهجن العربية ويزرى على سبكها لرأيته أجهل الناس بتركيبها وحكمة اشتقاقها ووجوه تصريفها ثم لرأيت له غرَّةً في تاريخ قومها فهو إن عرف منه شيئاً فقد تجرد من ثمرة المعرفة كأنه يحفظ طلاسم لا يتخبط فيها حتى يتخبطه

الشيطان من المس ثم ترى الآفة الكبرى أنه مُستدرج من حيث لا يعلم فهو يكافئ محبة لغة أجنبية أحكمها بعداوة لغته التي جهلها ويجزي منفعة تاريخ علمه بمضرة التاريخ الذي لم يعلمه والناس أعداء ما يجهلون. نعم بقي لأصحابنا مذهب آخر ينتحلونه ويستدفعون به الظنة وهو من أحسن رأيهم الذي يعانون عليه لو فهموه على الوجه الذي يفهم منه ولو أبدو لنا صفحته دون قفاه. . . وذلك أنهم يقولون أننا نريد أن نلائم بين حاجة الأمة من الكلام وبين الكلام الذي تبلغ به هذه الحاجة ونريد الإصلاح ما استطعنا فنلبس تاريخنا وعاداتنا ديباجاً من الكلام بطراز وغير طراز (نظماً ونثراً) ولا نترك أمتنا على سوم (في المزاد) بين العربية والعامية واللغات الأجنبية. ونحن نقول أن هذا أمر ليس له مَترك ولا عنه محيص ولكن أين ما ينزعون إليه مما ينزعون به وهم إنما خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وإنما يؤتون من حسبان العربية الفصحى لغة أثرية لاتحاد الزمن ولا تشايع روح التاريخ فيرون أنها لا بد أن تكون قد انقرضت مع أهلها فلا تبقى إلا لقوم في حكم أولئك المنقرضين ثم يفضون من هذا الوهم إلى تلك المخرقة التي أشرنا إليها في صدر الكلام لأنهم لم يمارسوا هذه اللغة وإنما علموها عن عُرض وهذا ولا جرم ضرب من الجهل العلمي - ولوهم فقهوا سر العربية ووقفوا على طرق تركيبها وجاذبوا من أزمتها وصرفوا من أعنتها واكتنهوا محاسنها الفطرية التي خرجت بها من ثلاثمائة تركيب إلى ثمانين ألف مادة كما فصلنا القول فيه لعرفوا كيف يتسببون للإصلاح اللغوي الذي ينشدونه وكيف يكشفون لفظ الإصلاح عن معنى غير فاسد كما ذهبوا إليه وتقلدوا البلية من حيث يدفعونها لا من حيث تدفعهم ولكنهم كما ترى يصفون لنا الفوضى وهم صفاتها، ويطبون للأمة وهم آفاتها، ويبادرون حسم الأمور بما يتفاقم به صدعها، ويضعون أوزار النوائب بما يثور به نقعها، وما عليهم إذا تبينوا أن يصيبوا قوماً بجهالة، أو يردوهم عن الهدى إلى ضلالة، فاللهم بصرنا بأقدارنا، ولا تذلنا بصغارنا، ولا تخذلنا في الأمل وأنت الرحيم، دون غاية أتحت لنا وقتها، ولا تجعلنا في العمل كأهل الجحيم، كلما دخلت أمة لعنت أختها. مصطفى صادق الرافعي

باب العلم الاجتماعي

باب العلم الاجتماعي الأكاذيب المقررة - التربية الطبيعية - الواجب الأكاذيب المقررة تأليف ماكس نوردو 2 الطلاق رأينا في الكلام المتقدم كيف أن نوردو يتهم النظام الاقتصادي الحاضر بما تطرق إلى الزواج في هذه الأيام من فساد أخرجه عما وضع لأجله، وقد زاد عليه في القسم الأخير من هذا الفصل علة أخرى، هي تأثير الآداب المسيحية على الزواج بين الدئنين بها. وقد عجب لخجل الناس ومواربتهم فيما يتعلق بالتناسل، وسأل. علام يخجلهم النوم والأكل، حتى إذا جاءوا إلى التناسل وصلات الجنسين غلب عليهم الحياء وجعلوا التلميح في موضوع التصريح؟؟ وما بالهم يحسبون غريزة التناسل عورة تستروانها لفرض طبيعي دونه كثير من فروض الطبيعة البشرية التي نجهر بها ولا نري فيها ما ينافي الاحتشام أو يخل بالحياء؟؟ قال. وما كان هذا دأب الناس فيما غبر من الأجيال، فقد كان قدماء الهنود والإغريق يقدسون أعضاء التناسل ويكبرون القوى التي لولاها لانقرض البشر، وفنى النوع واندثر، وقد أقاموا لها المعابد ورفعوا لأجلها النصب وما كان يخطر لهم أنهم يجيئون أمراً يخزي صاحبه كما قد يخطر لنا الآن. ولكن المسيحية ظهرت في عهد فشا فيه الفساد، فأدركت أواخر أيام الإمبراطورية الرومانية وقد عم الفسوق وسرى الفجور بين الناس على اختلافهم فذهبت إلى أبعد مدى في استهجان هذه المنكرات، وكان الزواج فيما تناوله تشديدها وحجرها، وجري ذلك مجرى العادة حتى رأينا الكنيسة تسلك زوجين في مصاف القديسين لأنهما عاشا لا يمس أحدهما الآخر طول حياتهما. ولقد أباحت المسيحية الزواج. ولكن لا لينتمي كل من الزوجين إلى رفيقه. بل ليتمم كلاهما

أمراً من مباحات الدين. لو تركاه لكان ذلك خيراً فلا بدع أن يكون للحب شأن في هذا القران. فتسمع الكاهن أمام الهيكل يسأل العروس أراضية هي بذلك الرجل زوجاً لها وهل تقره مولى وسيداً؟؟ ثم لا تسمعه يسألها أتحبه أم تبغضه لأنه لا يرى الحب فرضاً من فروض كتابه. فإذا هويت الزوجة المسكينة بعد ذلك رجلاً تم بينها وبينه فعل الانتخاب الجنسي. فأولى أن لا يصلح ذلك مبرراً لتسريحها من زوجها وإيصالها بمن أحبته ومتى زوجها الحب فيكون له أن يطلقها أو يزوجها من رجل آخر؟؟ من ثم أنكرت المسيحية طبائع النفوس التي لا سبيل إلى إغفالها، وأبت أن تعترف بموجب للطلاق، فإذا غلبت الزوجة أهواؤها أصبحت فاجراً ينبذها المجتمع وتقتص منها الشريعة. فإذا القاضي الذي يعفو عن لص سرق رغيفاً من الخبز ليدفع عنه ألم الجوع. لا يعرف للرحمة موضعاً في عقاب امرأة زلت نفسها طوعاً لمحركات الفطرة فتراه يسلم في الأولى بأن مطالب الطبيعة قد تغلب في النفس واجب رعاية الشريعة. ولا يسلم به في الثانية. ويحسب نوردو أن هذه الشريعة ابتكرها الشيوخ الفانون، والرهبان المتبتلون، والناس لا يقرونها إلا أمام القضاء. وأنه لمن العجيب كما يقول نوردو أن يجل الرجل حكم القاضي بسجن الزانية، ثم تبصره يطرب للشاعر الذي يرتل أمامه قصائد العشق ويسرد له وقائعه إلى أقصى غاياتها، ولا يدل ذلك إلا على أن النفوس جبلت على الإقرار بالعشق ولكنها تتجاهله من جانب الأنانية وحب الاستئثار. وقد أثبتت الملاحظة أن استمرار الزواج لا يرتكز على عاطفة من عواطف الإنسان، فالنفس لا تميل إلى التقيد بزوج واحد، ولكن الضرورة ألجأت العشائر الأولى إلى تقييد الزوج بزوجته، لأنها أضعف من أن تتكفل برزق أولاده، ولأن العشيرة لا ترضى أن تتحمل عنه تربيتهم، فكان لا بد للزواج من صلة تمتد إلى أبعد من صلة الشهوة. على أنه لا سبيل إلى بقاء تلك الصلة مدى الحياة، فإن في ذلك من مجاوزة أحكام الطبيعة ما فيه. قال: وخلنا نفترض أوفق الفروض وأحراها بإطالة العشرة بين الزوجين فهل تحسب ذلك مغنياً الناس عن تدبير الطلاق؟؟

هب العروسين كان يحب كلاهما صاحبه أصدق حب وأطهره، أفذلك ضمين بأن لا يتغير هذا الحب ما عاش المحبان؟؟ قد يقول لك الشعراء: إذا فتر الحب فما هو بالحب الصادق؟؟ فلنسألهم إذن أن يفرقوا لنا بين صادق الحب وكاذبه! وكيف يعلم العاشقان في هيام الحب وحرارة الوجد إن كان حبهما باقياً مع الحياة أو كان خباً موقوتاً لا يلبث أن يتطرق إليه الفتور اليوم أو غداً. أتراهم يرغبونهما في الزواج؟؟ فإن كان ذلك فقد يمل كلاهما صاحبه فماذا يصنعان؟؟ وكيف يتفقان؟؟ أم لعلهم ينصحونهما بالصبر حتى يثقا أن حبهما دائم حتى الممات؟؟ وذلك من أعسر الأمور عليهما. فإنهما لما كانا سوف لا يتحققان ذلك إلا بعدا، كان عليهما أن يصبرا إلى أن يوافيهما الأجل فيحق ساعتئذ لكل منهما أن يقول بقلب سليم لقد كان حبنا صادقاً وثيقاً، فلم يخمد إلا بخمود الحياة، وأنه ليحق لنا اليوم أن ندفن سوياً، فلا يخاف أحدنا تسرب السأم إلى قلب قرينه بعد الآن!! ثم استطرد الكاتب إلى تحليل بديع لعاطفة الحب، فأبان أنه لا يستغرق كل أجزاء النفس مهما اشتدت فتنته. واتقدت لوعته. وأنه لا بد من زاوية منطوية في ثنايا النفس لا تزال بمعزل عن سائرها تجول فيها هواجس الأهواء وأسرار العواطف. والمرأة قد تعف في حبها وتفي لحبيبها ولكنها ما برحت وهي كذلك واحدة من جنس له طبيعته وشوقه إلى الجنس المقابل له. وقد يخلص الرجل لمعشوقته ويصدق في هواه ولكنه يبقي كيف كان الأمر واحداً من جنس له مثل تلك الطبيعة وذلك الشوق تلقاء الجنس الآخر. وكلاهما لا ينجيه تعلقه بفرد واحد من الانفعال بمؤثر الجنس كله. والوفاء بلا حد ولا قيد ليس من طبائع النفس. ولا هو من مألوفاتها وإنما يصبو المرء إلى الاستيلاء على قلب الحبيب بلا شريك. فيود أن يملأه وحده. وليس شيء أرضى لأثرتنا وأكمل لشخصيتنا من أن نشاهد صورتنا مرتسمة في مرآة نفس أخرى. ونأنس من شخص آخر تمكننا من مجامع أهوائه. واستحواذنا على مناط أمياله. فذلك الذي يجعلنا نرتقب الوفاء المطلق ممن نحب ونهوى. وقد يغار المرء حيث لا يحب لأنه لا يرتاح إلى تقدم

سواه عند إنسان كائناً من كان. ولو كان الوفاء في الحب من مقتضيات الطبع، لوجب أن يطلب من الزوج بقدر ما يطلب من الزوجة، ولكنه مطمع من مطامع الأثرة كما تقدم، فكلما كان ذو الأثرة أقوى كان توقعه له من غيره أكثر، والرجال أقوى الجنسين، فهم يلزمون النساء بما لا يلزمون بمثله أنفسهم من الإخلاص والوفاء. فإذا نسيت المرأة نفسها عدُّواً ذلك منها كبيرة من أشنع الكبائر، أقل ما يصيبها من أجلها خزي لا يرحض وعار لا يمحى وجزاء لا غفران بعده، فإذا فعل الرجل فعلتها فليس في الأمر إلا أنها هفوة لذيذة يقابلها الجمهور بالمزاح والابتسام وتغتفرها المرأة له بالملاطفة وإدرار دموع البهتان. ومما يزيد في قساوة هذا الحكم أن المرأة قل أن تزلّ إلا مخلوبة مذعنة لقوة أكبر من قوتها، أما الرجل فإذا هفا فإنما ذلك لأنه أراد أن يهفو مختاراً لا مضطراً ولا مخدوعاً. ولقد بلغت أثرة الرجل الهندي ما لم تبلغه أثرة الرجال في بلد من البلاد ففرض عليها من الوفاء له ما يحتم عليها ملازمته حتى يوم يطرح ميتاً على لهيب النيران. في حين لا يرى لامرأته من حق عليه ما يدعوه إلى التفريط في شعرة واحدة منه. ولا شيء يمنعه أن يعود من جنازة زوجته ليمتع نفسه بأطايب عرس جديد. قال: ولم نغل نحن إلى هذا الحد في مقاضاة المرأة الوفاء. ولكن من قصاصنا من يمثل لنا عرائس تملكهن الكمد والقنوط فعمدن إلى التبتل بعد أحبابهن. وإن كان قد أبى أنصافهن عليهم إلا أن يسووا بين الرجال والنساء في هذه الفضيلة. ثم عطف الكاتب يقارن بين الإنسان والحيوان في الشهوة الجنسية ليرى إن كان ثمت مسوغ من الفطرة لاستمرار الزواج. والقارئ العربي ينبغي أن يكون أقل الناس استغراباً لهذه المقارنة لأننا قد طالما نسبنا تلك الشهوة في الإنسان إلى البهيمية. فرأى الكاتب أن العلاقة بين ذكر الحيوان وأنثاه لا تطول إلا ريثما ينتهي غرضها. ومنه مالا تتجاوز علاقة ذكره بأنثاه أيام المسافدة. والنادر القليل من الحيوان ما تبقى علاقة زوجيه إلى ما بعد وضع الجنين. والإنسان وإن ترفع وتعالى لا يخرج عن حكم الحيوان من هذه الوجهة. ولا وسيلة نتبين بها الطبيعي الأصيل من المتكلف الطارئ في أمياله الجنسية لصح من مراقبة هذه

الأميال في الحيوانات العليا التي هو وهي سواء في الخواص البيولوجية فيما هو من طبيعة التناسل. وقد أظهرت أمثال هذه المقارنات أن حاجة الحب تنتهي بحصول غايتها. كما أن حاجة الجوع تنتهي بالطعام. ولهذا نشاهد أن الطور الأول من أطوار الحب ينقضي بعد ولادة الطفل ثم ينتقل إلى طور آخر ليس من ذلك الحب في صفاته وعلائمه. ومن ثم فبقاء الزواج مدى الحياة لا يستند على شيء في طبيعة الإنسان. قد يقول قائل: نعم إن غريزة الإنسان لا تدعوه إلى الاقتصار على زوج واحدة، ولكنه ليس كسائم البهائم إذ أن له أيضاً غرائز أخرى. وعلى الحضارة أن تعلمه كيف يكبح غرائزه متى أدرك خطأها!! نقول ذلك حق ولكن من أين لنا أن تعدد الزواج مضر بنوع الإنسان أو عائق في سبيل انتشاره ونمائه؟؟ قال: إن الكنيسة فرضت وحدة الزواج ولكنها لم تستمكن من قسر الناس على مراعاة فرضها هذا إلا ظاهراً. أما في الباطن فلا نظن أنه بين كل مائة ألف رجل أكثر من رجل واحد يحق له أن يقول على فراش الموت أنه ما عرف في حياته سوى امرأة واحدة. وإذا كانت النسبة أكثر من ذلك بين النساء فليس لأنهن أقل رغبة في إهمال ذلك الفرض. وإنما ذلك لأن المراقبة عليهن أشد وعين الناس صوبهن أدق وأحد. هنا يقول قائل آخر: لئن كان للحب غرض يهتاج الإنسان لإنجازه ثم يخليه متى فرغ منه. فالصداقة قد تنوب عنه عند الناس: فيتآلف الزوجان وإن كانا بعد لا يتحابان. وهذا صواب أيضاً. فقد يقترن الزوجان. يشغف الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل في بادئ الأمر. فما هي إلا أن تثمر زهرة الحب فيفتر. ولكنهما يبقيان على صلاتهما الأولى بحكم العادة والإتباع. مثلهما في ذلك مثل الشجرة المتعفنة. يتغير باطنها ذرة بعد ذرة ولا ينال التغيير ظاهر قشورها وأوراقها. وربما كانت هذه الصلة في كزازتها وتفاهة مذاقها لا تغني عن الحب. ولكنها مع هذا صالحة للمطاولة والمصابرة. ثم يتلاقى حنو قلبيهما في الذرية فيولد بينهما حب جديد. وتتراخى عاطفة الحب على الزمن فيسهل على العقل والإرادة مغالبتهما. وتتردد في نفسيهما ذكريات الحب في أيام صبوتهما. فتحلى ما بقي من أيامهما. وكذلك يبقي الزواج ما بقيت الحياة بعد أن يتوارى

فعلى المجتمع أن يربيها في صباها ويتعهدها بعد ذلك

الحب ويتصرم. على أن تعلة من هذه التعلات قد لا تنجع في مجاذبة عاطفة جمح بها الطبع واشتط الهوى. فتعي بها زواجر العقل والإرادة. وتعجز عنها حيل المألوف والعادة. وليس وقوع ذلك بأندر من أن نقيم وزنه أو ن نحسب حسابه. ذلك كله قضى على بعض الحكومات بوضع سنة الطلاق ولكنها ما استطاعت أن تمحو سنة العرف. ولا نزعت من نفوس الناس ذلك الازدراء الذي يتعقبون به الزوجين المطلقين من مكان إلى مكان. مما يؤدي ببعض الأزواج إلي إيثار العبث بواجبات الزوجية على الطلاق الذي وراءه هذا العار والصغار. وبعد أن المع إلي شدة التزاحم على مقومات الحياة. وأبان أن صعوبة الكدح والسعي تصد الرجل عن الزواج وتدعو المرأة إلى الإلقاء بنفسها إلى أول خاطب يتكفل بمؤنتها. وقرر أن المروءة والنخوة من آداب الرغد والرخاء وأن الضنك والعسر يضطران الناس إلى الشح والنذالة. وذكر أن دخول المرأة في ميدان المكافحة على العيش لا سيما في جيل الضنك والعسر مؤذٍ بها وبالمجموع. وشبه المصلحين الذين يحاولون تحسين حال المرأة فيهونون عليها العمل ويبصرونها بوسائل الاستغناء عن الرجل، بذلك الخطيب الذي يعلم الناس كيف يصومون في المجاعة كأن ذلك يغنيهم عن التماس الأقوات والأرزاق. قال: يجب على الجمعية البشرية أن تعول المرأة فهي عتادها الذي تدخره للفاقة الاجتماعية والحاجة الطبيعية. وإن لكل جنس من الجنسين عملاً يقوم به لصلاح النوع. فعمل الرجل اكتساب القوت أي صيانة الجيل الحاضر. وعمل المرأة إنتاج الذرية أي إعداد الجيل القادم. وهي عدا هذا القطب الذي يدور عليه فعل الانتخاب الجنسي. والجائزة التي ينالها السابق بين المتنافسين في سباق ذلك الانتخاب. ونتيجة هذا التنافس ترقية النوع وتحسينه لا محالة فعلى المجتمع أن يربيها في صباها ويتعهدها بعد ذلك بالاتفاق عليها سواء كان ذلك في بيت أبويها أو في سكنها. وينبغي أن يرى من أكبر العار عليه أن تحس

امرأة. فتية كانت أو عجوزا. حسناء أو شوهاء.

امرأة. فتية كانت أو عجوزاً. حسناء أو شوهاء. بمضانك العوز ومسيس الفاقة وإن أمة تقام دعائمها على هذه الأصول. وتستيقن نساؤها أنهن مكفيات المؤنة غانيات عن الكدح لأنفسهن والاشتغال بطلب خبزهن. عوازب كن أو متزوجات. ويتولى مجموعها تربية صغارها وحفظهم. ولا يرى الرجل فيها أنه قادر أن يبتاع من النساء بقدر دراهمه لأن الجوع وسيط البيع. نقول هذه أمة يتزوج نساؤها طوع انعطافهن الصميم. وندر أن تنظر فيها العين بكرا بلغت أرذل العمر أو شيخاً ما زال أعزب في الصغر أو الكبر. وإن كان: في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا وفي مثل هذه الأمة لا يعود يرتكب قبائح الفسوق إلا صنف من الناس ممسوخ الطبائع لا يطيق الحياة إلا في جو النقص والرذيلة، ولا يترقب من سلائقهم الطائشة نفع كثير وقليل لأمتهم أو نوعهم. ومتى بطل النظر إلى المصالح المادية في أمر الزواج. وصارت المرأة مختارة في ميلها. غير مضطرة إلى بيع نفسها. وأصبح الرجال يتنافسون لإحرازودها بذواتهم لا بأموالهم ووظائفهم. فهنالك يصبح الزواج حقيقة نافعة ولا يعود أكذوبة كما نشاهد في عصرنا هذا. وهنالك ترفرف روح الطبيعة السامية على الزوجين. فتبارك كل قبلة من قبلاتها. فيوضع الولد محوطاً بهالة من حب أبويه. وتكون هدية يوم ميلاده تلك العافية التي يورثها ذريتهما زوجان كلاهما مستجمع من صفات جنسه ما يحبب فيه قرينه عباس محمود العقاد من الأجوبة الحاضرة قال عبد الملك بن مروان لنُصَيب الشاعر (وكان أسود) هل لك في الشراب فقال نصيب الشعر مفلفل واللون مرَمَّد وإنما قرّبني إليك عقلي فهبه لي. ودخل عمارة بن حمزة على المنصور فجلس مجلسه الذي كان يجلس فيه فقام رجل فقال مظلوم يا أمير المؤمنين فقال

من ظلمك فقال عمارة غصبني ضيعتي فقال المنصور قم يا عمارة فاقعد مع خصمك فقال عمارة ما هو لي بخصم فقال له كيف فقال إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها وإن كانت لي فهي له ولا أقوم من مجلس شرفني به أمير المؤمنين لأقعد في أدنى منه بسبب ضيعة. وقال هشام بن الملك لرجل في الكعبة سلني حاجتك فقال لا أسأل في بيت الله غير الله. ورؤى رجل يصلي صلاة خفيفة فقيل له ما هذه الصلاة فقال صلاة ليس فيها رياء. وقال عتيبة بن أبي سفيان لعبد الله بن عباس ما منع علي بن أبي طالب أن يجعلك أحد الحكمين فقال أما والله لو بعثني لاعترضت مدارج أنفاسه أطير إذا أسفَّ وأسِف إذا طار ولعقدت عقداً لا تنتقض مريرته ولا يدرك طرفاه ولكنه سبق قدر ومضى أجل والآخرة خير لأمير المؤمنين من الدنيا. التربية الطبيعية أو أميل القرن الثامن عشر وضعه جان جاك روسو وعربه إبراهيم عبد القادر المازني الكتاب الأول الطفولة - مبادئ عامة (تابع ما قبله) فخليق بنا أن نخرج من ضيق ما نحن فيه من المذاهب العتيقة والمناهج التي أكل الدهر عليها وشرب وأن نفك عنا قيود الجهل وأغلال العادة. وإن ننظر في طفلنا إلى الإنسان على وجه عام - الإنسان وديعة الغيب ونهزة التلف فلو أن المرء كان إذا ربي بأرض لم يبرحها وإذا نشأ بمكان لم يضرب في غيره ولم يكن الجو. كابى براقش كل يو - م لونه يتخيل ومقسم الحظوظ لا ينفك يمر ويحلى ويريش ويبرى لامتدحنا هذا الأسلوب القديم وحبذنا تلك الطريقة العتيقة ولقلنا لعل فيها رادة لم يصل إليها علمنا وفائدة من فوق طور إدراكنا.

ولكن أمور الناس ليست كالمثل المطرد بل هي عرضة للتغير والتبدل والزمان إن سامح تحيف وإن سالم طرق يقرض الإحسان ثم يقتضي ويعير ثم يسترد. فهل رأيت أضعف تمييزاً أو أسخف عقلاً ممن يربي الطفل كأنه (أي الطفل) لن ينفض إلا أجواز غرفته ولن ينزع به الطلب إلى غير محلته أو كأن الدهر سيظل أخضر والزمان بوجه السعد مقبلاً. فإذا دفعته الحاجة فخطا خطوة أو حاول أن يرقى سلماً فقد تعرض للموت واستهدف للتلف. أليس هذا قد علمه الإحساس بالألم ولم يعلمه احتماله. أرى الناس لا يعنون بصيانة الطفل ولعمري ليس هذا كل ما يجب فإنه ينبغي لنا أن نعلمه أن يصون نفسه متى صار في حد الرجال وأن يتلقى المحن بجنة الصبر ويقرن للدهر في الشدة والرخاء والنعماء والبأساء والأمن والخوف والإقبال والإدبار فيعيش إن مست الحاجة بين ثلج أيسلاندة أو على صخور مالطة المحرقة. وأعلم أنه من عجز الرأي أن تحاول أن تجعله في مأمن من الموت إذ لا بد أن ينقضي أجله ويتصرم حبله وليس تعليمك إياه كيف يعيش بأقل فائدة وأصغر خطراً من ضنك به على الموت وحياطتك دونه والحياة أصلحك الله ليست أنفاساً يرددها بل هي العمل والكد والكدح هي أن يستخدم المرء أعضاءه وحواسه وجوارحه وقواه وملكاته وسائر ما يجعله يشعر بوجوده ويحسه. وأحي الناس أشدهم بالحياة إحساساً وأقواهم بالوجود شعوراً. لا من تنفس به العمر فلبس العمائم الثلاث فكم من وليد مات وكأنما أخذ بعنق المائة. لهف نفسي على إنسان هذا الزمان علمهُ أوهام وخرافات وعاداته قيود وأصفاد تضرب عليه الذلة يوم يولد ويتقمص الهوان يوم يلف في القمط فإذا مات لف في الأكفان. حتى الموت لا ينضو عنه دثار الرق ولا يطلق عنه ربقة الاستعباد! وبعد فقد زعم المرضعات أنهن يستطعن أن يسوين رؤوس الأطفال لتكون أجمل صورة وآنق شكلاً وأعدل تكويناً. كأن مبدع الخلق سبحانه عجز عن أن يفرغها في قالب الكمال. فلم يكن بد من أن يسويها المرضعات والفلاسفة كرة أخرى هؤلاء من الظاهر وهؤلاء من الباطن. إن هذه القمط التي تشد بها رؤوس الأطفال وسائر أعضائهم تعوق دورة الدم وغيره من السوائل وتحجز الجسم من النماء وتقيم من دون القوة سدا وتكدى الشباب وتسلب المنة فإن

داخلك في ذلك شك فتأمل غيرنا من الشعوب الساذجة تجد رجالها طوالاً متماسكين في خلقهم قوة وضلاعة فأما حيث تشد الأطفال بالقمط فما أكثر الزمن والأكسح والمقعد والسطيح والمخبول. وذلك لأنا نحبس عنان الأطفال عن الحركة ونغل يده عنها بما نفرغه فيه من القوالب والقمط إشفاقاً أن يصيبه من الحرية اذاة فكأني بالناس قد أشفقوا على أبنائهم أن تصيبهم آفة فسلبوهم القوة عمداً. وهل لا يكون لهذه القيود الصعبة والأغلال القاسية في ظنك أثر في أميال الطفل وخلقه مثل مالها في خلقه وتكوينه. إن أول ما يجده الطفل هو الإحساس بالألم. لأنك قد أقمت من دون ما يحاول من الحركة عقبات ولم نسمع أن واحداً ممن نشأوا على حرية الحركة أضر به ذلك لأن الطفل أضعف من أن يلحقه من حركته ضرر وحسبه ما يناله من الألم إذا هو لم يحسن الجلوس أو الاضطجاع دافعاً إلى تغيير هيئته واستبدال ضجعته. وأعلم أنه لا طفل إلا بالألم لأن واجباتها متبادلة فإذا أساء أحدهما القيام بما ينبغي عليه نام الآخر عن أداء واجبه ولها عنه. وينبغي أن يشرب الطفل محبة أمه قبل أن يدرك أن ذلك فرض عليه لأن آصرة الرحم إذا لم يوثق عراها ويؤكد عقدها الواجب والعادة وهت أسبابها في صدر الأيام ورث حبلها. وأخلق عهدها وفي ذلك جنوح عن منهاج الطبيعة وحيد عن جادتها. وقد تضل المرأة أيضاً عن الجادة المستقيمة إذا هي جاوزت القصد في النهوض بواجبها ولم تميز بين الإفراط والتفريط فليس ينبغي لها أن تغلو في العناية بولدها حتى تجعله معبودها فإنها إذا أترفته ضنا به أن يعرف خوره وضعفه وأنزلته أكناف الدعة وضربت عليه سرادق الأمن رجاء أن تصرف عنه لحظات الغير وتغض عنه عيون الحوادث فقد التبست عليها وجهة السداد لأنها وإن كانت قد أذهبت اليوم عنه السوء فقد ادخرت له أهو إلا هو لا بد خائضها طائعاً أو كارها وأنه لمن الحماقة ونقص العقل أن تزيد ضعف الطفل وأني لمن كان كذلك أن يكون حمولاً للنائبات مضطلعاً بخطوب الدهر جلداً على مض النوازل. ورأيت في أقاصيص المتقدمين أن تيتس غمرت أبنها في مياه الستيكس ليكون صلب المعجم لا تروعه النوائب ولا تنال منه الملمات وهي أسطورة لطيفة نافعة غير أن الأمهات القاسيات اللاتي هن موضوع كلامنا يجرين على عكس هذه الطريقة وكأني بهن إذ

يربين أبناءهن على الرقة والرخاء قد أولعن بهم النوائب وأغرين بهم ريب الدهر. فعليكن بالطبيعة فتأثرنها ولا تعدلن عن جادتها وأعلمن أنها لا تنفك تستحث الطفل على الحركة وتسبكه بتصاريفها وتحنكه في صبائه حتى إذا عض على ناجذ الحلم صار ثبت الغدر صليب النبع جميع الفؤاد. على أن التجارب قد أظهرت أن الموت بين نشأ من الأطفال على الترف والرفه أكثر تفشياً منه بين من ألفوا مضاجع الخشونة. وأعلم أن الطفل إذا لم يكلف فوق وسعه فالحركة أجدى عليه من السكون وأردّ والراحة أضر به من التعب وإذا كان الأمر كما علمت فخليق بنا أن نبلوا أبناءنا بشيء من الشدة في حدثانهم وأن نعرضهم لاختلاف الفصول والأقاليم وتقلب الأجواء وأن نغمرهم في مياه الستيكس فإن من تجرع في صباه الغصص لم تؤثر فيه المحن إذا شب ونما إلا كما تؤثر الهزمة في الصخر. وما دام الطفل لم يجر على عادة ما فإنك تستطيع أن تفعل به ما تشاء من غير أن تمسه بأذى أو تلحق به ضررا فأما إذا كان قد تعود شيئاً فلست آمن عليه أن لا يضر به ما تريد أن تحمله عليه. ومن أجل هذا كان الطفل أشد احتمالاً للتغير وإطاقة للتبدل ممن بلغ أشده وتناهى شبابه وذلك لأنه ما زال غضاً طرياً يحتمل أن يثنى ويصب في ما تشاء من القوالب ولكن الرجل لا يطيق ذلك لأنه قد جمد وجف ماؤه فأصبح كالعود اليابس إن تثنيه انكسر ولهذا فأنت نقدر أن تجعل الطفل قوياً وثيقاً إذا عرفت سبيل ذلك وربما كان فيه شيء من الخطر على الطفل غير أن ذلك ليس خليقاً أن يحيلك عن قصدك أو يقطعك عن عزمك لأنه خطار لا مذهب لك عنه ولخير لك أن تخاطر اليوم والخطار غير موبق من أن تقحم الطفل غدا قحم الهلكات وتركبه الأهوال. وكلما ارتفعت سن الطفل زاد ضن أبويه به وحرصهم عليه وكلفهم به لأنه ينبغي أن يضاف إلى قيمة شخصه ما كلفهما من العناية والكد والعناء والجهد وإلى موته تخوفه منه وإضماره مخافته واستشعار حذاره ولذلك كان العقل كل العقل والحزم كل الحزم أن لا يخلجنا قيامنا على الطفل وحياطتنا له عن توسم المستقبل وأيقاظ رأينا له أي أن من واجب الأب أو المربي أن يأخذ لأمراض الشباب عدتها ويتذرع لحسمها بذرائعه قبل أن يبلغ الطفل هذا السن لأنه إذا كانت قيمة الحياة لا تزال مطردة الازدياد حتى يبلغ الطفل السن

التي تكون فيها الحياة نافعة فهل رأيت أحمق ممن يدخر للطفل إلا وصاب والعلل ضنابه أن يتألم وهو طفل طري لا يحس وأعلم أن الشقاء نصيب كل حي وقسمة كل موجود حتى حياطة الطفل ليست بنجوة من الآلام ولعمري أن السعيد من لم يعرف في طفولته غير علل الجسم وأوجاعه فإنها أهون خطباً من سواها والنفس أصبر عليها وأجلد وهيهات ما يئن له الجسم مما تنقض له الجوانح وتذوب له لفائف القلوب ويؤثر من أجله الموت؟ أم تحسب الناس ينتحرون لورم في الرجل أو وجع في الرأس. لعمر أبيك لا يميت الرجاء ويبعث اليأس إلا هموم تعتلج في الصدور وتجول في القلب. وليس أحق بالعطف والرحمة ممن ذهبت بلته ورث برد شبابه. يولد الطفل فيبكي وتنقضي أيامه الأولى بين عبرة تترقرق وزفرة تتردد وألام في خلال ذلك آنا تلاطفه وتداعبه ليكف عن البكاء ويمسك عن العويل وآونة تتوعده وتضربه ليحبس عنان دمعه ويغيض من عبراته تارة تنقاد له وتنزل على حكمه وطوراً تجرضه بريقه وتأخذه أخذ عزيز مقتدر فهي أبداً مذبذبة بين بذل الطاعة له والامتثال لإشارته وبين إرغامه على طاعتها والقعود تحت حكمها وليست تعرف بين ذلك سبيلاً تسلكه فكأن الطفل لا معدل له عن واحدة من اثنين الأمر أو الطاعة. وعلى ذلك ينشأ الطفل وقد تعلم أول ما تعلم التحكم والذلة فتراه يأمر وهو لا يحسن أن يتكلم ويذعن وهو لا يحسن أن يفعل شيئاً وقد تجزيه أمه بإساءة توهمتها وهو لا يعرف بأي ذنب آخذته وعلى أية زلة جازته. ولعله بمنتزح عما عوقب عليه بريء العهد مما رمي به! ولعله لا يدري كيف يذنب أو يخطئ. ونتيجة ذلك أن صدره يمت في أول نشأته بعواطف وإحساسات نعزوها نحن إلى الطبيعة ونزعم أنه مطوي عليها بسليقته وته. وإذا ساءت خليقته وخبثت خملته تسخطنا القضاء ونحن الذين غمسناه في الفساد وأولعناه بالسوء وغللنا يده عن الخير وأطلقناها في الشر! فهو غرس أيدينا ولا ينتج الغرس السيء ثمرة طيبة. فإذا سألتني عما يجب عليك فعله لتصون فطرة الطفل التي فطره الله عليها من أن تخبث وتعبث بها يد الفساد قلت لك أن أول ما ينبغي عليك فعله هو أن لا تدع أيدي الغرباء تصل إليه فإن الزهرة الأرجة إذا كثر عبث الأيدي بها ذبلت فإذا رزقك الله مولوداً فلا تكله إلى غيرك حتى يبلغ أشده فإن المرضعة الحقيقية هي الأم والمؤدب الحقيقي هو الأب وهما

خليقان أن يتواطأ على طريقة يسلكانها في القيام بأعباء وظائفهما حتى لا تمسه يد أجنبية منه. وأعلم أن الوالد الكيس الحكيم وإن كان جاهلاً أرجي منفعة للطفل وأقدر على تعليمه من أشد العلماء رسوخاً في العلم وبسطة فإن الحكمة قد تفعل ما لا تفعله المواهب. ورب معترض يقول ولكن على الأب عدا ذلك أعمالاً وواجبات لا مذهب له عن أدائها وأنى له أن ينهض بذلك جميعه إذا كنت تجمله ما ينوء تحته؟ بلى فإن عليه واجبات وأكبر ظني أن آخر ما ينبغي القيام به منها هو واجبه نحو ولده. إذا كانت الزوجة ترغب عن إرضاع ولدها أنفة واستنكافاً فليس بعجيب أن ينتفي الأب من تربيته ويعدها مسقطة له من الأعين على أني لست أعرف صورة أملأ للعين وأملك للطرف من الحياة العائلية ولكنها صورة لا يتم حسنها إلا باجتماع أعضائها فإذا فقد شيء منها صارت صورة العيوب ومثال المساوي ومجتمع المقابح وإذا كانت الأم أضعف من أن تستطيع النهوض بأعمال الظئر اختلطت على الأب أموره وانتشرت عليه واجباته وتفرقت. لهذا لا لشيء آخر ينفي الأب بنيه عن بيته ويرسلهم إلى المدارس الداخلية والأديرة والكليات فتمحو المشاغل صورة عشهم من صدورهم وتسقيهم عنه سلوة فإذا عادوا إلى عشهم الذي درجوا فيه وجدت أفئدتهم فارعة خلوا من الحنين الذي يستوقد الضلوع وتلتعج في الأحشاء نيرانه حتى ليكاد الأخ لا يعرف أخته.

آثار تهذيبية

آثار تهذيبية ست عشرة رسالة حكيمة من رسائل الفيلسوف سنيكا إلى صديقه لوسليوس (تابع ما قبله) الرسالة الرابعة في الخوف من الموت سر في هذا الطريق الأبلج وأسرع فيه ولا تتئد ما وجدت إلي ذلك سبيلاً وأعلم أنك ستبتهج وتسر سروراً طويلاً بما تنال نفسك من التهذيب والكمال بل ثق بأن سلوك هذه الجادة من تزكية النفس وتكميلها فيه من السرور واللذة ما فيه وإن كان السرور برؤيتها كاملة خالية بقدر الإمكان من العيوب لا يعادله سرور لا يضارعه حبور، أنك لا يمكنك أن تنسى أن فرحك كان عظيماً يوم خلعت رداء القضاء الأدنى وألبست رداءه إلا على وسيريك في موكب لجيب حتى إذ حلت الديوان فكم لعمري يكون مقدار سرورك إذا خلعت آخراً عن رقبتك نزعات الشباب وأغلاطه وأحلتك الحكمة في مصاف الرجال. إن الشباب وإن ذهبت عنا أيامه لكن مما يؤسف عليه أن تبقى فينا نزعاته بل مما يزيد في الأشجان أن نكون شيوخاً في السمة والوقار ثم تلازمنا مع ذلك عيوب هذا الشباب بل مخاوف الطفولة، ومع أن مخاوف الشباب تافهة ومروعات الطفولة خيالية فقد اجتمعتا فينا كلتاهما وأنك لو تقدمت في الحكمة قليلاً لعرفت أن طائفة من حوادث الدهر ونكباته ليست بالمخيفة بالمقدار الذي ترتاع لوقعها منها النفوس فالشر ليس بالعظيم إذا كان خاتمة السرور والموت إذا أقبل فإنه يحق لك أن ترتاع منه إذا كان غير متخطيك ولكنك تعلم حق العلم أن لك فيه سابقين كما أن لك فيه لاحقين، ولقد تقول لي أني ليعسر علي أن أحمل النفس على الازدراء بالموت وأن استسهل صعبه فأجيبك أنظر في أحوال الناس وأحكم كم ترى من صغائر ولدت في النفوس كراهة الحياة واستسهال الموت فهاهنا نسمع بعاشق شنق نفسه على باب معشوقته وهناك نشاهد عبداً مملوكاً خاف قصاص مولاه فألقى بنفسه من أعلى سطح داره وفي جهة ثالثة نسمع بشقي خشي العود إلى الأصفاد والأغلال فطعن نفسه طعنة نجلاء ليرتاح من العذاب وأنك لتعلم أن ليست الشجاعة هي التي جرأت هؤلاء الناس على الإقدام على ما أقدموا عليه من الموت وإنما هو الخوف وشدة الهلاع، والخوف

على الحياة وشدة الرغبة في إطالتها لا يوجب لعمري راحة البال وإنما يحدث هموماً ويثير في النفس مخاوف ووساوس وإذا أنت أردت أن تعرف مقدار متاعب الحياة وتستسهل تركها غير آسف عليها فانظر إلي تلك الزمر البشرية التعسة في حرصها عليها وتعلقها بأهدابها تعلق الغريق بقطع الأخشاب والصخور وأن أكثرهم ليسبح بين الخوف من الموت ومتاعب الحياة لا يدري كيف يعيش ولا يعرف كيف يموت فإذا أحببت أن تجعل حياتك سارة قارة فلا تشغل نفسك بالخوف عليها والشيء المستعار لا يحلو إلا إذا عرفت أنه مستعار فتحسن استعماله كما لا يصعب عليك فراقه وأجمل الرد في الودائع مالا يحدوه التحسر والتأسف، فينبغي لك إذاً أن تتشجع وتقوى على مقاومة خوف مصائب هي رصدٌ على الكل وغير مستثن منها وضيع ولا رفيع فلقد كانت حياة القائد بومبيوس ألعوبة بيد خصى وطفل تحت وصايته وأيام كرسوس إنما انقضت على يد ذلك البارشى السفيه الوحشي وقطع كيوس قيصر رأس لبيدوس بسيف النائب ديكستر كما قطعت رأسه هو بحسام شيرياغ ولعمري مهما كانت الظروف التي يضعنا فيها حظنا المتاح فإنه يجب علينا أن نحذر دائماً مما قد تسمح لنا بعمله وإتيانه مع الغير لأن الحظوظ كالبحر وهل يؤمن جانبه هو هادي ساكن إذا بك تراه قد هاج وماج فاقتلع السفن الراسيات وابتلع الجواري المنشآت بما تحمل من الأموال التي كانت بالأمس بهجة نفوس أصحابها ومنتهى آمالهم كذلك الحظوظ الدنيوية تعمل ثم لا يفوتنك أنك في كل وقت معرض لأن تنالك بالأذى أيدي اللصوص والأعداء وإن لم يكن لك أعداء كبار فأحقر عبيدك معلق موتك وحياتك بين يديه إذا هو فقد صوابه وهانت عليه في إعدامك حياتك نفسه، أجل أيها الصديق أن من يستر خص حياته في معادتنا يكون بلا ريب مالكاً لحياتنا وتذكر عبر الحوادث الكثيرة فكم من أناس قتلوا على أسرتهم خفية وجهاراً بأيدي ارقائهم أكثر مما يبطش الملاك ذوا السلطان وأرباب التيجان؟ فماذا يهمك إذن من بطش عدوك وسطوته إذا كانت سلطته التي تخيفك قد تكون بأيدي أناس كثيرين ولا ضابط لها ولقد تقول لي أني إذا وقعت في يد عدوي فقد يقودني إلى الموت جهاراً فأقول لك أنك بسبيله منذ أزمان ولم نغرر بأنفسنا طويلاً ولا نبصر إلا في هذا اليوم ما هو مهدد لنا ما حيينا، نعم أيها الصديق الكريم إنك سائر إلى الموت والفناء وأنك وأنك سالك سبيله من يوم ولدتك أمك هذا ما يجب أن نجعله نصب

أعيننا من الأفكار في هذا الصدد إذا أحببنا أن نعيش بسلام ونقضي أيام حياتنا بالهناء حتى ساعتنا الأخيرة التي خوفها هو السبب الوحيد في التنغيص علينا في كل أوقاتنا وساعاتنا الأخر. ولا ختم ما اخترته لك في هذا المعنى بالحكمة المختارة ليومنا هذا وهي زهرة مقتطفة من حدائق الحصم قال إن الفقر المنظم وفق النواميس الطبيعية غنى وحظ عظيم أو تدري ماذا يعني بالفقر المنظم وما تشير به هذه النواميس أنها تشير بأن لا نجوع ولا نظمأ ولا نعرى وكل هذا أي سد الجوع وأطفأه الظمأ وستر العورة لا يحتاج البتة إلى أن نقف بالذلة والصغار بواب العظماء ولا أن نتحمل نظراتهم المملوءة كبراً واحتقاراً وجمائلهم التي حشوها الخزي والعار وليس بمستلزم كذلك أن نقتحم الأهوال ونتجشم سفر البحار على حين أن ما تتطلبه الطبيعة سهل الوصول إليه والحصول عليه وإنما تتعب النفوس بالجد والكد وراء ما زاد عن ذلك من مظاهر ومفاخر فترى هذا يخلق جدته في الحصول على الوظائف الملكية وذاك يقضي زهرة أيامه في التقلب في قيادة الجندية وثالثاً يلحقه الفشل على شواطئ البحار وراء الحصول على الفخار وصفوة القول أن الضروري سهل المنال علينا ومن يقنع بحالته منه وينظم معيشته فيه فذاك لعمري هو الغني ذو الحظ العظيم. الرسالة الخامسة في المباهات بالفلسفة والفلسفة الصحيحة حرصتَ على تحصيل الخيرات بلا فتور وهجرتَ كل شيء انصرافاً إلى تكميل نفسك فأنا أحمد إليك صنيعك وثباتك عليه وأنصح لك بل أرجو منك رجاء أن تثابر على تلك الخطة ولكني أحذرك التشبه ببعض هؤلاء الفلاسفة الذين قد يتغالون حتى يشذوا عن الجادة في إهمال أبدانهم وتيانهم فأحرص أحوالك وأطوارك رغبة في الظهور بمظهر الفلاسفة (الكلبيين) وكفى ما بالفلاسفة اليوم من سوء ظن الناس بهم مهما أظهروا من الحشمة والكمال في أحوالهم فكيف بهم إذا رأى الناس منهم كبير شذوذ وخروج عن مألوفهم؟ أنا لنخالف الناس في بواطننا أما الظاهر فيمكننا أن نظاهرهم عليها ونجاريهم فيها بالمقدار اللازم، فأنا لا أحب مثلاً أن تكون ثيابي مما تلفت الأنظار زخرفة ولكني لا أحب أيضاً أن تكون مما تنبو عنه الأعين قذارة وإهمالاً، ولا أود كذلك أن استعمل آنية الذهب والفضة ولكنني لا أعتقد الزهد والورع إلا وراء ذلك، فلنحرص إذن أن نعيش كما يعيش الناس

اللهم إلا ما عليه العوام والسوقة من أمور مزرية وأنا إن لم نعمل بذلك نبذنا من نريد إصلاحهم وتهذيبهم لأن الناس قد يستصعبون هذا الشذوذ فيتجنبون الإقتداء بنا في شيء توهماً منهم أنهم مكلفون بتقليدنا في كل شيء فتفوت وما غرض الحكمة الأول ذلك الغرض الشريف الأربط البشر بروابط الألفة والمحبة والاتحاد في الفكر والمشرب والتحاب والتعاطف بين الناس فإذا نحن نبذناهم وجفوناهم وبايناهم بأحوالنا وأطوارنا خرجنا لعمري عن ذلك المقصد الأسنى ونددنا عنه ولنخش أن هذه الأحوال الشاذة بدلاً من أن توجب إعجاب الناس بنا وثناءهم علينا تجلب لنا سخطهم واستهزاءهم. إننا وأيم الحق يجب علينا أن نجعل الطبيعة رائدنا ودليلنا في حياتنا والطبيعة تأبى علينا أن نقدم على تعذيب أنفسنا بأنفسنا وأن نمقت بسيط الزينة ونميل إلى لقذارة واختيار ما تعافه من رديء الطعام ولا يعد في شيء من الزهد والتقشف لأنه إذا كان من الرفاهية والتنعم اختيار الألوان الشهية فلا ريب أنه من الحمق والجنون نبذ الأطعمة العامة الرخيصة الثمن والفلسفة إنما تحث إتباعها على الزهد والقناعة لا على التشدد وإرهاق النفس فالقناعة والزهد حالهما وسط بين الطرفين وهو ما يجب أن نختاره لأنفسنا بأن نجمع في حياتنا ومعيشتنا بين الخلال الحميدة والخصال الرجيحة حتى تكون حياتنا على الدوام موضع إعجاب الناس لا موضع استغرابهم وتعجبهم ولقائل أن يقول ما هذا أو تريد أن يتساوى أهل الحكمة مع عامة الناس في أحوالهم وأمورهم بلا فرق ولا تمييز؟ أقول أن الفرق ما زال عظيماً بشرط أن يدقق فيه النظر وينعم الفكر فالذي يدخل بيت الحكيم يعجب برب الدار أكثر مما يعجب بما تحوي من أثاث ورياش وأن الحكيم ليتساوى عنده استعمال آنية الفخار وآنية الفضة لما حازت نفسه من سمو ورفعة بعكس ذوي النفوس الضعيفة فإنهم يفرحون ويسرون باستعمال هذه ويغتمون ويحزنون إذا حرموا إلا من تلك. وهاك ما أشاطرك إياه مما استفدته من الحكمة في يومي هذا وقد التقطتها من أحد أبناء شيعتنا أعني به هيكافون وهي تدل على أن خمود نار الرغائب علاج ثمين للخوف قال أقطع عن النفس الأمل ينقطع عنك الخوف ولعلك تقول أي علاقة بين هذين الإحساسين المتباينين كل التباين؟ فأقول أجل أيها الصديق لوسليوس أنهما وإن اختلفا في الظاهر لكنهما مرتبطان في الحقيقة وأن السلسلة التي تربط الأسير بالأسر لأقل ارتباطاً مما بين

هاتين العاطفتين فالخوف يتبع الأمل ولا عجب في ذلك ولا غرابة فيه لأن كلا منهما منشؤه قلق النفس وخوفها على المستقبل وسبب ذلك أن المرء بدلاً من أن يكتفي بالحاضر تتشبث أفكاره بالمستقبل البعيد فتضل بصيرته ويصير نورها الذي هو أكبر نعمة عليه آلة يخاف شرها على أن الوحوش قد تحذر الأخطار الواقعة وتهرب منها عند رؤيتها فإذا ما مرت سكنت نفوسها وعادت إليها طمأنينتها أما نحن فإن نفوسنا لعمري فريسة بين المستقبل والماضي وكل قوانا تعمل ضدنا فلذاك توقظ فينا الوساوس والمخاوف والعقل يغفل عنها ويتخطاها فلذلك لا يكفينا الاهتمام بمشاغل الحاضر ومتاعبه حتى نضيف إليها هموم المستقبل ومخاوفه. الرسالة السادسة في الصداقة الصحيحة أرى نفسي أيها الصديق تتزكى أو أراني بالأولى متحولاً من الحال التي هي أدنى إلى الحال التي هي أعلى، على أني لا أفتخر ولا أدعي أنه لم يبق في شيء يعوزه البتة الإصلاح والتغيير إذ كم أمامي لعمري مما هو بحاجة إلى الإصلاح والتهذيب ولكن شعور الإنسان بنقصه وتقصيره دليل على الأقل على أنه يعرف خطأه ويعترف بخطاياه والناس تهنئ عادة المريض الذي يشعر بالمرض لأنه دليل في الغالب على البرء من الداء وقرب الشفاء من العلة وهلا يكون في قدرتي أن أفيض عليك مما يفاض علىَّ من ذلك حتى يكون ما بيننا من روابط المحبة والصداقة على أتمه ووثقه وهو ما أرى فيه الصداقة الحقيقية، تلك الصداقة التي لا يمكن أن يحل رباطها خوف أو أمل أو نفع، تلك الصداقة التي يموت عليها المرء ولأجلها يفدي حياته ولكن كم من أناس وجدوا أدعياء في الصداقة لا أوفياء فيها فلكي لا تشوب الصداقة شائبة ينبغي أن تتصافى القلوب وتخلص السرائر في تبادل المحبة من الجانبين على السواء بذلك تتحد الأفئدة وتأتلف الأهواء المتفرقة وإن قلت وما سر ذلك وعلته قلت أن النفوس إذا تصافت وتحابت لا جرم علمت أن الأمور بينها مشتركة خيرها وشرها واراك تغبطني على ما استفدته وشرحته آنفاً وتعلم منه مقدار ما ينالني من التقدم والارتقاء في كل يوم تطلع على فيه شمسه. ولقد تقول لي ابعث إلي بهذا العلاج الشافي تعالج به أدواء نفسك فأقول أجل أيها الصديق أني لأتقد غيرة وشوقاً إلى حبه حباً في نفسك لو أمكنني ذلك لأني لا أبتهج بما يفتح علي

به من العلم إلاّ على أمل أن أعلمه غيري فأجمل ما يتاح لي اكتشافه وألطف ما اهتدي إلى ابتكاره لا يحلو لي ولا يطيب إلا إذا توصلت إلى إيصاله لسواي، ولو لقنت الحكمة على شرط أن أكنها في صدري ولا أعلمها الناس لرفضتها وما قبلتها إذ أفضل الأشياء ما كان مشتركاً بين الناس كثير التداول عام النفع بينهم وعليه فقد رأيت أن أبعث بنفس نفائس الكتب التي استقي منها وأغوص فيها على الدرر واللآلئ التي التقطها لتستخرج منها لنفسك بنفسك ما تشاء، ولكي أكفيك مؤنة التعب والنصب في البحث والتنقيب بين ثناياها علمت لك بخط يدي على الصفحات وعلقت على هوامشها بيدي تعليقات ترشدك بسرعة إلى المقاصد والأغراض وما أعجبني من عيون الحكمة ولكن ثق أن تلقيك بالمشافهة والمحاضرة مع صديقك ليفضل عندي كثيراً تلقيك عن الكتب لأن في المعاينة والسماع والخبر بالنفس ما يفضل كل طريقة أخرى عند الناس، وسبيل التعليم بالقدوة العملية خير مما يلقى في الأسماع من النصائح والتعاليم النظرية وما حاكي كلينشيوس الحكيم زينون إلا لما عاشره وأخذ عنه واقتدى به ودرس سلوكه وقارن بين ذلك من أحواله وبين تعاليمه، وما تبع أفلاطون وأرسطاطاليس وغيرهم من الحكماء الحكيم سقراط ولم يخالفوه كبير مخالفة إلا لما أخذوا عنه وسبروا أحواله واقتدوا به، وما اقتفى أثر أبيقور أشياعُه من مشاهير الحكماء ميترودور وهيرمارك ويولينس إلا لما جعلوا سيرته أسوة حسنة لهم إلى جنب تعاليمه، على أني إذا كنت أطلب منك ذلك فأني إنما أطلبه لفائدتي أنا أيضاً لا لفائدتك وحدك لأنا بالاختلاط والمعاشرة ينفع أحدنا الآخر فيما نحن بصدده ويشد أُزره وهاك ضريبتي اليوم وهي مما أعجبني من حكمة هيكاتوز قال: أتريد أن تعلم ما هي وسائل ارتقائي ونجاحي هي أني صديق لنفسي ولقد أصاب كبد الحقيقة لأن صديق نفسه الحقيقي ثق بأنه صديق لكل الناس. صالح حمدي حماد

الحكمة المشرقية

الحكمة المشرقية حكم فتاحوتب تعريب الأستاذ محمد لطفي جمعه إذا كنت رئيساً فعامل من هم أقل منك مرتبة برفق وأعلم أن مرؤسك هو عضدك وساعدك وأن التشدد في معاملته يعقل لسانه ويختم على قلبه فيخفى عنك ما قد يفيدك العلم به أما إذا استعبدته بالحسنى فلعله يبوح لك بما يضمر ويفتح لك خزائن قلبه وعودة الحرية في القول يصدقك فيما ينفعك ولا يخدعك فيما يضرك وإذا أتاك في أمر له فلا تجبهه بل كن شفيقاً صبوراً وإذا استطعت إجابة سؤاله فلا تبطئ فخير البر عاجله. وإياك والشدة في معاملة من يطيعون أمرك فقد تكون داعية إلى سوء الظن بك. واعلم أن الإصغاء للضعيف والمكروب فضيلة يمتاز بها الأخيار على الأشرار. إذا شئت أن تستبقي حب أخ وإخلاص صديقك فاحذر مشورة النساء لأنها مجلبة الشر في كل زمان مكان وأعلم أن حب المرأة مجلبة الهلاك وما طاب عيش امرئ يقضي على سعادته ويستهين بحياته في سبيل لذة لا تدوم أكثر من طرفة عين وتورث آلاماً ما تبقى مدى الحياة. اجتنب جلساء السوء فإن في بعدهم غنماً وفي قربهم غرماً. إذا شئت أن تكون صادقاً في قولك أميناً في عملك فطهر نفسك من أدران العناد والطمع واحذر الشراهة والجشع وأن كنت خلواً من تلك النقائص فحذار أن تقع في هوتها فإنها أدواء لا تستقيم حال المرء ما دامت جراثيمها عالقة به وأعلم أن تلك المعائب تفرق بين الوالد وتشتت شمل الجماعات وتبدد أوصال الصداقات وتقطع ما بين الرجل والمرأة من صلات الود والمحبة وتغرس بذور النفور والبغض. كن عادلاً فإن العدل يضمن لك الفوز في مضمار الحياة لأن له صولة تدوم وتبقى في الأرض. لا تحاول أن تنال بالبطش والظلم ما ليس لك ولا تحسد جارك على نعمة أصابها إنما الحسد سم لا ترياق له وقد رأيت الحسود والشره يقضيان عمرهما في فاقة ولو كانا غنيين أما القنوع الذي يرضى بالقليل إذا لم يستطع الكثير ويغبط غيره إذا ناله الخير فإنه لا محالة غنى ولو بات على الطوى وتقلب في الثرى.

إذا كنت ذا أهل فأعدد لهم عدتهم وأوفهم حاجتهم ولا تحرمهم خيرك وبرك وأخلص جتك التي تفرش لك وتنيمك وأطعمها إذا جاعت واكسها إذا عريت وداوها إذا مرضت وأسعدها إذا شقيت فهي أغلى ما تملك وأعز نعم الله عليك وحذار أن تقسو في عشرتها وكن بها رحيماً فن الرحمة تحببك إليها وتقربك من قلبها والقسوة تنفرها منك وتقصي ودها عنك. والمرأة أسيرة من يكرمها وهي كثيرة الولع بزهو الدنيا وزخرفتها فإن لم تنلها ما تحب من المتاع هجرتك. أحسن إلى خدمك وحشمك وأعطهم مما أعطالك الله فما منحك المال الكثير والخير الوفير إلا لتمنح ذوي القليل. علمت أن إرضاء الأجير محال فهو كثير الطمع قليل الإخلاص ولكنك إذا غمرته بإحسانك وأسرته بكرمك أنطقت لسانه بشكرك. واعلم أن الله ينقم على بلد أجراؤه أرقاء وعمَّاله أذلاء فارعهم بعين الإحسان يرعك الله بعين الرحمة. إياك أن تفوه بفحش القول وإن سمعت القول فمرّ كريماً وصن أذنيك عنه وأعرض عن قائله وإياك أن تعتب على قائله أو تؤنبه فإن في سكوتك وعفوك عنه درساً نافعاً وعظة بالغة فإن الخير يصلح الشرير بخيره ويرده عن غيه وشره. إذا أمرك من هو أقدر منك بمعصية فاعصه لأن العصيان في النقيصه طاعة للفضيلة. لا تستعن على قضاء حاجتك بالكتمان فلعل فيه أذى ومضرة وربما منع الكتمان عن الانتفاع بعملك. إذا تطلبت الحكمة وشئت أن ترتفع إلى مجالس الكبراء وأن تعاشر الحكام والعظماء فهذب نفسك واقض زمنك في تكوين عقلك بالعلم وتكميل قلبك بالفضائل لأن العلم والفضيلة يوليانك البطش والقوة. واعلم أن الاقتصاد في القول خير من الإسراف فيه فلا تنبس بكلمة حتى تزنها وإذا كنت في مجلس الدولة تجادل وتناضل فلا تنطق إلا بمقدار فلست تدري مكان من يناضلك من البيان وقوة الحجة. إياك والادعاء فإنه فتنة وإن حذقت في فن فلا تزه بحذقك على أقرانك فقد يكبو اللبيب ويخبو الأريب. ويصيب الغبي ويخطئ الذكي. إذا كنت في مجلس فلا تلزم الصمت البتة وحذار أن تقطع حديث محدثك أو تجيب علي مالم يسألك عنه. إياك والحدة في القول فقد يعقبها الندم. اعتده كبح جماح نفسك والزم صون لسانك عما يجول في صدرك. لا تجعل كنز المال معقد آمالك ولا غاية أعمالك ولا

تكن كالذين يقضون أعمارهم ويبذلون نفوسهم ويريقون أمواه وجوههم في جمع الثروة فإن هؤلاء كالخنازير لا يرفعون خياشيمهم من الوحل. إذا لهوت فلا تتماد في لهوك فإن التمادي في اللهو والإفراط في السرور يذهبان بالخير من الحياة. إذا أردت أن تصيب غرضاً فكن كأحذق الرماة تصويباً أنعم النظر في هدفك قبل توتير قوسك فإذا وطدت نفسك ووترت قوسك أطلق سهمك. واعلم أن ربان السفينة لا يبلغ المرفأ الأمين إلا إذا ساير الريح. إذا اصطفاك الملك واصطحبك واستعان بك فلا تغتر بما لك عليه من الدالة فتلهيه عما يهمه بأن تسمعه مالا يحب أو تنبئه بما يكره فإنه إن وسعك حلمه مرة لا يسعك أخرى وهيهات أن يؤمن شر من إذا قال فعل. أعلم أن رفعتك لا تكون بعلو نفسك ولا تعلو إلا النفس التي اختارها الله والله لا يختار إلا نفساً تحب أعداءها كما تحب أصدقاءها وتبغض الشر لذاته وتعمل الخير حباً فيه لا جلباً لنفع تريده. إذا وكل إليك تهذب صبي من أبناء الأشراف والأمراء فلا تخش بأس أهله في تقويم خلقه وإصلاح حاله فإنك إن قمت بعملك كما توحي إليك نفسك وذموك في الحال أثنوا عليك في المآل وكان نصحك كالدواء يسوء استعماله ويحسن مآله. أوصيك بتهذيب الصغير بحيث يستطيع مجالسة الكبراء فإن في هذا من الفضائل مالا يحصي وإذا وفقت إلى القيام بعملك وقدر أهل الصبي حسن فعلك أغدقوا عليك نعمهم ورفعوك إلى مراتبهم وقد تعلوهم وتفوقهم بعد أن تصير مربيهم وأستاذهم. إذا كنت من رجال الدين ووكل إليك أمر الفصل في مشكلة عويصة بين الملك والرعية فاحكم بالقسطاس وكن عدلاً ولا تظلم الشعب لتصانع الملك لئلا توصم بوصمة الأشراف وهي أنهم ينصرون القريب والصديق ولو كان على ضلال مبين ويخذلون العدو الغريب ولو كان على حق وهدي بل كن يا ولدي مع الحق والعدل أينما كانا يكن الله والخير معك. إن أساءك من أحسنت إليه فاعف عنه واجتنب عشرته فإن كان حراً فالعفو قتل له وإن كان وغداً ففي هجرك إياه منجاة لك من شره. إذا عظم قدرك بعد حقارة شأنك واستغنيت بعد فقرك فلا تقصر خيرك على نفسك إنما أنت

خليفة الله في أرضه وحارس نعمته وولي خلقه رزقك لتعطيهم وهداك لتهديهم وأحسن إليهم فلا تخن الله في أمانته ولا تكفر بنعمته فما كفر بها إلا كل معتد أثيم. أطع ولي أمرك واخضع له بالحق فإن عيشك رهن الطاعة وإن عصيته ولم يكن قد اعتدى عليك فقد أسأت إلى نفسك. إذا وليت أمر قوم فلا تتحكم في أعناقهم بظلم ولا تسع في سلب نعمتهم فإن الخير يذهب عنك بقدر ما تذهبه عنهم. ولا تغدر أخاك فيما له من مال لأن الغدر منبت الأحقاد. إذا شئت أن تسبر غور رجل تريده صاحباً فإياك وسؤال الناس عنه فما ذكروا لواحد حسنة إلا وأردفوها بمساوي لا تعد بل أكتف بعشرته أمداً محسناً إليه ما استطعت فينبسط الرجل ويفضي لك بما في نفسه فإن راقك بعد التجارب فاقبل عليه وفاتحه فيما تود وإلا فاتركه بالمعروف والحسنى وأن صحبته فلا تحتجر عليه في الحديث وإن استصغرت شأنه فلا تشعره بما تراه فيه فينفر عنك وده ولا تحرم أخاً لك نفعاً تملكه. اعلم أن كل سعادة يتبعها شقاء وكل غنى يتلوه فقر وكل صفاء له كدر. وأن للأيام دورات فكم من رفيع خفضت ووضيع رفعت وكم صعلوك أسكنت قصراً وكم كريم أذاقت بؤساً وفقراً. إذا اتجرت فأوصيك باكتساب ثقة الناس فإنهم لك خير نصير إذا كبا بك الزمان وعاكستك صروف الحدثان. أعلم أن الذكر الرفيع أعظم قدراً في نظر العاقل من المال الكثير لأن المال يجيء ليذهب ولكن الشرف إذا حل ألقى رحله ولم يتحول. إذا سألت فاسأل بالحسنى وإذا سئلت فتلطف في الجواب. إذا أسأت إلى امرأة في عرضها ودعوتها إلى بذل ماء حيائها وجلبت عليها عاراً يخلق أديم وجهها فكن بها رحيماً وأفض من نعائمك عليها بقدر ما أسأت إليها فإن في ذلك إحساناً وعدلاً وتكفيراً عن الذنوب. اعلم يا ولدي أنك إذا أطعتني وعملت بما نصحت إليك به فقد نهجت سبل الخير ومن ينهجها لا يضم. إذا أردت أن تقوم من اعوجاج أهلك ومن حولك فلا تضن على الأحداث والجهلاء منهما بعلم واضرب لهم الأمثال وعلمهم الحكمة ليرجعوا في أمور معاشهم إليها ولعلك مؤد تلك

الأمانة إلى أهلها وتارك وراءك أثراً يبقى في بلاد النيل إلى ما شاء الله فيكون نبراساً يستنير به الشعب والملك لأن في كلمى ما يستفيد به المسترشد فينال من الخير ما ينفعه. وقد نصحت بالرفق والكرم والقناعة لعلمي بأن الحكمة أفرغت في هذه الفضائل الثلاث. إن من يقرأ قولي سيرضى به وتروقه حكمتي فتستنير بصيرته وتحل عقدة لسانه ويصفو ذهنه ويقوى جناته فيهذب أولاده ويورثهم الحكمة من يعده وهم يورثونها أبناءهم. اعلم أن لا شيء أحسن لدى الوالد من طاعة الولد البار الذي يعني بقوله ونصحه وإذا تكلم أحسن الكلام وأن ألقى إليه القول أحسن الإصغاء فإن الصغير إذا شب على الطاعة استطاع أن يأمر وينهي في شيبه كما كان يأتمر وينتهي. إن الطاعة زارع يغرس المودة وإكسير يجلي صدأ القلوب ودواء ناجع يشفى داء البغض وآلة تنال بها حكمة الشيوخ وحنكتهم وهيهات أن يخلص لك النصح حكيم لا تطيعه. إن الله يحب الطاعة ويأمر بها في الخير ويبغضها وينهي عنها في الشر ولا ريب في أن القلب هو الذي يأمر صاحبه بالطاعة أو ينهاه عنها لأن حياة الرجل بحياة قلبه فإذا كان طاهراً تقياً كانت حياته طيبة شريفة وإذا كان القلب خبيثاً دنيئاً كانت حياة صاحبه كذلك. إذا كنت في فتوتك مطيعاً ووليت الرئاسة في رجولتك كنت رئيساً عادلاً. وإن للعدل قوة تؤثر في النفوس الجامحة وتستل منها سخائم العناد. رأيت الأمراء يحبون المطيع لأنهم يعلمون أن الطاعة فضيلة مكملة للأخلاق فعليك بتعلم الطاعة ولدك ليكون مقرباً من الأمراء والكبراء. رأيت الجهال يعصون فيهلكون لأنهم لا يفرقون بين الخير والشر ولا بين الربح والخسران فيقترفون الذنوب فيذوقون أنواع الهوان. إن الجاهل قد يغلب العاقل بالثرثرة والهذر ولكنه يقصر عن مدى الأطفال في مجال العلم والحكمة فيجتنبه الناس ويبقى طول حياته مهجوراً محسوراً. إذا رزقت ولداً فلا تضن عليه بالحكمة التي جدت بها عليك فيناله من الخير بنصحك ما نالك بنصحي وأوصه أن يبلغ رسالتك إلى ابنه من بعده فتبقى الحكمة في بيتنا وهذه نعمة كبرى. توخ الصدق فيما تقول للأطفال لأن نفس الحدث كالعجينة اللينة يسهل تشكيلها على أية صورة تريد واعلم أن الصدق إذا كان أول ما يقابل النفس اعتادته وبذا يمكن استئصال

الرذائل منها وغرس الفضائل مكانها. اعلم أنك إذا فعلت ما أوصيتك به كنت قدوة عشيرتك وأهلك فتتولى أنت وأولادك قيادة الشعب وزعامته وتلك الدرجة أسمى ما تتطلع إليه النفوس الكريمة. عليك بالعدل في قولك وفعلك واحرص على ما تفوه به حرص البخيل على درهمه والجبان على دمه. كن خاضعاً في حضرة الملك وعيوفاً في نظر أقرانك وإذا نطقت فليكن حديثك مدعاة للإعجاب بك والتحدث بفضلك. أقدر قولي قدره واعلم أن نصيحة الوالد أثمن ما يقتنيه الولد. إذا بلغت منصبي فاجتهد يا ولدي في إرضاء الملك بإتقان ما تمارس من الأعمال. أحفظ شبابك تحفظ مشيبك. إذا مرضت فبادر إلى علاج جسمك فيطول بذلك عمرك وتنتفع بحياتك أنت وغيرك وتعيش كما عشت مائة وعشر سنين خدمت أثناءها بلادي بالحق والعدل فغمرني الملوك بالإحسان وأغدقوا على النعم فكنت أسعد حالاً من آبائي وأجدادي. انتهت حكم فتاحوتب الحكيم المصري.

طرف أدبية

طرف أدبية اختراع التقبيل للكاتب العبقري عبد الرحمن شكري يا رعى الله من اخترع التقبيل فإنه قصيدة من قصائد النسيب وآلة من آلاته ونغمة من نغماته. حدثنا الخيال قال أن آدم هو أول من اخترع التقبيل قال زعموا أن آدم وحواء ذهبا إلى شجرة من شجر توت الجنة وجعلا يأكلان من ثمرها حتى سال رضابهما وامتزج بماء الثمر الذي أكلاه فأعطاه ماء الثمر من حلاوته فبينما يأكلان لمست شفة آدم شفة حواء عن غير قصد فراقتهما تلك اللمسة المعسولة بعصير الثمر فكانا كلما أرادا أن يراجعا لذتها ذهبا إلى شجرة التوت (ياليتهما لم يذهبا بعد ذلك إلى شجرة الحنطة) وبللا شفتيهما بعصير ثمرها ثم حك أحدهما شفته بشفة الآخر. وجاءت حواء إلى آدم يوماً وقالت له يا آدم أنك قد اخترعت التقبيل بحك الشفاه ولكني اخترعت نوعاً آخر من أنواعه قال آدم وما هو قال هو التقبيل بإطباق الشفاه قال آدم أجدت يا حواء ولكن لا غرو فأنت أم النساء وزعموا أن الحلاوة التي نذوقها إذا قبل أحدنا عشيقته هي بقية جاءتنا من سبيل الوراثة من حلاوة ثمر توت الجنة الذي بلل آدم وحواء شفتيهما بعصيره. والقبل غذاء العاشق والشاعر فهو إذا قبل حبيبته كانت روحه فوق شفته وطيّ أنفاسه فإذا تصافحت الشفاه تصافحت الأنفس. إنك لتشرئب بعنقك عند التقبيل فتشرئب نفسك حتى تطل على حبيبك من عينك وفمك فإن العين والفم بابان تطل منهما النفس على مرأى صالح ومعتنق طيب. أيام الشباب وأيام التصابي من لي بتلك القبل البطيئة التي تضرم النفس وتشعل العين وتوقد الخيال. أيام الشباب وأيام التصابي لكانت تلك القبل جيداً في عنقك ورونقاً غضاً في ريعان الحياة. أيام الشباب أنت فجر الحياة فيك تغني القبل بصوتها الغريد كما تغني الأطيار في فجر النهار وفيك تينع القبل في روض الشفاه كما تينع الأثمار والأزهار في الروض. أيام الشباب أنت عنوان الحياة فيك يقرأ القارئ آية الحب وآية العمر. إن في القبل من بيان المنطق وفصاحة القول ما يعجز (برك) و (ششرو) ومن بلاغة

التعبير وشرف الخيال ما يزرى بشكسبير وابن الرومي والمتنبي والقبل شتى المعاني فإن للحب قبلة وللشهوة قبلة وللحسد والحقد قبلة وللإشفاق والرحمة قبلة وللحزن قبلة وللذل قبلة وللجبن قبلة فغلام يقبل أمه وعاشق يقبل عشيقته وماجن يقبل هلوكا وامرأة تقبل ضرتها وشريكتها في بعلها وأخت تقبل أختاً لها قد أضر بها الحب وزوج يقبل قبر زوجته وذليل يقبل يد السلطان أو قدمه أو التراب الذي تحتها وجبان يقبل أرض ضريح ولي من الأولياء. إذا رأيت امرأة تقبل امرأة أخرى فاعلم أنها تحبها حباً صادقاً أو أنها تكرها كرهاً شديداً ولكن من النساء من تقبل صاحباتها إذا علمت أنهن يعرفن سراً من أسرارها والتقبيل هو لغة النساء فكأنها تقول لهن في تلك القبل يا صاحباتي لقد علمتن أني أحب فلاناً والقبل إشارة لا يعرف سرها مثل النساء كما لا يعرف سر إشارة الماسونية مثل الماسونيين. ضمائر الشعراء والشجاعة الشعرية إن للشعر رجولة تبعث في قلب المرء خشوعاً مثل خشوع يبعثه صوت العاصفة في صدر السامع. وقد قدم المتنبي على أبي تمام والبحتري وابن الرومي أن نصيب شعره من تلك الرجولة أكبر من نصيب أشعارهم ولولا أن ابن الرومي يفيض المعني الواحد من معانيه على أبيات كثيرة فيودع كل بيت جزأ من المعنى ولولا أن أبا تمام يتكلف الخيال السقيم كثيراً ولولا أن البحتري يعيد معانيه كثيراً لكان شعرهم أعظم وقعاً منه الآن وقد اسعد المتنبي ذلك الإباء الذي جعله يعيش شقياً ويموت شقياً وإذا أردت أن تعرف لم يجري شعر المتنبي مجرى المثل فالتمس سبب ذلك في الآباء الذي أشعل كلماته وأنار معانيه أما مناقضة نفسه في مدح كافور ثم ذمه فهي ليست مما ينافي الآباء وكافور كان ملوماً في مداجاته وهذه المناقضة شيء ضئيل بجانب ذلك النفاق الذي جعل البحتري يمدح المتوكل ثم يرثيه ثم يمدح قاتله والآمر بقتله والذي جعله يمدح المستعين ثم يهجوه أشد الهجاء بعد نكبته وكيف يكون نصيب شعراء اليوم من رجولة الشعر كبيرا وهم يكلفون أنفسهم الكتابة في موضوعات لم تتهيأ أنفسهم للكتابة فيها ولم يجدوا في قلوبهم دافعاً إليها. إن رجولة الشعر في صدق سريرة الشاعر وإحساسه بصدق ما يقول هناك فئة من الشعراء يعوقها فقد

أن الشجاعة الشعرية عن بلوغ شأوها والشجاعة الشعرية هي التي تدفع المرء إلى التعبير عما يوحي إليه ضميره تلك الفئة لا ترى في ضميرها مزجاً إلى القريض ولكن باعثها إليه رغبتها في أن تبين عما تسنه ضمائر الناس ولكن يعوقها عن ذلك أن الكذب والنفاق والخداع والتحيز والغرور حجب مسدولة على ضمائرهم على أن ضمير المرء أصدق مناصحة له من ضمير غيره هذا سبب أن الشاعر من شعراء هذه الفئة يناقض بين أقوله في التعبير عن الأخلاق ويلبس ثيابه ولو لم يكن في هذه الخلة شيء غير فناء الشاعر في شخصية غيره لكان خليقاً بالعبقرية أن يأنف من التخلق بها ولكنها تسوقه إلى إطراء السيئ وهو يعرف أنه سيء وإنما حب العبقري نفسه أنفة من أن يعيش في آراء غيره وقد يعود تعلقه بما يسنه ضميره حباً لنفسه مثل ذلك (روسو) كان شديد التعلق بما يوحي إليه ضميره من الآراء حتى صار يجل نفسه من أجل إجلاله لتلك الآراء وهذه الخلة غير غرور الأديب الذي يقتل ضميره ليحيي آراء الناس فإن هذا الغرور سببه إطراء الناس إياه وتقريظهم شعره. أرأيت ضعيف الجسم إذا أراد أن يلفت الناس عن ضعفه فيملأ فمه كذباً من وصف شجاعته وأقدامه ويطعن الهواء بصرخات يحسبها الغافل صرخات النجدة والحماسة حتى يضج الهواء منها مثل هذا مثل كثير من شعراء السياسة إذا قرأ الغافل شعرهم حسب أن نصيبه كبير من تلك الرجولة التي سببها صدق السريرة وعظم الإحساس فإذا قرأه صاحب الذوق السليم وجد به ضجة مثل ضجة الدجاج قد يحسبها الغافل ضجة الشجاع المستفز هؤلاء الشعراء يلبسون آراءهم كما يلبسون ثيابهم على أن مجال الشاعر في الانتصار للحرية غير مجال السياسي فالأول سبيله التعميم والثاني سبيله التخصيص الأول يعني بالحوادث الكبيرة التي يعني ذكرها المرء في التماس الحرية في الرأي والدين والعمل والثاني يعني بالحوادث اليومية الصغيرة الأول يستمد من التاريخ والخيال والثاني يستمد من السياسة.

الجنسية العربية في القرآن

الجنسية العربية في القرآن ليس ما ألم به علماؤنا من أطراف الإعجاز في القرآن الكريم بالشيء الذي يقذف في روع الزمن معنى الحق من ذلك ويثبت عليه صفة من صفات الإعجاز الخالد وما يكون الإعجاز خالداً إلا إذا قامت به معان زمنية تكون من طبيعة الحياة حتى تستمر مع الحياة. والعلماء رحمهم الله وإن كانوا قد اتسعوا في وجوه قيمة من البرهان ولكن هذا الكتاب يهدي للتي هي أقوم. وحسبه معجزة ما نقول فيه اليوم من صفة الجنسية العربية التي جعل الأمم أحجاراً في بنائها والدهر على تقادمه كأنه أحد أبنائها، وأقام منها معضلة سياسية في الأرض وضعها ونقدها، وفي السماء حلها وعقدها، وشدّ بها المسلمين فهم إذا ائتلفوا اجتمعوا كالبنيان المرصوص، وإذا تفرقوا سطعوا في تيجان الممالك كالفصوص، وما أن يزالون في التاريخ مرة أصوله، ومرة فصوله، إن لم يقوموا أحياناً بالدين، قام بهم هذا الدين إلى حين، وإن لم يكن لهم اليوم المشهود، فلا يؤخر إلا لأجل معدود، وكيف وقد جمعهم الكتاب الذي أنزل من السماء فكان مثال آدابها، وانتشر في الأرض فكان خلعة شبابها. ودعا إليه الناس على اختلافهم فكأنما كل أمة تدعى إلى كتابها؟ ونحن فقد نعلم أن هذه المعجزة ليست إلى اللغة في مردّها من الفائدة فإنما هي ترمي إلى وحدة سياسية تكون كالنبض لقلب العالم كما سيأتيك بيد أن سبيل ذلك من اللغة فإن القرآن تنزّل من العرب منزلة الفطرة اللغوية التي يساهم فيها كل عربي بمقدار ما تهيأ له من أسبابها الطبيعية إذ كان بما احتواه من الأساليب وما تناوله من أصول الكمال اللغوي وما دار عليه من وجوه الوضع البياني قد هتك الحوائل ومحا الفروق التي تبين قرائح العرب اللغوية بعضها من بعض فاجتمعت منه على الكمال الذي كانت تتخيله ولا تألو عما يدنيها إليه معالجة واكتساباً ولو أنهم تمالؤا طوال الدهر على أن يهذبوا من لغتهم ليبلغوا بها مبلغ الكمال الوضعي على النحو الذي جاء به القرآن لما ازدادوا إلا تعادياً في الرأي وتباعداً عما يجنحون إليه إذ تنزع كل فطرة منزعها في كل قبيل فيزيد الناقص منهم نقصاً فطرياً وهو يحسبه كمالاً ويبعد الكامل عن حقيقة الكمال بعد أن يرى غيره يحسبه نقصاً لأن الفطرة لا تنقاد إلا بالإذعان ولا تذعن إلا لما يكون في حد كمالها المطلق وليس في تاريخ العرب اللغوي من ذلك بالتحقيق قبل القرآن ولا بعده غير القرآن. تلك سياسة القرآن في جمع العرب رأى ألسنتهم تقود أرواحهم فقادهم من ألسنتهم فلما

استقاموا له أقامهم على طريق التاريخ التي مرت فيها الأمم وطرحت عليها نقائضها فكانت غبارها، وأقامت فضائلها فكانت آثارها، فجعلوا يبنون عند كل مرحلة على أنقاض دولة، ويرفعون على أطلال كل مذلة صولة، ويخيطون جوانب العالم الممزق بإبر من الأسنة وراءها خيوط من الأعنة، حتى أصبح تاريخ الأرض عربياً، وصار بعد الذلة والمسكنة أبياً، واستوسق لهم من الأمر مالم ترو الأيام مثل خبره لغير هؤلاء العرب حتى كأنما نويت لهم جوانب الأرض وكأنما كانوا حاسبين يمسحونها. لا غزاة يفتحونها. فلا يبتدئ السيف حساب جهة من جهاتها حتى تراه قد بلغ بالتحقيق آخره، ولا يكاد يشير إلى (قطر) من أقطارها إلا أراك كيف تدور (الدائرة). وإن هذا الأمر لحقيق أن تذهب من تعليله نفوس الحكماء في ألوان من المعاني متشابه وغير متشابه فإنه أمر إلهي كيفما أدرته رأيت في جانبه الذي يليك ضوءً كضوء الصواعق وحركة كحركة الزلازل وقوة كالتي تتسلط بها السماء على الأرض فكأنك تتأمل منه صورة الطبيعة أو الطبيعة المعنوية في عالم التاريخ. ولو أن رمال الدهناء نفضت على الأرض جنوداً عربية لما عدت أن تكون آفة اجتماعية تهلك الحرث والنسل وتدع الشعوب متناثرة كبقايا البناء الخرب ثم لا تكون إلا أيام يتداولونها بينهم حتى تتنفس الأرض من بعدهم فتذهب آثارهم الظالمة في حر أنفاسها، وتنقضي أعمالهم فتنطوي من الزمن في أرماسها. لأنه لا يهجم على الأرض منهم أكثر من أمر البطون الجائعة وما إليها. . . ولعمرك ما العرب وما غير العرب من الشعوب البادية إلا بطونهم حتى لأحسبهم إذا اجتمعوا كانوا معدة الأرض وكان أهل العرف في فنون الملاذ من الحضريين أمعاءها. . . وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى مستيقن أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها لأن القرآن هو صفَّى تلك الطباع وصقل جوانب الروح العربية حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم ليبلغوا طرفاً من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصلوا بما أعد لهم ولو لم يكن القرآن قد سلك إلى ذلك مسلكه من الفطرة اللغوية في نفوسهم حتى استبد بها في مستقرها وصرَّفها في وجوه معانيه ما بلغ من القوم رأياً ولا نية ولأوشك أن يكون في مقامات البيان عندهم وما يهتف به شعراؤهم وخطباؤهم ما يذهب به ويمسح أثره

من القلوب ولا يدع له مساغاً إلى ما وراء السمع لأن هؤلاء تنفث عليهم ألسنتهم بأفصح الفصيح وأبين البيان في رأي العرب وإن لم يكن كلامهم بتلك المنزلة ولكن الحمية والعصبية واللحمة ومؤاتاة الهوى كلها فصيح وكلها بيان. وليس الشأن في اللغة وألفاظها ومعانيها وإنما الشأن فيما يمكن أن تفهمه النفس من كل ذلك وهي لا تفهم إلا ما يكشف عن طبائعها ويبين عن عاداتها ولولا اختلاف النفوس في هذا الفهم ما رأيت اللغة الواحدة عند أهلها كأنها في المعنى لغات متباينة فرب كلمة من لغة رجلين وإذا سمعاها رأيتها كلها ليست من لغة أحدهما كأن تكون كلمة من باب الحفاظ يسمعها عزيز وذليل، أو لفظة من باب الكرم يلقّاها جواد وبخيل. وأنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى وأطلت تقليب الرأي فيه فإنك واجد منه سبيلاً إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم فإنه سفه أحلام العرب وخلع آلهتهم وقمع طغيانهم واشتد عليهم بالعنف محضاً بعد اللين ممزوجاً حتى جعلت دماؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته ولم يهدأ عنهم بل ردد ذلك وكرره وعمهم به وأرسله في كل وجه وقرع أنوفهم وهاج منهم حمية الجاهلية وجاراهم في مضمار المخاطرة وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى وهم القوم كانت لهم كل هتفة كأن الأرواح هواء في صوتها، فلا يهتف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، ولا تسير على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال. ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك من أن ينقادوا ثم ينقادوا لا جرم أنها كانت الفطرة اللغوية لا غير. بلى ولقد يخيل إلى أن ألفاظ القرآن كانت تلبس العرب حتى تتركهم كالمعاني السائرة التي لا تزال تطيف بالرؤوس فما بين العقل وبين أن تلجه هوادة ولا بين الوهم وبين أن تصدعه منزلة وإلا فأي قوم كان هؤلاء الجفاة وهم لم يستصلحوا أنفسهم إلا بما يفسد جماعتهم ولم يأبوا أن يرأموا لذل غيرهم إلا ليضرب بعضهم الذلة على بعض ولم يتخذوا السيف ناباً إلا ليأكلهم ولا الحرب ضرساً إلا لتمضغهم وكانوا أهل جزيرة واحدة وكأنهم في تناكرهم أهل الأرض كلها من قاصية إلى قاصية. ثم ما عسى أن يكون أمرهم إذا هم قرعوا صفاة الأرض والحال فيهم ما علمت إلا ما يكون من أمر الحصاة يقرع بها الجبل الأشم ثم تنحدر عنه بصوت كالأنين إن كان منها فهو لعمرك استخذاء. وإن كان من الجبل

فهو لعمري استهزاء. ولقد كان من إعجاز القرآن أن يجمع هؤلاء الذين قطعوا الدهر بالتقاطع على صفة من الجنسية لا عصبية فيها إلا عصبية الروح إذ أخذهم بالفطرة حتى ألف بين قلوبهم وساوى بين نفوسهم وأجراهم على المعدلة في أمورهم فجعل منهم أمة تسع الأمم بوجهها كيف أقبلت لأنها لا توجهه إلا لله فكأن بينها وبين الله كل ما تحت السماء. ومن هذا المعنى نشأت الجنسية العربية فإن القرآن بدأ كما علمت بالتأليف بين مذاهب الفطرة اللغوية في الألسنة ثم ألف بين القلوب على مذهب واحد وفرغ من أمر العرب فجعلهم سبيلاً إلى التأليف بين ألسنة الأمم ومذاهب قلوبها على تلك الطريقة الحكيمة التي لا يأتي علم تربية بأبدع منها. أما التوفيق بين مذاهب قلوبهم فبالدين الطبيعي الذي جاء به القرآن ولو نزعت الطبيعة الإنسانية إلى غير معانيه لكانت طبيعة شر وإن ظنت منزعها إلى الخير. وأما التأليف بين ألسنتهم فيما نزع إليه من المعنى العربي الذي حفظه القرآن على الدهر ببقائه على وجهه العربي الفصيح لفظاً وحفظاً لا يجد إليه التبديل سبيلاً، ولا يأتيه الباطل محيلاً ولا يدخله التحريف كثيراً ولا قليلاً بحيث يكون كأنه عقدة لغوية لا تتحلل منها الألسنة المختلفة وهذا من أرقى معاني السياسة فإن الأمم إذا لم تكن لها جامعة لسانية لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق. وجمع التفريق هذا هو الذي يشبه الاجتماع في الأسواق على البياعات وعروض التجارة ونحوها فإن سوق الأمم تتاجر فيها الأديان والأهواء وتكدح فيها المصالح والمفاسد وفيها كذلك التغرير والخطار والكذب والخداع ولكل من أهلها شرعة ومنهاج. فبقاء القرآن على وجهه العربي مما يجعل المسلمين جميعاً على اختلاف ألوانهم من الأسود إلى الأحمر كأنهم في الاعتبار الاجتماعي جسم واحد ينطق في لغة التاريخ بلسان واحد فمن ثم يكون كل مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن حيزه وانتفى من صفته الطبيعية لأن الجنسية الطبيعية التي تقدر بها فروض الاجتماع ونوافله هي في الحقيقة لون القلب لا سحنة الوجه. وقد ورث المسلمون عن أوليتهم هذا المعنى فلا يعلم في الأرض قوم غيرهم يعتصمون بحبل دينهم وأيديهم في الأغلال. ويجنحون إليه بأعناقهم وهي في ربق الملوك من الإذلال. ويخصونه بقلوبهم حتى يكون أملك بها وأغلب عليها ولا يحتملون فيه سخطة ولا يؤثرون

عليه رضى ولا يعدلون به عدلاً ويتبرمون بكل ضيق إلا ما كان من أجله ويرضون المحنة في كل شيء إلا فيه ثم هم لا يرون أنفسهم في إحساس الفطرة ومذهب الطبيعة إلا أنها بقية سماوية في الأرض تباين كل ما فيها ويشبه بعضها بعضاً بالصفة والخاصية أنى وجدت وكيف اتفقت وعلى أية حالة كانت وهذا كله مشاهد فيهم بعد كل مارهقهم بالعجز من مداولة الأيام وصدمهم من أهل الاستبداد بكل محنة من الآلام، وتوردهم من الزمان بكل سفه يعد في السياسة من الأحلام. . . . على أنهم لا يعرفون أصل ما يحسون به ولا يتصلون إلى سببه وكأنما تقطع ما بينهم وبين أنفسهم كما تقطع ما بينهم وبين أسلافهم وقد بقي القرآن معروفاً مجهولاً ينفعهم بما عرفوا منه ولا يضرونه بما يجهلون فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِل وعليكم ما حملتم وأن تطيعوه تهتدوا. وأن من أعجب ما يروعنا من أمر الجنسية العربية في القرآن أنها تأبى إلا أن تحفظ على أهلها تلك الصفات العربية من الأنفة والعزة والصوت (الأمر والنهي) والغلب وما يكون من هذا الباب الذي يفتح للشعوب عن مقاصير الأرض (الممالك). كما أنها تستبقي طاعة المغلوبين الذين أعطوا للفاتحين عن أيديهم وانطرحوا في غمارهم وكانوا أهل ذمتهم لانتحالهم العربية طوعاً أو كرهاً ثم بقائها في ألسنتهم على نسبة بينة من الفصيح مهما ركت ومهما رذلت ولولا القرآن وأنه على وجه واحد ما بقيت العربية ولا تبينت النسبة بين فروعها العامية بل لذهب كل فرع بما أحدث من الألفاظ وما استجد من ضروب العبارة وأساليبها حتى يتسلل كل قوم من هذه الجنسية إن كانوا من أهلها أو من أهل ذمتها ثم لا تستحكم لهم بعد ذلك ناحية من الائتلاف ولا يستمر لهم سبب من الارتباط ويوشك أن لا يستقبلوا بعد من قادة الأمم وحيتان الأرض إلا من يستدبرهم راعياً أو ملتهماً ثم لا يمكن لهم من دينهم ثم لا يثبتون عليه إلا ريثما يتحولون في استلحاقهم بالأمة التي وثبت بهم وإن مضوا في ذلك على العزيمة والتشدد فإنه لا عزيمة لقلب خذله اللسان ولا تشدد للسان خذله القلب ولا استقلال لشعب تخاذلت ألسنتهم وقلوبهم وتلك سنة من السنن ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً. ومن للأمم بمثل هذا الاستعمار اللغوي الذي لم يتهيأ إلا للقرآن وهو زمام السياسة مهما جمحت في

الأرض. ولقد نرى اليوم التوراة والأناجيل وما يقرؤها بلغتها الأصيلة إلا شرذمة قليلون من اليهود الذين يعيشون على أحلام الذاكرة. . . ونحوهم ولا ترين أن ذلك استبقاء فلولا أن الشذوذ لا يتخلف كأنه قاعدة مطردة ما قرأها منهم أحد. ثم استبدت الألسنة بهذه الكتب فلا هي شريعة ولا هي جنسية جامعة وإنما تراها في كل أمة من الأمة نفسها ولذا سهل على كثير منهم أن ينبذوها وصار أكثرهم لا يتدارسونها ولا يقرؤن فيها إلا إذا أرادو الاستغراق في رؤيا تاريخية والعارف من يستثبت فصولها ومعانيها. وانظر كم ترى بين صنيع القبائل الجرمانية (الغوط) وبين صنيع العرب فإن أولئك أغاروا على ايطاليا في القرن الخامس للميلاد وانتقصوها من أطرافها ولم يكن إلا ملكوها حتى ملكتهم فإنهم تركوا أهلها وعادتهم من اللغة - وغير اللغة - ثم أخذوا يتحضرون من بداوة ويستأنسون إلى الحضارة الرومانية حتى رغبوا في العلم فاستجادوا المهرة من علماء الرومان ونصبوهم لوضع الكتب وتأليفها فوضعها لهم هؤلاء باللغة اللاتينية وهم قرؤها بها وأقروها عليها فذهبت غوطيتهم وذهبوا على أثرها وأدللت اللغة الرومانية لأهلها منهم فأخذتهم رجفة التاريخ فأصبحوا في الرومانية جاثمين كأن لم يغنوا فيها. فأقبل أنت على هذا المعنى حتى تحكم ما وراءه فلقد تركوها آية بينة. وبعد فهذا الذي أمسكه القرآن الكريم من العربية لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض ولن تتلاحق أسبابه في لغة بعد العربية. وهذه اللغة الجرمانية انشقت منها فروع كثيرة في زمن جاهليتها واستمرت ذاهبة كل مذهب وهي تثمر في كل أرض بلون من المنطق وجنس من التكلم حتى القرن السادس عشر للميلاد إذ تعلق الدين والسياسة معاً بفرع واحد من الفروع وهو الذي نقلت إليه التوراة فاهتز وربا وأورق من الكتب وأزهر من العقول وأثمر من القلوب وبعد أن صار لغة الدين صار دين التوحيد في تلك اللغات المتشابهة وبقيت هي معه إلى زيغ حتى صارت في ظله ثم ضحى بنوره فإذا هي في مستقرها من الماضي. وقد كان بسق من فروع الجرمانية فرعان الانكليزي والهولاندي وكلاهما استقل حتى ضرب في الأرض بجذر ثم أناف الانكليزي حتى صار ما عداه من ظله وهذا إلى فروع أخرى قد انشعبت من الأصل الجرماني كالاسوجي والاسليندي وغيرها.

واللاتينية فقد استفاضت في أوربا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والاسبانية وغيرها وكان منها علمي وعامي - لغة القلم ولغة اللسان - ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في مناطق هذا الجيل مالا تعرف له شبيها في المتباعدات المعنوية حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود. فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي حتى ضارت جنسية فلو جن كل أهلها وسخوا بعقولهم على ما زينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا. . . . لحفظها الشعور النفسي وحده وهو مادة العقل بل مادة الحياة وقد يكون العقل في يد صاحبه يضن به ويسخو ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله وهذا تأويل قوله سبحانه إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون. ولولا هذا الشعور الذي أومأنا إليه لدونت العامية في أقطار العربية ولخرجت بها الكتب ولكان من جهلة الملوك والأمراء وأشباههم ممن تتابعوا في التاريخ العربي من يضطلع من ذلك بعمل إن لم يكن مفسدة فمصلحة كالذي فعله بعض ملوك الرومان وبعض شعرائهم في تدوين العامية من اللاتينية حتى خرج منها اللسان الطلياني وكما فعل اليونان في استخراج اللسان الرومي وهو العامي من اليونانية. ولو أن أحداً استقبل من ذلك أمراً وأراد أن يحمل الناس عليه لاستقبل أمراً بعض ما فيه العنت كله والضياع بحملته ولشق على نفسه في بلوغ إرادة لها من شعور كل نفس عدو حتى يستفرغ ما عنده وكأنه لما يبدأ مع الناس لأن له مدة نفسه وحدها وللناس عمر التاريخ كله ومتى لم يقع على فرق ما بين الاثنين وأراد أن يتولى عمل التاريخ فليس بدعاً أن يجعله التاريخ بعض عمله وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. مصطفى صادق الرافعي

نوابغ العالم

نوابغ العالم ابن حمديس - كرومل - نابليون بونابرت ابن حمديس والمعتمد بن عباد أو صفحة من تاريخ الأندلس (تابع لما في العدد 5 و 6) انتهينا فيما أسلفنا القول عليه من ترجمة ابن حمديس إلى وفوده من بلده سرقرسه إحدى مدائن صقلية على المعتمد بن عباد أحد ملوك الطوائف في الأندلس فلا جرم إنا ذاكرون شيئاً عن المعتمد بن عباد هذا لما في الكلام عليه من التبصرة بأحوال ابن حمديس والكلام يدخل بعضه في بعض والحديث شجون والشيء يذكر بالشيء. ملوك الطوائف لما انتثر سلك الخلافة الأموية بالأندلس وذلك حين خلع الأجناد آخر خلفاء بني أمية وهو هشام بن محمد الملقب المعتمد بالله سنة 433 قام الطوائف مقام الخلائف وانتزى الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات واقتسموا خططها وتغلب بعض على بعض حتى استقل آخراً بأمرها ملوك منهم استفحل أمرهم وعظم شأنهم ولاذوا مع ذلك بالجزية للاسبانيين أن يظاهروا عليهم أو يبتزوهم ملكهم وعبروا على ذلك حيناً من الدهر حتى قطع عليهم البحر ملك العدوة وصاحب مراكش لسلطان يوسف بن تاشفين اللمتوني فخلعهم وأخلى منهم الأرض (كما سيمر بك بعد) فمن أشهر هؤلاء الملوك بنو عباد ملوك اشبيلية وغرب الأندلس وبنو جهور الذين استبدوا بقرطبة وبنو الأفطس ملوك بطليوس وبنو النون ملوك طليطلة وباديس ابن حسون ملك غرناطة وألبيرة وابن أبي عامر صاحبه شرق الأندلس وابن صمادح المستقل بالمرية - وقد فطن أدباء ذلك العصر لتأثير هذا التفرق على الأندلس فقال قائلهم (ابن رشيق القيرواني): مما يزهدني في أرض أندلس ... تلقيت معتضد فيها ومعتمد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد وقال آخر (ابن العسال) لما أخذ الاسبانيون طليطلة من يد بني ذي النون: حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط

السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحياة في سفط بنو عباد وإنما الذي يعنينا القول عليهم الآن هم بنو عباد الذين نبغ منهم المعتمد صاحب ابن حمديس. قالوا: كان بدء أمر بني عباد في الأندلس أن نعيماً وابنه عطافاً أول من دخل إليها من بلاد المشرق وهما من أهل العريش القرية الفاصلة بين الشام ومصر وأقاما متوطنين بقرية بقرب تومين من إقليم طشانة من أرض اشبيلية وامتد لعطاف عمود النسب من الولد إلى الظافر محمد بن إسماعيل القاضي فهو أول من نبغ منهم في تلك البلاد وتقدم بأشبيلية إلى أن ولى القضاء بها فأحسن السياسة مع الرعية والملاطفة بهم فرمقته القلوب. وكان يحيى بن علي بن حمود الحسني المنعوت بالمستعلي صاحب قرطبة وكان مذموم السيرة فتوجه إلى اشبيلية محاصراً لها فلما نزل عليها اجتمع رؤساء اشبيلية وأعيانها وأتو القاضي محمداً وقالوا له أما ترى ما حل بنا من هذا الظالم وما أفسد من أموال الناس فقم بنا نخرج إليه ونملك ونجعل الأمر إليك فقبل ووثبوا على يحيى فقتلوه وتم الأمر للقاضي ثم ملك بعد ذلك قرطبة وغيرها من البلاد وكان من أهل العلم والأدب والمعرفة التامة بتدبير الدول ولم يزل ملكاً مستقلاً إلى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ثم قام مقامه ولده المعتضد بالله أبو عمرو عباد. قال صاحب الذخيرة ثم أفضى الأمر إلى عباد قطب رحى الفتنة، ومنتهي غاية المحنة، ناهيك من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا يسلم منه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمر وهو متناقض وأسد فرس الطلا وهو رابض، متهور يتحاماه الدهاة، وجبان لا تأمنه الكماة متعسف اهتدى، ومنبتّ قطع فما أبقى. ثار والناس حرب وضبط شأنه بين قائم وقاعد حتى طالت يده، واتسع بلده، وكثر عديده وعدده، وكان قد أوتي من جمال الصورة وتمام الخلقة وفخامة الهيئة وبساطة البنان وثقوب الذهن وحضور الخاطر وصدق الحدس ما فاق على نظرائه ونظر مع ذلك في الأدب قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان أدنى نظر بأذكى طبع حصل منه لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها من غير تعمد لها ولا أنعام النظر في غمارها. ولا إكثار من مطالعتها. ولا منافسة في اقتناء صحائفها. أعطته سجيته ما شاء من تحبير الكلام وقرض قطع من الشعر

ذات طلاوة في معان أمدته فيها الطبيعة وبلغ فيها الإرادة واكتتبها الأدباء للبراعة جمع للبراعة جمع هذه الخلال الظاهرة إلى جود كف باري السحاب بها. ومن شعره: شربنا وجفن الليل يغسل كحله ... بماء صباح والنسيم رقيق معتقة كالتبر أما بخارها ... فضخم وأما جسمها فدقيق ولم يزل في عز سلطانه واغتنام مساره حتى أصابته علة الذبحة فمات بها سنة إحدى وستين وأربعمائة فقام بالمملكة بعده ولده المعتمد على الله أبو القاسم محمد. قال ابن القطاع فيه أنه أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة. وأعظمهم ثماداً. وأرفعهم عماداً. ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال. وموسم الشعراء وقبلة الآمال. ومألف الفضلاء. حتى أنه لم يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه. وتشتمل عليه حاشيتا جنابه - ولقد صدق ابن القطاع فقد كان من شعرائه الوزير ابن عمار وابن اللبانة. وأبو بكر الداني وكلهم من فحول الأندلس وضرب له البحر من صقلية صاحبنا ابن حمديس وأبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي الزبيري الصقلي الشاعر بعد أن بعث إليه ابن عباد خمسمائة دينار يتجهز بها ويتوجه إليه وكذلك بعث إلى أبي الحسن الحصري القيرواني الشاعر صاحب الأبيات المشهورة التي أولها: يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده رقد السمار فارَّقه ... أسف للبين يردده والتي وازنها أمير الشعراء لعهدنا أحمد بك شوقي بأبيات أولها: مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحم عوده ووازنها أحد المتقدمين بقوله: قد مل مريضك عوده ... ورثي لاسيرك جسده لم يبق جفاك سوى نفس ... زفرات الشوق تصعده هاروت يعنعن فن السحـ - ـر إلى عينيك ويسنده وإذا أغمدت اللحظ فتكـ - ـت فكيف وأنت تجرده كم سهل خدك وجه رضى ... والحاجب منك يعقده

ما أشرك فيك القلب فلم ... في نار الهجر تخلده نعم وكان ابن عباد نفسه شاعراً بل كانت جواريه شواعر بل كان المكان نفسه قصيداً من الشعر. تلك هي الأندلس التي كانت فردوس هذه الأرض كما كانت أيامها ربيع الدهر سلام ترجف الأحشاء منه ... على الحسن بن وهب والعراق على البلد الحبيب إليّ غورا ... ونجداً والأخ العذب المذاق ليالي نحن في وسنات عيش ... كأن الدهر عنا في وثاق وأيام لنا وله لِدَان ... عريناً من حواشيها الرقاق لقد انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام * * * كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر ولعمري لقد اخطأ من قال إن علة ضياع الأندلس تفشي الأدب والشعر بين أهليها وإنما هو أستغفر الله خطأ الأقدار، وتقلب الليل بالناس والنهار، وإلا فقد ملك الأندلس بعد هذا العهد الشاعر. الرجل الجد الوعر المقادة يوسف بن تاشفين صاحب مرّاكش ثم دولة الموحدين وبقيت بأيدي المسلمين بعد ذلك العهد نيفاً وثلثمائة سنة نبغ في خلالها الفلاسفة والأطباء والكيماويون والمخترعون والمكتشفون مثل ابن رشد وابن الطفيل وبني زهر (أبي العلاء وأبي مروان وأبي بكر) وأبي القاسم الزهراوي وأبي القاسم عباس بن فرناس أول من اخترع الطيران وأولئك الأخوة الذين ركبوا بحر الظلمات (المحيط الأطلانطيقي) ليبحثوا عن أرض غير هذه الأرض - وقد كان للمسلمين الأساطيل العظام، والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، حين كانت أوربة أمماً موحشة لا أثر للعلم والمدنية بين ربوعها ولكن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. شعر ابن حمديس في الأندلس ففي هذه البيئة التي كلها شعر وكل من فيها شاعر ملوكها ووزراؤها ونساؤها وأرضها وسماؤها وقصورها وأنهارها قال ابن حمديس أكثر شعره وأجزله وأبرعه ذلك الشعر الواضح الجلي اللطيف المسلك إلى النفوس الحسن الموقع من القلوب لأنه لغة الطبيعة إذ هي التي أنطقته ولكن ليس كلٌّ تنطق الطبيعة وإنما هي تنطق من يعرف ألجانها ويفهم

معانيها وليس يفهم معانيها إلا الألمعي الذكي الطبع الصافي الحسن الصحيح الوجدان مثل شاعرنا ابن حمديس - نقول في هذه البيئة التي كلها شاعر. أما البيآت المفحمة أو الجامدة أو الناطقة الصامتة الناطقة بضوضائها وقعقعة عرباتها الشتى الصنوف وأصوات الانتخاب ومجالس الشورى وأكاذيب السياسيين وعويل الصحف السياسية وراء هؤلاء كما تعول الأجراء الخائفة وراء الذئاب. والصامتة بصموت ملوكها عن رفد أهل النبوغ والتفرد، وإظّهار أغنيائها أياهم حتى كأنهم هم العقلاء والنابغة هو المجنون الأوحد، وصموت أبنائها إلا عن تعقبهم وقذعهم القذع القعد، وجهل نسائها الهاوي بهن إلى الحضيض الأوهد، فأن مثل هذه البيآت لا جزم تخمد فيها القرائح وتموت الهمم وتَبلّد القلوب ولا تنطق لعمري شاعراً ولا نصف شاعر كما قال الحكيم المعري أبو العلاء: نلوم على تبلدها قلوباً ... تعاني من معيشتها جهادا إذا ما النار لم تطعم وقوداً ... فأوشك أن تمر بها رمادا نموذج من شعر ابن حمديس أسلفنا أن ابن حمديس وفد إلى الأندلس على المعتمد بن عباد سنة إحدى وسبعين وأربعمائة بعد أن ملك صقلية روجر النورمندي وأن ذلك أي انفصاله عن وطنه وضياع استقلاله نال منه وأحفظه على الأيام. وقد يذكر القارئ كلمته المشهورة التي يتشوق بها صقلية بعد فراقه إياها وفيها يقول: ذكرت صقلية والأسى ... يجدد للنفس تذكارها فإن كنت أخرجت من جنة ... فأني أحدث أخبارها ولولا ملوحة ماء البكا - ء حسبت دموعي أنهارها ولم يقف به ال عند ذلك بل أخذ يحض قومه على جهاد الروم النورمنديين ويرسل إلى قواد صقلية بالمدح يذكرهم فيها بواجبهم ويمدح ملوك المسلمين في الأندلس وأفريقية لا استجداء واسترفاداً ولكن حثاً لهم على الجهاد والحروب فمن قوله يحث قومه على جهاد الروم: بني الثغر لستم في الوغى من بني أمي ... إذا لم أصل بالعرب منكم على العجم دعوا النوم أني خائف أن تدوسكم ... دواه وأنتم في الأماني مع الحلم وردوا وجوه الخيل نمو كريهة ... مصرحة في الروم بالثكل واليتم

إلى أن يقول: ولله أرض إن عدمتم هواءها ... فأهواكم في الأرض منثورة النظم وعزكم يفضي إلى الذل والنوى ... من البين ترمي الشمل منكم بما ترمي وإن بلاد الناس ليست بلادكم ... ولا جارها والحكم كالجار والحكم ومن قوله يمدح القائد مهيب بن عبد الحكم الصقلي: أسد الروع الذي حملاقه ... ترسل اللحظة موتاً فيهاب * * * في جهاد قرن الله به ... عنده الزلفى إلى حسن المآب كم بأرض الشرك من معمورة ... أصبحت من غزوه وهي تباب في أساطيل ترى في أحشائها ... لبنات الروم فيهم انتحاب وقال يتمدح بأهل بلده: ولله أرضى التي لم تزل ... كناس الظباء وغيل الأسود فمن شادت بابلي الجفون ... نفور الوصال أنيس الصدود * * * ومن قسور شائك البرثنين ... له لبدة سردت من حديد يصول بمثل لسان الشواظ ... فيولغه في نجيع الوريد زبانية خلقوا للحروب ... يشبون نيرانها بالوقود ومن قوله يمدح أبا الحسن علي بن يحيى في وصف أساطيله: ترمي بنفط كيف يبقى لفحه ... والشم منه محرق الأكباد وكأنما فيها دخان صواعق ... ملئت من الإبراق والإرعاد وهذه كانت أساطيل أسلاف أهل طرابلس وتونس والجزائر في القرن الثاني عشر فأين أساطيل أخلافهم في القرن العشرين! وقال يذكر صقلية وأهل بلده: أرى بلدي قد سامه الروم ذلة ... وكان بقومي عزه متقاعساً وكانت بلاد الكفر تلبس خوفه ... فأضحى لذاك الخوف منهن لابسا عدمت أسوداً منهم عربية ... ترى بين أيديها العلوج فرائسا

إلى أن يقول: أما ملئت عرراً قلورية بهم ... وأردوا بطارقه بها واشاوسا هم فتحوا إغلاقها بسيوفهم ... وهم تركوا الأنوار فيها حنادسا وساقوا أبأيدي السبي بيضا حواسرا ... تخال عليهن الشعور برانسا يخوضون بحراً كل حين إليهم ... ببحر يكون الموج فيه فوارسا بحريية ترمي بمحرق نفطها ... فيخشى سعوط الموت فيها المعاطسا تراهن في حمر اللبود وصفرها ... كمثل بنات الزنج زفت عرائساً فأنت ترى أن ابن حمديس لم تلهه الأندلس وما فيها من رخاء ونعماء عن شؤون بلده والعمل على إخراج الروم النرمنديين منها وهكذا الشاعر الصادق فآية صدقه أن يكون تألمه ببنات الدهور، كالتذاذه ببنات الكرم والبنات الحور، فيكون شعوره بالألم واللذة والحسن والقبح وما إلى ذلك قوياً متفوقاً على شعور سائر الناس وإلا فإنه لا جرم غير شاعر - نقول أن ابن حمديس لم تشغله الأندلس ونعماؤها عن النظر في حال بلده وقول الشاعر الحماسي يحرض به قومه وملوك المسلمين على الجهاد ومطاردة الروم النرمنديين من بلاد الإسلام ولكن الشاعر كالمرآة الصافية تنعكس فيها الأشياء فتريكها كما هي أو كالماء يتلون لك بلون إنائه فكأنما ترى الإناء لا الماء فكان ابن حمديس إذا ذكر ما أصاب بلده هاج كما يهيج البركان وقال الشعر الحماسي الذي يهتاج الأفئدة ويثير الحمية ويحرك النفوس إلى الهيجاء كما تحركهن الموسيقى في هذه العصور والذي ذكرنا لك نموذجاً منه آنفاً وإذا أخذت عينه منظراً طبيعياً أخاذاً للنفوس مثل نهر من نهار الأندلس قال ما يحيل سمعك بصراً مثل قوله: ومطرد الأجزاء يصقل متنه ... صبا أعلنت للعين ما في ضميره جريح بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكى أوجاعه بخريره كأن جباناً ريع تحت حبابه ... فأقبل يلقى نفسه في غديره كأن الدجى خط المجرة بيننا ... وقد كالت حافاته ببدوره شربنا على حافاته دون سكرة ... نقبل شكراً منه عيني مديره وإذا رأى قصراً من قصور الأندلس تلك التي كانت آية في الإتقان والزخرف والزينة قال

يصف بركة تجري إليها المياه من شاذوران من أفواه طيور وزرافات وأسود والماء منه سبائك من فضة ... ذابت على درجات شاذروان وكأنما سيف هناك مشطب ... ألقته يوم الحرّ كف جبان كم شاخص فيه يطيل تعجبا ... من دوحة نبتت من العقيان عجباً لها تسقى الرياض ينابعاً ... نبعت من الثمرات والأغصان خصت بطائرة على فنن لها ... حسنت فأفرد حسنها من ثاني قس الطيور الخاشعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان فإذا أتيح لها الكلام تكلمت ... بخرير ماء دائم الهملان وكأن صانعها استبد بصنعه ... فخر الجماد بها على الحيوان أوفت على حوض لها فكأنها ... منها على العجب العجاب رواني فكأنها ظنت حلاوة مائها ... شهدا فذاقته بكل لسان وزرافة في الجو من أنبوبها ... ماء يريك الجري في الطيران مركوزة كالرمخ حيث تري له ... من طعنة الحلق انعطاف سنان وكأنها ترمي السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان لو عاد ذاك الماء نفطاً أحرقت ... في الجو منه قميص كل عنان في بركة قامت علي حافاتها ... أسد تذل لعزة السلطان ترعت إلى ظلم النفوس نفوسها ... فلذلك انتزعت من الأبدان وكأن برد الماء منها مطفئ ... ناراً مضرجة من العدوان وكأنما الحيات من أفواهها ... يطرحن أنفسهن في الغدران ومثل قصيدته التي ذكرناها في العدد 5 و 6 وفيها يقول وهو مما لم يذكر ثمت قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيرا واشتق من معنى الجنان نسيمه ... فيكاد يحدث بالعظام نشورا نسي الصبيح مع الفصيح بذكره ... وسما ففاق خورنقا وسديرا لو أن بالإيوان قوبل حسنه ... ما كان شيئاً عنده مذكورا أعيت مصانعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء واحكموا التدبيرا

ومضت على الروم الدهور وما بنوا ... لملوكهم شبهاً وله ونظيرا أذكرتنا الفردوس حين أرتنا ... غرفاً رفعت بناءها وقصورا فالمحسنون تزيدوا أعمالهم ... ورجوا بذلك جنة وحريرا والمذنبون هدوا الصراط وكفرت ... حسناتهم لذنوبهم تكفيرا أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناظري محسورا فظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا وإذا الولائد فتحت أبوابه ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكبيرا فكأنها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخولها مأمورا تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه فتكبو عن مداه قصورا بمرخم الساحات تحسب أنه ... فرش المها وتوشح الكافورا ومحصب بالدر تحسب ثربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا تستخلف الأبصار منه إذا أتى ... صبحاً على غسق الظلام منيرا وإذا سمع مزهراً قال وأصار مسمعيك أربعاً تسمع بها مزهرين لا واحداً في حجره أجوف له عنق ... نبطت بظهر تخاله حدبه يمد كفاً إليه ضاربة ... أعناق أحزاننا إذا ضربه قلت إلا فانظروا إلى عجب ... جاء بسحر ناطق الخشبه وإذا نكب في صاحب له كما نكب في صاحبه المعتمد بن عباد بزوال ملكه وخلعه وسجنه قال وصور له الصدق والوفاء في أحسن صورة ولما رحلتم بالندى في أكفّكم ... وقلقل رضوي منكم وثبير رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير إلى أبيات أخرى ستمر بك عند الكلام على بقية تاريخ المعتمد بن عباد والمترجم به. وإذا ثكل عزيزاً عليه كما ثكل الشاعر جارية له أخذها منه البحر قال وأسأل مدمعيك: وواحشتاً من فراق مؤنسة ... يميتني ذكرها ويحييها أذكرها والدموع تسبقني ... كأنني للأسى أجاريها

جوهرة كان خاطري صدفاً ... لها أقيها به وأحميها يا بحر أرخصت غير مكترث ... من كنت لا للبياع أغليها أبتها في حشاك مغرقة ... وبث في ساحليك أبكيها ونفخة الطيب في ذوائبها ... وصبغة الكحل في مآقيها عانقها الموت ثم فارقها ... عن ضمة فاض روحها فيها ويلي من الماء والتراب ومن ... أحكام ندين حكماً فيها أماتها ذا وذاك غيرها ... كيف من العنصرين أفديها وقال في حزنه مثل هذا: ويا ريح أما مريت الحيا ... ورويت منه الربوع الظماء فسوقي إليّ جهام السحاب ... لاملأهن من الدمع ماء وقالفي صفة خسوف القمر ما يضؤل بجانبه مجهر الراصد: والبدر قد ذهب الخسوف بنوره ... في ليلة جسرت أواخر مدها فكأنه مرآة قين أحميت ... فمشي أحرار النار في مسودها وقال في باب اللهو مثل قوله: قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعي الليل بشير الصباح باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح وفي باب النسيب زادت على كحل الجفون تكحلا ... ويسم نصل السهم وهو قتول ومثل لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك للكلام بقية وفيها سائر شعر ابن حمديس وترجمته وترجمة المعتمد وفصل في فرق ما بين شعر الأندلسيين وشعر المشارقة.

كرومويل - نابليون بونابرت

كرومويل - نابليون بونابرت يعلم الذين نظروا في كتاب الأبطال الذي وضعه الفيلسوف الانكليزي توماس كارليل وعربه الفاضل محمد السباعي وأخرجته للناس مكتبة البيان أننا انتهينا فيما أظهرناه من هذا الكتاب إلى الكلام على كرومويل ونابليون بونابرت. وإنّا الآن إتماماً للفائدة ولأن كارليل خير من كتب على نوابغ العالم وكرومويل ونابليون هما من أنبغ النوابغ آثرنا أن نتحف قراء البيان بتلك الكلمات الآلهية التي خرجت من قلب ذلك الرجل الآلهي (كارليل) عن كرومويل ونابليون قال كارليل تمهيداً للكلام على كرومويلز لقد حدثت في انكلترة حروب داخلية كثيرة: حروب الوردة الحمراء والوردة البيضاء. وحروب سيمون دي مونتفورت - حروب ليست من الأهمية بمكان ولكن حرب الخوارج (البيوريتان) كان لها من الخطارة ما لم يمكن لغيرها. حتى ليجوز لي أن أسميها جزأً من تلك الحرب العظيمة العامة التي ليس إلا منها يتكون تاريخ الدنيا الحر التصميم - حرب الأيمان ضد الكفر! جهاد حزب الله المتمسكين بالحقيقة ضد الكذبة الفجرة العاكفين على المظاهر والقشور. وقد لا يرى الكثيرون في خوارج انكلترة إلا عصبة سفلة غلاظاً فظاظاً مولعين بهدم الرسوم الكاذبة. ولعلنا نجد لهم عذراً في احتقارهم البطريق لود زعيم الديانة إذ ذاك وحنقهم عليه وعلى أميره الملك تشارلس الأول. ولود هذا هو في رأيي ضعيف العقل منكود الحظ وما هو بالخائن اللئيم. إنما هو رجل أحمق وأكبر حمقه التمسك الأعمى بمذهبه والاستبداد الممقوت برأيه. وهو كناظر مدرسة لا يرى في العالم شيئاً إلا قواعد مدرسته ورسومها وأوضاعها. معتقداً أن هذه هي قوام الدنيا وعماد الوجود. وأن صلاح الكون مرهون بها. والمحنة العظمى والطامة الكبرى أن الملك تشارلس الأول عمد إلى هذا الرجل الذي رأيه في الكون والحياة والوجود هو ما ذكرت وجعله الرئيس لا على مدرسة بل على أمة يدبر من شؤونها أكثرها أشكالاً ومن حاجها ومصالحها أشدها اعتياصاً وإعضالاً. ويرى هذا الرئيس الشقي المسكين أن تدار تلك الشؤون والمصالح بالقواعد القديمة والنظامات العتيقة بل يرى أن نجاحها في إعلان شأن هذه القواعد وتأييد أسبابها. ثم تراه كالأحمق الضعيف يندفع بأقصى الشدة والعنف في سبيل غايته لا يجيل رأياً ولا يعمل روية ولا يسمع نهياً ولا يصغى إلى نصيحة جامحاً في العنان لا يسمع الزجـ - ـر ولا يرعوى إلى الرواض

هو كما قلت رجل أعمى التعصب أحمق الاستبداد يأبى إلا أن ينفذ قواعده المدرسية على نفوس الأمة - قائلاً للشعب تنفيذ قواعدي قبل كل شيء! له الله من مستبد أحمق. أبى إلا أن يجعل عالم الله الطويل العريض مدرسة ويأبى الله أن تكون دنياه مدرسة. وبعد فيغفر الله له أفلا ترون أنه لقي من العقاب مت هو أهله؟ (وبعد) فالحرص على الرسوم والأوضاع حميد مستحب. إذ أنه من شأن الديانات وغيرها أن تلبس الرسوم والأشكال. ولا مقام للإنسان قط إلا في الأمكنة ذات الرسوم والأوضاع. ولست أحمد في المذهب الخارجي (البيوريتاني) عريه من الأثواب والصور والقوالب وخلوه من الرسوم والأوضاع. بل أعيب ذلك عليه وأراه عورة أحق بالرحمة والأسف - فأما الذي أحمده منه فهو روحه ولبابه. وكل لباب وجوهر فلا بد أنه يلبس زياً ويسكن رسماً وقالباً غير أن من الرسوم ما هو ملائم صالح ومنها ما هو غير صالح ولا ملائم. والحد الفاصل بين هذا وهذاك هو أن القالب الذي ينمو وحده حول الجوهر بقوة الطبيعة يجيء ملائماً لطبع الجوهر موافقاً لغرضه وغايته فهو لذلك حسن صالح. وأما القالب الذي تجعله يد الإنسان حول الجوهر عمداً فهو قبيح فاسد. وأني لأنشدكم الله أن تتأملوا ذلك وتنعموا فيه النظر. فإنه الفارق ما بين كاذب الرسوم وصادقها - بين الإخلاص المحض وبين المظهر الباطل في جميع الأمور والأشياء. نعم يجب أن يكون في الرسوم عنصر صدق وباعث شديد من الحق وسأضرب لكم مثلاً الخطابة. فماذا تقولون أعزكم الله في الخطيب الذي يهيئ الخطبة من قبل إلا أنه سوأة وآفة؟ ثم ماذا تقولون في الرجل المتصنع الابتسام المتكلف الانحناء للضيوف والزوار إل أنه آفة كذلك سوأة؟ وإذا كنتم تعدان مثل هذين عورة وبلية فما قولكم في رجل يأتيك في أمر من أجسم أمورك في أمر الدين والعبادة مثلاً - يأتيك وقد غمر جلال الدين روحك وحير لبك وألجم لسانك فأنت مطرق حائر ساكت من شدة الانفعال والوجد وفرط التأثر والطرب مفضل السكوت على الكلام وأجدا لسان الصمت أفصح وأعرب بما يكنه صدرك ويضمره حشاك من ذلك الوجدان العظيم والشعور الجسيم - يأتيك وأنت في هذه الحال الشديدة فيتعرض لأن يعرب عن مكنون وجدانك بكلام كاذب باطل - ماذا تقول لمثل هذا الرجل وماذا عندك له إلا الطرد والإبعاد - لا أبعد الله غيره! بلى ليذهب ذلك الرجل عنك

إذا كان يحب نفسه! إنما مثله مثل من يأتيك وقد فجعتك المنون في واحدك فأنت من شدة الحزن ملجم اللسان جامد العين فيقيم لك احتفالاً بشعائر الحداد مؤلفاً من ألعاب قدماء اليونان على هيأة يونانية قديمة. فمثل هذا الفضول والزور والتصنع جدير بالمقت والإنكار. وهو عين ما كانت تسميه الأنبياء وثنية - أي عبادة القوالب الفارغة والصور الجوفاء - تلك الذي يرفضها وسوف يرفضها كل مخلص صادق. وكذلك يمكنكم أن تفهموا بعض الفهم أغراض أولئك الخوارج ومقاصدهم. فترون في الرئيس لود ودأبه في تأييد الكاثوليكية وحواشيها من تلك الرسميات والإشارات والانحناءات والشعائر - ناظر المدرسة المصر على تنفينه قواعده ونظاماته لا القسيس الحر المخلص المعنى بجوهر الدين صافحاً عن القوالب والقشور. ولم يطق الخوارج هذه الرسوم فداسوها بالنعال وإنّا لنعذرهم إذ جعلوا يقولون لا رسم مطلقاً خير من هذه الرسوم. وقد جعل خطباؤهم يمتطون صهوات المنابر عارية مقفرة إلا من الإنجيل يحملونه في الأيدي. وهل ترون في الكلمة تخرج من صميم فؤاد الرجل فتصيب حبات القلوب إلا أكمل مظاهر الدين وأجل صور العبادة. وعندي أن أخشن الحقيقة وأعراها خير من أنعم الرسوم وأثراها. هذا ون الحقيقة متى وجدت فهي الكفيلة لنفسها باللباس والكسوة. ومتى وجد الإنسان الحي كان كفيلاً لنفسه بالملابس - إذا لم يصبها لدى الغير أخذها بيده من موارد الأرض وصنعها بكفه. فأما أتجيء بالثوب وحده فتدعي أنه ثوب ورجل -! - نحن أعزكم الله لا يمكننا أن نحارب فرنسا بجيش مؤلف من ثلاثمائة ألف ثوب أحمر. ولا نجرأ على تقديم هذه الثياب إلى ساحة الحرب إلا إذا كان فيها ثلاثمائة ألف رجل حي يتنفس! وأني لا أزال أقول أنه لا ينبغي للثوب أن ينفصل عن الجوهر. ولا للرسم أن يطلق الحقيقة ويبين منها. وإذا فعلت الرسوم ذلك قام لها أناس فثاروا ضدها على أنها أكذوبة وزور. وكذلك ترون أن حرب الخوارج والرئيس لود لم تك في الحقيقة إلا حرب الثوب والجوهر - حرب الرسم والحقيقة - حرب الباطل والحق - حرباً ضروساً ثارت في انكلترا حينذاك واستمرت حقبة من الدهر وعادت علينا عواقبها بالنفع الجم والخير الكثير. وكان الجيل الذي أعقب عصر الخوارج ليس بخليق أن يزن أعمالهم بقسطاس العدل. وكيف نرجو من مثل تشارلس الثاني ورجاله أن يعرفوا أقدار

الخوارج أو يفقهوا معاني أعمالهم؟ وأنى يكون ذلك الحكم العادل والنظر الثاقب من فئة كان لا يخطر بأذهانهم إن في حياة الإنسان ذرة من الحق والصدق والمعاني المقدسة. لقد ظل هذا الملك وأولياؤه يمثلون أشنع التمثيل بالمذهب البيوريتاني (مذهب الخوارج) كما يمثلون برجاله - فلو شهرت الحال إذ ذاك لرأيت البيوريتانية مصلوبة على الأعواد كأجساد أربابها. ولكن الصلب والتمثيل لم يعق من مسير نتائجها. ولا بد للعمل الصالح من أن تسير آثاره مهما مثلث بأهله وأصحابه. نعم إنا لنطرح البصر فتسرنا محاسن آثار أولئك الخوارج ونري الدستور والحرية والسعادة التي نتمتع بها الآن أغراساً زرعتها قرائحهم وسقوها طوراً بأوعية الدموع وتارة بسجال الدماء. وهم الذين سنوا المذهب القائل بأن جميع الناس أحرار بالفعل أو سيكونون أحراراً يوماً ما - أحراراً تقوم حيلتهم على أمتن أساس من الحق والعدل لا التقاليد والباطل! هذا وكثير غيره من حسن آثار الخوارج وجليل نعمهم علينا. والواقع أنه اتضحت مآثر الخوارج هذه وعلت في النفوس مكانتهم وضرجت أقذاء التهم عن حواشي أعراضهم. واستنزلت عن أعواد الصلب ذكرى عهودهم واحداً بعد واحد. بل لقد قدست أسماء بعضهم وعدوا ضمن أولياء الله المصطفين. وحسب من الأبطال أمثال اليوت وهامبدين وبيم حتى ليدو وهاتشسون وفان. أولئك القساوسة السياسيون الذين إليهم يعزى ما ننعم به اليوم من حرية البلاد. أفيجرأ اليوم إنسان أن يلوث بالذم أعراض هؤلاء؟ وهكذا أصبحت لا تكاد تجد من بين القوم إلا من له أنصار يقومون بعذره وشيعة تشيع في الناس فضله وتشيد له صروح الإجلال والإكبار. كلهم قد برأ الله ساحته وجمل في النفوس مكانته وأعذب في الأفواه ذكره وأدال له إلا واحداً هو سيد الجميع وفتى القوم - الملك الأكبر رافع لواء الحق - أوليفار كرومويل. فأني أرى عرضه لا يزال مجال الألسن السالقة والأظفار الممزقة وأرى ذكراه لا تزال مصلوبة في أعالي الجذع. وماله من عاذر ولا نصير. والناس مجموع عليه بالذم والنكير. وأنه شرير خبيث. هم لا ينكرون أنه كان رجلاً كفؤاً حازماً شجاعاً مدبراً ولكنه خان العهد في نظرهم ونقض العقد. وكان فيه أثرة وشجع وغدر ومكر وتصنع ونفاق. حوّل ذلك الجهاد العظيم المبذول في سبيل الحرية إلى طريق منفعته الشخصية بهذه الخلال وأسوأ منها ينعتون أوليفار كرومويل ثم يقارنونه

بالزعماء واشنجتون وسواه ولا سيما بالأبطال بيم وهامبدين وأليوت الذين سلبهم ثمار أعمالهم العالية ثم أوسع تلك الثمار إفساداً وتشويهاً. وليس بعجيب أن يكون ذلك الرأي القبيح هو رأي القرن الثامن عشر والشيء من معدنه لا يستغرب. وما قلنا في خادم غرفة خادم الملك منطبق تماماً على الرجل الملحد. كلاهما لا يفهم معنى البطولة ولا يعرف البطل إذا رآه! والخادم ينتظر أن يرى للملك ثياباً فاخرة مرصعة بالذهب والفضة مرصعة بالدر والجوهر. وحاشية كثيفة من الخول والأتباع وأبواقاً تصيح وطبولاً تقرع. والرجل الملحد - رجل القرن الثامن عشر - ينتظر أن يرى للأمام الرئيس قواعد محترمة أو ما يسمونه مبادئ وينتظر أيضاً أسلوباً خطابياً نعته الناس بالجودة والبراعة يحاج عن نفسه ويدافع في أفصح بيان وأنق لهجة فيفوز باستحسان قرن كاذب متصنع كالقرن الثامن عشر. وجملة القول أنه ينتظر ما ينتظره الخادم - أعني زخارف ظاهرية وأثواباً وقشوراً وقوالب ورسوماً ليست من الحق الصراخ في شيء. كلاهما يريد الزخرف والزينة السطحية ليقر بأن صاحبها ملك وبطل. فإذا برز لهم الملك في سيمياء القشف والخشونة وزي الفقراء والصعاليك أنكروه وقالوا ليس بملك. وما كنت قط لأقول صراحة أو تلميحاً أدنى ما يحط من أقدار رجال كاليوت وهامبدين وبيم. أولئك أقر لهم بالنفع وأشهد لأعمالهم بالنفع. ولقد قرأت كل ما تيسر لي مما كتب ونيتي وإرادتي أن استلذ عهودهم وأعجب بأنبائهم وسيرهم وأعبدهم عبادة أبطال هذه نيتي وإرادتي ولكنها لسوء الحظ لم تحقق. نعم لقد كنت أحمد ظواهر أولئك الرجال. ولكن نفسي لا تجد تمام الارتياح لبواطنهم. ولا أنكر أنهم كانوا عصبة كراماً أمجاداً يمشون الهوينا عليهم برود العزة وسرابيل الجلال فإذا نطقوا فما شئت من حكمة ولب تجري الفصاحة بين قلوبهم وألسنتهم وتجول الفلسفة بين لهواتهم وشفاههم ويتحدرون بالخطب البرلمانية تحدر السيل ويتدفقون بها تدفق اليعبوب. ويأخذون في الأغراض التشريعية والاقتراحات الإدارية فيطيلوا عنان القول ويملئوا الدلو إلى عقد الكرب مرسلين الحكمة في عرض كلام كالجوهر المنثور تجول على صدره قلائد البيان ويطرد في أثنائه ماء البديع ويتحير في حواشيه رونق الحسن - فحبذا هم من رجال أساطين علم وأئمة تشريع وأولي عزة ومجد وجلال. ولكن قلبي بعد كل ذلك لا يخف لهم ولا تجيش أحشائي ولا تهتز جوانحي. اللهم إلا خيالي

فإنه قد يحاول أن يجد لهم بعض الإجلال. وأي رجل في الوجود تعروه الأريحية ويهزه الطرب ويلتهب قلبه شوقاً لهؤلاء النفر. كلا لقد أصبحت تراجمهم وأنباؤهم غاية في الجمود والثقل! نعم أن بلاغة أولئك الفحول قد تكون أبهر الأشياء وأروعها ولكنها شيء ثقيل - ثقيل كالرصاص ومجدب كالصخرة الملساء. وجملة القول أنه لم يبق فيها لقراء العصر غبار لذة ولا ظل مطرب ومستمتع! فإن أبيت إلا امتداحها فقل أنها كانت كأساً رشف الدهر أطيبها وأعذبها فلم يبق إلا صبابة مرة كدرة! فسلام على أولئك الفحول ولندعهم ثاوين مضاجع مجدهم وشرفهم ولنقبل على الرجل الخشن المتوعر الطريد المنبوذ أوليفار كرومويل فإن فيه وحده ضالتنا من المادة الإنسانية وكنوز الكرم الصراح والبطولة العالية. إن فيه لذلك وإن لم يكن فيه فصاحة وكتابة. وبلاغة وخطابة. وبراعة وخلابة. وكم من بلغاء مصقولي جوانب اللسان رقاق حواشي الطبع ليس وراءهم كبير فائدة. وما سرنا من إنسان نظافة كفيه إذا كان لا يقرب الأعمال إلا لابساً قفازه! وبعد فلست أرى في رضى القرن الثامن عشر عن خطباء الخوارج وزعمائهم إلا شعبة من رسميات ذلك القرن وكفرياته. وكيف وهم (رجال القرن الثامن عشر) يعيروننا أن يكون سبب دستورنا وحريتنا هو الخرافات الدينية يقصدون بذلك مذهب الخوارج من حرية العبادة ويقولون هلا كان لحريتكم مصدر أشرف وأسمى من الخرافات الدينية مثل حرية وضع الضرائب ويقولون أنه كان من الوهم والخرافة والتعصب الأعمى والجهل المطبق بالفلسفة لدستورية أن يجعل آباؤنا الأول غايتهم الوحيدة هي حرية العبادة وإنما الغاية الوحيدة في مذهب القرن الثامن عشر هي حرية وضع الضرائب أعني امتناع الإنسان عن دفع الدراهم من كيسه حتى يبين له السبب الذي يدفعها من أجله. فأناس يجعلون هذا أول حقوق الإنسان لا شك جهلة أغبياء. وأرى أنه لن يكون الدرهم وحدها قط باعثاً للعاقل على أن يثور ضد حكومته. وما زال الإنسان يرضى بدفع المال لحكومته بشرط أن يبقى له سداد من عوز. وأني أجد أن الانكليزي حتى في هذه الأوقات إذا لم يرض أن يدفع للحكومة ضرائب عديدة من غير أن يبين لها أسباب دفعها اضطر إلى أن يهاجر وطنه إلى غيره من بلاد الله. وكأني بالانكليزي يقول جابي الضرائب! المال! خ1وا مالي بما أنكم قادرون على أخذه ومحتاجون إليه. خذوه واذهبوا ودعوني وشأني - اتركوني وشغلي فأني

لا أزل في داري ووطني قادراً على تجديد المال بالعمل. قادراً على لعيش السهل المرضي بعد كل ما سلبتمونيه. بهذا الكلام يجيب الانكليزي رجال السلطة إذا أتوه يطلبون ماله. فأما إذا جاءوه يقولون له اعتقد هذه الأكذوبة. واحسب أنك تعبد الله وأنت لا تعبده. ولا تؤمن بما تراه أنت أنه الحق. وإنما بما نراه نحن حقاً أو ندعي أنا نراه حقاً! كان جديراً أن يجيبهم بقوله كلا ويمين الله. أنتم في حل من مالي تأخذونه متى شئتم ولكني لا أبيع ديني. ولا أخسر عقيدتي. أما المال فذلك غنيمة باردة لأي قاطع طريق يتهددني بسلاحه. ولكن نفسي ملكي وملك الله وديني لن تغلبوني عليه ولا تخدعوني عنه ما دام في حلقي نفس يتردد. وسأدافع عنه بآخر قطرة من دمي. (للكلام بقية)

طرفة أدبية

طرفة أدبية قال أبو نواس حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا بأرض بني فزارة في أوان الربيع نزلنا منزلاً بإزاء باديتهم ذا روض أريض ونبت غريض وتُرب كترب الكافور حتى اكتست الأرض بجميم نبتها الزاهر وأتزرت بمحض عشبها الناضر والتحفت بأنواع زخرفها الباهر بما يقصُر عنه النمارق المصفوفة ولا يداني زهرتها الزرابي المبثوثة فراقت بنضرتها الأبصار وارتاحت لزبرجها القلوب واشتاقت إلى نسيمها الصدور وابتهجت ببهائها النفوس فما لبثنا أن أقبلت السماء فأشفقت بربابها وتدانى من الأرض ركام حتى إذا كان كما قال عبيد بن الأبرص: دان سف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح همت السماء برذاذ ثم بطش ثم برش ثم بوابل ثم هتنت حتى إذا تركت الربى كالوهاد رياً تقشعت فأقلعت وقد عادت الغدران مترعة تدفق والقيعان ناضرة تألق تحدق بحدايق مونقة ورياض رائقة وغياض من عرفها فايحة تتحاك بأنواع النور الغض الذي إذا هممت بتشبيهه بشيء حسن اضطرك حسنه إلى رده إليه. فإذا تقت إلى تضوع طيب لم تجد معولاً في الذكاء إلا عليه. فسرجت طرفي رامقاً في أحسن منظر واستنشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر ثم قلت لزميلي ويحك امض بنا إلى هذه الخيمات فلعلنا نلقى بعض من نؤثر عنه خبراً نرجع به إلى بغداد فلما انتهينا إلى أولها إذا نحن بخباء على بابه جارية مبرقعة ترنو بطرف مريض لجفون وسنان النظر قد شي فتوراً وملئ سحراً قد مدت يداً كأنها لسان طائر بأطراف كالمداري وخضاب كأنه عنم ثم جاءت الريح فرفعت عن برقعها فإذا بيضة نعام تحت رئال فقلت لصاحبي أما والله أنها ترنو عن مقلة لا رقية لسليمها ولا براءة لسقيمها فاستنطقها قال كيف السبيل إلى ذلك قلت اسسقها ماء فدنا منها فاستسقاها فقالت: نعم ونعيم عين وإن نزلتما فالرحب والسعة ثم قامت تتهادى في مشيها كأنها خوط بان أو قضيب خيزران تتثنى فتجر خلفها كالغرارتين فراعني والله ما رأيت منها فأتت بالماء فأخذته فشربت منه وصبت باقيه ثم قلت وصاحبي أيضاً عطشان فأخذت الإناء ودخلت الخباء ثم قلت لصاحبي متعرضاً لكشف وجهها من الذي يقول: إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع يريك عيون الدمى غرة ... ويكشف عن منظر أشنع

فمضت بسرعة وأتت ونزعت الرقع وتقنعت بخمار أسود وهي تقول: ألا حي ربي معشراً قد أراهما ... ألما ولما يصدقا مبتغاهما هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما يذمان تلباس البراقع ضلة ... كما ذم تجر سلعة مشتراهما فشبهت كلامها بعقد در وهي من سلكه فهن ينتثرن منه بنغمة عذبة رخيمة رطبة لو خوطب بها الصم الصلاد لانبجست بالرطوبة منطقها وعذوبة ألفاظها كما قال ذو الرمة: ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع كففنا غربها بالأصابع ونلنا سقاطاً من حديث كأنه ... جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع ووجه يظلم في نوره ضياء العقول وتتلف في روعته مهج النفوس وتعزب عن إدراكه أصالة الرأي ويحار في محاسنه البصر كما قال الأول: فدقت وجلت واسبكرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنت ولم اتمالك أن خررت ساجداً وأطلت من غير تسبيح فقالت أرفع رأسك غير مأجور وامض لشأنك غير موزور ولا تذما بعدها برقعاً فربما يكشف عما يطرد الكري ويحل القوى من غير بلوغ أرب ولا أدراك مطلب ولا قضاء وطر وليس إلا الحين المطلوب والقدر المكتوب والأمل المكذوب فبقيت والله معقود اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لطريق الصواب فالتفت إلى صاحبي وقال لي لما رأى هلعي كالمسلى لي عما أذهلني ما هذه الخفة لوجه برق لك بارقة حسن لعلك ما تدري ما تحته أما سمعت قول ذي الرمة: على وجه ميّ مَسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا فقالت الأم ذهبت لا أب لك كلا والله لأنا بقوله أشبه وأنشدت: منعمة حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتج الروادف أهضم لها بشر صاف وعين مريضة ... وأحسن أيماء بأحسن معصم ثم رفعت ثيابها حتى بلغت نحرها أو جاوزت منكبيها فإذا قضيب فضة قد حسا ماء الذهب يهتز على مثل كثيب نقا وصدر كالوديلة عليه كالرمانتين أو كحقى عاج يملأ يد اللامس وخصر مطوي الأندماج تهتز على كفل رجراج لو رمت به عقدة لانعقد وصرة مستديرة يقصر فهمي عن بلوغ وصفها من تحتها أجثم جاثم كجبهة ليث حادر وساقان خدلجتان

تخرسان الرنين ثم قالت أعاراً تري قلت لا ولكن سبب القدر المتاح وتعجيل هم يعقبه سقم فخرجت عجوز من الخباء فقالت يا هذا امض لشأنك فإن قتيلها مطول لا يودي وأسيرها مكبول لا يفدي فقالت دعيه فله مثل غيلان: فالا يكن إلا معلل ساعة ... قليل فأني نافع لي قليلها ثم قالت العجوز: فمالك منها غير أنك ناكح ... بعينك عينها فهل ذاك نافع فنحن كذلك إذ ضرب طبل الرحيل فانصرفنا مبادرين بكمد قاتل وكرب داخل وحسرة كامنة وأنا أقول: يا ناظراً ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيل أحللت قلبي من هواك محلة ... ما حلها المشروب والأكول بكمال صورتك التي في مثلها ... يتحير التشبيه والتمثيل فوق القصيرة والطويلة فوقها ... دون السمين ودونها المهزول فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين مررنا بذلك المنزل وقد تضاعف نواره وتزايد حسنه وكملت بهجته فقلت لصاحبي امض بنا لصاحبتنا فلما أشرفنا على الخيام ونحن دونها نسير في روضة من تلك الرياض في وقت فيه قد طلعت الغزالة ولها عين كأعين نجل شرقت بدموعها على قضب زبرجد فهبت الصبا فصبت لها الأغصان فتمايلت تمايل النشوان الطرب فصعدنا ربوة وهبطنا وهدة فإذا بها بين خمس لا تصلح أن تكون خادمة لإحداهن وهن يحنين من نوار ذلك الثمر ويتقلبن على ما تغتنم من عشبه فلما أن أتينا وقفنا فقلت السلام فقالت من بينهن وعليك السلام وقصت عليهن قصتي قلن لها ويلك أما زودته شيئاً يتعلل به من جوي البرحاء فقالت زودته يأساً حاصراً ورأياً حاضراً فابتدرت أنضرهن خداً وأرشقهن قداً وأبرعهن طرفاً فقالت والله ما أحسنت بدأ ولا أجملت عوداً ولقد أسأت في الرد ولم تكافئيه في الود وأني لأحسبه لك وامقاً وإلى لقائك شائقاً فما عليك بإسعافه بطلبته وإنصافه في مودته وأن المكان لخال وأن معك من لا ينم عليك فقالت والله ما أفعل من ذلك شيئاً أو تفعليه قبلي وتشركيني في حلوه ومره فقالت لها الأخرى تلك إذاً قسمة ضيزي تعشقين أنت فتزهين ويذل لك فتمنعين الرفد ثم تأمرينني ما يكون شهوة ولذة ومني سخرة

ما أنصفت في القول ولا أجملت في الفعل فاقبلن إلي وقلن إلى ما قصدت قلت لتبريد غلة وإطفاء لوعة أحرقت الكبد وأذابت الجسد واستبطنت الحشا فمنعت القرار ووصلت الليل بالنهار قلن لي فهل قلت في ذلك شيئاً قلت نعم وأنشدتهن: حججت رجاء الفوز بالأجر قاصداً ... لحط ذنوب من ركوب الكبائر فأبت كما آب الشقي بخفه ... حنين ولم أوجر بتلك المشاعر دهتني بعينيها وبهجة وجهها ... فتاة كضوء الشمس وسنى النواظر من اللاء لو تبدو لرمة ميت ... لعاد إلى الأحياء في جرم ناشر منعمة لو كان للبدر نورها ... لكان منيراً للنجوم الزواهر من البيض تنميها فزارة للعلا ... وأهل المعالي من سليم وعامر فإن نولت نلت الأماني كلها ... وإن لم تنلني زرت أهل المقابر فقلن اقترعن فوقعت القرعة على أملحهن فضربن أزاري على باب غار فعدلت إليه وأبطأن عني قليلا وأنا أتشوق إلى واحدة منهن إذ دخل عليّ أسود كأنه سارية بيده هراوة وهو منقط مثل ذراع البكر فقلت ما تريد فقال أفعل بك الفاحشة فخفت وصحت بصاحبي فخلصني منه ولما يكد فخرجت من الغار وإذا بهن يتعادين إلى الخيمات كأنهن أللآلي ينحدرن من سلك وهن يتضاحكن ومعهن قلبي يجرونه بينهن فانصرفت وأنا أخزي من ذات النحيين.

القصص والفكاهات

القصص والفكاهات رواية فوست نقلها إلى العربية صالح بك حمدي حماد (الفصل الأول) غواية فوست (المنظر الأول) في قصر فوست - تظهر غرفة معقودة على الطراز الغوثي القديم وفيها مكتبة وموائد عليها كتب وأدوات علمية وعدد من أنابيب وأواني وجمجمة إنسان والدكتور فوست جالس على كرسي أمام مكتبه لابساً رداء أسود وعلى رأسه قلنسوة سوداء وهو شيخ هرم ذو لحية بيضاء طويلة وأمامه مصباح ضئيل النور تظهر علامات الاهتمام والتفكير ثم يقول: فوست - درست الفلسفة والشريعة والإلهيات والطب حتى برعت فيها كلها وصرت أعلم من تقله أرض ألمانيا ولكن ماذا أفادني كل ذلك غير التعب والنصب، أني لعمري أحمق أخرق أراني لم أستفد من ذلك فائدة ما ولم أسعد به وإن عظموني وسموني الأستاذ ولقبوني بالدكتور والحكيم إلى أمثال ذلك من الألقاب الضخمة والنعوت الطنانة الرنانة وما هي لعمرك إلا غرور وزهو باطل. ثم ينهض فيتمشى في الغرفة جيئة وذهوباً وهو مضطرب قلق ويقول. فوست - ولقد صار لي منذ عشر من السنوات من الشهرة الفائقة وبعد الصيت والنفوذ والسلطة على تلاميذي ومريدي ما جعلهم يطيعون أمري ويستنيمون لأقل إشاراتي فلم يدخلني من ذلك العجب وغرور أهل العلم قط والآن تولاني اليأس ونفذت سهام القنوط إلى فؤادي الذي ظل أمداً تملؤه المفاخر والمنازع الشريفة حتى أضحيت أغزر معارف وعلوماً من كثير من العلماء والأساتذة والكهان والرهبان وصرت لا أخاف الشيطان ولا أخشى دخول النار ولكني قد حرمت في مقابل ذلك مسرات الحياة ثم يضحك مستهزئاً ويقول: فوست - أجل أنني قد حرمت مسرات الحياة وملذات البشر وبما أني قد اقتنعت اليوم بغرور ما أنا عليه وقلة جدواه فعلام إذاً أعلمه غيري هل يصيرون به أسعد حالاً مني. أني لا أملك درهماً واحداً وليس لي أقل نصيب من الشرف الدنيوي والجاه في العالم فما أتعس

حظي في الحياة وأشقاني بعلومي ومعارفي الطويلة العريضة فلم يبق أمامي سوى الاستعانة بعلم السحر لا على مثال تلك السذاجات التي يزاوله بها جماعة السحرة السذج بل على نوع جدى أستكنه به أسرار هذه الطبيعة وأستكشف به قواها العاملة المؤثرة وأنال منها ما تصبو إليه نفسي من اللذات. ويذهب إلى النافذة فيرفع السجف وينظر في السماء إلى القمر ويقول مخاطباً له. فوست - أيه أيها القمر الساطع والكوكب الدري اللامع ألق بالنظرة الأخيرة منك على في نصبي وتعبي أنت أيها الصديق الجميل الذي طالما كان رفيقي في وحدتي وشاهدي في سهري الليالي فكم من مرة رأيتني في هذه الغرفة مكباً على مكتبي أدرس العلوم وأطالع أسفارها فيا ليت لي مثل مالك من القدرة على الارتفاع والتحليق في القبة الزرقاء حتى كنت أشرف من عل على قمم الجبال وفوق المغارات المظلمة واستنكف كثيراً من الأسرار ولكن ليس لي واأسفاه ذلك وليس أمام فوست الشيخ الفاني إلا البقاء بين أربع حيطان هذه الغرفة المظلمة التي لا يكاد ينفذ من زجاجها المغبر ضوء النهار. ويجيل بصره في أرجاء الغرفة وهو حزين كاسف البال ثم يطرد مقاله: فوست - فهذا المكان هو سجني نعم هذا المكان محبسي ولكن لم أجلب على قلبي الهموم والأكدار وأحمل نفسي الأحزان في حياتي والأشجان أني خلقت حياً في طبيعة حية فعلام أضع نفسي باختياري في القبور بين الأموات أجل هذا المكان لعمري قبر وهو لا يحوي إلا أشياء تافهة فلأكسرن هذه السلاسل ولأحلن هذه القيود ولأزجن بنفسي في مجاري الحياة الصافية استقي منها لذة كؤوساً منزعة. ثم يتناول بيده كتاب السحر ويقول: فوست - هذا كتاب السحر الأعظم والطلسم الأكبر خطه بيمينه رأس السحرة (فوستراد موس) فليكن دليلي وهادي ومرشدي فيما أريد (ويفتح الكتاب ويقلبه ويقول) ولكن لنتجاوز ما عليه من هذه الشروح التي لا فائدة لنا فيها ولنمسك باللباب ويقرأ فيه بصوت عال ما نصه: إن عالم الأرواح ليس مغلق الباب في وجهك أيها المريد غير أن عقلك ضال وقلبك ميت فتشجع وألق بنفسك وأسبح في أنوار بحر ذلك الفجر الباسق بلا فتور ولا ملل

ثم يقول: فوست - هذا هو الينبوع الصافي والمورد العذب الذي أريد الاستقاء من زلاله والتشبع من شرابه حتى أنال أربي وأحظي بالحب والغرام وارتشاف كأس المدام والثمل بريق غادة حسناء وفتاة في رؤيتها الحياة هذا كل ما أريد وأرغب فيه وتتشهاه عليّ نفسي. ويتمتم قائلاً بصوت عال: فوست - أيتها الروح الأرضية التي أحس بوجودها معي وأشعر باقترابها مني أطلب مساعدتك وأسلم نفسي إليك وألقى بقيادي بين يديك فاظهري اظهري ولو كلفني ظهورك شرب كأس الحمام. . . . (المنظر الثاني) تظهر أشعة من النور بالقرب من مدخنة الغرفة ويبدو بينها شبح إنسان لابساً ملابس ذلك العصر ومتقلداً سيفاً وعلى رأسه قبعة عليها ريش النعام فيقول لفوست بصوت رنان: ميفستوفيليس - من الذي يدعوني ويطلب معونتي ونصرتي. فوست - وهو يلتفت إليه ويرتجف - يالك من خيال فظيع وشبح مريع. ميفستوفيليس - إنك يا هذا قد دعوتني وأن تأثير عزيمتك هو الذي اضطرني إلى مغادرة مكاني ومستقري ومقامي وأقدمني إلى هنا فماذا تريد؟ فوست - وهو يحملق بعينه - أريد ألا أراك فأني لا أقوى على احتمال منظرك وهول رؤيتك. ميفستوفيليس - إنك كنت مع ذلك تدعوني بتلهف وتطلبني بشدة لتراني وتطلب مني المساعدة فيما تصبو إليه نفسك فما الذي دهاك وأفزع فؤادك إنك كنت إلى قبيل هذه اللحظة تبني (علالى) من اللذات وقصوراً من الشهوات والمسرات فالآن إذ جئت لأنيلك ما تشتهي يأخذك الفزع والهلع. أطلب ما تشاء. أما فوست فيزداد اضطراباً وفزعاً وترتجف أعضاؤه ثم يستند على مكتبه وهو يقول: فوست - أخرج من هذا المكان فأني لا أريد لا الحقير ولا العظيم من الشيطان الرجيم. ميفستوفيليس وهو يقترب من فوست - هذا كذب صراح وقول هراء أيها الدكتور بل أنت تريد أن تحظى بلثم ثغر فتاة جميلة

وارتشاف خمر ريقها وقطف ورد وجنتيها وأن تعود إليك قوتك وشبابك ونضرة أهابك فأنا لعمري بمالي من القوة والسلطان في قدرتي أن أعطيك كل ما تريد وأن أكون في الأرض طوع أمرك وآتيك بكل ما تشتهي نفسك من المسرات واللذات وانظر إلى هذه الناحية من غرفتك تر تلك الفتاة الجميلة التي خبأتها لك وهي على ما تشتهي نفسك ويصبو إليه فؤادك المدنف وهي مرغريت أجمل فتيات ويمار وأخت الجندي فالنتان وخطيبة الشاب سيابل. فيلتفت فوست إلى تلك الناحية من الغرفة فيرى مرجريت في حلة زرقاء وهي ممسكة بيدها أزهاراً وتبسم له فيطير عقل فوست ولبه فرحاً ويهم باللحاق بها وهو يقول. فوست - هذه والله طلبتي ومنية قلبي وبهجة فؤادي. فيمسكه ميفستوفيليس من ذراعه ويوقفه وهو يقول. ميفستوفيليس - مكانك أيها الأستاذ العظيم والدكتور الحكيم أنها ستكون لك روحاً وبدناً ولكن بعد أن توقع لي على هذا العهد بل هذا العقد بيني وبينك بأنك تكون من نصيبي في الآخرة. ويقدم إلى فوست ورقة يخرجها من جيبه فيأخذها فوست بلهف ويذهب إلى مكتبه ليوقعها وهو يقول. فوست - هذا لا يهمني وأني أوقع لك بارتياح على هذا العهد وألف مثله إذا كنت سأنال من وراءه الحظوة بهذه الفتاة الفتانة. ميفستوفيليس - لا أقبل التوقيع على هذا العهد بيني وبينك بالحبر وإنما ينبغي أن توقع عليه بدمك. فوست - يتناول دبوساً ويكشف عن ساعده ويغرز الدبوس في لحمه ثم يوقع به على العهد الذي فيه ضياعه ويناوله الشيطان ثم يقول كمن يخاطب نفسه. فوست - نعم لا يهمني الآن ما سألقاه غداً ما دمت حاصلاً على هذه الغادة الهيفاء ألاعبها وتلاعبني وكفى ما مضى من عناء وما لقيت من تعب وبلاء فلأهنأ الآن ولأسر واغتبط وأرشف الكاسات وأمتع نفسي بهذا الجمال الفتان ثم ليأت ما هو آت. وبينما هو يتكلم يختفي ميفستوفيليس ومرجريت. (المنظر الثالث) فيهتاج فوست حين يرى نفسه منفرداً ثم يقول.

فوست - ويلاه أين ذهبت فاتنة قلبي أين ذلك الذي كان يكلمني ويمنيني نيل المنى أفي حلم كنت أنا أم في يقظة ما هذا الحلم الغريب وهذه الأمور الخيالية ثم يفتش في أركان الغرفة وهو يقول ويلاه أين ذهبا أين ذهبا أبلعتهما الأرض أم طارا في السماء ولما يتعبه البحث والتنقيب يسقط على الأرض ثم ينهض وهو يفرك جبينه ويقول. فوست - الخيال الخيال أين ذهب أين رحت يا مرغريت يا بديعة الجمال وربة الدلال وسالبة اللب أحي أنين قلبي وبلي غلة نفسي وأطفئي لهيب فؤادي تعالي تعالي أكذبي وخوني خطيبك وكوني لفوست خليلة ويا لها من أحلام. ويسمع قرع الباب فيقول. فوست - من هذا الطارق على بابي في مثل هذه الساعة من جنح الليل ألا تباً لك أيها الزائر ولعله تلميذي ونيار بل أراه هو بعينه. أني أمني النفس وأناجيها بأمور الغرام ويأتيني هذا الفتى الغر ليصدع رأسي بأسئلته الفلسفية والحكيمة فلنظهر له الاستياء حتى لا يطيل معي جلوسه. ويقرع الباب مرة ثانية. فوست - أدخل أيها الطارق. (المنظر الرابع) يقوم فوست من على كرسيه أمام مكتبه ويدخل ونيار وهو فتى وسيم في الخامسة والعشرين من سنيه لابساً رداء البيت وعلى رأسه قلنسوة الليل ويحمل بيده مصباحاً. ونيار - ما هذا يا سيدي الأستاذ أتجلس هكذا بلا نور ولا نار على أني استميحك الصفح عن مجيئي في مثل هذا الوقت فلقد سمعتك وأنا أتمشى في الطرقة تترنم بالشعر فخيل لي أن هذه رواية يونانية أنشأها الأستاذ فهو يترنم بما فيها من الرقائق الشعرية فجئت على أمل أن أشنف سمعي بمحاسن أنشاده. فوست - وهو مظهر للعبوسة - وما هي فائدتك من تعلم ذلك. ونيار - أريد أن أكون ضليعاً في فن الإلقاء التمثيلي والإنشاد والخطابة فإن هذا لعمري أحد وسائل النجاح العظيمة في هذا العصر والناس يعتقدون أن الممثل قد يصلح لأن يكون واعظاً.

فوست - قول أكثر الناس قول هراء يا ونيار ألا تعرف ذلك. فيضع ونيار مصباحه على أحد الموائد ويجلس أمام أستاذه بلا استئذان وهو يقول. ونيار - لا يؤاخذني سيدي الأستاذ فأني لمعيشتي هنا في عزلة عن الناس لذلك لا أعرف دخائلهم. فوست - وهو يبتسم - وهل عرفت الحي يا ونيار. ونيار - أما الحب فقد أحببت. فوست (ويقترب بكرسيه منه) صرح لي بما يكنه قلبك ومن هي تلك الفتاة الجميلة التي شغل حبها قلبك. ونيار - (وهو ينظر إلى فوست دهشاً متردداً) - من هي التي أحببتها؟ إنها لعمري إحدى تلك الفتيات الفاتنات والغانيات القاتلات اللاتي يود كل أنسان أن يحظى بقربهن ويشنف الأسماع بشهي حديثهن وهي وأن كانت فتاة فقيرة لا مال لها ولا عقار ولكن لها في دعج عينيها وهيف قوامها وجلنار خديها ما يغني الصب عن كنوز الذهب والفضة أنها ظبية من ظباء حديقة ويمار اللائي يخرجن إليها للرياضة والنزهة فيسبين العقول ويخلبن النهي ويفضلن أزهار الربيع ووروده التي يمشين بينها. فترجف أعضاء الدكتور فوست ويضطرب ويقول مخاطباً نفسه. فوست - ويلاه أيمكن هذا الفتى مزاحماً لي في حب مرغريت التي رأيتها اليوم لا لا أظن ذلك على أنه إذا كان ذلك كذلك فالويل له فأني قاتله لا محالة بسيفي وساقيه كأس الردى ولكن لا لا هذه أوهام يضلني فيها ما بدأت أشعر به من حب تلك الفتاة فلنغير معه مجري الحديث حتى لا أثير شبهه وظنونه. ويضع يده على كتف الفتى ثم يقول. فوست - أتحب أن تكتسب قلوب الرجال وتعظيمهم لك مما هو بغية أكثر الناس وأمنية كل شاب في سنك فأقول لك لا تؤمل أن تصل إلى ذلك في المجتمع ما لم يكن في قلبك حب وميل حقيقي للناس يكسبك رضاءهم ويحبب فيك نفوسهم. ولأزيدك بياناً فأقول. إن الوقوف في منصة الخطابة أو التربع في كرسي الوعظ وسردك العبارات المختلفة المقعرة وتكلفك لوك ما قد لاكته الألسن من قبل من المفخمات والنفخ في

رماد ذلك لإشعال جذوة القلوب كل هذا لا يكسبك إلا إعجاب الأحداث والأغرار ولا سبيل إلى أكثر من ذلك من النجاح ما لم يكن لك من قلبك دافع ومن نفسك أي وجدانك عامل إذ لا طريق للوصول إلى القلوب إلا بما تعمل القلوب. ونيار - وهو مطأطئ الرأس أمام هذا النصح وعيناه تتقدان - إذاً أنت لا تعتقد أيها الأستاذ أن الاختبار والتجربة في الخطابة والمران على الفصاحة والبلاغة على هذه الصورة في شيء من إنجاح شأن الخطيب على أني لعمري في حاجة إلى سماع بلاغتك ودرر ألفاظك لأني بفضل تعليمك يمكنني كسب القلوب ولا سيما قلب ذياك الجمال الذي بهرني. . . فوست محركاً رأسه - كلا كلا لا تعتقد ذلك يا بني وثق أن الحب سراب لامع يخدع عينيك ففر منه واستمسك بالأمور الجدية. أجل يا ونيار دعك من القشور وعليك باللباب. اترك المحسنات والتكلفات وعليك بحسن الذوق وصدق النية تفز بالنجاح ولا تقع في الشطط والخطأ الصريح. ونيار - ولكنك أيها الأستاذ طالما علمتني أن من أصول البلاغة والفصاحة. . . فوست مقاطعاً وهو رافع ذراعيه إلى العلاء - أنني معرض للخطأ وواجبي يقضي على الآن بإصلاح ما أفسدته عليك. ما هذا الذي اتخذته مبدأ لك من خلب العقول بفصاحة لسانك لاستجلاب رضا امرأة. لا جرم أنه شر مبدأ يجب الإقلاع عنه. ونيار - أنك أيها الأستاذ العظيم لم تكن تجري ذكر النساء قبلاً قط على لسانك. على أنه يلزم الإنسان لتجميل حياته الدنيوية القصيرة أن يلطفها بشيء من المسرات بمشاهدة امرأة له يسكن إليها ويتلذذ بسماع حديثها فإن إدامتي الاشتغال بالمؤلفات العتيقة والمقارنة بينها ينهك قواي فلذلك أسعى إلى إعطاء نفسي شيئاً من الراحة واللعب والمسرة دون أن أهمل مع ذلك حق العلم والحقائق التي أزاول تعلمها. فوست - إن هذه الحقائق لهي التسلية الوحيدة لقلبك فلا تفارقها ولا تعلق قلبك بشيء سواها ولكن ما هو اسم الفتاة التي تحبها يا ونيار؟ ونيار - لا أعرف اسمها. فوست - يجب أن تسلو هذه الفتاة وأن تدعها لخاطبها ولا تفسد على الناس بناتهم ولا تعكر

على العائلات صفوها فيما تختار لبناتها أما نحن فلنكب على العلوم فهي مسلاتنا الوحيدة يا صديقي وأنها لأعلى منزلة وأسمى مقاماً ويسمع دق الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. فوست - أسمعت. لا جرم أننا قد أطلنا السهر فينبغي أن نقف عند هذا الحد من سمرنا الليلة. فيقف ونيار ويمسك مصباحه ويتهيأ للخروج وينهض فوست أيضاً. ونيار - وهو خارج لقد كان بودي أن يطول سمرنا وحديثنا العلمي الشهي لولا أن يوم غد عيد الفصح المبارك ويجب أن نستريح لاستقبال العيد فاستودعك الله أيها الأستاذ الجليل. فوست - في حراسة الله يا بني. (المنظر الخامس) حين يخرج ونيار ويغلق فوست الباب ثم يأتي إلى كرسيه ويقبع فيه وهو يقول: فوست - أيصدق حدسي ويكون ونيار تلميذي خصمي ومزاحمي في حب مرغريت لعلي أكون واهماً على أن ميفستوفيليس رأ الشياطين قد وعدني بأن تكون هذه الفتاة لي وحدي وأن قوته وسلطانه لحريان بأن ينيلاني مرغوبي ويبلان غليل نفسي الذي يؤجج النار في الحشا، ويلاه أيقوم بنفسي وأنا الأستاذ الكبير والعالم النحرير أمثال هذه المنازع حتى صرت بعد أن كنت أعشق العلم وأسفاره أصبو إلى امرأة وأود لو أني جاثٍ أمامها الآن على الركب. ويبقى برهة غارقاً في أفكاره ثم يقول كأنه يخاطب تلميذه ونيار متهكماً به. فوست - سر في أوهامك يا ونيار ما شئت أن تسير واتعب في التنقيب عن العلم وتحر البلاغة ما وجدت إلى ذلك سبيلا، لا جرم أن هذه المنازع واللذات لا تسر إلا أصحاب العقول القاصرة مثل عقلك على أنه ينبغي لي أن أخفض الصوت في هذا المكان الذي ظهر لي فيه الشيطان وأني لأشكر له صنعه وأحمد إليه عطاءه وما مناني إياه وأراني أشعر بما يدب في جسمي من الحياة اللذيذة التي وعدني بها غير أني أخشى أن يكون ما شاهدته ووعدني به غروراً واضعات أحلام سقطت أو تسقط بي إلى الحضيض وقد أضيف إليها شهوة جديدة تزيد متاعبي وتنغيص عيشي. ثم يقف بجوار فراشه ويقول:

فوست - علام التماس الراحة والنوم قد جفا أجفاني زمناً ولزمني الأرق والسهاد وصرت الإنسان الضال المشرد الأفكار الذي يتردد بين اختيار منزل في السماء أو امرأة في الأرض، هل يجب عليّ أن لا أسمع إلا لطالب الجسد فاستسلم إلى ما تميل إليه نفسي من الرغائب؟ هل ما عراني من التصورات المملوءة بالآمال تجسر الآن أن تطوي أجنحتها وتلزم السكون حتى تتلاشى وتموت في نفسي؟ كلا كلا إن كل ما يحيط بي في هذه الغرفة وموضوع على هذه الموائد أو معلق على حيطانها أهو شيء آخر غير مادة ترابية؟ أمور زائلة وغرور باطل يظهر ف ألوف من الصور وما هو الأطعمة للدود وعرضة للفناء على حين أن ابتسامة واحدة من ثغر فتاة جميلة تحيي النفوس وتبل صداها. ثم يصمت قليلاً ويقول: فوست - أفي هذا المكان أجد ضالتي وما ينقص قلبي! ما الذي أستزيده من دراسة هذه الأسفار الضخمة التي عذب مؤلفوها أنفسهم باستخراجها للناس. هل يذكر التاريخ فرداً واحداً منهم عاش سعيداً منهما حتى الممات: ثم يذهب إلى المائدة ويأخذ منها جمجمة إنسان ويقلبها بين يديه ويقول: فوست - ما تقولين لي أنت أيتها الجمجمة الخالية الجافة. أهاج أفكارك أيام حياتك ما يهيج أفكاري أنا اليوم؟ أنشدت نور الحقيقة وصبحها وواصلت البحث والتنقيب عنها حتى وقفت على تلك الحقيقة التي تفرّ منا وتحتجب وراء حجب الغيوب كلما واصلنا البحث عنها؟ ثم يجيل بصره في الغرفة ويقول: فوست - وهذه العدد والأدوات إلا أراها تهزأ بي وبمجهوداتي السابقة وقد كنت بواسطتها أعمل على باب العلم وأعالج فتحه معتقداً أنها تعينني على فتحه فوجدتها تزيده ارتاجاً. لعمري أن الطبيعة المملوءة بالأسرار والمعميات لا يسهل عليك حل رموزها وكشف غوامضها وأن مالم ترض هي باختيارها إجلاءه لنفسك من حقائقها فلن يمكنك أن تنزعه منها نزعاً بالدلاء والبكرات فيالك من أدوات عتيقة وعدد لا فائدة منها: ثم يطرح الجمجمة على المائدة ويضرب بقبضة يده على الكتب فتعثر يده على زجاجة فيأخذها بلهف ويرفعها إلى العلا ويقول: فوست - هذه هي الضالة المنشودة بل هذا هو الدواء الناجع ليأسي ولئن كان الظلام مخيماً

على هذا المكان فإن ما في هذه الزجاجة من العقار ليضيء بنور لامع. ثم يفتح الزجاجة ويقول: فوست - أيها الشراب اللذيذ الذي يعجل بالشفاء من جميع الأدواء والذي جمعته من أصول النباتات والأعشاب وكل الجواهر السامة التي تريح الإنسان بالموت على أيسر حال أن برؤيتك تزول الهموم وبتعاطيك تذهب الآلام والغموم التي تحط بكلكلها عليّ فهيا لنسرع باللحاق بعالم آخر غير هذا العالم (ثم يضحك ويقول) فوست - أجل إن كل ما خُبّرتُ عنه وخَبَرتُه في هذه الأرض إن هو إلا أكاذيب وأضاليل وليس ما وُعِدتُ به من عناق مرغريت والثمل برشف ريقها العذب ما هو إلا خداع بل حلم حلمت به وأن تلاميذي ليهزأون بي فلنغادر هذا العالم ولنفر من على ظهر الأرض ولنترك سكانها وشمسها وسماءها ولنجرأ على اقتحام هذا الباب الذي يتهيبه العوام ولنثبت للناس في هذه البرهة أن من الشجاعة اقتحام هذا الأمر واقتراف هذا الجرم. وهنا يسمع على بعد قرع الأجراس وأناشيد كنائسية في صعود المسيح عليه السلام فيقف قليلاً ويقول: فوست - ما ألطف هذه الأصوات الكنائسية وأرق هذه الأناشيد السماوية التي أعرف مبناها ومغزاها ولكنها أضحت وا أسفاه لا تشفيني ولا يلين لها قلبي فلندعها لأصحابها ولنتشجع فيما نحن بسبيله، أجل تشجع أيها الدكتور وتناول هذا السم وسلام عليك أيها الفجر الباسق. (المنظر السادس) ويشرع في وضع الزجاجة على فيه فيأتي ميفستوفيليس من خلفه ويمسكه وينزع الزجاجة من يده ويلقي بها على الأرض فتنكسر. ميفستوفيليس - ما هذا اليأس أيها الدكتور العظيم ألم أعاهدك على نيلا تشتهي نفسك: أتظن أن الشيطان ينقض عهده أو ينكث وعده. كلا كلا بل لا بد لي من إعطائك ما تريد فمرغريت ستكون لك وشبابك سيعود إليك. فوست - لقد كنت حسبت مجيئك وعهدك خيالاً بل حلماً من الأحلام ولكنك إذ جئت الآن للوفاء به فعجل بما وعدتني. ميفستوفيليس - اذهب إلى هذه المرآة وانظر أولاً صورتك فيها. (فيذهب فوست إىلى المرآة وهنا تتغير صورته ويعود إليه شبابه وزهرته فيدهش ويصيح قائلاً)

فوست - عجب عجاب. . أني صرت شاباً وعاودتني صورتي وهيئتي يوم كنت ابن خمس وعشرين سنة فيالسعادتي ويالحسن حظي فمتى أذهب للقاء مرغريت فاتنة قلبي (ثم يعود إلى ميفستوفيليس). ميفستوفيليس - ستراها قريباً وتحادثها وسأدبر لك الحيلة في الاجتماع بها فنم الآن قرير العين مرتاح الخاطر ولا تظن الشيطان يخلف وعده أصدقاءه. فوست - وهو ينظر إلى هيئته ويمسك ثيابه بيده - ياللسرور وياللهناء لقد عدت شاباً صغيراً ولكن ما العمل في تلاميذي ومريدي إذا رأوني على هذه الصورة أيعرفونني أم ينكرونني. ميفستوفيليس - لا تخف فأني سألازمك واتزيا بزيك السابق وأقابل بدلك تلاميذك وأعلمهم علمك فلا تغتم لذلك ولا تجدن فيه غضاضة بل ينبغي لك أن تسر به وتنصاع لأوامري وأني سأسير بك في العالم السيرة التي تشتهيها نفسك من الحظوة بحبيبة قلبك والتمتع بمسرات العالم ودعك من كل هذا التعب الذي تقاسيه والشقاء الذي تعانيه والآن استودعك الله فنمر العين مرتاح الخاطر وسآتيك بعيد ساعات قليلة لآخذك معي لترى مرغريت بهجة نفسك (ويفترقان فيذهب فوست إلى فراشه ويتقدم ميفستوفيليس من المسرح وهو يقول:) ميفستوفيليس - لقد تم لي إغواء هذا الرجل العظيم وما أوقعه في شركي غير كبريائه ونعاظمه فسلطني الله عليه حتى أغويته قصاصاً منه وعقاباً له على ما دخل نفسه من العجب والغرور بعلمه ومعارفه الواسعة، من كان يظن أن الدكتور فوست عالم ألمانيا الأوحد وحكيمها الأشهر المتبحر في جميع العلوم البشرية يقع في شركي ويعطي بيده في فخي على أيسر سبيل بمجرد أن زينت له ما قام بنفسه من الشهوات التي طالما جاهدها وقمعها في نفسه وحاربها في سواه وقد بلغ من الكبر عتياً، لا جرم أن أحوال الإنسان عجيبة وأطواره غريبة فبينا هو ملك كريم إذا بك تراه شيطاناً رجيماً لأن فيه لعمري جانباً ضعيفاً من الميول إذا هو لم يقومها ويقاومها جهده ويسدد خطاه في حياته حتى النهاية قادته صاغراً إلى البوار مهما كان عظيماً وأعنت أنا عليه بسببها وما ربك بظلام للعبيد. (ثم يرفع الستار)

التربية الطبيعية

التربية الطبيعية أو أميل القرن الثامن عشر تأليف جان جاك روسو وتعريب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني (تابع) أخته فإذا ضمها مجلس تجاذبا أطراف الكلام في أدب وظرف كأنهما غريبان لم ينتظم عقد اجتماعهما إلا الساعة. وإذا انتكث حبل الألفة بين أفراد الأسرة الواحدة ويبس الثرى بينهم وجفت موارد الصفاء ونضب معين الإخاء فليس بمستغرب أن ينصرف كل واحد عما ليس فيه لذاذة فيتدلى إلى ما هو أحط وأدنى ليسد ذلك النقص الذي يجده ويملأ ذلك الفراغ الذي يحسه. وهل في الناس من بلغت به البلادة والغباوة بحيث لا يفطن لصدق قولنا وصحة نظريتنا هذه؟ أما ذلك الأب الذي يجتزئ بأن يطعم بنيه ويكسوهم فلم ينهض إلا بثلث ما عليه لأن عليه أن يخرج للنوع رجالاً وللمجتمع رجالاً مدنيين (ذوي أميال مدنية) ولامته عمالاً حضريين. فأيما رجل لم يؤد هذا الدين وكان لا عسر عليه في الوفاء به فقد أرتكب جرماً لا مخرج له من عهدته ولا متبرأ له من تبعته وهو إذا أدى النصف فالذنب أشد والجرم أكبر لأن من لا يأنس في نفسه القدرة على الاستقلال بواجبات الأب فليس له أن يكون أباً وليس يبرئه من الملام على تفريطه في العناية ببنيه وتأديبهم رقة الحال أو كثرة المشاغل وأنت أيها القارئ أعرني جانب الثقة واعلم أن صاحب الضمير إذا ظهر بواجباته وتهاون بها فلا بد أن يأتي يوم يذوق فيه وبال تفريطه ويحتقب من تقصيره تبعة الندم ولات ساعة مندم. قالوا وحسب الرجل منا أن يدفع ولده إلى مؤدب يقومه ما استطاع ويصلحه ما قدر وليس في ذلك كلفة أو عناء لأن أطبع الطين ما كان رطباً، وأعدل العود ما كان لدناً، وليس كل والد بقادر على تأديب ولده بل ربما كان غيره من الناس أقدر على تدارك الخلق الذميمة كلما نجمت وقذعها إذا هجمت قبل أن يظهر تضعيفها ويقوي ضعيفها. وهو قول ظاهره فيه الخير وباطنه من قبله الشر وليت شعري أيروم طالب ذلك شيئاً مما وأمراً سهلاً وكيف لنا بمن ينهض بذلك؟ وهل يستقل بمثل هذا العبء أجير! ورب مستفسر يقول وهل لا سبيل إلى العثور برجل يغني غناء الوالد ويجزيء مجزأته

وجوابي على هذا أني لا أدري ولعلنا جميعاً لا ندري إلى أي درجة من درجات الفضيلة ترتقي نفوس البشر. ولنفرض أنا وجدنا ضالتنا فإنه ينبغي أن تزن عمله الذي تند به لترى هل له غناء فيما تسنده إليه وكفاية فيما تقلده إياه. ولتعلم مبلغ الكفاية التي ينبغي أن تكون معه ليقوم بما تحمله. وأول ما يخطر لي في ذلك أن من يتدبر ما يكلفه المؤدب الذكي الأروع خليق أن يفطم نفسه عن طلبه ويزمها عن التماسه لأن أيسر مما يحاول من ذلك أن لا يزال يرافع نفسه ويخافضها حتى يصبح مؤدباً! وأنك لو فكرت في ذلك الوالد الموسر الذي سها عن تربية ولده وزعم أن الشواغل صرفته عن تأديبه فبذل ماله للأجنبي وهو يحسب أنه سيتقدم فيما استكفاه من أموره واستحمله من واجباته ويظن أنه بماله يستطيع أن يشتري لأبنه رجلاً يسد مسده ويمضي مضاءه لرأيت رجلاً قد سد عليه الجهل منافذ النظر وقطع عليه التقليد وجهة الفكر وهو إنما اختار لأبنه خادماً يتبعه ويتوخى مرضاته في كل ما يقول ويفعل وليس من نتيجة لذلك إلا أن يصبح الولد مثله لأن عيوب الطفل معقودة بعيب مربيه. ولقد قرأنا كثيراً مما كتبه الناس في صفات المؤدب الكفؤ ومناقبه وليس يجب في مذهبي أن تجتمع فيه خلال الفتوة والمروءة جميعها بل أن ألزم من ذلك عندي أن يكون من شرف النفس وإباء الطبع بحيث يأنف أن يبيع نفسه فإن من الأعمال ما هو أجل من أن يكون منها كسبنا ومعاشنا. وما لو جعلناه تجارة لكنا غير أهل له ومن ذلك عمل الجندي والمدرس. وإذ كان الأمر كذلك فإن خليقاً بك أن تتحول عن طلب مؤدب لبنيك يتولى تربيتهم ولقد قلت لك فيما أسلفت من الكلام أنك أحق من تولي ذلك وأقدر، فأما أنا وسواي فأين نقع من ذلك. فإن لم تستطع وكان الأمر من فوق إمكانك فإن الرأي عندي أن تستظهر بصديق تشد به أزرك وتشركه في أمرك. ولقد طلب إليّ مرة رجل لا أعرف عنه سوى أنه من ذوي المراتب السنية والمنازل الملحوظة أن أؤدب ولداً له فرفعني بذلك وشرفني وأعلى مقامي غير أني أبيت عليه ذلك. ولقد كنت بالشكر أحق مني بالكفر، وكان الحمد على الإخلاص له أولى من الذم ولو أني أطعته ثم أخطأت وزغت عن وضح المحجة لما أفلحت في تربية ولده ولكانت النتيجة سوءاً. على أني لو نجحت لكانت شراً وأسوأ إذ لو صح تأديبي له لنبذ الولد ألقابه وأبى أن

يكون أميراً أني أعرف بواجب المدرس وأبصر بخطارة عمله من أن ألبي مثل هذه الدعوة وأن كانت من أمير كبير. ولأنا أشد إصراراً على العصيان ومضياً على الإباء إذا كان الداعي صديقاً لي. ولعل الناس إذا قرأوا كتابي هذا يكفون عن الإلحاف في مسألتي والاحتفال في عذلي ورجائي إلى من يحسبون أن في وسعهم حملي على الرضا بالهوادة والمهاونة أن لا يذيقوا أنفسهم مرارة الرد والرجوع بالخيبة. فأني أعلم بنفسي وأشد مناصحة لها ولئن جهلتها فكيف لي بمعرفة غيرها. ولقد اختبرت نفسي مرة والله يعلم أني ما حمدت مخبرها على أن فيما أزاول من عملي ما يظهر عني ما يلزمه الناس من اللوم وما كنت لأكلف نفسي إعلان ذلك العزم لولا أن في الناس من يتهم عزمي ولا يثق بصدقي. ولذلك قد اعتزمت أن اتخذ لنفسي تلميذاً وهمياً لا وجود له وفرضت أن لي من السن ووفور العقل والرسوخ في العلم وغير ذلك من المواهب والملكات والأسباب وسائر ما يستعين به المرء ويتآدي به لتربيته حتى يبلغ كمال البنية والعقل وهذه الطريقة خير عندي لمن يخشى أن يتيه في شعاب البحث ويهيم في أودية الكلام. ليكون إذا آنس من نفسه جنوحاً عن الجدد قادراً على حبس نفس الكلام ورد جماح المقال. وسبيل ذلك أن يجرب الرأي في تلميذه لينظر من أين مجراه. وأرى عدا ذلك خلافاً لما عليه الناس جميعاً أن يكون المؤدب في شرخ شبيبته وربيع عمره ولولا أن يقال مجنون مختلط لقلت ينبغي أن يكون صبياً كتلميذه ليكون له رفيقاً مؤانساً وليستريح كل إلى صاحبه ويسكن إليه لأن الطفل عادة لا يطمئن إلى شيخ ولا يأنس به أنسه بطفل مثله يسايره في أهوائه وملاهيه فإذا نشأت بين طفل وشيخ صحبة رأيتها جافة جامدة وقد يداجي الطفل صاحبه الشيخ ويتملق له ولكنه لا يميل إليه بالود أبدا. وقالوا يشترط لنجاح المؤدب أن يكون قد عالج تأديب طفل آخر من قبل وهذا الشرط منهم يدخل في باب الإعجاز إذ حسب المؤدب أن يربي طفلاً واحداً على أن هذا الشرط لو كان لازماً لنجاحه وكان لا بد للمؤدب من تربية أثنين لما لما كان له حق في معالجة الأول منهما حتى يحتسب ما عند نفسه من لمقدرة بأن يمارس تأديب غيره أولاً! وأنت إن دخلت من هذا الباب فلن تصيب منه مخرجاً.

على أن هناك فرقاً كبيراً بين أن يتعهد الواحد منا غلاماً يافعاً أربع سنين وبين أن يتولى هدايته وإرشاده خمساً وعشرين. فقد جرت عادة الناس إذا شب أبناؤهم أن يدفعوهم إلى مؤدب يصحبهم في غدواتهم وروحاتهم ويوقفهم على شيء من العلوم وأنا لو استطعت لدفعتهم إليه ولما يولدوا. وحسبه أن يحملوا عنه علم الواجب الإنساني وهو علم واحد صحيح لا يتجزأ برغم ما أثر عن زينوفون في كلامه عن تربية الفرس. وعليه أن يكون أشد عناية بهدايتهم وأمر إرشادهم وتقويمهم منه بتلقينهم شيئاً من العلوم والمعارف الأخرى وعلى تلاميذه أن يستقروا ذلك من ذي نفوسهم ويستخرجوه باجتهاده. وليس بالفقير حاجة إلى التربية فإن حالته الاجتماعية قد دفعته إلى نوع من أنواعها لا يستطيع أن يعدوه أو يتجاوزه بحال من الأحوال على أن تربية الطبيعة كفيلة بأن تعده لكل مراتب الاجتماع وحالاته وليس من الحزم أصالة الرأي أنه تربي الفقير ليكون غنياً ولا الغني ليصير فقيراً وأنك لو تأملت لوجدت عدد من يوقعون أنفسهم في مهاوي الخراب أكثروا أكبر ممن ينتقلون من الفقر إلى الغنى وهذا بالنسبة إلى عدد أفراد الطبقتين. فلنختر تلميذنا أميل من طائفة الأغنياء وليس يسوءني أنه من الشرفاء والوجهاء فلعلي أن أنقذه من مخالب الأوهام وأخلصه من حبائل الجهل. وأميل فيما عدا ذلك يتيم، ذهب الموت بأمه وأبيه، فخلالي به الجو وخلاله بي، فليس له من أحد يقوم عليه سواي، ولا تجب عليه الطاعة إلا لي، فهو وإن كان يجل أبويه ويعظمهما غير أنه لا ينزل إلا على حكمي ولا يقعد إلا تحت أمري. ولست أسأله شرطاً غير ذلك. وأني أضيف إلى هذا الشرط أمراً آخر يتفرع في الحقيقة عنه وينشعب منه وهو أن عري أخائنا لا انفصام لها واجتماعنا لا افتراق فيه اللهم إلا أن نشاء ذلك. وكذلك ينبغي أن يكون الطالب والأستاذ ليستريح كل إلى معاشره متى أيقن أنه مصاحبه على العلات. وليصبح كل شغل صاحبه وهمه. فأما إذا علما أن شملهما سوف ينصدع وضمهما لا بد منتشر انصرف كل واحد عن أخيه واشتغل عنه بنفسه وبالنظر في مستقبل حياته. وبذلك يثقل ظل اجتماعهما فيرى الطالب أن أستاذه رقيب عليه يحصي أنفاسه ولا يزال يتسقطه ويتتبع عثراته. ويرى الأستاذ أن تلميذه عبء ثقيل يحن إلى اليوم الذي فيه يطرحه ويلقيه

وبالجملة تنقطع بينهما أسباب الثقة والود وإذا وقعت الوحشة نكب الأول عن طاعة الثاني وسها هذا عن رعاية ذاك. وليس ينبغي للوالد أن يفضل بعض بنيه على بعض فإنهم جميعاً أبناؤه وعليه أن يوزع بينهم حبه وعنايته على السواء. وهم ودائع عنده القوى منهم والضعيف والجميل والقبيح والصحيح والمعتل ولسوف يسئل عن الوديعة من أودعها. والزواج عقد بين الرجل والطبيعة كما أنه عقد بين الرجل وزوجه. وإن على من يحاول أن يستقل بما لم تكلفه الطبيعة أن يأخذ لذلك العدة ويهيء له الأسباب من قبل وإلا كان مسئولاً عما ليس له به يدان. فإن الذي يكلف نفسه تأديب طفل منسرق القوى مسلوب المُنّه مدنف الجسم يعتاض من وظيفة المؤدب وظيفة الظئر؟ لأن وقته يضيع في حياطة حياته والمحافظة عليها بدل أن يصرف في إرشاده وتسديده وتثقيفه وتقويمه. ثم أنا أخشى عليه إن مات الطفل أن تجيئه أمه عبرة باكية وتقبل عليه لائمة شاكية ولعله قد مد في عمره وأطاله وكلأه من الموت سنين عديدة. ليس لي في الخوّار الهشيم حيلة ولو أنسأ الله في أجله حتى يبلغ به الثمانين. فإن مثل هذا لأخير فيه لنفسه ولا للناس. لأنه يظل حياته يرجف من الموت ويتحصن منه وراء الأطباء والصيادلة وما يغني الأطباء ولا الصيادلة. ولأن جسمه عقبه في سبيل تهذيب روحه وأي فائدة في العناية بمثل هذا فإذا فقدناه كانت الخسارة مضاعفة على المجتمع! كلا. فليقم رجل منكم غيري على هذا الضاوي الضعيف. وله مني الشكر على جميل صنعه ومعروفه وكيف لي أن أعلمه كيف يعيش ولا هم له إلا اتقاء الموت؟ ولا بد للجسم أن يكون ضليعاً مريراً ليقوى على النهوض بتكاليف الروح. فإن أحسن الخدم أشدهم أسراً وأوثقهم مُمرَّاً وأنت خبير أن الإلحاح على الشرب يهيج الإحساس ويثير العواطف ويسلب المُلِجَ قوته على مر الأيام وأن التعذيب والصيام يبلغان بالمرء إلى مثل ذلك والجسم إذا ألح عليه الضعف لج في العصيان وهو على العكس مطواع إذا تماسك واشتد. وكلما ضعفت الأجسام اشتد بالنفوس النزاع إلى الشهوات وطغى بها طلب اللذاذات. وأسوأ ما تكون هذه النفوس خلقاً إذا أعياها التماسها وأعجزها بلوغ مأربها منها. وإذا تداعى الجسم فلا عجب أن تتضاءل الروح وتطمئن إلى الضعف وتخلد إلى الفتور

وعلى ذلك قامت دولة الطب وملك الصيدلة وما علمت شيئاً أضر بالرجال من هذين ولست والله أدرى من أي داء يشفينا الأطباء وأني على هذا لأدري أنهم ينشرون فينا الجبن والخور وسرعة الاستنامة إلى كل قول والخوف من الموت. ولعمري لئن صح أنهم يصلحون الجسم بما يطبون فإنهم يقتلون الشجاعة ويفتكون بالبأس وما خير أجسام ميتة تغدو وتروح. إن حاجتنا إلى الرجال لا الأشباح وما عهدنا الأطباء عندهم ما نبغي ونريد. وقد أصبح الطب (موده) وحق له أن يكون كذلك فإنه ملهاة النومة ومسلاة المتبطل لما لم يجد ما يعمله جعل يدافع وقته بالطب وهو يحسب أن ذلك يطيل عمره ويمد أجله. ولو ابتلى هؤلاء بالخلود لكانوا أتعس الناس وأشقاهم لأن الحياة وهي كل ما كانوا يحرصون عليه تصير إذ ذاك في مأمن من غوائل الموت فلا يكون لها عندهم قيمة أو ثمن. وأمثال هؤلاء في حاجة إلى الأطباء ليتوعدوهم كي يداجوهم ويراؤوهم وليذيقوهم في كل يوم ألذ ما يشتهون وأمتع ما يطلبون - أعني البعد من الموت! فإذا كانت طلبتك الشجاعة الحقة والبأس الصادق فالتمسها حيث الأطباء غير موجودين وابغهما حيث الناس لا يعرفون ما الأمراض وما عواقبها ودر عليهما بين من لا يحفلون بالموت ولا يذكرونه. لأن الإنسان الفطري يعيش ويموت في سكينة كما تموت الأشجار. وإنما يهزم فؤاده وينسيه كيف يموت الأطباء بما يصفون والفلاسفة بما ينصحون والقسس بما يخوفون. فائتني بتلميذ لا حاجة به إلى هؤلاء جميعاً إلا فأليك به عني فأني لا أحب أن يفسد عليّ غيري من أمره ما أصلح. وأطلق إلى أن أفعل به ما أشاء أو فدعني وأنظر غيري من الناس فهم كُثر فأني رأيت لوك وهو من تعرف تقول وكان قد أنفق على طلب الطلب بعض العمر لا ينبغي أن يطب للأطفال لا على سبيل الحيطة ولا فيما ينتابهم من العلل البسيطة وأنا أزيد على ذلك وأضيف إليه أني لما كنت لم استوصف طبيباً أبداً فكذلك لن استطب لتلميذي أميل: ألا أن تكون حياته في خطر ظاهر وما أحسبهم يقدرون إذ ذاك على أكثر من أن يقتلوه. وخير علوم الطب عندي وانفعها قانون الصحة وما هو لو تدبرت إلا فضيلة لا علم فإن الاعتدال والعمل خير ما يتداوى به المرء لأن العمل يرهف من حد شهوته (يعني شهوة

الطعام) والاعتدال يمنعه من أن يسيء بها إلى نفسه. وما خلق الناس ليحتشدوا كالأغنام في مكان بل خلقوا ليتفرقوا في مناكب الأرض وينتشروا في نواحيها ويحرثوها ويستخرجوا خيراتها. وما تفسد الناس إلا من اكتظاظ البلاد بهم فإن أمراض الجسم والروح بعض نتائج الازدحام والإنسان أقل الحيوانات صبراً على الاحتشاد واطاقة للازدحام وأكثر ما يودي الموت بالناس إذا غص بهم مكان وامتلأت منهم ناحية والمدن فأعلم قبور النوع الإنساني وأجداثه وسكانها أسرع الناس فناءاً وفساداً وما زالت القرى هي التي تمد المدن بالصالح من أهلها وناسها. (متبوع)

العلوم والفنون

العلوم والفنون فلسفة الاختيار - الجسم والدماغ - نظام التعاقب الزراعي 1 فلسفة الاختيار بحث بسيوكولوجي علمي مسألة الاختيار أو بمعنى أعم طرق التصرف بالحرية الشخصية لمسألة دقيقة يتوقف عليها سعادة الحياة وشقاؤها. وقد وقفنا على بحث خطير للأستاذ روبرت ريد مدرس العلوم الاجتماعية في كلية بيروت رأينا أن نعربه هنا عن مجلة الكلية قال: إن الفشل والنجاح في الحياة متوقفان على جواب السؤال الآتي: كيف أتصرف باختياري تصرفاً لائقاً صحيحاً؟ وأول ما يجب ملاحظته هو أننا لا نعمل عملاً إلا وله سبب كاف يقف والعمل في ميزان واحد وعلى ذلك يمكننا أن نحلل موضوعنا التحليل الآتي: أولاً - يوجد سبب لكل عمل. هذه قضية بديهية حتى أنها لا تحتاج للبرهان. ولا يعمل عملاً بدون سبب إلا المجانين. فالسبب ضروري. ومهما كان السبب وجيهاً أو سخيفاً. حقيقياً أو مكذوباً. نافعاً أو ضاراً. مهما كان السبب أو الدافع فإنه يجب أن يكون. ثانياً - السبب الغالب في الاختيار هو الإرادة أو بمعنى واضح الارتياح للعمل - يعجبك عمل وترى أن هناك أسباباً قوية فتعمله. في علم الاقتصاد حل وجيه لهذه النقطة لأننا نرى العمل والسبب ظاهرين تماماً. فالإنسان بحكم الطبيعة في حاجة فهو يشتغل ليسد تلك الحاجة. سبب وعمل معقولان تماماً. وهذا قانون عام في الطبيعة البشرية. وهذا ركن فقط من أركان حياتنا البيسكولوجية التي هي عبارة عن مجموعة رغبات وآمال وكذلك دوافع وقوى لتحقيق تلك الرغبات والآمال وفي كل عمل نرى القانون المتقدم صحيحاً - نرى أن الإرادة هي السبب الحقيقي للعمل -

الإرادة مجرد الإعجاب والارتياح والسرور الناشئة من العمل بدون فحص أو تدقيق. الإرادة عمل نفسي اختياري محض. ولكن هنا يقوم اعتراض هائل على ذلك فإن الإنسان كثيراً ما يعمل أعمالاً لا تكون اللذة والارتياح البواعث الحقيقية في عملها. يؤخذ الطالب إلى الكلية - مثلاً - ويرغم على إتباع قانون لا يرى من نفسه باعثاً عل العمل به ولكنه مرغم على العمل به وعدم مخالفته. فماذا يكون ذلك؟ القانون طبعاً يتعارض مع حريتنا ومسراتنا التي يمكن أن تنجم عن الحرية المطلقة. فهل يمكن أن نتبع القانون بارتياح ولذة أو بعبارة أخرى هل نشأت طاعتنا للقانون من اختيارنا المجرد الحر. الجواب نعم. أطعنا كأنه من لوازمنا ومن الأمور الضرورية التي يجب عملها. النظرية احتفلت هنا. قلنا أولاً أن القانون يتعارض مع ارتياحنا لطاعته ثم قلنا أننا نطيعه بارتياح ولذة فما سبب ذلك التناقض. لا تناقض أبداً - إن حركة الاشمئزاز التي نقابل بها القانون لأول مرة. حالاً تقابل بل تخمد بحركة فكر وتعقل إن لم نطع القانون نطرد من المدرسة هذا هو الفكر المتبادر إلى الذهن عند معاكسة القانون. فنرجح طاعتنا للقانون عند معاكسته والطرد من المدرسة وهذا الترجيح نوع من الاختيار الحر الذي يرافق إرادتنا. ولما نقول أن الإنسان يباشر أعمالاً لا رغبة له في عملها يجب أن نذكر أن الرغبة محورة في الوسط الذي يحيط بنوع العمل ورغبتنا متوقفة على مقدار ما في العمل من الحرية واللذة. مثال ذلك. إذا كنا أحراراً في إرادتنا المطلقة أو ما نسميه نحن الإرادة المطلقة إذا كانت توجد. إذا كانت لنا هذه الحرية فيمكننا أن نستمتع بأموال جيراننا. ولكن مع الأسف جاري ساهر على أمواله يحرسها. فهذه النقطة التي تعاكس رغبتي هي قيد من القيود الطبيعية للإرادة المطلقة التي خمدت في الإنسان ولا وجود لها الآن.

وعلى هذا يمكننا أن نؤكد أن كل الأعمال التي نباشرها أساسها الإرادة واللذة في عملها. ثالثاً - إذا كنا نختار الاختيار الصحيح يجب أن نعمل العمل الصحيح المنطبق على إرادة الاختيار. المهم أن نراقب إرادتنا وتفحص العمل قبل مباشرته ونسأل أنفسنا هل يليق أن نأتي هذا العمل مع وجود السبب والرغبة في عمله. هنا يجب أن تكون قوة الأخلاق. قوة المبادئ. القوة التي تحفظ توازن الإنسان كافية لتدفعه للعمل وإلا فهو يندفع لكل عمل مهما كانت قيمته من الصلاح والفساد ويعتقد أنه يؤدي أعمالاً لها أسباب وتسببت عن الناموس الطبيعي وهو مجرد الاختيار. صحيح إن الناموس صادق ولكن أخلاق الرجل فاسدة إذن فكل أعماله وإرادته واختياره فاسدة. إن الأميال العامة في الإنسان لهي الميزان الحقيقي لأخلاقه. ويمكنك أن تحكم على الرجل بدون تردد بمجرد سماعك أمياله وأغراضه في الحياة. وكلما كان مادياً يميل للثروة والسلطة كلما كان فاسداً وكانت إرادته واختياره في نظام فاسد. وهنا يقوم اعتراض. إذا كنا نعمل الأعمال التي نريدها ولا بد من أن كل إنسان يريد أن يكون شريفاً عاقلاً ممدوحاً لما أذن لا يكون كل إنسان بهذه الصفة. لماذا يعكس القانون ويوجد أناس يعملون أعمالاً لو عرضت عليهم بصورتها الحقيقية لنفروا منها وتبرأوا. الجواب على هذا السؤال في النظرية الآتية! رابعاً - ما هي النتائج المحتمة للعمل؟ هذا السؤال هو الجواب المقنع للاعتراض المتقدم. ليسأل الإنسان دائماً ما هي النتائج المحتملة للعمل وإذا كان على جانب من العقل يظهر له العمل بكل التقادير التي تحيط به. مثال ذلك. وقف طالب في الملعب المخصص للألعاب الرياضية للمدرسة ونظر الفائز الذي نال الجائزة والإعجاب به فقال في نفسه يجب أن أفوز السنة الآتية وأنال الجائزة ولما رجع للمدرسة ابتدأ أن يمرن نفسه كل يوم في الخلاء ولكن بالطبع لا يساعده الطقس يومياً على هذا العمل فيكون بين رادتين - إرادة الرجوع عن عزمه أو الاستمرار فيه مع تحمل مصائب الطقس وعلى ذلك نأتي إلى نقطة النتائج المحتمة

وعلى ذلك نسأل السؤال الآتي. هل يوجد قانون يلزمه أن يتبعه الإنسان حتى يصل للنتائج المحتمة أو أن الصدفة تسوقه إلى النتائج المذكورة. إن كثيرين لا يؤمنون فقط بالصدفة بل ينتظرونها كأنها محتمة وهؤلاء - حسب القوانين البسيكولوجية - فاقدوا قوة الحكم على إرادتهم لتنفيذ أغراضهم. خامساً - أننا بحسب تمرين قوانا قادرون على تنفيذ كل ما يعرض أمامنا من الأماني والآمال للوصول إلى النتائج المحتمة. ولذلك طريقتان. الأولى. إتباع طرق الوصول إلى النتائج حالاً مهما كانت العقبات. يضع الإنسان أمام عينيه غرضاً قلما ينثني حالاً عنه إلا إذا كانت إرادته لم تبت الحكم فيه أولاً والتردد في الحكم هو الشك والشك نقص إرادة. قيل لرجل في المحل الفلاني كنز إذا حفرت عشرين متراً وجدته فهل يتردد الرجل إلى القهوة ليشرب فنجان قهوة ويحادث بعض من يعرفون شيئاً عن الكنوز. إذا عمل ذلك فهو إذن ناقص الحكم على قوة إرادته وغالباً هذا الصنف لا ينجح في الحياة. والطريقة الثانية مقاربة للمتقدمة إلا أنها غريبة في خواصها البسيكولوجية. الإنسان لا يعمل عملاً إلا إذا انطبق على هواه. إلا إذا امتزج بعواطفه. إلا إذا وجد ميلاً ورغبة للعمل. إلا إذا آنس من إرادته قوة على العمل. إلا إذا ارتاح العقل لنتائج العمل. إذن ضروري جداً تربية العواطف والإرادة والعقل. نربي العواطف حتى لا يختلط عليها النافع والضار. الدائم والزائل. نربي الإرادة حتى تفرق بين التشبث والادعاء لأن كثيرين تراهم يتشبثون كأنهم ذوو إرادة حديدية ولكن بعد مدة تراهم يلينون. هذا ضعف شديد في الإرادة وهو يدل أيضاً على عدم تربية العقل لتقدير العواقب. وتربية العقل ليكون مقدراً ومحيطاً بكل عواقب العمل. حتى لا يكون لندم أو تأسف أو امتحان محل الرجل الذي يعمل عملاً ليجرب أو بعد العمل يأسف ويتحسر هذا ضرره من قوة عقله لأنه لم يفكر ويفحص ماذا يريد أن يعمل أولاً. العواطف بمثابة النائب العام في الإجراءات القانونية القضائية يحضر الأحكام ويظهرها في مظهر الرداءة أو الطيبة حسب ما يعرف ويقدر الطيبة والرداءة. والعقل هو القانون أو بمعنى أوضح القاضي الذي يفصل ليبني خطأ النائب أو صوابه.

ليبين هل العواطف في مجرى صحيح أو منحرف. والإرادة القوة التنفيذية التي تستلم الأعمال بعد العواطف والعقل وتجري أعمال التنفيذ من حيز التصور والنظر إلى حيز العمل والظهور. وهناك لا بد لنا أن نقول أن الفشل الذي يرافق أغلب الناس ناشئ عن عدم تربية العواطف والعقل والإرادة. وحسب حكم الإنسان يكون نجاحه أو فشله. لنأخذ مثلاً الطالب الذي يريد أن يربح الجائزة. هذا الطالب أمامه طريقان أما أن يتعب في البرد كل يوم أو يمكث في فراشه دافئاً مستريحاً. ففي الأول ينال الجائزة وفي الثاني ينال الراحة حسب وهمه. حسب تقدير الإنسان للسعادة والشقاء والفرح والحزن وأغلب ماجريات الحياة تكون قيمته في الحياة. هذا الطالب يطلب الدفء والجائزة في آن واحد ومع ذلك يمكنه أن ينال الدفء والجائزة في آن واحد. لأنه إذا تمرن في البرد نال الدفء ولا شك وبالتالي سينال الجائزة فيمكنه أن يتغلب على خداع حواسه ويقول الدفء خارج الفراش لا داخله. وهكذا كل الناس. يمكن للإنسان حسب ما يصور لنفسه أن يعيش وكلما كان تصوره مقروناً بالعمل كلما كانت حياته مملوءة بالنجاح. إن أعلب الجرائم والسرقات والشرور الناتجة عن فساد الأخلاق كلها نتيجة السعادة والنجاح وبعبارة أخرى كلها تصور مرتكبوها أن وراءها السعادة والنجاح. والغريب في الحياة أن كل الناس من كل الطبقات مهما كانت أعمالهم يعيشون متوهمين أنهم على جانب من الصواب والصلاح وسينالون السعادة. لا فرق في ذلك بين اللص والنمام. بين القاتل والمزور. كلهم يخدعون أنفسهم. دخل طالبان الكلية - مثلاً - وأحدهم مجتهد أمين. يشتغل ويجيب على أسئلة الأساتذة. والآخر ذكي ولكن في طريقة خداع المعلمين. إذا وجد في امتحان يعمل كل طريقة لسرقة الأجوبة. أو يغش في أوراقه بأية طريقة الطالب الأخير عثرة كبرى وضع ليضل بسببه كثيرون. لأن الطالب المجتهد الأمين يمكن أن يغير أخلاقه حسب تقديره لعمل زميله الخائن فإذا قال في نفسه ولماذا لا أجاري هذا الطالب ولا ضرورة لإزعاج عقلي دائماً بحل

المسائل بل يمكن أن أغش وأفوز في الامتحان. هذا الطالب سقوطه ونجاحه متوقفان على قوة الحكم. على قوة العقل والإرادة. لأنه إذا كان العقل عنده قوياً لرأي أن عمل الطالب الخائن تجارة كاذبة. لرأي أن عمله لا أساس له. وعلى فرض أن الخائن أخذ شهادة أنه أنهى مدة الدراسة فهل يقدر أن يغش العالم حين يستلم الأشغال. مستحيل. إذن تجارته خاسرة وهذا سيخرج للعالم بدون رأس مال بالمرة. الأشرار في الحياة لا يتوقف ضررهم على ما يتركونه من النتائج السيئة لأعمالهم. كلا بل هم عثرة في سبيل القوم الأخيار الذين يعيشون حسب المبادئ الطيبة المقرونة بالعمل. وعلى قوة الحكم يتوقف سلوكنا في الحياة والآن نأتي إلى النتيجة النهائية المطلوبة. سادساً - هل من طريقة تحفظنا من أن ننخدع في عقولنا وإرادتنا حتى لا نتوهم النجاح الوقتي نجاحاً - نعم. الدين. لا لوم على الإنسان الذي ينخدع ويقبل على الأعمال التي تغاير المبادئ الصحيحة ولكن اللوم لأنه لم يعرف الواسطة العامة التي تكشف له خطأ وصحة العمل الذي يقبل عليه. هنا معنى الدين وهنا البرهان الذي يفحم الذين يقومون لمعارضته. لأنه لا قوة في الإنسان تجعله يحفظ نفسه من الخطأ. وإذا قالوا الضمير. نقول أن الضمير تابع للإرادة. ثم أن الضمير لا ينذر بالخطأ ولكن يؤنب على الخطأ والتأنيب الذي يتوهمه الناس قبل مباشرة مالا يليق هو قوة صلاح باقية لم تفسد. أما عمل الضمير فمنحصر في اللوم فقط. الدين قوة خارجية تكشف للإنسان حقيقة ما يخفى عليه. الدين ميزان. الدين يعرض على الإنسان دائماً الجانب الأبيض من الأعمال وإذا ضل الإنسان وأخذ بالجانب الأسود فاللوم عليه. كلما احتك الإنسان بالدين كلما ظهر له خطؤه وكلما بعد عن الدين كلما انغمس في أعمال لا يظهر خطؤها ولا صوابها. الدين هو الجمال. جمال الحياة وجمال المبدأ وجمال العيشة. الدين صوت الله وقانون الحياة. في التوراة حكاية لا ينتبه لها الناس وهي بكاء المرأة أمام معلم النصرانية العظيم - المسيح - لماذا تابت المرأة. لماذا ثارت عواطفها. لأن الجانب الأسود من حيتها انكشف. لأنها رأت الحياة الصحيحة أمامها. لأن ميزان الأعمال - المسيح - أظهر لها أن حياتها

مزركشة مغشوشة. هنا تنبه الضمير ولكن متى؟ بعد العيشة الفاسدة طبعاً. فالضمير لا يعرف قوة الحكم ولكن يعرف كيف يعاقب على نتيجة الحكم. الضمير منفذ. جلاد لا يرحم. وإلى هنا يمكننا أن نأتي بالنتيجة لكل ما تقدم وذلك أن نسأل السؤال الآتي: كيف نعيش عيشة صحيحة؟ الجواب: أن نفكر فكراً صحيحاً. كل أعمالنا كانت صورة فكرية مبهمة وبرزت للوجود فاعتنوا بالفكر أولاً. اعتنوا بالقوة التي نحكم بها على الأعمال. ولا طريقة عرفها البشر إلى الآن تقدر أن تحفظ أفكارنا في طريق مأمون إلا الدين. أندراوس حنا الجسم والدماغ بحث علمي فلسفي للأستاذ الفسيولوجي الكبير توماس حنا الأمريكي ماهية الدماغ وتشريحه - غرائب الدماغ - مواضع الكلام في الدماغ - الفرق بين الإنسان والقرد - الجزء المعطل في الدماغ - لماذا يكون جزء معطل في الدماغ - تعويد الأطفال العمل باليدين جميعاً - الإرادة والعقل - أسباب الفشل في الحياة. لقد مضت عدة أجيال على العالم لا يعرف عن الدماغ شيئاً خاصاً وجل ما عرف عنه أنه مشترك مع العقل. ولذلك فلا نرى ذكراً للدماغ في التوراة ولا في مؤلفات علماء العالم القديم حتى أن الفيلسوف والفسيولوجي الكبير أرسطو لما سئل عن الدماغ قال أنه عضو يبرد الدم للقلب. كل عضو خطير في الإنسان يعمل عملاً ظاهر تقريباً إلا الدماغ فإن عمله مكتوم خفي حتى أن أغلب علماء الطب يجهلون ما اكتشف من علاقاته بأهم أعضاء الجسم. وبعد المسيح بمائة وستين عاماً قرر غالين العالم الكبير أن الدماغ مركز العقل. وإلى سنة 1700 بعد المسيح لم يكن من يظن أن للدماغ علاقة بالفكر. والكل كانوا يظنون أن الدماغ والعقل عضو واحد ويعملان عملاً واحداً كالرئتين مثلاً اللتين وإن كانتا مختلفتين وضعا

فهما يعملان عملاً واحداً. وسبب ذلك الخطأ العظيم في أهم عضو في الإنسان هو لأن علماء الفسيولوجيا كانوا يجرون تجاربهم في أدمغة الحيوانات فقط ولم يجربوا أدمغة البشر ويوجد فرق عظيم بين الدماغ في الإنسان وبينه في الحيوان. وأن أهم الاكتشافات الحديثة في الطب لهي راجعه لتقدير العلماء لقوة الدماغ وعمله المختلف في الجسم البشري. خذ مثلاً آلة الكلام - اللسان - فإنه متصل بقوة الفكر والفكر عبارة عن تحليل الألفاظ وإذا جرح الدماغ أو تعطل فالكلام ينقطع فلاً - وهذا الاكتشاف الغريب نبه علماء الفسيولوجيا إلى وظائف الدماغ وضرورة العمل على وقايته في عملياتهم الجراحية. عاينت مريضاً مرة مصاباً بجرح في دماغه فامتنع عن الكلام ومع ذلك كان يسمع تماماً ويقرأ بكل سهولة. وجرح الدماغ كان من دخول طرف شمسية في عينه وبدلاً من قلعه العين نفذ إلى الدماغ وعطله فعجز عن الكلام لأن الجزء الذي جرح كان مركز الكلام والدماغ كما قدمنا مشترك مع اللسان. وحدث أن العليل المذكور رأى شخصاً معه شمسية فأجهش بالبكاء فأكدنا أنه فقد قوة النطق إلى الأبد لأن الجرح اتسع فأتلف كل الدماغ. ولإيضاح ذلك نمثل الدماغ بمركز يتفرع منه فروع متعددة إلى كل الأعضاء الرئيسية في الجسم وإذا انفجر فرع من تلك الفروع فالفروع الأخرى لا تؤذى. فالدماغ مركز لفروع متعددة تؤدي إليه الدم فإذا انفجر شريان منها لا يتعطل الباقي. ثم إن اكتشاف علاقة اللسان بالدماغ بدء انتباه رجال العلم لتقرير حقائق خطيرة عن هذا العضو. وإن اتصال الدماغ بأعضاء الكلام يتناول ثلاث جهات 1 - الجهة التي يدخل منها الكلام إلى الآذن ومنها إلى الدماغ. 2 - الجهة التي تتصل بالعين - 3 - جهة اللسان والشفتين. - الحوادث الفجائية التي تتعلق بالدماغ - إن من تلك الحوادث حادثة سيدة انتبهت في الصباح وتناولت الجرائد فلم تقدر تقرأ كلمة تناولت الكتب فكان كذلك فظنت أن الأذى بعينها ولكن العيون كانت سليمة وكذلك السمع.

وبعد فحصها وجدت أن قوة القراءة في الدماغ معطلة وبعدها لم تقدر أن تتعلم القراءة بتة. ومن الحوادث الغريبة أيضاً حادثة شاب لم يفقد قوة النطق فقط ولكن فقد كل معرفته بالقراءة. إلا أنه من المدهش أن نقول أن الشاب المذكور كان يحل مسائل رياضية غريبة وكان يقدر أن يقرأ الأرقام ويكتبها ولكنه لا يستطيع النطق بإمضائه الخاص. - مواضع الكلام في الدماغ - إن أحوال الدماغ غريبة ومدهشة. لأن العلماء توقفوا إلى معرفة ما يعد غريباً جداً بالنسبة إلى الواقع فقد ذكروا أن موسيقياً ماهراً فقد معرفة كل الأنغام وكل ما يتعلق بالموسيقى. والعكس بالعكس فقد وجد آخرون فقدوا كل معرفتهم بالقراءة والكتابة وما زالت قوة حافظتهم للموسيقى موجودة. لقد برهن العلماء على أن الكلام يرتسم بصورة مخصوصة على الدماغ ويختلف باختلاف الفن واللغة - معنى ذلك أن الإنسان لما يريد أن يأتي على لغة جديدة أو فن جديد ربما يكون الدماغ مستعداً لقبول صور تلك اللغة أو الفن أو غير مستعد بتة. ذكروا أن رجلاً كان يجيد الفرنسية والانكليزية واللاتينية واليونانية إلا أنه أصبح فجأة فوجد أنه لا يعلم حرفتً واحداً من الانكليزية وأنه لا يستطيع قراءة الفرنسية واللاتينية تماماً مع أن اليونانية زادت معرفته فيها. وبعد البحث وجد أن صور الانكليزية محيت تماماً من الدماغ وصار الدماغ كأنه لم يرتسم عليه حرف واحد من هذه اللغة. هذا وغرابة الأحوال لم تقف عند هذا الحد بل أن اللغة نفسها تأخذ شكلاً مخصوصاً في الدماغ باختلاف أفعالها وأسمائها وحروفها. فقد جاءني رجل لا يقوى على النطق والسبب أن حاسة السمع تعطلت فوصفت له حمام البحر وقلت لمن حولي إذا شفي هذا الرجل سينطق أفعال اللغة قبل أسمائها. وبع أسبوعين حضر الرجل فأريته مطواة فقاليقطع فأريته قلماً فقال يكتب - وبعد ثلاثة أسابيع أخرى أبح يقدر على أن يتلفظ بحروف الجر ولكن لا يقدر أن يلفظ أسماً واحداً والسبب لأن الأفعال ترتسم في أدمغتنا قبل الأسماء. يفتح الطفل عينيه فينظر وأذنيه فيسمع ولكنه لا يعرف ماذا ينظر ولا ماذا يسمع. وبعدئذ يبتدئ أن يميز بين المرئيات بعضها

وبعضها. ثم كثيراً ما يحدث أنك تعرف أناساً عاشرتهم ولكنكم افترقتم طويلاً فأول ما يقع نظرك عليهم تذكر شكلهم وما تعرفه عنهم ولكن لا تذكر أسماءهم. - الفرق بين الإنسان والقرد - إن الحوادث المتقدمة لا تؤخذ دليلاً قاطعاً لأنها نادرة فلذلك إذا أردنا أن نعرف ما هو الإنسان فلا نأخذ الأقيسة والغرائب الدماغية المتقدمة برهاناً في تعريف الإنسان. الإنسان عند علماء الحيوان فصيلة حيوانية تقرب من أنواع القردة كالأورنج أو تنج والغوريلا والشمبنزي. إلا أن المشابهة في التركيب الظاهري فقط ولكن حسب الدماغ فإن الإنسان يختلف عن القردة اختلافاً مبينا. يقول الدكتور هكسلي الانكليزي العلامة الكبير أن الإنسان لا يختلف عن الشامبنزي من حيث الدماغ. ولكن عقلياً - لا حسب المبادئ التشريحية - يختلف الإنسان عن القردة اختلافاً واضحاً ويبعد أن يكونا واحداً بعد أبعد السيارات عن الأرض. الشامبنزي لا يؤدي امتحاناً ولا يرصد النجوم ولا يتعامل بالأوراق المالية ولكن الإنسان قادر أن يكون عالماً وتاجر أو سياسياً فضلاً عن ذلك فالإنسان مبدع الإنسان يقدر أن يتصرف ويستنتج ويخرج الشيء من لا شيء ظاهري تقريباً فالقوة العقلية في الإنسان لا تكون أبداً في الحيوان كالقرد أمهر حيوان في التقليد والتمثيل. وعلى ذلك إذا قلنا أن الإنسان حيوان فهو حيوان في التركيب الطبيعي فقط والعلم يبرهن اليوم على قوة الإنسان العقلية التي تفرده عن سائر الحيوان. العلم يبرهن على خطأ من يعتقدون أن مشابهة الدماغ في القردة والإنسان تجعلهما واحداً وذلك لأنهم يعتقدون أن الدماغ مصدر الفكر والحقيقة خلاف ذلك فالدماغ ليس هو الفكر بل هو آلة التي بها نفتكر كالوتر في العود. الوتر يخرج الصوت ولكن هل هو الصوت. كذلك الدماغ آلة الافتكار ولكنه ليس الفكر نفسه. ثم من أدلة الخلاف في الإنسان والحيوان عدم الاعتداد بالوزن في الدماغ لأنهم يقولون أن

دماغ الإنسان والقرد متقاربان في الوزن ولكن الوزن لا يؤخذ دليلاً إذ أن وزن دماغ أحط طبقات الإنسان أرجح من أدمغة المتمدنين. ولكن الحقيقة هي من طريقة تركيب الدماغ لا من وزنه وقد دلت الأبحاث العلمية على أن الدماغ مقسوم قسمين قسم واحد فقط الذي يؤدي وظيفة الفكر والقسم الآخر معطل عن التفكير. وقد دلت التجارب على أن كثيرين عاشوا سنين ولهم نصف دماغ بدون تعطيل القوة الحافظة والمفكرة فيهم ووجد أن الجزء المقطوع كان المعطل طبيعياً. - الجزء المعطل من الدماغ - إذا قلنا أن كلما كبر الدماغ كلما كثر الفكر يكون معنى كلامنا أن الإنسان وهو بعينيه الاثنتين ينظر أبعد من الإنسان بعينه الواحدة والحقيقة بخلاف ذلك فمن فقد عينيه لا يمنعه ذلك عن أن يكون فلكياً لأن بعد النظر لم يتغير. والآن من الضروري أن نوضح لماذا لا نستعمل إلا جزءاً واحداً من الدماغ. لما يولد الطفل يكون دماغه معطلاً تماماً - يكون ملس والجزآن لا يؤديان عملاً ما. وكلما كبر الطفل كلما تكون دماغه وابتدأ يفكر. والدليل على ذلك أنه لم يولد من يقرأ ويكتب حال نزوله من بطن أمه. والتجارب دلت على أن الدماغ يتخذ شكلاً مخصوصاً تشريحياً كلما تعمق الإنسان في العلم. وربما ظن أن من السهل بناء خلايا الدماغ وتلافيفه والحقيقة أنه يحتاج إلى وقت طويل من العمر وأننا نأتي على آخر أعمارنا ولا يكون لنا إلا نصف دماغ على شكل كروي. ثم النصف يؤدي عمل الكل تماماً وإذا قيل أي الجزئين نستعمل نقول أن ذلك يتعلق باليد التي نستعملها فإذا كانت اليمين كان الجزء الأمامي معطلاً تماماً وإذا الشمال كان الجزء الخلفي معطلاً. والآن نوضح حكاية الرجل الذي أصيب بدماغه بواسطة الشمسية. قد كانت الإصابة في النصف الخلفي فلماذا لم يستعمل الجزء الأمامي إذا كنا نقول أن كليهما يؤديان عملاً واحداً. ولكن الحقيقة أن الدماغ عبارة عن اسطوانة كاسطوانة الفونغراف فلنفرض أن أمامك فونغرافان وأمامك اسطوانتان الواحدة مملوءة أي فيها بعض الأدوار والأخرى بدون كتابة

عليها أيهما يؤدي غناء كما تحب. بالبديهة الفونغراف الذي عليه الاسطوانة المملوءة وذلك بدون برهان ولا جدل. كذلك الدماغ فإن الجزء الخلفي لما فقد تماماً من صدمة الشمسية حاول الرجل أن يستعمله ولكن بلا جدوى إذ أنه كان أملس بدون نتائج وتأثيرات تشريحية فيه مما تتكون بطول العهد. وإذا أخذنا العين مثالاً للبرهنة على ذلك نأتي على نتائج واحدة لأن العين ليست إلا نظارة والنظر لا يحدث من النظارة ولكن من العملية الدقيقة التي تتعلق بأعصاب العين. فلو فقدنا تلك الأعصاب تكون النتيجة فقد النظر تماماً وإن كانت العين في الظاهر سليمة وكذلك الأذن تبرهن على النتائج المذكورة تماماً. - لماذا يكون لنا جزء زائد في الدماغ - سئلنا كثيراً لماذا يكون لنا جزء زائد في الدماغ بينما لا نستعمل إلا جزء واحداً ولكن من يجهل علاقة الدماغ بالجسم يعتقد أنه بلا فائدة ولكن الواقع لا يؤيد ذلك فالجزء المعطل من الدماغ يرتبط بالجسم ارتباطاً كلياً وإن كان معطلاً من الوظائف التي للجزء الآخر. إذا أردنا أن نعرف لماذا يكون لنا جزآن مستقلان من الأدمغة فلنسأل لماذا لنا عينان وأذنان ومنخران وكليتان ورئتان وما أشبه. أعرف رجلاً فقد إحدى كليتيه بواسطة صدمة شديدة ومع ذلك عاش بالكلية الأخرى. وأعرف أخر فقد إحدى الرئتين ومع ذلك فقدها لم يؤثر على جسمه أبداً. كما مر هنا سابقاً أن الأصوات والألفاظ والعادات تنطبع على الدماغ على ممر الأيام فكذلك يكون للجزء المعطل من الدماغ فائدة عند الصغار أو الشباب الأحداث الذين يفقدون أدمغتهم العاملة فيبتدئ الدماغ المعطل أن يعمل فإذا كان الطفل أو الشاب صرف سنة يتعلم لغة أو فنا فسيصرف سنة أخرى يتعلم ما تعلمه في السنة المذكورة. ولكن النتائج المتقدمة لا تكون إلا للصغار لأن الدماغ يكون قابلاً أن ينطبع عليه كل الحركات التشريحية من جديد وأما الذين تقدموا في السن فندر أن يتعلموا شيئاً إذا فقدوا دماغهم العامل. - هل يجوز تعويد الأطفال استعمال كلتا اليدين -

وصلتني رسائل متعددة بخصوص الدماغ منها ثلاث رسائل من أساتذة يدرّسون الفسيولوجيا في كليات كبرى يسألونني لماذا لا نعود الأطفال أن يستعملوا يديهم الاثنتين حتى يمكنهم أن يستعملوا دماغهم كله. العامل والمعطل ما دام حسب ما تقدم أن لحركة اليد والعادات تأثيراً على الدماغ. والمتأمل في الأسئلة المذكورة يرى أن أصحابها يقصدون أنه إذا استعمل لإنسان دماغه كله يتحصل على نتائج فائقة في القوة المفكره كأن يكون لإنسان مفكراً أكثر من الواقع إذا استعمل الدماغ المعطل أيضاً. ولكن الطبيعة لا تُحسن بهذه الطريقة. إننا وقفنا على ذلك بغتة فلا يجوز لنا أن نحاول عكس الطبيعة. أعرف فتاة عسراء - لا تستعمل يدها اليمين - حاول أهلها أن يعودوها على العمل باليمين فربطوا الشمال في كتفها فماذا كانت النتيجة. شل لسان الفتاة وصارت غير قادرة على الكلام كبنت السادسة مع أن عمرها كان ثمانية عشر سنة. أن استعمال اليدين لا يؤدي إلى نتائج عقلية فائقة عن الحد الطبيعي أبداً وربما كانت الفائدة في مثل لعبة البلياردو. - الإرادة في الإنسان عمل مجيد - ربما قام المعترضون القائلون بتساوي الإنسان والقرد وقالوا ما الفرق بينه وبين الإنسان إذا كانت أدمغتهم واحدة في الأول. الفرق في الإرادة القرد لا يعرف كيف يريد ولا ماذا يريد وما تنفعه الإرادة في شيء ثم إذا اعترضه بعض الصعوبات في عمل ما تركه ناقصاً لأنه لا يريد أن يتمم ولكن الإنسان بخلاف ذلك؟ لفظه الإرادة جليلة جداً وخصوصاً في الإنسان. الإرادة فوق العقل في الإنسان والدماغ من عمل الإرادة حسب ما نريد ونوجه إرادتنا يبتدئ الدماغ أن يؤدي عمله طائعاً. وأنه لصعب على الذين لا يؤمنين بالروحيات أن يصدقوا أن الإرادة عمل روحي غريب. الإرادة تتسلط على الماديات ولا تقدر الماديات أن تتسلط عليها كأن تعطلها أو تؤخر عملها.

الإرادة هي المتسلطة على الأعصاب وهي التي تحرك أصغر الأعضاء في الإنسان لتؤدي عملها. الإرادة هي قوة سلبية وأجابية. تتسلط على كل الأعصاب لتؤدي أعمالها تماماً وفي الوقت نفسه تخفف من قوة الضغط على الأعصاب عند عدم الضرورة لإجهاد عصبي. ولولا الإرادة لكنا نعمل كآلة بدون ميزان. تعمل وتعمل إلى تنحل من كثرة العمل وعدم الضبط. - الإرادة والعقل - الإرادة تعمل أكثر مما تقدم. أنها تتسلط على العقل. كما أن العقل يتسلط على الجسم وبعبارة أخرى الإرادة لا تدير حركة العقل فقط بل تحكم على قوة الإفتكار أيضاً وذلك بقوة التسلط على الأعصاب وعدم إجهادها أكثر من اللازم. وعمل الإرادة على العمل كعمل عصب النبض مع القلب لولا هذا العصب (أو الزنبلك) لكان القلب ينبض وينبض إلى أن يموت من كثرة النبض كالفرس الجموح تموت وهي في آخر سرعتها وعلماء الفسيولوجيا يسمون هذا العصب لجام القلب فكذلك لا بد للعقل من لجام والعقل عبارة عن العمل الميكانيكي النتائج عن حركة الأعصاب أو هو حركة الفكر بعد عمل الدماغ. - أسباب الفشل في الحياة - جئنا إلى نقطة مهمة جداً تعد خلاصة كل التشريح المتقدم. لماذا يفشل بعض الناس أو يسقطون بغتة أو يرافق حياتهم الخمول والبلادة. قلنا الفكر حركة ميكانيكية فالفكر ينصب على العقل من كل ناحية وكلما كان الإنسان كثير الفكر كلما كان ضعيفاً. إن المحموم ليهذي ولا يمكنه أن يضبط أفكاره من كثرتها والسبب كثرة ضعف أعصابه. وكثرة الأفكار تربك العقل بدون فائدة بل أنها تجهد الأعصاب فتعجز الإرادة عن ضبطها. فالاعتناء بالأعصاب ضروري جداً إذ عليه يتوقف نجاحنا وفشلنا. نحن نحتاج الإرادة لضبط أفكارنا - والأفكار عبارة عن كل ما يقع على ذهننا من المرئيات. فالنظر والشم واللمس والذوق كلها تشترك في تحضير الفكر والدماغ هو الآلة

التي تربط الأفكار ببعضها ثم تقدمها للعقل ليزنها ويرى إن كنا نعمل بها أولاً وهنا يظهر عمل الإرادة فإن كانت قوية منعت العقل من تنفيذ كل ما يخطر بالبال وإلا فأهملت فترى الإنسان يندفع لكل عمل ولا يعلم يصيب أو يخطئ فهذا نقص إرادة. أعظم الناس من إذا تكلموا أو كتبوا أو افتكروا كان لعملهم غاية مخصوصة محدودة وهؤلاء هم أقوياء الأعصاب والإرادة. ثم لنذكر قول سليمان الحكيم الفيلسوف العظيم حسب أفكار الإنسان هو ومن لا يحكم نفسه كمدينة متهدمة وبدون أسوار أندراوس حنا الدورة الزراعية 3 نظام التعاقب الزراعي والغيطان الملاصقة للمدن والبنادر يفضل فيها إلى حد محدود زراعة الخضروات والفواكه ونباتات العلف كالبرسيم إذ يكون الربح منها أكثر من ربح المحصولات الأخرى. (12) إن لحاجيات الإنسان والحالة الاقتصادية التأثير الأول في تنويع زراعة الأرض بالنباتات المختلفة فنباتات الحبوب كالقمح والذرة والأرز للغذاء ونباتات العلف كالبرسيم والحلبان والفول للماشية والنباتات المستعملة في الصناعة كالقطن والقصب والنيله والكتان للمبيع والانتفاع بشحنها. فمؤونة الماشية التي يحرث الفلاح عليها أرضه ويستفيد منها بعض مواد غذاءه يجب أن لا يعتمد فيها إلا على ما تنتجه الأرض - ويجب أن لا يزيد عن الحاجة أيضاً - لأن معظمها كالبرسيم والتبن ذو حجم كبير فلا تبايع فيها إلا حد محدود لصعوبة نقلها إلى مسافات بعيدة بربح كاف. وحيث أن البرسيم مخصب للأرض فواجب أن يزرع منه المقدار الكافي للماشية بتوسع نوعاً لما فيه من الفائدة العائدة على الأرض. وحاصلات الحبوب كالقمح والذرة والفول والأرز سهلة النقل ولو إلى مسافات بعيدة فيمكن نقل ما يزيد عن اللزوم منها لبيعه في الأسواق كما يمكن استجلاب ما ينقص منها عن

حاجة الفلاح إذا كان محصولها عنده قاصراً عن الوفاء. وإذا رؤي أن هناك ربحاً في إبدال ذرع نبات بنبات آخر فأصول الاقتصاد تقضي بتفضيل الصنف الأربح إذا لم يكن ثمت مانع من الظروف الأخرى. فلو رأينا أنه إذا أبطلت زراعة نبات وليكن القطن مثلاً في إحدى مناطق الوجه القبلي والاستعاضة عنها بزراعة القصب تعود بربح أوفر منه عن القطن - أو قللت زراعة نبات كالفول مثلاً في إحدى مناطق الوجه البحري والاستعاضة عنها بزراعة نبات كالبصل تعود بربح أزيد أيضاً - لو رأينا ذلك مثلاً لكان من الواجب تنفيذه بشرط أن تتساوى الظروف الأخرى في الحالتين أي لا يحصل عن الحالة الأخيرة ضرر من وجهة أخرى أو كان الضرر أقل من الفائدة الحاصلة ويمكن تداركه. إن وسائل النقل السريعة قد سهلت تبادل الحاصلات بالتجارة بين البلاد والأقطار فيمكن لكل جهة أن تستجلب اللوازم التي تنقصها من الجهات الأخرى التي تتوفر فيها تلك اللوازم ولذلك يمكن لكل جهة أن تتوفر على زرع الأصناف التي تزيد جودتها فيها عن غيرها وتصدرها إليها - بينما يمكنها أن تجلب من ذلك الغير الصنف الذي جودته فيه أفضل - إذا كنا نرى أن التوسع في زراعة القطن مثلاً ولو بتقليل مساحة المزروعات الأخرى وجلب ما يلزم لنا منها من الخارج أفضل من زرع تلك المزروعات بجانبه فلا شك في أنه خير لنا أن نزيد منه إلى الحد الممكن - إذا لم يكن هناك مانع من الظروف الأخرى - ونعتمد فيما ينفعنا من الحاصلات الأخرى على جلبها من الخارج بشرط أن لا يكون عن كل ذلك محذورات متوقعة. (13) لموقع الأرض من الأسواق أو المصانع دخل مهم في زراعة الأرض لأن زرع محصول مع صعوبة تصريفه كله بربح لا يكون مفيداً فإذا زرعت مساحة كبيرة من قصب السكر ولم يكن هناك مصنع (فابريقة) قريب منها فنفقة نقل الحصول إلى السوق تكون كثيرة جداً لفخامته وكذلك إذا زرعت كمية كبيرة من البرسيم فإذا كان كذلك قريباً من بلد كبيرة فإنه يباع بسهولة غذاء للخيول وغيرها ولكن إذا كان ذلك في القرى الصغيرة فإنه من المحتمل ظهور صعوبات في تصريف ذلك البرسيم بفائدة وتحدث صعوبات كهذه في التبن وكل الأنواع الفخمة الزهيدة الأثمان أما الحبوب الغالية الأثمان القليلة الفخامة فإن

نقلها سهل ولذلك لا تتأثر كثيراً بمواقع الأسواق. (14) إن لدرجة تنور الزرّاع واستعداده وبيئة أرضه تأثيراً أولياً في تنويع زراعتها بما هو أقدر على الأسترباح منه أكبر ربح بدون محذور فالزراع الممتازون باستنارتهم وكفاءتهم ومقدرتهم وموقع أرضهم هم الجديرون وحدهم بالاستكثار من زراعة الأصناف التي تحتاج للمصروف الوفير. أحمد الألفي

النقد والمناظرة

النقد والمناظرة كلمات نابليون كان ميرابو يغير على كل كتاب عصره وخطبائهم ويعدو على بنات أفكارهم. حدث ديمونت قال: كان ميرابو لا يستحي أن يطلق يده في كلام غيره من الناس فمن ذلك أنه خطبنا مرة فأطال عنان القول وامتد به نفس الكلام فخطر لي أن أذيل كلمته بكلمة ألخص فيها خطبته ليقرب بعيدُها ويجتمع شتيتُها وكان إلى يميني اللورد إلجن فدفعت إليه ما كتبته فاستجزله ولقيت ميرابو في المساء فحدثته بما جرى وأريته الرقعة فاستجادها وعرَّفني أنه انتوى أن ينتحلها إذا خطب في الجمعية غداً فقلت أن اللورد إلجن يعلم من أمرها ما تحسب أنه جاهله فقال لا بأس عليَّ منه. أما والله لو أن خمسين غيره يعلمون ذلك لما ردّني علمهم عما اعتزمت. فلما كان الغد صدع بها أخزاه الله! وإنما فعل ذلك ميرابو لأنه كان من عظم الشخصية وقوتها بحيث كان يرى أن له الحق فيما كان هو الداعي إليه والسبب فيه. ذلك شأن ميرابو وهو أيضاً شأن نابليون وأرث شهرته وخليفته في أمته، وإن كانت دولة السيف غير دولة اللسان، وسلطان المدفع غير سلطان البلاغة والبيان، وإن من كان من طراز ميرابو ونابليون يوشك أن لا يكون صاحب خطبة أو رأى لأنهما ليسا كالعين يتفجر منها الماء ولكن كالحوض تملأه ويشرع فيه الناس فهما مرآة تبصر فيها خيال عصريهما وكتاب تقرأ في سطوره روح زمنيهما وهما باقيان ما بقي للقرن الثامن عشر والتاسع عشر ذكر وليسا كهيجو فإن هذا أبقى على الزمن من الزمن وأخلد على الأيام من الأيام. ومن أجل هذا كان فرضاً على من يعاني تاريخ فرنسا لذلك العهد ويطلب الوقوف على حالتها الاجتماعية والأخلاقية والأدبية أيضاً أن يقرأ ما تركه أمثال ميرابو ونابليون من رسائل وخطب وحكم وأمثال وإلا كان علمه رساً لا خير فيه ولا غناء. ولم يكن نابليون عظيماً ولكن الناس كانوا صغاراً وما أحبه العامة وأشباههم إلا لما كان بينه وبينهم من الشبه وما زال الناس في كل أمة وزمان يميلون بالود لمن يشاكلهم ويختصون بالمحبة والإعزاز من يحاكيهم ولئن صح أن عناصر الشيء وأجزاءه المكونة له صور في الحقيقة منه أي أن الرئة مكونة من رئات صغيرة والكبد أكباد دقيقة والكلية كلى

لطيفة فليس بدعاً في الرأي ولا مستنكراً في القول أن نذهب إلى أن كل فرنسي لعهد هذا الرجل كان نابليوناً صغيراً. وعلى هذا تكون عنايتنا بكلامه وآرائه عناية بآراء فرنسا وأفكارها ومذاهبها وقد وقفنا منذ أيام على كتابين معربين عن أصل انجليزي واحد جمع فيه واضعه كلمات نابليون وقليلاً من رسائله وآرائه فيما كان يقع في زمانه من الحوادث ويعرض له من الأمور فقلنا أو بلغ من رواج المعربات ونفاق سوقها وكثرة طلابها وخطابها في مصر أن يعرب الكتاب - الواحد رجلان على علم أحدهما بما سبق إليه صاحبه ثم سألنا نفر من أصحابنا وإخواننا أن نقارن بينهما فاستخرنا الله في الموازنة بينهما والمفاضلة بين كتابيهما أما المعربان فأحدهما محمد لطفي جمعه واسم كتابه حكم نابليون والثاني إبراهيم رمزي واسم كتابه كلمات نابليون والاسم الثاني أصح ولذلك صدرنا به كلمتنا فيهما لأنه أدل على ما انطوى عليه الكتاب وانكسرت عليه فصوله وأبوابه وإنما هي كلمات كان يرسلها نابليون لا يقصد بها الحكمة أو الفلسفة وما أظن قوله يودع جنده إن قلبي معكم فلا تنسوني يدخل في باب الحكم أو هو منها في شيء قد أهمل لطفي جمعه أن يذكر على الكتاب أهو الواضع له أم غيره ولست أدري ماذا أراد بقوله أنه من قلمه؟ أليوهم صغار الناس أنه هو مؤلفه وجامعه والحقيقة غير ذلك أم هو السهو والنسيان لعنهما الله فلشد ما يخزيان الفتى ويخجلانه. وبعد فإن كتاب رمزي أحسن منحى وأسد منهجاً، وأجزل تعبيراً وأعذب مورداً، وأحسن تنسيقاً وتبويباً، وأغض مكاسر وأصدق تعريباً ولطفي جمعه سخيف العبارة مبتذل التراكيب، عامي الألفاظ، كثير اللحن، جم العثار، قليل العناية بترتيب الأبواب، سيء الحرص على معاني الكتاب، شديد التصرف بالنقص والزيادة، والحذف والإضافة، وبالجملة فإن كتابه كما قال فيه أحد الأدباء الظرفاء معارضة للأصل ولا تعريب له وبيان ذلك جميعه أن الفصل السابع في كتابه جاء بعد الثالث، والرابع بعد التاسع، وهذا منتهى ما وصل إليه اضطراب التأليف واختلال النظام، ولعمري لو أن رجلاً تعمد أن يفسد كتاباً بما يقدم ويؤخر منه لما استطاع أن يأتي بأسوأ من ذلك. ولقد بلغني والعهدة على الراوي في شرح ذلك وتعليله أن نفراً من أخوانه أعانوه على نقل الكتاب وكانوا أمضى منه فيما استكفاهم وأسرع إلى قضاء مقترحه. وهذا وإن كنت لأقول به فلست مع ذلك أنفيه عنه فأنا

بمنزلة بين الرفض والقبول والتكذيب والتصديق. حتى يبرح الخفاء وينحسر الإبهام ومن سوء حرصه على معاني الكتاب قوله في ص 130 ما أحسن راحة البدن لقد صار يغمى علي في فراشي تعريباً لهذه العبارة: والصواب ما جاء في كتاب رمزي ص 132 لقد أصبح الفراش عندي منزلاً للنعيم والفرق بين المعنيين ظاهر وليت شعري أي راحة في أن يغمى عليك يا لطفي وأي لذة في أن يغيب عنك صوابك وإحساسك؟ أليس لك من الذكاء والفطنة ما يريك سخافة ذلك؟ ومن تصرفه بالنقص حذفه أسطراً كثيرة في الكلام على الشجاعة قال: أنني لم أر رجلاً يظهر شجاعة في وقت لم يكن ينتظر فيه غدراً وصواب ذلك ما جاء في كتاب رمزي لم أر من الشجاعة الأدبية ذلك الصنف الذي أسميه شجاعة الساعة الثانية بعد نصف الليل أي أنني لم أر رجلاً عنده من الشجاعة الحاضرة مالا بد منه لدفع الغوائل إذا هي أتت غير منذرة ولا منتظرة. شجاعة تحفظ لصاحبها الخ الخ وهي ترجمة حرفية لما جاء بالأصل ص 114. ومن تصرفه بالزيادة قوله المطامع الكبرى (كطلب الرفعة وحب الرئاسة) وليس لما حصرناه بين قوسين أصل وقس على هذا سائر الكتاب. ومن لحنه قوله لقد ظهر محمد في وقت كان الناس فيه (محتاجون) والصواب محتاجين. وقوله قد منحني الله قوة تمكني من التغلب عل (سائر) العقبات والصواب كل لان سائر معناها باقي قال الشنفرى: إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري وقوله الصيت الذائع (كالغوغاء) البالغة عنان السماء. . . والصواب الضوضاء لأن الغوغاء هو أوغاد الناس وأنذالهم. وقال اعتدت سماع الأنباء المزعجة فلا (يريعني) منها الآن شيء ولكنني بعد ساعة من سماع نبأ (مريع). . . والصواب يروعني ومروّع وقال لبس تاج فرنسا (المصاغ) من (ذهب) والصواب المصوغ من الذهب وقال فإذا مت وأنا على عرشي (محاطاً) بكل والصواب محوطاً وقال ولكن موت واترلو أفضل فإن الشعب كان حينذاك يجبني (ويوجد) عليّ والصواب يجد على أن هذا خطأ أيضاً لأن وجد عليه يجد موجدة معناه غضب والموجدة منزلة بين العتب والسخط وقال خير معلم للفتاة (هي) أمها والصواب هو وقال فلا أدري إن كان هذا لأنني بلغت السن (الذي) وصوابه التي الخ

وحسبنا ذلك وكفى به دليلاً على ضعف نقده وخفة بضاعته ونزارة مادته ولو أنّا أردنا أن نحصي سقاط هذا الرجل اللفظية والمعنوية لأحرجنا القراء وكربناهم وأنها وأيم الحق لسماجة في المرء أن يتطفل على موائد الكتبة وليس له أداتهم ولا له آلتهم ويدس بنفسه بينهم وليس منهم ولو كان له جبين يندى أو طرف ينكسر لانزوى في بيته حياء ولاتخذ من داره جُنّة يتقي بها سهام السخرية والهزوء ولوجد لنفسه مندوحة عن موقف يخزي فيه. وأي عيب أكبر وخزى أفضح من أن ينتحل الرجل كتاباً برمته. لقد سمعنا بمن يسرق المعنى والمعنيين ولكنا ما علمنا على الناس مثل ذلك من قبل. على أني أعجب لصاحب البيان - وعهدنا به من ذوي البصر بصرف الكلام والخبرة بنقد جيده ورديئه - كيف لم يفطن لضعفه الظاهر وقصوره البادئ. حتى صار يستعين به ويعمد إليه في النقل والتعريب وحتى كان من أمره معه أن أخذ ينقل له كتاب الواجب وقد قال لي أحد الذين قرأوه بالفرنسية أن صنيعه به أشنع من صنيعه بكتاب نابليون. قال فإن داخلك في قولي شك فانظر ص 24 من كتابه (يعني الواجب) تجده يقول في كلامه عن أعداء الفلسفة والحرية. . . فهم تارة ينعون على الفلسفة وطوراً يعنفون أصحاب. . . الخ ألا ترى أنه عجز عن نقل هذا اللفظ وتعريبه فأبقاه كما هو. وأي فائدة في التعريب إذا؟ وهل معنى التعريب أن نعيد طبع الكتاب بلغته التي كتب بها: ونحن نشايعه على رأيه ونأخذ عليه ما يأتي: قال في أول مقدمة المؤلف (تُعتبر) الفلسفة في نظر الفلاسفة علماً. . . وما نعرف لهذا الاستعمال أصلاً فإنه يقال اعتبر من الشيء تعجب وبه اتعظ ولكن لا يقال اعتبره بمعنى عده أبدا. وقال في هذه الجملة أيضاًعلماً (يشتمل) جملة من المسائل والصواب على وقال مبادئ ونتائج ما عداها من العلوم والصواب مبادئ ما عداها ونتائجها وقال التي (تكسبها) الحياة ثوباً عملياً والصواب تكسوها وقال المشتغلين بالعيش الأدنى) وصوابه كما اخبرني من قرأ الأصل المترفين وقال (سابقاً بأفكاره) والصواب لأفكاره وقال أن الإنسان ليذهب (أبعد) من ذلك والصواب إلى ما هو أبعد وقال لو كان (للإنسانية) ذلك المستقبل والصواب للإنسان وهذا كله في الصفحة الأولى من المقدمة وحدها فما ظنك بسائر الكتب. فاتق الله يا صاحب البيان واعلم أن قراءك قد اطمأنوا إلى علمك وركنوا إلى تحقيقك فلا تسيء إليهم ولا تدعهم يحملون الخطأ عن صحيفتك وهم يحسبونه صواباً

واصنع لهذه اللغة يصنع الله لك ولن يضيع أجر من أحسن عملا. المازني البيان نشرنا هذه الكلمة عملاً بحرية النشر ولنا مقال نبين فيه رأينا فيما ضمنته هذه الكلمة لم يتسع له هذا الموضع وسوف ننشره في أحد الأعداد الآتية إن شاء الله.

طرف أدبية

طرف أدبية المشاهد 1 لامرتين على جبل الكرمل ساح لامرتين في الشرق عام 1832 والتقى في سياحته بشاعر عربي على جبل الكرمل، هنالك حيث هبط الوحي على أنبياء أرض الرسل والأنبياء، وتنزل الإلهام على شعراء صومعة النساك وروضة الشعراء. قال لان في رحلته فجلس - أي الشاعر العربي - إلى جانبنا على الحوض فتحادثنا ملياً. ولكن الشمس مالت إلى الأفول وكان لا بد لنا من الافتراق. فقلت له: إننا هنا شاعران قد أدنت الصدفة ما بيننا على بعد الدار، لنلتقي على هذه البقعة الساحرة، فوق هذه التربة الطاهرة، في ساعة هي أجمل الساعات. وقد أرسل الله إلينا ملكاً من ملائك الجمال في محضر منا، فهل لك في أبيات ينظمها كل منا بلسانه. تخليداً لهذا الاجتماع. وما قد أحدثته في نفوسنا هذه المناظر الشيقة والمشاهد البهجة قال فابتسم وأخرج من نطاقه دواته وقلمه القصب. وهي أبداً في نطاق الكاتب العربي كالسيف في نطاق الجندي. ثم تراجع كل منا خطوات ليخلو بنفسه ويتفرغ لشأنه. فانتهى من نظم أبياته قبل أن انتهيت ببرهة وها أنا ذا أنقل أبياتي وأبياته أما ذلك الملك الذي أشار إليه لامرتين فهو فتاة كاعب وصفها الشاعر نثراً فأبدع أيما إبداع. وأني بقلمه في ذلك الوصف بما هو جدير بريشة المصور وكان قد نزل في بيت أهلها بحيفا يوماً ثم صعد إلى دير جبل الكرمل. فأتته وأمها وشقيقها يزورونه. فجلسوا جميعاً على حوض ماء. وقد كانت قصيدة الشاعرين في وصف تلك الفتاة على ذلك الحوض، وهذه ترجمة قصيدة لامرتين: سقاك الحيا يا حوض أعذب ما سقى ... ففيك قرأت الحسن سطراً منمقا حباك الفضاء اللازوردي لونه ... فجلاك كالمرآة تلمع أزرقا أراك إذا فيأت ليلى عشية ... سكنت كمن يصغي إليها محدقا وترسم في أعماق قلبك وجهها ... كما لاح طيف النجم في اليم مشرقا

فما حفلت عين بما فيك من حصى ... حكي الدر أو عشب هنالك أورقا وما ينظر الرائي السماء مصعداً ... إلى الأفق بل يرنو إلى الماء مطرقا لك الله كم حسناً حويت ورونقاً ... روى الماء عن ليلاي فيك فأصدقا فعينان أبهى زرقة وملاحة ... من الزهو ينمو في حوافيك مونقا وأغنتك هاتيك الثنايا ضواحكا ... عن اللؤلؤ المكنون يلقى وينتقى وثغر كأن الورد باكره الندي ... فجال على أوراقه وترقرقا وجيد تراه يشبه العاج ناصعاً ... على أنه كالغصن مال على النقى وفرع كخفق الموج فيك خفوقه ... يكلل منه الزهر فوداً ومفرقا وأبديت كالمرجان في الماء دملجا ... تحلى بأحلى معصم حين أحدقا رفعت يدي دون النسيم وقد سري ... مخافة ذاك الظل أن يترنقا وقد خلت أني حين أبسط راحتي ... ظفرت بدر فيك لاح منسقا وأرشف من ماء هنالك ريق ... جلا الحسن عذباً في حواشيه ريقا ولكن ليلى أعرضت نحو أمها ... تضاحكها حباً وترنو تأنقا فسرعان ما أمعنت فيه فلم أجد ... سوى الحوض أمسى راكد الحس ضيقا تذوقت منه قطرة بعد قطرة ... فألفيت مالا يستطاب تذوقا وكنت أرى حسناً فأصبحت لا أرى ... سوى حشرات أو نبات تفرقا فرحماك يا بنت المشارق أن لي ... فؤاداً بربات الجمال تعلقا لحسنك من سر على النفس ماله ... على الماء لما أن حكاك فدققا فقد رسمت فيها لحاظك صورة ... مدي الدهر لا تمحى وتزداد رونقا عذيري من تلك اللحاظ كأنما ... هي النجم في عرض السماء تألقا إذا رمقت فالصبح أو حال دونها ... خمار فهذا ليل من قد تعشقا 2 عبرة في نظرة الجزيرة معرض عام يقام أصيل كل يوم. يعرض فيه كل جميل جماله وكل غني ماله، وتبسط فيه الأرض زينتها والطبيعة محاسنها، وهو يتسع لأبناء النعيم كما يتسع لأبناء

الهموم. فإن الطبيعة ما برحت تجمع بين مضاحكة الجذلان ومؤاساة المحزون وهي لا كالبشر، يجد فيها المسرور ألهيته والمغموم سلوته وتبدو لكل ناظر كما يحب أن يجدها. فلقد يراها الشجي كاسفة آسفة على حين يراها الخلي مقهقهة ضاحكة، وقد تبرز لهذا في صدار الحداد وهي لغيره بارزة في حلة العرس. وما بها من ختل أو نفاق وإنما هي مرآة النفوس وصدى خواطر الأفكار. ولقد ألفت أن أتردد إليها بين حين وحين. فأجوس بين أنحائها وأتظلل بأفيائها وأمتع النظر بين أرضها وسمائها. وخضرتها ومائها. فخرجت إليها أصيل يوم من أيام هذا الربيع القائظ. فإذا المركبات كما عهدتها تترى بكل نبيل أو جميل. من مشمخر شامس أو مزور شاوس ينظرون إلى السابلة نظرة قادم من المريخ أو عطارد كأنما أولئك أبناء نوع غريب من البشر. أو كأنما الناس قد انقسموا إلى فصيلتين. فصيلة تدور على الدواليب وفصيلة تدوس على الأقدام. فأعرضت عنهم. فإن هؤلاء الحمقى إنما يتيهون علي بعيني لا بأعينهم. ويتأنقون لأراهم لا ليروا أنفسهم. فمالي لا أغمض طرفي عنهم. وأدير بصري عن جيادهم وبراذينهم. لئلا يظنوا استحساني لها أو إعجابي بها. استحساناً لهم أو إعجاباً بهم؟؟ قلت صعروا خدودهم أيها الأغنياء فما ذهبكم بجاعلكم أكبر قدراً عندي من تراب المناجم. وأني لأحسد بقعة الأرض على ما بها من تبر كما أحسدكم على ما لديكم من نضار. كلاكما واحد. والتراب قد يخصب فيثمر وأنتم تربة مجدبة لا تثمرون. إن أنتم إلا صناديق من اللحم والعظام. ونظرت إلى بنات حواء المتباهيات بميراثهن منها. وما أجدر الخجل بمكان الصعر من خدود أكثرهن. فقلت كفاك يا عين تخدعيننا بجمال وراءه من الدنس ما يشين طهارة الملائكة ويعيب جمال الحور. ثم نظرت إلى النيل فإذا مراكب طافية. فوق لجة ضافية. تحت سماء صافية. بين طبيعة متثائبة غافية. فنسيت الناس وذكرت قول البهاء زهير: حبذا النيل والمراكب فيه ... مصعدات بنا ومنحدرات هات زدني من الحديث عن النيل ... ودعني من دجلة والفرات

ولياليّ في الجزيرة والجيزة ... فيما اشتهيت من لذات بين روض حكي ظهور الطواويـ - س وجو حكى بطون البزاة حيث مجرى الخليج كالحية الرقطاء ... بين الرياض والجنات فقلت لقد صدق وأجاد. فهذه الجيزة عن يميني والجزيرة عن يساري. وهذا الروض في الأرض. والسماء في الفضاء لا تزال كما وصف. والنيل في مجرى الخليج يجري كما كان. وها هي مراكبه مصعدة منحدرة. فكل شيء في قول البهاء باق على عهده إلا قائله: هي الدار ما حالت لعمري عهودها ... ولا افتقدت من زيها غير ناسها وكذلك نرى كيف تقصر حياة الفرد في خلود النوع. فكم أينعت هنا زهرة بعد زهرة. وجرت قطرة على أثر قطرة. وهبت نسمة خلف نسمة. وأقفر روض فأزهر روض. وأقوت دار فقامت دار. ومات رجل فنشأ رجل. تغيرت الأجزاء والكل باق لم يتغير. ولعلي جئت بعد ذلك القائل لأقول: أيها النيل كم سقيت ثغوراً ... وزهوراً على الربي باسمات كوثر الأرض أنت في مصر هيها - ت تجاري في الطيب والنفحات قد سوا ماءك الطهور قديماً ... وأنابوا إليك بالصلوات كم عروس زفت إليك وأنت البا - رد الصدر من غرام البنات فتعوضت عن زلالك منهم ... بدموع الآباء والأمهات كنت تروي من أصبح اليوم ظمآ - ن ببطن الثرى لماء الحياة كم توالى الورى وأنت كما كنت ... م قديماً تجري بغير التفاف إنما العيش ما استطال حياة ... لممات وألفته لشتات وبعد سبعة قرون. ربما أعاد الزمان تمثيل هذا المنظر على ملعب الطبيعة فتراءى بنيله ومراكبه وروضه وجوه وشاعره. فماذا عسى ذلك الشاعر سيقول؟؟ 3 سارتور ريزارتوس لنا صديق أديب، خلع عليه السعد برداً قشيباً بعد أن درجه الزمن في برد من القطوب والشحوب. فكان كأنما ولد فيه من جديد أو كأنما تقمصت روحه بدناً غير بدنه. وكان -

أطال الله بقاءه - قد أيس أهابه من أن يلامس دثاراً مفصلاً قبل ذلك الدثار الأخير. الذي لا يضن به الدهر على غني أو فقير. وقد كان لا يروقه منا أن ندعو له بطول البقاء ويتمثل قول المعري: تدعو بطول العمر أفواهنا ... لمن تناهى القلب في وده نفرح أن مد بقاء له ... وكل ما يكره في مده فأما الآن وقد خلع أطماره الأولى على البؤس ونضى عنه معها تلك الحياة الرثة ليلبس حياة أبناء الزي والجديلة. فأحسب أنه قد اقترن أجل الحلة بأجله. نبات يطلب البقاء لأجلها أن لم يكن لأجله. وقد أرسل إلينا هذه الدعوة. حضرة الصديق أتشرف بدعوتكم لحضور الاحتفال بتدشيني في أهابي الجديد وذلك مساء يوم الاثنين الثاني عشر من شهر فبراير المبارك! في المنزل. . . . . أبقاكم الله رافلين في سرابيل الصحة والعافية. الداعي فلبينا الدعوة سراعاً. وكيف لا نلبيها وهذا مشهد لا تراه العين مراراً؟؟ أذاعوا أن الشمس سيعروها الكسوف يوماً من الأيام. فأهرع المنجمون من كل فج إلى مصر. يقلبون في أسطر لاباتهم عيوناً ويسدون إلى ذكاء آماق المجاهر والمقربات. ثم قفلوا إلى بلادهم وقد حسبوا أنهم آبوا بالغنم الكبير. والعلم الوفير. فهل ترى مشهد أم الضياء في أزرها السوداء. أغرب في مجرى الطبيعة من ظهور صديقنا الأسود في ذلك الكساء الوضاء!! ثم استقربنا المقام. وكان صديقنا يدور بيننا في ثيابه الأولى. فما هو إلا أن غفلنا عنه فتسرب إلى غرفته ثم برز لنا في حلته الطريفة. فكان كأولئك الممثلين الذين يدخلون في أسمال المتسولين. ثم يأوبون من باب آخر في طيالسة الملوك والسلاطين. فأنكرناه وما عرفناه. فقال عجباً! أكذلك تنسون صديقكم القديم!! ثم ضحك ضحكته التي نعرفها. فصحنا جميعاً نعم نعم. عبد الكريم! عبد الكريم! وما ابتدع صاحبنا بحفلته بدعاً فذلك أمر عرفته الأمم منذ كانت. فلا ترون الملوك يقيمون

الملأ ويقعدونه لوضع تلك القلنسوة التي يسمونها تاجاً وتلك العباءة التي يدعونها طيلساناً وتعصية العصا التي يجعلونها صولجاناً؟؟ هذا والقلانس والطيالس عندهم كثيرة. والعصى والسياط بحمد الله في أيديهم وأكثر! ولكن الناس لا يفتأون يتخذون بدعة الكبير سنة وسنة الفقير بدعة. وما هم في ذلك بمنصفين. وبعد أن شربنا نخب اللابس والملبوس. وباركنا للعريس والعروس قلت أهنئه وأرجو أن لا يكون هذا آخر ما أقول له من هذا الطراز: عبد الكريم أأنت حيث أراكا! ... أني حسبتك في الثياب سواكا الله أكبر هل غدوت بسحرها ... جنا نراك كما يشاء هواكا لو كنت مبدل لون جلدك أبيضا ... ما كان يدهشني كثوبك ذاكا أني لأصبح برهمياً مؤمناً ... بتناسخ الأرواح حين أراكا ليس الذي سوى ثيابك خائطاً ... بل كان ربا ثانياً سواكا!! أنت الدليل على أناس أنكروا ... حشر الجسوم وآثروا الإشراكا فاطرح رداء البؤس والبس بعده ... برد النعيم وطف هنا وهناكا قد طال أسرك في الديار فلا تخف ... فالآن نلت من الشقاء فكاكا عباس محمود العقاد

طرف فلسفية

طرف فلسفية للفاضل عبد الرحمن شكري أحلام اليقظة (وهي أحلام خيالية فلسفية يشوبها شيء من المزح) 1 أسافل النفس وأعاليها ذهبت مرة في المساء إلى شاطئ البحر لأروح عن نفسي من الهم الذي يعتور المرء من التفكير في أساليب الحياة وما يأتيه الناس من شر ثم اضطجعت على الأرض وجعلت أردد لحظي بين السماء والأرض فصغرت لدي حياة الناس من عظم ما بين السماء والبحر وبينما اسخر ضلة من طبيعة الإنسان وما تغري الناس به من غدر ولؤم ودناءة وكذب وقتل وخيانة وقع بصري على ملك من النور كله جمال في يده مرآة ثم رأيته قد اقترب مني ووضع المرآة أمامي ثم قال انظر في هذه المرآة فنظرت فرأيت جنياً ملأ ما بين السماء والأرض له رجلان مثل رجلي حيوان مفترس لهما كساء من الشعر وباق ملك كريم فنظرت إلى قدميه فرأيت أظفاراً مثل أنياب الفيلة ورأيت الدود والبق والعقارب فوق قدميه فأغمضت عيني من قبح ذلك المنظر ثم سمعت صوت الملك صاحب المرآة يقول أرفع بصرك وانظر إلى وجه هذا الجني فرفعت بصري ونظرت في وجهه فرأيت وجهاً ينبعث منه النور مله حنان ورفق وعينين لحظاتهما كلها ذكاء وجبيناً لو صور الحق لكان جبين هذا الجني جبينه ورأساً مكللاً بالأزهار ونظرت إلى صدره فرأيته نبيلاً جليلاً فخفق قلبي طرباً بجمال هذا المنظر وجلاله ثم نظرت إلى يديه فرأيتهما مثل يدي القرد فعجبت كيف يقرن ذلك الجمال الجم بذلك القبح الجم فقال الملك صاحب المرآة أن صورة هذا الجني تمثل النفس الإنسانية فإن هذا الجني رأسه في السماء ورجله في الأرض وكذلك النفس فإذا نظرت إلى النفس رأيت أعاليها كلها جلال وجمال وأسافلها مثل بئر كله حشرات وهذا الجني له يدان مثل يدي الحيوان وإنما هذا مثل العمل فإن الغريزة تحث المرء إلى العمل من خير وشر لأن العمل مقياس الحياة وميزان البقاء فإذا أردت أن تعيش عليل النفس سقيم

الأمل ضئيل الهمة فانظر في أسافل هذا الجني وردد لحظاتك في الدود والبق والعقارب التي فوق قدميه فإن هذه أسافل النفس ويكون مثلك مثل من يريد أن يستحم فيرى غديراً صافياً طاهر الماء فيعدل عنه إلى الماء الآجن في المستنقع الموبى لم لا ترفع بصرك إلى أعالي النفس من لحظ كله ذكاء وجبين كله جلال ووجه كله ضياء فلما قال الملك قولته هذه رفعت بصري إليه فرأيته قد خفي عني فرجعت إلى بيتي وفككت عني حبائل اليأس وقلت خاب من نظر في أسافل النفس ورجع بصره خاسئاً عن أعاليها. 2 الخير والشر ذهبت مرة إلى مدينة من مدن القدماء لم يبق منها إلا أطلال ونؤى وأحجار فجعلت أنظر إلى تلك الأطلال كأني أنظر إلى قبور السنين الخوالي وغربت الشمس ثم رأيت النجوم في السماء كأنها أطلال الفردوس فرأيت في السماء أطلالاً وفي الأرض أطلالاً وقد خيل لي أن هذه الأرض قبر والناس أموات والسماء سقف ذلك القبر والنجوم أزهار وضعت عليه كما توضع الأزهار فوق القبور فاستلقيت على الأرض وجعلت أنظر إلى النجوم نظرة هوجاء ثم رأيت في السماء جنيين جنياً تتطاير من عينيه النار وجنياً ينبعث من عينيه النور الأول له أذنان مثل أذني الحمار والثاني له أذنان مثل أذني الإنسان ووضع أحدهما أصبعاً تحتي ووضع الآخر أصبعاً فوقي ورفعاني بين أصبعيهما حتى وضعاني على فلك من الأفلاك ورأيت الأرض مثل كرة القدم في الحجم ثم قال الجني الذي ينبعث من عينيه النور وأشار إلى صاحبه هذا إبليس لا يغرنك منه أن أذنيه مثل أذني الحمار فإنه على ذلك كثير الدهاء كثير الذكاء ولكن لو لم يكن بينه وبين الحمار شبه ما فضل الشر على الخير فضحك إبليس وقال لا تضع الوقت في المزاح ثم التفت إلي وأشار إلى صاحبه وقال هذا صاحب الخير وأنا صاحب الشر وهذه الكرة التي أخرجناك منها هي كرة نلعب بها فأما غلبني وأما غلبته عليها قلت ومن الحكم بينكما قال الله يحكم بيننا ثم جعلا يلعبان بالكرة الأرضية هذا يضربها برجله من ناحية وذاك يضربها من ناحية أخرى ثم نظرت إلى صاحب الخير فرأيته يكبر في حجم جسمه ورأيت صاحب الشر يصغر فسألت صاحب الخير في ذلك فقال أنا دائماً أكبر لأنه لا نهاية للخير وإبليس يصغر دائماً ولكنه لا يفنى أبداً لأنه أن لا

نهاية للشر فإنه كلما فنى منه شيء ظهر شيء جديد ثم نظرت حولي فرأيت أطلالاً ونؤياً ورأيت أني مستاق على الأرض فقلت لنفسي أكبر ظني أني كنت أحلم. 3 عظم الوجود رأيت في الحلم أني كنت نائماً على الأرض في بستان أنيق وجعلت أنظر إلى السماء والظلام حولي فرأيت عينين كبيرتين تطلان من السماء كل واحدة منهما في حجم القمر ولكنهما كانتا مثل أعين الناس في الشكل ورأيت النار تنقدح فيهما كأن في كل عين منهما جحيماً ثم رأيت يداً كبيرة مدت من السماء إلى الأرض ورفعتني حتى صارت الأرض في عيني مثل النملة وصارت الشمس مثل التفاحة الصغيرة والكواكب حولها كالنمل فتملكني الرعب حتى صرت من شدة الرعب لا أحس به ثم نظرت إلى ما فوقي فرأيت كواكب وشموساً كالكواكب والشمس التي يراها الناس رأيت كل هذا وأنا في يد ذلك الجني ثم رأيت عينيه في سمائي والنار تتطاير منهما فصحت من أنت أيها المخلوق العظيم فضحك ضحكاً كاد يصم أذني ضحكاً صوته مثل صوت تصادم الكواكب وتكسر الأفلاك ثم قال أنا روح الأبد أتحسب أيها المخلوق الحقير أن هذا الوجود إنما خلق لأجلك أتقيس قدرة الله بما أودع فيك من المقدرة أنظر أيها المغرور ثم رفع صوته وأمر الأفلاك من نجوم وشموس أن تتصادم فتصادمت وتكسرت ثم غابت أشلاؤها في الفضاء قلت هل فني الوجود فضحك ضحكاً عالياً ثم قال أنظر أيها المغرور ثم رفع يده فرفعني في يده فرأيت أفلاكاً غير الأفلاك التي رأيتها قبل ثم أمرها أن تتصدع فتصادمت وتصدعت وغابت أشلاؤها في الفضاء ثم رفع يده فرفعني في يده فرأيت أفلاكاً غير الأفلاك التي رأيتها قبل وهكذا يأمر الأفلاك فتتصدع ثم يريني غيرها حتى كدت أموت من جلالة ذلك وهوله ثم رفع صوته وقال أني ليعجبني غرور الإنسان فإن الغرور نتيجة من نتائج الطموح والطموح دليل على الحياة وآلة من آلات النبوغ يا ابن آدم أنت جزء حقير من الوجود فكيف يفهم الجزء الحقير الشيء الكامل. إن ضمائر الأفراد ثقوب يطلون منها على الله ويناجونه بها ولكن مثلهم في تلك المناجاة مثل جماعة من العمي لمس أحدهم خرطوم الفيل فقال الفيل مثل الثعبان ثم لمس أحدهم ذيله فقال الفيل مثل الحبل الطويل ولمس أحدهم رجله فقال الفيل

مثل الدعامة المستديرة والناس لا يرون الله إلا كما ترى النور من ثقب صغير فكل عقيدة من عقائد الناس مكملة لأختها ثم قال اذهب إلى مكانك من الأرض ولا تنس عظم الوجود فإن إحساسك بعظمه فريضة عليك.

مقالات في الأدب

مقالات في الأدب للفاضل عبد الرحمن شكر أيضاً 1 التخيل والتوهم ينبغي أن نميز في معاني الشعر وصوره بين نوعين نسمي الأول التخيل والآخر التوهم فالتخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء التي ربما خفيت عن غيره ولكن يشترط في هذا النوع أن تكون الصلة متينة والتوهم أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود أو أن يبين عن صلة غير متينة أنظر إلى قول أبي العلاء المعري في سهيل النجوم ضرجته دماً سيوف الأعادي ... فبكت رحمة له الشعريان أو قوله في هذه القصيدة أيضاً: وعلى الأفق من دماء الشهيدين ... علي ونجله شاهدان فإن الصلة التي بين الشفق وبين دماء الشهيدين صلة توهم وكذلك الصورة التي في البيت الأول صورة توهم ثم أنظر إلى قول أبي العلاء: كم قبلة لك في الضمائر لم أخف ... فيها العقاب لأنها لم تكتب هذا مثال من أمثال التخيل الصريح فإن العاشق مغري بأن يليح لعينه بصورة حبيبته ثم يقبل تلك الصورة الخيالية فالصورة المودعة في هذا البيت صورة طبيعية يعرف صحتها كل من عالج الحب وانظر إلى قول الشريف الرضي: ما للزمان رمي قومي فزعزعهم ... تطاير القعب لما صكه الحجر هذا أيضاً من التخيل الصريح فإن تفرق شمل القوم مثل تطاير أجزاء القدح المكسور وانظر إلى قول ابن المعتز في الشيب: (هذا غبار وقائع الدهر) فأن المشيب يأتي المرء من معالجة الأيام ومصارعتها كما أن الغبار تستثيره المصارعة والمناهضة. ومن أمثال التوهم البديع قول أبي تمام في المشيب

(فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب) فإن الصلة التي بين المشيب والابتسام ولا سيما ابتسام الرأي والأدب صلة توهم ليس لها وجود ولكن هذا التوهم الحميد على أن الشاعر قد يجيء به غثاً إذا لم يكن له غير المغالاة حيلة وأحسن هذا التوهم أقربه إلى التخيل الصريح وأقبحه أقربه إلى أحلام المحموم وقد حببه إلى الشعراء مجاراتهم ذوق العامة في المغالاة فإن العامة لا تميز بين المغالاة التي تجوز والمغالاة التي لا تجوز. قد يكون في الخيال كلفة كما يكون في التعبير صنعة وإنما تكلف الخيال أن تجيء به كأنه السراب الخادع فهو صادق إذا نظرت إليه من بعيد وهو كاذب إذا قاربته غير أنه يشابه الخيال الصحيح الخيال السقيم إذا كان وجه التأليف بين الأشياء في الخيال الصحيح بعيداً ولكن بعد وجه التأليف وخفاء الصلة ليس بمعيب إذا كان وجه التأليف صحيحاً وكانت الصلة متينة فإن ظهور الصلة لكل قارئ ليس دليلاً على متانتها فقد تكون الصلة ظاهرة ضعيفة وقد تكون غامضة سليمة وهذا سبب من أسباب اشتباه العظيم من الشعراء بالضئيل والعبقري بالمقلد فإن المتنبي أو شكسبير قد يولع باستخراج الصلة المتينة الغامضة التي بين شيئين يخال القارئ أن ليس بينهما صلة ولكن هذا المذهب غير مذهب الناظم الذي يولع بأن يوجد صلة سقيمة بين شيئين ليس بينهما صلة أو باستخراج صلة ضعيفة بين شيئين. أن ولوع الشاعر باستخراج الصلات المتينة الغامضة التي بين الأشياء دليل على أنه حر الذهن ولكن الشعراء المولعين بذلك غرض لسهام ذوي الأذهان المغلقة ونصب رميات أهل الغبارة ولكني لا أنكر أن الشاعر المولع بذلك قد يسلمه ولعه به إلى المغالاة المقبوحة واستخراج صلات التوهم وأبو تمام والمتنبي والمعري من هؤلاء الشعراء على أن العبقري يعرف بسيئاته أنه عبقري كما يعرف بحسناته لأن أكثر سيئاته أنه واسع الخيال كما أن أكثر حسناته سببها تلك السمعة. 2 الجاحظ والصابي الفرق بين أسلوب الجاحظ وابن المقفع وأسلوب الصابي وابن العميد أو الأولين يسلكان من سبل التفهيم والإيضاح أقصرها وأما الصابي وابن العميد فقد كانا من كتاب الدولة وأرباب

السياسة يضطر أحدهما إلى الغموض لحاجة من حاجات السياسة فيسلك من سبل التفهيم أطولها وأوعرها كي لا يفهم رسالته من أرسلت إليه كل الفهم أو كي يفهم في أثناء سطورها ما ليس فيها ألم تر كيف عمد ساسة الدول الأوروبية إلى اللفظ المبهم والعبارة الغامضة في بعض الأحايين كأن يريد أحدهم أن يعد وعداً لا يستطيع أن يفي به أو أن يساق إلى إيضاح أمر من حاجة السياسة أن يبقى غامضاً أو أن يريد أن يستخدم المغالطة كي يغطي على صحة رأيك أو أن يخدعك في حق تطالبه به فأسلوب الجاحظ وابن المقفع من هذا الوجه أفصح من أسلوب الصابي وابن العميد وأسلوب الأولين أشبه بلهجة العرب وفصاحتهم فهو خليق أن يسمى الأسلوب الطبيعي أما أسلوب الصابي فهو أسلوب صنعة لأن الفصاحة العربية الصريحة التي تطالعك من مصنفات الجاحظ وابن المقفع قد نضب ماؤها وصار حظ الأديب أن يتكلفها وسبب ذلك اقتعاد الأعاجم دسوت الرئاسة وتغلبهم على العنصر العربي والعصبية العربية في دولة الإسلام فلم تكن اللغة كالماء الآجن لأن الأساليب تتغير فأسلوب الجاحظ غير أسلوب الصابي وأسلوب الصابي غير أسلوب صاحب كتاب قلائد العقيان فالأساليب تسير مع الأيام وتتغير بتغير الزمان والمكان واللغة ليست ملكاً لقوم دون قوم فإن الفرق بين أسلوب الصابي وأسلوب الجاحظ أو بين أسلوب الصابي وأسلوب صاحب القلائد لا يجوز لنا أن نسميه فرقاً بين لغة ولغة كما يزعم زاعم يريد أن تكون لغة مصر غير لغة الشام أو العراق. إنك إذا قرأت رسائل الصابي كنت كلما انتهيت من جملة نسيت أولها أما لعظم ما بين أولها وآخرها وأما لأنه يدخل الجملة في الجملة ويخرجها من حيث أدخلها فلا تعرف أين يبتدئ وأين ينتهي وألفاظ الصابي أكثر من معانيه فهو يريق المعنى على فناء واسع من اللفظ فيغيض ماؤه والمعاني كالبخار إذا حبست البخار زدته قسوة وإذا أفسحت له في الفضاء أضعفته. إذا أجاد الصابي ذقت في كلامه حلاوة الصنع وإذا أجاد الجاحظ ذقت في كلامه حلاوة الطبع على أن للطبع صنعة ولكنها صنعة ذوق وسليقة لا صنعة رصف وتنميق وصنعة الطبع ليست بأقل حلاوة من صنعة الرصف والذي يستخدم صنعة الرصف لا يسلم من التكلفة والفساد والإطالة المقبوحة وإضلال المراد وذكر مالا يراد منه كأن يسلك أديب في عقد واحد جملاً كثيرة لا تقرب القارئ من طلبته قيد فتر أو أن يكيل كاتب لقارئه من

المترادف شيئاً كثيراً. إن بين من يكلف بالفصاحة ومن يتكلفها فرقاً واسعاً والجاحظ كلف بالفصاحة ولا يتكلفها لأنها تؤاتيه إذا شاء والصابي كلف بالفصاحة ولكنه قد يتكلفها ولا أحسب سبب ذلك أنه جاء بعد الجاحظ ولكن مذهبه إدخال الجملة في الجملة ومط الكلام كما تمط الجلد هذا ابن رشيق صاحب كتاب العمدة متأخر من المتأخرين في الزمن ولكن مذهبه في كتاب العمدة أشبه بمذهب ابن المقفع والجاحظ والمبرد وابن قتيبة وغيرهم من الفحول من حيث السلاسة وتوفية المعنى نصيبه من اللفظ وقصر اللفظ عليه وانتظام جمل الكلام ففصاحته فصاحة ذوق وطبع لا فصاحة رصف ووضع فلو أن الأديب ليس له بد من عبارة أهل زمانه وبلده وأسلوبهم في الكتابة لكانت عبارة كتاب العمدة مثل عبارة كتاب القلائد ولكنها ليست كذلك فإن فصاحة كتاب قلائد العقيان فصاحة رصف ووضع وهي أكثر سبهاً بفصاحة الصابي وابن العميد والثعالبي منها بفصاحة الجاحظ وابن قتيبة وابن رشيق ولكنها أكثر تصنعاً من فصاحة الصابي واقل حلاوة فعبارة الصابي في منزلة بين أسلوب الجاحظ وابن المقفع وأسلوب القلائد فالصابي وابن العميد والثعالبي كانوا يملكون من عنان مطيتهم ما لم يملكه صاحب القلائد ومن حذا حذوه وهكذا كل من عالج صنعة الرصف والوضع خيف عليه أن تغيب عنه حلاوة الطبع. كان ابن رشيق ينقم من أهل زمانه صنعة الرصف ويغريهم باستخدام صنعة الذوق والطبع استدناء للفصاحة العربية وتطلباً لذلك الأسلوب الطبيعي أسلوب ابن المقفع والجاحظ وابن قتيبة ويزجرهم عن ذلك الأسلوب المتقطع المتكلف المخنث أسلوب السجع والمترادف والبديع الذي كانت تملأ به الأدباء رسائلهم من رصف وإطالة يضل القاريء فيها ما ينبغي من المعنى ولكن هذا الفساد كان قد تمكن من اللغة وأخذ من أذواق الناس مأخذاً بليغاً فلم يكن لأبن رشيق عون على إصلاحه وأعظم من استخدام صناعة الرصف والوضع من الأدباء وغالى بها الصابي وابن العميد والثعالبي فكانوا يجيئون بالجزل الجيد من الكلام وكان لكلامهم نصيب من بداوة النثر أي سلامته من الكلفة ورجولته تلك البداوة التي تطالعك من مصنفات ابن المقفع والجاحظ والمبرد وغيرهم من الفحول ولكن لم يكن يعرف الصابي وذووا مذهبه أن سيأتي بعدهم أدباء ينهجون نهجهم وليس لهم من سلامة الطبع

وبداوة القول ورجولته ما كان لأسلافهم فيستخدمون المحسنات البديعية استخداماً يجعلها مساويء فن مجيء هذه المحسنات عفواً حسن لا بأس به ولكنهم جعلوا يدخلونها في كلامهم كما تدخل الجرذ في مصيدته أي بالخديعة والدهاء ويجذبونها إليه كما تجذب القط من ذيله إذا تشدد فيضطرب انسجام كلامهم ويعوج أسلوبه.

ديوان الأدب

ديوان الأدب منذ سنين لا علم لنا بأولها - وقد كنا نظرنا في كثير من أمهات الأدب العربي - كنا كلما أعجبتنا قطعة شعرية أو نثرية نقشناها في صفحة الذاكرة، أو نقلناها إلي قار المفكرة، لاستظهارها وترديد النظر فيها أولاً ولجمعها وإظهارها للمتأدبين يوماً ما ثانياً فأخذنا لهذا الأمر عدته وما زلنا نعمل التدبير على إظهار كتاب جامع في الأدب يفيد الناشئين ويكون تذكرة للشادين حتى ثم لنا ما يأتي الأول أننا جمعنا كل ما وقع عليه الاختيار من المنظوم والمنثور قديمه وحديثه مع الشكل والشرح الوافي وفذلكة تاريخ الأديب ونقد أدبه وبيان مكانته الأدبية في الأدب العربي الثاني أنا إتماماً للفائدة وتمييزاً لمختاراتنا لم نكتف بالمختارات العربية بل رغبنا إلى فاضلين من المضطلعين بأدب اللغات الإفرنجية وهما الأستاذ محمد السباعي والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني أن يعربا لنا أفضل ما يقع عليه اختيارهم فيما يقرؤن من آداب الأمم الأخرى من انكليز وجرمانيين وفرنسيين وروسيين وفرس وهنود وصينيين ومن إليهم فظفروا من ذلك بالكثير الممتع مما سيكون ثروة ثرية للأدب العربي الثالث أنا رتبنا هذا المجموع ترتيباً حسناً بديعاً فيما نرى وذلك لا أنا جعلناه على أبواب الشعر من المديح والنسيب والفخر والهجاء والرثاء وما إليها ولا أنا جزأناه إلى أبواب الأدب من الخطب والرسائل والمقامات والأمثال والقصيد وما إلى ذلك بل أنا كسرناه على أبواب المعاني العامة وكل باب على فصول خاصة تنطوي فيه فجعلنا الباب الأول مثلاً باب الصفات وهو إلى فصول الفصل الأول في صفة الربيع والأزهار، والغياض والأشجار، والمياه والأنهار، والمطر الرعد والبرق والثلج والبرد والنسيم وقوس قزح وما يتصل بذلك: الفصل الثاني: في صفة الليل والنهار وأجزائهما والشمس والقمر والكواكب وما يداخل ذلك: الفصل الثالث: في صفة الأبنية والقصور والدور والآثار والأطلال وما أليها: الفصل الرابع: في صفة السفن والأساطيل والبحار وهلم جراً والباب الثاني باب الأدب والأخلاق والتربية والفلسفة الأدبية وهذا الباب إلى فصول جزئية متشبعة وهلم إلى أن يتم الكتاب على هذا المنوال - وقد وسمناه بديوان الأدب ووضعنا له تمهيداً مطولاً فيما هو الأدب ونبذة في تاريخ الأدب العربي والأدب عند سائر الأمم والموازنة بين الأدب العربي وآداب الأغيار ونقد حركتنا الأدبية الحديثة ووجوه النقص فيها. وقد جزأنا الكتاب إلى عشرة أجزاء كل جزء يقع في نيف ومائتي صفحة وقد شرعنا في

طبع الجزء الأول منه وجعلنا قيمة الاشتراك في كل جزء خمسة قروش مصرية تدفع مقدماً. أما بعد تمام الطبع فثمانية قروش فمن أحب أن يشترك في الكتاب فليرسل إلينا الخمسة قروش طوابع وستة ونحن نرسل إليه الوصل والله الموفق إلى السداد.

الحكمة المشرقية

الحكمة المشرقية كتاب ذو أسفار ثلاثة من أفضل الآثار الأدبية الأول حكم فتاحوتب الوزير والحكيم المصري القديم الثاني جولستان أو روضة الورد وهو ديوان أدب بديع لشاعر الفرس الكبير مصلح الدين سعدي الشيرازي الثالث كتاب تربية المرأة عند اليابان لفيلسوف ياباني - وقد عرب هذا الكتاب للبيان الأستاذ محمد لطفي جمعه وهو يباع بخمسة قروش صاغاً وأجرة البريد قرش واحد.

بسم الله الرحمن الرحيم وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد فهذا ما نستأنفه اليوم من السنة الثانية للبيان: نمضي فيه إن شاء الله على ما توخينا من قبل. ونأخذ له في ناحية عريضة من فسحة الأمل، ونستظهر بركن شديد من استعانة الله في التوفيق إلى العمل، ونصبر وإن كان الأمر شديد المزاولة، ونحاول وإن كان عسير الخطة في المحاولة، فقد أتت علينا السنة الأولى ونحن وكأنما نسند بها في حدود المستقبل لهذا الأدب العربي، ونشتد بالمدة القصيرة وراء الغاية المتطاول شأوها فلا نستمد راحة ولا نطمئن إلا خفض ولا نبالي ما أصابنا به من غرضنا البعيد، ملا ما ورد علينا إذا هو رد لنا شيئا مما نبتغي أن نفيد فانه ليست الآفة في خدمة هذه اللغة وآدابها وعلومها أن يلقى المتصدي لها من العنت والبلاء والجهد وأن يغشاه من ذلك ما يغشي ولكن الآفة كيف يذهب عنه أنه سيلقى النصب مما يعاني وهو إنما في قيامه بأمة ويخطو في سعيه بتاريخها. ومتى كان النهوض بالأمة هيناً والخطو بالتاريخ ليناً، فنحن أنشأنا (البيان) وشأنه في الأمل شأنه. وأرصدنا له نفساً مرة أمرها في العمل أمرها وكنا مستبصرين فيما سنلقى فكأنه قدم علينا قبل أن نقدم عليه وأعددنا للأمر عدته فلم ننكل حين أقدمنا، ولم نتأخر إذا تقدمنا، ولا نقول إننا جعلنا غايتنا رضي أحد فرضي أو تسخط وإنما كانت الغاية واجبا لأدب تعين علينا أداؤه، وديناً للغة كان حقاً علينا وفاؤه، فما انتهينا حيث بلغنا من ذلك حتى صرنا إلى منزلة من رضي أهل الفضل لم نكن نطمع فيما دونها وما برح الفضلاء برضاهم وثنائهم وارتياحهم منذ القدم كأنهم ثواب الفضيلة وجزاؤها وكأنهم الوفاء لها في هذه العاجلة يستحثون من همة الواني ويبعثون من عزيمة المخلد ويتلقون غرة المتقدم وهم أنفسهم الذين يضمنون بقاء الفضيلة للحياة ويضمنون للفضيلة بقاء الحياة فلست واحدا منهم إلا كل أروع نباض كأنه قلب من قلوب الدنيا في شرف نزعته، وكرم نحيزته. وإقباله عليك مضافراً، وانصرافك عنه ظافراً، ورؤيتك إياه على حال كالذي ينتظرك في كل غمرة تخوضها، ويقف لك عند كل صعبة تروضها، فهؤلاء كما علمت وإن منهم القوم الكرام الذين سلسلت بهم مطالب البيان من قرائه، وانفرجت بهم مذاهب من كتابه وشعرائه، فلم يحل عليه الحول إلا بالغا ما يضارع التقدير في كرمهم والثقة بالرجاء فيهم حتى أصبح والحمد لله كأنما كشف عن الأدب ليلا فكأن شمسه، ومد للغة يوماً كان يقال أنها لا تتجاوز أمسه، ورد

على الأسلوب الفصيح بقية دماء كان ينزل بها رمسه. نقول هذا ولا نمتن وإن رفقنا، ولا نتكثر وإن صدقنا ولكن هي المحمدة للذين آزرونا وكانوا لنا فكنا بهم ونحن لا نرضى أن نشكرها لهم حتى نشيد بها ولا نرضى بالإشادة حتى نقدمها في صدر الكلام ولا نرضى بتقديمها دون أن ننزلها مع رضاهم في منزلة مذكورة، ونقرنها إلى فضلهم كما تقرن البسملة إلى كل سورة. وبعد فقد علم القراء إننا فيما انتهجنا من خطة البيان إنما نرمي إلى غرض من تربية الأمة ليس لنا في البلوغ إليه أوثق من اللغة وآدابها فقد أصبنا الأمة متحللة من تاريخها منفصلة بحاضرها عن ماضيها ذاهبة في غير طريقها وكأنما قطع بها على هذا الضلال فهي تبرح مترقبة من تتبعه وان تبعته إلى الضياع والتلف. ورأينا من نشئنا من سدرت أبصارهم وسحر أعينهم زخرف الغرب ونسوا الله فأنساهم أنفسهم وكانوا على ذلك بيننا نحوطهم ونرعاهم وهم يرون أننا نحن بينهم وإنهم هم الأمة على قلتهم وتصدعهم ويعلم الله أنهم في ثوب الأمة رقع تترك فلا تروق، وتنزع فلا تكشف إلا عن خروق. هؤلاء يحسبون إن بناء الأمم هندسة نظرية فكل ما قامت عليه مدنية الغرب فهو بعينه الذي يتسق به أمر الشرق وإلا حسبوه ما شاؤا وشاء لهم قصر النظر وضيق المضطرب فأباحوا ذماره وابتلوه بالكره وبرموا بأمره وأنفوا له ولأنفسهم منه ثم هم يرون أنه كما ينسلخ أحدهم من جلدته في الأمة تستطيع الأمة أن تنسلخ من جلدتها في التاريخ فإذا كانت لنا مدنية ولغة وآداب استطعنا إن نتبدل بها مما يحبون مدنية ولغة وآدابا ولا ضرر في ذلك علينا ولا ضرار فأولى لهذه الفئة وأولى لها. ورأينا بإزاء نشئنا قوماً جمدوا على القديم فكانوا أقدم منه واستمسكوا بكل مالنا من تاريخ ومدينة وعادت حتى كأنهم بعض ما هجر من ذلك فلا يرون أن تأخذ الأمة شيأ إلا ما لا حفل به مما لا ينوع تاريخها ولا يبسط في لغتها ولا ينكر من أمرها كأنها مادة جامدة في الفضاء، وكأن البلى أمنها من البلاء، وأعفاها على الدهر من العفاء، والفريقان إنما أتيا من جهة واحدة وهي سوء التقدير فيما ينفع وما يضر فلا يستبطنون الأمر يغرهم ظاهره، ولا يكتنهون ما يسرهم أوله إذا كان يسوء غيره آخره، ولقد كان من ذلك أن الأمة لم تنتفع بكليهما لأن أحدهما يجهل أمرها على علم بما ينفع غيرها من الأمم والآخر يعلم أمرها

على جهل. فرأينا أن يكون البيان صلة بين الفريقين ليجمع في منفعة الأمة ما ترك الزمن من أدب وحكمة وما استحدث من علم وقوة ويصرف حب نشئها إليها بما يقفهم عليه من آدابها وما يكشف لهم من أسرار مدنيتها فهم إنما بهتوا لظنهم أنها أمة اختلست غفلة الأمم فكان أمر مدنيتها استطالة وتمكنا أو كأمر المستبد بإرادته إذ لا يجد إرادة تعارضها ولا عزيمة تقوم لها فحسبوا أن ما ذهب به الزمن من مجدها ذهب بحقيقته معه إذ لم تكن له في وهمهم حقيقة تجري على سنن الاجتماع وتصلح أن تكون في عصر العلم والفلسفة مما يلائم أرقى ما انتهى إليه العلم والفلسفة. وذلك الذي أراده البيان منزع لعمري غير أنه بعيد الشقة كثير الغمرات وغير أننا ضمننا أطرافه ونحينا عن النفس في أمره الضجر والملل وسلكنا إليه في مذاهبه وطلبناه بمطالبه وما سنة البيان الخالية إلا مرحلة طويناها بين الأمة وبين قلوب نشئها وكهولها والله المستعان على ما نستقبل. والقارئ إذا تدبر ما أسلفناه رأي أننا أحكمنا الأمر في اختيار أبواب البيان إذا جعلناها على الجهات الأربعة: اللغة والتاريخ والنقل والتعريب: فما خرج شيء من مجدنا ولا يعود إلا منها وهي أبواب تجمع بيننا وبين مدنيتنا الأدبية ثم تصل هذه بمدنيات الأمم. (ونحن) قائلون كلمة موجزة في فضل هذه المذاهب الأربعة وشرفها على ما سراها ليعرف القوم لم آثرناها وحتى يكون القراء معنا جميعا على بينة مما نرمي إليه فإن ذلك مما يزكي عملنا وينميه إذ يجعل البيان لكل قارئ كأنه بيان للناس. فأما اللغة فأصل الأمر فيها أن يديرها المتكلمون على محاكاتهم ويرموا بها إلى أغراضهم ويجعلوها من متناول الحس فإن هي وفت بحاجتهم اقتصروا عليها وإلا استبدلوا منها ذهبوا بها اشتقاقا وبحتا، ومسخا بحتا، لا يبالون ما نسبة حديث إلى قديم من ألفاظها وتراكيبها إذ القديم والحديث سواء عند الحاجة الحادثة إذا لم يبتغ بهما إلا التسبب إليها. ومن ثم كانت العامة وأشباه العامة آفة على اللغات في أخلاق جدتها وتصويح زهرتها والذهاب بما فيها من ماء ورونق حتى تصبح في أطراف الألسنة كزة كأنها مادة لا أثر فيها للفكر بل يلقيها ما تدل عليه من ضروب المادة وأنواعها التي يعبر عنها كما يلقى الإشارات على أصابع الخرس وإن هذه لتجئ أصدق وأوفى بالدلالة في أصل الوضع لأنها تشير إلى الحواس

والحواس لا تكاد تخطى فهم ما تدلها عليه. وقد رأينا من فتياننا الذين لبست العجمة ألسنتهم ما أن قليله ليستعظم في بلائه وشدته وسوء أثره في مدنيتنا الأدبية فهم لا يريدون أن يرجعوا بنا إلى الفصحى من العربية ولا أن يتناولوا من أساليبها ويأنفوا كذلك أن يخطوا بأقلامهم إلى العامية في أسواقها وطرقها بل ينحلون أنفسهم القدرة على خلق اللغات والمواضعة عليها وتيسير سبيلها في الإجتماع العربي ثم لا يتعدون هذا الطور من التأله الكاذب فلا ندري أشر أريد بنا وبهم حتى نزعوا ونزعنا واستجمع كلانا الأقاويل والحجج وافترقنا في سبل الألفاظ كأنا أمتان في أمة واحدة أم هم يمثلون اليوم في تاريخنا أولئك الغزاة الأجلاف الذين انصبوا على مدنيتنا وآدابنا من التتر وغير التتر فأحرقوا كتبنا وعفوا آثار علمائنا وتركوا في تاريخنا مكانا خربا لا يعمر صدعه الزمن كله فإن كان ذلك نتحا في عرف هؤلاء فاللهم أغلق بيننا وبينهم واللهم حوالينا ولا علينا. وإن كان جهلا ونزقا وتحمسا فقد جعلنا من أكبر همنا فيما نكتبه ونستكته في البيان أن نتبسط في الكلام على صلة العربية الفصحى بتاريخنا وقيام مدنيتنا بها وإننا إن نزلنا عنها أو فرطنا في إحيائها وإنمائها فقد تركنا معها أوثق رابطة جمعتنا وأمكن عروة لويت علينا وألنا بانحلالنا ما عجزت الأمم عن الأنته تحت أضراسنا وبين أنيابها حتى قطعنا دهرا من التاريخ الاستعماري في الشرق ونحن نتردد بين الأضراس واللهوات كلما كلت الأولى عن طحننا ونبت عنا دفعتنا إلى الأخرى لتزدردنا جملة واحدة وتعي هذه بازدرادنا وتضيق عنا فنردنا إلى تلك ونحن علي ذلك نحن سيرة بعد سيرة لا يمسكنا إلا لغة نجمعنا بأرقى ما في الدين من الكمال، ودين يجمعنا بأرقى ما في الدنيا من معاني الاستقلال. وأما التاريخ فهو يتلو اللغة عندنا إذ هو في الحقيقة لغة الحياة الصامتة التي طوى الدهر أشخاصها ولذا كان بديها أن لا تفرط أمة في لغتها إلا فرطت في تاريخها وإن ذلك ليضعفها بما يشبه العبودية وإن لم يتعبدها أحد فترى لها حاضرا لا تنتفع به كأنه ليس لها، وماضيا لا تتصل إليه وكأنه ليس لها، ومستقبلا لا تحفل به فكأنه على هذا القياس ليس لها. وما بلغت أمة من الذل ما تبلغ هذه الأمة الخيالية التي تنكشف عن ملاجئها المنيعة لتتحصن بالعراء، وتسير في سبيل الحياة ثابتة. . . وهي تجهل ما أمام وما وراء. من أجل ذلك عنينا بالقول في تاريخ الإسلام وفلسفته وما يداخله من علل الإجتماع ويتصل

به من أسباب العمران ويجتمع إليه من سن الحياة ثم ما نصعب على هذا التاريخ من أحوال الأمم وما تسمح له من قيادها وبالجملة كل ما يصور هذه الحياة الصامتة بأجزائها وألوانها حتى تنطق أو نفهم عنها كأنها تنطق. وأما النقل فهو مما نعزز به اللغة والتاريخ لأننا قصرنا ذلك على الطرفة الممتعة من الأدب والأسلوب الرائع من الكلام والنادرة الفذة من التاريخ وما يكون من مثلها مما لا يذو مناله إلا الذي باع، ولا يتحصل إلا بعد التوفر على الاطلاع. وإن لنا في ذلك غرضا هو أكبر الغرضين وأوفاهما بالفائدة نتذرع به من أحياء آثار العقول إلى أحياء العقول نفسها فإن أمة لم يستفتح كل جيل من تاريخها بأسماء رجالها ونوابغها حتى يظلوا فيها أحياء بآثارهم وكأنهم لم يخرجوا من الدنيا إلا ليتجردوا من المادة الفانية وليعودوا إليها عقولا خالدة - هي أمة لا تنبغ فيها العقول إلا نبوغ الإصطلاح الذي تقضي به ضرورة الاجتماع. وما من جماعة وإن كانوا من عصارة الزنج إلا وأنت واجد منهم النبوغ الاصطلاحي ولو بالعادات والخرافات والعضلات والأنياب والأظفار ونحوها مما تعده الجماعة من مقومات الحياة. ولولا أن طائفة من حكمائنا وأهل الإصلاح فينا عملت على نشر الكتب القيمة مما تركه أسلافنا لما تخطينا في الأدب ذلك الطور الإصلاحي الذي وقف عنده تاريخنا ولبقينا حيث كنا من قبل نستنفد أيامنا في غير درك ونضيع أنفاس الحياة فيما لا حياة فيه. (وأما التعريب) والنقل عن اللغات الأجنبية فإننا أردنا به إتمام عملنا إذ لا نزعم إننا أباء الأرض ولا أبناء السماء إنما نحن امة من الأمم تستمد من التاريخ الإنساني لتعمير مكانها من هذا التاريخ، فنحن في أشد الحاجة إلى مبدعات العقول حتى نشا به الأمم التي تطيف بنا في كل ما يجعلنا امة وحتى نجانسها في تاريخ الاجتماع جناسا لا تاما ولا مقلوبا فإن كليهما شر على استقلال الأمة من الأخر. وإنما نريد الجناس المعنوي الذي يشبه عند الترجيح مكافأة قوة لقوة أخرى. والأمم في منازعة الحياة كالجيوش إن لم تكن في كل جيش قوته الذاتية لم ينفعه ما يقتبسه من أساليب استعمال القوة عن الجيوش الأخرى فكل ما أنتجت العقول الغربية هو عندنا في

الرتبة بعد لغتنا وتاريخنا وأدبنا فإذا نحن استكملنا هذه وأحطنا بها وأمنا جانب التفريط فيها لم يكن شئ انفع عندنا مما نقتبسه من تلك العقول لأننا نأخذ حينئذ لنمكن أنفسنا من القوة التي استعنا بها لا لنمكنها من أنفسنا. وإذا انعم القراء على تأمل ما بسطناه أدركوا السر الذي من اجله يؤثر البيان كل أسلوب فصيح ويقدمه ويحرص عليه الحرص كله ولا يبالي فيه اعتراض فئة هي خاصة العوام وعامة الخواص فإننا نطلع من اقر الأمر على ما في أبعده ولم نبتغ بهذا البيان إن يكون وسيلة من وسائل العيش التي لا يقدرها أهلها بالأسباب ولا بالنتائج ولا بالمنافع ولا بالمضار ولكن بشئ واحد وهو مقدار الثمن والفائدة. . . . ولو كنا نجري في أمرنا على الهواء دون الرأي وعلى الموافقة دون التقدير وعلى منفعتنا دون منفعة الأمة لأثرنا أهواء القوم وتقدمناهم بالمواتاة عليها والمساعدة فيها وابتذلنا لغة البيان وأساليبه وعادينا في مودتهم الأدب واتقينا موجدتهم بتقدير أمورنا على مقادير (كيماوية). . . من رضاهم وسخطهم وإقبالهم وإدبارهم ولاعتبرنا كلمة الثناء من أحدهم البيان بمستقبل الأمة كلها. . . . . . .! بيد إن الأمر جد حقيق إن لا يسمع من هذا السخف كثيرا ولا قليلاً، وحق بين لا يحتمل من الباطل برهانا ولا دليلاً، وإنما هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا. عبد الرحمن البرقوقي

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية (تلخيص واستدراك) نشرنا من هذه الرسالة في السنة الأولى من البيان نبذة هذا تلخيصها: قام الرحالة من الإسكندرية بنية الوفود إلى الأندلس سنة 345 للهجرة في مركب كبير لأمير الأندلس عبد الرحمن الناصر وكان هذا المركب قد قام من الأندلس إلى المشرق ببضائع للأمير بنية بيعها في ثغور المشرق والاستعاضة عنها ببضائع مشرقية فلما مر بالإسكندرية نزل فيه الرحالة ووجد به كثيرا من أهل المشرق يريدون الوفود إلى الأندلس ومن بينهم أبو علي القالي صاحب الامالي وابن حوقل وفضل المدينة المغنية وناس آخرون ثم اقلع المركب ومر في طريقه إلى الأندلس باقريطش كريد وهنا وصف الرحالة هذه الجزيرة بما يناسب حالها في ذلك العصر ثم قام المركب من اقريطش أخذا سمته إلى جزيرة صقلية ولما قارب الجزيرة لمح الرحالة أسطولا كبيرا على وجه الماء يغدو ويروح في بحر هذه الجزيرة وكان هذا الأسطول للعبيديين أصحاب صقلية ثم دخل المركب مجاز مسيني الواقع بين صقلية وبين قلورية كلابره جنوب ايطالية من بر الأرض الكبير أوربة وما زال حتى ارسي على مدينة مسيني وهنا أخذنا في وصف جزيرة صقلية وتقويمها وتاريخها - ولكن فاتنا إن نرسي بالمركب أولا على مدينة ريو الايطالية (رجيو) المقابلة لمدينة مسيني حتى يشاهد الرحلة عز العرب بها وبعد ذلك يعبر المجاز إلى مسيني ويتنقل بين بلدان جزيرة صقلية إلى إن ينتهي به التطواف إلى مدينة بلرم قصبة هذه الجزيرة ثم ينزل منها في مركب قادم من القسطنطينية بهدايا من قبل ملك الروم إلى عبد الرحمن الناصر - وذلك لان الرحلة علم أن أسطول المعز لدين الله الفاطمي يتأثر مركب الناصر أخذا بثأره إذا اعتدى هذا المركب الأندلسي وهو ذاهب إلى المشرق على مركب للمعز كما سيمر بك - فليفرض القارئ أن المركب الآن سائر في مجار مسيني ولم يرس على بلد بعد ومن هنا نستأنف القول في الرحلة - قال الرحالة. بعد إن وصف هذا المجاز بقوله - فرأينا بحرا صعبا ينصب انصباب العرم ويغلي غليان المرجل الخ الخ - إلى أن قال: ثم تداركنا صنع الله مع السحر ففترت الريح ولان متن البحر وجاءت ريح رخاء زجت

المركب تزجيه حسنة إلى مدينة ريو وكان ذلك في فجر اليوم التاسع ليوم انفصالنا عن الإسكندرية وما ارسي المركب على هذه المدينة حتى اقلع عنها كيلا يحسه أسطول العبيدين ويثأر منه وذلك فيما علمت أن المركب الأندلسي تحرش وهو ذاهب إلى بلاد المشرق بمركب للمعز معه كتب ورسائل فقطع عليه المركب الأندلسي وأخذه بما فيه - فتملكنا الذعر لذلك الخبر ونزت قلوبنا خوفا على أنفسنا ومن ثم اعتزمت إن انزل من هذا المركب على اقرب بلد يرسي عليه وكذلك نزلت منه عند إرسائه على هذه المدينة وحمدت الله الذي لا يحمد على المحبوب والمكروه سواه. بيد إني ما انفصلت عن المركب حتى انفصل عني قلبي وسار مع من فيه وأصبحت المعني بقول القائل: هواي مع الركب اليمانيين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق ذاك انفصالي عن فضل المدينة التي هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وانس الوحيد وزاد الراكب ولا بدع فهناك الجمال الرائع، والظرف البارع، والشباب البض، والأدب الغض، ورقة الحاشية، وخفة الناحية، وعذوبة المعاشرة، وحلاوة المحاضرة. وحديتها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز أن طالما لم يملل وأن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز شرك العقول ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المستوفز فكأن لفظ حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا تنسى الغوا معاده ... وتكون للحكماء ذكرا وما أنس من الأشياء لا أنس صوتها العذب الذي كأنه مجاج النحل وغناءها الحبيب إلى النفوس حتى كأنه ذوب جميع القلوب وقد كان يخيل إلينا وهي تغنينا في المركب أنا في الفردوس يطربنا نبي الله داود. وأين لا أين مزهرها الذي كانت إذا تناولته تضرب على أوتاره فكأنما تنتظم قلوبنا لتقرع أوتارها. فآه من جمالها وآه من غنائها وآه من عودها.

ولكن نزلت ريو وفارقتني فضل، ولله الأمر من قبل ومن بعد. يا وحشتنا للغريب في البلد النازح ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا يقول في نأيه وغربته ... عدل من الله كل ما صنعا وهذه ريو هي مدينة عظيمة من مدائن جزيرة قلورية من بر الأرض الكبيرة واقعة على مجاز مسيني بينها وبين مسيني نحو من عشرة أميال وبها مسجد كبير بناه في وسطها أبو الغنائم الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي وإلى صقلية كان من قبل المنصور العبيدي بعد أن اكتسح بلاد قلورية جميعا وتغلغل في أحشائها وشيد بها المعاقل والحصون وأرغم أنوف أهليها من الروم وذلك فيما بلغني أن الأنبرور صاحب القسطنطينية كان قد أرسل ستة تسع وثلاثين وثلاثمائة للهجرة بطريقا في البحر في جيش كثير إلى جزيرة صقلية فأرسل الحسن إلى المنصور العبيدي يعرفه الحال فأرسل إليه أسطولا فيه سبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف راجل سوي البحرية وجمع الحسن إليهم جمعا كثيرا وسار من بلرم قصبة صقلية في البر والبحر فوصل إلى مسيني وعبرت العساكر الإسلامية إلى ريو هذه وبث الحسن سراياه في أرض قلورية ونزل على بلد يسمى جراجة وحاصرها أشد حصار حتى أشرف أهلوها على الهلاك من شدة العطش وأنه لفي ذلك إذ وصله الخبر أن الروم قد زحفوا إليه فصالح أهل جراجة على مال أخذه منهم وسار إلى لقاء الروم ففروا من غير حرب إلى مدينة تدعى بارة ونزل الحسن على قلعة تعرف بقلعة قسانة وبث سراياه إلى قلورية وأقام عليها شهرا فسألوه الصلح فصالحهم على مال أخذه منهم ودخل الشتاء فرجع الجيش إلى مسيني وشتى الأسطول بها فأرسل إليه المصور يأمره بالرجوع إلى قلورية فسار الحسن وعبر المجاز إلى جراجة فالتقى المسلمون والروم يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس فانهزمت الروم وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل وغنموا أثقالهم وسلاحهم وذوابهم ثم دخلت سنة إحدى وأربعين فقصد الحسن جراجة فحصرها فأرسل إليه الأنبرور يطلب منه الهدنة فهادنه وعاد الحسن إلى ريو وبني بها مسجدا كبيرا في وسطها وشرط على الروم أنهم لا يمنعون المسلمين من عمارته وإقامة الصلاة فيه والأذان وأن لا يدخله نصراني ومن دخله من الأسارى المسلمين فهو آمن سواء

كان مرتدا أو مقيما على دينه وإن أخرجوا حجرا منه هدمت كنائسهم كلها بصقلية وأفريقية فوفى الروم بهذه الشروط كلها ذلة وصغارا. أما قنورية فهي جزيرة كبيرة داخلة في البحر مستطيلة شرقي جزيرة صقلية وأهلها إفرنج ولها بلاد كثيرة وأرض واسعة ينسب إليها فيما أحسب أبو العباس القلورى حدث عنه أبو داود السجستاني في سننه، وقد غزى المسلمون أزمان بني الأغلب هذه الجزيرة وأرض أنكبردة وأمعنوا فيهما واستولوا على مدينة بارة الواقعة على جون البنادقيين أيام قارله أنبرور الفرنج وكذلك استولوا على مدينة طارنت من أرض أكنبردة ومدينة ملف وقلعة قسانة وبلدانا أخرى وقرعوا أبواب رومة العظيمة، وغنموا منها غنائم لا يستقام لها قيمة، وضربوا الجزية على البابا عظيم النصرانية - وذلك عدا أنهم فتحوا مدينة جنوة الواقعة على خليج الجنويين وأكثر جزائر هذا البحر الرومي - وجملة القول أن المسلمينا انحنوا في بلاد الأرض الكبيرة والحوافى قهرها، وغلبوا أممها على أمرها، وضربت أساطيلهم بجزائر هذا البحر ضراء الضياغم بفرائسها، وأديل لهم بها على أملاكها وأناسها، وذلك كله بما قوى عزائهم من الحق واليقين، وألف بين قلوبهم من وشائج هذا الدين، وبما ألجأتهم إليه الحال، وامتلاكهم لسيف هذا البحر الجم الأهوال، مما أحكمهم وأشفهم بحبه، وجعل لهم دربة بركوبه وحربه، وأغراهم بإنشاء الأساطيل فيه ينقضون بها على جزائره التي يخطئها العد والإحصاء، وعلى عدوته الشمالية وهي أمنع من العقاب في أجواز الفضاء، وعلى أهلها من أمم فرنجة وهي أعز وأبعد منالا، وإن كان للمسلمين. شرف ينطح السماك بروقيه ... وعز يقلقل الأجبالا وهم البحر ذو الغوارب إلا ... أنه صار عند بحرك آلا وقد كان المسلمون في الصدر الأول يتحاشون ركوب البحر حتى كان من عمر بن الخطاب لما كتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر يستوصفه البحر فكتب إليه عمرو فيما كتب أن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود - أن أوعز بمنع المسلمين من ركوبه فتحرجوا منه وعبروا على ذلك حينا من الدهر حتى إذا كان لعهد معاوية أذن في ركوب أثباجه، والجهاد على متون أمواجه - وذلك لأن العرب لبداوتهم لم يكن لهم مران عليه وحذق بركوبه بينما الروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على

أعواده للحرب والاتجار مرنوا عليه وأحكموا الدربة بثقافته والحزب في أساطيله حتى كان من ذلك أن أغار الروم من العدوة الشمالية على إفريقية من العدوة الجنوبية والقوط على المغرب منها أجازوا في الأساطيل وملكوها وتغلبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لهم بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة وطنجة وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومه ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد - فكان ذلك ديدن أهل هذا البحر الساكنين حفافيه في القديم والحديث - فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم الأعاجم خولا لهم وتحت أيديهم ومت إليهم كل ذي صنعة بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته شرهوا إلى الجهاد فيه فأنشؤا السفن والأساطيل وشحنوها بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من هذه الأمم الحمراء واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشأم وإفريقية والمغرب والأندلس فأوعز عبد الملك بن مروان إلى حسان بن النعمان عامل إفريقية باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله بن الأغلب كما سيمر بك ثم تسلسل الأمر حتى بلغ شان الأساطيل عند العبيديين أصحاب إفريقية فيما سمعت ورأيت وعند بني أمية بالأندلس كما شاهدت هنا في المرية مبلغا غلبوا معه على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه وصار لا قبل لأمم النصرانية بأساطيلهم به وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل منه مثل أقريطش وصقلية وقبرص ومالطة وقوصرة وسردانية وميورقة ومنورقة ويابسة كما سيمر بك إن شاء الله. وقد كان أجل عناية العبيديين وبني أمية بشأن الأساطيل وتفوقهم في ذلك على سائر الممالك الإسلامية للسبب الذي قدمناه وهو وجودهم على ضفاف هذا البحر - أن انبعثت قرائح الشعراء في الأندلس وإفريقية بالقول في وصف الأساطيل واختص أدباء هذين القطرين بهذا الباب من الوصف حتى تكاد لا تجد لشعراء المشرق يدا فيه - ومن أحسن ما سمعناه لشعراء المغرب في الأسطول دالية أبي القاسم محمد بن هانئ الشاعر الأندلسي المنقطع الآن للمعز العبيدي وقد تقدمت في صدر هذه الرسالة. وبائية علي بن محمد الأيادي

التونسي شاعر القائم العبيدي وهي أبيات أسمعنيها بعض أدباء المرية ها وفيها يقول: شرجوا جوانبه مجاذف أتعبت ... شأو الرياح لها ولما تتعب تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طورا وتجتمع اجتماع الربرب والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرب عقربا من عقرب وعلى كواكبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المذهب فكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب ومنها في وصف الشاعر: ولها جناح يستعار يطيرها ... طوع الرياح كراحة المتطرب يعلو بها حدب العباب مطاره ... في كل لج زاخر مغلوب يسموا بأجرد في الهواء متوج ... عريان منسوج الذؤابة شوذب يتنزل الملاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب فكأنما رام استراقة نقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب وكأنما جن إبن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب سجروا جواحم نارها فتقاذفوا ... منها بألسن مارج متلهب من كل مسجور الحريق إذا إنبرى ... من سجنه انصلت انصلات الكواكب عريان يقذفه الدخان كأنه ... صبح يكر على الظلام الغيهب إلى أن قال: ولواحق مثل الأهلة جنح ... لحق المطالب فأئتات المهرب يذهبن فيما بينهن لطافة ... ويجئن فعل الطائر المتقلب كنضانض الحيات رحن لواعبها ... حتى يقعن ببرك ماء الميزب وبعد فإن لشعراء المغرب من بارع القصيد في هذا الباب مالا يحي كثرة وما ينم عن عظمة الأساطيل عند الدول الإسلامية وبلوغها لديهم الشأو الذي لا يلحق حتى وصول المسلمون إلى ما وصلوا إليه الآن من الصولة واتساخ الملك وضخامة السلطان. ومن هنا تعرف مكان الأساطيل من الدول ولاسيما دول البحار مثل الدول الإسلامية لعهدنا وأن الأسطول هو سياج الدولة وعمادها، وبه عزها وعليه بعد الله اعتمادها، بل هو درعها

المسردة التي تتقي بها سهام الأعداء وتحول، وسلاحها الذي تطول به في البحر وتصول، وجناحها الذي تطير به في سماء المجد وتجول، وأن دولة لم تعنى العناية كلها بالأساطيل، وترسلها على متن هذا البحر طيرا أبابيل، فهي لعمري دولة مقصوصة الجناح، وكالأعزل يقتحم الهيجاء بغير سلاح. وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير كف لم تؤيد بقائم.

الحرب

الحرب الإنسان أعرف بالحرب من أن يعرّفها، وأخبر باهو إلهاً من أن يبغض فيها، وهو لا يخوض غمراتها ويقتحم حوماتها لاستثمار العاطفة غير مختار العقل والحرب عريقة في الطبع عراقة الحياة. فأنها شبت من يوم تعدد الطالبون لمطلوب غير محدد، واختلف غرضان في سبيل واحدة. بل إنها لأقدم من ذلك. فأنها نشأت بين ضواري الغبراء، وكواسر، الهواء وسوابح الماء، وشجرت بين الوحش والإنسان زمانا قبل أن تشجر بين الإنسان والإنسان، بل لقد وجدت حيث لا يوجد حس ولا حياة، وظهرت بين النبات كما ظهرت بين الأحياء. وهي مع قدمها وكونها غير شاذة عن الطبع ولا غريبة عنه، لا يزال الناس يختلفون في لزومها وعدم لزومها ويجادلون في نفعها أو ضررها وهل هي مشروعة سائغة أو أنها محض قوة غاشمة ظالمة. وترى أنصارها يعتمدون على أنها مظهر من مظاهر تنازع البقاء وأن النوع البشري كالشجر يحتاج إلى التشذيب آناً بعد آن وإلا نما عدده وملأت شعاب الأرض شعبه، وأنها فوق ذلك مرتزق الألوف من الجنود والصناع وتجار المعادن والمناجم. وأنها تهز أريحية النفس وتشب فيها النخوة وفضيلة المفاداة بالحياة. ثم يقولون أنها قوام روح العصبية في الأمة ومساك النعرة القومية، وأن مجد كل أمة إنما هو في ذكرى حروبها وتاريخ غاراتها، ولولا ذكرى هذا المجد لخملت روح الأمم وأنبتت الوشائج بين ماضيها وحاضرها. ولعل هذا القول الأخير أقوى ما يعتمدون عليه وأشبه بالصدق والصواب. فإن الصبية في الأمة لازمة لزوم الشخصية للفرد. والأمة لا عصبية لها صغيرة في عيني نفسها. ذليلة بين جاراتها. سريعة الاستكانة إلى الحكم الأجنبي. ومتى كانت الأمة منحلة العصبية فأحرى أن لا تكون لها تجارة خاصة بها. أو صناعة تنتمي إليها. أو يكون لها تاريخ تعتز به. وكرامة تغار عليها. وفقد العصبية في الأمة إنما هو إحساس منها بالضعف والجور واعتراف منها بالتخلف عن سواها في فضائل الجنسية والقومية. ولا ينتاب هذا الضعف إلا أمماً توالى عليها الحكم الأجنبي. وألفت أن لا تري من أبنائها حاكماً تكبره أو عظيماً تلتف حوله. فيصبح كل ما هو من جنسها صغيراً لديها وكل ما هو غريب عنها موقراً مرغوباً فيه. وقد استعان زعماء السياسة وأئمة النهضات الاجتماعية بهذه الفضيلة على نشر دعوتهم

وحفز الأمم إلى أغراضهم. ولو بحثت عن سر قيام الدعوات الدينية لما وجدت إلا أنه اعتقاد راسخ في قلوب أتباعها بأنهم على الهدي وأن كل من خالفهم على الضلالة وأنهم وحدهم أولو الحظوة عند الله. وأما من عداهم فمطر ودون من ملكوته. محرومون من رضوانه. بيد أن لهذه الفضيلة شططاً يضحك أحياناً وقد يفضي بها أهلها إلى حد المغالاة. فإنك لا تعلم كيف ألقى في روع الإنكليزي مثلاً أنه أرقى الناس أخلاقاً وأسماهم محتداً وأنبلهم سجية. ولا كيف يعتقد الفرنسي أنه خير من كل ألماني. أو كيف أن الألماني يري الفضائل كلها مجتمعة فيه وأن ما عند سائر الأمم منها فضلة كالصبابة في الكأس. على أنها مغالاة تحتمل إلى جانب ما للعصبية من النفع. وقد ينتهي ضيق هذه العاطفة إلى السعة. ويؤول أمرها إلى التسامح لاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه تواصل الأجناس المختلفة. ووقف أبناء كل أمة على مزايا الأمم الأخرى ونقائضها. كما تؤول أثرة الجهول إلى شعور نبيل بالكرامة الذاتية. متى هذبها العلم وصقلتها الخبرة. فإن كانت الحرب كما يقولون مبعث هذه العصبية فمرحباً بالحرب وأهلاً. وإن لم تكن إلا الحرب وسيلة إلى إحياء روحها وتماسك أجزائها فالحرب قوت لا غنى للأمم عنه. ولا قوام لها إلا به. ولكن ما أبعد هذا القول عن الحقيقة. فإن لدينا ألف وسيلة إلى حفظ العصبية قد لا تكون عصبية الحرب إلا أوهاها سبباً وأوهنها أثراً. وإلا فما هي عناصر العصبية الحربية؟؟ أليست هي اعتداد بأحكام التسديد ووفرة الذخائر؟؟ وفخراً بكثرة الجنود ومضاء الأسلحة؟؟ وما هي الشجاعة العسكرية؟؟ أليست هي أقدام الأعمى على الهاوية؟؟ أو ليس المسوق مخفوراً إلى ساحة الإعدام، أشبه في شجاعته بمن يساق مرغماً إلى ساحة القتال؟؟ بل ما قيمة مفاداة الجندي بنفسه، إذا لم تكن له يد في اختيار الغرض الذي يفادي نفسه من أجله؟؟ بل ما أشبه الجندي في هذه الحال بالجلاد الذي يقتل كل من يقدمونه إليه ولا يعنيه إن كان مجرماً أو بريئاً، أو كان القاضي عادلاً في حكمه عليه أو جائراً؟؟ إن للأمم مندوحة عن هذه العصبية الشوهاء، بعصبية الأدب السمحاء. فإن في كل أمة رجالاً رفعوا منار ذكائها وزانوا تاريخها بمثل ما تزين السماء نيرانها. فإذا فاخر الإنكليزي

بشكسبير، تباهى الألماني بجيتى وتاه الإيطالي بدانتي وازدهى الفرنسي بهوجو. ولقد تردد حول هذه الأسماء صدي متتابع الدوي، وعلا صريف الأقلام بذكرهم، واشتغل بال الأمم بأقوالهم، فدل ذلك على أن سيرة هؤلاء الأبطال ضمينة بأن تملأ حيز العصبية من أذهان الناس، وأنهم أقدر على توجيه الأنظار إليهم من أمثال كروميل وفردريك العظيم وغريبالدي ونابليون، وهي عصبية لا تثير في ذاكرة الشعوب ضغينة ثأر أو حزازة انتقام، وإنما هي آصرة تؤلف بين قلوبهم. وتأخذ بأيدهم إلى التصافح، وبنفوسهم إلى التآخي والتسامح. وتقودهم لا إلى ساحة القتال. ولكن إلى باحة المودة والسلام. وهذه العصبية وما شابهها من العصبيات الاقتصادية أو العلمية. هي الجديرة دون سواها بهذا الجيل. فقد مضى زمان الأمم الفاتحة، وليس في العالم ليومنا هذا أمة تريد أن تنجب مثل يوليوس قيصر أو نابليون بونابرت أو محمد الفاتح أو طارق بن زياد لأنها في غنى عنهم ولا نفع لها من أمثالهم. إن اليوم الذي تهيء له دول أوربا ما تهيء من آلات الفناء والموت، لن تشرق له شمس. وما على المدنية أن ترهب اليوم لإلا جيشاً واحداً هو جيش الرياء والنفاق الذي تمكن من الطباع والأخلاق وليست بها حاجة إلى شجاعة غير الجرأة في الرأي والصبر على الشدة وآلام النفس، فنحن في حرب مع الرذيلة دونها كل حرب فتكاً وهولاً. وليست هذه الحروب الدموية إلا دخان تلك الحرب المستطير شررها في أعماق نفوسنا. والباسل الباسل من وفق بين سيرته وسريرته ورفع راية السلام بين لسانه وضميره، فإن كانت الحرب تثير نخوة الوحشية والقسوة، فهذه الحرب تبعث في الضمير نخوة الإنسانية والمروءة. أقدر في حكم الحقيقة وأنفع، وأعلا في معارج الفضيلة وأرفع، رجل يتجرع غصص العذاب في سبيل رأيه، ويتجاوز عن راحته فيما يعتقد أنه الحق والعدل. فإن الصبر على جرح في النفس أدل على قوة الرجل من صبره على جرح في الجسد، وإن دابة المركبة لتحتمل من الجراح ما ينوء ببعضه أجلد الناس وإن كان هرقلاً ثانياً. يقول أنصار الحرب: وماذا نصنع بالألوف المؤلفة ممن لا مرتزق لهم إلا من الحرب أو من صنع أدواتها وآلاتها؟؟ نقول إذا لم يبق من مسوغات الحرب إلا هذا فاصنعوا بهم ما أنتم صانعون بتجار

المحظورات أو بالطرارين واللصوص ومزيفي النقود وأصحاب الاحتيال ومن لا معاش لهم إلا من الفسوق أو الإغراء عليه! أتراكم تحملون القانون على إباحة الجرائم لأن طائفة من الناس لا مرتزق لهم إلا منها ولا معاش لأولادهم ونسائهم إلا بمزاولتها؟؟ بل نقول لهم: اصنعوا بهم ما أنتم صانعون بالأيامى والأيتام ممن تقتل الحروب عائليهم وتتركهم عالة على المجتمع!! وما أنتم صانعون بالعمال والزراع الذين تعطل عليهم الحرب مرافقهم وتمسك عنهم القوت والنفقة. وربما كان هؤلاء أكثر عديداً ممن يشتغلون بصناعة السلاح وحمله. على أن الدنيا لا تضيق لا بهؤلاء ولا بأولئك. والموارد الاقتصادية كالشجرة، كلما انقطع منها فرع نبت فرع في مكانه، وقد كان استخدام البخار سبباً في ابتداع آلات تعمل الواحدة منها عمل المئات والألوف من الصناع، فما أغنت هذه الآلات عن الصناع ولكنها زادت الحاجة إليهم. فأصبح عددهم اليوم أضعاف ما كان قبل استخدام البخار. وإذا عرفنا أن الجنود إنما يؤخذ أكثرهم من الفلاحين وأنهم يعودون إلى فلاحة الأرض بعد صرفهم من الجيش، وجدنا لنا مخلصاً من الحيرة في أمر معاشهم، ورأيناهم في غنى عن شفقة أنصار الحرب واهتمامهم. ولكن أليست الحرب ظاهرة طبيعية كما قالوا؟؟ أليست هي غربالاً يتنخل اللباب فيحفظه ويحجز الحثالة فينبذها؟؟ وهل هي إلا تلاحم بين القوي والضعيف، يظهر فيه القوي الصالح ويتلاشى الضعيف الفاسد؟؟ نقول هذا كلام شبيه بالحق ولكنه كذب. فلقد كانت الحرب طبيعية عادلة في زمن من الأزمان ولكنها فقدت معنى العدل في هذا الزمان. كانت عدلاً أيام كان أصلح الأمم للبقاء أمضاهن سلاحاً وأكبرهن جنداً وأمنعهن حمى، أما اليوم فالصلاح للبقاء شيء غير المهارة في القتال والانتخاب الطبيعي يأخذ مجراه دون أن تقوم دولة على أنقاض دولة، أو تتقمص أمة فتية روح أمة بائدة، ولو أن روسيا أغارت غداً على سويسرا مثلاً لقهرتها وأفنتها، ولكن أيهما أوفق للوجود شعبه ومن منهما أنفع في أرضه بقاؤه؟؟ فالحرب اليوم ليست محكاً يظهر منه النفيس من الخسيس. ولكنها ميزان يرجح فيه أثقل

الكفتين جرماً وأكبرهما حجماً. وليس هذا من العدل في شيء ولكنه تنازع اصطناعي لا عمل للطبيعة فيه إلا من بعض جهاته. ولكن هناك نفراً من الفلاسفة ملكته الرأفة بهذا النوع المسكين. فأشفقوا أن يربو عدده وينمو نسله. فتضيق به وسائل الرزق ويفضي به الضيق إلى الموت جوعاً. فهم لا يرون في الحرب بأساً. بل هي في مذهبهم لازمة لتقليم النوع أولاً فأولاً. وهم يرحبون بكل ما ينقص هذا النوع ويقلل ذريته. ولا أدري لم لا يرحبون بالأوبئة والطواعين؟؟ ومالهم لا يجذمون أيدي الأطباء الخبثاء الذين ينقذون الناس من الهلاك. كان هؤلاء الأطباء يتركونهم ليموتوا صبراً يوم تعم المجاعة ويبعد الزاد من هذه الدار؟؟!! بل لقد تمادت الرحمة بهؤلاء الفلاسفة الأبرار. فأشار فريق منهم بخصاء الذكران من العالمين. وأشار فريق سواد بقتل الضعفاء. وقال فريق ثالث بل نوصيهم بالاقتصاد في النسل ونعين لكل عائلة عدداً من الأولاد لا تتجاوزه. إلى آخر ما قالوا. ظهر مالثوس صاحب هذا المذهب في القرن الثامن عشر فطفق يجمع ويطرح. ويضرب ويقسم. ويحسب نتاج الأرض في الأجيال المقبلة كأنه خازن أرزاق الله. ويحصي ما تحمله بطون الغيب من الأجنة. كأنه كاتب عالم الذر. فهداه حسابه إلى أن النسل يتضاعف كل خمس وعشرين سنة. وأن ثروة الأرض لا تزيد في هذه المدة إلا مرة واحدة. أي أنها تنمو على نسبة حسابية مطردة. فظهر له من هذا الإحصاء أن نسبة السكان إلى الثروة ستكون بعد ثلاثة قرون كنسبة 4096 إلى13. فأنذر بالويل والخراب. وصاح بالناس لا تناكحوا ولا تناسلوا إلا بحساب. ولقد مضى نصف هذه القرون الثلاثة تقريباً. ولم تجذب الأرض ولا ضاقت بساكنيها. ونحن نورد هنا ما قاله هنري جورج في كتابه التقدم والفقر رداً على رأي مالثوس هذا. قال: إذا أردنا أن نتخذ لنا مثالاً من أسرة متوفرة لديها أسباب البقاء والجاه. وقد عبرت أمداً مديداً في بلد لا تتغير فيه أحوال الاقتصاد ولا تطرأ على بيئته الانقلابات. فعلينا أن نرجع إلى الصين لا تزال أسرة كنفشيوس في تلك البلاد باقية تتمتع بالرعاية ومزايا الراحة والبقاء. وليس في الصين وراثة شرف في غير هذه الأسرة. فإذا سلمنا بحساب مالثوس وجب أن يكون

عدد أفرادها في عهدنا هذا: (859، 559، 193، 106، 709، 670، 198، 710، 528) ولكن ذرية كنفشيوس لم تبلغ من هذا العدد الذي لا يتصوره العقل إلا أحد عشر ألف رجل أو نحو اثنين وعشرين ألف نسمة. بعد أن مضى على وفاته في عهد الملك كانجهي 2150سنة فانظر شطط هذا الفيلسوف وزيغ حسابه. وكذلك لا يزال الزلل نصيب من يجترئ على الغيب ويتحكم في نظام هذا العالم الزاخر للمؤرخ أن يقرر أن الحروب الماضية أقلت النسل - إن كان في الباحثين من يزعم أن التناسل يكثر عقب الحروب كثرة لا نظير لها في سائر الأيام - وله أن يعدها ضارة من هذه الوجهة أو نافعة. ولكن ليس له أن يتخذها منجلاً يخترط به ما يشاء من بنية النوع الإنساني. لاسيما إذا كان من الذاهبين إلى إبقاء الأقوى وإفناء الضعيف. فإن الحرب تبقى على العاجز الجبان ولا تقضي إلا على الفتيان الأشداء. لا نأمن صائحاً يصيح بنا: لقد علا غطيطكم في النوم. وطال بكم الحلم. ونحن نسمع كل يوم أن الحرب يتقشع غبارها وتخبو نارها. ثم لا نرى مع ذلك إلا حرباً بعد حرب وفتنة تتسعر في أثر فتنة. وهو اعتراض وجيه إذا كان المبشرون قد زعموا أن المريخ قضى نحبه وأنه لن يسفح بعد اليوم دم في ميدان. ولكنهم لا يزعمون شيئاً من ذلك. بل يقولون له إن كانت الحرب تبقى ببقاء دواعيها فقد وجب أن تزول لزوال تلك الدواعي. فإن الحرب لا تنشب اليوم للذود عن ذمار. أو لإنقاذ مملكة أو لاستنهاض النخوة الملية أو ما شا كل ذلك من المعاذير التي يعلنها الساسة ويبطنون سواها وقد لا يكون المحرك لها محض الرغبة في توسيع نطاق الدولة أو إنماء ثروتها كما يرى بعض من يظن أن مصلحة الأمة المادية هي السر الخفي لكل حركة دولية في هذا الزمان. ولا نبتعد عن الصواب إذا قلنا أنه لولا مطالع أصحاب رؤوس الأموال ومآرب الساسة لما ارتفع سلاح في أكثر هذه الحروب التي دارت بين الأمم الكبرى والأمم الصغرى في هذا الجيل. فإن لكبار الماليين نفوذاً قوياً بين رجال السياسة. أما لأنهم يسعفونهم بالقروض في الأزمات

السياسية. أو لأنهم يمدونهم بالمال في المنافسات الانتخابية. فإذا طمحوا إلى غرض من أغراضهم لم يعسر عليهم إقناع ولاة المملكة بمعاونتهم فيه. واستخدموا الصحافة بالرشى والجاه لتهيئة الرأي العام لقبول ما يقترحون عليه. فلا يلبث هؤلاء الصحفيون أن يستشيروا حماس الشعب ويعبثوا بعواطفه الدينية أو الجنسية. وما هو إلا أن تسري المقالة بعد المقالة بين الجمهور حتى يهب صارخاً بالحرب. ويقال حينئذٍ أن الأمة تريد القتال وأنه لا قبل للحكومة بمعارضتها. فتحرك الجيوش. وتذهب النفوس هدراً وتنفق الحكومة من مال الفقراء ونفوسهم أضعاف ما يبذله أولئك الأغنياء ثم لا يغنم من تلك المجزرة إلا تاجر جشع تحوي خزانته المليون ولكنه يطمع في المليونين. أو وزير يرمي إلى تمكين حزبه. أو ملك يريد أن يضيف إلى اسمه لقباً فارغاً يذكر به في التاريخ. أما العامل الفقير الذي يتظاهر الساسة بالعناية به ويقولون إنّهم إنمّا يرفهون عنه بالتوسع في الاستعمار وشن الغارة على المستضعفة من الأمم. فسواء لديه أكانت دولته تملك ما بين لابتى الأرض أو أنها واقفة حيث هو يكدح ويكد. فإنه يعول في كل حال على قوة ساعده. ويعتمد في كل بلد نزح إليه على جهد يده. ولو أن اليابان كانت تملك الولايات المتحدة لما زاد أجر العامل الياباني دانقاً عما يناله الآن بغير معونة حكومته. ولقد كان من بلايا الشرق أن تتوجه إليه مطامع أولئك التجار الأشعبيين. لنزارة أجور عماله. وخصب تربته وقلة المزاحمة الاقتصادية فيه. وجهل أهله بالانتفاع من ينابيع الثروة المتفجرة في أرضهم. فإذا نزل واحد منهم بالبلد الشرقي كان ذهبه نذيراً برصاص دولته. وأبى إلا أن يربطه إلى وتد من الاستعباد والمذلة كما تربط البقرة الحلوب. ولو أن العامل الشرقي أحس بمعنى الحياة وجاشت في نفسه مطالبها لما قنع بما دون أجر العامل الغربي. ولأبقى تجار أوربا أموالهم في بلادهم. بل لو كان الشرقيون يستثمرون موارد الثروة في أقاليمهم. ويستنبطون الرزق من مناجمه عندهم. لما اتسع بينهم موضع لنزيل يمتص دماءهم ويسلبهم مالهم واستقلالهم. ويجعلهم عبيداً له والله خلقهم أحراراً. ولقد طالما سمعنا الكاتبين منا يقولون: إن الغرب قد غلب علينا بأساطيله ومدافعه. فلنجادله بسلاحه ولنعد له من عدة الدفاع مثل ما يهاجموننا به. إلا أنها نصيحة لا ينتفع بها إلا أمة أو أمتان لم يغلل الغرب أيديهما بقيود الاستعمار. ولا

تزال فيهما بقية رمق من الاستقلال تمكنهما من استجماع القوة. والتأهب للدفاع عند الحاجة. ولكن أي نصيحة لديهم يدخرونها لتلك الأمم التي سبق عليها حكم القضاء وطال عليها الأمد في الأسر؟؟ لا والله ما غلب علينا الغرب إلا بتفكك عصبيتنا وصغر معنى الحياة في أذهاننا. إن في الأمم الشرقية المستعمرة من السكان والجنود أهل البلاد أضعاف ما في الأمم التي تستعمرها فكيف يتصور العقل أن الغرب إنما سادوا على تلك البلاد بالسلاح وكثرة العدد. ليس للشرق إلا أملان في النجاة من آفة الاستعمار، أحدهما منوط برقي العالم عامة، والثاني منوط برقي الشرق خاصة. العالم اليوم مستغرق في عبادة الدينار. ولكنه دور سينقضي كما انقضى ما قبله من الأدوار. فإن للإنسانية في كل فترة من الزمن روحاً تتشبع بها، فلا تصدر أعمال الأمم والأفراد إلا عنها. فانقضى دور الغزو. ثم انقضى دور الفتح. ثم انقضى دور الحروب الدينية. ونحن اليوم في دور المال. أفنقول إذن أن هذا الدور باقٍ أبداً؟؟ وهل هذا نتيجة تعاقب الأجيال على الإنسان، وغايته التي ليس وراءها غاية؟؟ ألا يمكن أن تكون هذه النتيجة مقدمة لنتيجة غيرها أجل منها وأحسن عقبى. إن كل ما نراه ونحسه يشير إلى أننا في دور انتقال وشيك الزوال. وأن العالم سيصل إلى ما يرجو من السعادة ولكن من طريق المال. فالأمم الكبرى تستكثر من السلاح والجنود لتحمي متاجرها ومصنوعاتها ولكن التباري بين الأمم الصناعية شديد في إتقان تلك المصنوعات. وسيأتي يوم لا يغني عن السلعة في سوق التجارة إلا جودتها وإتقانها. فلا تستطيع كل أساطيل البحر ومدافع البر أن تروج سلعة رديئة أو تبخس سلعة جيدة. ويومئذٍ يكون التزاحم بين مصنع ومصنع. لا بين حكومة وحكومة، يستعين كل منهما بعساكره على ترويج سلعة. إن حماية الحكومات لمتاجرها هي التي تصبغ المنافسات التجارية بصبغة دولية. فإذا تخلت الحكومة عن التجارة قام كل مصنع بذاته ينافس في السوق العامة، وأصبح سواء

لدى التاجر أن يبيع سلعته في إنكلترة أو ألمانية مادام يعتمد على سمعته ومهارته، واتسعت الأرض أمام كل ذي حرفة، يحل منها حيث طاب له الكسب، ويكون له في كل أرض وطن إذا شاء. يومئذٍ لا يذهب التاجر إلى المستعمرات وهو ينظر وراءه إلى أسطول دولته، ولكنه ينظر كيف ينتقي بضاعته من معمل تروج سلعه ويقبل الناس على مصنوعاته. وليس في الناس إلا فريق واحد لا تروقه هذه الحرية التجارية. ونعني به أصحاب المصانع الذين يسخرون قوة حكوماتهم لفتح الأسواق في وجوه مصنوعاتهم. ولكن هذه الفئة لا طاقة لها بصد التيار الجارف. وقد أخذت تضمحل سلطتها. ويشاركها في نفوذها قوم لا مصلحة لهم في احتكار الأسواق. وهم أحزاب العمال والزراع وغيرهم ممن يعيشون في ظل كل راية في المعمور. لقد بدأت هذه الحركة المباركة تظهر في تكاثر المهاجرين من كل مملكة في طلب الكسب. وإباحة الحكومات حقوق التوطن لكل من قضى في بلادها زمناً محدوداً. ورأينا بعض الحكومات تطلق الحرية للتجارة وتبتعد عن الإشراف عليها. وسينتهي ذلك لا محالة إلى الوطنية العامة وانفراد التجارة بنفسها في العالم أجمع. ومتى كان الرجل لا يحرم في أرض الغربة حقاً يتمتع به في وطنه. فلا حاجة بالحكومات إلى الاستعمار. ولا حاجة بالرجل إلى حماية حكومته. ومن ثم يصير تنازع طبيعياً يبقى فيه الإصلاح للبقاء حقيقة. ويبطل الاستعمار فيبطل كل ما نشأ بسببه من الخلاف بين الدول الاستعمارية، فإن الخلاف بين هذه الدول قد انقطعت أسبابه إلا من هذه الوجهة، ولولا الاستعمار لما تأهبوا للحرب هذه الأهبة. فإن هذا العصر أندر العصور حروباً وإن كان أكثرها آلة حرب، وتفنناً في أساليب القتال. وليس هذا بالأمر الغريب فإن زيادة أداة الحرب قد زادت نفقاتها أيضاً. واشتباك المرافق الاقتصادية جعل الحروب أعم خسارة وأبلغ ضرراً من ذي قبل، وهكذا يؤدي الاشتباك القليل في المرافق إلى التنازع والخلاف، فإذا تشعب وتمكن كان أقوى ضمانة للسلم والوفاق. وسيتشعب ويتداخل حتى تقع الضربة في البلد فتضرب لها البلدان كافة. فإذا صرفنا النظر عن هذا التقدم المادي إلى التقدم المعنوي رأينا أن قيمة الحياة تعلو في نظر الإنسان وأنه

يفهم يوماً بعد يوم أنها كل رأس ماله من الوجود، وأنه متى أضاعها أضاع كل شيء بالنسبة إليه. هذا هو أملنا المعقود برقي العالم. أما أملنا المعقود برقي الشرق فيتحقق يوم يدرك الشرقي معنى الحياة وتتنبه فيه روح العصبية. فلا يكون تسخيره أيسر على الماليين أو أرخص نفقة من تسخير الغربي. ولا يسهل على كل طامع أن يلتهم ما شاء من ثروته. والأمر بين اثنتين: فأما أن الشرق سيبقى هكذا إلى الأبد. أو أنه سيتقدم مع الزمان. فأما بقاء نصف النوع الإنساني على هذا الحال من الانحطاط والمهانة أبد الآبدين. فمحال لا يجوز في نظر العقل. وأما أنه يتقدم مع الزمان فهذه سنة ليس في وسعه أن يقاومها. وليس في وسع أحد أن يحول تيارها عنه. فنحن إلى الرجاء أقرب منا إلى اليأس. وهكذا ينبغي أن نكون. ولا ريب أن ذلك اليوم سوف يكون آخر يوم من عهد المال وأول يوم في عهد الحق والإخاء والسلام. إن تلك الساعة آتية لا ريب فيها. ولكن كيف ومتى؟؟ قل علمها عند ربي. عباس محمود العقاد

قال بعض الحكماء: احذر الموتور ولا تطمئن إليه وكن أشد ما تكون حذراً منه ألطف ما يكون مداخلة لك. وقال بعضهم: إذا أحدث لك العدو صداقة فلعلة ألجأته إليه فمع ذهاب العلة رجوع العداوة كالماء تسخنه فإذا أسكت عنه عاد إلى أصله بارداً والشجرة المرة لو طليتها بالعسل لم تثمر إلا مراً وقال دريد بن الصممة: وما تخفى الضغينة حيث كانت ... ولا النظر المريض من الصحيح وقال زهير: وما لك في صديقٍ أو عدوٍ ... تخبرك العيون عن القلوب وقال بعض الحكماء: ينبغي أن تحظر على الشرار العلوم التي تزيد في قوة النفس وحسن تصرفها ويقتصر بها على الرياضات التي تفتر وقدها وترد إلى الاعتدال ما شذ عنها فإن غير هذه من العلوم إن عدل بها عن أهل الفضل الشرار كانت لهم كالأجنحة للعقارب التي تعينها على الآفات وتباعدها منها.

التربية الطبيعية

التربية الطبيعية مبادئ عامة تابع فإن مثل هذا لا خير فيه لنفسه ولا للناس. لأنه يظل حياته يرجف من الموت ويتحصن منه وراء الأطباء والصيادلة وما يغني الأطباء ولا الصيادلة. ولأن جسمه عقبة في سبيل تهذيب روحه. وأي فائدة في العناية بمثل هذا فإذا فقدناه كانت الخسارة مضاعفة على المجتمع! كلا. فليقم رجل منكم غيري على هذا الضاوي الضعيف. وله مني الشكر على جميل صنعه ومعروفه وكيف لي أن أعلمه كيف يعيش الجسم ولا هم له إلا اتقاء الموت؟ ولابد للجسم أن يكون ضليعاً مريراً ليقوى على النهوض بتكاليف الروح. فإن أحسن الخدم أشدهم أسراً وأوثقهم ممرّاً وأنت خبير أن الإلحاح على الشرب يهيج الإحساس ويثير العواطف ويسلب الملحّ قوته على مر الأيام وأن التعذيب والصيام يبلغان بالمرء إلى مثل ذلك والجسم إذا ألح عليه الضعف لج في العصيان وهو على العكس مطواع إذا تماسك واشتد. وكلما ضعفت الأجسام اشتدّ بالنفوس النزاع إلى الشهوات وطغي بها طلب اللذاذات. وأسوأ ما تكون هذه النفوس خلقاً إذا أعياها التماسها وأعجزها بلوغ مأربها منها. وإذا تداعى الجسم فلا عجب أن تضاءل الروح وتطمئن إلى الضعف وتخلد إلى الفتور وعلى ذلك قامت دولة الطب وملك الصيدلة وما علمت شيئاً أضر بالرجال من هذين ولست والله أدرى من أي داء يشفينا الأطباء وإني على هذا لأدري أنهم ينشرون فينا الجبن والخور وسرعة الأستامة إلى كل قول والخوف من الموت. ولعمري لئن صح أنهم يصلحون الجسم بما يطبون فإنهم يقتلون الشجاعة ويفتكون بالبأس وما خير أجسام ميتة تغدو وتروح. إن حاجتنا إلى الرجال لا إلا الأشباح وما عهدنا الأطباء عندهم ما نبغي ونريد. وقد أصبح الطب (مرده) وحق له أن يكون كذلك فإنه ملهاة النّومة ومسلاة المتبطل الذي لما لم يجد ما يعمله جعل يدافع وقته بالطب وهو يحسب إن ذلك يطيل عمره ويمد في أجله. ولو ابتلى هؤلاء بالخلود لكانوا أتعس الناس وأشقاهم لأن الحياة وهي كل ما كانوا يحرصون عليه تصير إذ ذاك في مأمن من غوائل الموت فلا يكون لها عندهم قيمة أو

ثمن. ويراؤوهم وليذيقوهم في كل يوم ألذ ما يشتهون وأمتع ما يطلبون - أعني البعد من الموت. فإذا كانت طلبتك الشجاعة الحقّة والبأس الصادق فالتمسهما حيث الأطباء غير موجودين وابغهما حيث الناس لا يعرفون ما الأمراض وما عواقبها ودر عليهما بين من لا يحفلون بالموت ولا يذكرونه. لأن الإنسان الفطري يعيش ويموت في سكينة كما تموت الأشجار. وإنما يهزم فؤاده وينسبه كيف يموت الأطباء بما يصفون والفلاسفة بما ينصحون والقس بما يخوفون. فائتني بتلميذ لا حاجة به إلى هؤلاء جميعاً وإلا فإليك به عني فإني لا أحب أن يفسد عليّ غيري من أمره ما أصلح. وأطلق لي أن أفعل به ما أشاء أو فدعني وانظر غيري من الناس فهم كثر فإني رأيت (لوك) وهو من تعرف يقول وكان قد أنفق على طلب الطب بعض العمر (لا ينبغي أن يطب للأطفال لا على سبيل الحيطة ولا فيما ينتابهم من العلل البسيطة) وأنا أزيد على ذلك وأضيف إليه أني لما كنت لم أستوصف طبيباً أبداً فكذلك لن أستطب لتلميذي أميل: إلا أن تكون حياته في خطر ظاهر وما أحسبهم يقدرون إذ ذاك على أكثرهم من أن يقتلوه: وخير علوم الطب عندي وأنفعها (قانون الصحة) وما هم لو تدبرت إلا فضيلة لا علم فإن الاعتدال والعمل خير ما يتداوى به المرء لأن العمل يرهف من حد شهوته (يعني شهوة الطعام) والاعتدال يمنعه كم أن يسيء بها إلى نفسه. وما خلق الناس ليحتشدوا كالأغنام في مكان واحد بل خلقوا ليتفرقوا في مناكب الأرض وينتشروا في نواحيها ويحرثوها ويستخرجوا خبراتها. وما يفسد الناس إلا من اكتظاظ البلاد بهم فإن أمراض الجسم والروح بعض نتائج الازدحام والإنسان أقل الحيوانات صبراً على الاحتشاد وإطاقة للازدحام وأكثر ما يودي الموت بالناس إذا غص بهم مكان وامتلأت منهم ناحية. والمدن فاعلم قبور النوع الإنساني واجد أنه وسكانها أسرع الناس فناءً وفساداً وما زالت القرى هي التي تمد المدن بالصالح من أهلها وناسها فابعث ببنيك إليها لتثوب إليهم نفوسهم وليسترجعوا من قوتهم ما فقدوه في الأماكن المكتظة بالناس. وينبغي أن تستكثر للطفل من الاستحمام وليكن الماء في أول الأمر حميماً حاراً ثم فاتراً ثم

بارداً حتى لا يشقى عليه الاستحمام في الشتاء بالبارد من الماء ولو كان مثلوجاً ولا بأس من اتخاذ مقياس للحرارة ليكون الانتقال من الحار إلى البارد تدريجاً ورياضة من غير أن يحس الطفل أو يتأذى به. ولا ينبغي أن يعتاق الطفل شيء عن الاستحمام أو يحول من دونه حائل واعلم أنه ليس أرد على الجسم ولا أعود عليه بالصحة من الاستحمام لا لما يستدعيه من نظافة البدن وبضاضة البشرة وحسن الرواء ولكن لأنه يلين ألياف الجسم وأنسجته ويكسبها شدة تقاوم بها اختلاف درجات الحر والبرد ومن أجل هذا أرى أن يعود الطفل الاستحمام بالماء في جميع درجاته لتشتد بضعته ويصلب عضله وأنت خبير أن من يحتمل اختلاف درجات الماء وهو المباشر لكل موضوع في جسمه فهو على اختلاف حالات الجو أقوى وأصبر. واعلم أنك لن ترى شيئاً أكثر من الذي عليه الناس في أمر الثياب وذلك أنه ما من أحد إلا وهو يأخذ على يد طفله ويهيضه بما يلبسه من الثياب ويلفه فيه من الخرق والقمط ويضع على رأسه من القبعات والقلانس من حيث يحسب أنه يقيه غائلة البرد وأضرار التعرض للهواء وما إلى ذلك وإني لست أعلم شيئاً هو أسخف من هذا الرأي ولا أقبح ولا أسوأ وإنما الرأي أن تكسو طفلك الثياب الواسعة الفضفاضة التي لا تغل أعضاءه عن الحركة ولتكن لا ثقيلة فتقعده ولا غليظة النسج فتمنعه من الإحساس بالهواء. لأن إلباس الطفل أثقل الثياب وحبسه في الغرف يوهن عظمه ويرقق جلده والهواء البارد لا خوف منه بل لعله أبعث على النشاط وأرفق بالجسم وإنما يلحق الضرر البين بالجسم ويدخل عليه الأذى الجسيم الهواء السخين الذي يترك للجسد التوصيم والتكسير والفتور فضعوا الطفل في مهد واسع دمث الوثار ليملك أمره وحريته حتى إذا بدأ يشتد ويتماسك فدعوه يدب في نواحي الغرفة فإن هذه الحركة توثيقاً لأعضائه وأمراراً لقواه وأنت إن كنت في شك من ذلك فقارن بين طفل نشأ على الحرية والحركة وآخر مساوٍ له في العمر لكنه موثق الكتاف مقيد الحركة تر فرق ما بينهما في النماء والقوة. أكرر أن تربية الطفل تبتدىء يوم يولد وأن تعليمه يسبق النطق والفهم وأن التجارب تتقدم الدروس وأنه حين يفطن إلى ظئره قد عرف شيئاً كثيراً. ولو أن قسمنا معرفة الناس وعلمهم إلى قسمين وجعلنا أحدهما سواء فيه كل الناس والثاني قاصراً على العلماء منهم

لألفينا الثاني شيئاً خصوصه كالعموم وإنما كان هذا كذلك لأننا لا نجعل بالنا إلى ما تفيدنا الحياة ولا نلتفت إلى ما نكتسبه من التجارب إذ كان حاصلاً من غير أن يتعلق به إحساس أو قبل أن نرتفع عن سن الحداثة على حين أن المعارف والعلوم التحصيلية إنما نلتفت إليها من أجل ما توجد من الفروق والمميزات ومثل هذا جميعه مثل المعادلات الجبرية لا يلتفت فيها إلى المشترك. والعادة الوحيدة التي يجب أن يجري عليها الطفل في حياته هي أن لا يجري على عادةٍ قط لا أحب أن يكون تحامله على ذراع أشد من تحامله على الآخر أو أن يكون بسطه ليمينه أكثر من بسطه لشماله واستخدامه لها أغلب وأكثر. أو يأكل أو ينام أو يستيقظ في أوقات معينة وأحيان معلومة أو أن لا يطيق الوحدة بالليل أو النهار وعلى هذا فإن فرضاً عليك أن تخلي جسمه وشأنه وتوليه خطة رأيه وتبيح له جانب عزمه متى صح له على شيء عزم. ومتى استطاع الطفل أن يعرف فرق مابين الأشياء فإن خليقاً بصاحب أمره ووليه أن لا يختار له إلا ما يحسن عرضه عليه فإن في طبيعة المرء أن يرتاح للجديد من الأشياء ولكنه من الإحساس بضعفه والشعور بقصوره وعجزه بحيث يتخوف مما لا يعرف ويستهول ما لم تقع له خبرة به ومن جهل شيئاً خافه وليس خيفته ويزيل حذاره إلا اعتياد النظر إلى الجديد من غير أن يصيبه منه أذى فإنك لتري الطفل الذي نشأ في بيوت النعمة والرفاهة حيث لا يطلق للعنكبوت أن ينسج بيته يرتاع من العنكبوت ثم ينمو وينمو معه هذا الخوف وما أن رأيت حتى اليوم قروياً رجلاً كان أو طفلاً هاله منظر العنكبوت. وإذا كان اختيار ما يعرض على عين الطفل من الأشياء كافياً لتعويده الجرأة والإقدام أو الجبن والخور فكيف لا يصح القول بأن تربيته تبتدىء قبل أن يحسن أن يتكلم أو يفهم؟ أما إميل فسأعوده النظر إلى كل شيء لاسيما ما هو بشع المنظر منكر الشكل جافي الصورة من الهوام والحشرات والحيوان مليحاً له بها على بعد بادىء الأمر فإذا ألفتها جعلتها منه أدنى شيء تدركه عينه حتى لا يتخوف أن يمسها بأطراف أصابعه أو يقلبها في كفه وإذا كان في حداثته يرى الضفادع والأفاعي والسرطانات ولا يستشعر منها خوفاً فلن يروعه في رجولته حيوان لأن من اعتاد شيئاً لم يخفه. ما من طفل إلا وهو يخاف الوجوه المستعارة ويليح منها وأميل طفل كسائر الأطفال فليس

أحسن في أذهاب الروع عنه وإزالة الخوف من أن أريه وجهاً حسناً بملك طرفه ويستولي على ميله ثم أشير إلى بعضهم أن ضعه على رأسك حتى إذا ما فعل ضحكت وضحك الجميع وضحك أميل مثلهم ثم لا أزال أروضه على رؤية هذه الوجوه وآخذه بذلك وأريه الأقبح منها فالأقبح حتى يتم لي ما أريد وحتى يضحكه منها أشنعها صورةً وأفظعها منظراً وما أحسبك إلا عالماً بما كان من أمر هكتور مع غلامه لستيانكس حين راعه من خوذة أبيه ريشها فأنكره ولم يعرفه وأخذه الرعب فبكي وتشبث بأذيال ظئره وأمه تنظر إليه وعلى فمها ابتسامة والدمع يترقرق في عينها، وهل تدري بأية حيلة سكن هكتور من جأش ولده، لقد تناول الخوذة وألقاها على الأرض ثم قبله. ولو أني كنت موضعه لما وقفت عند هذا القدر ولتناولت الخوذة وجعلت أعبث بريشها وحملته على العبث به أيضاً ثم لأمرت ظئره أن تضع الخوذة على رأسها وهي تضحك - لو أن امرأةً تقوى على حمل خوذة هكتور وعلى هذا النحو أيضاً أجرى مع أميل ليألف الأصوات المفزعة من مثل صوت البنادق وما إليها. فأضرم على مرأى منه (رشاً) في مسدس فان وميضه وبرقه خليقان أن يفرحاه ثم أعيد ذلك وأزيد مقدار البارود وهكذا أتدرج به وأروضه حتى يألف صوت الرصاص والقنابل والمدافع وما هو شر من ذلك وأفظع. وبعد فإن أكثر شيء في الطفل البكاء وهذا أمر طبيعي لأنه لمل كان إحساسه فهو يتمتع به في سكون مادام لذيذاً طيباً فإذا آلمه منه شيء أعلن بثه وشكاك ما يجد عللك تساعفه بما ينفس كربته ويذهب عنه شدته والطفل إما أن ينام أو ينفعل لما يقع ويتأثر لأنه لا يستطيع أن يغضي عن شيء مما يرى ويحس والطفل لا يبكي إلا إذا عانى برحاً أو كانت به حاجة لا سبيل له إلى سدها وقضائها فإن اهتدى إليها أهله أو القائمون عليه أسعفوه بها وإلا لجّ في الاستعبار واسترسل في البكاء وهم يلاطفونه ليرقأ دمعه وتغيض عبراته أو يغنونه ليأخذه النوم ويخمد أنفاسه النعاس وربما أرفض صبرهم وضاق ذرعهم فتهددوه وتوعدوه بل ربما ضربوه كما تفعل بعض المرضعات اللواتي لا خلاق لهن ولا أدب. فالله ما أغرب هذه التربية وما أعجب هذا التهذيب. إن معالجة الغضب في الأطفال والحنق والعناد والبكاء وما إلى ذلك مطلب صعب ومرام معضل لا بد فيه من حسن التدبير وأصالة الرأي وبعد مسافة النظر وطول حبل الأناة ومن

رأي (بورهاف) أنها جميعاً أمراض عصبية لأن رأس الطفل أكبر إذا قيس إلى جسمه من رأس اليافع وجهازه العصبي أكثر امتداداً فهو لذلك أسرع انفعالاً وأحد طبعاً وأقصر أناة وإذا كان هذا كذلك فخليق بك ألا تدخر وسعاً في إبعاد الطفل عن الخدم الذين يثيرون حنقه ويستورون غضبه ويمتحنون صبره فإن قربه من هؤلاء أضر عليه وأبلغ في إلحاق الأذي به من سوء فعل الهواء وتأثير الأقاليم واعلم أن الطفل إذا لم يجد من الناس ثانياً لعزيمته وقابضاً ليده ولم يصادف مقاوماً له إلا من الأشياء انكسرت في نفسه حدة الغضب ولانت عريكته وسلست مقادته وصح جسمه وأنت إن تدبرت هذا علمت السبب في أن أبناء العامة والخملة الذين نشأوا على حرية الحركة وربوا على الاستقلال أقل في الجملة ضعفاً وأوثق.

حديث القمر

حديث القمر عرضت لأديبنا المفضال السيد مصطفى صادق الرافعي فترة من الفراغ في صيف هذا العام أراد أن يقضي فيها حق نفسه وأن يغتنم بها أنفاس الراحة مما يعاني في إنجاز كتابه الفريد (تاريخ آداب العرب) الذي لا يزال يقول عنه أنه دين عليه للأمة حتى يؤديه فهجر الكتابة والكتب ولكنه ما تنسم أنفاس الطبيعة حتى استحالت في قلبه الكبير معاني من الشعر أو من السحر فنفثها في ألفاظ، أفتن للقلوب من الألحاظ، وصورها في جمل، أطرب للنفوس من الأمل، وألم فيها بكل ما يضرب له قلب الإنسان حتى كأنها صنعة كل قلب وقد سماها (حديث القمر) وقدمها للطبع والرافعي هو الأديب الفذ الذي يستطيع في هذا العصر أن يعارض أبدع أساليب المتقدمين في الكتابة والبيان وأن يربي عليهم بما وهبه الله من قوة الخيال التي لا يقصر بها عن معارضة أرقى كتاب المتأخرين في أمم الشعر والجمال لعهدنا وقد جرى في حديث القمر على نمط من الكتابة يمزج فيه الشعر بالفلسفة والخيال بالحقيقة ويلقي منه إلى القلب والروح ما وحت إليه الطبيعة من الجمال والجلال وما نظن هذا الكتاب إلا محدثاً انقلاباً كبيراً فإنه على صغره يعي ما يستوعبه القلب من الحياة وأكبر فوائده فيما نرى لطلبة الإنشاء المتين البديع الذين يريدون أن يكتسبوا ملكة صحيحة من النقد وصحة النظر وسمو الفكر وقوة الخيال وهي صفات لا يكون الإنشاء بدونها ولا تعطيهم كتب المختارات وغيرها شيئاً منها فإن هذا (الحديث) فيما رأينا مكتوب على طريقة لتربية الخيال والفكر كالطريقة التي تضع بها كتب التربية العلمية للنفس فلا يقرؤه الطالب حتى يخرج منه بروح جديد وهي طريقة في تعليم الإنشاء لم يطرقها أديب إلى اليوم مع أنها الطريقة الطبيعية ولا تزال الطبية تضن بحقائقها إلا على رجالها الأفراد فكلما ظهر أحدهم بحقيقة منها رأيناه وكأن في يده شهادة من الطبيعة أنه رجل من نوابغها. ونحن ناشرون اليوم هذه المقدمة الساحرة التي بين فيها الرافعي أغراض كتابه وهي وحدها بكتاب كامل. غرض الكتاب هذه مقالة صرفت فيها وجه الحديث إلى القمر وبعثت إلى الكون في أشعة الفجر كلماتها. ولقد كان القمر بضيائه كأنه ينبوع يتفجّر في نفسي فكنت أشعر بمعاني هذا الحديث كما

يشعر الظمآن اللهف قد بلغ الريّ وتندي الماء على كبده فأحس بروحه تتراجع كأنما تحدرها قطرات الماء. ونشرت على خيوط القمر ليلاً من ليالي الجمال دونه شباب الشاعر الغزل يمتد مع ألحاظ فاتنته الحسناء كلما استطار في آفاقه ابتسامها. وكنت أرى الطبيعة وقد شفت لعيني كأنها أخرجت حقائقها لتغسلها من ظنون الناس وأوهامهم بهذا الضياء الساكن المرتعد كأنه عرق يرفض من جبين السماء وقد تخشعت من جلال الله وخشيته إذ يتجلى عليها. فما فرغت من تصوير الأثر الذي تركته تلك الرؤية في نفسي حتى رأيت هذه المقالة في يدي وكأني أحملها رسالة تعزية من الطبيعة إلى العالم. كتبتها وأنا أرجو أن تكون الطبيعة قد أوحت إلي بقطعة من مناجاة الأنبياء التي كانت تستهل في سكون الليل فيعيها كأنه ذاكرة الدهر. وأن تكون قد بثت في ألفاظي صدى من تلك النغمات الأولى التي كان يتغنى بها أطفال الإنسانية فتخرج من أفواههم ممزوجة بحلاوة الإيمان الفطري. وتذهب في السماء متهادية كأنها طائرة بروح من اطمئنان قلوبهم وتسيل في ضوء الصباح وظل الشمس ونور القمر كأنها في جمال الطبيعة أفكار طيور مغرّدة تدور على ألسنتها. وكتبتها وآنا آمل أن تكون الطبيعة قد ألقت في معانيها بذوراً من عناصر التحول الأخلاقي تزكو في هذه القلوب الحيوانية التي لو نقلت إلى جوانح البهائم لعاشت بها. . . وهذه النفوس التي تذل لأحقر من في الأرض ولا تثور إلا على السماء. وهذه العقول التي تحاول أن تكتب للروح تاريخاً أرضياً يبتدئ وينتهي في التراب فتكون الحقيقة الإلهية التي لا يدركها الإنسان بسبيل من الوهم الإنساني الذي لا يدرك الحقيقة. وكتبتها وأنا أطمع أن تكون الطبيعة قد نفخت فيها نسمة الحياة للعواطف الميتة المدرجة في أكفان من الحوادث الدنيئة. فإن هموم العيش لا تميت من عواطف القلوب إلا تلك التي لا تعرف كيف تستمد الحياة من روح الطبيعة وإنما يكون استمدادها من مادتها فتحيا بخبر وتموت بخبر وقد تمضي كالوحش الذي يرميه الصائد ولا يضميه فينفر حاملاً جنبه وفي جرحه الموت والحياة معاً. وكتبتها أتناول ألفاظها من تحت لساني وأكشف من قلبي معانيها وأنفض عليها ألوان

الطبيعة التي تصور أحلام النفس وخيالاتها. وأنا أرجو أن أكون قد وضعت لطلبة الإنشاء المتطلعين لهذا الأسلوب أمثلة من علم التصور الكتابي الذي توضع أمثلته ولا توضع قواعده لأن هذه القواعد في جملتها إلهام ينتهي إلى الإحساس. وإحساس ينتهي إلى الذوق. وذوق يفيض الإحساس والإلهام على الكتابة جميعاً فيترك فيها حياة كحياة الجمال لا تداخل الروح حتى تستبد بها ولا تتصل بالقلب حتى تستحوذ عليه فنكون له كأنها فكرة في ذاته. وكل علوم البلاغة إنما تدور على شرح أمثلة بليغة وغير بليغة فما من كاتب يحاول أن يستفيد تصوره من هذه العلوم على أن ينزلها في ذلك منزلة الأصول والضوابط إلا انتهى إلى ملكة علمية تتصل منه بعقل جامد كأنه غلاف لفظي نسجته القواعد والأمثال. فإلى أن يعقد الموت لسانه لا تكون قيمة عمره قد أربت من البلاغة على ثمن كتاب من كتب علوم البلاغة. .! ولا غرفان من ضلال العقل أن يعمل المرء لمقدمات متسلسلة ينتج بعضها بعضاً وليس لمجموعها نتيجة. وحسب مثل هذا عقاباً (بليغاً) في رجع أمره أنه لا يزال ينشر أذنيه على البلاغة طمعاً فيها وهو موقن باليأس منها وذلك ضرب من المطمع لا تبتلى النفوس بأشد منه حتى أن نفس الأثيم الذي انسلخ من الفضيلة لتقر على كثير من أنواع العذاب ولا يعذبها شيء كرؤية هذا المجرم للفضيلة في غيره وهو يعرف أنه لن يستطيع أن يحرزها لنفسه. البلاغة التي حار العلماء في تعريفها على كثرة ما خلّطوا لا تعدو كلمتين: قوة التصور والقوة على ضبط النسبة بين الخيال والحقيقة. وهما صفتان من قوي الخلق تقابلان الإبداع والنظام في الطبيعة. وبهما صار أفراد الشعراء والكتاب يخلقون الأمم التاريخية خلقاً ورب كلمة من أحدهم تلد تاريخ جيل. فإذا مسخ التصور في الإنشاء فجاء كتصور المريض، وشرد الخيال فذهب كخيال المجانين وأدير الإنشاء بعد ذلك على أنه بليغ فاعلم أنها بلاغة العصور الذاهبة في الانحلال بآفات الاجتماع وأمراضه فيكون طابعها في الاصطلاح مرضاً من نفسها. ولقد فشا ذلك في العربية حوال القرن الخامس للهجرة إلى عهدنا فثم عالم من الشعراء والكتاب بلا شعر ولا كتابة. وما البليغ إلا ذلك الذي يستطيع أن يؤتيك طبائع الأشياء - التي تجهلها - في غير

صورها ثم أنت لا تعرفها من كلامه إلا في صورها فكأنه ناسب بين قوتها وضعفك بصناعته وسحره إذ يمازجها بخيال قوي كالعقل يوازن ضعفك وحقيقة ضعيفة كالقلب توازن قوتها. وهو لا يتسلط على طبيعتها إلا بتصوره ولا يستهوي طبيعتك إلا بقدرته على ضبط النسبة بينك وبينها. فالبلغاء هم أرواح الأديان والشرائع والعادات وهم ألسنة السماء والأرض، وإذا شهد عصر من العصور أمة ليس فيها بليغ فذلك هو العصر الذي يكون تاريخاً صحيحاً لأضعف طبائع الأمم. وكتبت هذه المقالة وبحسبي منها أن يكون عند الحقيقة ذخرها، وعند الجمال شكرها، وعند الله أجرها. وهذه نبذة من الفصل الأول. أيها القمر الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضح وجه الطبيعة التي أعيت من طول ما انبعثت في النهار رشاش من النور والندى يتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب بها الأمواج المستيقظة في بحر النسيان الذي تجري فيه السفن الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برحت بهم الآلام، والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام، تلك تحمل إلى الغيب تعباً وترحاً، وهذه لعباً وفرحاً، والغيب كسجل أسماء الموتى تختلف فيه الألقاب، وتتباين الأحساب والأنساب، وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب، وهو يعجب من الذين يسمونه بغير اسمه ولا يعلمون أنه كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب. والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تنفس بعض أكدارها، أو هي يملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها، وبدأ قلبي يتنفس معها كأنه ليس منها قطعة صغرى، بل طبيعة أخرى، ولله ما أكبر قلباً يسع الحب من قبلة اللقاء إلى ذكراها، ومن حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنة أو النار في أخراها، إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس. فإذا لحق العاشق الذي يحمله بربه تناولته وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن ثم قبلته متلهفة ثم قلبته متخشعة ثم أودعته في مكتبة الأبد لأنه تاريخ قلب آخر بل هو جزء

من الموسوعات الكبرى التي يدن فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيب بعينه تعلم الناس منه أن يبدؤا لغاتهم جميعاً بحرف (الألف) لا لأنه من أقصى الحلق. . . بل لأنه من أقصى القلب، بل لأنه من أقصى التاريخ، بل لأنه أول اسم (آدم) ذلك العلم الأول في تاريخ الحب. والآن وقد رقت صفحة السماء رقة المنديل، أبلته قبل العاشق في بعاد طويل، أو هجر غير جميل، وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد. وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل. ومرت النسمات بليلة كأنها قطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة. وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كان الآمال بينهما أحلام اليقظة. ونظر الحزين في نفسه. والعاشق فيقلبه. ونام قوم قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب. ولبس السكون تاجه العظيم فأشرق عليه القمر. والآن وقد لمعت أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاماً وتتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفك يتلمس جوانب السماء حتى يجد منها منفذاً فيغيب. فهلم أبثك نجواي أيها الروح المعذب وأطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبين منبع الدمعة التي فيه فأنزفها، إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تجهش للبكاء ما دامت هذه الدمعة فيه تجيش وتبتدر. ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة المسترسلة كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر فلا تلقها على الأرض أيها القمر فإن الأرض لا تقدس البكاء وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضاً. أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجري كأنه دموع السحر من أجفان هاروت وماروت، ويطرد بجملته كأنه قطعة من السماء هاربة في الأرض وهل تبصر في شاطئه تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء. هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جافٌّ كأنه مصنوع من جلود الكتب وما دمعتي إلا النهر الذي نبت في شاطئه وهي أطهر شيء وأصفاه لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية. من الحب الذي يقابل عنصر النار ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء.

ليس كل من عصر عينيه فقد بكي. إن البكاء لأشرف من ذلك وكما يكون الضحك أحياناً حركةً في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت. كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسي. لأن في العين حاسة لا بد من تمرينها أحياناً تسمى حاسة الدموع. وما أن لقيت باكياً إلا رأيت وجهه مقبلاً علي كأنه يسألني: ترى من أين يذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تعد على طبيعتها دموعاً بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها في الأداء كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها. ولكن الباكي بها لا يجد من قوة الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق التي لا تمتلئ مع أن نفس الحر تئد فيها كل يوم ألفاظاً كثيرة من عبارات الذل والتمليق فلا ينطق بها. وتئد فيها نفس الذليل كل ألفاظ الإباء والأنفة فلا ينطق بواحدة منها. وذلك لعجز الباكي ولضعف إحساسه بالذل السياسي أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين بهذه المعاني السائلة التي نسميها الدموع. أريد أن ابكي بكائي الطبيعي أيها القمر لأنه يخيل إليّ أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي. وإني لا أكون في حاجة إلى البكاء إلا حين تكون هي في حاجة إلى الدموع. ولقد شعرت مراراً بحركة عقلي في تصفح الأسفار، واضطراب نفسي في متاحف الآثار. واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار، فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت بين يدي حبيبها، فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي، ويقظة كل الحقائق من أحلامي. للحديث بقية.

مقالات في الأدب

مقالات في الأدب وضع الأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني أحد أساطين البيان سلسلة مقالات في النقد الأدبي ضمنها أبحاثاً جديدة مبتكرة وآراء سديدة لم يكد يسبق إليها في كيف يكتب الكاتب ويقرض الشعر الشاعر ويبين المبين وما هو سر الفصاحة وأساس البلاغة وروح البيان وما هو الأسلوب والتخيل والنظر وما إلى ذلك مما سيكشف النقاب عن حقائق من هذا الباب طال احتجابها على كثير من الناس وكل ذلك قد أفرغه أديبنا المبدع. في نظام من البلاغة ما شكّ امرؤ أنه نظام فريد حزن مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب فأدركن به غاية المراد البعيد وسننشر هذه المقالات تباعاً في أعداد البيان وهاك قطعة من فصل كالتمهيد إلى ما بعده قال الأستاذ أيده الله: فصل في أن امتياز العبارة بالتأثير ليس لكاتب على كاتب فضل إلا بسهولة مدخل كلامه على النفس وسرعة استيلائه على هواها، ونيله الحظ الأوفر من ميلها، وإنما يلائم الكاتب بين أطراف كلامه ويساوق بين أغراضه، ويبني بعضها على بعض، ويجعل هذا بسبب من ذاك لتكون عبارته أفعل باللب، وأملك للسمع والقلب وأبلغ في التأثير، والكاتب في ذلك كصانع الديباج، يوشيه بمختلف التصاوير ومتناسبها ليكون أملأ للعين، وأوقع في النفس وأعلق بالقلب، وليست المزية كما يتوهم من لا يتدبرون الكلام في أن هذا أكثر تأنقاً من ذلك، وأحسن تحبيراً، بل المزية في أن أحدهما أقدر على إبلاغ المعنى لذهن القارئ. على أنك قد تبلغ بالعبارة العارية العاطلة ما لا تبلغه بالكلام المفوف، بل قد يكون التأنق إذا أسرف فيه الكاتب أو جهل مواضعه، وأخطأ مواقعه، حائلاً بينه وبين ما يريد من نفس القارئ ألا ترى كيف جنى أبو تمام على نفسه بحبه لتطريز الكلام، ومبالغته في تدبيجه، وإسرافه في استعمال الخشن النافر من الألفاظ، وإكثاره من الاستعارات والتكلف لها اغتراراً بما سبق من مثل ذلك في كلام القدماء، حتى كثر في شعره الرث الفاسد والغامض الذي ينبو عنه الفهم، وحتى صار أصبر الناس لا يقوى على إتمام قصيدة من شعره من

غير تحامل على نفسه، وإرهاق لذهنهن لكثرة اعتسافه ومزجه الغرر بالعرر والمأنوس بالوحشي الكدر، انظر إلى قوله يصف قصيدة له: لها بين أبواب الملوك مزامر ... من الذكر لم تنفخ ولا هي تزمر فجعل كما ترى للقصائد مزامر إلا أنها لا تنفخ ولا تزمر ثم تأمل قوله وما أحسنه وألطفه: أيامنا مصقولة أطرافها ... بك والليالي كلها أسحار فقد تراه يخلط الحسن بالقبيح والجيد بالرديء والحلو بالمر، وإنما رأى أبو تمام أشياء يسيرة من بعيد الاستعارات ومتفرقة في أشعار القدماء، وإن كانت لا تنتهي في البعد إلى هذه المنزلة فاحتذاها وأحب الإبداع في إيراد أمثالها فاحتطب واستكثر منها. وقد وقع في هذا العيب كثير من كتابنا وشعرائنا وسترد عليك أمثلة من ذلك مثبوتة في تضاعيف هذه الرسائل كل في موضعه. لست أنكر أن الاستعارة المصيبة وما يجري مجراها من أنواع البديع قد تبرز المعنى في أحسن معرض، مثل قوله تعالى هن لباس لكم وأنتم لباس لهن فإن ذلك أدل على اللصوق وشدة المماسة، ومثل قول الشاعر رأيت يد المعروف بعدك شلت ومثل قول البحتري في صفة البركة: فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها ... وريّق الغيث أحياناً يباكيها وقول أبي تمام: فقد سحبت فيها السحاب ذيولها وهو كثير في كلام العرب وشعرهم وخطبهم وأمثالهم وليس بنا إلى استقصاء ذلك حاجة، ولكن للجمال العاطل أيضاً روعة وإجلالاً، ونضرة وملاحة، وموقعاً حسناً، ومستمعاً طيباً، وعليه فرند لا يكون على غيره، مما عسر بروزه، واستكره خروجه. على أن تأثير العبارة لا يكون بحسن تأليفها، وجودة تركيبها، وجمال رصفها، فإن ذلك وحده - على شدة الحاجة إليه - غير كاف، بل لا بد للكاتب أو الشاعر أن تكون نواحي نفسه جائشة بما يحاول أن ينسجه من خيوط الألفاظ، فليست فضيلة التأثير راجعة إلى ارتباط الكلم بعضها ببعض، ونتائج ما بينها، ولا إلى خصائص يصادفها القارئ في سياق اللفظ، وبدائع تروعه من مبادئ الكلام ومقاطعه، ومجاري الفقر ومواقعها، وفي مضرب

الأمثال، ومساق الأخبار، ولا إلى أنك لا تجد كلمة ينبوبها مكانها، أولفظة ينكر شأنها، بل فضيلة التأثير راجعة إلى شعور جم، وإحساس قوي بما يجري في الخاطر، ويجيش في الصدر. أنظر إلى أبيات البحتري في صفة الإيوان إيوان كسرى: لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتماً بعد عرس وهو ينيبك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس والمنايا مواثل وأنوشر ... وإن يزجي الصفوف تحت الدرفس تصف العين أنهم جد أحياءٍ لهم بينهم أشارة خرس يغتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس وكأن الإيوان من عجب الصنعة جوب في جنب أرعن جلس يتظنى من الكآبة أن يبدو (م) ... لعيني مصبح أوممسي مزعجاً بالفراق عن أنس ألف ... عز أو مرهقاً بتطليق عرس عكست حظه الليالي وبات المشتري فيه وهو كوكب نجس فهو يبدي تجلداً وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرسي لم يعبه أن بز من بسط الديباج واستل من ستور الدمقس مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤس رضوى وقدس ليس يدري أصنع أنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لأنس غير أني أراه يشهد أن لم ... يك بانيه في الملوك بنكس فكأني أرى المراتب والقوم إذا ما بلغت آخر حسي وكأن الوفود ضاحين حسرى ... من وقوف خلف الزحام وخنس وكان القيان وسط المقاصير (م) ... يرجعن بين حو ولعس وكان اللقاء أول من أمس (م) ... ووشك الفراق أول أمس وكأن الذي يريد اتباعاً ... طامع في لحوقهم صبح خمس عمرت للسرور دهراً فصارت ... موقفات على الصبابة حبس ذاك عندي وليست الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنسي ألست تحس وأنت تقرأها كأنك شاهد الإيوان وحاضر أمره. في حالتي نعيمه وبؤسه. وهل

كان هذا كذلك لأن الشاعر طابق بين المأتم والعرس. والبيان واللبس. والمصبح والممسي. والجن والأنس. واللقاء والفراق. وجعل المشتري كوكب نحس. وقديماً كان يطلع بالسعد ومزج لك الشك باليقين. وجمع بين المؤتلف والمختلف. وقدم وأخر. وعرف ونكر. وحذف وأضمر. وأعاد وكرر. كلا؟ فإن في شعره ما هو أحفل من هذه الأبيات بأنواع البديع. ولا يبلغ مع هذا مبلغها في التغلغل إلى النفس والولوج إلى القلب. بل الفضيلة كل الفضيلة في أن الشاعر كان ملآن الجوانح. مفعم القلب. من إحساس مستغرق. آخذ بكليتيه ولهذا ترى روحه مراقة على كل بيت. وأنفاسه مرتفعة من كل لفظ. وهل الشعر إلا مرآة القلب. وإلا مظهر من مظاهر النفس. وإلا صورة ما ارتسم على لوح الصدر. وانتقش في صفحة الذهن. والأمثال ما ظهر لعالم الحس. وبرز لمشهد المشاعر. نعم إن الإحساس الجم. والشعور الملح. لا يكفيان. بل لا بد من قوة التأدية وعلو اللسان للترجمة عنهما ولكنك إن عولت على ملاحة الديباجة. وجمال الأسلوب وحسن السبك. لم تعد أن تكون صناعاً حاذقاً. بصيراً بصرف الكلام. متصرفاً في رفيقه وجزله. مجوداً في مرسله ومسجعه. يتخرج عليك طلبة الكتابة. وينسج على منوالك روّام الإنشاء وتلاميذ المدارس الطامحين إلى مراتب الكتاب. نسجهم على منوال الجاحظ والصابئ. ألا ترى ما في كلامهما من الفتور. فتور الصنعة لا الطبع. فتور القدرة لا العبقرية على اختلاف بينهما في الأساليب وتباين في مذاهب الكتابة. أترى الجملة من كلام أحدهما تستفزك كما تحركك الكلمة من خطب الإمام علي؟ كلا! وإنما كان هذا كذلك لأن هذين وإن تباينت مذاهبهما كتاب صنعة. والإمام علي لم تكن به حاجة إلى الصنعة لمجيئه في شباب اللغة. والألسنة طليقة. واللهجة بطبعها أنيقة. والترسل وتطريز الكلام على نحو ما ترى في كلام المتأخرين ليسا معروفين. هذا إلى أن أيامه كانت حافلة بما يحرك الخاطر ويبسط اللسان. فأما الجاحظ مثلاً فقد كان من أدباء العلماء ولهذا ترى في كلامه فتور العلم. والعلم ليس من شأنه أن يستثير العواطف أو يهيج الإحساس. وسبيل الجاحظ إذا قال أن يمط الكلام مطا. ويطيل مسافة ما بين أوله وآخره. وهذا أيضاً من دواعي الفتور. وبواعث الضعف. وإن أردت دليلاً آخر على أن أشد الكلام تأثيراً ما خرج من القلب فليس أقطع من أن تأثير

الشعر أبلغ من تأثير النثر. وأن النسيب والرثاء وما يجري مجراهما من فنون الشعر أبلغ تأثيراً من المدح والحكم. وأملك لاعنة القلوب. تأمل قول المجنون: كأن القلب ليلة قيل يغدي ... بليلى العامرية أو يراح قطاة عزها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح إلى آخر الأبيات: وقول جليلة بنت مرة ترثي زوجها كليباً حين قتله أخوها جساس: يا قتيلاً قوض الدهر به ... سقف بيتي جميعاً من عل هدم البيت الذي استحدثته ... وسعي في هدم بيتي الأول مسني فقد كليب بلظي ... من ورائي ولظى مستقبلي ليس من يبكي ليومين كمن ... إنما يبكي ليوم ينجلي درك الثائر شافيه وفي ... درك ثأري ثكل المشكل إلى آخر ما قالت. ثم انظر إلى قول الشماخ في المدح: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين أو قول زهير: وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشقى بأحلامها الجهل على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل وقل أي هذه الأبيات أشجى وأشد إثارة للنفس وتحريكاً للقلب؟ أأبيات زهير والشماخ. وهي من أحسن الشعر. وأجوده وأرصنه. أم شعر جليلة. وليست من طبقتهما ولا لهادقة معانيهما. وشرف أسلوبهما. وجودة حبكهما. أم أبيات المجنون. المستوحش في جنبات الحي منفرداً عارياً. لا يلبس الثوب إلا خرقة. ويهذي ويخطط في الأرض. ويلعب بالتراب والحجارة. وينفر من الناس. ويأنس بالوحش. أليس لبيتيه نوطة في القلب وعلوق بالنفس. لا تجدهما في أبيات الشماخ وزهير وهما من فحولة الشعراء المعدودين وزعماء القول المتقدمين.

النقد والتقريظ

النقد والتقريظ حديث القمر نوهنا في غير هذا الموضع من البيان بكتاب حديث القمر لشاعرنا وأديبنا الكبير السيد مصطفى صادق الرافعي ونشرنا هناك مقدمته البليغة ونبذة من الفصل الأول منه. وقد صدر الكتاب مفصلاً إلى تسعة فصول ضافية في نيف وسبعين ومائة صفحة ونبه صاحبه على ظاهره أنه كتبه على نمط خاص من الكتابة العربية يجعل طالب الإنشاء بإدمان قراءته وتأمله منشئاً إذ يربي فيه ملكة التخيل الصحيح التي هي أساس البلاغة ولا بلاغة بدونها. ونحن نقول أننا تناولنا هذا الكتاب فما زلنا حتى فرغنا منه ونظن أن القراءة على اختلاف أذواقهم سيجدون من ذلك ما وجدنا فإن الكتاب جذاب يأخذ بمجامع القلوب ويستهويها بما فيه من الأساليب الشعرية العالية والتصورات المبتكرة المونقة والمعاني الفلسفية الراقية التي تدور كلها على ما يضرب له القلب الإنساني كوصف الجمال وتحليله كل في مظاهره من الإنسان والطبيعة والعواطف ونحوها والقول في أمهات المسائل الاجتماعية الكبرى كالسعادة والفقر وآلام الحياة وأحزانها وما إليها ثم التبسط على وجه بديع في مسئلة المسائل الإنسانية التي طرفاها الإيمان والإلحاد. وكل ذلك وما تخلله مما اقتضاه سياق الكلام يجري على طريقة امتزج فيها الشعر بالفلسفة الحكيمة والجد بالتهكم الرقيق في صفاء من اللغة واطراد من التعبير وجزالة من الأسلوب إلى دقة في الوصف. وإبداع في الرصف. وما شئت مما يجعل الكتاب نسيج وحده، ويدني به النفس إلى غاية الكمال وحده. وقد كشف لنا الرافعي بكتابه هذا عن حقيقة كانت هي السر في خيبة كثير من شبابنا الذين يطلبون وجوه الإجادة في الإنشاء ويبتغون لذلك الوسائل ثم لا يستطيعون لأنهم يعتمدون على حفظ بعض الرسائل والجمل اللغوية والنبذ المختارة من المنظوم والمنثور وهي لا تعطيهم أكثر من المادة الفظية التي هي صنعة اللسان والتي ليس من شأنها أن توجد المعاني وإنما توجدها المعاني ويهملون صنعة الفكر والتخيل التي عي الأصل في الإنشاء لأنها صنعة استنباط المعاني وتصويرها على ما تحس بها النفس فلا يكون من ذلك إلا أنهم ينتهون حيث يبتدئون ويعودون من آخر الطريق وكأنهم لما يبرحوا أولها ولا نعرف أحداً

من أدبائنا فكر في تعليم الإنشاء على الطريقة التي ابتكرها الرافعي مع أنها الطريقة الطبيعية وما من كاتب قد نبغ في الكتابة إلا وهو يعرف من نفسه أنها كانت طريق نبوغه وإجادته والعيان يدلنا على أنه لو ظهر في الأمة ألف كاتب من كتاب الألفاظ لأخملهم كاتب واحد ينبغ بفكره وخياله ولأستبد بقصب السبق دونهم لأن الأمم لا تقاد بالألسنة ولكن بالعقول. وهذه لغتنا العربية مملوءة بكتب الألفاظ وأساليبها حتى لا مزيد على ما عندنا منها ونحن مع ذلك أفقر الأمم كتاباً وأدباء بالمعنى الصحيح للكتابة والأدب فلو لم يكن الأمر على ما بيناه لكاثرنا شعوب الأرض بكتابنا وشعرائنا ولكان لنا في فنون القول ومذاهب الكلام مثل ما لهم أو بعضه وأين ذلك منا بل أين نحن منه وإنما أبرع كتابنا من برع في النقل والتعريب أو السلخ من كتابة كل أديب. وبعد فحديث القمر كتاب كأنه قصيدة واحدة من أبلغ الشعر وأرقاه بل لا نظن أن الشعر وإن جوّد نظم وسبكة يبلغ مبلغ هذا النثر البديع من الفخامة والروعة وبلاغة التأثير فنحث كل من يطلب إمتاع نفسه باللذة العقلية أو الفائدة الكتابية على قراءته وتدبره فإنه ولا جرم يجده أولى بالضن وأحق بالحرص والعناية. وهو يطلب من مكتبة البيان بمصر وثمنه خمسة غروش صحيحة عدا أجرة البريد وهي غرش واحد. شرح الهاشميات الهاشميات قصائد للكميت بن زيد الأسدي في مدح بني هاشم والعصبية لهم والنضح عنهم وهي أشبه بخطب سياسية مما يلقى لعهدنا في ندوة بعض الأحزاب الكبرى من عواصم أوروبا في نصر مبدء على مبدء ومظاهرة فريق على فريق ولذا خرجت من بارع الشع العربي وسريه بما بذل فيها الكميت من وجدانه. وما نفث من لسانه. وما استمد من شيطانه. وهي بعد من أقوى الحجج في اللغة وأجمل الآثار في البلاغة وقد جمعت إلى ذلك طول النفس وغزارة المادة مما لم يتأت لغيرها من شعر العرب - إلا قليلا - حتى جعلها الأدباء كأنها صنف من الشعر متميز بنفسه وحتى ضربوها في الأدب مثلاً وحتى استبدت هي بالكميت نفسه فلم يذكر له غيرها.

وقد عني بضبطها وشرحها شرحاً جميلاً حضرة الأديب الفاضل محمد أفندي محمود الرافعي وطبعها طبعاً متقناً فلا غرو أن تكون من غرض كل أديب لأنها في نفسها جديرة بذلك ولأنها في الاصطلاح مادة من أرقى مواد الأدب. وهي تطلب من مكتبة البيان وثمنها خمسة غروش غير أجرة البريد وهو غرش واحد. (تنبيه) جاء في الرسالة التي نشرناها في هذا العدد من كتاب حضارة العرب في الأندلس ذكر لأرض انكبردة وأن العرب وصلوا في فتوحاتهم إليها ولكن فاتنا أن نبين في الهامش ماذا تسمي انكبردة الآن وقد كنا ظننا ظناً ليس بمعتمد على برهان قطعي أن انكبردة هي لمبردية كما يدل عليه تقويم العرب لها وأنها تتصل بأرض قلورية وأرض نابل وللتثبت من ذلك عمدنا إلى أستاذنا وصديقنا العالم الثبت المحقق سعادة أحمد زكي باشا فجاء إلينا من سعادته ما يأتي - قال أيده الله بعد ديباجة خطابه الكريم: أما كلمة انكبردة فهي اسم لمقاطعة في إيطالية تعرف باسم لومبارديا وعندي أن النساخين كتبوها على طريق التسلسل هكذا (لمبرده) ولما كانت النون سابقة للميم فمن السهل إدغامها على ما هو معهود في العربية فكتب بعضهم بطريق السماع لنبرده ثم صدورها بأداة التعريف فقالوا (اللنبرده) ومن هنا جاء التصحيف فكتبوا (الكبردة) ثم (انكبردة) وبقي هذا الاسم لأخير.

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس ولما نزلت على ريو أخذت سمتي إلى مسجدها الجامع لأصلي فيه صلاة الصبح وأثلج صدري ببرد التقى وشعائر الإسلام، وأجلو بعضاً من وعثاء السفر الزؤام، وما زلت حتى أخذت عيني بناء شاهقاً تعتم مأذنته بالعماء، كأنما تنث حديثاً إلى ملائكة الله في السماء، أو كأنها تعلن برفعتها رفعة الإسلام. وعزة أهله على عبد الطاغوت والأصنام، وكذلك رأيت كل من مر بهذا المسجد من الروم أغضى من مهابته ذلة وصغاراً، وإجلالاً لدين الله وإكباراً، مما ألقاه في قلوبهم من الرعب واختشاء المسلمين أبو الغنائم الحسن بن علي رحمه الله. ولما توسطت باحة المسجد رأيت صفوف المصلين من الرجال وإمامهم في المحراب، كسطور أمامها عنوان الكتاب، وخلف الرجال حاجز من خشب يليه صفوف المصليات من النسوان، كما تكون هوامش الصفحة يفصلها من سائرها أحمر من المداد قان، فانضممت إلى صفوف المصلين وصليت معهم صلاة الصبح ولما إن سلم الإمام وكان قائداً من قواد العرب في هذه البلاد - وكذلك كان أئمة المسلمين في الحروب والسياسات، أئمة لهم في التقى والصلوات، قام واتكأ على سيفه وقال: أيها العرب أنتم الآن بين ظهر أني عدو يلندد يتجرع منكم الغصص ويتحين بكم الفرص، ويود لو يبدلنكم الله ضعفاً من قوة، وضنا بنفوسكم من فتوة، وهزيمة من ظفر، واستحالة لصفوكم إلى كدر، فيثب بكم وثبة الغضنفر نال منه الجوع والسُّعار، ويسعل بكم كما يسعل هذا البركان فيرمي بحممه والشرار، فإذا فترت منكم الهمم، ووهت العزائم وأغمدتم السيوف في الأجفان، وقعدتم عن نصر الله في كل آونة وكل مكان، وسكنتم إلى الترف والنعيم، وجرتم معاذ الله عن النهج القويم، ودب إليكم ما قد دب إلى هذه الأمم الحمراء، من الحسد والبغضاء، فإنكم صائرون لا محالة إلى ما قد صاروا إليه وإذ ذاك يصيركم الله بعد نصركم فلاّ ويديل من عزمكم ذلا ومن كثركم قلاً، وتئيضون بعد على هذا العالم كلا. وبعد إن فرغ من كلامه خرج وخرج معه رجاله وعلوا متون الجياد وذهبوا إلى حيث يعلون كلمة الدين، ويذيعون التقى والحق واليقين وينسفون دعائم الشرك والإلحاد. ويفكون أغلال الظلم من رقاب العباد. مستمسكين بحق قائمين به ... إذا تلون أهل الجور ألواناً

ولما أن قضيت صلاتي خرجت من المسجد وقصدت إلى مرسى السفين فوجدت ثمت مركباً يريد أن يعبر إلى جزيرة صقلية فنزلته ثم قلع وعبر بنا إلى مدينة مسيني إحدى مدائن هذه الجزيرة وأرسي فيها على مرسى عجيب يأخذ بالألباب وذلك أن أكبر ما يكون من السفن يرسي من الشاطئ بحيث يتناول ما فيها من البر بالأيدي. وقبل أن نسترسل في القوة على مدينة مسيني وسائر البلدان التي مررت بها في هذه الجزيرة العجيبة نذكر لك شيئاً من تقويمها وتاريخها حتى تكون على بينة من أمرها إن شاء الله. صقلية هي جزيرة في البحر كبيرة على شكل مثلث متساوي الساقين زاويته الحادة من غربي الجزيرة بينها وبين ريو وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة مجاز مسيني حيث يتراوح البحر بين ستة أميال وعشرة أميال وبين ذنبها الغربي وبين تونس نيف وستون ميلاً وزاويتها الجنوبية تقابل طرابلس من أفريقية وبالقرب من زاويتها الشمالية جزيرة صغيرة فيها بركان النار الذي لا يعلم في العالم أشنع منظراً منه. وهذا بركان كان اسم لجبلين أحدهما هذا والثاني في صقلية نفسها وفي أرض خفيفة التربة كثيرة الكهوف ولا يزال يصعد من ذلك الجبل لهب النار تارة والدخان أخرى، ومن ثم كانت كثيرة الزلازل بحيث يكثر تهدم أبنيتها منها. وقد كانت هذه الجزيرة قبل الفتح خاملة قليلة العمارة وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى الأنبرو صاحب قسطنطينية وكان عليها والٍ من قبل هذا الأنبرو ويسمى قسطنطين وكانت أفريقية تحت ولاية زيادة الله ابن الأغلب كان والياً عليها من قبل المأمون بن هرون الرشيد فلما كانت سنة ثنتي عشرة ومائتين استعمل الأنبرو على الأسطول قائداً رومياً يسمى فيمي وكان حازماً شجاعاً فغزا سواحل أفريقية وعبث فيها وبقي هناك مدة وبعد ذلك كتب الأنبرو إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي وتعذيبه فنمي الخبر إلى فيمي فانتفض وتعصب له أصحابه وسار إلى مدينة سرقوسة إحدى مدائن صقلية فملكها فسار إليه قسطنطين فالتقوا واقتتلوا فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية فسير إليه فيمي جيشاً فقبضوا عليه وقتلوه واستولى فيمي على صقلية وخوطب بالملك وولى

على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة فاتفق بلاطة هو وابن عم له يسمى ميخائيل كان والياً على بلرم وجمعا عسكراً كثيراً وقاتلا فيمي فانهزم فيمي وركب في أسطوله إلى أفريقية مستنجداً بزيادة الله بن الأغلب فسير معه أسطولاً عظيماً في تسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل واستعمل عليهم أسد بن الفرات - قاضي القيروان ومن أصحاب مالك رضي الله عنه وهو مصنف الأسدية في الفقه على مذهب مالك - وأقلعوا من سوسة فوصلوا إلى مدينة مأزر من صقلية وساروا إلى بلاطة الذي قاتل فيمي فهزموه والروم الذين معه وغنموا أموالهم وهرب بلاطة إلى قلورية فقتل واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة وجرت وقائع كثيرة بين الروم والمسلمين امتدت سنين طوالاً وانتهت باستيلاء المسلمين على جميع جزيرة صقلية - وبقيت صقلية بيد بني الأغلب يتناوبها عمالهم إلى أن أدال الله منهم للعبيديين ودانت لعبيد الله المهدي أفريقية وما إليها فأخذوا يبعثون عمالهم عليها إلى أن كانت فتنة أبي يزيد وشغل أبي القاسم القائم والمنصور العبيدي من بعده بأمره - فلما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور لأبي الغنائم الحسن بن أبي الحسين بن علي الكلبي وكان له في الدولة محل كبير وفي مدافعة أبي يزيد غناء عظيم فمهد الأمور للعبيديين غزى بلاد قلورية وأقام والياً على صقلية وما إليها إلى أن استأثر الله بالمنصور وقام بالأمر من بعده ولده المعز لدين أبو تميم معد فسار الحسن إليه بأفريقية سنة إحدى وأربعين واستخلف على ما وراءه ابنه أبا الحسن أحمد ولا يزال هذا الأمير أيده الله والياً على صقلية وما إليها إلى اليوم وهو سنة خمس وأربعين وثلاثمائة ومقامه ببلرم حضرة هذه الجزيرة.

مستقبل الدولة العثمانية

مستقبل الدولة العثمانية لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل وحسن سياسة حكمة عربية قال لامارتين: الإمبراطورية العثمانية تنقض اليوم لبنة بعد لبنة ويوشك أن تخلي اليوم أو غداً أقاليمها الواسعة فتتركها بلاقع قفراً من السكان. نهباً للتشعث واللوضي. ولا حاجة إلى التعجيل بتقويض هذا التمثال العظيم بدفعة يد أو لمسة بنان. فإنه ينهدم طوعاً أو كرهاً، ويتداعى لوهن سرى في أجزائه، واستقر في بنائه، وتخلخل لسنا نعرف إلى من نعزوه، ولا هو مما يستطاع الاحتيال على تدعيمه أو يقدر الترك أو أوربة على تقويمه. كتب لامارتين هذه الكلمات سنة 1835. عقب حروب توالت بين الدولة وهذه الدول الناشئة التي تصاولها اليوم، ولكنها لم تكن حرب الطامع النهم أو إغارة الجائع الملتهم، بل كانت تملص مأسور يجاهد سلاسل الأسر. وثورة مقهور ينحي عن كاهله نير الذل والقهر. ثم دعا الدول إلى عقد مؤتمر تتفق فيه على تقسيم أسلاب آل عثمان وتفريق تلك البقاع الخصبة بين أبناء آدم ليعمروا خرابها ويستغلوا يبابها. ويتيمموا منها صعيداً رق هواؤه وتدفق ماؤه. فيتكاثر عددهم ويعيشون هنالك آمنين في ظل أوربة. ولا أحسب أنه كان يدور بخلد لامرتين يومئذ أن ذلك التمثال العظيم سيبقى بعده قائماً يقرقع ولا يسقط، ويظل إلى العام وهو يتصدع ثم لا يهبط فكيف إذا رآه اليوم وقد اشتكرت حوليه زعازع الخطوب، واشتجرت حفافيه مطامع الشعوب. . وما كان لامرتين بأشد تطيراً من كثير من القاطنين في هذه الأيام. فإنك قلّ أن تصادف من لا يقول لك: لقد نزلت الطامة الكبرى، وآن لهذا الهلال أن يطوى. وغنه قد حق على هذه الدولة أن تمحى. ثم يقول إنما نحن نشهد اليوم في شرق أوروبة ما شهده الناس من قبل في غربها غير أن الأندلس قد خلفت بعدها من لو شاء لاعتبر بمصيرها. فهل يبقى منا بعد اليوم من يعتبر بمصيرنا ويتعظ بتفريطنا. . كذلك زلزلت الصدمة قلوب العثمانيين فيئسوا من الدنيا كأن أوربة هي كل الدنيا. ولو كانت

الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربة لحق لهم أن لا يرجوا منها بعد الآن ثمراً. ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق. وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها منها. وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها. فلا تتحول أنظار محمد الفاتح بتة إلى القسطنطينية، ولا يركض للترك جواد في بطاح مقدونية، أو يمخر لهم أسطول في بحر الروم، أو يتوغل منهم سلطان في أحشاء الغرب، وكان يكون لهم مع ذلك دولة ولواء، ويتسع لهم في آسيا أمة آسيوية بحتة، كاليابان في شرقها، وهل أذهبت عزلة هذه عن أوربة شيئاً من فخامة ملكها وعزة شأنها. . فإن كان قد دار التاريخ دورته وقضى الأمر، فلتكن هذه القرون الستة فترة التيه عند بني عثمان، وليثوبوا إلى موطنهم الذي فيه درجوا ومنه خرجوا، وإن ما جاز بالأمس لا يستحيل اليوم، فليست هذه السنة آخرة دورات الفلك، ولئن استحال ذلك كما قد يرى القانطون، فإنما هو محال في أوربة وآسية على السواء. لا نزعم أن المسألة تافهة هينة، ولكننا لا نظن كذلك أننا عند فراش محتضر طال به النزع، ولا أننا بين يدي شيخ فإن يتوكأ على عصا الشيخوخة إلى حافة القبر، ولا نتربص الموت بهذا الرجل المريض بل قد نرى فيه من الحيوية ما يعمر به إلى ما شاء الله. إذا سوعف بما ينفعه من الدواء. قال ابن خلدون الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته ثم قال: ولهذا يجري على السنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة. ولا ريب أن ابن خلدون كان يكتب فصله هذا وهو إنما يحضره خيال تلك الدول العربية التي توارثت الملك دولة بعد دولة، ولا ينظر إلى قيام العباسيين تلو الأمويين، وتعاقب العروش الأفريقية والأندلسية بين السلائل المغربية. وكان لم يئن بعد لعمراني العرب أن ينظر إلى الأمة دون الدولة، لأنه لم يكن للأمة في تلك العهود وجود منفصل عن وجود الدولة، فكان شباب الأمة أو هرمها عنده لا يعرف إلا بالنظر إلى قدرتها على إمداد الدولة بالجند ونشاطها إلى الحرب وراء الفاتحين من ملوكها. فإذا استطاع الملك أن يستجلب الجند من غير أمته فالدولة فتية شابة، ولا شأن لحياة الأمة في عمر دولتها ما دام للملك جند

متأهب للحرب يلبي نفيره، ويتبع ركابه. وما دامت الجبهة نقية من الغصون، فلا حاجة إلى فحص الجسم في حكم ابن خلدون. وقد نظر إلى دولة الترك في أيامه هذه النظرة، ولو أنه عاش حتى يرى دولتهم تتجاوز المئة إلى المئين لما غير حكمه ولكان يرى أنها داوت هرمها باستجلاب الجند من غير جلدتها. وذلك كقوله: وربما يحدث في الدولة إذا طرقها الهرم بالترف والراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً وشيعةً من غير جلدتهم ممن تعودوا الخشونة فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى بإذن الله فيها بأمره. وهذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق فإن غالب جندها الموالي من الترك، فتتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرساناً وجنداً، فيكونون أجرأ على الحرب وأصبر على الشظف من أبناء المماليك الذين كانوا قبلهم وربوا في ماء النعيم والسلطان وظله. وكيف كانت قاعدة ابن خلدون قاصرة عن الانطباق على أطوار الفتوة والهرم في الأمم الحاضرة، فلا مراء أنه قد أصاب شاكلة السداد في حكمه على دولة الترك، فإنها كانت إلى ما قبل اليوم ببضعة أعوام دولة دعامتها الجند وأساسها سلطة الحكومة، فلما دب الوهن إلى حكومتها، وتضعضت قواها الفاتحة. لم ينشب أن قعد بها العجز وتضاءلت سطوتها. ولكنها الدولة التي شاخت وليست الأمة، لأنها كانت تتلقى الصدمات منفردة، وكان لا يصيب أمتها من تلك الصدمات إلا ما لا بد منه في أمة تغفل حكومتها عن رعايتها وتدريب قواها الحيوية. وقد اتفق ماكيافيلي وابن خلدون في تعيين مركز القوة من دولة الترك. لأنهما نظرا إليها من نقطة واحدة. وماكيافيلي عند الطليان كابن خلدون عند العرب. وكلاهما قد أخذ قضاياه عن أحوال الإمارات القديمة. فجاءت مقدمة ابن خلدون وكتاب ماكيافيلي الذي وسمه باسم الأمير على اتفاق غريب في وصف أنواع الحكومات. ومناشئ المنعة والانحلال فيها. لاسيما كلامهما عن الممالك الدينية والعسكرية. وكان عبد الحميد يكثر درس كتاب ماكيافيلي درس مستفيد وأمر بنقله إلى اللغة التركية. ولعله أخذ منه كثيراً من خططه السياسية التي أشار بها الرجل على الملوك المستبدين. قال ماكيافيلي بعد كلام عن الفرق بين تذليل

الممالك المطلقة والممالك التي للشرفاء قسط من الحكم فيها: لهذا يعاني من يهاجم الترك مشقة عظيمة ولكنه متى قهرهم فليس أهون عليه من حفظ ما اغتصبه من ملكهم. وسبب هذه المشقة أن المهاجم لا يجد في مملكة الترك أميراً أو نبيلاً يدعوه إلى اقتحام المملكة ويؤازره على خلع السلطان. ولا ينتظر أن يستفيد من انتقاض بعض أتباع السلطان عليه. لأن وزراءه وولاته كلهم من صنائعه وخدمه. فلا يسهل إغراؤهم عليه. وإذا تم للمغير استمالة بعضهم فليس من الحزم أن يترقب من هؤلاء كبير فائدة. لأنهم عاجزون عن ضم الشعب إليهم للسبب المتقدم. ولذلك كان حتماً أنو يوقن من يشاء الزحف على الترك من أنه واجدهم يداً واحدة. وعليه أن يعتمد على عدته وجيشه أكثر من اعتماده على الدسائس الداخلية. فإذا تهيأ له الغلب عليهم وتشتيت شمل عسكرهم بحيث لا يبقى من يستطيع أن يجمعهم لمدافعته فقد استقر له الأمر وليس عليه أن يخشى إلا من أقرباء السلطان وأعضاء أسرته. فأما غيرهم من حشم السلطان وأتباعه فلا اعتماد للشعب عليهم ولا هو ينقاد إليهم. وكما أن المغير لم يعول على تعضيدهم قبل الفتح فليس عليه أن يرهب بأسهم بعده. كان هذا شأن الدولة العثمانية لعهد ماكيافيلي أي في أيام سليم الأول وهي بعد في جن صباها وريعان فتوتها. فأما بعد ذلك فقد كانت الفتن الداخلية أشد على الدولة من أعدائها. ولا يعنينا من قول ماكيافيلي المتقدم إلا أن الحكومة هي مركز القوة في الممالك العسكرية المطلقة وأن الهزيمة تقع في تلك الممالك على رأس أولى السلطة دون سواهم - والانحلال الطبيعي في حكم الهزيمة من هذه الوجهة. أي أن أعراضه تظهر على الدولة دون الأمة؟؟ ولا يختلف اثنان في أن الدولة العثمانية قد تطرق إليها الهرم، وأنها ليست تلك الدولة الفاتحة التي عرفها الناس قديماً. ولا يمكن أن تعود كذلك فى يوم من الأيام. فهل اتصل الهرم بشعوبها منها وخمدت فيها جذوة الحياة. فلا عزم فيها يوري. ولا أمل عندها يرجى؟؟ ليس فى بوادر الشعوب العثمانية قاطبة ما ينبئ بشيخوخة أو انحلال، بل كلها لا تزال على حال الفطرة. لم تخثر طبائعها، ولم تفتر حرارتها ولا انتكست أخلاقها، وهذا التركي لم يفتأ شجاعاً جليداً كريم الطبع جم الأدب، والسوري لا تزال له خبرة الفينيقيين بالتحول على الكسب والسعي في طلب المعيشة، ولا يزال البدوي على عنجهيته الجاهلية وشرته الأولى، والكردي ما برح على عهده من يوم خلق، يغزو ويقنع بغفة من العيش، ولم يفقد الأرمني

ما طبع عليه من الذكاء وسلامة النحيزة، فإن صح للعثماني أن يشكو عيباً في أمته فأدنى إلى الصواب أن يشكو منها الطفولة المرجوة، لا الشيخوخة الميؤسة. فهذه عناصر الحياة والمنة متوفرة في الشعوب العثمانية، فهل يوفق حكامها إلى ضم أشتاتها ولم شعثها، وهل توائم الفرص هذه الطفولة فتنتقل إلى شباب غض وفتوة ناضرة؟؟ اقترح بعضهم فيما اقترحوه نظام اللامركزية ونحن نرى لمسألة اللامركزية وجهين، فهي من وجه منهما ضرورية لازمة، ومن الوجه الآخر فيها مجال للنظر. فأما كونها ضرورية لازمة فيعززه ما هو معلوم من صعوبة تقدير نظام واحد لأمم وشعوب تختلف اختلافاً بعيداً في العادات والأخلاق والجنس واللغة والدين والموقع ومرافق الثروة والمصلحة المادية، واستحالة الأنافة على كل هذه الشؤن من مركز واحد بمعزل عما تشتمل عليه نفوس القوم من الرغائب وما هم مفتقرون إليه من المطالب، ويؤيده حق كل أمة في تصريف أمورها على الوجه الأوفق لها لاسيما في عصر اشرأبت فيه أعناق الأمم إلى الاستقلال واندفعت إليه بعزم لا تصده إلا قوة ليست فى يد الدولة الآن، وهي أحوج ما تكون إلى شد أزرها بقلوب رعاياها. وأما مجال النظر فهو في تفاوت تلك الشعوب في الأهلية لحكم نفسها وتباينها فى الإخلاص للدولة. فإن منها ما لم يتعد بعد أبسط أنواع الحكومة البدوية. فلا يعقل أن يعهد إلى مثل هذه بسلطة كالتي تنالها أمة كالأمة. السورية أو التركية مثلاً. كما أن منها ما يكاد يحسب من جنس الأمة التركية. ومنها ما تجمعه بها وحدة دين أو عاطفة ولاء. ولا ينزع هؤلاء إلى الانشقاق عنها. وقد يغيرهم عليها تمييزها سواهم عنهم بهذه الحرية. هذا وربما هاج انفراد تلك الشعوب أطماع الدول التي تشتهيها فعجلت الوثبة عليها. بيد أن مما لا مراء فيه أنه ليس من حسن السياسة ولا مما يوافق الدولة أن تقسر شعوبها على الاندماج في بنيتها قوة وغصباً. والعقل العصري لا يفهم من معنى الإخلاص أن يتقيد الشعب بالولاء لحكومة تحكمه لمصلحتها لا لمصلحته. وتضحي بشيء من حريته ومنفعته لغايتها لا لغايته. فإن لم يعتقد الشعب أنه يفيد من حكومته أكثر مما يفيده من سواها. وأنه يتمتع في ظلها بحرية لا يتمتع بأوسع منها في ظل حكومة أخرى. وأن بقاءه وارتقاءه آمن في تعلقه بها منهما في انفصاله عنهما فليس لتلك الحكومة حق ولاء عليه. وليس لها أن

تتقاضاه الإخلاص والطاعة. فليس للدولة العثمانية إلا خطة واحدة تجري عليها في حكم شعوبها كافة. وهي أن تربط مصلحتهم بمصلحتها وتقيم نفسها محوراً تدور حوله مرافق تلك الشعوب. وإنما يكون ذلك بمد السكك التجارية بين أجزائها وتبادل المعاملات الاقتصادية بين ولاياتها وممالكها. وتصيير عاصمة السلطنة سوقاً عامة للتجارة. ومرجعاً عالياً للعلم والصناعة. وكعبة مقصودة في الخوف والرجاء. والشدة والرخاء. وعليها أن تصرف أبصارهم عن التطلع إلى الخارج سياسياً ومادياً بتعمير داخلها. وبسط الأمن والحرية في أرجائها. حتى يعود درؤها المغير على بلادها ذياداً عن حريتها ورفاهتها. قبل أن يكون ذياداً عن سيادة دولتها. ولا يستلزم هذا الإصلاح سن نظام اللامركزية بمعناه المطلق. بل قد يغني عنه في بادئ الأمر تخويل الولايات حقوق الإدارة الداخلية، مع مراعاة منزلتها من الرقي والكفاءة لتولي الأحكام، وأحسب أن توزيع السلطة على هذا النحو يربح الحكومة الرئيسية من المتاعب والمشاغل التي تملك عليها الوقت من جراء الخلافات العنصرية، ويحسم هذا النزاع القائم بين الأحزاب. وما كان قط نزاعاً حزبياً بالمعنى المعروف في البلاد الأروبية. ولكنه نزاع مداره على المنافسات العنصرية في سبيل إحراز الوظائف وامتيازات السلطة، فالاتحاديون كلهم من الترك أو ممن استهواهم الترك بالمواعيد والآمال، والائتلافيون عناصر شتى تجمعت لتعدل كفتها كفة الترك ويسمع كل منها صوته بلسان العناصر كلها، وما مبتغاهم جميعاً إلا الوظائف والسلطة، فإذا أحرز كل منهم قسطه منها في بلاده خفت وطأة نزاعهم عن الحكومة وتحولت أكثر مساعيهم إلى إصلاح تلك البلاد، وتجمعت قواهم في مواضعها بعد هذا التفرق الذي يذهب بمساعيهم أيدي سبا. وهناك من زعماء العثمانيين من ينظر إلى الخارج أكثر من نظره على الداخل. فهؤلاء همهم الأول الانضمام إلى أحد الجانبين اللذين يتجاذبان النفوذ في أوروبة. ويقولون أنه ليس علينا الآن إلا أن نأمن العدو الأجنبي ثم نطمئن إلى إصلاح بلادنا. كأن تلك الدول ستتولى حراسة التخوم العثمانية بعد انضمام الدولة إليها، ثم تأخذ عن عاتقها مراقبة السياسة الخارجية!!. نعم إن الأمن من جهة الخارج واجب من أكبر واجبات الدولة ولكن كيف يكون ذلك؟ أبا

المحالفة؟ كلا! فإن المحالفة لا تؤكد للدولة إلا عداوة من تخالفه ثم إنها لا تكفل لها صداقة من تحالفه. فإن محالفة بين الدولة والدول لا يمكن أن تبرم بميثاق صحيح، لأن قاعدة التحالف بين أوربا لهذا العهد أن تتعاون على ترجيح نفوذها وتغليب كلمتها في المشاكل السياسية. وليست الدولة صاحبة نفوذ في السياسة الدولية فترغب الدول في ودها. فهي إن حالفتها لم تنو إلا أن تأخذ منها ولا تعطيها أو تأخذ أكثر مما تعطي. فيكون التحالف إذن أشبه باتفاق بين السالب والمسلوب، وكلما جادت الدولة بأملاكها كان الإقبال على محالفتها أكثر. وليعلم العثمانيون أن تلك الدول لا تعضدهم ولا تتخلى عنهم إلا لمصلحتها. فإن عنّ لها وجه المصلحة في تأييدهم نصرتهم سواء كانت معهم أو عليهم. أو عنّ لها وجه المصلحة في التخلي عنهم خذلتهم، سيان المحالف منها والمخالف. فخير للدولة أن تدير شراعها من كل ريح من أن تتقيد بريح واحدة. وأنفع لها أن تكسب عطف الرأي العام في أوربة كلها من أن تكسب الود الظاهر من بعض حكوماتها. وقد كان يتعذر عليها ذلك أيام كان تاريخها مرتبطاً بتاريخ المنافسة بين الغرب والشرق والمسيحية والإسلام، وكانت في أوربة دولة شرقية غربية. ولكنها بطبيعتها الشرقية لم تصاحب أروبة في حركة التقدم الحديث، فبقيت دولة غربية شاذة في الغرب، وأعقبت لها تلك الذكريات ضغناً ونفوراً في نفوس القوم أشد مما تقتضيه المنافسة الضرورية بينهم. فأما اليوم وقد رفعت يدها عن أكثر البقاع التي كان بقاؤها فيها يحرك تلك العداوة الموروثة فربما تيسر لها ما كان يتعذر عليها بالأمس. ولسنا هنا في مقام رسم الخطط السياسية التي تتوخاها الدولة، ولكننا نجس نبضها ونتلمس فيها مدب الحياة الكامنة، ونشيم برق الفرص. وهنا مجال للثقة والريب، والأمل واليأس، فإن كان ذوو المآرب في فناء الدولة يرجحون جانب اليأس، فليكن جانب الأمل أرجح في قلوب آل عثمان ولئن كان الأمل على قدر الحاجة فليكن العمل كذلك على قدر الأمل. (العقّاد)

مختارات

مختارات كيف يسوس الرجل زوجه للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا إن المرأة الصالحة شريكة الرجل في ملكه وقيمته في ماله وخليفته في رحله وهير النساء العاقلة الدينة الحيية الفطنة الولود القصيرة اللسان المطاوعة العنان الناصحة الجيب الأمينة الغيب الرّزان في مجلس الوقور في هيئتها المهيبة في قامتها الخفيفة المبتذلة في خدمتها لزوجها تحسن تدبيرها وتكثر قليله بتقديرها وتجلو أحزانه بجميل أخلاقها وتسلي همومه بلطيف مداراتها. وجماع سياسة الرجل أهله ثلاثة أمور لا تدعه وهي الهيبة الشديدة والكرامة التامة وشغل خاطرها بألمهم. أما الهيبة فهي إذا لم تهب زوجها هان عليها وإذا هان عليها لم تسمع لأمره ولم تصغ لنهيه ثم لم تقنع بذلك حتى تقهره على طاعتها فتعود آمرة ويعود مأموراً وتصير ناهية ويصير منهياً وترجع مدبرة ويرجع مدبراً - وذلك الانتكاس والانقلاب. والويل حينئذٍ للرجل ماذا يجلب له تمردها وطغيانها ويجنيه عليها قصر رأيها وسوء تدبيرها ويسوقه إليه غيها وركوبها هوانها من العار والشنار والهلاك والدمار. فالهيبة رأس سياسة الرجل أهله وعمادها وهي الأمر الذي ينسد به كل خلة ويتم تمامه كل نقص وينوب عن كل غائب ويغني عن كل فائت ولا ينوب عنه شيء ولا يتم دونه أمر فيما بين الرجل وأهله: وليست هيبة المرأة بعلها شيئاً غير إكرام الرجل نفسه وصيانة دينه ومروءته وتصديقه وعده ووعيده. أما كرامة الرجل أهله فمن منافعها أن الحرة الكريمة إذا استجلت كرامة زوجها دعاها استدامتها لها ومحاماتها عليها وإشفاقها من زوالها إلى أمور كثيرة جميلة لم يكد الرجل يقدر على إصارتها إليها من غير هذا الباب بالتكلف الشديد والمؤونة الثقيلة. على أن المرأة كلما كانت أعظم شأناً وأفخم أمراً كان ذلك أدل على نبل روحها وشرفه وعلى جلالته وعظم خطره. وكرامة الرجل أهله على ثلاثة أشياء في تحسين شارتها وشدة حجابها وترك إغارتها.

وأما شغل المخاطر بالمهم فهو أن يتصل شغل المرأة بسياسة أولادها وتدبير خدمها وتفقد ما يضمه خدرها من أعمالها فإن المرأة إذا كانت ساقطة الشغل خالية البال لم يكن لها هم إلا التصدي للرجال بزينتها والتبرج بهيأتها ولم يكن لها تفكير إلا في استزادتها فيدعوها ذلك إلى استصغار كرامته واستقصار زمان زيادته وتسخط جملة إحسانه. عاقبة الغواية لأبي نواس ولقد نهزت مع الغماة بدلوهم ... وأسمت سرح اللهو حيث أساموا وبلغت مذ بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام أثام كسلام هو جزاء الإثم وفي القرآن الكريم ومن يفعل ذلك يلق أثاما. وصف الناقة لأبي نواس وهي أبيات من قصيدة قال السيد المرتضي نسب أبو نواس في أولها ثم وصف الناقة بأحسن وصف ثم مدح الرجل الذي قصد مدحه واقتضاه حاجته كل ذلك بطبع يتدفق ورزنق يترقرق وسهولة مع جزالة والقصيدة: يأمنه أمتها السكر ... ما ينقضي مني لها الشكر أعطتك فوق مناك من قبل ... قد كن قبل مرامها وعر يثني إليك بها سوالفه ... رشأ صناعة عينه السحر ظلّت حميا الكأس تنشطنا ... حتى تهتك بيننا الستر في مجلس ضحك السر وربه ... عن ناجذيه وحلت الخمر ولقد تجوب بي الفلاة إذا ... صام النهار وقالت العفر شد نية رعت الحمى فأتت ... ملء الحبال كأنها قصر تثني على الحاذين ذا خصل ... تعماله الشذران والخطر أما إذا رفعته شامذةً ... فتقول رنّق فوقها نسر أما إذا وضعته خافضةً ... فتقول أرخي دونها ستر

وتسفّ أحياناً فتحسبها ... مترسماً يقتاده أثر فإذا قصرت لها الزمام سما ... فوق المقادم ملطم حر فكأنها مصغٍ لتسمعه ... بعض الحديث بأذنه وقر الحنين إلى الأوطان (قال البحتري) سقى الله أخلاقاً من الدهر رطبة ... سقتنا الجوي إذا أبرق الحزن ابرق ليال سرقناها من الدهر بعدما ... أضاء بأصباح من الشيب مفرق تداويت من ليلى بليلي فما اشتفى ... بما الربى من بات بالريق يشرق (وقال أبو تمام) سلام ترجف الأحشاء منه ... على الحسن بن وهب والعراق على البلد الحبيب إلى غورا ... ونجدا والأخ العذب المذاق ليالي نحن في وسنات عيش ... كأن الدهر عنا في وثاق وأيام لنا وله لدان ... عرينا من حواشيها الرقاق (وقال ابن الرومي) وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا إذ ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنو الذلكا

نوابغ العالم

نوابغ العالم ابن الرومي - الفيلسوف نيتشه ابن الرومي بقلم الأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني بسم الله الرحمن الرحيم نسأل الله يقينا يعمر القلب ويملأ الصدر (وبعد) فهذا ما شحذت العزم على كتابته وحضضت على تقديمه من النظر في شعر أبي الحسن علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر المشهور وتاريخه والموازنة بينه وبين نظرائه وأكفائه من فحولة شعراء العرب والفرنج بما يستدعي ذكر أعيان قصائده ومقطعاته ويستوجب الشرح والملاحظة وتفسير ما يقع من كلام غريب ومعنى مستغلق حتى يكون المقال مكتفياً بنفسه ومستغنياً عن أن يرجع إلى أحد في تقريب بعيده، وبيان مستعجمه، وهو عمل لعمري غير أنه وعن المركب، كوؤد المطلب، وما أظن بك إلا أنك عالم بصعوبته، عارف باعتياضه وبعد مشقته، وإلا أنك قد مهدت لي العذر من ذي نفسك في التقصير والضعف وسائر ما عساه يقع من الارتباك والخلل، فقد وجدت، أصلحك الله، أكثر من ترجم ابن الرومي من الكتاب المتقدمين لم يستقصوا أخباره ولا توخوا الإحاطة بها أو ترتيب ما أثروا منها، ومن أين لنا أن نوفي القول في تاريخه وكل ما انتهى إلينا لا يبرد الغلة ولا يسد الحاجة، وكيف نقتني معالم سيرته ونتتبع نمو عقله ونستقري أطوار نفسه ونحن لا نعلم أي أخباره أسبق ولا نعرف عن كثير ممن اتصل بهم وصاحبهم وتقلب بينهم إلا أنهم عاشوا وماتوا كسائر الناس؟ ورأيت كذلك المؤرخين السابقين رحمهم الله قد أتحفونا بطائفة من فضائله ورذائله رواها بعضهم عن بعض بالتواتر، وليس من غرضنا أن ننفي ذلك أو نثبته، فإن لهذا وقتاً لا نستعجله، وإنما أود أن نقول أن هذا المذهب أشبه بالعمليات الحسابية منه بالتحليل الأخلاقي، وأنه ليس تصويراً للنفس ولكنه قياس لطول الصورة وعرضها، وشتان بين أن تجمع شتيت الصفات ثم تسردها واحدة واحدة وبين أن ترسم الخلق الحادث من تفاعلها واصطكاك بعضها ببعض، فإن مما لا شبهة فيه ولا ريب أن النفس الإنسانية ليست كخزانة

الكتب ترى فيها الفضائل والرذائل مرصوفة مرتبة لا تعدو واحدة مكانها ولا تتجاوزه إلى سواه، وإنما هي ميدان لتلاقيها وتلاحمها، وعالم صغير تقضادم فيه الغرائز والملكات وتقتتل على الحياة والبقاء كما يحترب الناس في هذا العالم الكبير ويتنازعون البقاء فيما بينهم، وبحر تتسرب فيه الطبائع بعضها في خلال بعض كما تتسرب الموجة من الماء في خلال الموجة وتغيب في أثنائها. وفي الحقيقة أن كتاب العرب ومؤرخيهم قصروا أشد التقصير وأسوأه في ترجمة شعرائهم وكتابهم وعلمائهم وعظماء رجالهم، ولم ينصبوا أنفسهم في هذا المعنى على كثرة ما ألفوا وصنفوا، ولا جؤا بشيء يضارع ما عدا أمم الفرنج منه، وإنك لتقرأ لأحدهم السفر الضخم ذا الأجزاء العديدة والحواشي والتعاليق، وتعاني في تصفحه من البرح والعنت ما تعاني، ثم لا تظفر إلا بأشياء لا تستحق ما عالجت في سبيلها من الشدة، وبذلت من الجهد وأنفقت في طلبها من الساعات والأيام، وقصص وأخبار لا تجد عليها طابع العقل وميسم التفكير، كأن لم يكتبها إنسان وهبه الله عقلاً وفهما. وفؤاداً ذكياً. وذهناً يتفكر. وقلباً يتدبر. أو كأنما كانوا يكتبونها وهم رقود. لسنا نقصد إلى تنقص مؤرخي العرب والتسميع بهم، والوقوع فيهم وتحقير شأنهم. أو إلى تفضيل مؤرخي الفرنج عليهم، والتنويه بمفاخرهم، فإن هذا مالا يخطر لنا ببال ولا يسنح في فكر، وعلى أننا بعد لو قصدنا إلى شيء من ذلك التفضيل لا تسع لنا فيه نطاق المعذرة، ولبرأنا عقلاء القوم من اللائمة، فإن مما لا يخفى على أحد له أدنى معرفة أن مؤرخي العرب لم ينظروا إلا إلى الدولة دون الأمة، وإلى الحكومة دون الشعب، ولم يعنوا إلا بذكر الفتوحات والحروب وتعاقب الولاة، واختلاف الحكام، ولم يفطنوا إلى عظمة الشعر وجلال الأدب فطنة الغربيين لذلك، وهذه أسفارهم فليراجعها من شاء إن كان في شك مما نقول وليحكم عقله وليتجرد من الهوى، فإنه لا بد صادر عنها بآماله، وراجع بالخيبة وحبوط المسعى، ولعل للعرب بعد عذراً من زمانهم وأحوال أيامهم ونحن نلوم. . . الإنسان وجهة الإنسان وموضع عنايته، وليس أدل على مدنيته واستئناسه من حبه للترجمة والتاريخ ولكفه بهما، على الرغم مما يدلي به لرد ذلك ودفعه، وأي شيء أحلى في القلب، وأثلج للنفس، وأشرح للصدر، من أن يساهم أحدنا شعور أخيه الإنسان، ويشاطره إحساسه،

ويتغلغل نظره إلى قلبه، ويحيط بحركات نفسه. ويقف على ما يضطرب به جنانه. ويدور في خاطره، ويجري في ذهنه. بل أي شيء ادعى إلى طرب العقل وأبعث على لذة الفكر ومتعة الذهن من أن ينظر أحدنا بعيني أخيه ويرى العالم كما هو باد في مرآة عينه؟ تلك لذة لا تعادلها لذة، ومتعة أنعم بها من متعة، فأما من تغيرت قلوبهم على البشر، واعتقدوا للنوع البغض والعداء، وطووا أحناء الصدور على الكراهية والمقت والاحتقار، فلعمري إن هذا لمظهر من مظاهر حبهم للنوع وإخلاصهم له، وغنما غلبت عليهم السوداء، واسودت الدنيا في عيونهم وتنكرت لهم فتنكروا لها لا للناس وإن خيل غير ذلك، ثم لم يدروا كيف يجازونها بغضة ببغضة. ومقتاً بمقت، فانقلبوا على الناس إذ لم يصيبوا غيرهم ما يشفون منه غيظهم، فهم صديق في ثياب عدو! قلنا أن من أظهر الأشياء في الإنسان حبه للتأريخ والترجمة وكلفه بهما وأنا لا نعرف معنى أجمع لصفات المدنية، ولا أدل على جماع الإنسانية من ميل المرء إلى ذلك، وتقليبه وجوه الرأي له، وتصريفه أعنة الفكر فيه، ونقول أن هذا الميل مركب في السلائق، ومركوز في الطبائع، وإن كل إنسان مؤرخ ببعض الاعتبارات. فإن أردت دليلاً على ذلك فانظر في من حولك وتدبر ما يجري بينهم من الكلام في متحدثاتهم ومجالس سمرهم، أليس أكثر ما يرد على السمع منه حكايات وقصص وأنباء، فمن ناقل إليك ما ترامى إليه من الأخبار، ومن مسر إليك بذات نفسه وما لقيه من المحنة والبلاد. وكيف عدلت عنه الأيام، ثم عطفت عليه، وبينا نعمة إذ حال بؤس ... وبؤس إذ تعقبه ثراء * * * ومن ولجد قد ألزم القلب كفه ... ومن طرب يعلو اليفاع ويشرف ومستعبر قد أتبع الدمع زفرة ... تكاد لها عوج الضلوع تثقف ومن لعب مجان يتداعب على الناس ويركبهم بالهزل والمزاح. ويروي لك النادرة المضحكة إثر الطريفة المستملحة، إلى آخر ذلك مما لا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ثم تأمل الشعر، أليس شعوراً مترجماً، وقصة مروية، وخاطراً مجلواً؟، والعلوم بأنواعها، أليست مجموعة تجارب فهو أيضاً تاريخ للعقل الإنساني! وهل الحياة إلا قصة طويلة يمثل كل

منها فيها دوره الذي خص به وقدر له، ثم يحدث الناس به؟ والمرء مدفوع إلى ذلك بعاملين أحدهما علمي والثاني شعري. فأما أنه لا يزال يحاول أن يطلع على نفس أخيه الإنسان ويستكشفها مسوقاً إلى ذلك بدافع علمي، فلأن الطبيعة قد اختصت كل أحد بمسألة من مسائل الوجود هو مسؤل أن يحلها على الوجه الذي يبدو له، ولو لم يكن من ذلك إلا كيف وفق بين جسمه وروجه. وكيف عالج هذا في سبيل ذاك وأراد ذلك على طاعة هذا لكان ذلك حسبنا دافعاً وسائقاً مستحثاً. . إلا أن العامل الشعري أقوى دفعاً وأشد حملاً للنفس وإغراء لها وحضاً. فإن هذا التنازع بين الإرادة البشرية والحاجة المادية هو الشعر ولا شعر إلا به، وما زال العنصر الشعري في النفس أقوى من العنصر العلمي وأظهر وأن كانا في الحقيقة مظهرين مختلفين لشيء هو في جوهره واحد،. . . وكذلك ينظر أحدنا بعيون الناس فتكتحل عينه بعوالم متباينة، ويشاطرهم إحساسهم. فيحيا حياتهم كما يحيى حياته، وكأن كل واحد مرآة مجلوة - علمية شعرية - طبعية سحرية - نود لو أتيح لنا أن نرفع ما أرسل عليها من الحجب لنرى فيها وجوهنا ونبصر في صقالها نفوسنا. ونستبين في نورها أغمض أسرار الضمير وأخفى طوايا الصد،. . . (وبعد) فلا يحسبن أحد أن الأمر ينتهي عند هذا القدر، ويقف عند هذا الحد، فإنه أكبر من ذلك وأعظم، والمسألة أدق وألطف، وما في النفس ميل أعرق، ونزعة أثبت من هذه النزعة الإنسانية التاريخية. لأن الإنسان كما قدمنا وجهة الإنسان في كل شيء، ومن أحل هذا تجد عنايته به شديدة، واهتمامه بآثاره كبيراً، وإجلاله لقدرها عظيماً، ومن أجل هذا أيضاً لا ينفك أحدنا وهو ينظر في قصيدة الشاعر أو رسالة الكاتب يحاول أن يصور لنفسه روحه التي كانت تحفزه، وعقله الذي أملى عليه وأوحى إليه، ومن ذا الذي لم تذهله عن نفسه قصيدة من الشعر حتى تجرد من نفسه، وتغري من شخصيته واعتاض منهما نفس الشاعر وشخصيته وروجه وعقله، وأي معنى في ظنك لهذا التجرد الوقتي؟. . . بل أي متعة ألذ من هذه الغيبة وأشهى وأطيب على رغم أنف النقادة الذين لا يفتأون يطلبون أن يتجرد المرء من إنسانيته ليتجرد من الهوى، وليكون أصح حكماً، وأصدق نظراً. كأن قيمة الشعر لا تقدر أيضاً على حسب اللذة المستفادة منه؟ كذب النقادة وصدق الإنسان! ولعمر النقادة لو أن قصيدة ابن الرومي التي يقول في

مطلعها: أجنت لك الوجد قضبان وكثبان ... فيهن نوعان تفاح ورمان وفوق ذلك أعناب مهدّلة ... سود لهن من الظلماء ألوان وتحت هاتيك عناب تلوح به ... أطرافهن قلوب القوم قنوان غصون بان عليها الدهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل البان ونرجس بات ساري الطلّ يضربه ... وأقحوان منير النور ريان ألفن من كل شيءٍ طيب حسن ... فهن فاكهة شتى وريحان ثمار صدق إذا عاينت ظاهرها ... لكنها حين تبلو الطعم خطبان بل حلوة مرة طوراً يقال لها ... شهد وطوراً يقول الناس ذيفان يا ليت شعري وليت غير مجدية ... إلا استراحة قلب وهو أسوان لأي أمر مراد بالفتى جمعت ... تلك الفنون فضمتهن أفنان تجاورت في غصون لسن من شجر ... لكن غصون لها وصل وهجران تلك الغصونن اللواتي في أكمتها ... نعم وبؤس وأفراح وأحزان يبلو بها الله قوماً كي يبين له ... ذو الطاعة البر ممن فيه عصيان وما ابتلاهم لا عنات ولا عبث ... ولا الجهل بما يطويه إبطان لكن ليثبت في الأعناق حجته ... ويحسن العفو والرحمن رحمن ومن عجائب ما يمني الرجال به ... مستضعفات لنا منهن أقران مناضلات بنبل لا يقوم له ... كتائب الترك يزجيهن خاقان مستظهرات برأي لا يقوم له ... قصير عمرو ولا عمرو ووردان من كل قاتلة قتلى وآسرة ... أسرى وليس لها في الأرض أثخان يولين ما فيه أغرام وآونة ... يولين ما فيه للمشغوف سلوان ولا يدمن على عهد لمعتقد ... أني - وهن كما شبهن بستان يميل طوراً بحمل ثم يعدمه ... ويكتسي ثم يلفى وهو عريان حالاً فحالاً كذا النسوان قاطبة ... نواكث دينهن الدهر أديان يغدرن والغدر مقبوح يزينه ... للغاويات وللغاوين شيطان

تغدو الفتاة لها خل فإن غدرت ... راحت ينافس فيها الخل خلان نقول لو أن هذه القصيدة لم تكتبها يد الشاعر أو يد سواه من الناس وإنما ارتسمت حروفها على صفحة الطرس من تلقاء نفسها، ونبتت شطورها في ثرى القرطاس بفعل الهواء وتأثير الجو، كما تخضر الأرض جادتها ديمة سمحة القياد سكوب أكان يكون لها في تقديرك ما لها من الواقع، أم كنت مبوئها أخص موضع بين غيرها من القصائد البشرية كما أنت اليوم صانع بها؟ كلا! تدبر ذلك تدبر من شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها، ويتغلغل إلى دقائقها، ويتجافى بنفسه عن مرتبة المقلد الذي يجري مع الظاهر، ومنزلة المكابر الذي يخطئ كل قول، ويعيب كل رأي، فإنه باب كثير المحاسن، جم الفوائد، يؤنس النفس، ويثلج الصدر، بما يفضي بك إليه من المعرفة، ويؤديه إليك من التبيين،. . . أو ما ترى الناس يأتون في كل عام إلى الأهرام، وما أظنها أروع جلالاً، وأبرع تكويناً، وأفتن جمالاً، ولا أدل على القدرة من جبال (الهملايا)؟. . . ثم ألا ترى كيف تجاوز البحتري جبال لبنان وهضبها إلى رباع الفتح ابن خاقان في قوله: تلفت من عليا دمشق ودوننا ... للبنان هضب كالغمام المحلق إلى الحيرة البيضاء فالكرخ بعدما ... ذممت مقامي بين بصرى وجلق مقاصير ملك أقبلت بوجوهها ... على منظر من عرض دجلة مونق كأن الرياض الحو يكسين حولها ... أفانين من أفواف وشي ملفق إذا الريح هزت نورهن تضوعت ... روائحه من فأر مسك مفتق ومن شرفات في السماء كأنها ... قوادم بيض من حمام محلق رباع من الفتح بن خاقان لم تزل ... غنى لعديم أو فكاكا لمرهق وكيف أنه وصف الجعفري والإيوان والكامل والمتوكلية والصبيح والمليح والبركة وغير ذلك ولم يقل بيتاً في كهف أو جبل؟ وإنما كان هذا كذلك لأن النفس تجد لذة وعزاء في استجلاء آثار النفس. كفرحة الأديب بالأديب * وطرب المحب بالحبيب * وحنة المريض للطبيب *

الناس عن الناس أفهم، وإليهم أصبي وأسكن، وبهم آنس وأشغف، وليس معنى هذا أن الشيء لا يروقك، ويقع من قلبك، إلا إذا كان صانعه آدمياً، فإن هذا ما لا نذهب إليه، أو ن قول به، وإنما نعني أن الإنسان حبيب إلى الإنسان، وأن أكثر ما يفتنه ويستولي عل لبه وهواه، ما كان عن الإنسان صدره، وما تبين عليه ميسمه وأثره، وهذا ملموح فيكل حركة، وملحوظ فيكل لفظة، وما تأملت قط هذا الأمر إلا أثار لي التأمل، واستخرج لي التفرس، غرائب لم أعرفها، وعجائب لم أقف عليها، وإلا استيقنت أن الأمر كما ذكرت، والحال على ما وصفت، وأن الإنسان لا تزال يتلمس الإنسان ويحاول أن يجتليه في كل شيء كأنما هو يستوحش الشيء إذا أحس أنه منه خلاء، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان الإنسان إنساناً، ولا كان على الدنيا طلاوة، ولا للحياة رونق وحلاوة، ولعمري هل تروقنا الأرض إلا لأنها سكننا ومثوانا، ومراحنا ومغدانا، وهل يملأ الروض عين من نظر إلا إذا أحس أن رياحينه تحييه، وحمامه يغنيه ويلهيه. وغصونه توسوس إليه، ولعمري كيف الحياة وماذا العيش إذ أنت حرمتنا هذا الإحساس الحلو والأنانية اللذيذة، وسلبتنا هذا الخلق الإنساني، والغريزية التاريخية، وذلك أصل الدين، وأصل الشعر، وأصل العلم. . . وبعد فأي شيء يدفع الناس إلى إنفاق الوقت على طلب التاريخ. واستنزاف الأيام في معاناته، والتوجه إلى تعلم اللغات الدارسة، والانقطاع لحل الرموز الهيروغليفية مثلاً وإيضاح مشكلها: والكشف عن معانيها. وماذا يحمل الناس على الغوص على آداب العرب والفرس والهند واليونان والرومان، ولماذا يستنفذون الطاقة كلها ويعنون بترجمة هذه الآداب من لغة إلى لغة، أو ليس حسب كل أمة ما عندها من ذلك؟ وما هو السر في أن أساطير الأمم القديمة وقصص البربر والهمج ربما كانت أخلب لللب وأغتن للنفس وأسحر للعقل من فلسفة أفلاطون وكانت وغيرهما؟ وماذا يحتث الناس ويسوقهم إلى هذا الكد والتصرف؟ أليس هو أن المرء ينبغي أن يعرف كيف كان الإنسان في العصر الحالي ليعرف أي شيء هو؟؟ يرى سقراط. ورأيه الحق، أن غاية الفلسفة أن يحيط المرء بنفسه. وأن ذلك أحق بالتقديم، وأسبق في استيجاب التعظيم، وأنه لا عرفان إلا وذلك هو السبيل إليه، ولا علم إلا وهو

الدليل عليه، ولا معرفة إلا وهو مفتاحها، ولا حقيقة إلا وهو مصباحها، ولكنه أخطأ السبيل إلى هذه الغاية، وذهب في مذاهب لا تؤدي إلى هذا العلم، وطرق لا تفضي إلى هذه المعرفة، وما أضله إلا حسبانه أن الإنسان ليس مظهراً من مظاهر قوة بعينها. ولكنه فرد قائم بذاته، وروح مستقلة بنفسها، منفردة عما عداها، فهو أبداً يحاول أن يفض ختم هذا السر الإنساني بأن يتدبر ما يجري في ذهنه، ويتوسم ما يحصل في نفسه، ويحلل المعرفة إلى أصولها، ويضع لكل شيء حداً، وما فاز من ذلك بشيء، ولا عاد بالخيبة والخذلان. وبقيت الحقيقة عنه مستورة، واستولى الخفاء عليها، واستمر السرار بها، حتى فطن الناس إلى هذا الغلط الذي دخل عليه، والرأي الفاسد الذي عنّ له بسوء الاتفاق حتى صار حجازاً بينه وبين العلم بها، وسداً دون أن يصل إليها، الإنسان ليس فرداً قائماً بنفسه، كاملاً في ذاته، وإنما هو واحد من عشيرة، وعضو من فصيلة، لا يتأتى العلم به، والوقوف على أمره إلا بالقياس إلى أنداده وأشباهه من الناس، وقديماً حسب الناس الأرض جسماً منعزلاً لا نظير له ولا شبيه، فركبهم في أمرها جهل عظيم، وخطأ فاحش. وسبقت إلى نفوسهم اعتقادات بأن فسادها لما وضح للناس أنها كوكب كبقية الكواكب وكذلك يختلف اليوم رأينا في الإنسان عن رأي آبائنا فيه فقد كانت كل أمة تمتهن ما عداها من الأمم وخلاها من الشعوب، وتزدريها وتستخف بها ولا تعدها إلا في الهمج والبربر، ونحن نرى فيها اليوم إخواناً صدعت شملهم البحار، وفرقتهم اللغات وقطعت بينهم العداوات. . . لهذا يعكف أحدنا على تاريخ آبائه وأجداده فيقرأ في صفحاته آيات الحكمة الإلهية، ويعبر في سطوره مظاهر القوة الإنسانية، واجداً من الروح والخفة والأنس في مطالعة أخبار القرون الخالية والأجيال الماضية ما لا يجده في أخبار العصر الحاضر. . . وكما أن أحدنا إذ تلقى في يده الصدفة شيئاً من رسائله القديمة المهجورة يقلبها بادئ الأمر وهو غير حافل بها ولا ملتفت إليها. ثم لا يلبث أن يعتاده الذكر. ويلهيه ماضيه عن حاضره فيترسل في قراءتها بعد العجلة، ويتمهل بعد المسارعة، ويقف على كل حرف، ويستخبر كل لفظ، كأنما يستبعد أن يكون هذا خطه، وتلك مقاطر قلمه ومراعف مرقمه ولا يصدق أن هذه الأيام مرت به، وتلك الهموم والمسرات وردت عليه، ثم تنزاح عن الماضي حجب الغموض، وتنتفي عنه معتلجات الشكوك، فتدب في جسمه روح الشباب

وتجري في عروقه دماؤه، ويعلم أن هذه رسائله من غير ما شك، كذلك يستغرب أحدنا التاريخ القديم بادئ الأمر، وتخفى عليه نسبته إليه، وقرابته منه، وما هي إلا صفحة أو بعضها حتى تذهب عنه الوحشة، وتتجلى الشبهة، وتحل مكانهما بهجة الأنس، وروعة اليقين، ويصبح وكأنه يقرأ تاريخ نفسه، ويتصفح ترجمة حياته!. . ولعمري ماذا يفيدنا التاريخ إذا هو لم يحك في نفوسنا هذا التعاطف، ولم يؤكد العقدة بين الحاضر والغابر! فإن الحياة كما أسلفنا قصة طويلة يمثل كل فيها دوراً، وإذا كان هذا كذلك أفليس ينبغي أن نحيط علماً بدور من خلا مكانه، وحللنا محله، لنكون على بينة من أمرنا؟ وهل ثمت شيء من الغرابة في أن يرجع أحدنا بصره في الفصل المنصرم؟ أو ليس من الضروري الذي لا معدل عنه في كل رواية أن تكون الفكرة الأساسية واحدة في كل الفصول؟؟

الفجر

الفجر ذاع ذكر نيتشه في السنوات الأخيرة ولج الكتاب في أمره فمن قائل أنه أكبر فيلسوف ظهر في القرن التاسع عشر بل والقرن العشرين، ومن قائل أنه رجل متهوس مجنون هام بالتنويه عن نفسه فنجح بعض النجاح. والمصريون لا يعلمون إلا قليلاً عن نيتشه وترجمة حياته وتفصيل مذهبه، وليس هذا مجال التبسط في ترجمته أو درس آرائه. ولكننا نطيف بشيء منها إطافة على قدر ما يسع المقام. فردريك ويلهلم نيتشه من أسرة بولونية هاجرت من موطنها إلى روكين بألمانيا في القرن الثامن عشر، فراراً من الاضطهاد الذي نزل بالبروتستانت هناك أما أبوه فقسيس قرية روكين (بالقرب من ليبزج). وقد ولد صاحب الترجمة في 15 أكتوبر سنة 1844 وتلقى دروسه الأولى في شلفورته ثم حضر دروس الأدب في جامعتي بون وليبزج. واستمر على ذلك حتى عين في سنة 1869 أستاذاً مساعداً لعلم اللغات بجامعة بال. ولم يحصل بعد على شهادته النهائية. والفضل في ذلك راجع إلى وساطة بعض أصحاب النفوذ. ثم لم يلبث أن عين أستاذاً بتلك الجامعة. وفي سنة 1879 أصيب بوجع في عينه من تأثير اضطراب ألم بدماغه، فترك وظيفته وجعل ينتقل من بلد إلى بلد وهو يقاسي أشد الآلام والأوجاع. حتى قال إن بين أيام السنة مائتي يوم لا تطلع علي بغير العذاب وقد كتب أكثر مؤلفاته ونشر مبادئ فلسفته وهذه الآلام متسلطة على فكره، فكان أثر السخط والقلق والاضطراب بادياً على كل حرف من حروفها. وما زال كذلك حتى اعترته لوثة جنون سنة 1888 وبقي مجنوناً إلى أن مات في 25 أغسطس سنة 1900 فهو كما يرى القراء من أبناء عصرنا. ولا يقال أن لنيتشه فلسفة مبوبة أو مبدأ مشروحاً فإن أكثر مؤلفاته نتف متفرقة تتناول أغراضاً شتى كلها تسفيه وحنق على آداب العصر وأديانه وأخلاقه ونظام الأمم والحكومات، وطعن عنيف في هزوم المجتمع لم يسلم منه مبدأ من المبادئ الفلسفية المعروفة، ولا فيلسوف من فلاسفة القدماء، أو المحدثين، وله شعر غاية في سمو الخيال واتساع التصور ولكنه يمج مرارة البغض والكراهة لكل ما هو من نوع الإنسان. وكأني بالقارئ يقول: ما لنا ولهذا المجنون؟؟ ألا يغنينا جنونه الظاهر عن نقد آرائه وتتبع أقواله؟؟

ولكنه قول كان لا يصادف معارضاً لو قيل قبل جيل أو جيلين. أما في عصرنا هذا فقد تبين أن الجنون والنبوغ فرعان من أصل واحد، وأن العبقرية والمواهب العقلية المختلفة لا تنشأ إلا عن خلل في توازن القوى العقلية يرتفع ببعضها إلى ما فوق المستوى العادي وينخفض ببعضها إلى ما دونه، وأكثر ما هنالك من الفرق بين الجنون والعبقرية أن الأول خلل مصحوب بذهول عن العالم الخارجي ولكن العبقرية خلل لا يفصل صاحبه عما حوله. على أن أعراض الجنون ظاهرة في كتابات نيتشه فهو إذاً كان لم يحمل عصاه ويروغ بها على الناس ضرباً وهشماً فقد حمل قلمه فحطم به كل رأي تعرض له في طريقه، بجرأة وثقة لا يكونان إلا لمجنون. ولكنه مع ذلك سديد الملاحظة ثاقب البصر، فأما ملكة الحكم فيه فبادية الضعف بينة الخطل، ولعل هذا هو السر في افتقار فلسفته إلى التبويب والترتيب واكتفائه بسرد ملاحظاته سرداً، وإرسالها بغير تعقيب جامع شامل لا شتات رأيه. وهذا هو السر أيضاً في تناقض أفكاره واختلاط مسالكه، فبينما تراه بعد كنس الإسطبلات من أعمال البطولة لأنه عمل نافع، تراه في مقدمته على الفلسفة اليونانية يستحسن من اليونان احتقارهم كل أعمال المعيشة لأن الغرض منها قيام الجسد في الحياة. وما الحياة؟؟ إن هي إلا بنت الضرورة القاشرة وفلتة الطبيعة الجامدة ثم هي لا شيء في ذاتها في نظر نيتشه. وهو إنما يشايع اليونان في احتقار العمل توصلاً إلى تأييد رأيه في تقسيم الطبقات ومؤداه أن طبقات العمال لا نصيب لها في الطموح إلى حياة الفكر والجمال، وأنه لا بد من بقاء هذه الطبقات في ربقة الشقاء والعمل الخسيس ليتفرغ أهل الطبقة العليا للتملي ببدائع الكون والتفكير في شأن المجتمع، وهو ما لا يفقهه أهل الطبقات الدنيا. وبينما يستقبح أصول الأخلاق الحاضرة لأنها عريقة في الحيوانية كما ترى في جملته المنشورة بعد. يذهب من ناحية أخرى إلى نزع عاطفة الرحمة من نفس الإنسان لأنها تعارض ناموس بقاء الأنسب وأنه من الواجب تقوية الأقوياء وإبادة الضعفاء ثم لا تكون حجته على ذلك إلا أن الحيوانات والهمج لا يشفقون على الضعيف أفما كان الأولى بنيتشه على هذا القياس أن يحبذ أخلاقنا الحاضرة لأنها أعرق في الطبع وأقدم؟؟ وكأن هذا الخاطر لا يرد إلا على أذهان النوكى. فقد خطر من قبل لهبنقة الذي يضرب

المثل بحمقه. قيل أنه كان يرعى غنماً لقومه فكان ينحى العجاف عن المرعى ويرعى السمان فمر به رجل لامه على ذلك فقال لا أخالف ما فعل الله!! فهل هذا فلسفة من هبنقة أو هو جنون من نيتشه؟؟ ولعمري لو كان للمجتمع أن يقتل من أبنائه أحداً بغير جريرة لما كان قاتلاً إلا طغمة القساة الغلاظ لأن القسوة خلق لا ينتفع به في الجمعيات الإنسانية. ولئن كانت الأنانية أوفق لغريزة حفظ الذات كما قد يبدو للنظر السطحي. فالرحمة أوفق لغريزة التضامن الإنساني وهي أقوى في النفس وأشرف. وليس أدل على ذلك من كونها تغلبت على مبادئ نيتشه نبي الأنانية فساقته مكرهاً إلى غرضها - وإلا فما هذا التسخط والصياح وما هذه الجلبة الضخمة التي قرع طبولها حتى كاد يخرقها؟؟ أليس كل ذلك سعياً منه في إصلاح النوع، وبرهاناً على تأصل تلك الغريزة القاهرة التي كأنها أرادت أن تهزأ بدعاويه الطويلة العريضة في فضيلة الأنانية والأثرة؟؟ إن كان نيتشه يبرر القسوة عند القساة فإنها طبع فيهم، فالجريمة طبع في المجرم كما أطهر علم العقل الحديث، ولكن نيتشه يعد المجرمين باكورة إنسانه المنتظر بدلاً من أن يعدهم طغمة مصابة بنوع من الجنون الجانبي فأفسد فيهم حاسة الشعور بالواجب عليهم للجمعية المدنية أو النوع الإنساني. هذا الشعور المغروس في غرائز النحل والعنكبوت، والذي يجبر إناث بعض الحيوان وذكور بعضه على التفريط في حياتها في سبيل إنتاج الذرية أو إطالة حياة نوعها. أما الفضائل الحظية عند نيتشه فهي الكبرياء إلى حد التأله، والقسوة إلى حد الوحشية، والخشونة إلى حد العجرفة، وهو عدو الدعة وسهولة العريكة وضعة النفس ويرى أنه لا حق لأصحاب هذه الأخلاق في الحياة لأن أخلاقهم منافية لموجباتها وبديه أننا لو جرينا على هذا الرأي لقضينا على مثل روسو السوداوي الحزين. ولكن روسو على ضعف نفسه وضؤولة إحساسه. قد أحدث بكلماته انقلاباً لا شك أن نيتشه يحسب نفسه من أسعد السعداء لو استطاع أن يحدث انقلاباً يدانيه في البطش والقوة، بكل ما في طبعه من الصلف والفظاظة. فالطباع الإنسانية متشابكة ملتفة لا يسهل تخليص إحداها من سائرها. وليست الرحمة أو ما

سواها حلية نلتقطها من النفس فتنسل في أيدينا كما تنسل الشعرة من العجين ولكنها زاوية في بناء لو ثللناها لانهار الجدار على أثرها. فنحن نخرج الرحمة من النفس فيخرج معها كل ما يرتبط بها من صفات الحذق والفطنة وحسن الذوق ودقة التصور وما شاكلها من فضائل لطافة الإحساس، أو نسلخ عنها الغرور فتتبعه العزة والثقة بالنفس وصلابة الطبع وما نحا نحوها. فمن رام أن يصلح هذه الطباع فليكن كالطبيعة كيماوياً ماهراً في تركيب سجايا النفس وتحليلها والطبيعة على كل حال أخبر بصناعتها وأدرى بوضع المواهب بحيث يؤدي كل منها عملاً لا يستغني عنه المجتمع الإنساني. وهو أوسع من أن تنفرد به صفة واحدة مهما بلغ شأنها. وقد أساء نيتشه تفسير معنى القوة في تنازع البقاء فحصرها في القوة البدنية وليس الأمر كذلك ثم انه لم يلتفت إلى أن الخيبة في الحياة قد تكون أحياناً من سيئات المجتمع وليس من سيئات المجتمع وليس من سيئات الفرد وأن من رجال المواهب من ينبغون قبل أوانهم فلا يحسن المجتمع الانتفاع بهم. ولو ارتقى المجتمع لأحسن استخدام قواه في مواضعها ولم يضيع منها كبيرة ولا صغيرة. وحسب الإنسان حجة على حقه في البقاء أنه يبقى وإلا لا فنته الطبيعة صاحبة الناموس والقائمة بتنفيذه من غير حاجة إلى مداخلة الناس. وفي كتب نيتشه عدا ما تقدم آراء نهاية في الشذوذ والغرابة. وفيها من الدعوة. إلى الفوضى ما يسلكه بين أكبر دعاة الفوضوية. وغاية الأمر فيه أنه رجل استولى عليه القنوط والحيرة، ولا نظن أن الحيرة هي عيب الرجل الذي يؤخذ به، فإنها نهاية كل باحث في هذا الزمان، وليت شعري إذا كنا نعلم كل شيء في عصرنا هذا ولا نحار في شيء فماذا بقي لأبناء القرن الخامس والعشرين أو الثلاثين، ليعرفوه ويكشفوا غطاء الحيرة عنه؟؟ ولكن عيب الرجل إنما هو تهجمه وجزمه بما لا يستطاع الجزم به. على أن آراءه لا تخلو من الثمين النافع وأقل ما فيها أن الاعتدال في فضائله ينمي في النفس عواطف الأنفة والصبر، ويثبت فيها صفات الرجولة والعنفوان. وقد اقتطفنا الكلمات التالية من كتابه (الفجر) وهو يشير به إلى فجر اليوم الذي تتحقق فيه مبادئه. وقد ذكر في مقدمته أنه طفق زمناً يسري في نفق موحش مظلم ثم خرج للناس بهذه الآراء من تلك السبيل المجهولة. وقال أنه عبد للناس تلك السبيل فهم لا يعانون ما عاناه إذ

طرقوها. ولكننا كيف كان الأمر نتناول آراءه التي أتانا بها من ذلك النفق ولا نمشي وراءه. ونقول لكل رحالة مثله: هات ما لديك من عجائب سياحتك ولكن لا تحاول أن تجعل الناس كلهم رحالين مثلك. * * * الأخلاق في عالم الحيوان - إن الأصول التي تشدد البيئات المهذبة في مراعاتها. كاجتناب ما يبعث على السخرية والترفع عن البرقشة، وإخفاء مزايا الإنسان وكتمان عوزه وضروراته الماسة، وخضوعه لأحكام الظرف والكياسة المصطلح عليها - كل هذا يمكن أن يشاهد على وجه الجملة في أدنى أنواع الحيوان أو يقابل عندها بما يناسبها من قواعد الكياسة الغريزية المكونة في طبائعها. وإذا شئنا أن نهبط إلى أساس بنائنا الأخلاقي، فالبحث عنه إنما يكون في رسمه الأول الذي أودعته الفطرة طبائع الحيوان. فأما أساسها فالتودد المقرون بالحذر، وقوامها الرغبة في النجاة من الأعداء والتماس المعونة على الفتك والاعتداء. فمن هذا الإحساس الباطن يتعلم الحيوان كيف يضبط نفسه ويتصنع إخفاءها، حتى أن منه ما يتخذ لجلده لوناً يأتلف مع ألوان ما يحدق به (وهو ما يسمونه وظيفة التلون) ومنه ما يتماوت أو يتشكل بشكل حيوان آخر ولونه، ويماثل الرمال وأوراق الشجر أو العشب أو الإسفنج (وهو ما يسميه الطبيعيون الإنكليز بوظيفة التقليد). ولا يخرج الأدب الإنساني عن هذه الفطرة، فإن الفرد ينضوي تحت اسم نوعه العام، ويكيف نفسه كما يوافق من يتصل بهم من الأمراء والبيئات والأحزاب أو يجري مع تيار الأفكار في عصره، ويلائم ما يحدق به من الأطوار والأحوال، وليس أيسر علينا من أن نراقب هذه القدرة في الحيوان، فإننا وإياه سواء في حذق هذه الوسائل التي تكسبنا السعادة والشكر وتظهرنا بمظهر القوة بين أقراننا، وتجذب إلينا الأنظار من حولنا. بل نحن نقول أننا والحيوان نشترك في إدراك معنى الحق، وما الحق في كهنه إلا مظهر حاسة التحفظ والرغبة في الأمن والتقية. فنحن نأبى أن يخدعنا غيرنا أو ننخدع لأنفسنا بالباطل ونتوجس من إغراء عواطفنا، ثم ننظر بعين الحذر والحيطة إلى أميالنا.

وكذلك الحيوان، فإننا إذا راقبناه ألفيناه يفعل كما نفعل، ووجدنا أن هذه الحيطة أو ضبط النفس صادرة فيه عن نفس العاطفة التي تصدر عنها في الإنسان وأعني بها الحزم. فالحيوان لا يختلف من هذه الوجهة عن الإنسان أي في أنه يلاحظ ما يؤثر به في روع الحيوانات الأخرى. ومن ثم يتعود أن يرى صورته معكوسة عن ملامحها وأن يدرك نفسه من تلقائها، على قدر ما عنده من الاستعداد للشعور بالوجدان. والحيوان يتفرس حركات أصدقائه وأعدائه، ويفقه معاني أطوارها عن سجية فيه. ثم تصدر حركاته عن هذه المعرفة المجبولة، فيكف عن مناوأة الحيوانات التي لا شأن له معها، كما أنه يكشف نياتها مما يلوح على صفحات وجهها، ثم يواجهها بما تستحق من المسالمة أو العدوان - وهذا هو معنى الحق والعدل، أو عرفان مالك وما عليك ومن ثم فمبادئ العدل والحكمة - لا بل مبادئ كل تلك الفضائل التي يدعونها الفضائل السقراطية، إنما هي من طبيعة حيوانية، وأنها موحاة من تلك الغرائز التي تسوقنا إلى طلب القوت وتوقي الخطر على حياتنا. فإذا تذكرنا أن الإنسان الراقي لم يتقدم في هذه الغرائز إلا في انتقاء أجود الطعام والتوسع في فهم آفات بقائه لا نكون قد تجاوزنا الصواب إذا قلنا أن خلاق الإنسان ليست إلا نسخة مهذبة من أخلاق الحيوان. إلى اللا أدريين - لست أدري البتة ماذا أعمل؟ ولا أنا أدري ما ينبغي علي أن أعمل؟ لقد أصبت أيها اللاأدري في هذا الشك. ولكن ما لاريب فيه أنك تعمل في كل لحظة. لقد طالما التبس على الناس أمر الفعل بالانفعال واشتبه عليهم الإيجاب بالسلب وتلك لعمري لكنة في ألسنتهم لا تزول. * * * الأثرة والإيثار - أريد أن أعرف ما يدعو أحدنا إلى الإلقاء بنفسه في الماء لينتشل منه إنساناً وقع فيه أمام عينيه. على أنه ليس بينهما عاطفة رحم أو ود تستفزه إلى إنقاذه. يقولون أننا نصنع ذلك في سبيل الشفقة، وأنه ليس في وقتنا هذا من يفكر إلا في غيره - كذلك تقول البلاهة والبلهاء. ما لنا نحزن ونبتئس إذا نحن رأينا بعض الناس يبصق دماً وإن كنا نكرهه باطناً ولا نتمنى

له الخير؟؟ في سبيل الشفقة!! نحن لا نفكر في أنفسنا بعد؟؟ كذلك تقول البلاهة مرة أخرى الحقيقة أننا في هذه الشفقة - وأعني ما يدعوه الناس شفقة خطأ - لا نفكر بأنفسنا على عمد - ولكننا نفكر بها اضطراراً، كما تتوازن حركات الإنسان إذا زالت قدمه من غير رجوع منه إلى قواه العاقلة، وهو مع ذلك يحكم حركاته أحكاماً لايهدي التروي إلى أقوم منه. يلم المصاب ببعض الناس فيسؤنا ذلك، بل أنه ليحرك فينا الضعة والجبن، وينبه في قلوبنا الجزع تنبيهاً نحاول أن نفر منه بإعانة ذلك المرزوء. إن كانت معونته في وسعنا، وإلا خشينا أن تصغر كرامتنا في أعين الناس أو نستصغر أنفسنا. وكأن المصائب التي تحل بسوانا بنان تشير إلى الخطر على النفس - وقد خلق الإنسان هلوعاً فتؤلمنا تلك المصائب أيما إيلام. ثم نحاول أن ننفض عنا ذلك الألم، فنقابله بشفقة يختفي وراءها إحساس كمين بالذود عن النفس، وقد يغلو هذا الإحساس فيصبح ميلاً إلى الانتقام. أما أننا لا نعني إلا بأنفسنا في باطن الأمر فظاهر من موقفنا حيثما نستطيع الإشاحة بأبصارنا عمن يكابدون مضض الحياة، أو صم آذاننا عن استغاثة الملهوفين وصراخ المتوجعين، فنحن لا نبتعد عنهم ما دمنا نستطيع أن ننجدهم نجدة القوى القادر، وندنو منهم لنشعر بنعيمنا من شقائهم. ونغبط أنفسنا بالحنو عليهم. أو نخفف من همومنا بمقارنتها بهمومهم. أو لنغتم منهم الثناء وطيب السمعة. ومن الضلال أن نسمي هذا الإحساس مشاركة في الألم. فإنه إحساس بنوع من الألم لا يحس شيئاً منه أولئك الذين نرثي لحالهم. وإنما هو إحساسنا المحض، كما أن إحساسهم بآلامهم مقصور عليهم لا نشاركهم فيه. هذا الضجر الذي يعنينا نحن دون سوانا هو الذي يبرمنا فنتخلص منه بالشفقة على أننا لا نستسلم لتلك العاطفة انقياداً لنزعة فذة. ولكننا ننفض عنا الألم ونتوسل إلى الغبطة والراحة بعمل واحد. وإن الغبطة لتتولانا عند ما نأنس من أنفسنا التفوق على سوانا.

وإننا نقدر على المسعدة متى رغبنا فيها. وإننا نباشر عملاً مفلحاً - والإفلاح في كل عمل يبعث إلى السرور والارتياح - هذا إذا قرن مسعانا بالنجاح. وفوق ما تقدم فقد يعتقد أحدنا أنه يعين بهذه المسعدة على رفع حيف قد يكون هو ممن يشكون منه. فيزيده الحنق رغبة في تلك المسعدة. من هذا كله. ومن دقائق أغمض منه. تتركب كلمة الشفقة. فما أكثر أصداء هذه الكلمة وما أقبح ما اختلطت كل هذه الأصداء في طيها!! أما كون الشفقة صدى الحالة التي تثيرها. أو أنها ناشئة عن فهم تلك الحالة فهماً دقيقاً خاصاً. فذلك ما لا يقول به إلا شخص ناقص الخبرة. قليل الحنكة. وهذا ما أوجب عندي الارتياب فيما عزاه شوبنهور إلى الشفقة من المزايا التي لا يصدقها العقل. وواضح أن هذا الظن هو ما حدا بشوبنهور إلى محاولة إقناعنا بهذا الابتكار الرائع الذي ابتدعه. وهو أن هذه الشفقة التي شوهها بتعريفه ووصفه وأبان بذلك أنه لم ينظر إليها إلا نظرة لا يتعدى ظاهرها - هي ينبوع الأخلاق ما تقدم منها وما تأخر. وإنها القطب الذي يدور عليه محور فعالها. ولولا أنه صدر بها عن ذلك الظن لما سولت له نفسه أن يتحدث بهذا الرأي. وبعد فما هو الفرق بين القساوة وأولي الرحمة؟؟ أقول مع الإيجاز: كل ما هنالك أن أولئك لا يشعرون بالخوف شعور هؤلاء. وإن طبائعهم هادئة لا تتوجس كما يتوجس أصحاب الأمزجة القلقة، ثم إن غرورهم مطمئن ثابت فلا يغريهم بالتعرض لكل أمر يستطيعون منه كلما وقع شيء من ذلك بل هم يرون أنه أولى بكل إنسان أن يدير ورقه بيده في هذه اللعبة الدنيوية. وغير ذلك فهم أجلد على كظم بثهم وقمع عواطفهم من أصحاب العواطف اللينة. فإذا بصر أحدهم بمنظر يؤلمه كان أقدر على مداراة ألمه واحتماله. ولا يرى أحدهم من منافاة العدل في شيء أن يتعذب سواه ما دام هو يصبر على عذابه. وإنه ليرى من الألم في رقة القلب ما يراه أرقاء القلوب في الصبر على الآلام. وليس في معجمهم لهذا المرض مرض رقة القلب إلا كل مثلبة ومنقصة. لأنهم يعدونه خطراً على رجولتهم وشجاعتهم الساكنة. فهم يبكون وحدهم. ثم يمسحون دموعهم ولا يسخطون على أحد غير أنفسهم.

نعم إنهم أنانيون. ولكن أصحاب العواطف اللينة أنانيون أيضاً كما رأيت. فالفريقان يتفاوتان في نوع الأنانية لا في عنصرها. فإذا كنتم تدعونهم أشراراً وتدعون الرحماء أخياراً. فإن لهم أن يعكسوا الحكم ثم لا نراهم قد اعتمدوا على حجة أوهن من حجتكم حينئذٍ. * * * كبرياء الهمج - الهمجي لا يفزع من أمر فزعه من أن يصبح يوماً ما موضعاً للرأفة. لأنه يرى نفسه في هذه الحالة خلوا من كل معاني الشرف والفضيلة: فإن الرأفة عنده مرادفة لمعنى الازدراء. ولا يروق الهمجي أن يرى كائناً حقيراً يتوجع أمامه لأن هذه المناظر لا تستخفه ولا تحرك سروره وغبطته. بل هو يسر ويغتبط إذا كان له عدو مثله في الشمم والأنفة. ثم رآه يتعذب ولا يتذمر ويبيت من الشدة على أحر من الجمر فلا يتأفف أو يتململ: ويعجبه أن يرى الرجل متماسك البأس يأبى أن ينزل عن كبريائه وينغض من جبينه ليتلمس الشفقة في حضيض المهانة. فهنالك يشعر بالسرور التام والغبطة جد الغبطة. هذا العدو الذي لا تكسر الشدائد كبرياءه ولا تلوي العواصف إباءه يبعث في نفس الهمجي إعجاباً عميقاً به: فينحى عليه بمديته أو حسامه ثم يشيعه إلى اللحد بما ينبغي لمثله من الرفعة والتكريم. فأما إذا أن وتلاشى عزمه: وفارقت سيما العظمة جبينه: فقد يسمح له أن يعيش عيشة الكلاب: ويمر به خصماؤه فلا تذكو فيهم عاطفة الكبرياء: وإنما تحل الرأفة به محل الإعجاب. * * * نضوج قبل الأوان - قد نرى على وجه لا يخلو من الغموض أن هؤلاء الذين لا يدينون بمبادئ الأخلاق وأحكام الشرائع، هم قوم خطت غرائزهم الخطوات الأولى في سبيل تكوين أنفسهم ووضع نموذج للحق حسب ما يعن لهم ومنهم المجرمون والزنادقة والفاسقون وأهل المكر والبهتان وأمثالهم ممن عاشوا فوق حكم القانون، وسلكوا في ظل ضمير خرب فاسدين مفسدين. وعلى الجملة يجب أن ننظر إلى هذا الأمر بعين الرضى ونعده حقاً وصواباً وإن كان ذلك

ربما زعزع أركان الأمن في الجيل القادم واضطر كل فرد فيه إلى حمل السلاح. ولا يجب أن ننسى أن تعارض المبادئ الأخلاقية يمنع هدم أصول الأخلاق المقررة من آساسها وأن الأخلاق التي تدحض كل ما عداها وتستقر في مكانها تتلف كثيراً من القوى وتكلف النوع الإنساني ثمناً باهظاً. فلا يحسن بعد الآن تضحية الشواذ من الناس والخارجين على النظامات المتواضع عليها فإنهم كثيراً ما يكونون من ذوي العقول المستقلة والمواهب المنتجة المبدعة: ولا أن نحسب من العار بعد الآن أن يحيد المرء عن المبادئ الأخلاقية إما باعتقاده أو بعمله، بل علينا اليوم أن نأخذ بتجارب جديدة في شؤون الحياة والاجتماع حتى ينجاب عن الدنيا هذا الوقر الذي نعانيه من جراء ارتباك الضمير والتباس حدوده، ويتعين على أهل الصدق والصراحة أن يقروا هذا الغرض ويؤيدوه. * * * الجمال عند اليونان - مالنا نتشدق بفلسفة اليونان؟؟ أين نحن من فهم فن كان أهله يمثلون الجمال في جسد الرجل العاري؟؟ بل ما كانوا ليدركوا جمال المرأة إلا بالنظر إلى ذلك الجمال المذكر. أما جمال النساء فإنهم ما نظروا إليه قط كما ننظر إليه اليوم وكذلك كان شأنهم في الحب. وكذلك كانوا يعبدون ويحتقرون. ولكن عباداتهم واحتقارهم من نوع غير هذه العبادة وهذا الاحتقار. * * * المتسولون - مطاردة المتسولين واجبة لأننا نغضب سواء أعطيناهم أو منعناهم. الحيوانات الأليفة - أيمكن أن يظهر الإنسان عاطفة أدل على الحمق والسخف من هذا الحنان الذي يظهره بعضهم للنبات والحيوان؟؟ - هذا الحيوان الذي كان يوسعهم فتكاً وأذى ويكشر لهم عن ناب العداوة والبغضاء. ثم هو يتقاضى اليوم لنفسه ذرة من الفكر والإدراك. * * * البطولة في كبير الأعمال وصغيرها - إن اشتغال الرجل بعمل نحسبه من الحطة بمنزلة نأنف من ذكرها. قد لا ينفي بطولة القائم به متى كان يجني منه شيء من النفع وهؤلاء اليونان لم يخجلوا من توكيل هرقل بنظافة الإسطبل مع ما كان يضطلع به من الأعمال

الجسام. * * * إلى الأقوياء - معشر الأقوياء في القرائح والعقول؟ نحن لا ننشدكم إلا رجاءً واحداً: لا تطبقوا على عواتقنا عبثاً فوق ما نرزح تحته من الأعباء بل خففوا عنا بعض ما يرهقنا حيث أنتم أشد مرة وأصلب عوداً. بيد أني أراكم لا تصيخون لهذا الرجاء بل إنكم ليحلو لكم نقيض ذلك، لأنكم تطمحون بأبصاركم إلى السماء وتشتهون التحويم في أجواء الفضاء وكذلك تريدوننا على أن نحمل أعباءكم فوق أعبائنا ثم نزحف على التراب. * * * الجمال والمدنية - لماذا يكثر الجمال كلما أمعن الإنسان في المدنية؟؟ ذلك لأن علل الدمامة الثلاث تمتنع بين المتمدنين شيئاً فشيئاً بامتناع الحاجة إليها وتلك العلل هي اضطرام العواطف وهياجها هياجاً ينطبع أثره على سحنة الوجه ثم مشقة البدن ثم الحاجة إلى إيقاظ الخوف في نفس الناظر بشناعة الوجه وبشاعته فإن الإرهاب بهذا المنظر ضروري بين الهمج الذين يكثر فيهم السطو والغيلة حتى أنهم ليجعلون العبوسة والاكفهرار من أزياء الشهامة والوقار ويحسبون الشناعة وصفاً يجب أن يتحلى به الزعماء الكبار. * * * الجمود - تموت الجية إذا لم تنزع جلدها القديم وكذلك يجمد العقل الذي لا ينزع آراءه العتيقة فتموت فيه ملكة التفكير. * * * لا تنس - كلما علونا في أعنان السماء صغرنا في أعين العاجزين عن الطيران (العقاد). قال ابن الرومي رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذوي شيم شريفة كمثل البحر يغرق فيه حيي ... ولا ينفعك تطفو فيه جيفة أو الميزان يخفض كل واف ... ويرفع كل ذي زنة خفيفة

مذكرات إبليس

مذكرات إبليس هي رسالة انتقادية ضافية للكاتب عباس محمود العقاد تناول بها أغراضاً شتى من النقد الأدبي والأخلاقي والاجتماعي بأسلوب خيالي شائق يأخذ باللب ويرتفع له حجاب القلب وسننشرها إن شاء الله تباعاً في البيان. مقدمة نحن الشعراء لكل منا صاحب من الجن يوسوس له بخفي المعاني ويهجس في خاطره بأسرار الخيال ويسلك به من وادي الجنة في ملاعب لا يسير فيها الأنسي إلا بترجمان من أبناء الجان. كام لامرئ القيس شيطان من تلك الشياطين اسمه لافظ بن لاحظ. لا أشك أنه كان معه يوم العذارى، يوم نزلت صاحبته عنيزة تتبرد وصويحبات لها في الغدير فأغراه شيطانه فقعد على ثيابهن وأبى إلا أن يخرجن إليه عاريات الأبدان باديات محاسن الأجسام كأبكار الماء عند قدماء اليونان، أو كما خرجت بنت ملك الواق على الصائغ البصري وقد خبأ منها ريشها وهي تسبح بين أترابها في بركة القصر. ثم أغراه بناقته فعقرها لهن فظل العذارى يرمين منها بلحم وشحم لا أظن حسان اليوم يستطبن منه شواء إفرنكياً، ثم سقاهن من زقه خمراً زادتهن سكراً على سكر التيه والشباب. ثم أملى عليه تلك القصيدة التي سجل بها على نفسه فعلته فأراح كاتب الشمال من تقييدها عليه فيسجل السيئات. وكان للأعشى صناجة العرب شيطان اسمه مسحل بن أثاثة. ترصد له حتى علم أنه مال إلى الإسلام فأوقف له في بعض طريقه إلى النبي قوماً من المشركين، فلما أتاهم قالوا له أين أردت يا أبا بصير. قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها لك موافق. قال: وما هن فقال له سفيان بن حرب: إنه يحرم عليك الزنا. قال: لقد تركني الزنا وما تركته ثم ماذا؟ قال: القمار

قال: لعلي إن لقيته أن أصيب عوضاً من القمار ثم ماذا؟؟ قال: الربا. قال: ما دنت ولا أدنت. فكاد مسحل ييأس من فتنة صاحبه عن الإسلام فقد بردت عواطف الرجل وأخذت الشيخوخة شهواته. والشيطان لا يخلق في نفس المرء ما لم يكن فيها. ولكنه ينفخ في جذوتها الهامدة ويحرك نارها الساكنة ثم ذكر (أي مسحل) إن من لذات النفس لذة لا يعيي عنها صاحبها حتى يوارى ثراه، وهي لذة الشراب كما قال بعض إخوانه على لسان بعض الشعراء: قالوا كبرت فقلت ما كبرت يدي عن أن تمد إلى فمي بالكاس فلما سألهم الأعشى ثم ماذا؟؟ همس شيطانه في قلب أحدهم فأجابه: إنه ينهاك عن الخمر. فصاح كانما لدغته أفعى وقال ارجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشر بها ثم نكص على عقبيه وباع الجنة ونعميمها بمائة من الإبل فحق في هذا الأعشى قوله تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين. أما النابغة فكان شيطانه يدعى هاذرا وكان كما قال نقد جني أشعر الجن وأضنهم بشعره أبدع في وصف امرأة النعمان حتى قال المنخل اليشكري: والله لا يقول هذا الأمن جرب ووقعت هذه الدسيسة من نفس النعمان فأراد أن يبطش بالنابغة وأحسب أن هاذرا هو الذي أدلى إليه بتلك الحيلة الشيطانية حين تغير عليه قلب النعمان فلقن إحدى قيان القصر قصيدته التي يقول في مطلعها: يا دارمية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سانف لامد فلما سكر النعمان غنته بها فطرب وقال هذا شعر علوي هذا شعر أبي إمامة ثم رضي عنه ووقاه هاذر كيد شيطان اليشكري. ويعجبني هبيد شيطان عبيد بن الأبرص ذلك الشيطان المسكين الذي يرعى الظباء. ويلبس الأظمار وربما كان أول شيطان هدى إنساناً إلى ذكر الله فإنه لما طلع على عبيد في البيداء ورأى ما كان من ارتياعه منه قال له: اذكر الله فقد رعناك وبذكر الله تطمئن القلوب ولعله

لا يذكر الله من الجن إلا الفقراء والمساكين كما هو العهد بيننا معشر الأنس! ولا ذنب على هبيد في فساد شعر عبيد فإن الهبيد شاعر عبقري ساجل لافظ من لاحظ يوماً فلم يقصر عنه ولقد محض صاحبه عبيداً النصح ولكنه أبى واستكبر أتاه بلبن الشعر وقال له: لو أنك أصبت من لبن عندنا؟؟ فقال: هات. ثم ذهب وأتاه بعس فيه لبن ظبي قال عبيد فكرهته لزهومته فقلت إليك ومججت ما كان في فمي منه فأخذه ثم قال امض راشداً فوليت منصرفاً فصاح بي من خلفي. أما إنك لو كرعت في بطنك العس لأصبحت أشعر قومك فندم عبيد على تفريطه في العس وأنشأ يقول: أسفت على عس الهبيد وشربه ... لقد حرمتنيه صروف المقادر ولو أنني إذ ذاك كنت شربته ... لأصبحت في قومي لهم خير شاعر ولو أنه أطاعه فرضع من البان الظباء لاختمرت في نفسه زبدة القريض ولم تختل تراكيب شعره أو تضطرب أوزانه. ولقد كان لحسان بن ثابت شيطان أسلم معه وكان للفرزدق شيطان مستوحش إذا طلبه خرج يلتمسه في الفلوات والبوادي وكذلك كل شعراء العرب قديماً وحديثاً أما شعراء الغرب فقد شغلتهم عرائيس الطبيعة عن رجال الجن فطابوا بأغاني النساء وطبنا بأحاديث الرجال أو كما قال أبو النجم: إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر ولقد صحبني هاجس من أولئك الشياطين اسمه حاذق بن واثق، فتي الطلعة وسيم الصورة، حلو الشمائل، وهو كما حدثني مرة من أشرف بيوت الجن وأرفعها ذروة. ولطالما جلست إليه في بعض خلواتي فكان يجلو لي عرائس الأفكار ويهتف في وجداني بلطائف الأخبار وروائع الأشعار وقد يحن إلى ليالي صبوته ومواقف صبابته فيسرد لي أسماء جنيات يلم خيالهن بالأذهان ولا تقع عليهن العيون وكان ربما صفاً لي لذات أبوينا في النعيم وما كانا يتناجيان به تحت أشجار الجنة من أحاديث الغرام الطاهر. ويحكي أحياناً تغاريد أطيارها وخرير سلسبيلها أو يصف صفاء ماء الكوثر ووريف ظلاله في ضحوة ذلك النهار السرمد

ويقول - والعهدة عليه - إن أطيار الجنة شواعر ترتل آي التسبيح وتتغزل بحور الفردوس وولدانه. وتترنم بمحاسن رياضه وجنانه بقصائد لا يأني شعراء الأرض بشطر من مثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً وألحان سماوية لو سمعتها الأفلاك الدائرة لوقفت تنصت إليها ولو طرقت نغمة من أنغامها آذان البشر لرأوا بينها وبين غنائهم فرق ما بين صرير الجنادب وأناشيد داود عليه السلام. خلوت به يوماً في بعض البساتين. فقلت له. أراك تكشف لي عن سرائرك، وتطلعني على أسرار ضمائرك، إلا سراً واحداً لا تزال تكتمه عني. ولا أراني راضياً عن صحبتك تمام الرضى ما دمت تحجب عني ذلك السر وتراوغني فيه. قال. كذلك عرفناكم يا بني آدم. لا يزال أحدكم يطمع فيما ليس له حتى يفقد ما بيده، ولئن كانت في نفس الإنسان خلة تفسد عليه من أمره ما لا يفسد الشيطان فتلك خلة الطمع التي تأصلت من طباعكم ورسخت في صميم نفوسكم. قلت. ما أحسبك أقنعتني بهذه الفلسفة وهب الأمر كما تقول ألا يقوم عذراً لديك ما تعلمه من هذه الطباع فينا. قال. يشبه أن يكون الأمر كذلك فماذا عساك تريد أن تسألني اليوم؟؟ فرأيت أن أصارحه فيما أردت وكنت قبل ذلك أواربه فيه وألمح إليه تلميحاً بعيداً. قلت. أنا أعلم أن مثل أبليس في دهائه وفطنته لا يفوته أن يكتب سيرة حياته في دفتر يذكر فيه غواياته ووقائعه مع مريديه وزمرته، وأنا في شوق إلى تلاوة صفحات من ذلك الدفتر. فإن إبليس كما تعلم إمام شياطين الشعراء. وليس ألذ لمثلي من تلاوة شذرة أو شذرات مما يمليه ذلك العقل القادر على يراعه الساحر. فإن شئت أن تنتزع ورقات من كنائسه فتأتيني بها كنت لك شاكراً أبد الدهر. قال: إنك تحدثني بأمر جلل. ألا تعلم أن إبليس ملك ملوك الجان، وإنني إن أفشيت سراً من أسرار ديوانه حاق بي غضبه، ولت بي نقمته، ولا آمل أن أنفى من مملكة الشياطين فأقعد مليماً محسوراً. قلت: هون عليك، فلعلّك تطرد من مملكة الشيطان فتقبل في ملكوت الرحمن وعسى الله أن يمحو عن جبينك تلك اللعنة، إذا أنت أظهرت للناس بعضاً من حيائل إبليس، ومسالكه التي

يتسرب منها إلى النفوس، ووقيتهم شر الوقوع في أوهاقها فيفتح الله لك من أبواب السماء ما أوصده أبونا في وجه أبيك وذريته. قال: نطقت صواباً. ثم مضى عني أياماً لا يعاودني حتى يئست من رجوه، وخفت أن يكون قد رآه إبليس وهو يهم بسرقة أوراق الكناشة فبطش به. فلما كنت ذات يوم في ذلك الموضع الذي لقيته فيه أخيراً، رأيته قادماً إلي من بعيد. فما هو إلا أن داناني حتى حياني ثم ألقى بين يدي قمطراً صغيراً فتأملته فإذا مكتوب على ورقة منه بلغة الجن: مذكرات إبليس وفيه خط دقيق رقمت حروفه بمداد من ماء النار على صفحائف من أوراق شجر الزقوم، فتناولت الأوراق فرحاً وهممت أن أفارقه لأتفرغ إلى قراءتها. فقال: على رسلك. إني لأخشى وصول إبليس وأخاف عاقبة مكره مع ما منيتني به من غفران الله ورضوانه. وأنا أعرف الجن بإبليس، مثله لا ينام غريمه آمناً فناشدتك الله إلا ما كتمت هذا السر إلا عمن تثق بهم من القراء. قلت: لك على ذلك. وها أنا أسر للقراء بترجمة تلك الصفحات على أن يعاهدوني كما عاهدت حاذقاً أن يحفظوها في نفوسهم في موضع لا يطلع عليه ذلك الباقعة. إن كان في خبايا النفوس زاوية لا ينفذ إليها أبو مرة.

رسائل الفيلسوف سنيكا

رسائل الفيلسوف سنيكا إلى صديقه لوسليوس الرسالة السابعة (في أنه ينبغي الابتعاد عن أخلاط الناس) تقول لي ما الذي يجب علي تحاشيه واتقاؤه أقول لك تحاشى غوغاء الناس واتق أخلاطهم لأن الاختلاط بهم ليس وراءه إلا التأثير على أخلاقك، وإني أعترف لك بضعفي فإني ما اقتحمت مجالس هؤلاء إلا وخرجت بخلق غير الذي دخلت به ولا احتطت لنفسي احتياطاً إلا وأفسدت علي حيطتي مخالطتهم ولا طردت من نفسي رذيلة إلا وعادت إليّ من عشرتهم السوآى لأن حالنا كحال بعض الناقهين من أمراض طويلة وعلل مزمنة الذين قد يتعبهم الخروج وينتكسون إذا هم تعرضوا للهواء فنحن كذلك لأن نفوسنا قد تخلصت من عللها بعد طول عناء لا جرم يتبعها مباشرة أحد أسبابها أعني مخالطة الجمهور فيعاودها منه الداء الذي قد يكون شيء من جراثيمه كامناً فيقوى فينا ويزداد وما يزيده إلا الاختلاط بجمهور الناس الذين لا تزايلهم عادة تلك الأدواء النفسانية، لا شيء أضر على الأخلاق الطيبة من الفراغ والشغف بالألعاب لأنه قد يعقب التلذذ برؤيتها والسرور بمشاهدتها في الغالب التصاق كثير من الرذائل بنفوسنا دون أن نشعر بها أو أن نأبه لها فافهم ما أقوله جيداً واعلم أني ما شاهدت هذه الألعاب مرة إلا وعلق بنفسي شيء من مثل رذيلة البخل أو الطمع أو الميل إلى الشهوات فضلاً عما تجلب إلى النفس من قساوة القلب وسلب الفؤاد الرحمة والشفقة الإنسانية وما سبب ذلك إلا اختلاطي بغوغاء الناس فيها، لقد ساقني القدر إلى مشاهدة ألعاب الجنوب فذهبت إليها على أمل أن أرى ألعاباً سارة مسلية للنفس خالية من إراقة الدماء فخاب ظني وتبين لي أن ألعاب المصارعة كانت عندنا أمس أقرب إلى الرحمة والشفقة منها اليوم لأن أبناء هذا الجيل لا يرغبون إلا في إزهاق أرواح المتصارعين فلذلك ترى المصارع لا يستر جسمه ساترٌ ولا يقي بدنه الخطر واق فكل ضربة بين المتصارعين تحدث في أجسامهم جراحاً وتسيل أبدانهم دماءاً فما هذا أيفضلون هذه المناظر الدموية على تلك الألعاب اللطيفة العادية، ولم يرغبون فيها ويحبونها؟ وما هي إذا فائدة الخوذ والدروع والتروس وتعلم السلاح إذا كانت لأتقي الناس القتل؟ ولكنهم لا

يعرفون في الألعاب اليوم مع الأسف شيئاً من ذلك ففي الصباح ترى المصارع المسكين معرضاً لافتراس الأسد والدببة وفي الظهيرة يدخل في مصارعة غيره من المتصارعين على تلك الحال البربرية المشتهاة للمتفرجين وهو على الحالين إن لم يقتل في أول النهار فلا يأتي عليه آخره إلا وهو مقتول وقاتله لا بد أن يلقى هو أيضاً حتفه وبالجملة فحظ كل هؤلاء المتصارعين في النهاية الموت هذا ما يريده ويولع به جمهور المتفرجين اليوم فلا يسرهم ولا يطرب نفوسهم غير ما تعمل النار والحديد فماذا يروقك أنت أيها المشاهد المسكين من تلك المشاهد وسماع قول الأخلاط للمتصارعين: اقتل خصمك، ألق عليه النار، انقض عليه بالضرب، لم هذا الإحجام على الانقضاض على الحديد لم هذا التحفظ في الإجهاز على خصمك، لم كل هذا الخوف من شرب كأس المنون وفضلاً عما تسمع من أمثال هذه العبارات في الحث والإغراء للإقدام على هذه الأفعال الوحشية تشاهد عصي الموكلين بأمر حفلة الصراع تدفع بالقسوة المتناهية هؤلاء المتصارعين التعساء إلى التعجل في لقاء الحتوف ومقابلة الموت الزؤام بصدورهم العارية وجراحهم الدامية وإذا ما انتهى فصل من فصول هذا اللعب فقد لا يفوت متفرجينا في الفترة التي بينه وبين الفاصل الذي يليه مشاهدة قتال بعض الناس من المتفرجين ورؤية دماءهم تهراق. ما هذا الخرق والجنون أيتها الأمة الحمقاء أولا تعلمين أن مثل هذه الأعمال الوحشية قد يعود ضررها على القائمين بها ولكن اشكري للعناية الإلهية أن من تعلمه قساوتك قساوة لا يتعلمها فينبغي على كل حال أن يبتعد من معاشرة أخلاط الناس ذوو النفوس الضعيفة التي لم تتأصل فيها الفضائل الإنسانية وتستحكم الخيرات البشرية لأنها قد تكون سهلة الانقياد والاقتداء بما عليه الجمهور من الأحوال وأن تعاليم كبار الفلاسفة كسقراط وكاتون وليليوس وفضائلهم قد تتزعزع أركانها في النفوس من مخالطة ذوي الأخلاق الفاسدة والطباع السيئة من غوغاء الناس وهل في قدرة أمثالنا ممن لا يزالون مجدين عاملين على تهذيب نفوسهم وتزكيتها مقاومة سيل الرذائل الجارف الذي يبدو على رؤوس الأشهاد من الجمهور ويكون له من التأثير على النفوس ما له، لا جرم أن مثالاً واحداً في الإسراف أو الترف والشح قد يكون فيه من الضرر البليغ ما فيه وإن معاشرة إنسان واحد اشتهر بالترف والبذخ لتجلب على النفوس مصيبة الميل إلى السرف والنعيم وإن مجاورة غني واحد يظهر لنا كل يوم

في زينة جديدة قد يثير أطماعنا وحسدنا وإن مصاحبة شرير واحد قد تجر على النفس من الفساد ما لا قبل لها بالخلاص منه فإذا كان كل هذا يصيبنا من معاشرة إنسان واحد فكيف لا يكون الخطر شديداً علينا من مخالطة جمهور غفير من الناس جمعت نفوسهم خصال الشر بأجمعها فيضطر المرء إما إلى بغضهم وكراهة معاشرتهم وإما إلى مجاراتهم والانتظام في سلكهم، أما أنا فلا أرضى لك سلوك أحد هذين الطريقين فلا أشير عليك بكراهة السواد الأعظم لأنهم ليسوا على شاكلتك كما لا أقر على مجاراة شرارهم في أخلاقهم وأفعالهم بل الذي أشير به عليك أن تعتزل الناس وتبتعد عن غوغائهم وتشتغل بنفسك ما أمكنك ذلك ولا بأس أن تعاشر من تجد في معاشرتهم ما يزيدك من خلال الخير وأن تخالط من تتوسم فيهم حبه والرغبة في تعلمه فتهديهم سبيله وترشدهم إلى مناهجه ولنعمت الحال في تبادل المنفعة والفوائد فالمرء قد يتعلم وهو يعلم وإنما أحذرك التطوح والشطط وألا يخدعك غرور نفسك فترغب في إظهار مقدرتك وعلمك على الملأ بالخطابة فيه أو القراءة عليه فإني لا أسمح لك بذلك ولا أجيزه إلا إذا كان المستمعون إليك على شاكلتك في الفضائل ورفعة النفس وهم مع الأسف قليل عنيدهم بل أن من قد يأتون إليك لتعلمهم هذه الحكمة على ما أنت عليه قد لا يزيد عددهم عن رجلين أو ثلاثة رجال ولقد تقول وعلام إذاً أجهد نفسي في التحصيل ومن ذا الذي أعلمه كل ما حصلت من العلم؟ أقول لتطمئن نفسك وليسكن روعك فإن تعلمك لم يضع عليك ولم يذهب سدى لأنك إنما تعلمت لنفسك على أني أخالف ما قررت آنفاً وإني لم أتعلم لنفسي وحدها بأن أسرد على سمعك ها هنا ثلاث حكم لا تخرج عن معنى ما قررت وها هي ذه: قال ديمقريطس: الواحد هو الكل لأن الكل لا يتركب إلا من الواحد أما الكلمة الثانية فإني أوافق عليها كل الموافقة مهما كان قائلها الذي لا يعرف وهي جواب سؤال سئل فيه عن تأليف دقيق وضعه وعني به عناية كبيرة فقيل له: لم عنيت كل هذه العناية بتصنيف هذا الكتاب الذي لا يقرأه إلا القليل من الناس ممن يفهمونه فأجاب على الفور: إني لا أريد إلا هذا القدر القليل من القراء بل قارئاً واحداً ليس بقليل ويؤثر عن أبيقور هذه الحكمة المشهورة التي ضمنها كتاباً بعث به إلى أحد رفقائه في طلب العلم قال: (هذا الذي أكتب به إليك إنما هو لك وحدك وليس للجمهور وأنا وأنت نكون مسرحاً عظيماً) فدقق أيها الصديق في فهم مغزى هذه

الحكم يسهل عليك احتقار ما قد تفرح به نفسك ويطرب له فؤادك من ثناء الجمهور عليك وإطراءه إياك وما هو ثناء الجمهور؟ إنه لعمري ليس فيه شيء يزيد كثيراً في قيمة المرء ومكانته وإنما يزيد المرء قيمةً بل يزيده زينة نفسه فتحرى ذلك في نفسك واستمد الثناء عليك والمكافأة لك منك. الرسالة الثانية (فيما ينبغي أن يصرف الحكيم فيه عنايته) كتبت إلي تقول: تأمرني أن أعتزل الناس وأن أبقى بعيداً عنهم قانعاً بمسامرة ضميري راضياً بمناجاة وجداني فماذا أصنع إذاً بتعاليمك ونصائحك التي تحثني على أن لا أنقطع عن العمل حتى الممات؟ - أقول ما هذا الوهم أأنا في حالتي الراهنة بناء على اعتقادك هذا عاطل من العمل؟ إن الغاية الشريفة من عزلتي وانفرادي بمحض اختياري إنما هي لكي أتوفر على العمل الذي أنا بصدده حتى تعم فوائده الجمة الغفيرة من الناس حتى أني لأخصص شطراً من سواد الليل للعمل ولا آخذ راحتي من النوم إلا إذا غلبني النعاس وجعلت عيناي ما تبصران ما أمامي من القرطاس إلا بصعوبة وعياء منه وإني ما اعتزلت الناس وانقطعت عن الأشغال المادية حتى أشغالي الخاصة إلا لتوفر علي الأعمال العينية التي تفيد الأجيال القابلة فإني في الكتابات إنما أتحرى نفع هذه الأجيال وإفادتها ولها وحدها أدون النصائح والإرشادات المفيدة في مؤلفاتي عن تجربة وخبرة بالأيام مما أصابني من المحن والإرزاء التي وإن كانت لم تزل جراحها دامية إلا أنها قد التأمت وعرفت من التجاريم المنهج الواضح والصراط السوي في الحياة بعد أن ضللت سبيله ولحقني من متاعب الحياة ومغرراتها ما دفع بي إلى كشف الغطاء عنه للناس صائحاً فيهم (أيها الناس فروا من كل ما يخدع عوام الناس من حظوظ العالم ومظاهره التي تسوقها الحظوظ وتحاشوا خيرات عارية وسعادات باطلة وخذوا حذركم ولا تأملوا للأيام واعلموا أن مثلكم في الغرور كمثل الأسماك والظباء توضع لها الطعم في الشباك فتقع فيها فمنح الأيام ليست إلا مصائد للرجال فإذا أحببتم أن تعيشوا بسلام آمنين مطمئنين فلا تركنوا إلى متاع الدنيا الغرور وإلا أصابكم الفشل وبؤتم بالخسران والضلال المبين فأنا لعمرك أن يخيل إلينا أنا فيها الآخذون وما نحن إلا مأخوذون فزخرف الدنيا والانغماس في نعيمها ما هو إلا هوة

سحيقة تسقطون فيها وهو نهاية المجد والسؤدد الذي تتوهمونه وإن المرء إذا انساق في تيار هذه الغرور الدنيوي تعذر عليه الوقوف فينبغي له للنجاة إما المقاومة أو الفرار من وجه المعترك لأن غرور الدنيا وزخرفتها لا يتحول فقط بل هو قد يسقط الناس ويسحقهم سحقاً وهاكم طريقة سهلة الاتباع في السلوك في الحياة وعلاجاً شافياً وافياً لإنقاذكم من غروركم إذ أنتم اتبعتموه نجوتم وذلك أن لا تكون عنايتكم بالأبدان إلا بمقدار ما يقتضيه سلامتها وحفظ صحتها وأن تعودوها الاخشوشان في العيش حتى لا يكون لها سبيل إلى الجماع وعصيان العقل فلا تنيلوها من الطعام إلا بمقدار ما يسد رمقها ولا من الشراب إلا بمقدار ما يبل ظمأها ولا من الكساء إلا بمقدار ما يقيها الحر والقرّ ولا من السكن إلا ما يدفع عنها الطوارئ والعاديات وسيان أن يكون هذا المسكن كوخاً حقيراً من أصول الشجر أو قصراً فخيراً مشيداً بالجص والمرمر المجزع لأن أصول النبات وغصون الأشجار تؤدي هذا الغرض أفضل مما تؤديه حتى لبن الذهب والفضة بل هي آمن منها في الحماية والوقاية فاسقط هذا النعيم كله من عينك ولا تتطلع إلى زخارف تافهة ليست في العير ولا في النفير من الشرف والزينة واعلم أن شرف المرء وزينته في نفسه فإذا هي عظمت وسمت ظهر له كل شيءٍ حقيراً في جانبها. فمن جعل مذل هذا النصح نصب عينيه وعني بتقريب أمثاله لإرشاد الخلف ألا يعد عمله في اعتبارك مساوياً في النفع تولي القضاة بين الناس والنظر في أمورهم ووضع الأختام في ذيول الوصايا أو العمل في مجلس الشيوخ ومساعدة أرباب المصالح فكن على ثقة أيها الصديق أن هؤلاء الذين قد تدل الظواهر أنهم عاطلون عن العمل إنما هم الذين يعملون جلائل الأعمال وإنهم يشتغلون بما تحوي الأرض وتشمله السماء وقد آن لي أن أختم هذا الكتاب ولكن لا بد لي من دفع ما فرضت على نفسي من الأتاوة اليومية وهي حكمة مستقاة من بحر أبيقور قال: كن عبداً للحكمة تكن حراً جد الحرية وليس في هذه العبودية ذلة أو عذاب بل فيها السرور والبهجة لأنه من يخضع للحكمة ويتمسك بأهدابها ويستقيم لأوامرها يفك عنه ربقه في الحال فخدمتها هي الحرية ولعلك تقول ما الذي يدعوك لترك حكم فلاسفتنا وتفضيل حكم أبيقور على سواها فأجيبك ولم لا تقول أنها للجمهور وليس لأبيقور، وكم من حكم ومعاني سامية طرقها كثير من الشعراء فضمنها الحكماء حكمهم أو غفلوا عنها

وكان يجب ألا يغفلوها هذا فضلاً عما في رواياتنا التمثيلية من حكم ورقائق شعرية، وكم من أشعار حكمية تلوكها ألسنة الرواة والقصاص وكم من درر غوال حوت أشعار مثل الشاعر بوبليوس حرية بأن يترنم بها في أعظم أمكنة التمثيل دون الاستجداء بها على قارعة الطريق لما فيها من نفائس الحكم الجديرة باختيار الفيلسوف ولأذكرن لك بيتاً واحداً يدخل في موضوع هذا الكتاب وقد بين فيه ذلك الشاعر أنه لا ينبغي لنا أن نحفل بعطايا المصادفات لأنها ليست لنا قال: والعطايا من الجدود عوار ... والعوار مصيرها للمعير واذكر أنك ضمنت هذا المعنى بيتاً لك فقلت: وهل للمرء في الدنيا نصيب ... إذا كان الزمان إلى سواه ولا أغفل أيضاً عن ذكر هذا البيت وقد كشفت فيه الغطاء عن مبلغ حظنا من العالم فقلت: وما نمنح من الخيرات جماً ... فإن الدهر مرجعه إليه وهذه بضاعتك ردت إليك ليس لي فيها شيءٌ صالح حمدي حماد

ليالي الشباب

ليالي الشباب هي قصيدة نثرية بليغة للشاعر الكاتب عبد الحليم حلمي المصري ضمنها كثيراً من المعاني الشعرية الرائقة، والفكر الفلسفية الجليلة المؤنقة، من كل ما يخفق له قلب الإنسان، وتصبو إليه أحرار الأذهان، في صفاء من اللغة واطراد من التعبير وجزالة من الأسلوب=قال حفظه الله. أيها الشباب بل أيتها الزهرة الذابلة في حديقة الأيام. والدمعة المسفوحة على جوانب الغرام، بل على ذلك الطلل الخالي، والأثر البالي، هذا هو الجسم الشاحب. وذلك هو العمر الذاهب. أية جنة كنت يرتع منها المشوق في غفلة العيش وبله الحياة، بل أية كأس كنت يشربها الجامد فيسيل، والمعتدل فيميل، بل أية نضرة كست بها الطبيعة هذا الجلال المرسل والجمال اليتيم، وتوجت بها القدرة هذا الملك الذي هبط من الجنة يرفرف على رؤس لابسيك، بل أيها الجواد المطلق في الميدان، بغير عنان كم ندم صاحبك. وذل راكبك، ولكن ما أصوب خطأك، وما أبلغ عثرتك، آه أيها السلطان القادر، والحاكم الجائر، يا عبوس المراحم، يا لذيذ المظالم، كم غررت بفتى واطلعت عليه شمس الزهو من سماءك فتربع على عرش من نفسه قوائمه طالت على الأوهام وأركانه بنيت على الآثام، وبات يرسل النظر إلى هذا الكون نظرة الأسد أمام أكمته إلى مداب النمال. ويرى تمثاله في مرآة الشباب كأنه الهيكل المنيف قائم بقدميه على كتفي العالم، إذا مر به النسيم ليلاً ظنه من نفحات رضاه وإنه بعض أنفاسه العاطرات وإذا نفث القيظ شراره ظنه فحيح غضبه وإنه بعض أنفاسه المستعرات، يا مطية الغرور، ومسرح الشرور: كم ترقرقت قطرات الحسن في وجنات الملاح تحت أوراقك الوارفة الظلال، واشتبهت في مرآتك البنان بالشفاه في الحمرة والجمال، وتلألأت عنك أقمار الوجوه تحت ظلام الغدائر، وجاز فيك ابتسام العيون، في بكاء المحاجر، وهزت يمينك في القدود قواضب السيوف، وألقى حكمك حبال العشاق على غوارب الحتوف، وكم عرضت الأيام على فتى صورك المزينة بالألوان المختلفة من روائع التقاسيم فلم تبق

له علالة في النفس إلا أن تنتهي هذه الأعاجيب حتى يستريح من متاعب اللذائذ، فاللذة ضرب من ضروب الشقاء يزينها الفراغ بالقبول إني لا أذكر يوم بدأت تفيضك على الأيام ولكن أذكر يوم بدأت تمسحك عن جبيني، ولو كنت أعلم أنك مقدود عن منكبي لوثبت وثبة من الطفولة إلى الكهولة حتى أتعدى عهدك المحال أو لرقدت رقدة الصامت حتى تمر بي كما يمر الخيال، أين منك ليلة على ضفاف النيل في مقاصير، سماؤها صبير، وأرضها وتير، إذا جازها السحر وهصرت الشجر، واختلطت صفعة الظلام، بدمعة المدام، وذكرت بين الورد والآس، قال أبي نواس: ودار ندامي عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس حسبت بها صحبي وجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس تدار علينا الكأس في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تديرها بالقسيّ الفوارس فللخمر ما زرّت عليه جيوبهم ... وللماء ما دارت عليه القلانس سما إلى رشاش ذلك النذر يلفتني إلى خضوعه المنحدر، وسكونه المستمر فذكرتني عزة الشباب، آية فرعون في الكتاب، وازدحم جمال الطبيعة على عيني وضاق الفضاء بهذا الحسن المتناثر على أرجاء الكون، وتطايرت أصوات السكينة المعجمة، فتبينت فيها نغي القدرة الفصيحة إلا شيئين، لفظٌ لا معنى له، ومعنى لا وجود له، هذا هو الوفاء، وذلك هو الحب. نعم لا معنى للوفاء، مر هذا اللفظ على آدم، وتخلل ثناياه وولج مسامعه، ثم دار دورته في بروج رأسه فما كاد يصل إلى أحد من ذريته ولولا أني أنا أنا لقلت إني غادر، نعم. لا معنى للوفاء. الإنسان غادر، والحيوان غادر، والنبات غادر، بل والماء والهواء، والأرض والسماء، بل كل ما دار بالرأس وما تخلل الأذن، وما عرض على العين، فما أنبغ الغدر في إخضاع كل موجود: ما عسى يفهم الإنسان من المعنى الذي يتردد بين هذين الحرفين (ح. ب) ويضطرب بين ساحليهما. يقول أناسٌ لو وصفت لنا الهوى ... فوالله ما أدري الهوى كيف يوصف

ضعف في النفس، وخفة في الرأس، ونقص في الإرادة، واختلال في التكوين ولكن: الحب صعبٌ فلا تعبث بصاحبه ... فربما قتلتك الحاء والباء الإنسان قادر أمام كل شيءٍ عاجز أمام هذا اللفظ - الحب. ما خرج من كنه الغيب روح إلى العالم المنظور إلا ورمي سهماً طائشاً لم يصب به هذا الغرض وغادر له كتاباً لم تأهل ألفاظه بمعانيه في وصف هذا اللفظ المعجم - الحب. أي داءٍ هو راسخ في دم البشر، متسلسل مع الخليقة، وأيسر متغلغل في ضمير الكائنات. الله يحب، والإنسان يحب، والحيوان يحب، بل كل شيء يحب، حتى الطبيعة تحب، يخلص العبد فيحبه الله، ويكمل الجمال فيحبه الإنسان، ويصفو العيش فيحبه الحيوان، وتلطف الطبيعة فتحب أن يراها الشاعر، وتطير فيها الخواطر. كم استوى على العرش سلطان، وسبح بحمده الخافقان، وجرت الأرزاق على يديه، وخشعت القدرة عن جانبيه، ودارس على أكتاف المقادير. وحمته العظمة أن يعترف بالعبودية إلى هذا الإله القدير، خلف العرش والإيوان، ونسي عزة التاج والصولجان، ووقف وقفة المذنب في كنائس روما وسط حلقة القديسين إلى الإله الصامت - أو وقفة الرشيد من قوله إذا صح: ملك الثلاث الآنسات عناني ... ونزلن من قلبي بكل مكان مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا إن سلطان الهوى ... وبه اعتصمن أعز من سلطاني أمام عظموت هذا الجلال، وجبروت ذلك الرب. الحب المتصرف في قلوب العباد. يا مسيل الجوامد، يا مذل الجبابرة، يا مثل العروش، يا مريق الدماء في شؤون العيون، يا واصل الليل بالنهار، يا مجري الماء على النار، كم ضعيف لا تقوي وجنتاه على حمل وردتيهما المكللتين بدمع العاشق السليب، ولا راحتاه على حلم النفحات العاطرة من أخلاط الطيب، كسوته مهابة فخشعت له الرؤوس الباذخة، وملأته قدرة فأرغمت له الأنوف الشامخة، وأنزلته منزل الأسرار في الجانب اليسار فحكم. وظلم. وانتقم. واعتصم.

وكم صبغت هذا الوجه بعصارة الورس، وأبدلتني مقاعد الحصباء من الدمقس: وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضاً أرمي وأنت سليم وكم أنطقت وجداني الصامت وأسمعت صبري الأصم. وجعلت قلبي لساني، وعيني بياني، ونشرتني صفحة تكتب فيها أفواه العذل وتتلوها عيون الوشاه. فلو أن قولاً يكلم الجسم قد بدا ... بجسمي من قول الرجال كلوم. وكم سخرت بهذه النفس الحكيمة، وقمت بين أخوتك من عوائد الأخلاق وحكام القلوب تريها إنك العادة الواحدة التي تأمر في كل نفس، وتتحكم في كل قلب، ويستوي عندها الأمير والحقير، والصغير والكبير، تعاليت في ملكوتك وتنزهت في قدرتك. ألست أنت ذاك وأنت الذي كلفتني دلج السري ... وجون القطا بالرقمتين جئوم تلك عقبى ظلمك أيها الحب. ظلمت الناس فظلموك. وبدلتهم فبدلك. وصرت معنى شائعاً في المخلوقات كل ذي حاجة عاشق وكل ذي نزوة محب. لا ألوم ظليلك فالبادي أظلم ولكن لا أعذر هذا الناس الجاهل الذي جعل مهبطك في غير القلب وأسكنك في غير مأواك. إن العاطفة التي تخضع النفوس الكبيرة لأحكام الجمال الإنساني ليست إلا عاطفة شريرة تعتري الجسم ولا تتصل بالروح. وإلا فأين تشبب الخصيان بالظباء. وتغزل النساء بالنساء. وقليل ما يطهر الحب إذا لم يجز أحد الروحين الواقفين على حد واحد من العفة النادرة. الحي هو الذل مع الكمال، لا حب بلا عفة، ولا عفة لحيوان: الحب جزء من أجزاء الروح بل الروح جزء منه فإنه هو الإيمان الكامل الذي لم يهتد إليه مخلوق، ولم تتعده المهابة والخشوع. وأني لهذا الحيوان الذي نما عوده من هذه النطفة القذرة أن يرتفع إلى منازل الملائكة المطهرين فيقال أنه - أحب - إن أسلافنا المجانين الأبرار من القائلين: وإني لأستحييك حتى كأنما ... على بظهر الغيب منك رقيب

وأهابك إجلالاً وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها وبتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلفنا الشوق من فرع إلى قدم وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم وبيننا عفة بايعتها بيدي ... على الوفاء بها والرعي للذمم ليتألم رفاتهم المستحيل مع الذر إذا عصفت به هذه السطور ولكنني أقف أمام آثار أهله الأعفاء وقفة الناسك بالمعبد يخلع بردة الذنوب عند عتبته حتى يخرج فيلبسها وقد يكون هؤلاء هم النادرون فهم أقرب منا إلى آدم وآدم أقرب البشر إلى الروح: الحب ليس مسكنه القلب كما يقولون فالقلب مادة لا يتسع حجمها لهذا الفضاء الذي تسبح فيه الخيالات والحقائق وإنما مسكنه الروح الطائر المحلق في كل سماء ولكن أخطأ الناس. ما هذا الخفقان المدفق بالاضطراب في جانبي؟ إنه شعاع تسلط من الروح على الجسم فلم يحسه إلا هذا العضو اللطيف. . . القلب. لا أثر لك عندي أيها الحب إلا وقوفي خلال التاريخ أندب شبابي الضائع وهل أنا لا أعود من ذلك النبات الذي تنميه الأيام ويحصده الحمام. لقد شمت بك أيها الحب قبل أن تشمت بي. فقدمت أنت قبلي بل هويت من السماء ومن حلقة الملائكة فسقطت على تلك الصخرة المتحجرة من عواطف الخلق فانتثرت كقطع الزجاج الراسبة في قاع النهر. منها المضيية التي أعراها الماء. ومنها المظلمة التي لبسها الطين. وقفة في كل بقعة من الأرض بين هذه القبور العطرات - لا قبور الأموات - ولكن القبور المخطوطة فيكل شبر من الفضاء، والماء، والهواء، تلك مدافن غرام، ومصارع أقوام. إذا مر بها العاشق المعمود نشق أخلاط الطبيب المنبعثة من معانيها الدفينة الشائعة في نفس الزمن ورأي هذه الآية مكتوبة بدم القتلى الأبرياء (بالموت يكمل الغرام) وتذكر قول أخيه المجنون: منازل لو مرت عليها جنازتي ... لقال الصدى يا حاملي انزلا بيا

أفاق إلي قول هذا السالي: إن رباً بدأ الحب بكم ... قادر يختم بالسلوى الغرام دفن الحب وأهلوه معاً ... فعلى الحب وأهليه السلام أجل مات الحب وما بقي إلا العواطف اللئيمة ومآرب الحياة الغادرة المحلاة بالرياء. والحب من عبث الشباب.

نوادر وملح وفكاهات

نوادر وملح وفكاهات ننشر في هذا الباب من النوادر المستطرفة والفكاهات المستملحة ما تتروح إليه نفس القارئ وينتفي معه ما عساه يعرو النفس من الكلال لطول النظر في المباحث الجدية إن شاء الله. كان أبو دلامة واسمه زند بن الجون من الشعراء المجيدين وكان ماجنافكها ذا نوادر مستظرفة وقد كان منقطعاً إلى السفاح وأبي جعفر المنصور وابنه المهدي. حدث أبو دلامة قال أتي بي إلى المنصور وأنا سكران فحلف ليخرجني في بعث حرب فأخرجني مع روح بن عديّ بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. فلما التقى الجمعان قلت لروح أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك أثراً ترتضيه مني فضحك وقال لأدفعنّ ذلك إليك ولآخذنك بالوفاء بشرطك ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إليّ ودعا له بغيرهما فاستبدل به فلما حصل ذلك في يدي وزالت عنه حلاوة الطمع قلت له أيها الأمير هذا مقام العائذ بك وقد قلت بيتين فاسمعهما فقال هات فأنشدته: إني استجرتك أن أقدم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب فهب السيوف رأيتها مشهرة ... فتركتها ومضيت في الهرّاب ماذا تقول لمن يجيء ولا يرى ... لما درأت الموت في النشاب فقال دع هذا وستعلم. فبرز رجل من الخوارج يطلب المبارزة فقال أخرج يا أبا دلامة فقلت أنشدك الله أيها الأمير في دمي فقال لتخرجنّ. قلت أيها الأمير إنه أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وأنا جائع ما تنبعث مني جارحة من الجوع فمر لي بشيءٍ آكله ثم أخرج فأمر لي برغيفين ودجاجة فأخذت ذلك وبرزت من الصف فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعليه فرو قد أصابه المطر فابتل وأصابته الشمس فاقفعل وعيناه تقدان. فأسرع إليّ فقلت على رسلك يا هذا كما أنت. فوقف فقلت: أتقتل من لا يقاتلك قال: لا. قلت أفتستحل أن تقتل رجلاً على دينك؟ قال: لا. قلت: أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من يقاتلك إلى دينك قال لا فاذهب عني إلى لعنة الله. فقلت لا أفعل أو تسمع مني. قال: قل. قلت: هل كان بيننا عداوة قط أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً. قلت: ولا أنالك إلا على جميل وإني لأهواك. وانتحل مذهبك. وأدين بدينك وأريد الشر لمن أراده لك. قال يا هذا جزاك الله خيراً فانصرف. قلت: معي زاد أريد أن آكله وأريد مؤاكلتك لتتأكد المودة بيننا ونرى أهل

العسكرين هو أنهم علينا. قال: فافعل فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكاً. فلما استوفينا ودعني فقلت له إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني لك فتتعب وتتعبني فإن رأين أن لا تبرز اليوم فافعل قال قد فعلت ثم انصرف وانصرفت فقلت لروح أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري يكفيك قرنه. وخاصم رجل أبا دلامة في داره فارتفعا إلى (عافية) القاضي فقال أبو دلامة: لقد خاصمتي دهاة الرجال ... وخاصمتهم سنة وافية فما أدحض الله لي حجة ... ولا خيب الله لي قافية ومن خفت من جوره في القضا ... فلست أخافك يا عافيه فقال له عافية أما والله لأشكونك إلى أمير المؤمنين ولأعلمنه أنك هجوتني فقال إذن يعزلك قال ولم قال لأنك لا تعرف المديح من الهجاء. فبلغ المنصور ذلك فضحك وأمر لأبي دلامة بجائزة. ودخل أبو دلامة على المهدي وسلمة الوصيف واقف فقال: إني قد أهديت إليك يا أمير المؤمنين مهراً ليس لأحد مثله فإن رأيت أن تشرفني بقبوله فمر بإدخاله فقال أدخله فخرج أبو دلامة وأدخل فرسه الذي كان تحته فإذا هو برذون محطم أعجف هرم فقال له المهدي أي شيء ويلك هذا ألم تزعم أنه مهر فقال له أو ليس هذا سلمة الوصيف بين يديك قائماً تسميه الوصيف وله ثمانون سنة وهو بعد عندك وصيف فهذا مهر فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك. ثم قال لسلمة إن لهذا منه أخوات وإن أتى بمثلها في محفل يفضحك فقال أبو دلامة إي والله يا أمير المؤمنين لأفضحنه فليس في مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره فإني ما شربت له الماء قط قال فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك قال سلمة قد فعلت على أن لا يعاود قال أبو دلامة أفعل ولولا أني ما أخذت منه شيأ قط ما استعملت معه مثل هذا فمضى سلمة فحملها إليه. ودخل أبو دلامة على المهدي وهو يبكي فقال له مالك قال ماتت أم دلامة وأنشد: وكنا كزوج من قطافي مفازة ... لدى خفض عيش مونق ناضر رغد فأفردني ريب الزمان بصرفه ... ولم أر شيأ قط أوحش من فرد

فأمر له بثياب وطيب ودنانير وخرج. فدخلت أم أبي دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك وخرجت فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلينهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه. وخرج أبو دلامة مع المهدي في مصادٍ لهم فعن لهم ظبي فرماه المهدي فأصابه ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب فضحك المهدي وقال لأبي دلامة قل فقال: قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده فهنيأ لهما كل ... امريء يأكل زاده وقيل لأشعب لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك قال قد فعلت قالوا له فما حفظت من الحديث قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً قالوا إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان قال نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى. وضرب الحجاج أعرابياً سبعمائة صوت وهو يقول عند كل سوط شكراً لك يا رب فلقيه أشعب فقال أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة صوت قال ما أدري قال لكثرة شكرك لله تعالى حيث يقول لئن شكرتم لأزيدنكم فقال: يا رب لا شكراً فلا تزدني ... باعد ثواب ا فأمر له بثياب وطيب ودنانير وخرج. فدخلت أم أبي دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك وخرجت فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلينهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه. وخرج أبو دلامة مع المهدي في مصادٍ لهم فعن لهم ظبي فرماه المهدي فأصابه ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب فضحك المهدي وقال لأبي دلامة قل فقال: قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده فهنيأ لهما كل ... امريء يأكل زاده وقيل لأشعب لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك قال قد فعلت قالوا له فما حفظت من الحديث قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً قالوا إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان قال نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى. وضرب الحجاج أعرابياً سبعمائة صوت وهو يقول عند كل سوط شكراً لك يا رب فلقيه أشعب فقال أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة صوت قال ما أدري قال لكثرة شكرك لله تعالى حيث يقول لئن شكرتم لأزيدنكم فقال: يا رب لا شكراً فلا تزدني ... باعد ثواب الشاكرين عني ونظر أشعب إلى شيخ قبيح الوجه فقال ألم ينهكم سليمان بن داود عن أن تخرجوا بالنهار. وكان ديوجانس الكلبي أحد فلاسفة اليونان صاحب نوادر فلسفية مستطرفة - قيل له يوماً أين تريد أن ندفنك إذا أنت مت قال اطرحوني في الفلاة قالوا ألا تخشى أن تكون طعاماً للسباع قال ضعوا عندي عصا لأطردها إذا هي جاءت قالوا وكيف تقدر على ذلك وأنت ميت قال فإذن كيف أخشى أن تأكلني وأنا لا أشعر. واجتمع عليه جماعة وهو يأكل وصاروا يقولون هذا ديوجانس الكلب فقال بل أنتم الكلاب لأنكم اجتمعتم على من يأكل. وعوتب على الأكل في الطرق والشوارع فقال كما يدركني الجوع في البيت يدركني في السوق فحيثما أدركني أكلت.

ورأى رجلاً مسرفاً فقال له أعطني ديناراً فقال الرجل لم تطلب من غيري درهما ومني ديناراً قال لأني آمل من غيرك أن آخذ مرة أخرى وأما أنت فأخاف أن لا يبقى عندك حتى تعطيني. ودخل الحمام يوماً فرأى الماء قذراً فقال الذي يغتسل هنا أين يطهر بدنه - ومر به الإسكندر المقدوني وهو جالس في الشمس قرب برميله فقال له أنا الإسكندر فقال هو وأنا الكلب ديوجانس قال أماتها بني قال انت صالح أو شرير قال صالح قال أو أهاب الصالح فعجب الإسكندر منه ثم قال له سلني حاجتك قال تحول من هذه الجهة فقد حلت بيني وبين الشمس فزاد تعجب الإسكندر ثم قال ديوجانس أبنا أغنى أصاحب العباءة والخرج أو الذي لم يقنع بعظم سلطانه وسعة مملكته بل اقتحم الأخطار لزيادة حدودها. واستقل الليل والنهار في إصلاح شؤنها فتعجب خواص الإسكندر من احترامه لهذا الرجل الحقير مع قحته وجرأته عليه وشعر الإسكندر بذلك فالتفت إليهم وقال لو لم أكن الإسكندر لاشتهيت أن أكون ديوجانس. حديث المجرد - حدث إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: قال لي وهب الشاعر والله لأحدثنك حديثاً ما سمعه مني أحد قط قال وهو بأمانة أن يسمعه احد منك ما دمت حياً قلت (أنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها) قال يا أبا محمد إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه قلت كم هذا التعقيد بالأمانة آخده على ما أحببت قال بينا أنا بسوق الليل بمكة بعد أيام الموسم إذ أنا بامرأة من نساء مكة معها صبي يبكي وهي تسكته فيأبى أن يسكت فسفرت فأخرجت من فيها كسرة درهم فدفعتها إلى الصبي فسكت فإذا وجه رقيق كأنه كوكب دري وإذا شكل رطب ولسان فصيح فلما رأتني أحدّ النظر إليها قالت اتبعني فقلت إن شريطتي الحلال قالت ارجع في. . . أمك ومن يريدك على حرام فخجلت وغلبتني نفسي على رأيي فتبعتها فدخلت زقاق العطارين فصعدت درجة وقالت اصعد فصعدت فقالت أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم وأنا امرأة من زهرة ولكن عندي. . . ضمن عليه وجه أحسن من العافية في مثل خلق ابن سريج وترنم معبد وتيه ابن عائشة أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأشقر سليم قلت بدينار واحد يومك وليلتك فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجاً صحيحاً قلت فذلك لك إذا جمع لي ما ذكرت قال

فصفقت بيدها إلى جاريتها فاستجابت لها قالت قولي لفلانة البسي عليك ثيابك وعجلي وبالله لا تمسي غمراً ولا طيباً فحسبك بدلالك وعطرك قال فإذا جارية أقبلت ما أحسب أن الشمس وقعت عليها كأنها دمية فسلمت وقعدت كالخجلة فقالت لها الأولى إن هذا الذي ذكرته لك وهو في هذه الهيئة التي ترين قالت حياه الله وقرب داره قالت وقد بذل لك من الصداق دينار قالت أي أم أخبرتيه شريطتي قالت لا والله يا بنية لقد نسيتها ثم نظرت إليّ فغمزتني وقالت أتدري ما شريطتها قلت لا قالت أقول لك بحضورها ما أخالها تكرهه. هي والله أفتك من عمرو بن معد يكرب وأشجع من ربيعة بن مكدوم ولست بواصل إليها حتى تسكر ويغلب على عقلها فإذا بلغت ذلك الحال ففيها مطمع قلت ما أهون هذا وأسهله قالت الجارية وتركت شيئاً آخر قالت نعم والله أعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها وتراك مجرداً مقبلاً ومدبراً قلت هذا أيضاً أفعله قالت هلم دينارك فأخرجت ديناراً فنبذته إليها فصفقت صفقة أخرى فأجابتها امرأة قالت قولي لأبي الحسن وأبي الحسين هلما الساعة فقلت في نفسي أبو الحسن وأبو الحسين هو علي بن أبي طالب قال فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا فصعدا فقصت المرأة عليهما القصة فخطب أحدهما وأجاب الآخر وأقررت بالتزويج وأقرت المرأة فدعوا بالبركة ثم نهضا فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المؤنة فأخرجت ديناراً آخر فدفعته إليها وقلت اجعلي هذا لطيبك قالت يا أخي لست ممن يمس طيباً لرجل إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت قلت فاجعلي هذا لغذائنا اليوم قالت أما هذا فنعم فنهضت الجارية وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه ثم عادت وتغدينا وجاءت بداوة وقضيب وقعدت تجاهي ودعت بنبيذ فأعدته واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط فإني ألفت القينات نحواً من ثلاثين سنة ما سمعت مثل ترنمها قط فكدت أجن سروراً وطرباً فجعلت أربع أن تدنو مني فتأبى إلى أن غنت بشعر لم أعرفه وهو: راحوا يصيدون الظباء وإنني ... لأرى تصيدها عليّ حراما أعزز علي بأن أروّع شبهها ... أو أن تذوق على يديّ حماما فقلت جعلت فداك من يغني هذا قالت اشترك فيه جماعة هو لمعبد وتغني به ابن شريح وابن عائشة فلما نعى إلينا النهار وجاءت المغرب تغنت بصوت لم أفهمه للشقاء الذي كتب علي فقالت:

كأني بالمجرد قد علته ... نعال القوم أو خشب السواري قلت جعلت فداك ما أفهم هذا البيت ولا أحسبه مما يتغنى به قالت أنا أول من تغنى به قلت فإنما هو بيت عابر لا صاحب له قالت معه آخر ليس هذا وقته هو آخر ما أتغنى به قال وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها فلما أمسينا وصلينا المغرب وجاءت العشاء الأخيرة وضعت القضيب فقمت فصليت العشاء وما أدري كم صليت عجلة وشوقاً فلما صليت قلت تأذنين جعلت فداك في الدنو منك قالت تجرد وأشارت إلى ثيابها كأنها تريد أن تتجرد فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها فتجردت وقمت بين يديها قالت امض إلى زاوية البيت وأقبل وأدبر حتى أراك مقبلاً ومدبراً قال وإذا حصير في الغرفة على الطريق إلى زاوية البيت فخطوت عليه وإذا تحته خرق إلى السوق فإذا أنا في السوق مجرداً وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا نعالهما على قفاي واستعانا بأهل السوق فضربت والله يا أبا محمد حتى نسيت اسمي فبينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد مشدودة فإذا بصوت يغني به من فوق البيت وهو: ولو علم المجرد ما أردنا ... لحاربنا المجرد بالصحاري فقلت في نفسي هذا والله وقت هذا البيت فنجوت إلى رحلي وما فيّ عظم صحيح فسألت عنها فقيل لي امرأة من آل أبي لهب فقلت لعنها الله ولعن الذي هي منه.

حديث البيان مع قرائه الأفاضل

حديث البيان مع قرائه الأفاضل يرى قراؤنا أيدهم الله بعد تصفحهم هذين العددين من البيان أنا لا نألو جهداً ولا نذخر وسعاً في تجويد البيان وإتقانه. واختيار موضوعاته وتقديم ما كان أجدى على القارئين وأرد وأجم للنفس وألذ مع حسن الطبع وجودة الورق وما إليهما وزيادة صفحات البيان في كثير من أعداده عن القدر المفروض له إذا استدعي الأمر ذلك في رأينا فإن القارئ يرى أن العدد الأول لهذه السنة قد بلغ نيفاً ومائة صفحة مع أن المقدر للعدد الواحد ثمانون صفحة ويرى هذين العددين وقد وقعا في 192 صفحة مع أن المفروض لهما كان 160 صفحة وسبب ذلك هو ما أجمع عليه رأينا في روايات البيان أن تكون الرواية في العدد الواحد تامة أي تبتدي وتنتهي فيه مع الحرص على أن لا يؤثر ذلك على أبواب البيان الأخرى التي لها المحل الأول عندنا فيضطرنا ذلك إلى زيادة صفحات البيان مهما جلب علينا ذلك من النفقات - ومن هنا نشرنا في هذين العددين رواية نشيد الميلاد للكاتب القصصي الإنكليزي شارلز دكنز صاحب قصة المدينتين التي ترجمها الكاتب محمد السباعي لمكتبة البيان كما ترجم شقيقتها الصغيرة نشيد الميلاد لمجلة البيان - أما نشيد الميلاد هذه فلسنا بحاجة إلى تقريظها والقارئ الكريم على مرأى منها ومسمع - ولقد اضطرنا فضل هذه الرواية ومكانها من اللذة والفائدة أن ننشرها كلها على طولها في هذين العددين بل نقول إن حرصنا على تقديمها كلها للقارئ مرة واحدة كان السبب في نشر العدد الثاني والثالث معاً على الرغم من منافاة ذلك لخطتنا التي رسمناها للبيان في هذا العام - وأنا ننشر عدد كل شهر في إبانه. ولا نضمه إلى آخر من إخوانه. . . وبعد فقد يهجس بنفس بعقرأة البيان ما يأتي - وهو كيف يعنى البيان هذه العناية بالروايات على قلة جدواها وعلى أن هناك من الموضوعات الأدبية ما هو أجل وأفخم وأعود على القارئ وأنفع وبالجملة ما هو أولى بعناية البيان الذي رصد نفسه للأدب العربي وترقيته - فدفعاً لهذا الهاجس نقول - لو علم صاحب هذا الهاجس أن الروايات الأدبية - الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية والشعرية - كالروايات التي ينشرها البيان هي آخر ما وصل إليه الأدب عند الغربيين وبعبارة أخرى هي الحلقة الأخيرة التي ارتقت إليها آدابهم حتى أن الأديب منهم لا يكون روائياً بالفعل أو بالقوة لا يؤبه به ولا يحفل أو بالحري لا يعد أديباً - ولو علم كذلك أن مثل هذه الروايات إنما وضعها واضعوها لغرض هو أنبل وأسمى مما

يظن بالروايات فهم إنما يقصدون برواياتهم إلى بث فكرة صالحة في الأخلاق أو الاجتماع أو التاريخ أو ما إلى ذلك مما كان من حقه أن تنشأ له المقالات الحافلة أو الأسفار العريضة الطويلة ولكنهم آثروا هذا النوع من القول لما يمتاز به من معاني التشويق والاستهواء حتى يكون ذلك أدعى إلى استكمان ما يقصدون إليه من نفوس القارئين - ولو علم أن أفضل خدمة تقدم إلى هذه اللغة وتزكيها وتنمي ثروتها. وتضاعف بركتها. هو نقل ما تعده الأمم الراقية أنفس آدابها. وأطيب ثمرات ألبابها. نقول لو علم صاحب هذا الهاجس ذلك كله لما لامنا على عناية البيان بمثل هذه الروايات بل ولاستحال لومه تحبيذاً. ونقده مدحاً وتقريضاً. هذا ولقد أخذ علينا نفر من القراء أنا صرفنا وجهتنا في البيان إلى الموضوعات الأدبية وأنا لا نعنى ولو بعض العناية بالمباحث العلمية البحتة حتى يكون البيان لكل قارئ ومغنياً بما يحتويه عما عداه وهذا الرأي فيما نرى حق ووجيه وقد صادف منا موقعاً حسناً ولذلك شرعنا في هذين العددين بترجمة كتاب اسمه جمال الطبيعة للكاتب الإنكليزي اللورد فبري بقلم محمد السباعي بعد أن علمنا أنه من الكتب العلمية الشائقة كما يظهر ذلك من مقدمة الكتاب التي نشرناها في هذين العددين ومن سائر أبوابه التي هذا بيانها: - حياة الحيوان - حياة النباتات - الغابات والحقول - الجبال - المياه - الأنهار - البحيرات - البحر - النجوم والسيارات - وكل باب من هذه الأبواب ينطوي على أبحاث ضافية. وقد رأينا من تمام الفائدة أن ننشر هذا الكتاب بأرقام منفصلة عن أرقام البيان حتى إذا تم كذلك بمعونة الله أمكن القراء أن يفصلوه عن البيان ويجعلوه في جلد وحده - وليس الأمر قاصراً على هذا الكتاب بل قد عزمنا على نشر كتاب آخر من العدد الرابع اسمه النزاع بين العلم والدين وهو من الكتب الجليلة الممتعة وسيكون له شأن بين الناطقين بالضاد وليس ذلك فقط بل قد أحضرنا كثيراً من الكتب والمجلات العلمية الجليلة حتى نقل منها من الفصول والمباحث ما يقع عليه اختيارنا ونراه أعود على عشاق العلم الحقيقيين. وكذلك سنفي بما وعدنا من باب أخبار العلوم والفنون والمخترعات الحديثة وتقويم العالم والحوادث التي تتجدد من حين إلى آخر في سائر الممالك والأقطار وموعدنا العدد القادم إن شاء الله.

وقبل أن نختتم هذا الحديث يجمل بنا أن نبين ما قد يستبهم على بعض القراء من مغزى كلمة (أدب) وما يقصد إليه البيان من نعته نفسه بأنه (مجلة أدبية) وأنه يعنى بالموضوعات الأدبية قبل كل شيء وذلك أن بعض الناس قد يظن أن الأدب هو الكلام البليغ من المنظوم والمنثور ليس غير وليس الأمر كذلك فإنا نعني بالأدب في قولنا (البيان مجلة أدبية) ما يعنيه الغربيون بقولهم (لتراتور) أي العلوم والفنون التي تخاطب القلوب وتناغي الوجدان وتبث روح الفضيلة بين أجزاء النفس وترقى بالإنسان إلى أوج الكمال مثل (الشعر المنظوم منه والمنثور) والتاريخ (الأدبي والديني والسياسي) والأخلاق والاجتماع والتربية وما إلى ذلك من سائر العلوم التي تبين بمقابلتها بالعلوم المادية المحضة كالزراعة والطب والطبيعيات وما يداخل ذلك - هذا هو ما نعنيه بقولنا (أدب) والبيان مجلة أدبية وما نصرف إليه همنا أكثر من غيره في هذه الصحيفة يبد أن ذلك لا يحول بيننا وبين التعرض للمباحث العلمية البحتة التي نراها قد تفيد قراء البيان كما أسلفنا والله وحده هو المعين والموفق والهادي إلى سواء السبيل.

مطبوعات جديدة تطلب من مكتبة البيان

مطبوعات جديدة تطلب من مكتبة البيان 1 - في التربية والتعليم. مجموعة مقالات مفيدة كان قد نشرها الفاضل محمد أفندي أمين في الجريدة الغراء وقد أظهرها مجموعة في جلد واحد مصدرة بمقدمة للأستاذ أحمد بك لطفي السيد مدير الجريدة - وثمنها خمسة غروش وتطلب من مكتبة البيان. 2 - أمثال الشرق والغرب - مجموعة أمثال مأثورة عن مشاهير فلاسفة العرب واليونان والرومان والألمان والإنكليز والفرنسيس والروس والطليان جمعها الفاضل المجتهد يوسف أفندي توما البستاني - ثمنها ثلاثة غروش وتطلب من مكتبة البيان. 3 - كتاب مسك الدفاتر للزارع والتاجر - تأليف سعادة محمود خاطر بك سكرتير ناظر المالية المصرية وقد أقرته نظارته المعارف العمومية ليدرس في مدارس التجارة وثمنه سبعة غروش ويباع في مكتبة البيان. 4 - شرح وظيفة سيدي أحمد زروق المسمى بالفوائد اللطيفة في شرح ألفاظ الوظيفة تأليف سيدي الشيخ أحمد السجاعي وقد التزم طبعه حضرة الفاضل الشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتي - وثمنه خمسة وعشرون مليماً ويطلب من مكتبة البيان. 5 - التصوير الشمسي والزنكوغراف - أوفى كتاب ظهر حديثاً في فن التصوير مزين بثلاثين رسماًو نحن نعد ظهوره دليل تقدم المصري في فهم أهمية الفنون الجميلة ومؤلفه حضرة شكاري أفندي صادق جنير بشكر المصريين جميعاً وثمن الكتاب عشرة غروش ويطلب من مكتبة البيان. 6 - مرآة التاريخ لحضرة الأستاذ الشيخ محمد أحمد حبيب من خريجي مدرسة المعلمين الناصرية ومدرس بالمدرسة الإلهامية وهو يحتوي مقرر السنة الأولى من المدارس الثانوية ويقول الذين طالعوه أنه أوثق كتاب في نوعه جدير بتعويل الطلبة عليه وثمنه ستة غروش ويطلب من مكتبة البيان. 7 - حضارة القيروان وتاريخ الشاعر ابن رشيق بقلم الأستاذ حسن حسني أفندي عبد الوهاب مدرس التاريخ بالكلية الخلدونية بتونس وهو يشتمل خلاصة التمدين الإسلامي بإفريقية وما وصلت إليه القيروان من الحضارة العربية في أوج رقيها وفي آخره ترجمة ابن رشيق شاعر القطر التونسي وأديبها الفذ. 8 - الاكتشافات الجغرافية - أوفى كتاب علمي حديث في هذا الفن وهو أول كتاب في

اللغة العربية لمؤلفه الفاضل محمد أفندي حمدي على مدرس علم الجغرافية في مدارس الحكومة ويحتوي على جميع الاكتشافات التي حصلت من ابتداء القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر وقد أقبل عليه الطلاب لسهولته وفائدته وثمنه ستة غروش ويطلب من مكتبة البيان. 9 - ورده رواية جميلة تمثل أخلاق وعادات المصريين في عهد رعمسيس الثاني وترسم للقارئ نظام حكومتهم وما وصلوا إليه من التقدم في العلوم والمعارف - أبرزها من الآثار القديمة وأوراق البردي الدكتور جورج إيبرس الألماني ونقلها إلى العربية الكاتب المشهور محمد أفندي مسعود أحد كبار الصحفيين في مصر والمحرر الفني بنظارة الداخلية وهي واقعة في جزئين تبلغ صفحاتهما نحواً من 830 صفحة وثمنها عشرة قروش عدا أجرة البريد وهي ثلاثة قروش. أغلاط مطبعية وقع للأسف في هذين العددين من البيان أغلاط مطبعية في مواطن عدة وكان سبب ذلك أن وكلنا تصحيح البيان هذه المرة إلى أحد المصححين لتزاحم الأشغال علينا فحصل ما حصل - فنطلب إلى قرائنا - قبل أن يقرأوا حرفاً واحداً - أن يصححوا هذه الأغلاط حسبما يأتي: صفحةسطرخطأصوابالموضوع الذي فيه الغلط5413ويعد أن فرغوبعد أن فرغحضارة العرب في الأندلس6010أن لا يرجعواأن لا يرجوامستقبل الدولة العثمانية. . 13نظارأنظار==. . 14لقدونيةمقدونية== 7110يامنهيامنّةوصف الناقة7202ذونهادونها== 10912الغدرةالقدرةليالي الشباب11201قائمقائماً==. . . 14صامتصامتة== 11106القضاءالمضاء== 11214ودارسوداس== 11702المستظرفةالمستطرفةنوادر وملح. . . 06وقد كان متعطفاًوقد كان منقطعاً== 12002حيليهماحيلتيهما== 12002يضكانيضحكان==. . . 03مصادّمصادٍ== 12212من زهرمن زهرة==. . . 14قلت بدينارقلت وما أشقر سليم قالت بدينار== 12303ربيعة بن مكرمربيعة بن مكدم== 12406جلالا لهاإجلالاً لها== 00507يهدها الود تهدهيهديها الود تهديهجمال الطبيعة00605مرجع الأسمرجع الأمس== 01012بقامرةبقاصرة==

1221سخينةسخنة== 1416مرّامرّ== 1712زمرا أحدنازمراً وأحدانا==. . . . في سجوَّهفي سجوّه== 1914عماقأعماق== 2002كالسجنلكالسجنجل== 0220الزيدالزند== 0304تخاولتحاول== 086و7مطقاً إنما أريدمطلقاً - أتريد أن تكتم اسمك إنما أريد==. . 24ببرحببرج== 1924مازيارمازيارتي== 2216يحسنيحسنشيد الميلاد2411وإنما هو كاتموإذا هو كأتم== 269و10خافت ثم طلبخافت أنه ورم خفيف ثم طلب== 2710دجاحدجاج== 3701زوزتزوت== 4617بشيربنثير== 4814لثمهاللثمها== ولعل هناك هنات أخرى اقتحمتها العين وقد يفطن إليها القارئ الكريم.

مطبوعات البيان

مطبوعات البيان عربت مكتبة البيان إلى الآن الكتب الآتية: 1 - الأبطال للفيلسوف الكبير توماس كارليل تعريب محمد السباعي وهو يتناول مقالات عدة في صفات البطل كإله ونبي وشاعر وقسيس وكاتب وملك وبحسبه مقالته عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وكل من طالع هذا الكتاب شغف به لبلاغته وقوة حجة المؤلف وقد تناقلت الصحف أغلب موضوعاته سواء في الهند وسوريا ومصر وثمنه عشرة غروش وكل من يأخذ منه عدداً كبيراً يخصم له خصم موافق. 2 - بلاغة الإنكليز - لطائفة من أكبر كتاب الإنكليز كباكون وأديسون وستيل وديفد ولي هنت وهزلت وجونسون وجولد سمث معربة بقلم محمد السباعي وقد نفدت أغلب أجزائه الأولى وهو ثلاثة أجزاء وثمنه عشرة غروش. 3 - الحكمة المشرقية - يحتوي على ثلاثة كتب جليلة حكم فتاحوتب وجولستان أو روضة الورد للشاعر الفارسي سعدي الشيرازي وتربية المرأة في اليابان ترجمة الكاتب محمد لطفي جمعة وثمنه خمسة غروش. 4 - خلاصة اليومية مجموعة خطرات في الأدب والتاريخ والأخلاق والفلسفة للكاتب عباس محمود العقاد وثمنها ثلاثة غروش صاغ. 5 - حديث القمر للشاعر الكاتب مصطفى صادق الرافعي وهو قصيدة نثرية آية في الإبداع وثمنه خمسة غروش. 6 - قصة المدينتين - وهي أفضل رواية للكاتب الإنكليزي القصصي الأشهر شارلز دكنز تمثل عصر الثورة الفرنسية في فرنسا وإنكلترا بأسلوب لذرائع كل ذلك في قالب عربي ساحر بقلم السباعي وقد أقرتها نظارة المعارف العمومية المصرية لتدرس في المدارس الثانوية وهي في ثلاثة أجزاء ظهر منها جزآن ونصف الثالث وباب الاشتراك مفتوح فيها إلى 20 فبراير سنة 1913 وقيمة الاشتراك خمسة عشر قرشاً أما بعد هذا التاريخ فيكون خمسة وعشرين غرشاً وهي تقع في سبعمائة صفحة. 7 - نشيد الميلاد - الرواية الثانية لشارلز دكنز نشرت في مجلة البيان ونشرناها على حدة وقد أعجب بها قراؤها كل الإعجاب وطلبوا إلينا أن نعرب كل روايات دكنز إذا كانت من طراز هذه الرواية ويقول الكثيرون أنها أفضل من عشرين كتاباً في الأخلاق وثمنها ستة

غروش صاغ. 8 - روايات البيان - الحلقة الأولى. مجموعة روايات نشرت في مجلة البيان وأعيد طبعها إجابة لطلب القراء الكثيرين في أمريكا والغرب وسوريا وثمنها ستة غروش. 9 - ليالي الشباب للشاعر عبد الحليم حلمي المصري وهو تحت الطبع الآن ويطلب الاشتراك فيه من مكتبة البيان وثمنه خمسة غروش ويكفي أن يطلع القارئ على ما نشر منه في هذا العدد عنواناً على الكتاب. 10 - جمال الطبيعة - لفيلسوف الإنكليز العصري اللورد أفبري وهو أحسن أسلوب علمي في قالب أدبي بليغ يتناول أبحاثاً شتى في الفلسفة الطبيعية - قيمة الاشتراك فيه ثمانية غروش.

روايات البيان

روايات البيان الرواية الأولى النبأ العجيب في اليوم الرابع من شهر مارس عام 1867 وكنت إذ ذاك في الخامسة والعشرين كتبت في مذكرتي هذه الكلمة - وهي نتيجة اضطراب نفساني وحرب ذهنية: يسير النظام الشمسي وسط عدة من أشباهه وأمثاله في هدوء وسكينة في رحب الفضاء وليس في أجرامه العظام ما هو دائب الدوران في خفوت وصمت فمن بين أضأل هذه الجسوم وأحقرها ذلك المزيج المركب من يابس وماء المسمى الأرض تلك التي ما زالت تجري ولم أكن ولن تزال وقد فنيت - سر دائم لا نعلم من أين جاء ولا أيان يذهب يدب على جلدتها جم عديد من ذرّ دقيق أحدها أنا - جون ميفيتي العاجز الضعيف أركب منها ظهر جماحة هوجاء. هيامة في الفضاء. لا نؤم قصداً ولا تضرب إلى غاية. غير أن نظام الأحوال مع ذلك يقتضي أن كل ما أملك من عقل ضعيف. وعلم نزر لطيف. يصرف في استجلاب أقراص من المعدن أشتري بها من المواد ما أشيد به من أركان جسدي ما لا تزال تهدمه الدهور. وأدعم بها فوق رأسي سقفاً يقيني القر والحرور. لذلك أصبحت وليس لي من عقلي فضلة أنفقها على جلائل ما يحفني من المسائل والأمور. تلك الكلمات كتبتها في مذكرتي فكانت أنمّ شيء على ما رسخ في نفسي من الأفكار التي أبت طارئات الوجدان وسانحات الخاطر أن تؤثر فيها تأثيراً ما وأخيراً قبض الله عمي ميفيلي صاحب ضيعة جلنسارن وكان قد وزع تراثه على أقارب كثر فأصبت ما فيه فضل عن الكفاف وزيادة على الحاجة. وأصبت كذلك أرضاً يباباً جرداء على ساحل البحر شماليّ اسكوتلاندة. أحسب أن الشيخ ما أورثنيها إلا عن احتقار لي وانتقاص مني وكيف ولم تك رملة ملساء. لا شجر ولا ماء. فلعلها كانت من الشيخ مزحة ولكنها مزحة لا تورث السرور وكان رحمه الله كريه المزاح ذميم الدعابة. وكنت حتى ذاك الوقت أكتسب بالمحاماة ببلدة بأوسط أقاليم إنكلترا فرأيت أني قد صرت بحيث يمكنني الانصراف عن كل مقصد حقير إلى التماس أسرار الكائنات من ثنايا العلوم العالية. وأسرع بي إلى ترك تلك البقعة أني كدت أقتل رجلاً في عراك قام بيني وبينه فإني امرؤ ناريّ المزاج جدير أن أنسى إذا

ملكني الغضب ما أوتيت من فرط الأيد والبطش ولم ترفع فيّ إلى القانون شكوى بذلك ولكن الصحافة أغرت بي نباحها. وواصلت صياحها. وجعلت لا أمر بأحد إلا رمقني شزراً. فلعنت البلد وأهلها وشخصت إلى ضيعتي الشمالية أبغي بها دعة وسلاماً وفراغاً أملؤه بالدرس والتأمل. وقد حملت معي إلى ذلك المثوى الجديد نخبة من أحدث الآلات والكتب العلمية إلى ما أحتاجه غير ذلك من المواد الكيماوية. وكانت تلك الأرض التي نزلت مستدقاً طويلاً من الرمل تمتد مع شاطئ خليج مانسي ميلين في مقاطعة كانثيس وكان بهذه الرملة بناء قديم أغبر فأصلحته وجعلت إحدى غرفه معملاً وأخرى مجلساً وثالثة مرقداً وكان به ثلاث غرف غير هذه تركتها خاوية إلا واحدة أعطيتها للعجوز التي تخدمني ولم يكن لي جيران سوى أسرتين من صادة السمك. وكان أمام الدار الخليج ووراءها تلان دونهما تلال أشمّ وأسمى. وبين التلين شعب إذا جاءت الريح من قبل التلال عصفت فيه فكان لها بين حضنيه زفيف ورنة ثم هبت على ما دون نافذتي من الدوح فتناجت الأغصان وسواساً وهمساً. وليعلم القارئ بعد أني رجل أسيء بالناس ظناً. وأضمر لهم ضغناً. مطوي الجوانح لهم على بغضاء. مثني الأضالع على شحناء. والحق أقول أن عندهم لي مثل ما عندي لهم يجزونني بالحقد حقداً. وبالصد صداً. فأنا أمقت منهم التدني والتحاقر. والتسفل والتصاغر. والاصطلاحات الكاذبة والاعتبارات الباطلة ويسوءهم مني صراحتي المتناهية وانتهاكي حرمة قوانينهم الاجتماعية وجزعي من كل ما فيه تضييق على النفس وحبس لعنان الشهوة واستباحتي كل حريم في اعتبارهم واستحلالي كل محظور وانتزاعي كل طوق وصدعي كل قيد وخروجي من كل أمر ونهي. وكذلك أصبحت في معتكفي هذا بين أسفاري وأخلاطي مليئاً أن أدع تيار الحياة الزاخر يمر بي جياشاً بما بحت لجه من سياسة واختراع وقيل وقال راكداً دونه بمثواي ذاك آجناً آسناً. ولكني سعيد بين ذلك رخيّ البالي. بل مالي أقول أني كنت آجناص آسناً وما آليت تحثاً وفحصاً وتحصيلاً وطلباً أديم الجد وأدمن الكد. وكنت أنضو سحابة اليوم في تجاريبي العلمية ويا طالما كنت أٍسهو عن الغداء فإذا دعتني العجوز مادج للشاي ألفيت الطعام على المائدة برمته. وكنت أقرأ بالليل فلسفة باكون ودسكاتيز وشينوزا وكانت وسائر من تطلع في عوالم المجهول. ولقد وجدت أقوالهم جميعاً

مجدبة عقيمة لا ثمرة لها ولا جني. ولا طائل تحتها ولا جدى. وجل بضاعتهم ألفاظ ضخمة وكلم طويلة يذكرك أحدهم طالب الهب يجس في سبيله كبد الأرض ويفضي إلى أعماق ضميرها ابتغاء الجوهر النفيس فلا يخرج إلا دوداً يغرّ به فيقول للناس هاكم ذهباً! وكنت أثناء ذلك يعروني الضيق فأضرب في الفضاء أربعين ميلاً لا أنال أثناءها راحة ولا طعاماً. فإذا كنت فيبعض هذه الروحات أعسف السبل أشعث أغبر هزيلاً غير محلوق اللحية مشوّش الذوائب جرت الأمهات إلى سراة الطريق فاختطفن الصبية خشية مني عليهم وخرج الفلاحون طوائف يرمقونني عجباً وكنت معروفاً في طول تلك البقاع وعرضها بالسيد المجنون صاحب مانسي غير أني قلما كنت أجول تلك الجولات في نواحي الأرياف إنما كانت رياضتي على ساحلي أنعش النفس بالتبغ الأسود وأرشح بيني وبين المحيط أسباب الصلة والألفة. وأي خلّ آنس من البحر الأفيح الخفّاق؟ أي حالة من أحوال النفس لا يوجد لها في طبيعة البحر شكل وشبيه؟ فما من أحد قد رنّح المراح عطفيه. وأوقد السرور عينيه. إلا سامع في زجل موجه المصطفق. وناظر في لمع آذيّه المؤتلق. ما يزيد سروره. ويرفد حبوره. حتى إذا أربد لجه. وأغبر ثبجه واكفهرت حواشيه واقشعرت نواحيه. وانتطحت أوعاله احتراباً. وتزآءرت آساده غضاباً. فناحت فوقها رياح عواصف. وزمجرت لها رعود قواصف. حينئذ يرى المحنق المغتاظ نهب أحزانه وأشجانه. وفريسة أحقاده وأضغانه. الذي أكلت قلبه الإحن. وصهرت كبده المحن. أن بفؤاد الطبيعى لحزناً كالذي بفؤاده. وأن بذهن الطبيعة من سود الخواطر ما يجعل لها مثل ظلمة ذهنه وسواده. وإذا كان في الصحو رأيت الخليج كمرآة القين مصقول الجوانب أو كصرح ممرد من قوارير أو كأنه صحيفة من اللجين إلا هناة على متنه سوداء كأنها خط لام أو امتداد طول مارد جعل صدر المحيط فراشه وكان هذا أعلى الصخور المخوفة المعروفة لدى السماكين بصخور مانسي فإذا هبت الريح شرقية حطمت على تلك الجلامد رؤس الأمواج محدثة أشد من ضجيج الرواعد وأدوى. وتطاير الدفّاع حق لطم جبين داري ونال نواصي التلال المجاورة. وكان الخليج رائع المنظر متين الساحل لكنه عرضة لهبات الشمال والصبا مرهوب لصخور مانسي فكان يتحاماه الكثير من السماكين مهابة واستيحاشاً وكان يرفرف على أرجائه روح شعري

ومعنى غرابة. تجلوهما الوحشة والوحدة وكم يوم من الصحو صافي الأديم طويت غلالته راقداً في زورقي انظر السمك الكبار في ضمير الماء كأنها خيالات الشياطين ولقد سمعت في بعض وقفاتي بالشاطئ وقد سجا الليل صيحة من جوف المحيط فكأنها لحزنها وشجاها جاءت من فؤاد ثاكل ولهى. . في هذه البقعة العجيبة خلفي التلال الأبدية وأمامي الأمواه الأبدية أمضيت عامين بحثاً ودرساً بمعزل عن الناس لا يكدر صفو عيشتي رجل ولا مرأة وكان عندي عجوز خادمة فما زلت آخذها بالسكوت وأروضها على الصمت حتى لكان يمر بها الشهر فالشهر فلا تكاد تحرك بحرف لسانها. وكذلك قضيت أيامي بذاك الديدن حتى كدت أنسى أنني من فصيلة الإنسان وحتى أصبحت إنما أعيش مع من أقرأ كلامهم من الموتى. فإنني لكذلك إذ حدث ما صرف عنان حياتي عن هذه السبيل القفرة والخطة الصامتة. جاء في شهر يونيه ثلاثة أيام ريّحة أعقبها يوم ناعم الأنفاس رقيق الحواشي كان ماؤه أخرس الريح وأجم الهواء. ثم غربت الشمس وراء صف من سحاب صهب وتوشح صدر المحيط قطعاً من الشفق حمراء. وكان ما تركه المد على أديم الساحل من ثغب وغدران يحمر كأنه مجاجات الدم المهراق فكأن مارداً جريحاً قد خاض مكدوداً هذه الأماكن فوسمها بآيات جراحه النجل وطعناته الجوفاء ولما اعتكر الليل وتكاثف الغيهب حشدت بالأفق الشرقي سحاب كانت قبل مفترقة فصارت عارضاً ركاماً يؤذن بالشر والبلاء وفي الساعة التاسعة صعد من البحر أنين ضعيف كأن موجعاً دنفاً أحس معاودة الألم فجزع وارتاع. وفي الساعة الحادية عشرة أعصاراً. فلما نصف الليل كان تحت أرواق الظلام زوبعة كأفظع مامزق أديم الجو وزلزل جوانب الفضاء ثم ذهبت إلى المرقد والبحر يحصب زجاج نوافذي بإجذام عشب الماء والحصا. والريح تعول. في كله هبة روح حائر. ولكني ما درجت في أثناء الفراش حتى عاد ضجيج العناصر في أذني غناء منيما ولا جرم فلقد كنت من شاهقة جدراني في أحرز حرز وأحصن حصن ومعقل يهزأ بصولة الماء وسطوة النكباء على حد سواء. فأما ما ينوب الخلق خارج داري فذاك ما لا أحفل ولا أبالي. ولا يقع في نفسي ولا يخطر ببالي. وكذلك كانت جفوة العجوز مادج وقسوتها. فلما كانت الساعة الثالثة صباحاً ما راعني إلا قرع على بابي شديد متوال نفر عني أسراب الكرى

وصيحات ملء فم العجوز فوثبت من مضجعي وسألتها بغلظة ما الخبر؟ فصاحت: مولاي مولاي! انزل مسرعاً يا رجل أسرع نازلاً! فلقد والله صدمت الصخور مركباً وإن أهله ليندبون ويستغيثون وأخشى أن يغرقوا فاعجل إليهم سيدي بمدد من عندك وادركهم بغياث من لدنك!. اخرسي أيتها الورهاء! لا حياك الله ولا حرسك! ماذا يعنيك لو ينجو القوم أو يهلكون. انقلبي إلى فراشك ودعيني وشأني ثم تغطيت أمتري النوم ثانياً. وأنا أقول لنفسي لقد تجرع هؤلاء الثوم نصف غصص الموت وكابدوا نصف أهواله فإذا هم أنقذوا فإنما هي سنين قلائق ثم يجرعهم الدهر تلك الغصص ويريهم القضاء هذه الأهوال ثانياً. فأما وقد عانوا ارتقاب الموت الذي هو أشد ما في الأمر وأصعبه - وتوقع المكروه آلم من وقوعه - فأولى لهم والله أن يقطعوا بقية هذا المجاز ثم يستريحوا. قلت هذا وشرعت أمتري النوم. ولكني وجدت بسماء نفسي من عاصفات الهواجس أشد مما بسماء الله ذات البروج فجعلت أتقلب وأتململ وقد أنبت الأرق ضوك القتاد تحت جبيني وأوقد السهد جمر الغضا. فنبا الوساد وأقضّ المضجع ثم سمعت ضجيجاً غامضاً بين صياح الزوبعة فعلمت أنه صوت بندقية المستغيث فثرت بدافع من النفس لا مرد لسلطانه فلبست ثيابي وأشعلت متبغي ثم خرجت إلى الشاطئ. وكان الظلام حالكاً وقد عنفت الريح حتى لأصدمها بكتفي وأزحمها بمنكبي وهي تجمش وجهي بحاصبها وقد علق من متبغي بأذيالها الشرر والرماد لمّا يخبو وأوشك. ثم انحدرت إلى حيث الموج العظيم ينهمر هدراً مزمجراً وأظللت ناظري بيدي أتقي طامح الدفاع الملح فنظرت من تحتها إلى اليمّ فلم أكد أستبين شيئاً غير أنه خيل إليَّ أن أصواتاً مهمة وصيحات غير مبينة تأتي من اليم على جناح الريح. ثم شب نور أزرق أضاء الخليج والساحل. وكانوا يوقدون بالمركب ضوءاً آية على الخطر فنظرت فإذا السفينة مقلوبة بين الصخور على جنبها حتى لأبصرت كل ما بها من الألواح. وكانت كبيرة ذات شراعين أجنبية تنزل من الشاطئ على مائتي ذراع أو نحوها. ووراء السفينة كانت الأمواج تواتر من كبد الظلماء جياشة دافقة لا تستريح ولا تنتهي على أعرافها خصل بيض من الزبد وكلما دنت من الأضواء الزرق موجة خلتها تزداد قوة وحجماً وبطشاً وجمحاً ودفعة

وانصلاتاً وطمحاً. ولها أثناء ذلك صرير وزئير. وشقشقة وهدير. ثم تثب على فريستها. ورأيت عشرة أو اثني عشر ملاحاً قد ملكهم الروع فلاذوا بالشراع حتى إذا النور من مركبهم إذا عني لووا إليّ السوالف استشرافاً. ومدوا الأبصار استعطافاً. وأتلعوا الأجيادا تشوّفاً. ثم أعقب ذلك في نفسي شعور آخر وهو مقتي منهم ذلك الجبن وإنكاري ذلك الجزع والهلاع - كيف يحجمون عن تلك العقبة التي ما برح يجتازها من خلق الله كل ذي بهاء وجمال. وشرف وجلال. وكان بينهم رجل أعجبت بجلده وثباته. وهو طوال سبط القوام قد قام بمعزل عن القوم يقيم أود قامته ويعدل ميزان جسمه على ذاك المركب المترجح المتمايل كأنما يترفع عن التشبث بالحبال أنفة وكبرياء وكانت يداه معقودتين وراء ظهره ورأسه على صدره منكساً بيد أنه كان يلمح في وقفته هذه الدالة على الأسى معنى من الشمم والعزة والعزم والقوة يدل على أنه ليس ممن يخلد إلى اليأس ويذل للخطوب. أجل لقد علمت من سرعة كرّه الطرف أحياناً وبثه اللحظات حوليه أنه يتلمس مسارب النجاة في مجاهل هذا الخطر المحدق. ومنافذ الحياة في حجب ذلك الحمام المغلق. وبوارق الرجاء في دجنات ذلك اليأس المطبق. وإنه وإن أكثر رجع البصر إلى حيث يرى من دون مزبدات اليّم شخصي على الساحل قائماً فلقد كان والله في إبائه ما منعه أن يستغيثني بأية صورة. ولكنما بقي ثابتاً مكانه صامتاً مظلماً مستبهماً مطرقاً إلى اليمّ صابراً متجملاً يرقب من المقدور كلما جاء به. وهنا آذن المشكل أن يحل نفسه. فبينا أنا كذلك إذا موجة عظمى تشرف على سائر الموج وتحدو به حداء السائق بالقطيع فغمرت المركب فانحطم شراعه الأمامي وطاح من كان متمسكاً به كما طاح الجراد زهته ريح طاغية. ثم أخذ المركب ينصدع شطرين حيث متون الصخور تحز في مؤخره. فهرع الرجل الطوال المنفرد فاجتاز عرض المركب إلى شيء أبيض فأمسكه وكنت قد رأيت ذلك الشيء من قبل ولم أستبن ما هو؟ فلما رفعه أصابه الضوء فإذا امرأة قد وشحت جلدة مما يتقى به الغرق فحملها إلى جانب السفينة وخلته يحدثها دقيقة أو نحوها كأنما يبين لها استحالة بقائها بالمركب. فكان جوابها من أعجب ما رأيت. وذلك أنها رفعت كفها متعمدة فلطمته على وجهه. فأسكتته اللطمة ولكنه عاود القول ورأيت من حركات يديه أنه يريها ماذا يجب عليها أن تفعل إذا احتواها الماء فانزوت عنه

ولكنه أمسكها بين ذراعيه ورأيته يحنو عليها كأنه يقبل جبينها فإنهما لعلى هذا إذا بموجة عظيمة تقبل حتى صافحت عطف المركب فتقدم الرجل فوضع المرأة على غارب الموجة مترفقاً كما تستودع الأم الرؤم المهد طفلها. ورأيت حلتها البيضاء ترفل على بيضاء الزبد ثم أقبل الضوء يتطامن إلى أن غابت الشفينة وراكبها الفرد في ملحود من اليتم. فلما رأيت هذه الأحوال تغلبت على فلسفتي عواطفي ودفعني إلى العمل دافع لا يرد فنضوت عني جمودي نضو الثوب يخلعه صاحبه حين يشاء ثم يلبسه بعد ذلك متى شاء وأسرعت إلى قاربي وكان ضعيفاً كليلاً واهياً ولكن هل مانعي من الفعل الجميل والعمل الجليل ذلك؟ وهل كنت وأنا الذي طالما حن إلى الموت واشتاق القبر لأخاف الهول أو أخشى الخطر؟ فعمدت إلى قاربي فجررته إلى الماء بقوة ذي جنة ووثبت فيه وفي الدقيقة الأولى خامرني الشك أفي طاقة القارب البقاء على ذلك اللج الثائر يغلي فوقه الزبد أم ليس في طاقته؟ ولكنها لم تك إلا بضع تجذيفات حتى خرجت من تلك الغمرة قد نصف الماء قاربي وأنه برغم ذلك لطاف تخفضه لجة وترفعه لجة يعلو من هذه رأس هضبة شماء، وينزل من تلك قعر حفرة وهداء وتارة. إذا ما انكفى في هبوة الماء خلته ... تلفع في أثناء برد محبر وكنت أسمع من ورائي مسافة ولولة عجوزي مادج التي عدتني مع الموتى وما زلت أزجي الزورق في مهمه من الماء خوّار الجانبين منهال الجالين إلى أن حبتني إحدى الأمواج المرأة البيضاء فأشرفت فاحتملتها إلى قاربي وإنها لتكف بالماء وما كان بي إلى تزجية الزورق نحو الساحل حاجة إذ أقبلت إذ ذاك موجة فأهدته إلى البر في طفرة فوضعت القارب بمأمن ثم حملت المرأة إلى داري خلفي العجوز تزف أحسن التهنئة وأجزل الثناء. وكنت إذا أحمل المرأة أسمع لفؤادها نبضاً فاتراً فعلمت أنها حية ثم ذكرت أنها ستكون في عيني منظراً غير محبوب (وكنت أبغض الناس طراً ولا أطيق رؤيتهم) وكانت العجوز قد أوقدت ناراً فطرحت المرأة قربها وكأني لقلة الرحمة أطرح حملاً من الحطب ولم ألتفت قط نحوها لأرى جميلة هي أم قبيحة وكيف أنا من قبض طرفه دون النساء منذ أعوام غير أني بعد ما ذهبت إلى المرقد واحتواني الفراش سمعت العجوز تتمثل وهي تدلك أوصالها قائلة: إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان

فعلمت أن المرأة فتية السنّ حسناء. وأسفر الصبح غب هذه الزوبعة مؤتلق الغرة وضاح الجبين فخرجت أسير والشاطئ وكان قلب البحر يخفق وموجه يصارع الجلاميد ويجالدها ونظرت أطلب للقارب أثراً فلم أجد ولكنني رأيت طائرين من بنات الماء ترفرفان على مهلك السفينة كأنما تبصران تحت جلدة الماء ما غاب عن سائر الأبصار وطوراً تتصايحان كأنما تتحادثان عما تريان. ولما عدت من جولتي رأيت المرأة بالباب فما وقعت عيني عليها حتى وددت أني لم أنجها إذ بوجودها في منزلي انقضى عهد عزلتي وانقرض ملك خلوتي وكانت حديثة غضة السن - لا تجاوز التاسعة عشرة شديدة بياض الوجه صهباء الضفائر زرقاء العينين ملتهبة الألحاظ دريّة الثغر وضاحة الثنايا. وكانت لفرط رقتها وبياضها وضيائها يخيل إليك أنه شبح لا جسد وأنها طيف الخيال لذاك الزبد الأبيض الذي منه أخذتها فلما دنوت منها أومأت إليّ بيديها إيماءة الطفل الصغير كأنها تشكر إليّ نعمتي عليها. وكانت قد لبست حللاً من ثياب العجوز لكن على صورة عجيبة مستغربة تسر الناظرين. ثم دنت مني فمدت يديها كما يفعل الطفل تقصد بذلك الشكر لي ولكنني أومأت لها أن تبعد عني فبعدت ومضيت قدماً. عند ذلك صاحت كالمتوجعة واغرورقت عيناها ولكنها تلت أثري حتى دخلت معي غرفة الجلوس وأخذت ترقبني متأملة. وسألتها فجأة من أي البلاد المرأة؟ فتبسمت صامتة وهزّت رأسها. قلت: إفرنسية أم نمساوية أو أندلسية أم ماذا؟ فلم ترد على أن هزت رأسها ثم رطنت طويلاً بلسان لم أفقه منه حرفاً واحداً. ولما فرغت من الإفطار وفقني الله إلى معرفة جنسها وذلك أني بينما أعيد الكرة على الساحل نظرت بالصخور التي انحطمت عليها السفينة خشبة قد نشبت في بعض ثلمها فامتطيت الزورق نحوها ثم عدت بها إلى الشاطئ فإذا مكتوب عليها بحروف بديعة غريبة أرشانجيل فقلت في نفسي وأنا عائد إلى الدار وهكذا هذه الغادة البيضاء روسية خليقة أن تكن من رعايا القيصر الأبيض وسكان البحر الأبيض! ثم عجبت أن من كان مثلها رقة ونعمة يذرع أجواز المحيط ويطوي مراحل الماء في ذلك الوعاء الواهي الضئيل ولما

دخلت الدار نطقت أمامها بكلمة أرشانجيل على عدة صور من اللفظ فلم تفقه له معنى. وبقيت في خلوتي بين البحث والدرس حتى الظهيرة فلما قمت للغذاء ألفيتها عند المائدة تخيط خروقاً في ثيابها وكانت جفت فساءني حضورها ولكني ما كنت لأردها إلى الساحل القفر الموحش تموت فريسة الجوع والبرد ثم أنها نظرت إليّ فأومأت أولاً نحو مهلك السفينة من اليم ثم إلى شخصها ثم رفعت إصبعاً واحدة فعلمت أنها تسألني ألم ينج من الغرق غيرها فأومأت لها برأسي نعم عند ذلك وثبت من الكرسي وأرسلت صيحة جذل ثم رفعت ما كانت تخيط فوق رأسها وانبرت وهي ترجح الثوب من جهة إلى أخرى ترقص كأنما هي ريشة في مهب الريح تجوب أنحاء الغرفة ثم خرجت إلى الضح تراقص الشعاع بأقلق من الشعاع وأمرح وجعلت وهي ترقص تشدو بلحن فيه حزن ورقة ينم على فرط السرور والطرب فناديتها ويلك أيتها الشيطانية ادخلي وكفى! ولكنها أبت إلا تماديا ثم أنها هرعت إلي بغتة واختطفت يدي وإني لعلى غرة فأوسعتها لئماً ولما كنا على الخوان بصرت بقلم فتناولته وكتبت على ورقة سوفي راموسني ثم أومأت إلى شخصها كما لو كانت تقول هذا اسمي وردت إلى القلم وهي تحسب أني سأصنع صنيعها ولكني أغمدته في جيبي آية على أني لا أريد أن تمتد بيني وبينها صلة من حديث أو غيره. وجعلت بعد ذلك لا آلو أسفاً على ما أتيت من الخطأ المبين بإنقاذي تلك المرأة ومالي ومالها وأين تقع مني أو أقع منها وماذا عليَّ أن تموت أو تبقى؟ وما أنا والله بالفتى الغزل ذي الصبوة فآتي مثل هاتيك الفعال أو لم يكفني وجود العجوز في بيتي حتى أشفعها بهذه المرأة بيد أن العجوز هرمة شمطاء. سمجة شوهاء. لا أربة فيها لشهوان. ولا معشق لولهان. وهذه حديثة ناعمة صاغها الله من طينة الحسن ومائه. وصقلها بسنا الجمال ولألائه. وجعلها ملهى عن الجد ومشغلة عن العمل فأين أرسلها وماذا أصنع بها؟ وأما لو استعنت رجال الشرطة لأقبلوا عليَّ بجمعهم ينظرون في أوراقي ويفحصون أشيائي ويملأون فراغ الدار لغطاً وهذراً وما أبشع والله ذاك وما أشده. ولأهون عليَّ منه احتمال المرأة. وليت هذا كان آخر البلية فلم يردفها النحس بأخرى. ويا الله ما أغرى هذا الخلق بهارب منهم وما الهجهم بعارف عنهم وما أملأ كل بقعة بهذا الناس الذي منه أفرّ وعنه أذهب فلما أرنقت شمس الأصيل ونفضت على أكناف الرمل ورسا علا صفرته بصفرة وأشعلت

جنبات البحر ناراً خرجت أسعى على الساحل في يدي كتابي حتى أتيت دعصاً من الرمل فافترشته وأخذت أقرأ فإني لكذلك إذ لاح ظل حال بيني وبين الشفق فالتفت فإذا رجل طوال شديد الأسر مدمج المفاصل قد وقف لا يشعر بي وإنما يتوجه بجمعه إلى الخليج يرعى الصخور الناتئة بصدر الماء كاسف البال واجما وكان أسمر اللون أسود الشعر قصير القامة كث اللحية أشمّ المعطس مرعث الأذنين على محياه سيما البداوة الهمجية وملامح الشرف والنبل. وكان عليه قطيفة زرقاء وقميص أحمر ونعلان تضربان إلى شطري فخذيه فعرفت في الحال أنه الرجل الذي رأيته أمس على ظهر القارب الغريق. فصحت بصوت ملؤه الكمد يا هذا أو قد نجاك الله ووطئت الشاطيء مسلماً؟. فقال بالانكليزية نعم غير أني ما حاولت أن أنجو ولا كان ذاك من صنعي. ولكنها الأمواج رمت بي الساحل. فيا ليتها ما صنعت ويا ليتني. ولوددت والذي خلقك لو أن المحيط غيبني في جوفه وكتمني في ضميره! وكان يرتضخ لكنة أجنبية فيها لذة للأذن وحلاوة في النفس وقال لقد انتاشني رجلان من صادة الأسماك ينزلان تلك الناحية فعنيا بي بيد أني لا أكاد أشكرهما على ذلك. . قلت يا سبحان الله! هذا رجل من فصيلتك وقبيلتك. ولماذا آثرت الغرق على النجاة يا هذا؟. فقال ومد ذراعيه بهيئة الواجد الملتاع اليائس لأني فقدت هنالك كنزي الثمين وعلقي النفيس. هنالك حيث اليمّ ضاحك الثغر وضّاء الجبين تثوى منية النفس وقوت الفؤاد منه في حشا خائن غدّار. لا رعى عنده لحرمة ولا جوار. ولا ذمة ولا ذمار. قلت له ما برح الناس يفقدون الأهل والخلان فلا يصنعون صنعك وما في ذاك من ثمرة. فهوّن عليك ولا تذهبن نفسك شعاعاً. ولتعلم بعد أن ما تطأه الآن من أرضى وأسرع ما تكون مضياً من هنا أدناك إلى السلامة وأولى لك. ففي واحدة منكما كفاية. فصاح واحدة منا؟. قلت أجل إن استطعت أن تريحني منها فافعل أعدها منك منة غراء. فنظر إلى هنيهة كأنه لا يفهم مرادي ثم صاح صيحة شديدة وانطلق يعدو والريح في أعقابه حسرى كليلة يؤم منزلي فلا والله ما رأت عيني منذ خلقني الله رجلاً يغدو عدوه واندفعت

في أثره مغضباً لهجومه علي مثواي واستباحته حمى حراماً ما وطئته قط قدم غريبة فلم أشق له غباراً. ورأيته بعيني يلج الباب وكان مفتوحا ثم سمعت صرخة ولما دنوت صافح أذني صوت رجل حثيث اللسان مخفوض القول ثم دخلت الدار فإذا الغادة سوفي راموسيني جاثية في زاوية من المكان منقبضة من الرعب قد التقى على صحيفة وجهها صورة البغض بسيما الغضب وإذا الرجل وعيناه مشبوبتان تضطرمان. وذراعاه ممدودتان ترعشان. يهضب لسانه بألفاظ الاستعطاف هضبا. وتسكب شفتاه كلم الاستغفار سكباً. فلما رآني دخلت دنا منها خطوة فتقهقرت خطوات وصاحت صيحة الشاة ساورها الذئب. فجذبته إليّ عنها قائلاً مهلا! ماذا تفعل وماذا تريد؟ أحسبت هذا قارعة الطريق أم نزلا أم حانة؟. عفواً سيدي وغفرانا. هذه المرأة زوجي وكنت أخالها غرقت. مولاي أثابك الله فقد رددت علي نفسي. فقلت في غلطة ومن أنت؟. قال رجل من أرشانجيل. رجل روسي. قلت له ما اسمك؟ قال أورجانيف. قلت أورجانيف. وهذه سوفي راموسيني. ما هي زوجتك. أما معها خاتم منك؟. قال ونظر إلى السماء نحن زوج وزوجة بشهادة الله ذي العزة والجلال ما زوجنا قيس ولا شهد عقدنا مطران. بل زوجتنا العناية الأزلية بمشهد من الملائكة الأبرار. وبينما هو يتكلم طفرت الفتاة حتى صارت خلفي وشدت يديها على يدي تضغطها كالمستغيثة. وقال الرجل ماضيا في قوله أعطني زوجتي يا مولاي كي أحملها إلى موطني قلت له بشدة التفت يا هذا! أنا لا يهنأني بقاء هذه الفتاة عندي وإني والله فيها لزاهد ولو وددت أني ما نظرتها قط ولو أنها هلكت ليلة العاصفة ما ساءني. فأما إعطاؤك إياها مع ما أرى من بغضها إياك وخوفها منك فهذا ما لست فاعلا أبد الدهر فامنحنا هداك الله كتفيك ودعني وشأني. ولعلك لا تريني وجهك هذا قط فقال بصوت أبحّ أولست معطيني الغادة؟.

لا أفعل ذلك حتى أراك ميتاً. قال وأربد وجهه هبني أخذتها برغمك. عند ذلك احتدم الدم في عروقي وفار تنّور غيظي فاختطفت عصا من جانب المصلى ثم قلت بصوت شديد منخفض امض من هنا مسرعا وإلا صببتها على أم رأسك. فنظر إليّ خائر العزيمة هنيهة ثم ترك الدار وعاد بعد لحظة فوقف بالباب يرمقنا ثم قال انظر ماذا تصنع وأعلم أن الغادة غادتي ولا بد لي منها. ولعله إذا بلغ الأمر المقارعة كان الروسي كفء الانكليزي. فصمت قائلا سنرى! ثم وثبت ولكنه مضى ونظرت شخصه الطويل ينغل في حشا الظلماء. وسلس عنان الدهر لي ولان جانبه مدة شهر أو زهاءه إذ اطرّد بنا نهر الحياة وانسجم مجراه فلا عثرة ولا عقبة ولا كدر ولا قذى وكانت الغادة ربما ولجت عليّ باب معملي أثناء شغلي فجلست عنده ترنو إليَّ بنجلاويها فأضجرني في أول الأمر ذلك حتى إذا لم أرَ منها أدنى ما يشوش عليّ أو يلهبني اتسع لها فناء صدري. وانفسح لها نطاق صبري. وشجعها ذلك فانبسطت واستأنست وجعلت تدنو على توالي الأيام مني رويداً رويداً حتى آل بها الأمر إلى الجلوس بجانبي ما زاولت العمل ثم جعلت في مقامها الجديد هذا تؤدي إليّ وهي كأصمت ما تكون جملة منافع كأما كها أقلامي وقواريري وأنابيبي ومناولتي كل ما أبتغيه في أتم نشاط وخفة. وكذلك بفضل إنكاري آدميتها وعديها آلة من الآلات الصامتة آل بي الأمر إلى أن صرت أفقدها إذا هي غابت واجدا لها نوعاً من الوحشة. وليعلم القاريء أن من عادتي إذا كنت في عملي أن أكلم نفسي جهاراً أستعين بها على تثبيت نتائجي في ذهني فلعل الفتاة كانت قوية الحافظة قفلة لأنها كانت تعيد ما تسمع مني من الألفاظ دون أن تعرف ولا مشاحة شيئاً من معانيها وطالما ألهاني منها أمطارها العجوز صوبا من المعادلات الكيماوية والرموز الجبرية وضحكها من العجوز إذ تهز رأسها وكأنما ترى لفظ الفتاة شتما موجهاً لها بالروسية. وكانت إذا خرجت من باب البيت لم تتجاوز أذرعاً قلائل ولا تعدو عتبة الدار إلا وقد أشرفت من كل نافذة لتتثبت من خلو الجوار فدلني فعلها ذاك على أنها تتوجس أن يكون

الرجل الطويل لا يزال كامناً لها في بعض تلك الجهات وتخشى أن يختلس غرتها فيحتملها ويذهب. ومن عجيب ما صنعت أنها كانت عثرت على مسدس لي كنت قد فقدته فأقبلت عليه تمسحه وتجلوه وتزينه وعلقته قرب الباب إلى جانبه جعبة ملئت بندقا. فكلما رأتني خاجا ألحت عليَّ أن آخذه. وكانت لا تزال تغلق الباب أثناء غيابي وكانت لولا خوفها باهنأ عيش وأغبط حال قد قسمت مجهودها بيني وبين العجوز أن لم تعني ساعدتها وكانت تنجّز أعمال البيت بفطنة أسرع من اللمح وراحة أخف من الريح. ولم يمض إلا قليل حتى وجدت لها في تخوفها عذرا. وأن هذا الرجل الغريب ما زال يكمن في جوار الدار. وذلك أني أرقت ذات ليلة فقمت إلى النافذة أشرف منها على أفنية البيت وكان الجو مضباً فلم أكد أبصر سوى حافة البحر ومؤخر قاربي على شاطئه. حتى إذا اعتاد طرفي الظلمة آنست بالرمل شبحاً آخر حيال بابي ولم أك رأيته بالأمس وبينما أطل من النافذة أنعم النظر لأستبين ماذا كان ذلك الشبح انحسرت عن صفحة القمر سحابة عظيمة وتساقط النور أبيض صافياً غضّاً رطيباً على أديم الماء الساكن الأرجاء الصامت النواحي وعلى سواحل القفرة الموحشة. وحينئذ علمت من ذاك الكامن عند بابي وهل كان إلا الروسي؟ لقد كان قاعداً كأنه ضفدع جسيم. قد عقد رجليه تحته جلسة المغولي وعقد طرفه بالنافذة التي قام دونها الفتاة والعجوز وكان نور القمر يهبط على وجهه فرأيت مرة أخرى شرف تلك الصورة ونبل هذه الخلقة ورأيت ناظري الصقر يلتهبان فوق عرنين أشمّ ورأيت غضن الهم محفوراً في أديم ذاك الجبين الأغرّ فقلت في نفسي يا لك من أحمق عاجز الرأي! أفبعد أن رأيتك تلاقي الموت وجهاً لوجه أسكن ما تكون أوصالاً. وأهدأ ما تكون بالاً. أراك قد سبت حجاك. وسلبت نهاك. فتاة شختة عجفاء. نحيلة صفراء. تفرّ منك فرار الصحيحة من الجرباء. ضلة لك ما أحيدك عن السداد. وأبعدك من الرشاد. لقد كان لك لو شئت مندوحة عن هذه المهزولة في ذوات البيوتات والأحساب ممن هن أعرق نسباً. وأبرع أدباً. وأرشق قدّاً. وأقرب ودّاً. وأبهى جمالاً. وأسبى دلالاً. ولكنك تأبى إلا هياماً بتلك الصبية ولجاجاً. وتمادياً في حبها وإلهاجاً. وهي لا تجزيك إلا الصد. ولا تهديك غير سوء الرد. كلما دنوت منها إصبعاً ندّت عنك ميلا. أو وصلتها لحظة هجرتك دهراً طويلاً. ثم عدت إلى مضجعي وأنا أضحك سخراً من أمر هذا السفيه. ولم أخشه وكيف وقد كنت

من جدران بيتي وأبوابه بأمنع معقل وأحرز حصن فسواء عليّ قضى ذلك الرجل ليلته على عتبة داري أو ببلاد الصين ما دام سيذهب مع الظلماء. وقد كان ذلك فلما خرجت الغداة إلى ذرا بيتي لم أجد له أثراً. ولم يمض إلا قليل حتى رأيته ثانياً وذلك أني ركبت اليمّ مرة وكان بي دوار سببه أولاً إدامة الأكباب على الورق وثانياً شمي عقاقير خبيثة الرائحة يفغم ذفرها الخياشم فزجيت الزورق على الشاطئ بضعة أميال ثم أصابتني غلة فحسبت مطية الماء عند مصب جدول ونزلت إلى الساحل لأرد وكان ذلك الجدول يشتق أرضي ولكن مصبه في أرض أخرى. فوردت حتى إذا هممت أن أصدر وجدتني أمام الروسي وجهاً لوجه وقد استبحت من حماه مثل ما استباح سالفاً من حماي فعراني الخجل وقطن إليها، قال لي في وقار وجد عندي لك حديث قصير. فقلت ونظرت إلى ساعتي إذن فلتسرع فليس في وقتي للهراء مجال. فقال مغضباً الهراء! ما أعجب أحوالكم معشر الاسكوتلانديين إن لكم لظواهر فظة تحتها قلوب رقيقة. وأنت من القوم ففيك ولا شك مع هذه القسوة والشدة لين وهوادة. قلت باسم الشيطان إلا ما قلت قولك وخليتني وشأني فلقد والله سئمت رؤيتك فصاح قائلاً أوقد أبى الله أن ألين من قلبك القاسي وأذيب من حصاة فؤادك أنظر ثم استخرج من جيبه صليباً هذا. إنهُ ربما خالفت ملتك عقيدتي. وباين مذهبك نحلتي. ولكنه يجمعنا عواطف وآراء مشتركة إذا نظرنا هذا. فأجبته لست من قولك على ثقة. فنظر إليك متفكرا ثم قال ما أعجب والله شأنك وأني لي بأن أفهمك فأنت لا تزال حائلاً بيني وبين سوفي فاعلم يا رعاك الله أنك لتحرجن موقفك ولتخطرن دمك فانتبه إلى ذاك قبل أن يتفاقم الخطب ويبلغ السيل الزبى. ومن لي يبلغك ماذا خضت في سبيل تلك الغادة من الهول وماذا ركبت من أجلها من الخطر أشق غمار البحار. وأجوب. أقطار القفار، وأقذف فحمة الليل بجمرة النهار. معرضاً في خلال ذلك جسمي للدمار ونفسي للبوار. فأين أنت مما قد اجتزت من العقبات. وخضت من القحم والهلكات يا من لو شئت سللت روحه على ظبة مديتي. واختلست حياته على غرار صفيحتي. ولكن أبى لي الله والتقي أن أفعل

ذلك!. أولى لك أن تعود إلى موطنك من أن تكمن بهذا الساحل لتكدر صفائي. حتى إذا تثبت من ذهابك أسلمت الفتاة إلى دار السفارة الروسية. فأما قبل ذلك فإنا جار الفتاة منك وملاذها وموئلها أقيها المكروه بطارفي وتلادي ولا أدخر سبيل صونها نفسي. وليس في قدرتك ولو عزز جانبك ألف من أهل جلدتك أن تغلبني عليها قال وماذا تريد بمنعها مني؟ أفتحسب أني كنت نائلها قط بأذى. أصلحك الله إني ما بخلت بروحي في سبيل وقايتها. فماذا فعلك هذا؟. قلت هو حق المستجير على جاره. قال وتأجج الغضب في نظراته ودلف إلى مشعانّ الرأس ممدود الذراعين مقبوض اليدين وأما وربك لو أنه رابني منك في شأنها ربية وإنك تضمن بها لأمر غير صالح إذاً والله قلبك من حشاك بأظفاري وكأن مجرد توهمه ذلك الوهم قد أطار عقله حتى انقلبت سحنته وراحت كفاه بين قبض وبسط راجفتين تجفان. فخلت والله أنه سيأخذ بكظمي. لذلك صحت به مكانك وقلت ويدي على المسدس مسني بإصبع منك أفرق بين روحك وجسدك!. فوضع يده في جيبه هنيهة فحسبت أن يستخرج سلاحاً ولكنه ما لبث أن أخرجها بيضاء من غير سوء اللهم إلا من تبغة أشعلها وأقبل يشرب أنفاسها ولعله كان يرى هذه خير كابح لجماح شره. وقال بصوت أرق ولهجة ألين لقد خبرتك أن اسمي أوجانيف وإني من أهل فنلاندة ولكني وزعت عمري بين أنحاء الأرض طراً. ولقد خلقني الله قلقاً متوقداً لوذعياً يكاد يسرب في الخرت وينغل في مجاري السموم لا طاقة لي بالسكون ولا قدرة لي على الدعة بنفس متفشية لا يكاد يسعها عرض الفضاء. وتكاد تضيق بها رقعة الأرض وأديم السماء. ليس يخلى مني مكان مكانا ... أنا شيء خصوصه كالعموم أنا طيف الخيال يطرق أهل ال ... أرض من بين ظاعن ومقيم فلما ورثت مركب أبي لم أدع مرفأ ما بين أرشانجيل وأستراليا إلا وقد طرقته. وكان لي على غلطتي وخشونتي وجفاء طبعي مهجة لا تزال تحن إلى حبيبة لي بديار قومي وكبد

إليها نزاعة فلما كنت في بعض أسفاري ازدلف إليها غلام مصقول العارضين أمرد ناعم البنان معسول اللسان. طين بما يستهوى قلوب الغانيات. ويطبي أهواء الفتيات. من حلو الكلم ولطيف الإشارات. فسلبني هذا الغلام بحيلته ودهائه الغادة التي ألقيت عندها مراسي الأمل ونطت بها أسباب الهوى والتي أرعيتها بارض الحب وأمطرتها وسمى المدامع. والتي لم تك لتضن عليّ بالحب أو تجزيني بالود كرهاً. فلما أبت من رحلتي خبرت غادتي وفلذة كبدي ستتزوج من ذاك الغلام الغض الأهاب. البض الشباب. وأن الزوج قد ذهبا إلى الكنيسة. ولتعلم يا سيدي أني في حال كهذه يذهب رشدي فآنى من الأمر ما لا أكاد أعرف أقول فلما بلغني ذلك النبأ نزلت الشاطيء بالنوتية وكانوا رهطاً أولى بأس ونجدة كلهم كالحسام عضب المضارب ماضي الغرارين لم يؤت من نبوة ولا كلال فعمدنا إلى الكنيسة فدخلناها وإذا الزوج واقفان حيال المطران قد كاد يعقد لهما ولما يفعل. فاندفعت بينهما فطوقتها ذراعي وأثخن رجالي الضرب في الفتى وسائر القوم واحتملتها حتى أتيت ورهطي المركب فأقلعنا بها نمخر العباب إلى أن رأينا ذوائب المنار تذوب في قصوى الفضاء. وبوأت الغادة غرفتي وخولتها أسباب الراحة طراً وأخذت مضجعي بين النوتية وأنا أرجو أن يلين الله يوماً ما عليَّ قلبها ويجذب إليَّ عطفها. ويمنحني عطفها. فترضى أن أعقد عليها في فرنسا أو ألمانيا مثلاً وكذلك ما برحت تتقاذفنا البحار. وتتهادانا الغمار. وتطوح بنا كفّ التيار، حتى رأينا الرأس الشمالي يموت على مهاد الأفق وتلحد له الأمواج في ضميرها جدثاً. ثم تقصينا ساحل النرويج وهي لا تزال مصرة على الصد لاجة في النفور لا تغفر لي تفر بقي بينها وبين عاشقها وأخيراً رمانا الله بتلك العاصفة التي ألوت بمركبي وآمالي وحرمتني حتى النظر إلى الغادة التي ركبت في حبها من الهول ما ركبت. فعسى الله ينزل على قلبها بعد كل ذلك حبي ويلهمها رقة لي ورحمة. ثم رنا إليَّ طويلاً وقال وإني يا سيدي أتوسم فيك أخاً حنكة وابن تجارب قد حلب أشطر الدهر وأطال على الأمور توقافاً. أفليس في فراسنك أنها ربما نسيت بي حبيبها ذاك واجدة فيَّ بدلاً؟. قلت وزويت عنه وجهي قد والله سئمت حديثك. فأما إذ سألتني رأيي فرأيي أنك معتوه أحمق. وإنك إن كنت تؤنس من نفسك أن حبك هذا خطب لا يلبث أن يهون ومصاب لا ينشب أن يخف فيزول فعلل نفسك حتى يكون ذلك بكل ما استطعت فأما إن كان داء عياء

وضربة لازب فليس أجمل والله بك من أن تنتحر فتستريح. ما قضى الله للجهول بستر ... يتلافاه مثل حتف قاض وهذا ما عندي والسلام. ثم هرعت إلى زورقي فركبته لا ألتفت إلى الرجل غير أني ما لبثت أن سمعته يقول لقد حدثتك بادئة نبأي فأما الخاتمة فلسوف تعلمنها يوماً ما. فلم أجبه وإنما زجيت القارب والتفت بعد برهة فإذا هو ما زال واقفاً على الشاطىء يتبعني نظرة ولهى طويلة. ثم التفت ثانية فإذا هو قد مضى. واطمأن جانب العيش لي بعد هذا الحادث وركدت نواحيه فلا عثرة ولا عقبة. وجعلت آمل أن يكون الرجل قد رحل عن جواري فيدلني على كذب آمالي آثار أقدامه في الرمل ولا سيما كثيب من رماد التبغ على كثيب قبالة النوافذ من غرفة الفتاة فعلمت أن الرجل ما برح لنا كامناً. وبقيت منزلة الفتاة مني على عهدها لم تقربها زلفي ولم يقصها جفاء. وكانت العجوز في باديء الأمر قد نالها شيء من الغيرة مخافة أن تغصبها الفتاة بعض نفوذها البيتي حتى إذا رأت إعراضي عن الغادة وانقباضي زالت عنها الوحشة وعلودها الأنس والراحة ووجدت في بقاء الفتاة ربحاً لا خسارة إذ أصبحت لها عوناً على عملها وظهيراً. وها قد أشرفت على نهاية هذا القصص الذي ما كنت لولا لذة أجدها في تدويني لأدونهُ. وكانت خاتمة هذين البشرين من الفجاءة والعجب كالفاتحة وإنما هو حادث ليلة فذة خلصني من شرهما وأطلقني من أذاهما وأفردني بأسفاري ومباحثي مثلما كنت قبل طروئهما. وهاك بيان الحديث. خرجت إلى الشاطيء ذات مساء نضو مذاكرة طليح بحث وتنقيب لأروّح عن النفس وأريح مكدود الخاطر فما برزت من باب الدار حتى لفت ناظري مشهد الخليج وهيئة الماء. وكان بأكمل حال من الركود تحسبه صحيفة من البلور جامدة الأنحاء يابسة الأرجاء فما به حبك ولا تكسر. ولكن الهواء كان مع ذلك مفعم بذاك الصوت الذي وصفته آنفاً وهو صوت كأن أصداء من طواهم البحر في أحشائه ترسل أنينه تنذر به إخوانهم الأحياء شرّ يوم عصيب. وكانت نساء الصيادين يعرفن ذلك الصوت ويمددن ألحاظاً لهفى سراعاً نحو القوارب التي لا تزال باليم. فلما سمعت ذاك الصوت دخلت الدار ونظرت في مقياس

الحرارة فإذا هو عند 29 تحت الصفر. حينئذ علمت أنا بعرض ليلة مرهوبة نكراء. وكان القر في سفح الجبل قارساً لذاعاً على حين قد عمم الأصيل ذؤابته بمعصفرات الوشى اليماني وأسال على جبينه نضاراً. ولم يك على صفحة السماء من السحاب إلا بدد عباديد. ولكن أنين اليم ما برح يشتد ويتزايد. ثم لمحت من جانب الشرق قارباً يضرب إلى قرية ويك فكأن ربه قرأ آية الجو كما قرأتها ووراء القارب كان ينتشر ضباب قد طوى خط الأفق. قلت في نفسي ما أجدرني الساعة بالعودة وإلا ثارت الريح ولما يحوني البيت. فلما صرت على نصف ميل من المنزل وقفت بغتت أنصت. وكنت لطول ما اعتادت أذني وألف مسمعي أصوات الطبيعة من زفيف النسيم إلى هدير الماء أسرع الناس أذناً إلى إنكار ما يجئ بين هذه الأصوات من غريب الأجراس ولو كان من أقصى مدى. فوقفت وكلي آذان تسمع وإذا بالصوت المنكر قد علا ثانية وكان صيحة رفيعة مديدة حادة تنم عن أوجع الحزن وآلم اليأس لها بأنحاء الرمل رنة ومن جانب الجبل رجع صدى - يالها صرخة حائر مستجير. وكانت تصدر من ناحية منزلي فاندفعت نحو الدار أنهب الأرض نهباً وقد لاحت الحقيقة لخاطري في ضباب من اللبس. وكان على ربع ميل من الدار ربوة يشرف منها على جميع أرجاء البقعة. فلما فرعت هامة تلك الربوة وقفت هنيهة أنظر فإذا كل شيء على ما تركته عليه. فإني لكذلك إذ عادت الصيحة أشد ما كانت وما هو إلا كخطف البرق حتى برز من جوف الدار شخص الروسي يحمل على عاتقه الغادة البيضا. لم تمنعهشدة العجلة أن يرفق بها كل الرفق وإنها لتمزق أوداجها صياحاً وتكد أوصالها ابتغاء الخلاص جهاداً وعلى أثرهما العجوز تدب ظلماء ترسف في قيد الكلال والونى وجلّ مجهودها صراخ متوال كاللبوة الهرمة قلم الكبر أظفارها وفضّ لزمان أنيابها فليس بها إلا عولة لا يعينها بطش أو زأرة لا تؤيدها سطوة. ورأيت الرجل يعمد نحو القارب فنبع في صدري أمل مبادر رجوت معه أن أدرك الرجل قبل فراره فاحتثث قدميّ إلى الشاطيء فدرّتا بشو بوب من السير وألقمت فم المسدس وأنا أعدو بندقة يكمن في لبها الموت الزؤام وتلوذ بحقوبها حشاشة أملي وآخر رمق من رجائي. ولكني تأخرت ةاستعجل القدر. فلما بلغت الشاطئ كان الرجل قد أوضع في الماء مائة وعشرين ذراعاً قد راش بمجذافيه قادمتي القارب لكل هبة من المجذاف طفرة من الزورق

كما طفر في حيزوم الجبان فؤاده فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملاح جون من العقبان ببتدر الدجى ... يهوى بصوت واصطفاق جناح فصرخت صرخة خائب حنق ورحت أقبل على الرمل وأدبر كالذي خولط في لبه والتفت الروسي فرآني على هذه الحال فقام فحيّاني بأطراف بنانه تحية والله ما شفّت عن شماتة ولا سخرية ولكنها عنوان قلب ضمّن الإخلاص وطوى على الإجلال والشكر. ثم اطمأن في مجلسه وحث أجنحة القارب فطار بأشباه الأربع الرياح حتى قبضته المسافة وقد توارت الشمس بالحجاب ومد الشفق بنانة مخضوبة توميء إلى حيث خبأت يد الطفل لؤلؤة النهار. ومالي أجول في أنحاء تلك الرملة وأدور. وما لصدري يجيش بنار الكرب ويفوز. أمن شغف بالفتاة فعلت ذاك؟ كلا! وليس مثلي من أضناه حب الحسان. وأبلاه صد الغوان. ولم يلهني دار ولا رسم منزل ... ولم يتطربني بنان مخضب ولا أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب ولا السانحات البارحات عشية ... أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب كلا والله لم تكن المصيبة في معشوقة لي ولا وقع السهم في كبدي وإنما كانت في عرضي وثلمت جانب شرفي ومجدي. وطامنت عنقي وذلّلت أنفي. وكلما ذكرت أني عييت بحفظ جارتي من العدو الموائب. وعرضتها للطواريء والنوائب. عيل صبري وراح عرض اليمّ أضيق في عيني من كفة حابل. وهبّ من جانب البحر تلك الليلة ريح هوجاء فأرغت الأمواج بالشاطيء وجرجرت كأنما تود لو انتسفته فعادت به إلى العباب فكان ثمت ملاءمة بين فوران اليم وفوران صدري وبين غليان الماء وغليان ذهني وأبليت شباب الليل جيئة وذهاباً بين هجمات طلائع الأمواج. وحذار الصواعق من متأجج الجنبات وهّاج وسماء عليَّ أوكفت القط ... وأطارت كراي بالأرزام وعصفات زعزع نكباء تعتسف دوّ الفضاء. ونمزق جلدة الماء. وتكاد تختطف الرداء. وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالمصائب أقول وأبليت بين هذه الأهوال شباب الليل حتى شابت ذوائب الظلماء. وجرّد الفلق على

هامة الغسق أسياف أنوار وأضواء. واستراح الماء والهواء. وأخذ أعين الكواكب الأغفاء. ولا راحة لي ولا هدوء وأين الراحة ممن راح بين قلب هائم. ونفس دائم. وشجو دخيل. وحرقة وغليل. قلت في نفسي أولا يرجع الله هذا الروسي إلى هنا؟ أما والله لو عاد!. وقد عاد وحانت مني التفاتة إلى اليمين فإذا على بعد مني جرم طويل أسمر قد قذفته كف الموج الخرقاء على الشاطيء فتأملته فإذا هو قاربي قد عنف به البحر ورضه التيار. وعلى مسافة منه شيء مبهم الهيئة مشكل الشكل يجيء ويذهب في وشل بحافة الماء قد اختلط بعشب البحر وحصبائه فعرفت فيه لأول وهلة الرجل الروسي مكبوباً على حُرّ أوجهه جسداً بلا روح فخضت إليه ذلك الضحضاح فسحبته إلى اليابس ثم قلبته فإذا هي تحته قد التفت حولها ذراعاه الهامدتان وحالت جثته بينها وبين الزوبعة التي كانت تثور بالفضاء وكأنما ليس في طاقة البحر العنيف أن يسلبه تلك الفتاة وإن سلبه روحه. وكان فيهما أمارات تدلني على أن هذه الصبية الطائشة الرأي قد علمتها أهوال تلك الليلة المهيبة أن تفهم الفضل في أهله وتفطن إلى المروءة في أربابها وتستشف القشر الخشن عن اللباب الدمث والظاهر الوعر عن الباطن السهل. وأن تميز الصادق من الخلّب والحق من الغرور والزلال من السراب. وأن تعرف قدر ذلك القلب الكبير الذي وقاها في الروع بمهجته. وذاك الساعد السلط الذي حماها في الكريهة بصولته. وإلا فما معنى توسد رأسها اللطيف مهاد صدره الرحب والتفاف فرعها الأصهب بلحيته المنسدلة؟ وما معنى ضياء تلك الابتسامة المتألقة في صحيفة وجهه - يضحك في أثنائها فم النصر - التي لم يك في طاقة الموت أن يطفي رونقها ويخمد سناها؟ رحم الله مصرعه لقد كان الموت والله له أمتع من الحياة وأشرق جانباً وأبرد ظلاً وأصفى هواء. وأخضل الله ترابه لقد كانت حياته موتاً وكان موته حياة. وجاءت العجوز فلحدنا لهما على سيف البحر الشمالي وواريناهما فهما الآن رهنا حفرة بذلك المكان المقفر الجذب والبقعة الحزينة الصماء. وكم أمور ستحدث حولهما بهذا الكون وكم شؤون ستجري فمن دول تهدم ودول تشاد. وعاد تزول وتجيء عاد وأجداث تبيده وأجداث تباد. وهما بمعزل عن كل ذلك لا ينظران ولا يسمعان. ولا يعبآن ولا يحفلان. ولكنهما ملتزمان محتضنان. بتلك القفرة تحت ذلك الموج المرنان. وكم خيل إليَّ إن

روحيهما قد لبسا صورة الطير وأنهما ليرفران بين بنات الماء على صدر المحيط. وطالما خيل إليّ أني أسمع أنين صداهما بين تحنان البحر وعويل الرياح هاك قبرهما على الساحل الموحش لا نصب فوقه ولا تمثال ولكن العجوز ما برحت تكسوه حلل الزهر والريحان. وشفوف النور والأقحوان. فكلما مررت بذاك الضريح تذكرت ذينك الذين اغتربا عن الديار والأوطان ليلاقيا المنون بدار الغربة على قدر فعجت على تلك العظام البالية متمثلاً ولا علم لي من أي جنبيّ مصرعي ... وفي أيما أرض يخط لجانبي

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية وهذه الجزيرة جِدُّ خصيبةٍ وكلأها لا ينقطع في صيف ولا شتاء وهي كثيرة الأمواه والعيون والفواكه والأرزاق. وجبالها كلها مثمرة بالتفاح والشاه بلّوط والبندق والأجاص. ومنها يجلب الجوز والقسطل إلى بلاد إفريقية ويجلب منها كثير من القطن - وفيها معادن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والزيبق - وهي مستبحرة العمران كثيرة المدن والقرى والضياع فقد أخبرني ثَبَت ثقة أن بهذه الجزيرة مائة وثلاثين بلداً بين مدينة وقلعة عدا ما فيها من الضياع والمنازل والبقاع - وكلها مسكونة بالمسلمين ملأى بالمساجد والفنادق والحمامات. وفيها من العلماء والفلاسفة والأدباء، ما لا يكاد يدركه العد والإحصاء - ومن مشهور مدائنها مدينة بلَزْم قصبة هذه الجزيرة وسيأتي القول عليها مفصلاً عند ذكر وصولنا إليها إن شاء الله. وبين مدينة بلزم هذه ومدينة مسيني توجد المدن الآتية واقعة على ساحل البحر غربي هذه الجزيرة وهي مدينة ثرمة وليبري وبقطش وجفلوذ والقارونية وقلعة القوارب وميلاص وجطين وشنت ماركو. وسنصفها لدى ذكر مرورنا بها - وبين مسيني وبارم على سيف البحر شرقي الجزيرة وجنوبيها تقع البلدان الآتية. على الترتيب الآتي هكذا. مدينة طبرمين بشرقي مدينة مسيني على مرحلة منها وهي مدينة أزلية قديمة من أشراف البلاد وأعيانها، وقلعة حصينة من أصول القلاع وأركانها، وهي على جبل مطل على البحر يسمى جبل الطور وفيها كما حدثني أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف ملعب من ملاعب الروم القديمة كأنه: زعم أبو عبد الله: شِعب بوّان الذي يقول فيه أبو الطيب المتنبي: مغاني الشعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان ملاعب جِنة لوسار فيها ... سليمان لسار بترجمان طَبَت فرساننا والخيل حتى ... خشيتُ وإن كرمن من الحران غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان فسرت وقد حجبن الشمس عني ... وجئن من الضيا بما كفاني وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان

لهَا ثمر تشير إليك منها ... بأشربة وتفن بلا أواني وأمواه يصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني وقد فتح المسلمون هذه المدينة أيام إبراهيم بن أخمد بن الأغلب وكان عادلاً حازماً في أموره آمن البلاد، وعصف بأهل البغي والفساد. وبني الحصون والمحارس على سواحل البحر حتى كان توقد النار من سبتة فينتهى الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة وذلك لسبع بقين من شعبان سنة تسع وثمانين ومائتين الموافق أول أغشت الرومي سنة اثنتين وتسعمائة. وكان لفتح هذا البلد أسوأ وقع في نفس الأنبرور صاحب القسطنطينية حتى بقي سبعة أيام لا يلبس التاج وقال لا يلبس التاج محزون - ثم مدينة قطانية على ستة أميال من مدينة لياج الواقعة بينها وبين طبرمين وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر في سفح جبل النار وتسمي الآن مدينة الفيل لأن فيها طلسما من حجر على صورة فيل كان منصوباً فيما غبر من الأيام علي بناء شاهق ثم نقل ونصب داخل المدينة وبهذه المدينة الأسواق العامرة، والديار الزاهرة، والمساجد والجوامع والفنادق والحمامات - ثم مدينة سرَقوسة شرقى مدينة قطانية على مرحلتين كبيرتين منها. وهي من مشاهير المدن وأعيان البلاد، تضرب إليها أكباد الإبل من كل حاضر وباد، وهي على ساحل البحر والبحر محدق بها من جميع جهاتها وبها مابأ كبر المدن من الأسواق والخانات والمساجد والحمامات والمباني الرائقة، والأفنية الواسعة المونقة، ولها إقليم كبير طوال كله مزارع وجنات وأثمار. وقِد ما كان بها سرير ملك الروم فلما ملك المسلمون بعض الجزيرة نقلت دار الملك إلى مدينة قصريانه إلى أن امتلك المسلمون سائر الجزيرة. وقد فتح المسلمون سرقوسة هذه رابع عشر رمضان سنة أربع وستين ومائتين الموافق عشرين مايه الرومي سنة سبع وسبعين وثمانمائة - ثم مدائن نوطس وشكلة ورغوص وبثيرة وكركِنت وشاقة وملزَر ومرسي على وطرابُنشُ ومدائن أخرى كثيرة وكلها على ساحل البحر كما أسلفنا عدا مدينة رغوص فإن بينها وبين البحر نحواً من اثني عشر ميلاً - أما ميدنة فَصرُيانِه فهي في وسط الجزيرة على سن جبل وهي مدينة أزلية قديمة وقد كان فيها سرير ملك الروم نقل إليها كما أسلفنا بعد أن ملك المسلمون مدينة سرقوسة لحصانّها وقد فتح المسلمون هذه المدينة يوم الخميس منتصف شوال سنة أربع وأربعين ومائتين الموافق سلخ يناير الرومي سنة تسع وخمسين وثمانمائة

ولما فتحها العباس الأغلبي بني فيها في الحال مسجداً ونصب فيه منبراً وخطب فيه يوم الجمعة وذل الروم بصقلية يومئذ ذلاً عظيماً. وبعد فهذا الذي ذكرنا من بلدان هذه الجزيرة إنما هو غيض من فيض ونحسن إذا حاولنا ذكر سائر المدن والقرى والقلاع المعروفة في هذه الجزيرة، لاحتجناك عَمْرَك الله إلى أسفار كثيرة، وفي القدر غناء. وقد رأينا من تمام الفائدة أن نصور للناظر في هذه الرسالة جزيرة صقلية وبعض بلدانها المشهورة وبلاد قلورية ومدينة ريو وجزائر أقريطش وسردينية قرشقة وميورقة ومنورقة ويابسة ومدينتي الإسكندرية والمرية وبالجملة كل ما جاء له ذكر في هذه الرسالة. وقد آن لنا أن نرجع إلى ما نحن بصدد منه. مدينة مسيني أما مدينة مسيني فهي في ركن من الجزيرة بشرقيها مستندة إلى جبال قد انتظمت حضيضها وخناديقها والبحر يعترض أمامها في الجهة الجنوبية منها ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية كما أسلفنا لأنو المراكب الكبار تدنو فيه من البر حتى تكاد تمسكه ولا يحتاج إلى زواريق في وسقها ولا في تغريفها إلا ما كان مرسيا على البعد منها يسيرا فتراها مصطفة مع البر كاصطفاف الجياد في مرابطها وإصطبلاتها وذلك لإفراط العمق فيها. وهذه مسيني هي رأس جزيرة صقلية وهي كثيرة العمائر والضياع وأرضها طيبة المنابت وبها جنات وبساتين ذات أثمار كثيرة ولها أنهار غزيرة عليها أرجاء جمة. ولما نزلت إلى هذه المدينة سلمت أمتعتي إلى أحد الحمالين وقصدت معه أحد الفنادق فذهب بي إلى فندق قائم على جبل مطل على المدينة وكان لأحد مغاربة إفريقية فاحتفى بي صاحبه وبالغ في إكرامي واحتفل في راحتي حتى أنساني برقة حاشيته وطيب أنسه مجاشم السفر وذل الاغتراب - وقد صادفت في هذا الفندق أبا عبد الله الصقلي الفيلسوف وكان قد نهد أيده إليه من بلرم إلى مسيني لما علم بقدومي فكمل أنسى به وعراني من الغبطة والسرور ما لا يقوم بالعبارة عنه بيان. ولا يروم اطلاع فجه لسان. ولا سيما حين أخبرني أبو عبد الله أن ينتوي الذهوب إلى الأندلس وهي منتواي ومقصدي.

أبو عبد الصقلي الفيلسوف ولما رأيت أبا عبد الله وكنت لم أره قبل ذلك بيد أني سمعت عن فضله الجم وعلمه الغزير حتى شغفت برؤيته - والأذن تعشق قبل العين أحياناً - رأيت منه رجلاً تشد إليه الرحال، وتضرب إلى علمه أكباد الآبال، ويصاب عنده مقطع الحق واليقين، ويلقى لديه مفصل الداد في علوم الحكمة والدين من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا ولا جرم فإن أبا عبد الله فيلسوف عصره. وواحد قطره. وهو في علم الطب والحكمة منقطع النظير لا تكاد تفتح العين على مثله. وقد حذق اللسان الإغريقي وأحكم معرفته حتى كأنه من أهله. وهو في الأدب منظومه ومنثوره نادرة الفل وبكر عطارد.

مذكرات إبليس

مذكرات إبليس بقلم الأستاذ عباس محمود العقاد إغواء فتاة قال إبليس: كنت أتمشى في بعض أحياء القاهرة وقد نهكني الفكر وأمضني أعمال الرأى. وكنت مشتغل البال بوضع مكيدة جهنمية أوقع بها سلسة الأمم في طامة مشكلة وحرب زبون. فبينما أنا أسير في طريق عامرة بالقصور آهلة بأصحاب الثراء والجاه القديم حانت مني التفاتة إلى نافذة في دار قوراء فلمحت فتاة عذراء مفرغة في قالب بديع الحسن ينسجم على جسدها الغض غلالة بيضاء كأنها نسجت من رغوة الماء أو خيوط الضياء، تشف من بدنها عن بشرة صافية بضة، ونهدين قاعدين كأنما ينفذان من خلال ذلك الشف الرقيق. وقد اتكأت على النافذة تنظر إلى الطريق وتتنسم الهواء. وما كنت أجهل مريم ولا أنا غافل عنها. ولكنها كانت طفلة تمرح في حراسة ملائكة الطفولة، فلا أجرأ على الدنو منها، وكانت زهرة في كمام الفضيلة فلا تمتد يدي إلى اقتطافها - وللطفولة حرم تحوم حوله الشياطين ولا تتخطاه. فأما اليوم فإنها كاعب ينبض قلبها بدم الشهوة، وتجري في عروقها حرارة الهوى، وقد تفرقت عنها ملائكة الطفولة فلا شيء يعصمها مني، وتفتحت زهرتها فامتزج عرفها الطاهر بهواء الدنيا، وسوف يكون لي معها شأن كالذي كان لي مع غيرها من بنات حواء. ثم لا أترك فيها إلا كما يبقى في الزهرة الذابلة من شذي أحرقه في مباخر الجحيم. ورأيت أن أعرج عليها في طريقي بها وأرفه عن نفسي ساعة بهذه الفكاهة اللطيفة، فأريح ذهني من جد الخبائث الكبيرة، والشرور المستطيرة وإن كان أغواء مثلها لا يحتاج إلى أكثر من دعابة شيطان صغير، من تلاميذي المبتدئين في صنعة الفساد. وكانت مريم بنت رجل من ذوي المكانة والثراء، ظللت أضارب بعقله في المضاربات حتى خسر عقله وماله. ولم يبق له من الضياع والنشب إلا هذا القصر الذي يقيم فيه، فحجروا عليه وأقاموا له قيماً يتولى تأجير جانب من ذلك القصر وينفق من أجرته في مؤنة العائلة وتربية الصغار، فعكف الرجل على بيته لا يريم عنه، وقد هجره أصدقاؤه وتسلل حشمه من خدمته واحداً بعد واحد إلا خصياً منحوساً حفظ عهد سيده كما يقول، ولو علم

الخبيث مرتزقاً أوسع جناباً، وأوطأ رحاباً من بيت سيده لفر منه فراره من المأسدة وكنت قد وكلت بمريم ولدى الأعور. فصرفته في دعوة فتي أنسى أستعين به أحياناً على خلب قلوب العذارى، وصعدت إلى مريم، فدخلت وإن نظرات النساء لمغناطيس يجذب إليه من قلوب الرجال حديداً صلداً. وإن كان ذلك الحديد ليكونن عليها في بعض الأحيان حداً ماضياً، أو نصلاً قاضياً. ورأيتها عارية الشعر، عاطلة النحر، مجردة المعصم. فقلت ما كان أجمل هذا الليل لو زانته زواهر الجواهر، وما أليق الحلى الذهبية بهذه الترائب البلورية!! أو ما كان قرط الماس أجمل في هذه الأذن منه عالقاً بأذن جارتك مرجانة؟؟ وهو في أذنها السوداء كأنه شرارة طارت من فحمة!! وما بال هذا النحر لا تكسوه لبة ربما فاضت على صدر أسمر فلاحت فيه كما يلوح وضج البرص في الأديم الأسود، وما لهذا المعصم لا يزينه سوار ربما التوي على ذراع مهزول فكأنه مسعر قد التف عليه ثعبان!! وهل استخرج النضار إلا ليلمع على هذه الصدور؟؟ أو التقط الجوهر إلا ليسطع في ضياء الجمال الفضاح؟؟ وتلك رقية ما رقيت بها فتاة فقويت عليها وما دسست في صدر أنثى خدعة هي أسرى فيه من هذه الخدعة. بل لقد كنت أهجس بها في قلب المرأة فتؤثر لو أنها تصبح بغير جيد من أن يكون لها جيد لا تطوقه الحلى والعقود. فما تلوت تلك السورة على مريم إلا وقد امتعضت وزال عنها ذلك البشر الذي كان منذ برهة يترقرق في أسارير وجهها. وكأنها تقول: إني لي هذه النفائس وهي نعمة قد حرمتها وأباها على الله أن يمتعني بها. قلت أولاً يغنيك أبوك عن هذا التمني؟! قالت إن أبي لكالضيف في المنزل، بيد أنه لا يكرم إكرام الضيف. وهذا القيم قد بات يقتر عليه في النفقة. وهو يستقطر من كفه الدرهم بعد الدرهم فإذا ظفر منه بعلبة التبغ حسبها منه غنماً كبيراً ومنة عظمي. قلت: فخطيبك!! فبكت الفتاة وقالت لقد كان لي خطيب يزورنا أحياناً فيتودد إلي ويلاطفني. فلما تضعضعت حالنا وقعد بنا الدهر هجر الرخاء منزلنا وهجره في يوم واحد. فما سمعنا عنه منذ ذلك اليوم إلا أنه عقد خطبته بالأمس على إحدى قريناتي في المدرسة. ولو أنها

كانت أملح مني خلقاً أو أصبح صورة لحسدتها على ملاحتها وصباحتها. ولكني لست أحسدها إلا على أب أكثر من أبي مالاً وأدنى إلى القبر قدماً. قلت لا يعدم هذا الجمال عاشقاً يتقرب إليه بحياته، ويذال المال في سبيل مرضاته. فانتفضت الفتاة وراعتها كلمة العشق. وما كانت تعرف إلا أن العشق والفسق شيء واحد. وكانت تسمع العجائز يقلن عن بنات اليوم أنهن فطح القلوب تتكشف نفوسهن لعيون الرجال وهي سر من أسرار الجنس المكنونة لا يجوز إفشاؤه، وخطة مدبرة يحرم إعلانها لغير بناته. ويأخذن على فتيان هذا العصر أطماعهن الرجال في جنس النساء. ثم يتذاكرن الأيام الخوالي وكيف كن يتمنعن وهن الراغبات، ويحرقن قلوب أزواجهن تيهاً ودلالاً، وتجنياً وصدوداً. ويخدعنهم بالتباعد حيناً وبالقرب أحياناً ثم يعطفن من ذلك إلى التوجع لسوء حظ بنات اليوم ويقلن لمن حضر منهن: لقد نعمنا بزماننا فاستقبلن اليوم زمانكن المعكوس. كأنما يضعن من شأن الصبا بعد أن فارقهن، ويأسفن على حظ الصبيات من الشباب لئلا يأسفن على فاتهن منه. أو كأنما يحسبن الفتيات ضرائر لهن في هذا العاشق المتقلب فينتقمن منه فيما يوليه أولئك الفتيات من تحفه ولطائفه. وشوه وجه العاشق في عينيها ما كانت تقرأ وتسمع في المدرسة من وصف الفضائل وصفاً كوصف الأكمه لنجوم السماء، وتعريف العفة تعريفاً يشبه أن يكون معنياً به أن تتمثل لها العفة مناقضة لكل صلة جنسية غير تلك الصلة التي يسجلها الشيخ المأذون في دفتره، ولعمري أنها فضائل هوائية، أو هي نقائض متقنعة، وما مثلها إلا كمثل العواهر اللائي يخرجن في زي الحرائر، فيكون هذا الزي أغرى للأنظار بهن. ولا تعيش تلك الفضائل إلا بمعزل عن الرذائل. فهي لا تجالد الشهوات في ميدان ولكنها تمتنع عنها في حصن بعيد، فإذا اقتحمته الشهوات مرة أصبحت فضائله أسرى في يدها، بل ربما تقلدت سلاحها وحاربت به في صفها، وليست الثقة بهذه الفضائل إلا كثقة هاروت وماروت بنفسيهما في السماء. فلما هبطا إلى الأرض سكرا وفسقا وقتلا في لحظة واحدة. يضع حمقى الأنس فضائلهم هذه عثرات في طريقي فأتناولها وأجعلها معالم يهتدي بها الناهجون فيها. ولا شيء يهون عليّ إغواء الفتاة الشرقية إلا عفة هي بصدور الكتب أجمل منها بصدر الفتاة.

ليس لإغواء الفتاة الشرقية عندي إلا طعمة واحدة. فأما فتاة الغرب فإني أنصب لها أحبولة بعد أحبولة حتى تقع في يدي، وتصبح فريسة لي. فإذا انتقلت بالشرقية من الصيانة إلى العشق أبصرت نفسها قد انتقلت إلى حال ينكرها أهلها وذووها، ويستهجنها الناس من حولها، وعلمت أن ما هي فيه رجس لا يرضاه إلا هي. فخلعت العذراء وأرسلت نفسها في التيار، فذهبت إلى الغابة من التبذل والاستهتار. فأما أختها الغربية فلا بأس بها من العشق ولا إنكار عليها فيه. فإذا أحبت لم ينته منها أربي. بل لا أزال أتنقل بها من العشق في أدوار شتى، وأتدرج بها من السائغ إلى المحظور ومن الطيب إلى الخبيث حتى يفضي بها الأمر إلى الفساد. وكذلك أستفيد من غلو الشرقيين في فضائلهم ما لا أستفيده من تفريط سواهم. فكلما ضيقوا دائرة الفضيلة اتسعت دائرة الرذيلة، أو حصروا حدود الحسنات، انفرجت حدود السيئات. وآنست من مريم استعصاء وتثاقلاً. فأخذت بيدها إلى نافذة تطل على حديقة جارهم. وكان في القصر الذي فيه الحديقة فتاة من لداتها قد سبحت في الغواية سبحاً، وتقلبت في المقابح ردحاً، وكانت يوم ذاك في هوى فتى هو ثالث عشاقها، والفتاة في العشق على مذهب أولئك الذين يخجلون من أن تراهم اليوم مع عاشق الأمس، ويحسبون أن الدوام على عاشق واحد كالدوام على لباس واحد. هذا ينم عن فقر إلى المال، وذاك يبين عن فقر إلى الجمال. وكان الفتى يختلف إليها في الحديقة. وتعلم أمها من شأنها ما تعلم، ولكنها كانت تبادلها غض النظر. ولعلها لا تكره زيارة الفتى لأن عين بنت الثلاثين قد ترى كما ترى عين بنت الخمس والعشر!! وكان مجلسهما في الحديقة تحت سرحة فرعاء، فيقضيان هنالك ساعة أو ساعات لا مقدار لها في تقويم العاشقين، لأن إله الحب وربات الزمن لا يتلاقون في مكان واحد، فإذا شغل الحب موضعاً فزمنه الزمن، وإذا خلا موضع من الحب تمطي به الوقت وتطاولت فيه الساعات. وجلسا في تلك اللحظة وقد تعاقدا بالأيدي، وتجاذبا بالنظر فكأنهما يعالجان التنويم المغناطيسي، أو كأن كلاً منهما قد جمع روحه في عينيه لتتعرف من وجه صاحبه روحاً لقيتها في عالم الذر، فيطول أمد النظرة لطول العهد، ثم تختم بقبلة لا يدريان أهي راحة

الذاكرة من هذا الإمعان والاستقصاء. أم هي بين الروحين تصافح المعرفة واللقاء. فلما رأتهما مريم على هذه الحال، تضرمت في نفسها شعلة الصبا، وسرت في عروقها حميا الهوى، فقالت ليت لي عاشقاً!! قلت أو تعشقين؟؟ قالت ولم لا؟؟ بل إني لعاشقة الساعة. وكأنني أجد نفسي بين يدي فتى أجلس منه مجلس هذه الفتاة من ذلك الفتى، وإننا نتلاحظ كما يتلاحظان، ونتعانق كما يتعانقان، ونقطف من زهر المنى في روض الهوى مثلما يقطفان قلت فاذهبي إلى عين الشمس. . . فهنالك تجدين عياناً ما تتوهمين خيالاً. واستقبلي عصاري اليوم في وديانها حبيبك المأمول ونعيمك المعسول. وكان الأعور قد جاء بالفتى الأنسى وأرصده من منعطفات عين شمس بحيث أمرته. فوقف يتشاغل بالصفير ويغازل الغاديات والرائحات أما هذا الفتى فهو ممن طمست على بصائرهم وأضللت ألبابهم، وطوحت بهم في الفساد إلى حيث لا يبلغ صوت الضمير أو نداء الوجدان، فأصبح كسول النفس، بارد القلب، لا يخف إلى غير المخازي، ولا يرتاح إلى حديث في غير الشراب والنساء، ولا يرى إلا أن العالم حان أو ماخور. وذهبت مريم إلى أمها فاستأذنتها في الخروج أصيل ذلك اليوم، وكانت أمها تخاف عليها مغبة ما بها من الكمد وتشفق أن تتلاشى نفسها غماً من غدر خطيبها، وانصرافه عنها إلى صاحبتها، فكرهت أن تجمع عليها بين ضيق الصدر وضيق الأسر، فأذنت لها ونادت بالخصي جوهر ليصحبها إلى حيث تشاء. ولم يبق الأرَيْم من النهار فنوردت الشمس وتزينت مريم بأحسن زينتها وبرزت تتهادى في الطريق كأنها طاقة الزهر تترك بعدها عبقاً في حينما صافحت الهواء. وطفقت كلما نقلت قد ما سمعت كلمة إطراء وغزل، وكلما أرسلت نظرة تعثرت في نظرات المقل، وهي ترى ذلك وتسمعه ولا تعيره نظراً أو سمعاً. وإنها لكذلك حائرة النظر، مشردة النفس بين الغرابة والخجل. إذ رمقت الفتى على قرب. فرأت قواماً قويماً، ومشية رشيقة ووجهاً تشرق فيه بشاشة الصبا، وفما تبتسم فيه الملاحة، وعينين ألاّقتين كأنما تضاحكان الضياء. فأحست كأن طائراً نض جناحيه بين جوانحها، ومشت قبالته وهي

تنجذب إلى ناحيته على غير عمد، وقد علمت أنها ستسمع من ذلك الفم الجميل ما قد سمعت من أولئك الثراثرة المتعشقين. فخفق قلبها وتوهج خداها. وإذا هي على قيد باع منه، فسمعت صوتاً رخيماً ولكنها لم تتبين ما قال. وحاولت أن تنحرف عنه فخانتها قدماها. ثم همت أن تنظر إليه فلم تطعها عيناها. ورأى الفتى ترددها ووجومها فأقبل عليها بكياسة الأمراء، وقال بلباقة الخطباء: ألست أنا أولى بمصاحبة هذا الملك السماوي من ذلك العبد الأدلم؟؟ وأشار إلى الخصي جوهر - وكان على بعد يحادث بعض أصحابه - فضحكت. وأدارت عينيها إليه ولكنها لم تلبث أن إدارتهما عنه. وما كان فتاي ليجهل أن أعراض الخجل والدلال إنما هو عين الإقبال؟ وإن انثناء الروعة إنما هو هزيمة في هذا المجال، فأسرع إليها بجرأة أفادته إياها ممارسة هذه المواقف. وأمسك يدها وهي ترتجف بين يديه. وأذهلتها هذه المفاجأة فلبثت هنيهة يخيل لها أنها تتأهب للحركة ولا تتحرك، وأنها تنبس بالكلام ولا تتكلم. كأن القلب الذي يوحى إليها الكلام والاعتزام قد طار منها في ملكوت الحب والهيام. فلم يبق منها إلا بصر شاخص كما ينظر الصبي في أثر العصفور أفلت من يده وإلا بدن مستسلم كأنه بين راحتي الكرى. وأدركهما جوهر وهما على هذه الحالة. فأرسل يدها وأفاقت إلى نفسها وهي تقول: وا فضيحتاه! هذا جوهر أغا!! وسمعاه يحر نجم ويطمطم بما لا يفهمانه. وكأن كلماته من اللكنة والعجمة أصوات بغير حروف. ثم قال: عيب يا بك! لا يليق بك أن تتهجم على الحرائر في قارعة الطريق! وليست هذه من أولئك اللائي تعرفهن!!. . . . فاستقبله الفتى باسماً. وقال بما يعهد في هؤلاء الفتيان من الظرف وتزويق الكلام: سامحك الله يا أبي جوهر. فقد بالغت في إساءة الظن بنا. ولسنا نحن كما ظننت من السوقة الهمل. ولكننا أبناء قوم كرام والحمد لله. وأنت تعلم أن الآنسة أبعد من أن تكون مظنة ريبة لا سيما وهي ربيبتك وفتاتك ووالله ما كنت لا تصدي لمحادثَتها لولا أنها زميلة أختي في المدرسة، وأنها كانت تزورها في منزلنا فعرفَها وعرفتني هناك وامتد بينهما الاستسماح والاعتذار ثم دس في يده ديناراً أطال عهد الخصى بأمثاله، فطار له لبه وقال: وإلى أين تذهبان الساعة؟؟

قال: نتمشى قليلاً حول هذه الحدائق ثم نعود. قال إذن أدع الآنسة في صيانتك ريثما أذهب إلى هذه القهوة ثم ألحق بكما بعد ذلك. قال مع السلامة! وكذلك تصنع الدنانير والدراهم. فإنها - بارك الله لي فيها - قد سكها الناس ليجعلوها ثمناً لما تتداوله أيديهم من متاع الدنيا. فما زلت بهم حتى اشتروا بها المحاسن والمواهب، والأعراض والمذاهب. بل حتى لقد جعلتها في أيدي بعض الناس ثمناً للفردوس وبراءة من النار. فما شعر الزنجي بالدينار في كفه حتى رأيته كأنما قد انعكس بريقه على وجهه، واعتدل ما التوى من خراطيمه. ثم تذكر موائد القمار وقد ودعها منذ سنين، فحن إليها وذهب يمتع نفسه باللعب، وهو حظ الخصيان من الدنيا ولذتهم فيها، بعد الطعام والشراب. أما أنا فقد استدرجت الفتى والفتاة إلى حيث اختليا في بعض تلك الأماكن المنزوية عن الأنظار. . . ثم مضيت في سبيلي. عادت مريم وهي لا تطيق الصبر يوماً عن عين شمس. ولذت رنات الذهب والفضة للخصى فأصبح يشتاق تلك النغمة كل أصيل. فإذا تأخرت آنسته عن الموعد قليلاً صعد إليها مستعجلاً. حتى خامر الشك قلب الأم. فأبت عليها الخروج يوماً وما نعتها يوماً ثانياً وأغلظت لها يوماً ثالثاً. ولكنها انتظرت في اليوم الرابع على مضض، وألظ بها القلق فلبثت تتحرق حيرة وشوقاً. إلى أن حان موعد العصر فعزمت على موافاة عاشقها - سمحت أمها أم لم تسمح - فبينما هي تتهيأ للخروج قابلتها أمها فاستغربت منها هذه الجرأة. وقالت إلى أين يا مريم؟؟ قالت: إلى عين شمس!! قالت: ألست تعلمين أنني أخاف عليك من هذه المدينة المشؤمة؟؟ قالت: أما أنا فأعلم أنه لا خوف عليَّ منها. . . قالت: حسناً ولكنني لا أريد أن تذهبي إليها قالت: ولكنني أريد ذلك. . . ألست حرة فيما أريد؟؟ هذه هي الكلمة الجديدة التي تعلمتها الفتاة. وكانت تعرفها من قبل، ولكن كلمة الحرية لم تكن تؤدي في قاموس الطفولة معنى عقوق الأم الرؤم، وإيلام ذلك الحنان الطاهر.

ألست حرة فيما أريد. . .؟؟ نعم أيتها الفتاة أنت حرة فيما تريدين. . .!! وكل فتاة حرة أيضاً. . . . هكذا قال فلاسفة الحرية أكثر الله من أمثالهم. إن حرية النساء مبدأ قويم، ولكن في الهيئة الاجتماعية منعرجات ومنعطفات لا تنطبق عليها المبادئ، القويمة إلا إذا التوت عندها بعض الالتواء، وليس من شأن الشريعة أن تجد مواضع هذا الالتواء، فإن الشرائع العامة لا تضع إلا القواعد العامة، وإنما هو من عمل البيئة والعائلة. وما دامت هذه الأزقة في الهيئة الاجتماعية فالمبادئ القويمة لا تخترقها كلها. فلا زال الحكماء يرسمون هذه المبادئ لإصلاح الناس فتتخذها نحن ذريعة إلى إفسادهم في بعض الأحايين. . . .

نوابغ العالم

نوابغ العالم ابن الرومي (تابع) بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني لا ريب إن كثيراً من فصول هذه الرواية الإنسانية قد استسر خبرها، وأمحى أثرها، وأصبح عند الله علمها، ولكن ذلك لم يغلل أيدي الناس عن التنقيب والبحث، ولم يحل بينهم وبين ما يرومون من تفحّص أخبار الإنسان، والمبالغة في استخبار آثار عنه، وإن كانوا بعدُ لم يتمكنوا من الحجة، ولم يجدوا رائحة الكفاية، ولا ثلجوا ببرد اليقين،. . ألا ترى الناس على عجزهم الظاهر، وقصورهم البادي عن الإفضاء إلى حقيقة الأمر لا يزالون يجمعون ما تصل إليه أيديهم من آثار أبطال العالم وعظمائه، وإن كانت في ذاتها تافهة لا قيمة لها ولا وزن، علّهم يستشفون منها نفوسهم، ويستجلون أحلامهم وهواجسهم؟، إلا أنا اليوم على قلة الوسائل، ونزارة الذرائع، وضعف الأسباب، أفطن لمعاني العظمة والبطولة في الإنسان وأشد إدراكاً، وأحسن في الجملة تقديراً لها من أسلافنا. . فإنهم وإن كانوا قد رفعوا أبطالهم إلى مراتب الآلهة، ومنزل الأرباب، غير أن الناقد المتأمل ليجد في عبادتهم هذه شيئاً من خشونة حياتهم، وشظف عيشهم، ولكنا اليوم وإن كنا لا نسكن عظماءنا جبال (أولمب) أو (ولهلا) ولا نعتقد أن الشمس من مظاهر (أو رمزد) غير أنا على ذلك ألطف حساً، وأصفى نفساً، وأصح نظراً، وأوسع إدراكاً، وأحسن انتفاعاً. . وليس معنى هذا أن آباءنا كانوا لا يفطنون للعظمة والبطولة ولكن معناه أن صلتهم بعظمائهم ونسبتهم إليهم كانتا على غير ما ينبغي أن تكونا، ولو نحن أردنا أن نثبت ذلك من طريق البرهان القيم، والدليل المقنع، لا حوجنا ذلك إلى التطويل، وإلى تكلف ما لا يجب، وإضاعة ما يجب، ولكنا نستغني بالاختصار عن التطويل، وبالإجمال عن التفصيل، ثقة منا واستيقاناً بأنها مسألة يجلوها أيسر النظر، ويكشفها أهون التأمل. الإنسان مطبوع على الإيمان بالعظيم إيمانه بالحياة، وليس ثمة ما يعين على احتمال الحياة، ويجلى من وحشتها مثل هذا الإيمان، لأن العظيم في كل عصر كوكبه اللامع، ونبراسه الساطع، وبدره الزاهر، وبحره الزاخر، وليت شعرى هل الناس لولا العظماء الأجبال من

النمال، أو تلال من الذباب؟؟ وكما أن الوردة لا يعييها أن تسطعك تفتحها، ويتثوّر إلى أنفك نسيمها، والجميل لا يشق عليه أن يتمثل لعينك حسنه، وترتسم في قلبك ملاحته، كذلك لا يرهق العظيم أن يسوغك من صفاته، ويضفى عليك مما أفاض الله عليه، وأسني له، وآثره به، ولكن ذلك لا يتهيأ حتى يكون بينه وبين الناس اتصال، وله إليهم انتساب وانتماء، وحتى يحس الناس أنهم واجدون عنده ما يحبون وبالغون منه ما يطلبون،. . فإن من الناس من يسدي إليك مالا حاجة بك إليه، أو يجيبك إلى ما لم تسأله، وهذا لا طائل وراءه، ولا ثمرة عنده، ولا خير فيه، وإنما العظيم من فطن إلى حاجة الناس فسدها، وأدرك مواضع الافتقار والضعف فراشها، ومن عرف موضعه وبلغ الناس ما في نفوسهم، وأمكنهم مما يطلبون. وليس يخطيء العظيم موضعه، أو يخفى عليه موقعه، لأنه كالنهر يحفر لنفسه مجراه، ويكوّن له ميلاً أينما تحدر، وأنت فإذا رجعت إلى نفسك ونظرت في تاريخ العصور التي ظهر فيها العظماء علمت علماً يأبي أن يكون للشك فيه نصيب، وللتوقف نحوك مذهب أن العظيم لا يظهر في عصر إلا إذا كانت الحاجة إليه ماسة، والافتقار إلى مثله شديداً، وأنه لو لم تلد آمنة محمداً صلى الله عليه وسلم لولده غيرها من نساء العرب، ولو لم يهرب شكسبير من بلده إلى لندره لنبغ من غيره هذا الشعر الذي تقرأ له اليوم، ولا يقنت أن العصر الواحد قد لا يسع أكثر من عظيم واحد، أو هو يسعه ويسع نقيضه في مذهبه، وعكسه في منزعه. وكما أن النبات يحول معادن الأرض غذاء صالحاً للحيوان، كذلك العظيم يتناول الطبيعة فيستخدمها ويجيء الناس منها برجعة صالحة، والطبيعة إذا صادفت كفؤاً حقيقاً بها، ووالياً مطيقاً لها. وناهضاً مستقلاً بأعبائها أضفت عليه ملابسها، وكشفت له عن نفائسها، وأما علت عن سرها الحجب، ونقت عنه معتلج الريب، وكانت له رائداً فيما يطلب، وهادياً حيث يؤم ويذهب، فإنما تفضح الطبيعة عن مضمونها، وتظهر مكنونها، لمن تعرف فيه القدرة على فهمها وتوسعها من معاريض رموزها، واستشفافها من وراء لئامها. وتظن فيه الإيفاء في الوفاء. وتستشعر فيه الأبرار في الحفاظ، فإن دقائق الطبيعة وأسرارها، وخصائص معانيها، ليست مبذولة لكل أحد، ولا مذللة لكل من يبسط لها كفها، أو يرفع إليها طره، ولكن لمن إذاً ما نظر كان وما ينظر شيئاً أحداً، فإن الشيء لا يعرفه إلا شبيهه، ولا

يحيط به إلا ضريبه أو ما فيه منه شناشن، كما يعرف الحديد الحديد ويجتذبه إليه، والإنسان من طينة الأرض فليس ينسى منبته. أو تختفي عليه طينته وجرثومته والطبيعة كتاب مطوى تعلن منه في كل عصر صحائف يتلوها على الناس أناس هدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها، وكما أن الماء إذا بلغت حرارته المائة لم يزده إلحاح النار شيئاً، واستوي عند هذه الدرجة كل ماء، كذلك لعظمة الإنسان غاية ليس وراءها زيادة لمتزيد، ولا فوقها مرتقى لهمة، يستوي عندها كل من بلغها. ترى في كل عصر ثلاثة من العظماء أو أربعة يحاولون أن يبلغوا هذه الغاية ويرتقوا إلى هذه النهاية، والناس من حولهم يرمونهم بعيونهم، ويتبعونهم بأبصارهم، وهم مجدون في الأصعاد، مندفعون في التوقل، لا يكترثون لم نظر ولا لمن لم ينظر، ولا يبالون بما يعترضهم في سبيلهم، حتى تتعاظم أحدهم عقبة فيَهِن، ويتعلل بأن لو كان على الجهد مزيد لبلغه، ويثبط الثاني تعاقب الموانع، وتواصل العقل، فينكل عما شمر له، والناس بين مبتئس له عاذر، وضاحك به ساخر، ويمضي الآخران حتى تكتنفهما السحب، ويغيبا عن عيون الناس، وترمقهما النسور، ثم يشتد البرد، ويعظم الخطب، وتثور الرياح، وتهيج العواصف، ويتوعر المرتقى، وتنصدع الأرض فيهوي أحدهما، والمجد خوان وغرار، وينطلق الآخر متخطياً رقاب الموانع، مذللاً ظهور العوائق، بين بروق السحاب ورعودها، وثورة العواصف وهجودها حتى ينتهي إلى الغاية، ويبلغ النهاية، فيصافح كونفوشيوس، وبوذا، وموسى، وعيسى، ومحمداً، وهومر، وشكسبير، وابن الرومي وغيرهم ممن لا حاجة بنا إلى حصرهم. وهنا شبهة ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يفوتون أطراف بنانهم، وهي أن يدعي أني قد أسرفت في القول، وجاوزت الحد فيما زعمت من أن للعظمة غاية لا مزيد عليها، ولا متجاوز وراءها، وأن من بلغها من العظماء متكافئون في المزية لا فاضل بينهم ولا مفضول. وهي شبهة سائرة على الأفواه، وإنما دخل الغلط على الناس فيها من جهة حسبانهم أن العظمة تقاس كما تقاس الأرض طولاً وعرضاً وتحد كما تحد الدار شرقاً وغرباً، وخلطهم بين ما يحتمل النسبة والقياس وما لا يحتملهما، ونسيانهم أن الشاعر الفحل مثلاً لا يخمل أخاه الفحل، إذا أخمل العالم العالم، وأنه

وإن كان كل روائي مديناً (لهومر) إلا أن هذا ليس بمانع أن يدرك شأوه أحد من غير أن يزري به، كما أزري (جاليليو) بدائنه (متزو) وكما أزري (كبلر) (بجاليليو) و (ديكارت) بالجميع وإنما كان هذا كذلك لأن العلم لا يقف عند حد، ولا يطمئن إلى حال فهو أبداً في تقدم، ولعل خير الكتب العلمية أحدثها، فالجديد منها ينسخ القديم، والمتأخر من العلماء يبني على ما أسس المتقدمون، ويشيد على ما وضع الأولون، والأصل في كل شيء أن يزيد ويقوى ويتقدم، ولكن جمال الشعر في أنه ليس قابلاً لشيء من ذلك، لأنه ابن الإرادة، ولأن العلم اكتسابي والشعر وحي وإلهام، فإن امتريت في هذا فأرجع البصر في القرون الخالية هل ترى شكسبير غض من دانتي، أو دانتي من هومر؟ وليس معنى هذا أن الشعر جامد لا يطرأ عليه تغير، ولا يلحقه تحول، وإنما معناه أنه يتحول ولا يتقدم، فإن شعر أبي تمام غير شعر المتنبي وإن كانت الأغراض واحدة، ولا الثاني بعد لا يفضل الأول ولا الأول الثاني. . ولكن ما عسي دهشة صولون تكون إذا علم أنّا لا نعتمد اليوم في حساب السنة على القمر، أو زينون إذا رآنا نسخر من قوله أن الروح مقسمة إلى ثمانية أجزاء، أو أفلاطون وهو من تعلم إذا قيل له أن ماء البحر لا يشفى كل داء، أو أبيقور إذا علم أن المادة تتجزأ إلى مالا نهاية له من الأجزاء، أو أرسططاليس إذا قيل له أن خامس العناصر ليس له حركة كروية، لأنه ليس ثمة عنصر خامس، أو أيمنيد إذا علم أن اختلاط الشاء والنعم بيضائها بسودائها وتقديم بعضها قرباناً للألهة لا ينفع من الطاعون ولا غيره، أو كريسباس إذا قيل له أن الأرض ليست سطحاوان الكون ليس مستديراً محدوداً، وأن لحم الإنسان خير طعام للإنسان، وأن الأب لا ينبغي أن يتزوج من ابنته، وأنه رب كلمة لا تقتل الحية ولا تذلل الدب، ولا توقف النسور في الجو، وأنه وإن كان سيف (جوبتر) مصنوعاً من خشب السروفليس يجب من أجل ذلك أن لا يصنع النعش منه، وأن العنقاء لا تعيش في النار ولا في غيرها، وأن الهواء لا يحمل الأرض كما تحمل العربة الأثقال، وأن الشمس لا تشرب من البحر ولا القمر من الأنهار، وأنه لا يعرف شيئاً وإن كان أهل (أثينا) قد نصبوا له تمثالاً نقشوا عليه: إلى كريسباس الذي يعرف كل شيء.

أما في الشعر فالأمر على خلاف ذلك، لأن الآتي لا يفوق الفائت، ولكن يبلغ شأوه، ولا خوف على متقدم من متأخر، فإن المتنبي لم يخمل اسم النابغة، ولا صغر المعري قدر البحتري، ولا أنزل الشريف من رتبة ابن هانئ، ولا ابن الرومي من بشار، ولقد أعجبتني كلمة كتبها (جويتى) إلى معاصره (شيلر) قال: لقد عادت النفس فحدثتني أن أجعل قصة (وليام تل) ملحمة شعرية، ولست أخشى على من روايتك، ولا بأس عليك مني ولا بأس عليَّ منك. وهذا صحيح لأن الشعراء لا يركب بعضهم أكتاف بعض ولا يدفن بعضهم بعضاً ويمشي ... أواخرهم على هام الأوالي وليس الأصل في الشعر التقليد والحكاية والطبع على غرار من سبق، إذ لو كان هذا كذلك لاستوجب ذلك أن يظهر الفحول من مثل هومر وشكسبير وابن الرومي في آخر العصور ولا في أولها، ولكنك ترى الشعر في جاهلية الأمم وبداوتها كالشعر في حضارتها، لطف تخيل، ودقة معنى، وسداد مسلك، وقصداً للغاية، لأن شاعرية الإنسان لا يلحقها نقصان، ولا يعروها فتور في عصر من العصور، كالبحر، وليس يزيد البحر صوب الغمام، ولا يضيره احتباس الغيث، وأنت فلا يغرنك ما ترى من الكلال في الأوقات، والضعف في الأحيان، فإن المدّ في جهة يستلزم الجزر في أخرى،. . وكما أن البحر إمّا جاش يبثك ما في صدره مرة واحدة، ويفيض لك بجميع سره موجه الملتطم، وأذيه المصطفق، ولجه المربد، وثَبَجُه المغبر، كذلك يستريح إليك الشعراء بمكنون سر النفس الإنسانية، وباطن أمرها، ويفرشونك ظهرها وبطنها، في كل عصر، وكتتابع الأمواج تتابع الشعراء: تسكن الإلياذة فتثور (الرومانسيرو) ويرسب الإنجيل فيطفو القرآن، وتأتي بعد نسيم النواسى زوبعة ابن الرومي وبعد صبا البحتري صرصر المعري،. . . ورب مستفسر يقول إذا كان هناك كذلك أفليس كل واحد صورة معادة لمن سبقه وهذا خطأ وهو أيضاً صواب فإن الشعراء جميعاً أشكال متشابهون على أنهم بعد يتفاوتون التفاوت الشديد، فالنفس واحد، والأصوات مختلفة، والقلوب متطابقة، والأرواح متباينة، وكل شاعر يطبع الشعر بطابعه ويسمه بميسمه. كذلك الرياح نسيم وعواصف، وصرصر وحرور، وهي بعد كلها رياح،. . والأيام سبت

وأحد واثنين ولكل يوم حوادثه ومميزاته وهي بعد كلها أيام، والشعراء هومر وفرجيل وشكسبير وابن الرومي والمتنبي ولكل صفته التي تميز بها وهم بعد كلهم شعراء وكلهم هومر وكلهم شكسبير وكلهم ابن الرومي. وبعد فأنا كما يعلم القارئ مما أسلفنا عليه القول في صدر كلامنا على البطولة لا نرى رأي كارليل الذي بسطه في كتاب الأبطال وعبادة البطولة حيث يقول هذه حقائق كان الأقدمون أسرع إلى إدراكها منا نحن. . . . . . . . كانوا بدلاً من اللغو واللغط في شأن الكائنات ينظرون إليها وجهاً لوجه والروع والإجلال حشو قلوبهم أولئك كانوا أفهم لآيات الله في كونه وأدرك لسر الله في عبيده - كانوا يعرفون كيف يعبدون الطبيعة وأحسن من ذلك كيف يعبدون الإنسان!. بيد أننا لم نذهب إلى أن الأقدمين كانوا أضعف منا إدراكاً للعظمة والبطولة ولا أقل فطنة لمعانيهما ولا أبطأ حساً، وإنما قلنا إنا أحسن تقديراً لهذه المعاني منهم، وأقل غلواً وأدق استشفافاً لها واستبطاناً لكنهها وهذا مالا ينكره علينا كارليل في كتابه الذي أشرنا إليه، فإن الناظر في كتاب الأبطال يعرف من تبويبه وتنسيق فصوله كيف تطور معنى البطولة كما تطور كل شيء في العالم، وكيف أن الإنسان كان في بادئ الأمر يعبد الأبطال ثم عرف أن الألوهية ليست للإنسان، وهنا مسألة عجيبة الأمر لطيفة المأخذ وهي أن الأنبياء هم أول من صرف الناس عن عبادة الناس وصححوا أخطأهم في ذلك وكسروا من غلوائهم وأقاموهم على طريقة هي لا ريب أمثل وأفضل، ثم أدرك الناس بعد ذلك أن البطولة ليست قاصرة على الأنبياء وأنهم لم يختصوا بها وحدهم دون غيرهم وأنه رب قسيس كلوثر هو في المنزلة الأولى بين الأبطال ثم فطنوا إلى أن الأنبياء والقساوسة ليسوا كل العظماء وأن الشاعر عظيم والفيلسوف عظيم والملك عظيم، فهل يدعي بعد ذلك أحد أنّا اليوم لسنا أوسع من الأقدمين مجال فكر وأبعد مرمى نظر وأننا لسنا أفطن للعظمة في جميع مظاهرها؟ ثم ألست ترى كيف أن الأقدمين كانوا يتوجهون إلى العظماء بقلوبهم دون عقولهم وإنّا نتوجه إليهم بقلوبنا وعقولنا معاً! وبعد فإن مجال الكلام ذو سعة، ونحن نخشى أن يطول عنان القول ويمتد بنا نفس الكلام فنخرج عما قصدنا إليه ولحسبنا هذه المقدمة الوجيزة. وإن كنا لم نستوعب فيها أطراف

الموضوع وأغراضه المتشعبة ولكنا حريون أن لا نمتحن صبر القارئ وأن ندخره لما يأتي،. .

ثورة النفس

ثورة النفس أرسل الأديب عبد الرحمن شكري إلى صديقيه الأديبين عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني قصيدة بهذا العنوان من القافية المزدوجة فأجاباه كل بقصيدة من القافية والبحر وهذه هي القصائد الثلاث: قال شكري: للنفس في بعض الأحايين ثورة ... يكاد لها جسم الفتى يتمزق فيا نفس كم تبغين ما ليس حادثاً ... وحتام آمالي لديك تحرق هياج كما هاجت قطاة تعلقت ... بأحبولة الصياد إذ ليس مهرب أما في سكون الليل يا نفس واعظ ... أما في سكون الروض ملهى ومطلب فهل تحسبين نائماً كلَّ ساكن ... وهل تحسبين ميتاً كل هاجع نعم إن للشلال روعاً وهيبة ... ورب جلال للعواصف رائع نعم للرياح الهوج هول وقسوة ... وللبحر أمواج تهيج فتحرب أغرك من هذي الطبيعة أنها ... تثور فلا يقوى عليها المغلب وما أحسب اليمّ الخضم بثائر ... إذا كان هذا اليم يشقى ويألم وما القلب إلا لوعة تأكل الحشا ... وما الجسم إلا ذلك اللحم والدم نعم أنت فيما تبغضين مصيبة ... ويا حسن ما تبغين من خير مطلب ويا حسن ما تملى الخيالات أنها ... حلّى على جيد من الدهر أجرب تريدين أن الجسم يغدو كأنما ... يضيء به منك الضياء المحجب إذاً لأراقت كل نفس ضياءها ... على ظلمة للعيش والعيش غيهب سأبذل جهدي في تعلم رقصة ... لأرقصها إن الحوادث تطرب فيا نفس قومي فارقصي في جوانحي ... كما رقص المجنون يهذي ويلعب فلا تعذلوني إن لليأس رقصة ... تعلمها المحزون من نشوة الأسى وللنفس آهات من اليأس والجوى ... تحقر آهات الأناشيد والهوى فيا ليت أني في فم البرق كامن ... فيودعه الأشجانَ قلب معذب ويا ليت أني مثل (زوس) مسيطر ... على الرعدان يغضب كذا الرعد يغضب ولكنني أما صرخت كصارخ ... غريق له صوت من الماء خافت

ورب بليغ راجح الرأي والحجا ... ولكنه بين الحوادث صامت وقال العقاد: شكوتَ الذي أشكوه فاعلم بأنني ... وجدت من الأيام ما أنت واجد أضر بعيني النقع حتى حسبتني ... أكابد وحدي في الوغى وأجاهد أتحسب أن اليمّ يسكن إن شكا ... نظائر ما نشكوه من الثوران ولو كان يلقى ما نلاقي من الأذى ... لطاف على الأرضين بالفيضان أهابت بنفسي وثبة بعد وثبة ... كما نهض الرئبال لم يرأم الأسرا وقد روضّها الحادثات فأخلدت ... إلى القيد حتى ما تهم به كسراً لقد كنت أرجو في الحياة لبانة ... فعدت ومالي في الحياة رجاء وكنت أظن الناس إلا أقلهم ... كراماً إذا هم كلهم لؤماء وكان خيالي في السماء محلقاً ... فهاض جناحيه الزمان المغرر إذا استل منه ريشة بعد ريشة ... جرى دمه في أزهار يتحدر وكنت إذا هبّ الرجاء ابتدرته ... وساورت تيار الحياة بلا جدوى فأسلمت نفسي للزمان فأشبهت ... سواحله الخضراء أغواره القصوى عجيب من الدنيا توالى صروفها ... وأعجب منه حبنا لدوامها هو العيش داء والنفوس مريضة ... ولكنها تأبى شفاء سقامها إذا جهل المرء الحياة أحبها ... وقد يعشق الإنسان ما ليس ينظر يشوّقنا من يحجب الشك حسنه ... وقد نؤثر السلوان ساعة يسفر يلذ لنا مطل الرجاء كأنه ... حبيب يروق المطل منه ويعجب ونعرض عن صدق القنوط لأنه ... عبوس المحبة شاحب الوجه أشيب على أنني أحيا كأني عائش ... لغيري فلا نفعاً أُصيب ولا ضرا وقد كنت أُزْهَى بالأمور فإنني ... لأخجل مما كنت أزهي به دهراً وآدم في الفردوس ما زال عارياً ... يهش لريحان النعيم ويقطف فلما جنى غرس الحقيقة راعه ... من الأمر ما قد كان من قبل يألف أصوغ على ضرب الحوادث نغمة ... وليس لأنغام الزمان تناسب

فأرقص محزوناً وأرقص راضياً ... وأُرقص هذا الكون والكون غاضب يجيش ضميري بالهموم فتغتدي ... سواكن هذا الملك وهي تمور إذا شبت النيران باتت ظلالها ... تميل على جدرانها وتدور فيا ويح للنفس التي يكبرونها ... وأكبر منها في البقاء الجوامد أيشعلها قوت ويطفئ نارها ... نسيم سري من عالم الموت بارد أتشرق حتى يملأ الكون نورها ... وتخمد حتى في ضريح تغيّب سراج ولكن ما احتمى أن يدوسه ... من الموت طفل بالعوالم يلعب كذاك ترى المصباح ينشر حوله ... أشعة نور لا يحيط بها الطرف فإن حطمته الكف آض زجاجة ... مفرقة الأجزاء تحملها الكف ولو أن بالإنسان جسماً كروحه ... وكان سواء بطشه ومواهبه لنادي الضحى قف يا نهار فلم يسر ... ونادي الدجى هيا فسالت غياهبه وقال المازني: أخا ثقتي كم ثارت النفس ثورة ... تكلفني مالا أطيق من المض وهل أنا إلا رب صدر إذا غلا ... شعرت بمثل السهم من شدة النبض لبست رداء الدهر عشرين حجة ... وثنتين يا شوقي إلى خلع ذا البرد عزوفاً عن الدنيا ومن لم يجد بها ... مراداً لآمال تعلل بالزهد تراغمني الأحداث حتى إخالني ... وجدت على كره من الحدثان فلا هي تصمي القلب مني إذا رمت ... ولا ترعوي يوماً عن الشنآن أبيت كأن القلب كهف مهدم ... برأس منيف فيه للريح ملعب أو أني في بحر الحوادث صخرة ... تناطحها الأمواج وهي تقلب أدور بعين حيّر العيش لحظها ... وأرجعها محمرة كالشقائق كأن فؤادي بين شجو وترحة ... أديم تفريه أكف الخوالق أكن غليلي في فؤادي ولا أرى ... سبيلاً إلى إطفاء حر جوى الصدر أعالج نفساً أكبر الظن أنها ... ستذهب أنفاساً أحراراً على الدهر إذا اغتمضت عيناي فالقلب ساهر ... يظل طويل الليل يرعى ويرصد

وما إن تنام العين لكن أخالها ... تدير بقلبي نظرة حين أرقد وهل نافعي أن الرياض حَليّة ... منورة النوار هادلة الطير وما فرحي أن الرياح رواقد ... إذا كنت سهران الفؤاد مدى الدهر نسيم يرد النفس حيناً لناشق ... وأي أوام بعده وأوار تطول ظلال النبت والشمس طفلة ... فإن هي جدت صرن جد قصار سأقضي حياتي ثائر النفس هائجاً ... ومن أين لي عن ذاك معدى ومذهب على قدر عرفان الحياة شقاؤنا ... وللسعد جو بالبلادة مشرب خليلي مهلاً بارك الله فيكما ... فما في سكون الليل يستثير رواقدي وإن سكنت نفسي فليس بضائري ... رياح تجر الذيل حولي وتعصف فليس يضير الحوت في البحر إنه ... يهيج وإن الموج يطغي ويعنف

فصل من كتاب سر تطور الأمم

فصل من كتاب سر تطور الأمم ننشر هنا الفصل الأخير من كتاب سر تطور الأمم الذي عني بنقله إلى العربية شيخ الكتاب الاجتماعيين في مصر العالم أحمد فتحي زغلول باشا - وهذا الفصل هو كالفهرس لسائر أبواب الكتاب وموضوعاته وبقراءته يلم القارئ بنظريات هذا الكتاب إلماماً. قال: لكل أمة خواص نفسية ثابتة خواصها الجسمية تقريباً. والنوع النفسي كالنوع الجسمي أي المادي لا يتغير إلا على طول السنين ومر الأجيال. يوجد بجانب الخواص النفسية الثابتة الوراثية التي يتكون منها المزاج العقلي لكل أمة خواص ثانوية تنشأ من تغيرات البيئة وتتجدد على الدوام فيخيل لذلك أن الأمة في تحول مستمر كبير. المزاج العقلي لكل أمة هو خلاصة أفرادها الأحياء وأسلافهم الذين كونوها. فالشأن الأول في حياة الأمم للأموات لا للأحياء لأنهم هم الذين خلقوا شعورها الأدبي وهيأوا الأسباب البعيدة في سيرها. تمتاز الأمم بعضها عن بعض بفروق كما امتازت بفروق نوعية. والأولى ملازمة للثانية. والفرق ضعيف بين أفراد المثال الوسط في أمة ومثلهم في أمة أخرى وعظيم جداً بين أفراد الطبقات الراقية. ومن هذه المقارنة يتبين أن الفارق بين الأمم الراقية وبين الأمم المنحطة هو في احتواء الأولى عدداً غير قليل من ذوي العقول الكبيرة وفي أن ذلك غير موجود في الثانية. يتساوى أفراد الأمة المنحطة فيما بينهم مساواة واضحة وكلما ارتقت الأمة وجدث الفروق بينهم. فأثر الحضارة الذي لا بد منه هو إيجاد الفروق بين الأمم وبين الأفراد وعليه فهي سائرة نحو التفاوت لا نحو المساواة. حياة الأمة ومظاهر حضارتها مرآة روحها تدل على أمر خفي لكنه موجود. فالحوادث الخارجية أثر ظاهر النسيج خفى هو الفعال. ليس الشأن الأول في حياة الأمم للاتفاق ولا للأحوال الخارجية ولا للنظامات السياسية على الأخص بل لخلق كل أمة. لما كانت عناصر مدنية كل أمة هي للدلالة الخارجية على مزاجها العقلي أعني ممثلة حال تلك الأمة من حيث الكيفية الخاصة بها في شعورها بالمحسوسات وتصورها إياها فمن

المتعذر نقل تلك العناصر إلى أمة أخرى من دون تغيير فيها. وإنما الذي يمكن نقله هي الصورة الظاهرة السطحية التي لا قيمة لها. اختلاف المزاج العقلي بحسب الأمم يجعل كل واحدة تتصور الوجود بصورة خاصة فهي إذن تختلف في الحس والعقل والعمل. ويقوم النزاع بينها على جميع المسائل متى احتكت ببعضها. وهذا التنازع هو سبب جميع الحروب المدونة في التاريخ. فحروب الفتح والحروب الدينية وحروب العائلات المالكة كلها في الحقيقة حروب جنسية لا يتكون من مجموع أفراد مختلفي الأصل شعب مستقل. أعني أنهم لا يكون لهم روح يشتركون فيها كلهم إلا إذا كثر تبادل النسل بينهم مدة طويلة. واتحدت معيشتهم في بيئات متحدة. وصارت مشاعرهم واحدة ومنافعهم مشتركة. ومعتقداتهم عامة لا يكاد يوجد في الأمم المتحضرة شعوب أصلية بل ليس هناك إلا شعوب صناعية تكونت من أحوال تاريخية. لا يؤثر تغيير البيئة تأثيراً شديداً إلا في الشعوب الجديدة أعني التي تكونت من أخلاط شعبية تفككت أخلاقها الموروثة بكثرة التناسل. فلا يفل الوراثة إلا الوراثة. وإذا لم يكن للتناسل من القوة ما يكفي لزعزعة الأخلاق وتشتيتها كان تأثير تغيير البيئة قاصراً على التخريب. وقد يموت الشعب القديم ولا يقبل التغيير الذي تقتضيه ضرورة انطباعه على بيئة جديدة. تبلغ الأمة ذروة مجدها متى تم لها روح قوى قام وتسقط متى تحلل هذا الروح. وأهم العوامل في هذا التحليل دخول عنصر أجنبي في الأمة. تتأثر الأنواع النفسية كالأنواع المادية بالزمان كلاهما يهرم ويموت. وتحتاج كلها في تكوينها إلى زمن طويل. وقد تزول في وقت قصير. إذ يكفي أن تضطرب وظائف أعضائها ليحدث فيها تطور نحو السقوط وقد تكون نتيجة الدمار العاجل. فالأمم تقطع قروناً طوالاً قبل أن يثبت لها مزاج عقلي خاص. وقد تفقده في برهة يسيرة. فالشقة التي تسير فيها إلى الحضارة بعيدة. ومنحدر السقوط قصير غالباً. المبادئ من أهم عوامل الحضارة بعد الخلق ولكنها لا تؤثر إلا بعد أن تتطور على مهل حتى تصير شعوراً وتصبح جزءاً من الخلق نفسه وتخرج بذلك من دائرة البحث والنظر. ولا تزول المبادئ إلا بعد مرور دهر طويل. وكل حضارة ترجع إلى بعض مبادئ أساسية

مسلم بها من الكافة. أهم المبادئ المؤثرة في الحضارة المبادئ الدينية واختلاف الأديان هو السبب البعيد في أعظم حوادث التاريخ. فتاريخ الإنسانية مقترن على الدوام بتاريخ آلهتها. وهؤلاء أبناء خيالنا ولهم مع ذلك سلطان كبير حتى أن تتغير أسمائهم كاف وحده في قلب نظام العالم بأسره. وظهور آلهة جديدة كان على الدوام طليعة لحضارة مقبلة واختفاؤهم كان على الدوام نذيراً بزوال حضارة مدبرة.

أخبار العلم

أخبار العلم ننشر في هذا الباب كل ما نعثر به في صحائف الغرب من أخبار العلم والمكتشفات وما إلى ذلك من كل ما يفيد قراء البيان ويوقفهم على الحركة العلمية في العالم وهذه طرف من هذا الباب أهداها إلى البيان الكاتب الفاضل السيد صالح بك حمدي حماد. مطارحات علمية ابني نجيب - محصول الذهب في العام الماضي - اللؤلؤ - كارثة الكبتن سكوت - الذباب ومضاره - النساء - تحويل القوة إلى مادة - عيون النبات. من عادة ابني نجيب ذلك الفتى الألمعي إذا قدم من المدرسة أن يلزم مجلسي ويشرع يتصفح ما عندي من المجلات الفرنسية والصحف العلمية وينظر فيها بشوق فخطر لي يوماً أن أختبره فيما يطالع منها فقلت له وأنا أبتسم: ـ لعلك يا بني تفيد من هذه المطالعة وتزداد منها معلوماتك ولا تعوق عليك سيرك في علومك المدرسية، قال: أجل إني أميل إلى اجتناء ثمار هذه الصحف في بعض ساعات الفراغ وأؤكد لك أيها الوالد الشفيق أنها لا تضر بي بل هي تزيد معلوماتي، قلت: وما الذي أفدته اليوم وهل يمكنك أن تقول لي شفهياً خلاصة ما جنيته من المطالعة في هذا الأسبوع وما علق بذهنك من الحقائق العلمية، قال: نعم ولكنني أطلب إليك فقط أن تذكرني الموضوع وذلك أن تفتح إحدى هذه المجلات التي لدينا وتلقي عليّ في شكل سؤال ما تريد وما أذكره أنا يكون الجواب المختصر المفيد. فعظم نجيب في عيني وأعجبتني قوة ذاكرته فقلت وأنا نشوان من الفرح: ـ حسناً يا بني رأيت ثم مددت يدي إلى إحدى المجلات وفتحتها فوقع بصري على موضوع الذهب في العام الماضي فقلت: ماذا تقول هذه الصحيفة في مستخرج الذهب في العالم في السنة الماضية أي عام 1912م. قال: لقد دل الإحصاء الأمريكي أن مستخرج الذهب من مناجم أمريكا قد زاد في العام الماضي عما قبله بمقدار عشرة ملايين وربع من الريالات تقريباً وإن قيمة المستخرج منه من بلاد الترنسفال في تلك المدة بلغ ثمانية عشر مليوناً ومائتين وخمسة وعشرين ألف ريال ودل إحصاء البلاد الأخرى كرودبسية وغرب إفريقية ومدغسكر وأمريكة الوسطى

والجنوبية وكندة ومناجم أوربة والهند وكورية واليابان على أن زيادة المستخرج من النضار قد تضاعف في العشرين عاماً الماضية إلا ما حصل فيه من العجز سنتي 1900 و1902 بسبب تعطل العمل في مناجم الترنسفال أبان حرب البوير، والزيادة الحاصلة في المستخرج من الذهب إنما حصلت من اكتشاف مناجم جديدة للنضار في إفريقية وأمريكة وسيبيرية. ثم أن للقارة الإفريقية السوداء المقام الأول في استخراج الذهب لأن ما يستخرج منها يبلغ 45 في المائة مما يستخرج من العالم كله ويبلغ ما يستخرج من مناجم الترنسفال وحدها 40 في المائة من ذهب العالم. ويلي الترنسفال الولايات المتحدة الأمريكية وإن كان قد نزل محصولها الذهبي إلى النصف وهبط عنه قليلاً في العام الماضي، أما أوسترالية فقد ظهر العجز أيضاً في المستخرج من مناجمها في العام الماضي وتدل الأحوال على أن التقصير راجع إلى تقصير تلك البلاد نفسها. وبلغ المستخرج من النضار من مناجم روسية في السنة الماضية ما قيمته سبعة وعشرون مليوناً من الريالات على أن هناك من محصول تلك عجزاً سببه قلة المياه في المناجم وثورة العمال في مقاطعة لينا وفيها أعظم مناجم سيبيرية الذهبية. ولم تستكشف في العام الماضي مناجم جديدة للذهب وإنما يظن الباحثون أنه قد يوجد منها في الكونغو بإفريقية وفي بلاد منشورية ومنغوليا بالصين وفي بعض جهات أمريكا الجنوبية - والذهب كما لا يخفى عليك يوجد في مناجمه على هيئة تراب أي تبر أو قطع وسبائك ويوجد منه في جهات أسوان والسودان وهكذا تفتح كنوز الأرض لأهل الجد والنشاط قلت أوترى ذلك يا بني قال وهل ثم برهان أكبر من المحسوس. فسررت من جوابه واسترسلت في تقليب المجلة حتى عثرت على فصل في اللؤلؤ فقلت له أرجو يا بني أن تغوص مع غواص هذا اللؤلؤ وتقص علي مضمون هذا الفصل فقال: ـ لا يخفى عليك أن اللؤلؤ من أنفس الجواهر التي يتنافس فيها الناس ولقد اختلف الناس في تكوينه فالهنود يزعمون أنه قطرات من الندى تدخل أصدافه ويزعم غيرهم أنه بيض لحيوانه أي محارة يبقى في مبيضه أو يبرز عنه لامتلائه فيغطي بالمادة اللؤلؤية. وقال

سواهم أنه حبات من الرمل أو بقايا من نباتات بحرية تدخل محار اللؤلؤ فتجمد فيها وتصير إلى هذا الدر النفيس. وهناك رأي رابع وهو دخول بعض الحيوانات الطفيلية محارة عند تفتحه فيغطيها بالغشاء اللؤلؤي ويستحيل إلى هذا الدر، وعند كاتب هذه المقالة على ما أذكر أن محار اللؤلؤ إذا تفتح وأصاب جسمه الرخو جسم آخر سواء كان حيواناً أو رملاً تأثر به فانطبق عليه وغطاه بغشائه فكان من هذه العملية هذا اللؤلؤ العجيب. ويتمثل اللؤلؤ للناظرين في أربعة أشكال لؤلؤ مستدير ولؤلؤ مستطيل وكمثري الشكل وآخر يشبه الزورق في شكله، فالمستدير ما وجد عادة داخل المحارة ووسطها والكمثري الشكل ما كان في أطرافها والمستطيل بقسميه ما كان على حافتيها، ولقد كان يعتقد بعض الناس إلى عهد قريب أن اللؤلؤ كائن حي قابل للموت ثم إن الفرق بين اللؤلؤ الصادق واللؤلؤ الكاذب أن الصادق منه كثير المادة اللؤلؤية قليل الماء في تركيبه وأنه شديد الصلابة صعب المكسر وإن كان سهل التخطيط والثقب وتؤثر فيه بعض الأحماض حتى أنه ليؤثر في عقوده حول النحور وعلى الصدور كثرة تعطر الغانيات وما يضعن حول أنماقهن وعلى صدورهن من الدهان والطلاء، فهو وإن ازداد حسناً في أعناق رباته بما تكسبه إياه حرارة أجسامهن من لمعان وبريق فإنه قد يخبو ويطفأ لونه إذا كان من الشغفات بعقاقير الطلاء والأصباغ، غير أنه مهما يكن حال هذا اللؤلؤ الصادق فإنه سهل التنظيف والصقل كالمرآة الصادقة يسهل جلوها وبهذه الوسيلة بل لتلك المزية سهل على الناس الاحتفاظ بألوان عقود اللؤلؤ التاريخية. واللؤلؤ تؤثر فيه النار بسرعة حتى أنه يصير فحماً في أقرب وقت لأنه سريع الالتهاب فلهذا ينبغي الحرص عليه إذ كم من عقود من الدر ذهبت طعمة للنار. ولنفاسة اللؤلؤ عنيت الممالك بمغاصاته، فالانكليز يمنعون صيده في جزيرة سيلان إلا كل سنتين أو ثلاث سنوات مرة، وفي بلاد فنزويلة وجزيرة مرغريتة شرعوا ينظمون طريقة صيده، وفي بلاد تاهيتي التابعة لفرنسا بدأت الحكومة تتخذ الاحتياطات في تنظيم مغاصاته وكذلك في جزيرة مدغسكر، وهناك مغاصات كليفورنية الجديدة غير أن مغاصات هذه الجهة قد تركت الآن لرداءة لؤلؤها وصغر جسمه، وأهم مغاصات اللؤلؤ مغاص الياز في كليفورنيا حتى لقد تنشأ فيها الأحواض الكبيرة فيدخلها محار اللؤلؤ فيترك حتى ينمو ويعظم

ثم يصاد ويستخرج جمانه، ولا يخفى عليك أيها الوالد شهرة مغاص اللؤلؤ بالبحرين وجهات العجم. ومحار اللؤلؤ وصفه يتكاثر بإخراج بيضه ثم إن أجود اللؤلؤ ما وجد في البحار على عمق عشرة أو خمسة عشر متراً من سطح الماء. ولقد اجتهد الناس من قديم الزمان في عمل اللؤلؤ الصناعي ولكن إلى الآن لم ينجح الصناع لحسن حظ المتغالين في اقتناء عقود اللؤلؤ وجمانات البحار الأصلية في إتقان ما أتقن الباري صنعه وإخراجه زينة للناس من تلكم الأصداف. واللؤلؤ يباع الآن في أسواق أوربا بوزنه بالقيراط وهو متفاوت الحجم والثمن على أن من اللآلئ وعقودها ما قد تقدر قيمته بآلاف الدنانير ولقد بيع بالأمس في باريس عقد من اللؤلؤ من عقود السلطان عبد الحميد فبلغ ثمنه مليوناً ونصفاً من الفرنكات وفي متاحف أوربا وعند ملوكها وملوك الهند أولئك الراجات الفخام من الدرر الغوالي وعقود اللآلئ ما يعجب ويطرب من عظم حجمه وغلو ثمنه وجمال شكله. فقلت لنجيب حينئذ لأفض فوك على ما صغت لي من هذه الدرر التي تزري بتلك. ثم قلبت في الصحيفة التي أمامي حتى استوقف نظري فاجعة الكبتن سكوت ذلك الرحالة الإنكليزي الذي مات هو ورجال بعثته في نواحي القطب الجنوبي على ما ذكرته الصحف في الشهر الماضي وحزن عليه الإنكليز حزناً شديداً وجعلوا من حادثه درساً لصبيانهم يعلمهم الثبات والصبر على الشدائد فقلت له ما هي كارثة الكبتن سكوت فقال وقد تأثر عند سماع هذا الاسم: ـ الكبتن سكوت بحري إنكليزي لم تنجب الأمم مثله إلا قليلاً ولقد أكرم الشعب الإنكليزي شأنه بعد وفاته حتى أنه لما أقيمت في كنيسة القديس بولس بلندن الصلاة على روحه وروح رفاقه في ظهر يوم الجمعة 15 فبراير الماضي جمعت مدارسها في عموم بريطانيا العظمى طلبتها وألقت عليهم سيرة ذلك البطل الذي راح شهيد الاكتشاف وأعلن أولئك النشء أن اسمه يجب أن يقرن باسم غيره من الأبطال الإنجليز الذين لم يهابوا الشدائد وقابلوا الموت بصدور رحبة وثغور باسمة وأنه يجب عليهم أن يذكروا على الدوام قبره المنفرد بتلك الأصقاع القصية مطموراً في ظلامات ثلوج القطب الجنوبي كأعظم مفخرة

لهم. وكانت بعثة الكابتن سكوت قد سافرت لتحقيق اكتشاف القطب الجنوبي على السفينة ترنوفا التي غادرت لندن أول يونيو سنة 1910 ووصلت زيلاندة الجديدة في شهر نوفمبر في تلك السنة وأقلعت منها في 29 منه بحر الروس في 30 ديسمبر وفي 3 فبراير سنة 1911 أشرفت تلك السفينة على خليج ماك مود الذي يمتد في القارة الجليدية ثم ألقت البعثة عصا التسيار في رأس إيفان لتمضية فصل الشتاء وتقدم الكابتن سكوت نحو الجنوب براً ومعه ثمانية عشر من الخيول الصغيرة وسيارات زحافة وثلاثون كلباً ليضع بالقرب من القطب مستودعاً للمؤن فتم له ذلك في شهر أبريل ثم سافر سفرة أخرى حتى وصل إلى أطراف الجليد العظيم في جهة القطب وهناك أقام مستودعاً آخر للمؤن حيث في تلك النقطة يبدأيبدأ سيره إلى القطب كما عول عليه في خطة سيره على ما ذكر في الخطبة التي فاه بها قبل رحلته حيث قال أني سأجعل تلك النقطة آخر محطة لي في سفري إلى القطب في شهر أكتوبر عام 1911 فلا يبقى على من المسافة إليه سوى ثمانمائة من الأميال يحتمل أنّا لا نقطع منها إلا عشرة أو خمسة عشر ميلاً في اليوم وربما وصلنا بهذا السير البطيء إلى القطب في أواسط شهر ديسمبر من تلك السنة حيث يكون الصيف قد بلغ منتصفه في جهة القطب في 22 ديسمبر. ووصلت أخبار بعثة الكابتن اسكوت لأول مرة بواسطة سفينة مستر نوفا حيث جاءت تلك السفينة إلى (أكروا) في زيلاندة الجديدة يحمل ربانها رسالة من الكابتن سكوت إلى قاعدة أعماله في ماك مود ولقد جاء في هذه الرسالة أني (سأبقى في جهات القطب شتاء آخر حتى أتمكن من إتمام عملي) وحملت السفينة ترنوفا من أخبار الكابتن سكوت في 3 يناير سنة 1912 وأنه لم يبق بينه وبين الوصول إلى القطب سوى مائة وخمسين ميلاً وهو مطرد السير لبلوغه على أن تعجيله بالأخبار عن ذلك دون الانتظار حتى يصل إلى القطب ثم يعلن وصوله إليه إنما سببه ضرورة التعجيل في سفر السفينة ترنوفا من تلك المنطقة الجليدية قبل أن يداهمها الشتاء القطبي ويتجلد حولها فمخافة ذلك هي التي اضطرت الكابتن اسكوت أن يرسل رسوله إلى السفينة ويحملها تلك الرسالة قبل مغادرتها ذلك الصقع المتجمد.

ولقد كتب الكابتن اسكوت صحائف في رحلته هذه سطر فيها ما لقيه هو ورفاقه من الصعاب والمشاق التي لم تكن في حسبانه مستسلماً للأقدار دون أن يثني العنان قائلاً في بعض تلك الرسائل التي تركها وعلى الرغم من كل تلك الصعوبات فإني لم آسف لها ولم أندم على مقاساتها لأنّا بما أظهرنا من الجلد ورباطة الجأش إنما أدرعنا بما لقومنا الإنجليز من الثبات والصبر على تحمل الأهوال والتعاون في الشدائد إلى النهاية ومقابلة الموت بشجاعة ثم ختم هذه الرسالة بحكاية ما وقع له ولرفاقه عند ما جاءهم الموت من كل مكان تحمله عواصف الثلج فقال أول من مات منا الكبتن إيفان في 17 قبراير وبعده بشهر جاء دور الكابتن أوط فالتزم باقي الرفاق وقد صار الطقس رديئاً جداً إلى السير بلا نظام ثم اضطررنا أن نقف في 31 مارس بين الدرجة 70 و30 من العرض الجنوبي والدرجة 69 و23 من الطول الشرقي ولقد وجدنا على بعد أحد عشر ميلاً من مستودع المؤن ولكنا لم نقدر أن نصل إليه لهياج عواصف الثلج الشديدة التي ظلت ثائرة تسعة أيام. . . . . . . . ونفذت كل المؤن ومواد الوقود التي كانت مع البعثة في تلك المرحلة غير أن ذلك لم يمنع من متابعة السير إلى هون بوان وهناك علمت بخبر عودة بعثة الفومندان كمبايل إلى قاعدتها في رأس إيفان. ودام ما ذاق سكوت ورجال بعثته من العذاب قبل أن يلحقهم الموت ستة أشهر وقد وجدت عندهم رسائل ومكاتيب كتبوها يفتت إلا كباد ما وصفوا فيها ولقد وجدت بينها رسالة استغاثة بملك النروج كتبها الكبتن أمندسن أحد رجال البعثة. وهاك نص آخر رسالة خطباً بنان الكبتن سكوت يخاطب فيها قومه الإنكليز وقد أطنب القوم في بلاغتها قال: لم تكن هذه الكارثة التي نزلت بنا لتقصير في معداتنا وإنما سببها الوحيد سوء الطالع الذي حاق بنا فأولاً جاء هلاك دوابي ضربة شديدة على اضطرتني إلى التأخر عن السفر والتعويق في الطريق بما لم يكن في حسباني حتى التزمت أن أخفف من أحمالنا وأثقال مؤونتنا. ثانياً اضطرنا رداءة الطقس في هذه الرحلة إلى التأخر ولا سيما بعد الدرجة 83 عرضاً. ثالثاً ليونة الثلوج التي نمشي عليها مما جاء ثالثة الأثافي في استفراغ قوانا وإبطاء سيرنا

وكنا نعاني الصعاب في مقابلة تلك المشاق حتى استنفد هذا الجهاد جميع مؤننا ثم قال ولا نظن أنه قد أصاب إحدى البعثات ما أصابنا أو عاني قوم ما عانينا مدة شهر من الزمان حتى لم يبق معنا سوى شيء قليل من الوقود لتهيئة طعامنا الذي كان قد نفد هو أيضاً ولم يبق معنا منه ما يكفينا يومين كاملين. وها قد مضت علينا أربعة أيام لم نقدر على الخروج من مضربنا بسبب هياج العواصف الثلجية والزعازع الزمهريرية التي تحيط بنا من جميع الجوانب. لقد صرنا ضعافاً وخارت قوانا حتى لم تعد لنا قدرة على الكتابة أما أنا فلست بآسف ولا حزين الفؤاد على خروجنا لهذه الرحلة التي أظهرت أن في الإنكليز اليوم من يقدرون على مقابلة الصعاب ومقارعة الشدائد والصبر على الأهوال ثم التعاون في ساعة الشدة وعدم المبالاة في ملاقاة الموت ومقابلته على نحو ما سبق لبعض سلفهم وهذه الملاحظات التي أكتبها على عجل ثم جثثنا التي سيعثر عليها ملقاة على الثرى ها هنا كل هذا لعمري يقص عليّ من يأتون للبحث عنا تاريخنا ولا أخال بلاداً كبلادنا تترك آلنا وذوينا في أوطاننا عالة بعدنا. فقلت لابني كفى يا بني أثار هذا الحديث أشجاني وكنت أحب أن لا يموت هذا الرجل ولكن هل تحقق للكبتن سكوت أمر القطب الجنوبي الذي كان قد قام باكتشافه منذ سنتين الرحالة روالد أمندسن وهل عمل الإنكليز بوصية سكوت قال أجل إن سكوت وصل القطب الجنوبي في 18 يناير سنة 1912 ورأى القلم الذي نصبه هناك أمندسن وقد رتب الإنكليز لأرملته وابنه معاشا بل نشرت الجرائد أنهم قاموا يكتتبون بالأموال الطائلة إعانة لأرامل رجال هذه البعثة وأولادهم وتخليد ذكرهم وقد رأيت كيف جعلوا أيها الوالد العزيز سيرته بين سير أبطالهم وهو وأيم الحق خليق بكل إكرام وهل الشرقيون يكرمون عظماءهم مثل هذا الإكرام. . وبينما نجيب يتكلم دخلت علينا أخته الصغيرة زكية وفي يدها قطعة من الحلوى وهي تبتسم ابتسامة الساذج فرأى بعض الذباب على وجهها ويدها بها حلوى فاستشاط غضباً وصاح ألقي هذه الحلوى واذهبي فاغسلي يديك ووجهك ولا تتركي الذباب يحط عليك مرة أخرى لأنه أكبر موصل للأمراض والأوصاب فتبسمت لكلامه لأني تذكرت أن بعض

مجلاتنا أو صحفنا نشرت فصلاً في الذباب ومضاره وأن نجيباً لا بد أن يكون قد تشرب من أفكارها فقلت كالممتحن له ولم كل هذا الخوف يا بني من الذباب ولو كان من الضرر بمثل ما يقول هؤلاء العلماء لما يبقى على ظهر الأرض حي!. فاحتدم وقال (وهل تشك أيها الوالد في صدق ما يقال عن الأضرار للذباب وهو أعدى عدو للإنسان لأنه ينقل إليه كثيراً من الأمراض سواء بالحط عليه أو على طعامه بأرجله التي قد تكون ملوثة بجراثيم الأرض أو بسرعة إبرازه بذوره على ما يحط عليه من الأجسام فتتحول دوراً في بعضها خصوصاً أجسام القذرين المهملين لنظافة أبدانهم فلقد ثبت أن الذباب لا يهاب الدخول في أفواه النائمين وإلقاء بذوره فيها فقد شوهدت هذه الديدان في مبرزاتهم كما شوهدت في قروح بعض المرضى وعيون بعض الصبية على قدر الإمكان في تنظيف أبداننا وأفنية دورنا وأماكن أقواتنا حتى لا يتكاثر عندنا هذا العدد الجم من الذباب). فلما سمعت أخته هذا الكلام انسلت من الغرفة بلطف ثم عادت إلينا وقد طرحت الحلوى وغسلت يديها ووجهها وجلست إلى جانبنا وهي تبتسم كأنها تقول ها أنا ذي قد صرت نظيفة لا يمكن الذباب أن يحوم بكثرة حولي أو يحط عليّ طويلاً فقال أخوها وهو يقهقه لقد أحسنت يا أختي واعلمي أنك لسماعك النصح وإطاعتك والديك تصيرين زينة أبويك بين بنات مصر اللائي سينهضن نهضة شريفة يصلحن بها حال الأمة المصرية ويرقيها إن شاء الله تعالى كما رقت بنات الغرب هيئته حتى قامت فيهن اليوم فكرة الرغبة في الحصول على حق الاشتراك مع الرجل في الحقوق العامة لتولي الأحكام فحصلن ذلك في بعض بلاد أمريكا وأوروبا ويسعى إليه الآن جهدهن النساء الإنجليزيات على أننا في مصر لا تطمع النساء عندنا في ذلك بل لا يحب المصريون أن يروا نساءهم طامعات فيه وغاية ما يتمنى لهن أن يتعلمن ويتهذبن ويدرن البيوت وبعض الأعمال الحيوية اللائقة بهن وأن ينلن احترام الرجال لهن ومحبتهم بتلك الوسائل الجليلة لا بالحمق والرعونة والزينة الكاذبة وإنّا في كل نزداد قرباً من الوقت الذي ستعرف فيه نساؤنا وهيئتنا قيمة ذلك وتقدره قدره ما دام الشباب راغبين فيه. وأحب أن يطيل في هذا الموضوع فاعترضته قائلاً:

ـ تلك مسألة فيها نظر وإنّا لنتمنى يا بني قرب ذلك اليوم على أنه لن يأتي على أحسنه إلا إذا عرف الرجال عندنا قيمة الحياة الصحيحة والنظام العائلي الحق لا نظرياً فقط بل عملياً ثم عملياً. ثم قلت لتطرق موضوعاً آخر يا نجيب قال وما ذاك يا أبي قلت ما هو اكتشاف السر وليم رمزي الذي يقول بتحويل المادة إلى قوة فقال بعد أن سكت برهة استجمع فيها فكره خلاصة هذا الاكتشاف أن السير رمزي قال في الجمعية الكيماوية الملوكية بلندن أنه أحمى بعض أنابيب قديمة من أنابيب أشعة أكس إلى 200 فحصل منها على غازات وبتحليلها وفحصها بواسطة المكروسكوب وجد من بينها عنصري الهليوم والنيون فهذا يترجح معه تحول القوة إلى مادة إذا صحت هذه التجربة العلمية وثبتت بواسطة معامل أخرى لأنه من أعظم الاكتشافات في ديوان العلم من حيث تحول العناصر على أن كفاءة السير وليم رمزي وعظم تدقيقه في تجاربه حمله على التثبت من اكتشافه وهل النيون الذي وجده في الأنابيب آت من الخارج أم لا أي لم ينفذ من زجاجها فغطس الأنبوبة في جو من النيون والهليوم ثم أخرجها وفحصها فثبت له أن هذا العمل لم يزد في مقدار الغاز الموجود منها داخل الأنبوبة هذا ولقد حملت الصحف الأخيرة ثناء أحد أساتذة السربون المسيو هاليير على السير وليم رمزي الذي له أياد بيضاء في مسائل الطبيعيات والكيمياء. فقلت وهل ترى يا بني أمثال هذا الاكتشاف مما يزعزع أركان الحقائق الروحية على ما تزعم الصحف ففكر قليلاً وقال وما رأيك أنت قلت رأيي أن مسئلة تحول العناصر والقوة مما أشير إليه قديماً ومهما كان الحال فإنه لا يدل إلا على عظم إبداع الخالق تعالى ثم قلت لابني وهل قرأت ما حملته إلينا المجلة في هذا الشهر من أن للنبات عيوباً يبصر بها كما تبصر الحيوانات الدنيا فصاح نجيب عجباً إنني لم أطالع ذلك ولا أعرف منه إلا ما تخيله جماعة الشعراء والأدباء من عيون الزهر وغيره من الأزهار وهل رأوا عيون النبات تختلف كعيون الظباء بين عسلية وزمردية وأخرى سوداء ثم استدرك مجلسي ومقامي معه فقال إني لا أخال هذا الذي يزعمونه مهما قالوا إلا من قبيل الخيال. قلت - بل إنه قد قام بالأمس الأستاذ غوتلب هاير لأن أحد علماء النبات في البلاد النمسوية وصرح بأنه قد ثبت له بعد تجارب عديدة وملاحظات دقيقة أجراها أن في بعض النباتات

أعضاء للبصر تشبه على نوع ما أعضاء البصر في الحيوانات الدنيا وأن الخليات السطحية في النبات هي العدسات المحدبة التي تشاهد في صفائح عيون الحشرات ومن المعلوم أنها فيها كثيرة العدد فهي في الذباب تبلغ 4000 وفي النمل 17000 أما الخليات المشابهة لتلك في أوراق النبات فلا يحصيها عد في عدد الصور التي يسببها العكس البصري ويحدثها فيها وأن خميلة من الشجر تنشر أما الشمس عطرها النباتي قد تجمع على هذا مالا يدخل تحت حصر من الصور المنعكسة لأن كل خلية قشرية فيها لها نفس الخواص التي للعدسات البصرية المميزة في الحشرات، على أن أبصار النبات ليس بالذي يحس به النبات إحساس الحشرات ببصرها فتميز كل الصور المرتسمة على صفائح عيونها بل هو يكون على الكيفية التي يرتئيها ذلك العالم بما أخذه من الصور الفوتوغرافية. . . . . . . . . . . للأجزاء الطرفية الدقيقة في بعض الأشجار. ولقد أيد هذه التجارب الدكتور لونال من لندن والدكتور هارول واجر فتحقق لهما أن كل خلية من خليات سطوح ورق الشجر منطبع فيها كثير من الصور الخارجية الواقعة على أبعاد متفاوتة منها وهي تمثل صور أشخاص ودور إلخ فيستخلص من هذا على ما قال هؤلاء العلماء أن للنبات أي الأشجار أعيناً بسيطة كأعين النحل والذباب ونحوهما من الحشرات وإن اختلفت عنها وأن ليس لها مادة مركبة، ولقد عدد الأستاذ غوتلب هابرلان ما عرف له أعيناً من الشجر فذكر منه الجميز والجميز النروجي فهذا يا بني حاصل ما ذكروا في أعين النبات وبصره على أن من العلماء من ينكر ذلك ويقول كما قلت أنت الآن إن الأمر خيالي لا حقيقي.

حديث البيان

حديث البيان موضوعات هذا العدد هذا هو العدد الرابع من المجلد الثاني للبيان. وأن من أجال نظره في صفحاته يرى أن قد ابتدأناه بنبذة من كتاب حضارة العرب في الأندلس لصاحب هذه المجلة ولعل القارئ علي ذكر مما أسلفنا نشره من هذه الرسالة الأولى من هذا الكتاب حتى لا تنقطع عليه سلسلة المعاني التي يجمل أن تكون متصلة بعضها ببعض في ذهن القارئ. وهذه النبذة كما يرى الناظر تتضمن بقية الكلام على تقويم جزيرة صقلية وذكر المشهور من بلدانها والمعروف من علمائها وأدبائها وقد أطلنا في ذلك إلى الحد الذي لا يعدو ما نقصد إليه من ذلك وهو بيان ما كان للعرب في هذه الجزيرة من الحضارة المتمكنة حتى نبغ فيها من العلماء والأدباء أمثال من ذكرنا وهو كما قلنا غيض من فيض وقليل من كثير ونحن لو كان لدينا فسحة من الوقت ولو حصلنا على سائر الأسفار التي تعرضت لتراجم أهل جزيرة صقلية مثل خريدة العماد الكاتب ودرة بن القطاع ومختار ابن بشرون الصقلي وما إليها لكان حقاً علينا أن نتقصى هذا الباب الذي لم نعلم أحد من أهل عصرنا قد ألم به إلماماً فضلاً عن إيفائه حقه من القول وقد رأينا من تمام الفائدة أن نضع (خريطة) تصور هذه الجزيرة وبلدانها كما كانت أزمان العرب وكذلك البحر الأبيض المتوسط وجميع البلدان التي جاء لها ذكر في هذه الرسالة وقد أعاننا على وضع هذه المصور صديقنا الفاضل الشيخ محمد علي فخر أستاذ علم تقويم البلدان في مدرسة دار العلوم فجزاه الله عن العلم وأهله خير ما يجزى به المخلصون ثم أردفنا هذه النبذة الصقلية بالنبذة الثانية من الكلام على الشاعر ابن الرومي للكاتب الأديب السيد إبراهيم عبد القادر المازني يلي ذلك المقامة الأولى من مذكرات إبليس وعنوانها أغواء فتاة للكاتب الحكيم السيد عباس محمود العقاد وبعد ذلك يرى الناظر ثلاث مقطعات شعرية موسومة بثورة النفس للأدباء شكري والعقاد والمازني ثم باب أخبار العلم وفيه أبحاث جديدة في أبواب من العلم عدة اختارها للبيان الأستاذ صالح بك حمدي حماد - ومما نشرنا في هذا العدد ثمان صفحات من كتاب التربية الطبيعية أو اميل القرن الثامن عشر للفيلسوف جان جاك روسو ترجمة الكاتب المازني - وقد نشر من هذا الكتاب فيما سلف من أعداد البيان اثنان وثلاثون صفحة وهذي ثمان. ومما نشرنا كذلك

ثمان صفحات من قصيدة دون جوان لشاعر الانكليز الأكبر اللورد بيرن ويقوم بترجمتها الكاتب السباعي وقد نشر منها إلى الآن، مائة واثنا عشرة صفحة بأرقام منفصلة عن أرقام البيان وقد عثرنا أثناء بحثنا عن الأسفار القديمة النافعة في المكتبة الخديوية على رسالة للفيلسوف العربي أبي علي ابن مسكويه أسماها كتاب السعادة وهي رسالة جليلة مفيدة في هذا الباب كما يرى القارئ ولذلك رأينا نشرها في صحائف مستقلة بأرقام غير أرقام البيان. وهي فيما نظن لا تتجاوز الثلاثين صفحة نشرنا منها في هذا العدد ثمانياً - أما رواية البيان فقد كنا عزمنا على أن ننشر في كل عدد من البيان رواية تامة لا تبتدي حتى تنتهي فيه بيد أن حرصنا على أن تكون روايات البيان من الروايات الأدبية المفيدة الباقية على الزمن الباقي - كثيراً ما يحول دون هذا العزم لندرة الروايات الأدبية القصيرة التي لا تتجاوز الست عشرة صفحة أو الأربعا وعشرين كما هو المقدار الذي يتسع له البيان. ومن هنا ابتدأنا في هذا العدد بنشر رواية وسط ليست بالقصيرة ولا بالطويلة غير أن البيان لا يتسع لنشرها كلها في عدد واحد. وهذه الرواية هي من الروايات الخالدة التي تعد في صف البؤساء واضرابها - قال الأستاذ أحمد الخازندار وهو مترجم (وليم تل) هذه وأحد خريجي مدرسة الحقوق الخديوية والمحترف بالمحاماة الآن وأحد رجالات الأقلام المفكرين في مصر. وليم تل رواية تمثل جهاد أهالي سويسرة في طلب الاستقلال في القرن الرابع عشر وضعها الكاتب الألماني فريدريك شيلر وهي آخر مؤلفاته وأحسنها وقد نقلت إلى سائر اللغات الأوربية وهي وليدة شاعرين وثمرة فكرين ناضجين، فقد ولدها خيال شلر عمدة الكتاب، وحضنها جويتي نابغة الأدباء، نشرها الأول من محشر الأرواح ونفخ فيها روحاً من عنده، وهيأ الثاني مادتها وزار البقاع التي حدثت فيها مواقعها التاريخية شاء جويتي أن يصوغها ملحمة على الطراز الهوميري وشاء القدر غير ذلك فأبى إلا أن يتناولها شيلر بلباقته المعروفة ويخلق من حوادثها رواية تمثيلية من أندرما أخرجته القرائح الرواية خالية من العواطف الكاذبة والتشبيه الصناعي ولكن الطبع يجري فيها وفي أشخاصها حتى لا تكاد تجد الشاعر يتطفل بعواطفه ليفسد شخصية أبطال الرواية. وقد قال عنها المستر سايم أنها قوبلت بإعجاب واستحسان أشد من سابقاتها من مؤلفات

شيلر وكانت ألمانية في دور انتقال من أظلم عصورها التاريخية فكان نور هذه الرواية يهب في سمائها نور أمل تجتمع إليه الأبصار وهي ليست خصيصة بعصر من العصور ولا خاضعة لأحداث الزمان والمكان ولكنها متأصلة في طبع الإنسان. وكذلك نشرنا في هذا العدد الفصل الأخير من كتاب سر تطور الأمم وهذا الفصل هو كالفهرس لسائر أبواب الكتاب وموضوعاته: وربما نشرنا في العدد القادم مقالاً طوالا في تحليل نظريات هذا الكتاب وتطبيقها على مصر والمصريين إن شاء الله. (اعتذار) نعتذر إلى قرائنا الأفاضل عن تأخر هذا العدد الرابع عن موعده بما طرأ على المطبعة من الخلل الذي أفضي إلى ذلك. وهنا نجدد القول بأن موعد كل عدد من البيان هو آخر الشهر العربي لا أوله فيكون موعد العدد الرابع هو 30 ربيع الثاني واليوم (أي يوم يظهر هذا العدد) هو يوم الخميس 10 جمادى الأولى الموافق 17 إبريل فيكون قد تأخر هذا العدد عن موعده 10 أيام فقط لا كما يظن بعض الناس الذين لا ينظرون إلى كل مشروع مصري إلا بالعين السوداء وتراهم يسيئون الظن بكل عامل مصري وينعون عليه ويشيعون المنكر عنه فلا تأذن من ناحيتهم أمام مثل البيان إلا قولهم: متى ينجح المصري؟ ها هو ذا قد تأخر البيان عن موعده؟ أنا لا أشترك في البيان لأنه غير منتظم! أين المصري من غير المصري؟ - إلى أمثال ذلك مما لا يدل للأسف إلا على القصور والتقصير وقلق الفكر وملل الذهن وعدم ثقة المصري بنفسه فلا يثق لعمري بأخيه. فيأيها الساخطون مهلاً بعض هذا التشنيع وأولى بكم ويمين الله أن ترجعوا على أنفسكم باللوم والتأنيب ولتعلمن أن البيان كغيره ليس إلا بقرائه وإذا كان للبيان فضل فهو من الله وحسن توفيقه وإن كان ثمت نقص فهو من أنفسكم وسوء تقديركم وليت شعري كيف ينجح البيان وغير البيان إذا لم تنجحوه أنتم وتسعدوه. وكيف يتسق أمره مع تشويشكم عليه بالكلم العور فضلاً عن المماطلة في تأدية الحقوق. ثقوا أولاً أيها الساخطون بأنفسكم وأشعروها الواجب وقوموا بواجب البيان عليكم ثم طالبوا البيان بواجبكم عليه والسلام على من اتبع الهدى.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة سر تطور الأمم كتاب جليل لمؤلف جليل - فالكتاب يبحث في روح الشعوب وبحسبك هذا موضوعاً وقد وضعه فيلسوف أوربا في هذا العصر الدكتور جوستاف لوبون صاحب روح الاجتماع وحضارة العرب وروح الاشتراكية وروح السياسة - ونقله إلى العربية شيخ الكتاب الاجتماعيين في مصر العالم المخلص أحمد فتحي زغلول باشا وكيل نظارة الحقانية: قال سعادة المترجم في مقدمته لهذا الكتاب: نقلت إلى العربية منذ ثلاث سنين كتاب روح الاجتماع للدكتور جوستاف لوبون فاستقبله القراء بالحسنى وكان واضعه قد سبقه بمؤلف من نوعه سماه سر تطور الأمم رجع إليه في مواضع كثيرة من روح الاجتماع - فلما قرأته رأيت من الواجب أن أقدمه لقراء الكتاب الأول حتى يجتمع لديهم الفرع بأصله. وقد لا يمضي زمن طويل فأعرض عليهم كتابين جديدين لهذا العالم الكبير: روح السياسة وروح الاشتراكية: فالكتب الأربع سلسلة أفكار واحدة كل كتاب يبرزها في صورة خاصة تمتاز بفائدتها عن البقية - انتهى. ومن هنا يعلم الناظر أن سر تطور الأمم هذا هو وشقيقه روح الاجتماع هما رضيعا لبان، وفرسارهان، وأن من قرأ الثاني لا يستريح أو يقرأ الأول والحق نقول انا نحن المصرين بحاجة إلى مثل هذه الأسفار النافعة كحاجة البلد الجديب إلى المطر الجود أما لغة الترجمة فهي لغة فتحي باشا زغلول المعروفة بالسهولة ورونق الطبع حتى أنه ليخيل إلى قارئ منقولات سعادة المترجم لصدق الترجمة واشتباهها بالأصل أنه أوتي علم الغيب وألهم علم اللغات فهو يقرأ الكتاب بلغته الأصلية الأولى لا بلغة أجنبية أخرى: ونحن فلنا كلمة ضافية على منزلة سعادة المترجم ومكانته الأدبية سوف ننشرها في كلمة لنا أسميناها (كتاب العربية اليوم) إن شاء الله. نشوء الاجتماع خير ما تهتدى به الأمم الطامحة إلى الرقي والراغبة في الحياة هو إدراك السنن الطبيعية التي يجري عليها الارتقاء واكتناه الظواهر الاجتماعية التي تظهر في كل مجتمع يتنازع البقاء وقد كان الكشف عن ذلك أكبر ما يرمي إليه العلماء في أبحاثهم وتحليلاتهم غير أن

مؤلف هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم لفراء العربية نزع إلى نمط جديد في البحث. نظر في المجتمع فإذا هو صورة مكبرة من الفرد تجري نشأته وارتقاءه على ذات السنن الطبيعية التي تجري عليها حياة الفرد مع اعتبار النسبة بين الاثنين ولذلك لم يتردد في الاعتداد بأن المجتمع كائن حي ثم امتحن الظواهر الاجتماعية على هذا الاعتبار الخ الخ كذلك قال مترجم هذا الكتاب الفاضل محمد زكي صالح في مقدمته ومؤلف الكتاب هو بنيامين كد أحد الباحثين في علم الاجتماع من أبناء هذا الجيل ولغة الترجمة في المنزلة الوسطى لا هي بالمبتذلة ولا هي بالجزلة الفصحى - وثمن الكتاب خمسة قروش صاغاً وأجرة البريد قرش واحد. الأدب المصري رسالة صغيرة تقع في 160 صفحة من القطع الصغير كان قد قدمها الأستاذ الشيخ محمد سليمان أحد خريجي القسم العالي بمدرسة القضاء الشرعي وهو ظالب فيها حسب عادة لهم في ذلك - وقد تعرض الأستاذ في هذه الرسالة إلى الكلام على الفنون الأدبية من الشعر والكتابة والغناء في هذا العصر. وأنا أستميح الأستاذ عذراً عن قولنا أن لغته للأسف ضعيفة وأسلوبه الانتقادي أضعف فقد أصعد بأناس ليسوا هناك إلى منازل الأملاك، وأهوى بآخرين أفضل من أولئك إلى مقر الأسماك، ونوه بقوم ليسوا من الأدب ولا قلامة ظفر، وأغفل آخرين هم من أركان الأدب في هذا العصر وثمن الكتاب خمسة قروش وأجرة البريد قرش واحد ويطلب من مكتبة البيان. مبكر الغيث كناشة لحضرة الأديب محمود رمزي نظيم أثبت فيها طائفة صالحة من منظومه ومنثوره - ولم يتيسر لنا لضيق الوقت قراءة هذه الكناشة ولكنا نرجو أن تكون عند ظننا بصاحبها الأديب.

نوابغ العالم

نوابغ العالم عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية بالأندلس فريدريك الأكبر مؤسس الوحدة الألمانية هو معلوم مالتراجم نوابغ العالم عُرْباً كانوا أم من العجم، وكانوا من أرباب السيف أو من أرباب القلم، من الفائدة والأثر المحمود في نفس الناظر، وما هنالك من اللذاذة والفكاهة وترويح النفس واستجمام الخاطر. ومن هنا رأينا أن ننشر في كل عدد من أعداد البيان ترجمتي نابغتين من نوابغ العالم المتقدمين منهم والمتأخرين، بقلم كاتبين من كبار الكتاب وثقات المؤرخين، وهاتان ترجمتا نابغتين عظيمين أولهما نابغة من نوابغ العرب وثانيهما نابغة من نوابغ الإفرنج، الأول صقر قريش - كما سماه الخليفة أبو جعفر المنصور - الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك رأس الدولة الأموية في الأندلس ومحييها بعد موتها - والثاني رجل بروسيا فردريك الثاني الملقب بالأكبر بن فردريك غليوم بن فردريك الأول بن فردريك المعروف بالأمير العظيم - مؤسس الوحدة الألمانية. والأول بقلم مؤرخنا العظيم الفيلسوف عبد الرحمن بن خلدون والثاني بقلم أكبر مؤرخي الانجليز اللورد ما كولي - ونحن الآن بادئون بترجمة الأمير عبد الرحمن. عبد الرحمن الداخل تمهيد وفي هذا التمهيد نقتطف من الرسالة السادسة من كتابنا حضارة العرب في الأندلس نتفاً تتعلق بجغرافية الأندلس وتأريخها قبل فتح الإسلام وبعد إلى دخول المترجم به ثم نسرد سيرة الأمير عبد الرحمن بقلم العلامة ابن خلدون مع الحذف والزيادة والتقديم والتأخير إن شاء الله. وصف الأندلس

جزيرة الأندلس ويسميها العجم اشبيلية هي قطر كبير متصل بالأرض الكبيرة التي هي بلاد إفرنجة العظمي إلى جنوبيها الغربي - وهي على مثال الشكل المثلث حيث تعتمد على ثلاثة أركان فركنها الواحد فيما بين الجنوب والغرب عند ضم قادس حيث يتلاقى البحر المحيط المعروف ببحر أقيانس والبحر المتوسط الشامي - وركنها الثاني بشرقيها بين مدينة أربونة لعلها تربون إحدى مدائن فرانسا الآن ومدينة برديل (بردو الآن) حيث يقترب البحر المحيط من البحر الشامي فيكادان يجتمعان فتصير الأندلس جزيرة بينهما لولا جبل البرت (البرنات) الذي قام ثمت وفصل الأندلس من بلاد افرنسة - والركن الثالث هو في بلاد جليقية حيث الجبل الموفى على البحر المقابل جزيرة برطانية كما تتحقق ذلك إذا أنت نظرت المصور الجغرافي الذي صورنا لك فيه هذه الجزيرة. ومن هنا تعلم أن الأندلس ليست بجزيرة على الحقيقة لاتصال أرضها بالأرض الكبيرة وأن حدها الجنوبي هو الخليج الرومي الخارج من البحر المتوسط مما يقابل طنجة في موضع يعرف بالزقاق - وسعة هذا الخليج اثنا عشر ميلاً - وحدها الشمالي والغربي البحر المحيط. وحدها الشرقي جبل البرت الواصل ما بين البحرين - ومسافة ما بينهما في هذا الجبل ثلاثة مراحل - ووسط الأندلس مدينة طليطلة التي كانت في القديم قاعدة القوط وعرضها 39 درجة و50 دقيقة وطولها 28 درجة فصارت بذلك في القريب من وسط الإقليم الخامس ومعظم الأندلس في هذا الإقليم الخامس وطائفة منها كأشبيلية وقرطبة وغرناطة والمرية في الإقليم الرابع. أما أن العرب سموها الأندلس فذلك لما سيمر بك أن قوماً يعرفون بالأندلوس سكنوا قديماً شطرها الجنوبي فسماه من بعدهم من أعجام رومة والقوط أندلوشيا فلما فتح العرب هذه الجزيرة سموها كلها الأندلس تسمية للكل باسم البعض كما تسمى الأرض الكبيرة بلاد افرنجة وفيها افرنجة وغير افرنجة - أما تسمية العجم إياها اشبانية فلم نعلم لذلك سبباً على التحقيق ويلتحق بجزيرة الأندلس جزائر أخرى منثورة في البحر المحيط والبحر الشامي المتوسط وهي جزيرة قادس من كورة شريش من أعمال اشبيلية - وهذه الجزيرة في البحر المحيط، وهذا البحر المحيط فيه جزائر أخرى كثيرة، صغيرة وكبيرة. ففيه الجزائر الخالدات السبع وهي غربي مدينة ستلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي: وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات، وفي هذه الجزائر من المدن والقرى

مالا يُحصى، ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس على دين النصارى، أو لها جزيرة برطانية - وفي البحر الرومي جزائر ميورقة ومنورقة ويابسة، وقد مضى وصفها في الرسالة الأولى من كتابنا حضارة العرب في الأندلس. وهذه جزيرة الأندلس هي بلد كريم البقعة طيب التربة خصب الجناب، منبجس الأنهار الغزار، والعيون الثرار. بل هو لتفوقه على سائر البلدان، كأنه قطعة انفصلت من الفردوس واستقرت في هذا المكان. ومن هنا كانت مستبحرة العمران، كثيرة المدن والقرى والحصون والقلاع، حتى لقد بلغني أن بها ثمانين مدينة من القواعد الكبار وثلاثمائة ونيفاً من المتوسطة وفيها من الحصون والقرى والبروج مالا يُحصى كثرة حتى قيل أن عدد القرى التي على نهر اشبيلية اثنا عشر ألف قرية - ولقد ذكرنا في الرسالة الثانية من كتابنا حضارة العرب في الأندلس - وعنوانها من المرية إلى قرطبة - أنا كنّا نجد في اليوم الواحد ثلاث مدن وأربعاً، وكنا لا نكاد نقطع فرسخين دون أن نرى الماء، وحيثما سرنا نرى الحوانيت في الفلوات والصحاري والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة وهذا لعمري مالا يوجد في صقع من معمور الأرض. ومن مشهور مدائن الأندلس مدينة قرطبة وهي لعهدنا هذا قبة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية، وإليها الرحلة في رواية الشعر والشعراء، إذ هي مركز الكرماء ومعدن العلماء، فهي لعمري تملأ الصدور منها والحقائب، ويباري فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب، وترى ساحاتها مجر عوالي ومجرى سوابق، ومحط معالي وحمى حقائق، وهي من بلاد الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، والزور من الأسد، ولها الداخل الفسيح، والخارج الذي يمتع البصر بامتداده فلا يزال مستريحاً وهو من تردد النظر طليح - وقد وصفنا فيما سلف لنا في الرسالة الثالثة من حضارة العرب مسجدها الكبير والزهراء وقنطرة الوادي الكبير وما إلى ذلك من سائر أرياضها ومنتزهاتها ومدارسها وعلمائها وأدبائها وشعرائها وفلاسفتها وجملة القول أنا وصفنا هنالك كل شيء في قرطبة. ومن مشهور مدائنها كذلك غرناطة واشبيلية وطليطلة والمرية وسرقسطة وجيان ومالقة

ومرسية وبلنسية ودانية وماردة وأشبونة عاصمة البرتغال الآن وشلب وهذه من القواعد الكبار. وشنت باتو (سانتياجو إحدى مدائن البرتغال) وشريش وطركونة (تراجونة في شرق الأندلس) وبرشلونة وبنبلونة (بمبلونة) وشلمنقة (سلمنكا) ومجريط (مدريد عاصمة إسبانيا الآن) وتلمرنة كوامبرة إحدى بلاد البرتقال وقرطاجنة. (وهنا وصفنا هذه البلدان وصفاً شافياً وذكرنا من أنجبته من علماء المسلمين وأدبائهم وفلاسفتهم وما إلى ذلك وكذلك ذكرنا معادن الأندلس وحيواناتها وشارات ملوكها وشعار أهلها في كل شيء وربما ننشر هذه الرسالة كلها في أحد الأعداد القادمة إن شاء الله). تاريخ الأندلس كانت جزيرة الأندلس في القديم يسكنها أمم شتى من أفرنجة المغرب كأمة الأندلوش التي سميت البلاد باسمها كما أسلفنا، وأمة الجلالقة وهي أشد بأساً وأعز نفراً وأمة القوط الفيزيغوط وهذه هي التي استوسق لها أمر الأندلس ودال إليها من يد الروم (الرومان) الذين امتلكوها حيناً من الدهر كما امتلكها اليونان والأفارتة (القرطاجنيون). وقد تملك هؤلاء القوط جزيرة الأندلس وغلبوا أهلها على أمرهم لمتين من السنين قبل الإسلام بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة ثم عقدوا معهم السلم على أن ينصرف القوط إلى الأندلس فساروا إليها وملكوها - ولما أخذ الروم واللطينيون بملة النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أمم أفرنجة والقوط عليها فدانوا بها - وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة وكانت دار ملكهم وربما تنقلوا ما بينها وبين قرطبة واشبيلية وماردة وأقاموا كذلك نحواً من أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح - وكان ملكهم لذلك العهد يسمى رذريق أو لذريق وهو سمة لملوكهم. الأندلس من حين الفتح إلى دخول بني أمية وكان لهؤلاء القوط خطوة وراء البحر في عُدوته الجنوبية خطوها من فرضة المجاز بطنجة ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر واستعبدوهم. وكان ملك البربر بتلك البلاد يسمى يليان فكان يدين بطاعتهم وبملتهم وكان مقامه بسبتة - وكان أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله قد استعمل إذ ذاك موسى بن نصر مولى عمر عبد العزيز بن مروان - واضطربت كلمة المؤرخين فيه فقيل أنه لخمي وقيل بكري وذلك أن أبا نصير أصله من

علوج أصابهم خالد بن الوليد في عين التمر فادعوا أنهم رهن وأنهم من بكر بن وائل فصار نصير وصيفاً لعبد العزيز فأعتقه. وعقد الوليد لابنه موسى على أفريقية وما وراءها فخرج موسى لطيّته في نفر قليل من المطوعة حتى إذا ورد مصر أخرج معه من جندها بعثاً وأتي أفريقية عمله ونزل بالقيروان قصبة أفريقية فأخرج موسى معه من أهل ذوي القوة والجلد وصير على مقدمته طارق بن زياد الليثي البربري وأخذ يقاتل البربر ويفتح بلادهم ومدائنهم وأماكن فيها حتى بلغ طنجة فحصرها حتى افتتحها وأسلم أهلوها وخطها قيرواناً للمسلمين وخلف مولاه طارقاً والياً عليها بعد أن استنزل يليان عامل سبتة لطاعة الإسلام - قالوا وكان من ديدن أكابر القوط بالأندلس وقوادهم أن يبعثوا أولادهم يقصدون إلي منفعتهم والتنويه بهم إلى مليكهم بطليطلة ليصيروا في خدمته ويتأدبوا بأدبه ويصيبوا حظاً من جاهه حتى إذا بلغوا زاوجهم بعضاً ببعض استئلافاً لآبائهم، فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل سبتة، ركب الطريقة بابنة له بارعة الجمال عزيزة عليه فلما صارت عند رذريق وقعت عينه عليها فأعجبته ولم يملك نفسه حتى استكرهها فاحتالت حتى أعلمت أباها بذلك فأحفظه شأنها جداً وقال ودين المسيح لأزيلنّ ملكه وسلطانه ولأحفرنّ تحت قدميه فأجاز إلى لذويق وأخذ ابنته منه ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلهم على عورة فيهم أمكنت طارقاً فيها الفرصة فانتهزها لوقته وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو من ثلاثمائة من العرب، واحتشد معهم من البربر زُهاء عشرة آلاف فصيرهما عسكرين أحدهما على نفسه ونزل به جبل الفتح فسمي جبل طارق به، والآخر على طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان مدينة طريف فسمي به، وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصن وانتهي الخبر إلى لذريق فنهد إليهم يجر أمم الأعاجم وأهل ملة النصرانية في زهار أربعين ألفاً ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع وهو على سريره بين دابتين وعليه مظلة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد فلما بلغ طارقاً دنوه قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم، ثم قال: أيها الناس أين المفر. البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر - وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا

لكم أمراً ذهب ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة - واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً - وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات يونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم لمجالدة الأبطال والفرسان. ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم - واعلموا أنني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله فاحملوا معي فإن هلكت بعه فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عيه واكتفوا من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون. فانبسطت نفوس القوم وتحققت آمالهم وهبت رياح النصر عليهم وقالوا لقد قطعنا الآمال مما يخالف ما قد عزمت عليه فاحضر إليه فإننا معك وبين يديك فركب وأصحابه وباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح، وكان ذلك يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين للهجرة الموافق اثنين وعشرين يوليه سنة تسعمائة وعشرة رومية (ميلادية) فلما أصبح الفريقان تكتبوا وعبوا جيوشهم وحمل لذريق وهو على سريره وقد حمل على رأسه رواق ديباج يظلله وهو مقبل في البنود والأعلام وبين يديه المقاتلة والسلاح وأقبل طارق في أصحابه عليهم الزرد من فوق رؤوسهم العمائم البيض وبأيديهم القسي العربية وقد تقلدوا السيوف واعتقلوا الرماح والتحم الجيشان وكان ذلك في فحص شريش. ولما رأى طارق رذريقاً قال هذا طاغية القوم فحمل وحمل معه أصحابه فتفرقت المقاتلة من بين يدي رذريق فخلص إليه طارق فضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره وكان كما قيل: فمساهم وبسطهموا حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب

ومن في كفه منهم قناة ... كمنفي كفه منهم خضاب قُتل العلج الذي فت في عضده الترف وأفسد إنسانيته النعيم. قُتل الظالم الغشوم فقُتل بقتله الجهل والظلم، واستأصل شأفة الضلال والإثم، وأراح على عباد الله حقهم الضائع، واستنقذهم من بين أنياب الحية وفي أنيابها السم ناقع، وهل يكون رذريق ومن يشبه رذريقاً إلا مصدر شقاء لأمته، وجالب عناء إلى رعيته، ومتى كان الظلم إلا طالع نحس وشؤم، والترف إلا رائد كرب وهم. أي رذريق أحسبت حين كنت تعبث ببنات الناس وتفض إغلاق ما ختم الله، أن الله لا يبعث بك ويفض إغلاق ملكك ويؤتيه من هو خير منك. وقد ما لعمري كان الفسوق بالدمار نذيراً، وقد قال ربك وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا - وليت شعري ماذا ظننت إذ تريد أن تذود عن بلادك، وتنضح عن ملكك، وتقاتل أبناء الصحراء، أولئك الذين تسير المنايا حيث سارت منهم الركاب، وتغتبط بحروبهم جياع الطير وخمص الذئاب، إذ هي ضامنة أن ترتع إذ ذاك في لحوم الأعداء، وكذلك ضريت بلحوم الناس حتى تراها تهم أن تختطف منهم الأحياء، فذهبت إلى لقائهم محمولاً على السرير، رافلاً في الدمقس والحرير، كأنك عروس تُجلى إلى الرجال، لا فارس تراد على الطعان والنزال. فلما رأى القوط مصرع صاحبهم التحم الجيشان فهزم الله القوط ونقل للمسلمين أموالهم ورقابهم وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح والغنائم فحركته الغيرة وكتب إلى طارق يتوعده أن توغل بغير أذنه ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به وحتى يتمم هذا العمل العظيم عظيم مثله. وإن كان طارق كذلك عظيماً، بيد أن فوق كل ذي علم عليماً، وليت شعري كيف يلومون ابن نصير على ذلك ويقرفونه بالحقد والحسد، وهل يكون رئيس حازم، ليس بالحاقد ولا الناقم، وهل رأيت صفقة أخسر من غفلة رئيس أحقده غيره فنسى ذلك أو تناساه وعدوه لا يغفل عنه، وحاسده لا يكفيه إلا الراحة منه، ولستُ عمرك الله ممن يقول وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا ولكني أقول: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى ومن الحزم كما قيل أن يكون الرأي ميزاناً لا يزن الوافي لناقص ولا يزن الناقص لواف فاستخلف موسى على القيروان ولده عبد الله وخرج ومعه حبيب بن مندة الفهري ونهض

من القيروان سنة ثلاث وتسعين للهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب الموالي وعرفاء البربر ووافي خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس وتلقاه طارق فانقاد واتبع وأتم موسى الفتح وتغلغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق وأربونة في الجوف وصنم قادس في الغرب ودوخ أقطارها وجمع غنائمها وكتب إلى الوليد فيما هاله من ذلك إنها ليست الفتوح ولكنها الحشر وأجمع أن يأتي المشرق من جهة القسطنطينية ويتجاوز إلى الشام دروب الأندلس ويخوض إليه ما بينهما من أمم الأعاجم النصرانية مجاهداً فيهم مستلحماً لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة فأجفلت ملوك النصارى بين يديه واجتمع الإفرنج إلى قارله (شارل مارتل) ملك افرنسة وقد كان إذ ذاك من أعظم ملوكهم فقالوا له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب، كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها واستولوا على الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم، فقال لهم ما معناه الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه فإنهم كالسيل يحمل من يصادره وهم في إقبال أمرهم ولهم نيات تغني عن كثرة العدد وقلوب تغني عن حصانة الدروع ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ من الغنائم أيديهم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة ويستعين بعضهم على بعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر ونمي الخبر إلى الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب ورأي أن ما هم به موسى غرر بالمسلمين فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف وأسر إلى سفيره (واسمه مغيث) أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع وكتب له بذلك عهداً ففت ذلك في عزم موسى وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة والحامية بثغورها وأنزل ابنه عبد العزيز لغزوها وجهاد عدوها وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة واحتل موسى القيروان سنة خمس وتسعين وارتحل إلى المشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر يقال أن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السبي وولى على إفريقية ابنه عبد الله وعلى المغرب الأقصى ابنه عبد الملك وقدم على سليمان بن عبد الملك الذي ولى الخلافة بعد أخيه الوليد. (نكبة موسى بن نصير) ولما قدم موسى بن نصير على سليمان بن عبد الملك وجده كالمرجل غضباً فأنزل به من

العذاب والتنكيل ما جعل بطن الأرض أحب إليه من ظهرها، وذلك أنه حبسه وعزله عن جميع أعماله وأمر بتقصي حسابه فأغرمه غرماً عظيماً كشفه فيه حتى اضطر إلى أن سأل العرب معونته فيقال أن لخماً حملت عنه في أعطيتها تسعين ألفاً ذهباً وهم سليمان بقتله فاستجار بيزيد بن المهلب لمكانه من سليمان وطلب منه أن يكلمه في أن يخفف عنه فاستوهبه من سليمان فوهبه إياه. وما أحكم الحديث الذي دار بينه وبين يزيد حين لجأ إليه، قال له يزيد: أريد أن أسألك فأصغ إلي، ثم قال لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكايد الحروب ومداراة الدنيا فقل لي كيف حصلت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار وتيقنت بعد المرام واستصعابه، واستخلصت بلاداً أنت اخترعتها، واستملكت رجالاً لا يعرفون غير خيرك وشرك، وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك ثم أنك علمت أن سليمان ولي عهد وأنه المولى بعد أخيه وقد أشرف على الهلاك لا محالة وبعد ذلك خالفته وألقيت بيدك إلى التهلكة وأحقدت مالكك ومملوكك (يعني سليمان وطارقاً) وما رضي هذا الرجل عنك إلا بعيد ولكن لا آلو جهداً - فقال موسى ليس هذا وقت تعديد، أما سمعت إذا جاء الحين غطي على العين، فقال يزيد ما قصدت بما قلت لك تعديداً ولا تبكيتاً وإنما قصدت تلقيح العقل وتنبيه الرأي وأن أري ما عندك فقال موسى أما رأيت الهدهد يرى الماء تحت الأرض عن بعد ويقع في الفخ وهو بمرأى عينه. ثم كلم فيه سليمان فوهب له دمه ولكن لم يرفع العذاب حتى يرد ما غل - زعم سليمان - من مال الله. وآلت حاله إلى أن كان يطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتك به نفسه وفي تلك الحال مات - حدث أحد غلمانه ممن له في أيام محنته فقال: لقد رأيتنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على أحياء العرب فواحد يجيبنا وآخر يحتجب عنا ولربما دفع إلينا رحمة بنا الدرهم والدرهمين فيفرح بذلك الأمير ليدفعه إلى الموكلين به فيخففون عنه من العذاب، ولقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السلوب من قصور الإفرنج فنفصل منها ما يكون فيها من الذهب وغير ذلك ونرمي به ولا نأخذ إلا الدر الفاخر. فسبحان الذي بيده العز والذل والغنى والفقر أي وربك أيها الغلام، إذ الأمر كما قيل:

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سُوقة ننتصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تاران بنا وتصرف أف لهذه الدنيا، بل أف لجبابرة الملوك، ما أغدر وما أخون. فبيناهم يلينون للناس لين فراء السمّور، إذا هم يلبسون لهم جلود النمور، وأنت أيها الغلام ما أكرمك إذ وفيت لسيدك وقت نكبته، وفرجت عنه بعض كربته، وما ألأم ذلك المولى الذي عزم على أن يسلم سيده الأمير موسى وهو بوادي القرى في أسوأ حال ففطن موسى لذلك فذل له وقال يا فلان أتسلمني في هذه الحال فقال له اللئيم قد أسلمك خالقك ومالكك الذي هو أرحم الراحمين، فدمعت عيناه وجعل يرفعهما إلى السماء خاضعاً مهيناً بشفتيه فما سفرت تلك الليلة إلا عن قبض روحه رحمة الله - وقد اختلف المؤرخون في سبب هذه النكبة فقال بعض أن موسى إنما قدم على الوليد وأن سليمان ولي العهد لما سمع بقرب موسى من دمشق وكان الوليد مريضاً كتب أي سليمان إلى موسى يأمره بالتربص رجاء أن يموت الوليد قبل قدوم موسى فيقدم موسى على سليمان في أول خلافته بتلك الغنائم الكثيرة التي ماريء ولا سمع مثلها فيعظم بذلك مقام سليمان عند الناس فأبي ذلك موسي ومنعه دينه منه وجد في السير حتي قدم والوليد حى فسلم له الأخماس والمغانم والتحف والذخائر فلم يمكث الوليد إلا يسير أبعد قدوم موسي وقضى واستخلف سليمان فحقد عليه وكان منه ما كان، وذهب آخرون إلى أن طارقاً لما هزم القوط وفتح طليطلة أصاب في كنيستها مائدة من أعجب ما صنع الأنس قالوا وأصل هذه المائدة أن القوط في أيام ملكهم كان أهل الحسبة منهم إذا مات أحدهم أوصي بمال للكنائس فإذا اجتمع عندهم ذلك المال صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضة تحمل الشماسة والقساوسة فوقها مصاحف الأناجيل إذا برزت في أيام المناسك ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها فكانت تلك المائدة بطليطلة مما صيغ في هذه السبيل وتأنقت الأملاك في تفخيمها يزيد الآخر منهم على الأول حتي برزت على جميع ما اتخذ من تلك الآلات وطار الذكر مطاره عنها وكانت مصوغة من خالص الذهب مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزمرد لم تر الأعين مثلها وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة فأصابها المسلمون هناك وطار النبأ الفخم عنها فلما قدم موسى إلى طليطلة طالب طارقاً بأداء ما عنده من مال الفىء وذخائر الملوك واستعجله المائدة فأتاه

بها وقد خلع من أرجلها رجلاً وخبأه عنده فسأله موسي عنه فقال لا علم لى به وهكذا أصبتها فجعل لها موسى رجلاً من ذهب جاء بعيد الشبه من أرجلها فأخل بها ولما قفل موسي إلى المشرق وأصحابه سأل مغيثاً سفير الوليد إليه أن يسلم إليه العلج صاحب قرطبة الذي كان في أساره فامتنع عليه وقال لا يؤذيه للخليفة سواي وكان يدل بولائه من الوليد فهجم عليه موسى فانتزعه منه فقيل له أن سرت به حياً معك أدعاه مغيث والعلج لا ينكر قوله ولكن أضرب عنقه ففعل فاضطغنها عليه مغيث وصار ألباً عليه مع طارق فلما قدم موسى على سليمان وجد طارقاً ومغيثاً قد سبقاه إليه بالشكية منه ورمياه عنده بالخيانة وأخبراه بما صنع بهما من خبر المائدة والعلج وقالا له أنه قد غلّ جوهراً عظيم القدر أصابه ولم تحو الملوك من بعد فارس مثله فلما رافى سليمان وجده المغيظ المحنق وسأله عن المائدة فأحضرها وقال له زعم طارق أنه الذي أصابها دونك قال لا وما رآها قط إلا عندى فقال طارق فليسأله أمير المؤمنين عن الرجل التي تنقصها فسأله فقال هكذا أصبتها وعوضتها رجلاً صنعتها لها فحول طارق يده إلى قبائه فأخرج الرجل فعلم سليمان صدقه وكذب موسي فحقق جميع ما رمى به عنده وأنزل به ما أنزل وعندى أن السبب الأول الذى حمل سليمان على نكبة موسى هو خوفه من امتداد سلطانه بالمغرب وإفريقية والأندلس، واستبداده بالأمر دونه. ولاة الأندلس من حين الفتح إلى دخول عبد الرحمن الداخل أسلفنا أن موسي بن نصير لما قفل عن الأندلس إلى المشرق ولى عبد العزيز ابنه مكانه وأن عبد العزيز هذا كأنه خيراً فاضلاً. وأقام والياً على الأندلس مدي عامين فتح فيهما مدائن كثراً بيد أن سليمان بن عبد الملك لم يكفه أن نكب موسى بل أغرى عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز هذا فقتلوه لسنتين من ولايته. قال ابن خلدون: وولى من بعده أيوب بن حبيب اللخمى وهو ابن أخت موسى بن نصير فولي عليها ستة أشهر. ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس تارة من قبل الخليفة وتارة من قبل عامله بالقيروان وأثخنوا في أمم النصرانية وافتتحوا برشلونة من جهة المشرق وحصون قشتالة

وبسائطها من جهة الجوف وانقرضت أمم القوط وأوي الجلالقة ومن بقى من أمم العجم إلي جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب فتحصنوا بها وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا البسائط وراءها وتوغلوا في بلاد الفرنجة وعصفت ريح الإسلام بأمم النصارى من كل جهة وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدو بعض الكرة فرجع الإفرنج ما كانوا غلبوهم عليه من بلاد برشلونة لعهد ثمانين سنة من لدن فتحها واستمر الأمر على ذلك: وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسي بن نصير بعث إلى الأندلس الحر بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فقدم الأندلس وعزل أيوب بن حبيب وولي سنتين وثمانية أشهر. ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السمح بن مالك الخولانى على رأس المائة من الهجرة وأمره أن يخمس أرض الأندلس فخمسها وبنى قنطرة قرطبة واستشهد غازياً بأرض الفرنجة سنة ثنتين ومائة. فقدم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقى إلى أن قدم عنبسة بن سحيم الكلبي من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية فقدمها في صفر سنة ثلاث ومائة فاستقام أمر الأندلس وغزا الفرنجة وتوغل في بلادهم واستشهد سنة سبع ومائة لأربع سنين وأربعة أشهر ثم تتابعت ولاة الأندلس من قبل أمراء إفريقية فكان أولهم يحيى بن سلمة الكلبي أنفذه بشر بن صفوان الكلبي والى إفريقية لما استدعى منه أهل الأندلس والياً بعد مقتل عنبسة فقدمها آخر سنة سبع وأقام في ولايتها سنتين ونصفاً ولم يغز وقدم إليها عثمان بن أبي نسعة اللخمى واليامن قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص القيسى فوافاها سنة عشر وعزل قريباً يقال لسنة من ولايته. واختلف هل تقدمه عثمان أو هو تقدم عثمان. ثم ولى بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضاً قدم في المحرم سنة إحدي عشرة وغزا أرض مقوشة فافتتحها وتوفي سنة ثلاث عشرة ومائة لسنتين من ولايته وقدم بعده محمد بن عبد الله الأشجعي فولى شهرين ثم قدم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقى من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية فدخلها سنة ثلاث عشرة وغزا الإفرنجة وكانت له فيهم وقائع وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة في موضع يعرف ببلاط الشهداء وبه عرفت الغزوة وكانت ولايته سنة وثمانية

أشهر. ثم ولى عبد الملك بن قطن الفهرى وقدم في رمضان سنة أربع عشرة فولى سنتين وقال الواقدي أربع سنين وكان ظلوماً جائراً في حكومته وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة فأوقع بهم وغنم ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة وولى عقبة بن الحجاج السلولى من قبل عبيد الله بن الحبحاب فأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهداً مظفراً حتى بلغ سكني المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر ردونة ثم وثب عليه الملك بن قطن الفهري سنة إحدى وعشرين فخلعه وقتله ويقال أخرجه من الأندلس وولى مكانه إلى أن دخل بلج بن بشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين فغلب عليه وولى سنة أو نحوها وقال الرازي ثار أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك وولوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر وتوفى بقرمونة سنة ثلاث وعشرين واستقام الأمر لعبد الملك ثم دخل بلج بن بشر القشيري بجند الشام ناجياً من وقعة كلثوم بن عياض مع البربر بملوية فثار على عبد الملك وقتله وهو ابن سبعين سنة واستوسق له الأمر بعد مقتل عبد الملك وانحاز الفهريون إلى جانب فامتنعوا عليه وكاشفوه واجتمع إليهم من أنكر فعلته بابن قطن وقام بأمرهم قطن وأمية ابنا عبد الملك بن قطن والتقوا فكانت الدائرة على الفهريين وهلك بلج من الجراح التي نالته في حربهم وذلك سنة أربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته، ثم ولى ثعلبة بن سلامة الجذامي غلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلج وانحاز عنه الفهريون فلم يطيعوه وولى سنتين أظهر فيهما العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر إلى أن مالت به العصبية في يمانيته ففسد أمره وهاجت الفتنة وقدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية ركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين فدان له أهل الأندلس وأقبل عليه ثعلبة وابن أبي لسعة وابنا عبد الملك بن قطن فلقيهم وأحسن إليهم واستقام أمره وكان شجاعاً كريماً ذا رأي وحزم وكثر أهل الشأم عنده ولم تحملهم قرطبة ففرقهم في البلاد وأنزل أهل دمشق البيرة لشبهه بها وسماها دمشق وأنزل أهل حمص إشبيلية وسماها حمص وأهل قنسرين جيان وسماها قنسرين وأهل الأردن رية ومالقة وسماها الأردن وأهل فلسطين شدونة وهى شريش وسماها فلسطين وأهل مصر تدمير وسماها مصر. وقفل ثعلبة إلى المشرق ولحق بمروان بن محمد وحضر حروبه. وكان أبو

الخطار عربياً عصبياً أفرط عند ولايته في التعصب لقومه من اليمانية وتحامل على المضرية وأسخط قيساً وأمر في بعض الأيام بالصميل بن حاتم كبير القيسية وكان من طوالع بلج وهو الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ورأس على المضرية فأقيم من مجلسه وتقنع فقال لع بعض الحجاب وهو خارج من القصر أقم عمامتك يا أبا الجوشن فقال إن كا لى قوم فسيقيمونها فسار الصميل بن حاتم أميرهم يومئذ وزعيمهم وألب عليه قومه واستعان بالمنحرفين عنه من اليمانية فخلع أبو الخطار سنة ثمان وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته وقدم مكانه ثوابة بن سلامة الجذامي وهاجت الحرب المشهورة وخاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب إفريقية فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس منسلخ رجب سنة تسع وعشرين فضبط الأندلس وقام بأمره الصميل واجتمع عليه الفريقان وهلك لسنة من ولايته ووقع الخلاف بإفريقية والتاث أمر بنى أمية بالمشرق وشغلوا عن قاصية الثغور بكثرة الخوارج وعظم أمر المسوّدة فبقى أهل الأندلس فوضى ونصبوا للأحكام خاصة عبد الرحمن بن كثير ثم اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضرية واليمانية وأدالتها بين الجندين سنة لكل دولة وقدم المضريون على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهرى سنة تسع وعشرين واستتم سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة ثم وافته اليمانية لميعاد أدالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم فيتهم المروانى وكان وفد عليه من المشرق وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر فلما دخلت المسوّدة أرض مصر خرج عبد الملك يؤم الأندلس في عشرة رجال من قومة مشهورين بالبأس والنجدة حتى نزل على عبد الرحمن سنة أربعين فعقد له على أشبيلية ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور وسار يوسف إليهما وخرجا إليه ولقياه وتناجز الفريقان فكانت الدائرة على يوسف وأبعد المفر واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة واحتز رأسه وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن فاستقام أمره واستقر بقرطبة وثبت قدمه في الملك. (للكلام بقية) استدراك أسلفنا عند الكلام على جزائر السعادات التى منها جزائر بريطانية (ومنها كما يظهر السويد والنرويج) والتى كان يخرج منها ناس يفال لهم المجوس يغيرون على الأندلس - إن

هؤلاء المجوس لعلهم قدماه الإنكليز ولكن بعد البحث العميق ظهر لنا أن هؤلاء الذين يسميهم العرب المجوس هم النورثمان. (سكان السويد والنرويج).

أمرسون في إنكلترا

أمرسون في إنكلترا زار أمرسون أكبر كتاب الأمريكان إنكلترا وكتب عن زيارته رسالة وصف فيها البلاد وأهلها وصفاً وافياً شافياً ينم عن نظر ثاقب وبصيرة نافذة معلم غزير واطلاع واسع وقد أحب البيان أن لا يخلو من بعض فصول مبحث كهذا. ومازال البيان مولعاً بالإشراف الأبرع. كلفاً بالأطرف الأبدع. كالعين منهومة بالحسن تتبعه ... والأنف يطلب أقصى منتهى الطيب فلما صحت عزيمة البيان على ذلك ترجم تلك الرسالة وأظهر في هذا العدد أحد فصولها وهو هذا الذى بين يدى القارئ وسينشر سائر الفصول في أعداد قادمة وبالله التوفيق. آداب الإنكليز وعاداتهم لقد بحثت الإنكليزي فوجدته أثبت الناس قدماً. وأمضاهم عزماً. إذا هم مضى وإذا مضي لم يثنه دون الغاية عائق. ورأيت للقوم من فرط النشاط والحدة والذكاء مثل ما يمتدحون به جيادهم وأفراسهم. وقد وصف لى رجل منهم والى أيرلندة أول نزولى مدينة لفربول فقال اللورد كلارندون فيه سورة الديك وهو إذا نازل القرن صدق القتال حتى يفني هذا أول ما سمعته عن خلق الإنكليزى وهو كذلك آخر ما سمعته. ولعل رأس مفاخر الإنكليزي وهو الحدة والجرأة فهي بينة في الحوذى بينة في التاجر بينة في القسيس بينة في المرأة بينة في الجرائد حتي رأيتهم يقولون ليس فى إنكلترا طولها وعرضها ما هو أشد جرأة وأصدق حملة من صحيفة التيمس. وقد قال سيدنى سميث وذكر الوزير اللورد جون راسل أنه لو شاء لقاد الأسطول من غده. والإنكليز يريدونك على أن تصرح برأيك غير موارب ولا مراء ويمقتون كل المقت الجبان الهيابة الذي إذ سئل عن الشئ وقف فلم يقل لا ولا نعم. ومتانة أخلاق الإنكليزي وشدة استبداده برأيه أظهر ما تكون في قلة اكتراثه الناس وعدم تطلعه إليهم حتى كأن أحدهم إزاء الآخر الصخرة الصماء. والدمنة الخرساء. وحتى ترى كل واحد يسير ويجلس ويأكل ويشرب ويلبس وينزع ويشير وينطق ويحدث الحدث ويلقاه. ويفعل الفعل ويتلقاه. غير ما ملتفت إلى الناس ولا حافل بالعالم إلا اجتنابه الدخول في شؤون الغير وتحاميه إيذاءهم. وما ذلك أنه قد مرن ودرب على احتقار الناس كلاً إنما هو

اشتغال بأمره عن أمورهم وانصراف عن شؤونهم إلى شؤونه. وكل امريء في هذه البلاد لا يستنصح إلا نفسه ولا يترك ما فيه رضاه لا رضاء غيره ولا أعلم على ظهر البسيطة مصراً خلاف هذا المصر يصفح فيه عن الشواذ والعجائب من العادات والأعمال حتى لا يكاد يلتفت إليها أو يفطن لها. فالإنكليزي يمشى في الوابل الهتان مغلقاً مظلته بهزها هز العصا. ويلبس على منكبيه رداء أو سرجاً وعلى رأسه قلنسوة أو مخلاة ويمشى على رجليه أو يسعى على أم رأسه أو يتدحرج على جنبيه ولا يقال فى ذلك حرف واحد. وإذ كان قد طال عهده بهذا الأمر وتقادمت العصور على تلك العادة فقد أصبحت قد مزجت بدمه. ورسبت فى عظمه وجالت بين جلده ولحمه. وجملة القول كل امريء من هؤلاء الجزائريين جزيرة فى نفسه هادئ صامت مطمئن منقطع عن سائر أهل جلدته. وإنك إن تلقه وسط جماعة من الأجانب حسبته أصم. فهو لا يرسل الطرف في نحاء المجلس ولا يرتعه في أشخاص القوم بل لا يزال عاقده بمائدته أو صحيفته ثم لا يبدو عليه للتطلع والقلق أدنى أثر. ثم لا تراه يمد للمصافحة راحة ولا تراه يلقى لحظك بلحظه ورابني منه أنى لا أزال أرى ... في طرفه قصراً عنى إذا نظرا ونظرك في وجه أجدهم قبل التعارف ذنب لا يغتفر. والإنكليز لا يحدون التعارف بين الأفراد في حفلات الأعيان ولا في الحفلات المختلطة شدة اهتمام بمسألة التعارف كأنهم يرونها صنفاً من المعاهدات والمبايعات والإنكليزي ضنين باسمه لا يكاد يبوح به لصاحب النزل الذي هو وافده والخان الذي هو وارده. ولئن ظفرت منه ببطاقته فلقد ظفرت ولا ريب بمودته. وإذا قدم إليك ألفيته منقبضاً جافياً. مزوراً نائياً. على حين أنه الراغب في صداقتك. المؤمل لمودتك. الباغي سعادتك وفلاحك. الطالب نفعك وإصلاحك. والإنكليزي جاد ماض محب للنظام والنظافة شديد التمسك بالرسوم والاصطلاحات. والسنن والعادات. محب لدين والصدق مع الإقامة على القديم والتشبث بالرسوم. وقد أجمع الناس على مدح المطاعم والبيوت الإنكليزية وما جمعت من أسباب النعيم والراحة وكل نزل بتلك الديار أو منزل ضمان على أهله إكرام مثوى الضيف يقري هنالك مع الطعمة الطيبة والجرعة السائغة عذوبة اللقاء وحسن الإقبال والإصغاء. وجميل التلطف والاحتفاء. وقد

يكون الفرنسي نظيفاً. ولا يكون الإنكليزي إلا نظيفاً. بادي النظافة والنظام في ثوبه وسائر متاعه. ولما كان الإنكليزي قد أقامه الله بأرض هطالة الأنواء. مغيمة الأجواء. قارسة الهواء. تسجنه بداره وتغله إلى سريره وكان مع ذلك ودوداً وفياً. وبراً تقياً. أصبح شديد الحب لداره. فإذا كان موسراً ابتنى إيواناً. واقتنى غلماناً. وإذا كان متوسط الحال لم يدخر دون تنميق داره شيئاً. فأما ظاهر الدار فيطلي دهاناً. وأما الباطن فيكسى الخشب الصقيل جدراناً. وتفرش أرضه خزاً وكتاناً. ويزان بالصور والنقوش ألواناً. ويملأ بسائر أنواع الفرش الوثيرة والتحف المونقة. وتحلية البيت وزخرفته هي آخر ما يبقى من شهوات الإنكليزى بعد ذهاب سائرها. فهو لا يزال يسوق إلى داره كل ما طاب ولذ. ولما كان مع ذلك محباً للبقاء بالدار عينها يرثها عن سلفه فيورثها خلفه كالحسام الجزار يبقى على الدهر ويفني في كل عصر قرابه فلا جرم إذا رأيت الدار قد أصبحت على كر العصور متحفاً جامعاً قد ضمن جميع مآثر السلف منذ أول ساكن ومخلفات أولئك الآباء والجدود ومفاخرهم - شواهد وقائعهم ودلائل أفاعيلهم. والإنكليزى مولع بآنية الفضة. وهو وإن أعوزته الصفائف المعروضة من صور الآباء والأجداد لم تعوزه الصفائف المعروضة من أكواب مدامهم وأواني فطائرهم. وإن بديار الموسرين من آنية الفضة مالا يكاد يصدق بمقدار بشر. وليس يخلو أحقر البيوت من ملعقة أو قدر - هدية عمة أو جدة ونقيذة من نقائذ الدهر وعنواناً على ما درس من عهود النعيم وانقرض. التربة الإنكليزية تنبت في صفاء صحو الدعة وسقيا مياه الأدب الصريح. والعلم الصحيح. أكرم النساء وفضلياتهن. ولا يعلم فى الوجود شيء قد أصاب من الرقة في غير تصنع والخفر في غير تكلف ومن الفضائل الفطرية والمحاسن الغريزية ما أصابت المرأة الإنكليزية ولا شيء أصدق وأطهر وأرق من تبادل الحب والوفاء بين الإنكليزي والإنكليزية لقد جاء في بعض أناشيد 1569 ليس أعظم من حظوة الإنكليزية بزوجها إلا حظوة الإنكليزى بزوجته والمرأة العفة النقية المذكورة في رواية شاكسبير سمبيلين مستعارة ولاشك من المرأة الإنكليزية وكذلك بورشيا زوجة بروتاس وكيت برسي ودزدمونا.

ورعاية حرمة البيت هي أساس قوتهم وهي الجذر الذى عنه تتشعب فروع الأمة وتسمو صُعُداً. فهم يمسون ويصبحون وأول أغراض تجاربهم ودولتهم هو صيانة استقلال بيوتهم وحفظ حريتها. ورعاية حرمة البيت وقضاء حقوقه غريزة تجرى مع النفس يحملها الإنكليزي بين جنبيه أينما حل وارتحل سواء نزل المعسكر أو البلاط. ولقد كان ولنجتون وهو قائد الجيوش البريطانية في اسبانيا لا يكاد يبرح مكانه حذراً من غرماء دولته. وزعم المستر كوبيت أن الوزير السير برسفال لم يكتسب رضا الناس طراً إلا بفضل حضوره الكنيسة كل أحد يحمل في يمينه إنجيلاً مذهباً وفي يساره عضد امرأته يتبعه من أنجاله كسرب الظباء أو كالربرب. والقوم شديدو المحافظة على عاداتهم وأزيائهم وشعائرهم فمن أنعم النظر لمح شبح العصور الوسطى يمشى الضراء في شوارع لندن وكأنما يبصر فرسان تلك القرون يتبايعون على حماية النساء كما كانوا يفعلون أيام الفتوة والنجدة. ولما كان يوم تتويج الأميرة الحاضرة جدد الشعب شعائر القرن الحادى عشر. ومن عاداتهم وراثة المستأجرات والمهن يتوارثون الوظائف والحرب والضياع المستأجرة ويتوارثون كذلك الروايات والأنباء. وربما امتدت مدة التأجير هنالك ألف عام واستمرت الوظيفة والشركة طول العمر أو أورثت قال وردذورث وذكر مزارعى ناحية وستمورلانه كان الكثير من صغار هؤلاء المزارعين يعتقدون أن ما يحرثون من الأرض مازال منذ خمسمائه عام في حوزة أناس من ذوى قرباهم وأرحامهم ولو سألت عن نجار السفن بالمرسى أو غارس البستان بقصر الوزير أو بواب ذلك الأمير لعلمت أن كل واحد من هؤلاء قد ورث عمله أباً عن جد منذ أعوام عديدة. والقوم يمقتون التغيير والتبديل فطرة جبلوا عليها وقواها في نفوسهم تعاليم فلاسفتهم فلقد قال لهم باكون الوقت خير مبدل وأحسن مصلح وقال لهم شاتام الثقة غرس بطىء النمو وقال لهم كانتج سيروا مع الوقت وقال لهم ولنجتون العادة أرسخ من الطبع. والإنكليزى شديد الوقار سواء في الكوخ والقصر. كان الموسيقى الشهير ثالبرج يضرب بالبيانو ذات ليلة في حضرة الملكة في حفلة خاصة فأصحبته الملكة صوتها رافعة بالغناء عقيرتها فذاع الخبر فاقشعرت بريطانيا من الذؤابة إلى القدم اشمئزازاً من هذا العمل وأنفة.

فلم تعد الأميرة قط بعد ذلك إلى إتيان ذلك المنكر. والإنكليز أشد الناس انقباضاً وحشمة ولا مسوغ عندهم لإبداء الطرب إلا التمثيل والموسيقى ولا يجيزون من الصوت إلا الخفيض الخفي الذي لا يسمع إلا من خوطب به. ومنهم من تدرك في صوته رنة يأس كأنما تناجيك قائلة اقطع الرجاء من كل شيء. والادعاء والزهو والمفاخرة أبغض الأشياء إليهم حتى نراهم إلى عكس ذلك يجنحون يخشوشنون الثوب والصوت والهيئة. يكرهون التصنع ويعمدون إلى أكباد الحقائق وما برحوا - منذ كانوا - يرذلون اللغو والهذر ويمقتون تكلف الرقة والظرف والأطناب والمبالغة ويسلكون القصد قولاً وفعلاً ويجرون على الفطرة والغريزة من السذاجة والخشونة حتي غدا خليعهم بروميل قد عرف بسذاجة لباسه. وأحسن ما يمتدحون به قلة التكلف والتصنع في شؤونهم العامة والدقة والأحكام والعمد إلى لب الحقيقة في أمورهم الخاصة. في أمة أرسطوقراطية كأمة الإنكليز ليس عجيباً أن يكون أجل الاحتفالات حفلة العشاء. لا حفلة القضاء. ومجلس الطعام. لا مجلس الأحكام. ودعوة الغريب عدهم هي الآية على تبجيله وتكريمه - وما انفكت كذلك منذ غابر الأعصر. قال الرحالة الإيطالى في عام 1500 والإنكليز يرون دعوتهم الغير إلى موائدهم ودعوة الغير إياهم إلى موائد الغير أجل ما يعطى يؤخذ وإنهم لأسرع إلى بذل العشرة الدنانير في صنع المآدب منهم إلى بذل الدرهم الواحد في صنع المآثر وإغاثة الملهوف. ونعيم المائدة يستبقي إلى أول ساعة من الليل وله لباس مخصوص سواء كان بدار الرجل أو بدار آدبه. وقبل العشاء بنصف ساعة يحضر الضيفان وليس سوي الموت أو السجن من حائل دون الحضور. ويجلس القوم على الخوان ساعتين ثم تقوم السيدات في غرفة السمر. وهذه الولائم تولد عند القوم ملكة البيان وخلابة الحديث فتري ما يلقي هنالك من الحكايات منظماً مصقولاً لعله من طول إعادة وتكرار. وهنالك تلقى إليك الكنوز الأفكار ما أودعت من درر وغرر وتبرز إليك خزائن الصدور ما ضمنت من تحف وطرف وتصطادك حبائل الحديث كل شاردة شموس ونافرة جموح من ملحة أدبية إلى مسألة عملية إلى فائدة أخلاقية إلى كلمة جامعة وحكمة بارعة وكناية رائعة إلى مثل سائر وبيت من الشعر نادر وتشبيه معجب باهر. وأخبار وقصص ونوادر.

والحكايات الإنكليزية والأمثال والحكم والمأثور عن أدبائهم وظرفائهم من أحاديث المائدة لا تقل عن أطيب ما يماثلها في الأدب الفرنسي ونحن أمة الأمريكان لنا أدب وبراعة وعندنا بيان وفكاهة ولكنا لم نبلغ رتبة الإنكليز في ذلك. لأن كثرة العناصر التي يتألف منها الشعب الإنكليزي وكثرة المصادر التي جاء منها سكان لندن وشدة الخلاف وبعد المسافة بين شتى الطبقات ثروة ومنزلة وسلطه وجاهاً كل ذلك محدث في المجتمع من تنوع الهيئات والمظاهر واختلاف الآراء والخواطر مثلما تحدثه وعورة الأرض واختلاف سطحها صعوداً وهبوطاً من تنوع المناظر فيها واختلاف المشاهد. وإنك لتلقين أحياناً في هذه المآدب رجال الدهر وأبناء التجارب من كل مصقول الخاطر حافل المجم غمر البديهة عالم بكل شىء مجرب لكل شيء قادر على كل شىء قد سبق به الفضل الغريزى غاية شأو المتعلمين وفاتت به السليقة السليمة مبلغ جهد المتأدبين فبات بطبيعته وراء مرمى الأدب وأصبح بتجربته فوق مطمح الحكمة. أي شيء لا نستطيعه مثل هذا القدير لو شاء.

اعترافات ألفرد ده موسيه

اعترافات ألفرد ده موسيه ألفرد ده موسيه بلبل غرد شدا على أيكة الأدب الفرنسوى فبز أترابه الأطيار، وغني فأخذت عنه الأعواد والأوتار، وصدح والشباب من سامعيه، والبيان في شدوه والسحر في مسامع سامريه. ده موسيه هو الطائر المستجر قوادمه رائعات المعاني ورشيق الألفاظ من خوافيه. أنزل الرحمن على قلبه حكمة الحب فتنقل بين أفنانه وتنزي فوق أغصانه وخاض فى أشواكه وذاق من مر نباته فبات مضنى الفؤاد جريحاً يبكي حبائب أسامهن قلبه وأسلمته هجراً، وخلص إليهن بروحه فألقى ودهن غدراً. شاعر طاهر النفس. شبت الغوانى في جوانحه نار حب ما خبت حتى خبا. ولطالما شبب بهن. وآثر عذابات الهوي العذري على لذاذات الحب وعبث لصبا. ونحن نعرب له اليوم اعترافاته وهي صفحات من آلام روحه وسمها بعنوان (اعترافات صبى من صبية العصر) وصف فيها ما كابد من عذاب وقاسى من أحزان. وقراء البيان سيجدون في (ألفرد ده موسيه) مهبط حكمة ومحط صدق ومعانى تأخذ بمجمع النفس ودروس عفاف تطهر أرواح فتياننا وتهذب عواطف شباننا وإن فيها لبلاغاً للناس. ونحن اليوم بادئون بالفصل الثالث مرجئين الأول والثانى اللذين هما مقدمة يذم فيها الزمان ويشكو العصر حتى إذا أتممنا الاعترافات عطفاً عليهما والله هادينا والقراء مناصرونا إن شاء الله. علىّ أن أقص كيف أوقعني القدر فنابني من داء هذا الزمان ما نابنى. كنت جالساً إلى عَشاء لذ وقد عدنا من مرقص مخنمر، وصَحبي حافَون من حولى في باهرةِ شُمَلهم وبديع أثوابهم، وفى الجمع شباب تساموا للصبا، وشواب رحن مع الهوي، والكل مشرقون بالمراح واللهو، متألقون بالجمال والزهو. وعلى أيمانى وشمائلى أطعمة فاخرة وأباريق صهباء ومصابيح تجلو الدجي وثريات وأزهار وفوق رأسى نغم الموسيقي وصدحها وإزائي خليلتي، إنسانة شيمتها العجب والدل، تدلهتُ في حبها وتعبدت. كنت يومئذ في الربيع التاسع عشر. ما نابني يوماً مكروه ولا شفني مرض. كانت الصراحة والشمم معامن خلقى، أحمل المني وأرود الآمال جمعاً، وبين جنبي قلب مترع فضفاض.

تمشت حمياً الكأس في مفاصلى فكانت ساعة نشوة وطرب إذ كل شئ عند ناظرك وفى مسمعك يحدثك عن صاحبتك ومحبوبتك، وبدت الطبيعة مشرقة كأنها يتيمة ذات ألف محياً نقش على كل محيا اسم الحبيب. كنا نعانق كل من نرى يبتسم ونشعر أننا أخدان لكل مرزوق حى. وقد اتعدنا أنا وصاحبتى إلى الليل فأدنيت الكأس مترفقاً إلى شفتىّ وأنا أنظر إليها وأجلو في صفحتها العين. وإنى لأتلفت أريد صفحة إذ سقطت (شوكتى) فملت لآخذها فلم أجدها فرفعت غطاء المائدة أنظر أين تدحرجت فإذا قدم صاحبتي فوق قدم فتى نشأ كان جالساً إلى جنبها وقد التفت الساق بالساق، وتعاطف الجسمان، وهما يلتحمان فى رفق بين آن وآن. فأخذت مجلسي ساكناً وطلبت غيرها وعدت أبلغ العشاء. هذا وخليلتي وجنيبها هادئان وادعان قل ما يتخاطبان ولا يتلاحظان واعتمد الفتى بالمائدة وهو يداعب امرأة أخرى أبدت له من عقده وأساورها. جلست خليلتي فى دعة آمنة وعيناها مستقرتان ولحاظها مراض فاترات وراقبتهما آخر العشاء فلم أر من حركاتهما ولا اكتشفت فى معارفهما أثراً يفضحهما. حتى إذا رفعت المائدة وانبسطت الأيدى للنقل جعلت المنشفة تسقط متعمداً وملت أطلبها فإذا هما مشتبكان ملتصقان. لقد كنت وصاحبتى على موعد أن أصحبها الليلة إلى مغناها إذ كانت عزباً تروح كما تشاء وتغتدي تساكنها عجوز كوصيفة لها. وإني لأجتاز البهو نافراً إذ نادتني من جانب الشرب تقول أى أوكتاف، تعال نرحل. فها أنا عند عينيك!. فتضاحكت من قولها وانطلقت غير مجيب وما كدت أمشي بضع خطوات حتى تهالكت على ثنيسة هناك ولا أعلم ماذا اختلج في تلك الساعة بخاطرى. لكأنى أصابنى مس من الجنون أو لكأنى عدت أبله ممروراً من أجل خيانة هذه المرأة وما كنت يوماً عليها غيوراً ولا أدركت عليها غدراً ولا رابنى من فعلها ريبة أما وقد رأيت فلا سبيل إلى الريب ولا موضع للتجنى.

ولبثت ساهماً سليباً كأنما أثخنني امرؤ ضرباً ولا أدرى مما جرى حولى شيئاً حتى رفعت إلى السماء بصري وأنا شارد اللب فاستقر على كوكب مبعد يتولى. حييت ذلك الضياء الهادئ حيث الشعراء مبصرون عالماً قفراً خراباً وانطلقت حاسراً لتحيته رأسى ثم أخذت سمتى مولياً. عدت إلى دارى وأنا مطمئن السرب، لا شعور ولا حس ولا فكر، وجعلت أتفضل من لبستي ثم أويت إلى سريري على أننى ما كدت أضع رأسي على الوسادة حتى نهضت في نفسى فكرة الانتقام فاستويت في مهادي جالساً كأنما أشلائي وأعراقي ارتدت خشباً. ثم نزلت عن سريرى صارخاً وذراعاى ممتدان وتشنجت أعصاب قدمي فبعد لأ] استطعت أن أمشي على كعبي وتمكثت ساعة على هذه الحال حانقاً مغضباً صلب الأوصال. ذلك الرجل الذى تحرج مع خليلتي حبيب متمكن بين أحبابى وخليص من صفوة خلصانى. فلما بكرت مصبحاً انطلقت إلى داره في رفقتي محام فتى يدعى (ديزينيه) متزوداً بمسدسين واستصحبنا شاهداً آخر ويممنا غابة فنسان جميعاً. فلما كنا في الطريق مصعدين تحاميت أن أتحدث إلى خصمي أو أقترب منه وغالبت هوى نفسي فما تضاربنا ولا تباهلنا فإن ذلك ده لا يغني والقانون يبيج المناجزة ويحل لها شرعاً ولكنني ما استطعت أن أحمي عنه عينى أو أرد عن وجهه طرفي، كان صديق شبيبتى ورفيقي في الطفولة والصبا، وتبادلنا العوارف أعواماً وهو بغرامي لخليلتى عليم محيط بل لكثر ما سمع عنى أن علاقتى بها حرام على الصديق وهواى لها ممتنع على الولى وأنه لن يستطيع أن يخلفنى في حب، وإن أحب المرأة التي أنا بها صب. كنت واثقاً به جهد يميني، بل ما شددت على يد مخلوق أحر من شدى على يده، بل ما حييت أحداً بتحية أحسن من تحيتى له. والآن أنظر مندهشاً متحيراً إلى هذا الرجل الذي طالما سمعته يتكلم في الصداقة كأحد أبطال العهود المتصرمة وقد رأيته بالأمس يضم خليلتى! هذا أول عهدي برؤية الخلقة الممسوخة. .! كنت أنظر إليه بعين مستوحشة لأعلم كيف ركب. ذلك الذي تعرفت له وأنا ابن عشرة أحوال ثم عشنا على محض المودة والصفاء. بدا اليوم كأني ما رأيته في حياتي من قبل.

إليك مثلي. هناك حكاية اسبانيولية يعرفها الناس جميعاً وهي أن دمية من الصخر هبطت من المكان الأرفع على فاسق من أهل الدنيا فلما رآها جاهد يريد تجلداً وابتساماً ولكن سألته الدمية أن يمد لها يده فلما فعل أحس ببرد قاتل وأخذته الرعدة وتشنجت أطرافه. ما جعلت يوماً عند حبيب أوغانية ثقتي ثم وجدتنى بعد ذلك مخدوعاً إلا قارنت تأثير حزني بقبضة هذه الدمية. أجل - ذلك تأثير المرمر. كأنما الحقيقة في زمهريرها المميت جمدتني بقبلة، بل ذلك لمسى للإنسان الجلمود! وا لهفاه، لطالما طرق بابى ذلك النديم المخيف، ووا حسرتاه أكل من طعامى وجلس إلي خوانى! فلما تهيأ للمناجزة كل شئ. وطلعت لعدوى وبرزت. ومشى إلى فى تؤدة ومشيت. قذف القذيفة الأولى فأصابت ذراعي اليمنى فأخذت مسدسى في يدي الأخرى ولكني لم أستطع أن أرفعها وخانتنى قوتي فسقطت إلى ركبتىّ جاثماً ورأيت غريمى يخطو إليّ مسرعاً وهو مضطرب شاحب وهرعت إلىّ شهودي إذ رأوني كليماً ولكنه أقصاهم وأخذ يدي الجريحة وقد صر بأسنانه فما استطاع تكلماً. ولما رأيت ألمه وأحسست بوقع الأسى في أضالعه صحت به أن أنطلق فامسح يدك في أثواب. . . . . . . وهنا احتبس صوتي فلم أتم. . وحملوني مرتثّاً إلى مركبة فإذا هناك طبيب. لم يكن جرحي بالغاً لأن القذيفة لم تنفذ إلى العظم على أنني كنت في أشد حالات الاضطراب فما قدرت في تلك الساعة أن أجمع شوارد خواطري فلما مضت العجلة بنا رأيت عند بابها يداً متشبثة راجفة تلك يد خصمي الألد جاء مستنفراً مسترحماً. . ولكنى هززت رأسي عصياً إذ أخذتنى سورة الغضب فلم أحله من ذنبه أو أسبل على ذلته ستر مغفرتي وإن كنت أشعر أن ندامته على ما فرط كانت نصوحاً صدقاً. فلما بلغت بنا الدار تروح عنى لأن الجرح ذرف كثيراً وخفف الضعف من حدة موجدتى وكانت أوجع لدي من كلمي وأشد صباً.

وانزويت في سريرى مرجعاً رخياً وإنى لأشهد أنني ما شربت يوماً أسوغ من قدح الماء الذى آتوني به في تلك الساعة ووعكتني الحمى وشرقت بالدمع عيناى. والله ما حزنني أن صاحبتى خلاء من حبي ولا أخذ بنفسي أنها لم تعد بعد تصبو إلىّ بل لهفتي أنها خدعتنى. غام على قلبى فلم أفهم بأية سنة تكذب امرأة في الحب رجلاً وتخادعه نازعة إلي حب سواه وما يغريها واجب ولا يدفعها إلى كذبة في الهوى مال. لقد سألت (ديزينيه) عشرين مرة في اليوم كيف جاز الكذب في أهل الحب كنت أقول لو كنت زوجها بل لو كنت أنقدها مالا لأدركت أنها خدعتني. لماذا تكتمني الصدق إن انصرف فؤادها عن غرامي، بل لم تخدعني؟. ما كنت أدري يومئذ أن الكذب في أهل الهوى عرف، لأني كنت غلاماً حدثاً وأقسم أنني حتي اليوم لم أزدد بكذبات الغرام فهماً وكنت كلما علق القلب بهوى امرأة أصدقها حبي بل ما خرجت من هوى إلا معلناً هجري لأني كنت أحسب أن العاشقين لا يستطيعون لإراداتهم قياداً وأن ليس في الوجود جريمة أشد نكراً من الكذب وكان ديزينيه يقول لى إنها امرأة شقية مطروفة العين إلا عدنى أنك لن تراها آخر الدهر. فأقسمت له مغلط الأقسام ونصح لى أن لا أكتب إليها أو أعتبها وأن لا أجيبها إن أرسلت تراجعني فانتصحت وأنا أعجب كيف يسألنى ذلك وكيف يكون بى ظنيناً. فلما اندمل الجرح وأبللت كان أول شئ فعلت أنني أفضت إلى دارها مسرعاً ألفيتها وحيدة قد انتبذت زاوية في مخدعها مضطربة الحال ساهمة المحيا. فأوسعتها مر اللوم وقد مالت شمول الحزن بأعطافي وجعلت أصيح والدار تدوى بصيحاتي واستهلت شؤوني وفاضت أدمعى حتى أفخمنى البكاء فتراميت فوق سريرها لأجعل لماء عينى مسلكاً وطفقت أقول باكياً: آهة لى، يا كاذبة، آهة لى يا شقية، إنك لتعلمين أن نفسى لتفيض من غدرك كمداً فهل ترضيك منيتى وهل تجدين برد السرور في موتى، ماذا صنعت بك؟. فألقت بنفسها بين ذراعي وتشبثت بنحرى وقالت لى أنها فتنت ونزغت لها من الغواية نازغة فاقتادوها تلك الليلة وإن خصمي كان فى العشاء منزوفاً ما يبت وأنها ما كانت يوماً

له وأنها فرطت فى ساعة نسيان وأنها ما اجترحت إنما بل هفوة من لمم وأنها رأت ماجر على حبها من ألم وأنها لتموت غماً إن لم أغفر لها ما تقدم من ذنبها. استنفدت لغزائي كل ما فى الندامة الصادقة من عيون ودموع، وكل ما فى الأسى من بلاغة وسحر بيان!. بهارية الوجنتين شاردة الخاطر مشتملة في ريطة ذات شقتين وشعرها مرسل منتثر فوق كتفيها وهي راكعة في بهرة المخدع، فى روعة ما رأيتها من قبل أجمل ولا أفتن سحراً. وارتجفت من رعب وأضرم مشهدها بين عواطفى نار حرب طاحنة وانطلقت من لدنها نافراً وأنا لا أكاد أمسك علىّ مشاعري وأجمعت أمرى أننى لن أراها بعد اليوم أبداً. ولكن ما مضت ربع ساعة حتي عطفت عائداً إلى مغناها ولا أعلم أى قوة تحدوني إليه كأنما نفث الحسد في قلبى سمه يحرضني أن تكون لى وحدي وأن أشرب فوق جسمها اللدن الرخص تلك الدموع المرة السخينة ثم أقتلها وأهلك نفسى معها. شهد الله أننى اجتويتها وهى حبة نفسي، وكرهتها وهى معبودي، وشعرت أن في حبها متلفتى وخسرانى ولكن كيف تطيب الحياة بدونها. . صعدت إلى طابقها كأنني البرق في خطفه ولم أسائل أحداً من خدمتها بل تجاوزت، وأنا أعرف الناس بحجراتها، إلى غرفتها ودفعت الباب فإذا أنا في حضرتها. ألفيتها جالسة إلى زينتها ساكنة حالية تحملت من لآلئها ودراريها وجاريتها تعقص لها جدائلها وهي تحمل في يدها خماراً أحمر تضعه برفق فوق خديها والله لكأنى كنت في حلم. كلا، ليست هذه المرأة التي كانت منذ ربع ساعة رهينة الحزن وأكفة العين. . فلزمت موقفى ولا حراك كأنني التمثال. والتفتت مبتسمة لما فتح الباب تقول هل أنت المحب الطارق؟ لقد كانت تنظر غريمى ليصحبها إلى المرقص فلما تبينتني أمسكت عابسة فخطوت أريد الانصراف. رأيت جيدها بضاً ناعماً عبقت منه أنفاس العرف وقد عقدت فروعها ثم زانتها بمشط من الماس. ذلك الجيد مركز سلطان الجمال وأريكة الحسن كان أحلك من جهنم ناطت به سمطين

يلمعان وقلدته سنابل عقد من العقيان. وبدا فوق منكبيها وعنقها زغب جثل غزير ولا أدرى أي جمال في تلك الجدل الفارعة خدعني أول مرة. تقدمت فجاءة وأهويت فوق ذلك الجيد بقبضة يدي فخرّت فوق الأرض صريعة وفارقت الدار آبقاً فلما اشتملت علىّ دارى عاودتني حمى راجفة ألزمتني الفراش. انتفض جرحى وأخطفنى ألمي وأقبل (ديزينيه) يعودني فقصصت القصة عليه وهو واجم يخطر في الحجرة حيران عجباً. وراح يسألنى أتلك أولى حبائبك؟. قلت لا. بل أخيرتهن!. فلما كان الوهن متروحاً وأنا في نومة المضطرب سمعت كأنما في حلم نفساً صاعداً راجعاً ففتحت عينى فإذا هي جالسة بقرب سريري وذراعاها مشتبكتان كأنها شبح من الأشباح. فصحت غير مغالب صيحة فرق ورعب إذ حسبتها أحد خيالات رأسى الملتهب ووثبت من سريرى إلى الناحية الأخري من الحجرة وأقبلت علىّ تقول وقد أخذتنى في أحضانها ومشت بي هذا أنا!. فصحت بها ألا دعينى فإنى على ذبحك الساعة لقادر! قالت مرحباً بالحبيب يذبحنى. لقد هجرتك وكذبتك وأنا فاجرة أثيمة، ولكننى أهواك ولا قدرة لى على نقدك. فنظرت إليها لله ما كان أجملها! رأيتها ترتجف وعيناها من ذهول الحب تفيض في سح وتسكاب وجيدها عار وشفتاها تلمعان. فرفعتها بين ذراعى وقلت لها ليكن ما تشائين ولكنى أشهد الله المطلع إلينا وروح أبى أننى أذبحك الساعة وأقتل نفسى معك. وأخذت سكيناً كانت فوق المدخنة فوضعتها تحت الوسادة. فقالت ضاحكة وهى تضمنى إليها، تعال يا أوكتاف، ولا تأت أمراً نزقاً، تعال يا طفلي الصغير، فإن مخاوفك لتردك وجعاً مهيضاً وأنت محموم، هلا أعطيتني السكين.

ورأيت أنها تريد أن تأخذها فقلت لها استمعى لى، إنى لأجهل أمرك هذا والفكاهة التي تمثلين، وما بى من مزاح علم الله أني أحببتك حباً ليس يحمله مثلي، وفيك كان شقائى وفيك كانت منوني، واعلمي أنى لا أبرح الدهر أهواك مفرطاً جوياً وقد قلت إنك كذلك تحبيننى. ألا فليكن، ولكن أقسم بكل مقدس في الأرض أننى إن كنت اليوم عشيقك فلن يكون غداً غيري. وعدت أقول، يشهد الرحمن أننى لا أراجعك لتكونى خليلتى، فإن كراهتي لك شديدة كحبي وإنك إن تراوديني عن نفسك قتيلة غدا!. وتولانى عند ذلك ضعف شديد وأما هى فتنكبت مرطها وانطلقت تعدو هاربة. فلما علم (ديزينيه) بما كان منى قال لى، هلا كنت راودتها عن نفسها فهى غادة جميلة وأنى لأحسبك فظاً غليظاً! قلت أتراك ممازحى! أتظن أن امرأة مثل هذه تكون ربتى، أم تعتقد أننى أرضي أن أقتسمها بيني وبين رجل سواي، أم تحسب أنها نفسها تعترف بأنها نهب لغيري، أم تريد أن أنسى حبها لتكون من قسمتك بعدي؟ لعمري إن كان هذا في الحب شأنك فلك مني الرثاء والرحمة! فأجاب بأنه لا يحب غير العذارى الصبيات ثم أنشأ يقول، أي أوكتاف العزيز، أنت في عفرة الصبا وطراوة الشباب تود لو يكون لك مناعم كثيرة ومباهج ولكنها لا توجد في الدنيا وتعتقد في مرتبة واحدة من الحب ولقد تكون قادراً على أن تنهض بها ولكننى لا أرتضيها لك. أيها الصديق، ستكون لك عشيقات وخليلات وستتحسر يوماً على ما فاتك الليلة إنها سعت إليك لتراك، وكانت في تلك اللحظة تهواك، وعساها الآن قد نسيت غرامك، ولعلها بين ذراعي سواك. ولكنها كانت تحبك الليلة وفي هذه الحجرة شغفتها حباً، وماذا يهمك الباقى؟ لقد كانت لك ليلة زهو ومبهجة فنفرت عنها وستتلهف عليها زماناً واعلم علم اليقين أنها لن تأتى إليك بعد اليوم. تصفح المرأة عن هنات الرجل وتتجاوز عن كل شيء إلا خيبة الوصال! لقد كان غرامها بك جوي إذ دفعت إلى دارك وهى عليمة بسحرها وتأثيرها متوقعة أنك ستشيح بوجهك

عنها وتعرض عن وصلها. إلا صدقني. . ستعود نادماً لهفاً على الليلة الضائعة وها أنا أقول لك لن تمر بك مثلها إلا لماماً. وكانت تلوح على (ديزينيه) علائم الوثوق والخبرة الساكنة الهائلة حتى لقد كنت أرتعد عند سماعها وشعرت وهو آخذ فى قوله بقوة شديدة تستحثنى على زيارتها مرة أخرى أو أن أكتب إليها أستقدمها ولم تكن بى قوة على النهوض كأنما أنقذني فتور جسمى من عار لقائها وأشفقت أن تضمنى وخصمي دارها. ولكنى كنت أستسهل الكتابة إليها وجعلت أسائل نفسي كرهاً أتراها تأتى إن بعثت إليها. فلما رحل ديزينيه تملكني الاضطراب فأجمعت أمري على أن يكون بينى وبينها فصل الخطاب فبعد كفاح شديد بينى وبين فؤادي غلب الرعب على الحب فكتبت إليها أنى لست بعد الآن ناظرها وسألتها أن لا تعود أبداً إلىّ إن رامت أن لا يغلق بابي دونها. دققت الجرس حانقاً ودفعت الرقعة إلى غلام من غلمانى وأمرته أن يحملها إليها ويسرع ما أمكنته ساقاه. على أنه ما كاد الخادم يغلق وراءه باب حجرتى حتى ناديته مسترجعاً فلم يسمع وما جسرت أن أكرر النداء بل جعلت وجهى بين راحتي ولبثت كذلك رهين يأس شديد. . . عباس حافظ

الاختراعات الحديثة وقدم عهدها

لا شئ تحت أديم السماء جديد الاختراعات الحديثة وقدم عهدها إن المثل القائل لا شيء تحت أديم السماء جديد قد يكون مبتذلاً ولكنه رغماً من ذلك سديد وإننا لنفتخر بعجيب مخترعاتنا الجديدة ونعتز بها غافلين عن الحقيقة القائلة إن جميع هذه الاختراعات ليست إلا تهذيباً وإصلاحاً لأفكار قديمة لها عمر الرواسى والجبال. وقد عزز هذا الرأي اليوم برهان جديد إن صح أن هذه الحقيقة تريد دليلاً ينهض عليها إذ صرح الأستاذ (بونى) وهو في رحلته إلى رومة ينقب عن آثارها إن في ذلك المكان الذى كان في غابر القرون موضع قصر القياصرة المشيد فوق ربوة (البلاتين) آثاراً تدل على أنه كان فى ذلك القصر ثلاثة مصاعد أعدت لقياصرة الرومان يصعدون فيها من السوق العمومية إلى قنة البلاتين ووجد أن إحدى الحفر التى كان يرفع المصعد منها لا تقل فى غورها عن مائة وعشرين قدماً وإن كانت الأقذار المركومة فيها لم ترفع بعد كلها. . ومنشأ كل ذلك هو المخيلة. ولعمرى لقد سخر الناس من أول رجل فكر فى الطيران ووسائله في العهود الخالية وخالوه واهماً وعدوه متخرفاً ونحن نرى اليوم قوماً يطيرون حولنا في كل ناحية ومكان. وذلك واقع فى كل مستحدث مكتشف حتي أن ريشارد بروكتور ذلك المفكر المدقق كان على شيء من الاعتقاد بإمكان اختراع مطارات سهلة السوق والدوران إذ كتب لقد تحقق الطيران في الجو ولكي يطمئن الطائرون على سلامتهم ليست هناك إلا طريقة واحدة أحسبها عسيرة لا تدخل في دائرة الإمكان وهى أن المطارات قد تدار في الهواء كالسفن في الماء اه. والحق يقال أن ما كان بالأمس مستحيلاً ليصبح اليوم من الممكنات وغداً يكون أمراً مقضياً! وإن استخدام الكهرباء في زرع الأشجار والنباتات قد يدهش القارئ فيظن أنه أحدث اختراع ذلل للناس في زراعة بساتينهم وأزهارهم ولكن نظرة واحدة إلى الشذرة التي ننقلها من كتاب طبع في أواخر القرن الثامن عشر تدل على أننا مسبوقون في هذا الشأن وسنا نحن السابقين وإن كنا لم نستطع بعد أن نقف على مصدر هذا السفر التليد الذي وقع لنا

اليوم فحسبنا أننا اكتشفنا الحقيقة الهامة الآتية: رسالة ممهورة بإمضاء (ستيفن ديمانبري في أيدنبره لعشر خلون من فبراير عام 1747 نشرتها مجلة (ذي جنتلمان القديمة) يقول فيها كاتبها - بما أن الاكتشاف الآتي قد يؤدي في المستقبل خدمة جليلة للمجتمع فإنى لا أعارض في نشرك صورة استخدام الكهرباء في ترقية لزراعة وأنا أعلم علم اليقين أنها الأولى في نوعها إذ لم ينشر للناس مثلها حتي اليوم. في اليوم العشرين من شهر ديسمبر الماضي (أى سنة 1746) أخذت من بستان المستر بوتشر عوداً من شجر الريحان وجعلت الكهرباء تسرى في أجزائه نحواً من سبعة عشر مرة وصرت كل أربعة أيام أسقى العود نصف (بينت) من الماء ووضعت العودة في حجرة هي أكثر حجرات داري ترداداً وتعرضاً لأذى الهواء الذي يسببه فتح النوافذ والأبواب وإغلاقها فكان من هذا العود بعد سريان الكهرباء فروع وأغصان أطول ما فيها يبلغ ربع قدم على حين أن كثيراً من هذه الأعواد نفسها تركت في البستان فما نمت طول تلك المدة اه. كان هيرو الاسكندرى (حوال عام 125 قبل مولد المسيح) مخترعاً حاذقاً ومستحدثاً ماهراً في عمل لعبات الأطفال وصف في كتابيه أى علم الخصائص الميكانيكية للغازات وأى فن الآلات المتحركة بذاتها نحواً من مائة آلة ولعله لم يعمل إلا نماذج منها بينها آلة بخارية يقال أنها تماثل النوع الجديد المعروف وكذلك آلة رافعة للماء كمطفأة الحريق. وهيرو هذا هو أول مخترع لآلة التوزيع المتحركة بذاتها وقد وصف آنية ماء مقدس لا يفيض الماء منها إلا إذا أسقط المستسقى في هذه الآلة نقوداً فإذا سقط الدرهم من ثقب تلك الآلة انحدر إلى أحد طرفي (مخل) أفقى فضغط عليها وانفتح من ذلك مصراع معلق بسلسلة من الطرف الثانى وانسكب الماء. وتركيب تلك الآلة القديمة وفعلها لا يخالفان الطريقة الحديثة في شيء بل إن الأولى لأسهل من الأخري وأكثر إحكاماً. وكتب ريشارد كارليل (1790ـ1843) في تصنيفه معجم التراجم الأهلية أنه لما تعددت من عماله وغلمان مكتبه حوادث السرقة جعل يبيع الكتب بواسطة آلة كالساعة وطريقته في ذلك أنه كان يكتب فوق وجه هذه الساعة (المينا) اسم الكتب المعروضة في كل يوم للبيع

فإذا دخل المشتري أدار المينا حتي موضع الكتاب الذي يريد ابتياعه وإذا أسقط الثمن انحدر كتابه إلى يديه. وما كنا لنصل إلى اختراع هذه الأسلاك البرقية وتهذيبها اليوم إلى حد الكمال ألا بعد أن أمعنا في فهم منافع الكهرباء وأضفنا على معلوماتنا شيئاً كثيراً. ولكن المخيلة قديماً أقامت ظلها وسعت لها سعيها، وبين أيدينا الآن كتاب صغير يسمى (فسحات رياضية) وضعه هنري فان إيتن - لندن عام 1633 - نقرأ فيه هذه السطور يقول بعض القوم أنه بواسطة المغناطيس يستطيع الغيّاب أن يعلموا خواطر صحابهم كأن يعلم مثلاً من سكن لندن أفكار من هو حل ببلدة (براج) في ألمانيا إذا كان لدى كل منهما إبرة مغناطيسية الطرف وأهمية ذلك أن إبرة المقيم في لندن تتحرك بتحرك إبرة الساكن (براج) ولكن يشترط أن يكون بين الرجلين حروف معروفة ورموز موضوعة وأن يرصدا الجو فى ساعة من الليل أو النهار مخصوصة فإذا أراد أحدهما أن يخاطب الآخر فليحرك إبرته إلى هذه الحروف فتنقلها إليه وليحرك هذا إبرته فتفضي إليه بكلم صاحبه، وذلك الاختراع نهاية فى الدقة على أننى لا أصدق أن في الدنيا حجراً عظيماً كهذا له هذه المميزة ولا أحسب استعمال هذه الطريقة ممكناً ولو ذللت لازدادت الجرائم وفشت الجنايات اه. تلك هى معالم (التلغراف) الحديث وهذه آثاره الأولى بل إنها لآثار التلغراف اللاسلكى ومباديه! وكتب جون ويلكنس أسقف شيستر (المتوفى عام 1672) طائفة من الأسفار التكهنية العلمية ككتاب (اكتشاف دنيا جديدة) و (حديث عن نجم جديد) و (عطارد) و (سحر الرياضة) وغير ذلك من الأسفار وذكر في كتاب (عطارد) أن فكرة (فان أيتن) التي ذكرناها آنفاً مأخوذة من مؤلف قديم يسمي فاميناس استرادا ثم استطرد يقول إن هذا الاختراع خيال متخيل لا أساس له في أى تجربة من التجارب ولكن ويلكنس المذكور وضع للأنباء البرقية قانون رمز سبق به قانون (مورز) وهو المتداول اليوم أخذه عن طريقة النقط ذات الحرفين التي اخترعها (باكون) والتي تكاد تشابه طريقة النقطة تتبعها الشرطة لواضعها (مورز) غير أن كل حرف فى الأولى يرمز له بخمسة رموز بترتيب

مختلف مثلاً يرمز لحرف الألف بخمس نقط وللباء بأربع نقط ثم شرطة وللحرف بثلاث نقط وشرطة ثم نقطة وهكذا. وقال أن هذا القانون يجوز أن يستعمل بناقوسين مختلفى الصوت. . اه. وقد يعد القارئ قاطرات وذوات القضبان الفردية اختراعات طريفة ما قدم لها أثر ولا شهدها من قبل عهد على أن الأمر غير ذلك فنحن ننشر له صورة إحدى تلك القاطرات (وهنا نشرت المجلة التى ننقل عنها تلك الصورة) صنعها سنة 1833 فى باريس مهندس فرنسى يدعى وعرضت فى ساحة السباق بباريس ثم اختفي أثرها دهراً حتى كان عام 1865 فعادت إلى الظهور فى باريس باسم اكتشاف جديد. وقد يكون القاريء رهن الظن بأن الجاريات الغائصات في الماء هى نتاج فكرة محدثة ومصدر خاطرة جديدة على أن الأمر بخلاف ذلك فقد بحث في الموضوع مرسن في كتابه المطبوع فى باريس سنه 1644 وأفرد له ويلكنس فصلاً شائقاً فصل البحت في فوائده ومصاعبه. وكتب عمانويل سويدنبرج صاحب المذهب المنسوب إليه بين عامى 1710 و1714 مقالاً في الطريقة التي تستطيع بها سفينة بربانها أن تغوص تحت الماء كما تشاء وترمى أسطول العدو بشرر كالقصر وتنزل بجواريه الخراب والدمار ولكننا نستطيع أن نعود بالقارئ إلى قرن خلا قبل ذلك فنشهد جارية غواصة أنزلت فى نهر التاميز سنة 1625 تقل الملك جيمس الأول وفي أوائل القرن الماضى وضع فلاتون طرقاً كثيرة للغوص في أمواه البحار. . أما عن المطارات المدارة فيظهر أن م. ج تيساتديير فى سنة 1883 كان أول من وضع في المطارات آلة كهربائية متحركة بنفسها وإن كان بروكتور كما ذكر ناذهب في العام التالي إلى أن الملاحة في أجواء الفضاء مستحيلة الوقوع ولكن هناك صورتين لفكرتين قديمتين فى شأن هذه المطارات وضع أولاهما جرين فى سنة 1840 أساساً لسياحة فى بحر المحيط الإطلنطى وثانيتهما هي تلك التى حلقت فوق حدائق فوكسهول فى سنة 1843 والتى اشتهر ذكرها للشبه بينها وبين المطارات الحديثة فى أن لكل منهما دفة ترشدها وآلة تبعثها على الطيران.

ونحن نميل الآن بالقاريء إلى الكلام عن المطارات التى هى أثقل من الهواء وزناً والتى يعدها القوم أحدث ما أخرج للناس من الاكتشاف وأرقى ما ظهر حتي اليوم من الاختراع. لقد فكر الناس فى الأحقاب المنصرمة والسنين الخوالي أن يطيروا بأجنحة كالأطيار وليس هناك سبب يدعونا إلى الريب بأن (أرشيتاس) من أهل تارنتام (وكان ذلك قبل مولد المسيح بأربع وتسعين وثلاثة آلاف حول) صنع آلة على شكل الحمائم تسبح فى الجو ويقول الرياضى الشهير 1510 - 1576 - لا سبب يمنع مثل هذه الآلة من التحرك لاسيما في عليل النسائم ورخية الرياح وإن خفة الجسم كضخامة الأجنحة وقوة العجلات هو الباعث لها وإن الحمامة لتطير بهيئة مخصوصة ولكنها تتراوح فى الهواء وتتمايل كنور المصباح فتعلو أحياناً بنفسها وترفرف حيناً بجناحيها ثم تترك ذلك فجأة فتسقط لأن قوتها الباعثة لم تساو وزنها اه. وقد صنع آلة على هيئة نسر وطيرها على أن الطيارة التي ابتدعها صانع ساعات في (ويانة) اسمه عام 1809 تشابه من عدة وجوه مطارة اليوم المسماة ثم بدا للناس المزلج وهو ما يعرف عند الفرنسيين بلعبة كاختراع جديد منذ أربعين عاماً وما كان إلا تهذيباً لأن منشأه كان قبل ذلك العهد بخمسين عاماً على الأقل. ومن ذلك يستنتج أننا نقلنا حتي ألعابنا عن أجدادنا أهل العصور السالفة وقلّ ما أحدثنا وندر ما اخترعنا! ألا لقد أصاب المثل السائر (لا شيء تحت قبة السماء جديد) اه.

نوادر الأطباء

نوادر الأطباء حدّث طبيب من الإنجليز عن النوادر التي تقع بين الأطباء وبين مرضاهم قال: خلق فريق من الناس والمزاح طبيعتهم وأن أحدهم ليقهقه بالنكتة فى أرهب المواقف وأدعاها للسكوت كالرجل الذي قال له طبيبه إن سعالك لم يتحسن اليوم فأجابه إنه لم يفهم لأنه كان يتمرن على السعال طول الليل! أو كالآخر الذى وضع الطبيب على جسمه النحيف (لبخة) من (الماسترد) فما كان منه إلا أن قال (كثير من الماسترد على قليل من اللحم!). وقد قال لى بعض المرضى لما رأونى أفحص عليلين معاً أنني كنت أقتل عصفورين بحجر! والجمهور يعطى الأطباء ميزة في القتل. مثال ذلك أن ثلاثة من الأطباء دنوا من فراش مريض فصرخ قائلاً وهو يقول كلا. دعونى أموت موتة طبيعية. وسئل ولد ما علة المرحوم والدك؟ فأجاب لم يكن لديه طبيب. بل مات من نفسه!. وقد دعيت مرة أنا وأحد زملائى لفحص شئ من اللحم لم يصرح به طبيب الصحة فلما كنا فى المحكمة سئل شاهد من كان حاضراً ساعة فحص اللحم؟ فأجاب الدكتور روبنسن والدكتور بورتريت و (جزارون) غيرهم. وبعضهم يدعي أن الأطباء لا يشتغلون. دعي طبيب وكان قد قضى الليل كله في عيادة أحد المرضي إلى فحص رئتى عليل وطريقة الفحص أن يعد العليل (واحد. اثنين) إلخ والطبيب يستمع. فجلس الطبيب بقرب سرير المريض وكان متعباً فلم يستطع أن يستعمل (سماعته) بل أدنى رأسه من صدر العليل وأمره أن يعد حتى يأذن له بالسكوت. فبدأ المريض يعد (واحد. اثنين. ثلاثة. . .) وأخذ الطبيب النوم فلم ينتبه إلا والعليل يعد 6121، 6122، 6123! واعتذر بعض الأطباء عن قلة مفعول أدويته إلى سيدة فقال أنت تعلمين أننى لا أستطيع أن (أصغرك) يا سيدتى فأجابته نعم. إنني أعلم ذلك ولم أرسل إليك من أجل ذلك بل جئت لتجعلني أقترب من ساحل الأبدية. ويقال أن طبيباً من (ليدس) بإنجلترة وصلته الرسالة الآتية:

أنت لا تعرفنى أيها الطبيب ولكنك كنت تعود كثيراً من أقاربى. عدت والدتى فماتت. وعدت أختي فقضت. وعدت ابنة عم لى فتوفيت. وعدت شقيق زوجتى فمات. وحماتى اليوم مريضة ونرجوك أن تأتي لتعودها!. وأرسل شخص رقعة إلى طبيب يسأله أن يحضر ليفحص إصابة (بالجدرى) فأسرع الدكتور إلي دار العليل فوجد أن العلة هى (الروماتيزم) فسأل لم قلت أنها الجدرى؟ فكان جوابه إذا أردت الحقيقه أيها الدكتور فاعلم أننا لم نجد في البيت كله من يقدر أن يتهجى لفظة روماتيزم فظننا أن لفظة الجدرى تؤدي حتى تحضر وربما أتت بك مسرعاً. ولا أنسى يوم سألت امرأة عن العلة التي مات بها والدها فنظرت إلى صديقها وسألته أن يخبرني فقال. مات مشنوقاً. يا سيدي! وكان أبوها من القتلة. وعرفت رجلاً من أكثر الناس عملاً كان يحمل في جيبة قطعة من البطاطس النئ ويقول أنها تمتص (الروماتيزم). وزارت سيدة رجلاً كان في أشد المرض فرأته في دور النقاهة وذهبت وهي تؤمل أنه سيبرأ سريعاً ولكنها زارته بعد أيام فإذا هو في فراشه فاستفسرت من زوجته فأجابتها إنه لما يئس الطبيب منه ورأى أن صحته لن تتحسن بعنا ثيابه! اه.

البيت والحياة المنزلية

البيت والحياة المنزلية للكاتب أمرسن أكبر كتاب الأمريكان لا شيء أظهر من كمال عناية الله بالطفل. والله الذي يصون بذرة النبات بغلافها الكثيف ووعائها المتين يقدر للنبات الآدمي صدر الأم وبيت الوالد. عجباً للضيف الطارق والوافد الجديد الطالع علينا من ثنايا الغيب ما أضحك هيئته. وأصغر جثته. مرحباً بالمجتهد الضعيف والمجاهد الضئيل القوى في ضعفه الجلد في وهنه الذى يلقاك بذراعين أسد علاجاً وأصعب مراساً من ذراعي جندي مقاتل. أو نابل مناضل. والذى يحول بين شفتيه من سحر الإغراء. وفتنة الجاذبية والاستهواء. ما لم يؤته المصقعان شاتام وبريكلير. أليس في دمعه الفياض ورنته الحزينة وانتحابه كأن وجهه حزن مذوب ولوعة سائلة وإنه ليرد أنفاسه ويسيغ شجاه. ويبلغ كمده ويجير أساه. ما يلين أغلظ فؤاد. ويذيب قلب الجماد؟ ألا تعجب للجبار الضئيل ما أخس ما يطلب وما أزهد ما يسأل حتى جميع الخلق مؤيدوه والناس كلهم في صفه؟ أما أن جهله لأحلى فى النفس وأشهى إلى القلب من علم العالم النحرير. وإن ما ثمه الصغيرة لأحسن من كل فضيلة ومكرمة. وجسمه من مادة الملائكة إذ كان روحاً كله وتراه طول اليوم ما بين هجعاته الأربع يهتف كأنه قفص الحمام ويهدر ويصفق بجناحيه ويرفرف ويلبس وجهه الجلال والعظمة. وإذا صام برهة رفع صوت بوقه إنذاراً. وإذا كان بالليل سرّه أشباح الظلال على الحائط وإذا كان بالنهار سرّه الأصفر والأحمر. وإذا حمل إلى خارج الدار بهره النور وكثرة المرئيات فصمت. وبعد ذلك يبدأ استعمال اليدين فيتعلم القوة - درس سائر بني جنسه فهو من قطع الصابون ومن الحجارة وفن قطع الخشب والخيط والورق اليابس يبنى كنسيته أو قصره أو هرمه وكأنه لفرط الجد والوقار نوح يصنع الفلك وإبراهيم يبني الكعبة. وقواعد الأصوات يكتشفها من مزماره وجرسه وودعه. والطفل الأمريكي اقتداء بآبائه لا يني ينقب عن أسهل طرق السفر والانتقال فتراه لا يبصر أحداً الأهمّ أن يركبه فليس من عنق ولا كتف ولا ظهر إلا أضحى له مهما عز صاحبه وعظم ربه مركباً رّيضاً ذلولاً. ومن ذا الذي يطبق عصيان ذلك الملك القادر أو يستطيع مقاومة ذاك الكاهن الساحر ولو شاء أن يركب الأسد الرئبال لذلله أو أعصم الجبال لاستنزله فما هو إلا يرغب حتى تري العمات والأعمام والخالات والأخوال

والجدات والأجداد على قدم وساق. ذلل الشكائم. خضع الأعناق. يذعنون له جميعاً وهو لا يذعن لإنسان. يركب عاتق البطل الكبير ويأخذ بناصية ذي التاج والصولجان. قال ملتون الطفولة عنوان الرجولة كما أن الصباح عنوان النهار والطفل يذكرك بأيام الصغر فتحن إليها حتى تخال ذياك العهد قد عاد فتلمح شعاعاً من ذلك السنا اللماح وتشم عبقاً من ذاك الشذا الفياح. وبينما الأبوان في عجب وأعجاب بفتنة هذا الوجه ولثغة هذا اللسان - بذاك المنظر الأبلج. والمنطق اللجلج. إذا بالطفل قد عاد - وما كادا يشعران غلاماً؟ ولله الحياة ما أعجبها فى عين الطفل وما أروع أثرها في نفسه يمسى ويصبح بين ملح بدائع، وآيات روائع: النار والنور والظلمة والقمر والكواكب وأثاث البيت واللعب والزخارف. والخدم تحميه وتصونه والمراضع تغذوه وتمونه، والأهل تحفه وترفه وتحسوه وترشفه، مدهشات كلها جلائل. ومحيرات هوائل، ولكن الملك الصغير يتقلب بينها وادعاً مسروراً ناعماً محبوراً، فلا يلبث أن يذللها فيمتلكها من حيث لا يشعر. يدب فيه العلم الجديد مع حياة هذا اليوم فيكون الوسيلة لإدراك علم الغد فالوردة الناضرة حادث جديد في حياته والبستان شرقاً بالورد هو جنة الخلد أعادها الله إلى آدم الصغير. والمطر والجليد والثلج آيات أطوار جديدة في عيشته. أي عيد عظم ذلك اليوم الذي فيه يدلى بذي النعلين الصغيرتين إلى متن الطريق المثلوج لأول مرة. أي صباغ حاذق يستطيع أن ينفض من بدائع ألوان قلمه على الأشياء مثل تلك اللمعة التي تزين بها يد الله لعب الطفل وأمتعته؟ ما أظن شائقات المشاهد في كنيسة سانت بطرس لها في نفوسنا من الروعة مثلما للبلورة المضيئة أو الطيارة الشفافة أو مجموعة الصور التي كانت أول هدايا الوالدين وزخارف الدنيا. لشد ما والله يحن الفؤاد إلى هذه اللعب وتسيل النفس إلى تلك الألوان المشرقة. والأشكال المونقة، وشد ما يتشبث الخيال - الآن وقد شابت الذري. وخارت القوي - بأذيال تلك العهود وتعانق النفس في وهمها محاسن تلك اللعب وهاتيك البلورات والصور! أي لذات ومناعم تقصر اليوم للرجل الجديد وتملؤه رونقاً وبهاء! ما أقدم الشارع فى ظنه وما أقدس الناس! كذلك يكسو وخياله كل شيء جمالاً. ويلبس وهمه كل شيء جلالاً. ثم لا يدع ركناً مظلماً حتى يملأ بالجان والمردة - لله ذاك

الخوف ما ألذه تلك اللذة ما أخوفها! لقد سمع بالأغوال والسحرة فهو يقف. وهنا على باب داره فيرتب مرور هذه الخلائق وكأنه يلمح فى الظلام أشباحها ويسمع من أقصى الليل أجراسها. وكذلك أول نزهة فى الريف وأول غمسة في النهر وأول انسيابة فوق الثلج وأول عدوة في القمراء كل هذه فصول جديدة من الفرح واللذة في كتاب الحياة. وماذا في الكتب الممتعة: ألف ليلة وأبطال المسيحية السبعة وروبنسن كروسو وسفر الحجاج من كنوز الفكر ومعادن الطرب! لهى والله البرد المحبر يلف الطفل فيه الدنيا حتى العالم كله في عينه كوشي الطاووس أو أبهج! وكذلك يمضي السائح الصغير بين مشاهد الطبيعة ذلك السفر الذى بدأه فرحاً مسروراً له من محاسن فتنته وجواذب خلابته. وسذاجته التي تخال منتهى الحكمة والعقل. وخلاعته التى تفوق غاية الكمال والنبل. أقوى باعث ومثير لحب الأهل والأقارب الذي هو كالؤه وراعيه. ومهذبه ومربيه. وهكذا يشب وينمو تحفة البيت ولذته والبيت ترن جوانبه بصدى ندائه. وضحكه وغنائه. ونَصوَّغ حجراته. وتأرج ساحاته. بشذا تلك الوردة الناضرة - الطفولة. والدار موطن الرجل كما هي موطن الصبي. والذي يحدث بالدار من الأمور. ألصق بنفوسنا وأمس بأرواحنا مما يقع بمجالس البرلمان. ومعاهد العلم والعرفان. والشؤون المنزلية هي حقاً شؤوننا أنا ما يدعونه الشؤون العامة فقد لا يكون من شؤوننا. وكأني بمن أراد أن يعرف حقيقة تاريخ البشر ويفقه روح العصر قد أخطأ الصواب وجار عن الهدي إذا هو قصد إلى البرلمان أو إلى البلاط لينشد هناك ضالته. ويبتغى نمت طلبته. وإنما بين جدران البيت يطلب سر الحياة ويلتمس روحها. وما همنا قط ولا عناناً كالذي يفعل بالبيت ويكابد والذي يجرى على المرء من نعمة ومحنة وكربة وفرجة وعلة وشفاء. وشقوة ورخاء. والحقيقة خير من التزويق لو نعثر على الحقيقة. وهل ترى في أبدع صحف المنشئين. وأعجب قصص المحدثين. شيئاً هو أملك للسمع وأسبي للقلب من حديث العراف الصادق الذي يستطيع أن ينبئك على الفور بحقيقة أحوال الإنسان. وما جرت به الأقدار مما يكون وكان. الذي يستطيع إيجاد علة كل حادث وسبب كل واقع والتأليف بين إرادة الخير الكائنة فى روح الطبيعة وبين ما يجرى على يدي الطبيعة من الشر والأذى وبين تاريخ الإنسان الطبيعي والأخلاقي. الذي يستطيع أن يشرح أحوال محنك ومصائبك

وأمراضك وهمومك ومزاجك وديونك وأساليب رأيك وفكرك وأذواقك وأميالك ثم لا يفصلك في أي هذه التفاسير عن سائر بنى جنسك بل ينوطك بهم ويقرنك إليهم؟ أفلا تري بعد أنه ليس في مجالس البرلمان ولا في مقاصير الملوك ولا في غرف التجارة بل في بيوت الناس تعرف أخلاق الجيل الحاضر وآماله! على أنه مطلب عويص - قراءة أخلاق الجيل وآماله من صحائف الدور والمنازل وأسهل منه ولا شك إحصاء سكان البلاد ومساحة أرضها وانتقاد سياستها وإدارتها وكتبها وصورها وأبنيتها. أجل ذلك أهون من إتيان الدور وأهلها واستطلاع أخلاقهم وآمالهم من أساليب معايشهم. فمل بنا إذن عن المحافل والمجامع إلى البيوت والمنازل وادخل بنا غرفة الجلوس وحجرة المائدة نسمع أحاديث الخوان والسمر وننظر نفقات الناس في مساكنهم. هم يزعمون أن من مزايا هذا العصر الجنوح إلى ملاذ الروح والحياة السامية الجميلة. فلننظر هل بلغ الناس من هذه الحياة سرها ولبابها أو وقفوا عند القشور والظواهر. أترى البيوت تجري في معيشتها على نظام ومبدأ؟ هل تشف لك نفقات الرجل عن طبعه ومزاجه وخلقه وروحه وأمياله وآماله؟ هل نظام نفقة الرجل شفاف مضيء؟ والمرء واجب عليه أن يطيع في نفقاته وحى ضميره ويجرى فيها على غريزة ميله حتى يصبح وليس في بيته وضيعته إلا ما هو عنوان على طبعه ودليل على ميله. ولا يكون المرء مستقلاً نام الرجولة إلا إذا خدم ماله إرادته. وتبعت نفقته مشيئته. فأما من أسلك ماله سبيل مال جاره وقصد بنفقته إلى ما قصد إليه غيره تقليد القرد وحكاية الببغاء فعاجز الرأي ساقط القدر ميت الهمة. وليس الرجل وماله شيئين مختلفين إنما الرجل ماله. لا يسترين امرؤ إلا ما أحب. ولا يبذلن إلا فيما طلب. ولا ينفقن مجاراة لغيره فإن ذلك مال ضائع. وكذلك ترى. . . . . الأدب أساساً من أسس الأدب كل ماله مبذول في سبيل أفلاطون وأرسطو وفرجيل وسسرو ودانتي. لا تسله إن يرفد بماله ثروة البزاز والبقال لا تسله إن يدخل في شركة لبناء مصنع أو فتح حانوت. تلك أشياء أعلم أن لا بد منها ولكن أدعو إليها غيره. أتحسب إن كتاباً كمحاورات أفلاطون كان يهبط إلينا من أفق الزمان الأول لولا درهم الأديب وغرامه بالكتب؟ ومن الناس الصانع بفطرته مبدع الماسج وباني السفن - فهذا أساس من أسس الصناعة أن

ينصرف إلى الكتب لم تجن منه سوى الخيبة. وآخر فلاح - أساس زراعي. وغيره كيماوي - تسري عليه عين القاعدة. فلتكن في بذل مالك المخلص الجاد لا اللاعب ولا الهازل ولتبخلن بدرهمك أن تنفق في غير ما فيه لذتك أو نفعك وبنفسك أن تسف بها إلى مساقط الحمق والسفه. وإني لأخشى إن نحن طبقنا على بيوتنا هذه القاعدة إن نجدها منحرفة عن القصد حائدة المنهج غير مطابقة البتة لطبائع أربابها وأميالهم. ولكن ماذا يصنع في بيوتنا وماذا يتبع؟ لا أري البيوت تقدمت وارتقت إلا من وجهة النظافة والصحة واستكمال آلات النعيم الجسمي من مأكل ومشرب ومتكأ - أغراض حقيرة وأغراض فانية. فلو أزلت أسقف الدور فنظرت إليها من عل لألفيتها جميعاً مطاعم فطير ودكاكين حلوى ولم تلف بينها معبداً لغير إله الأكل. ولوجدت بكل منها بكاساً. يعمل طاساً وكأساً. فما أقل عنصر الجمال الحق في سنة كهذه. وما أبعدها أن تطهر نفوس السكان وتحبوهم الرخاء والحبور من والد ووالدة وأنجال فهو مجدب من هذه النعم للضيف وصاحب الدار متعب للمرأة شاق بلا فرح. كاد بلا سرور. وكذلك البيت الذي جل القصد منه إعجاب الناس بالزينة والوفرة متعذر إلا على القلائل من بنات حواء ثم لا ينال إلا بثمن غال من العافية والراحة. إنه إن ينظر المرء إلى هذه المسألة من وجهتها المادية هاله الأمر وراعه وحيره تعدد المطالب والمرافق لاسيما في الأصقاع الشمالية حيث الجو عاق والطبيعة قاسية فأقل حساب لحاجياتنا في هذه النواحي الوعرة يروعنا بكثرة الأشياء الصعبة الملتمس البعيدة المنال حتى نكاد نحسب صلاح البيت من المحال ونري حسن النظام أمراً أسمى من أن ترقى إليه همة بني آدم. فانظر إلى البيوت الحائزة للثروة وسلامة الذوق كيف ترى شدة احتفاظها ببعض أركان النظام مدعاة إلى تعطيلها سائر الأركان. فإن تمت عناية الأبوين بأمور الأنجال من ملبس ومأكل وتربية وتثقيف ورقابة قصرت تلك العناية بحقوق الضيفان واختلت بواجب القري فأفسدت المروءة وآذت الحسب. وإذا وظب على أوقات الطعام أسئ تنضيد الأمتعة وتنظيم الأماكن. وإذا عُنى بالحجرة أغفل البستان وإذا مدحت الساحة ذم الفناء وإذا صلحت جميع هذه فسد نعيم رب الدار وربته لشدة اشتغالهما بإصلاح البيت عن

إصلاح ذاتيهما. إنه لا يسعنا إلا التسليم لكثرة ما يجب تذليله من الصعاب قبل الوصول إلى حالة مرضية وما أظن ذلك ممكناً بمجرد النقد أو إصلاح الجزئيات واحدة أثر أخري. بل بأن نجعل للحياة غرض أسمى وأشرف ويكون القصد من بناء الدار وفرشها أعلى وأمجد. وهل تعلمون خطباً أعظم. ومصاباً أجسم. وآفة أحق أن يشمر لإزالتها. وينهض لإراحتها. من أن يذهب أحدكم في بيته أو بيت أخيه من غرفة لأخري فلا يرى حقاً ولا جمالاً ويتوسم وجوه الساكنين ويتصفح أعمالهم فلا يري مبدأ ولا قصداً. وينصت فلا يسمع إلا هذراً ولغواً وصخباً ولجباً. وإن يجد نفسه مرغماً على النقد ولا يقبل نقده مدفوعاً إلى عظة من لا يسمع وعظه. وإن لا يرى في القوم من يجود بثمار لبه ويقبل ما يهبه الغير من ثمار ألبابهم - من يعطى الحكمة ويأخذ الحكمة ويقرض ويقترض الحب والرحمة. أي خير فى الدار إذا كانت كذلك. وأي ثمرة بعد هذا الفساد والنقص في صلاح الزاد وكمال الأثاث. وماذا تجدي حلاوة السكر مع مرارة العشرة وعذوبة الزلال مع ملوحة العيشة! إن من أكبر الخطأ أن يعزو الناس هذا البلاء إلى قلة المال فتقول الزوجة لزوجها أعطني المال تحمد بيتك ولا تجد ما يسوءك إلا ترى في هذا القول معني الإيمان بقوة المال وأفراده بالسلطة المطلقة دون ما هو أحق منه بهذه السلطة أعنى إرادة الإنسان! إلا إنما الثروة في النفس لا فى النشب. وإن الغني لبالعقل لا بالذهب. ماذا تريدين بالمال؟ أنت تريدين عيشة الملوك والأمراء. وبذل الأجواد والأسخياء. أبهة القياصرة. ونعمة الأكاسرة. وقدراً لا تنزل الأرض مهداراً وكفا بالعسجد واللجين مدراراً. وأنى يستطيع ذلك من لم يؤت سعة الوقت والحال. أعطنا المال تصلح البيوت لبئس هذا الجواب حلاً لذلك المشكل. وساء فكاً لذاك المعضل. أعطنا المال لجل ما طلبت وعظم ما سألت. ومن ذا يملك المال إلا الفئة القليلة بيد أن كل الناس لا غنى له عن البيت. والخلق لا يخرجون إلى العالم فى كساء من الذهب. وطلب المال مهلكة يبلى الطالب وما فاز بطلبته. على أن حل المشكل بالمال على تعذره حل باطل. والمال آلة العاجز ووسيلة الناقص. فأما العاقل فإنه يحمى أنفاً أن يلتمس البغية إلا برجاحة لبه. أو يستفيد مودة الخلق إلا بثروة

نفسه وقلبه وليست الهبات والعطايا حقيقة خير بل خيال الخير وظله وتعلة من الخير الحق وبلغة إلى حين. أو إن شئت فقل هي رشوة السكوت عن أداء الدين الواجب وورقة تنوب مناب المبلغ المطلوب لا قيمة لها حتى يؤدي. فإن لابن آدم علينا حقاً أعظم من الدفء والزاد. وإنما دين الرجل لدينا رجل مثله وحق النفس الآدمية علينا نفس مثلها. وإذا رأيت أخاك ضجراً متبرماً مهموماً متألماً فذلك لأنك أكلت حقه عليك من بنات صدرك وذات نفسك ولويت دينه لديك من مادة روحك التي تفيض وروحه من عين واحدة. لقد كان حقاً عليك أن تعوده في مرقده تسليه وتؤيده وتعطيه لا من مالك فإنه حقير وإنما من بطولتك وطهارتك ومن إخلاصك وأيمانك. لقد كان حقاً عليك أن تسوق إليه تلك الروح التي هي النور والعافية والقوة فأما هبتك المال إياه بدلاً من هذه النفائس فذلك من الغبن والظلم بمنزلة ما تأتيه الزوجة الفارك من اشتراء طلاقها بالمال من زوجها. وقدماً كان اعتماد العظيم على قلبه ورأسه لا على جيبه وكيسه. وكما أن الماس أشرق ما يكون في إطار الرصاص فكذلك العظمة والفضيلة أنصع ما تكون في الفقر والخلة وقد كان أعظم خلق الله وسيد الناس طراً معسراً فقيراً. وهل كان إلا كذلك قادة اليونان وسادة الرومان. قال بلوتارك (فلوطرخس) عن أرسطيديس وكان أرسطيديس قد ولي الخراج يجيبه من عامة الأقطار اليونانية لقد ولى الخراج فقيراً وتركه أشد فقراً وكيف كانت حال أرسطو وأميلياس وأبيموننداس وكاتو؟ وأى دار كان يسكن الحواريان يوحنا وبولس؟ وأي منزل كان يقطن جون ملنون وصموئيل جونسون؟ بل أي منزل كان يقطن صموئيل آدم في بوستون وجان بول ريتشارد في بيريث؟ هذا مشكل عويص لا يصاب فيه الحقيقة ولا يطبق مفصل السداد إلا بشيء واحد ألا وهو إدراك معنى الحياة وغاية الوجود والسمو لنيل هذه الغاية. فليعلم الناس أنه لا يكون البيت بيتاً حتى ترى كل ما فيه يشهد بأنه ما شيد ولا زخرف لأمر سوي التربية والتهذيب. وأنه ما قام ثمت تحت السماء والشمس والقمر إلا لمثل أغراض هذه الكائنات رفعة وشرفاً. وإنه ليس للهو أقيم ولا لنوم ولا للمآدب والأعياد والمزاهر والأعواد ولا للذائذ الخوان. ومناعم بنت الحان. وإنما تقلع الأدواح من غاباتها لتدعم سقوف أناس لا ينبغي أن يكونوا أقل جزالة من دعائم بيوتهم ولا يليق بهم أن يؤتوا من خور ولا خور في معاجم النبع والغرب.

ضلة للإنسان أن بات وهو دون الحجر صلابة ومتانة. وأصبح وهو دون الشجر رزانة ومكانة. وظل وهو دون هذا وذاك وفاء وذمة وأمانة. أجل إنما تقلع الأدواح لتدعم بيتاً هو مأوى الكرام في كل حين ومقرى الطارق المستنبح إذا استكلب القر: وعزت الشمأل الرياح وقد ... أمسى كميع الفتاة ملتفعاً وهو موطن الجود ومثوي البر. على جباة أهله ونازليه آية الهدوء والطمأنينة وفى وجوهم نضرة النعيم وفي عيونهم نور اليقين وعلى رؤوسهم ترفرف ملائكة القناعة والإيمان والرضا لا يسألك أهله عن دارك ما نظامها. ولا عن مائدتك ما طعامها. كل له غرضه في الحياة ومقصده. وما سؤالهم عن ذلك وليس نعيم البيت في خوانه ولكن في أخلاق أهله وعرفانهم وصالحات أعمالهم وكأني بالبيت الذي يجمع هذه الخلال في غير حاجة إلى الحلوق. وكذلك يحدث تغير القصد تغييراً في قيم الأشياء عندنا حتى نراها بعين جديدة ونقيسها بمقياس آخر. إذن مفهم معنى الفقر والغنى فنعلم أن الفقر هو الشعور بالفقر وكم من فقير في نظر الناس وهو لا يشعر بفقر وكم من غنىّ في نظرهم وهو أن نظرته بعين البصيرة وسبرته بمسبار الفطنة المترب المعدم والعظمة النفسية والعناية بالمال لا تجتمعان في صدر قط وما أن رأينا من عظيم يعنى بالمال ولو يعنى لأخل ذلك بعظمته وذلك أن العظمة النفسية توقظ المدارك السامية وترقد الدنيئة غير أن السامية تجد أغراضها في كل مكان. ولا تجد الدنيئة أغراضها إلا في المرقص والخوان. ناشدتك الله أيتها الزوجة الكريمة أن لا تكلفي نفسك من أجل هذا الضيف فوق وسعها وأن تأخذي من دمك ودم زوجك وأنجالك لتصنعي له مأدبة إمبراطور وفراش سلطان. فإن كانت حاجة الضيف في ذلك ففي ليرة ينفقها بهذا المطعم وذاك النزل قضاء حاجته. ولكن أر الطارق إن شاء في صحيفة محياك وفي لحظ عينيك وفى جرس شفتيك وفي لطف شمائلك آية برّك وإحسانك. وعطفك وحنانك. وليكن وجهك دليل قلبك. ولحظك عنوان نيتك. والوجه المشرق الطلق آية القلب المخلص والضمير الطاهر: وإذا ما مخابر الناس غابت ... عنك فاستشهد الوجوه الوضاء فذلك خير له من المصفق في الأكواب. ومن المرقق والصناب وذلك لا يباع ولا يشتري والصناب يباع ويشترى. وهو الذى تشد إليه الرحال، وتضرب إليه أكباد الآبال، ويحتمل

من أجل بلوغه السفر المهيب والجوع والظمأ. أنا لا أقول لا تفرش الخوان للضيف ولا تهيّء له الفراش ولكني أقول لا تودع هذين جل سخائك وكرمك بل اجعل معظم ما لديك من ندى وجود فيما قد ذكرت الآن من شريف الخصال. وكريم الخلال. الأشرف الله كل دار أمات الفقر فيها الشهوة والهوى وأحي اليقين والهدى وأيقظ الفكرة والنهى. ونبه الفطنة والحجي. وأولع النفس بالتقى. فقرأ الذهن شرائع الطبيعة وعرف أسرار الكون وعبدت الروح الحب والحقيقة وجرت المروءة وسرت الفضيلة في كل عمل من أعمال الأسرة. كم رأينا الفقر سر النجاح. وسبب الفلاح. وأس الصلاح. وأصل المجد والفضيلة والشرف. ولم تر حكومة قط عنيت بتعليم أبناء فقرائها وتقريب كنوز الأدب والحكمة من أطماعهم مثلما عنيت بذلك حكومتنا فكم من دار حقيرة راح فيها الذكاء والعلم والنبوغ مقرونة بالفقر والكد. أين الذي لا يؤثر في حصاة قلبه أن يرى أولاد الفقراء وقد فرغوا من أداء خدمة البيت يطيرون بأجنحة الشوق إلى مجلد رث الغلاف من أسفار بترارك أو جولد سمث يسترقون من ذلك الظالم الجبار - الوقت - ساعة عسجدية يغيبون أثناءها عن شعورهم في ظلال بساتين الأدب وشعاب أودية الخيال والشعر؟ وأن يرى فرح بعضهم ببعض إذ يتناشدون الأشعار ويتراوون الآثار. طوراً بالحقل وتارة بالحظيرة وأخرى بالساحة. ويتبادلون آراءهم في موضوع خطبة الأمس ودرس اليوم ومحاضرة الأستاذ وموعظة القسيس أو يتناولون بالنقد الأليم أحوال المدرسة والمدرسين وفتيات الدار مصغيات فاتحات الشفاه اشتياقاً. خافقات الصدور إشفاقاً. وإن يرى فرحة الغلام بإنجازه أول عمل من ترجمة أو إنشاء إذ يضحك لنفسه منفرداً في سطح الدار كالعابد في صومعته. أو يرى رؤية الغلام وأناته إذ يقرأ إعلاناً عن محاضرة الخطيب ماكريدي أو بوث أوكمبل بمكان كذا في ليلة كذا فيجعل يقارن بين غنم الذهاب وغرمه. وإن يرى فرط سرورهم باللقاء بعد تفرق ونطق وجوههم بالحبور قبل الألسن. وحرصهم أثناء الفراق على ادخار كل معسولة من القصص والأنباء ليصبوها في مسامع خلانهم عند اللقاء وينفثوها في قلوبهم. وارتياحهم لطرح ما حملوه أذهانهم من ذخائر العلم يتعارضونها عند المقابلة. بالله قل لي أي آصرة هذه التي تؤكد عقد ما بينهم أليست هي آصرة الفقر والحاجة آصرة الكدح والكد التي تبعد عنهم من الشهوات الخسيسة والملاذ الخبيثة ما يفسد أحساب أمثالهم من الأغنياء ويذهب

مروتهم ودينهم ويبلي جدتهم. ويذوى زهرتهم. ويوبس عودهم ويقوس عمودهم. ويمتص منهم من ماء الشباب وماء النعيم وماء الحياء وماء الحياة. ويتركهم أنقاضاً بالية. وأطلالاً عافية. فأضحى الفقر في أولئك الفقراء قد وجه هممهم إلى طرق الصواب والأمن وصرف عزائمهم إلى سبل الصلاح والتقوى فباتوا برغم أنوفهم عباد الجليل عشاق الجميل طلاب النبيل شيعه الهدى. لا در دركم معشر الغلمة الفقراء أتشكون الفقر وأنتم الأغنياء. والبؤس وأنتم السعداء لشد ما أصغرتم نعمة ما أجلها. وحقرتم عطية ما أجزلها. ألم تؤتوا وفرة الحظ في ثلاث هن ما هن. قراءة الكتب وقراءة الطبيعة وقراءة السريرة الإنسانية. ماذا تريدون؟ أركوب الفاره تبتغون. وليس القشيب تطلبون. ورؤية التمثيل تودون. وإلى سبل الغواية تجنحون. ومواطن الإثم لو أمكنتكم الفرصة تجمحون. ما أجشم الخطب وأعظم الكرب لو أسعفكم الدهر بهذه المطالب. وأسعدكم القدر بهاتيك المآرب! كلا إنكم لفي حرز من ذلك. وإن حولكم ملائكة حراساً ما إن يزلن يكالمن جباهكم بأكاليل الحياة. تلك الملائكة هي الكد والفقر والجد والإخلاص. وهذا فصل من رواية كلارندون ينعت فيه المؤلف أجمل مثال من العيشة المنزلية أسرده هما لما فيه من عظة وعبرة وهو ولما كان منزل الرجل على مسيرة ساعة من أكسفورد أصبح صاحباً وعشير العلماء هذه الجامعة وأدبائها وذلك أن هؤلاء وجدوا عنده من احتفال البديهة وشدة العارضة وذرابة اللسان وخلابة البيان وسعة الاطلاع وغزارة العلم لا يسألونه عن فن إلا حسبوه أنه لم يتقن غيره: إلى أى ما فيه عمدت حسبته ... هو الغرض المقصود فيه الميمم مع فرط حياء وشدة تواضع كأنه بكل شيء جاهل ما أغراهم به فصاروا يختلفون إليه فيحدقون به إحداق الحلقة بالأستاذ وظل بيته لهم مدراساً صغيراً كبيراً. قليلاً كثيراً يغشونه للدرس لا للراحة وليصفوا بالبحث ويهذبوا بالفحص تلك المسائل التي أبقاها الكل والمجاراة أغلاطاً شائعة. أنا لا أقدس الرجل الذي جل أمله أن ينال منزلة في البرلمان أو في الجيش ولا الذي أكبر أمنيته أن يكون ذاك الخطيب المصقع أو ذلك الشاعر الفحل إنما أقدس الذي يرمي إلى أن

يكون أستاذاً في حسن نظام العيشة عارفاً بالذي له وعليه مؤدياً حقوق السيد أو الخادم وواجب الزوج والأب والصاحب وذاك لعمر الله أمر أعوص مطلباً من التفوق في الشعر والكتابة. والحرب والخطابة. يستلزم من قوة العقل أكثر مما يستلزمه التبريز في تلك العلوم والفنون. والسبب الذي من أجله يخيب معظم من يتصدى للفن والعلم هو عين الذي يخيب من أجله. معظم الخلق فى بلوغ الرتبة المرضية في فن المعيشة. وإني أحسب أن خطيئة الناس في فن المعيشة هو أنهم لا يرون الإنسان مقدساً. وهي عين خطيئة الحكومات والمدارس والديانات جميعاً. لقد جاء في أساطير الأولين أنه جيء مرة إلى بلاط الملك أرثار من عالم الجن بكساء هدية لأجمل أهل البلاط منظراً. وأطهرهم مخبراً. ولكن من ذاك الذي الأجمل الأطهر؟ هو من إذا لبس الكساء كان محكماً عليه لا نقص ولا زيادة. فجعل كل من البلاط يجربه فلا يراه محكماً. وإذا هو أوسع على هذا من عرض الفضاء وأضيق على هذا من سم الخياط طويل على البعض قصير على البعض. فقالوا جميعاً إبليس في الكساء وباطلاً قالوا إنما إبليس فيهم وليس فى الكساء إلا الحق وما فيه من عيب ولكنه يظهر عيوبهم ويبين عوراتهم فأحجموا عن الكساء مذعورين وجلين حتى جربته ذات الكرم والعفاف جنلاس فإذا هو عليها محكم. وكذلك في دماغ كل امرئ مقياس يقيس به قيم الرجال من كل غاد ورائح فلا يكاد يجد في الألف واحداً يبلغ هذا المقياس ويساوى ذلك النموذج كلا ولا نفسه ولا من كان يحسن بهم ظناً ويراهم من الشرف في الذروة والسنام: نزلوا من مباءة المجد قدماً ... في مناديحها الطوال العراض أولئك الذين كان من يراهم أطواداً وبحاراً. وأبطالاً جلة كباراً. لقد قلوا فى عينه بعد أن نظرهم بذاك النبراس. ودقوا فى نفسه بعد أن قاسهم بذلك المقياس رآهم أدنياء المقاصد سفلة الأغراض. خبيثي العلل معضلي الأمراض. يقنعون من عليا ذؤابة المجد بأدنى مراتبه ومن أجزل مرابح الشرف بأخس مكاسبه. يكفيهم من حديقة الكرم نفحة. ومن أنوار الحقيقة لمحة. لكل مطمح دنيء لا يري في الوجود غيره فإذا هو ناله ظنه قد نال الدنيا بحذافيرها فيقعد لا يصنع بعد ذلك شيئاً إلا أنه يجعل هذا الأمر الذي بلغه أصلاً يرجع إليه كل ما يقع له في سائر عمره وتاريخاً لقياس الزمن. وهذه الغاية المطلوبة تكون عند المرأة

الحب والزواج (وهى أفضل من غيرها) وعند الرجل الجامعة التي خرجته مثلاً أو حرفته بعد ذلك أو استقراره في بعض المدن أو رحلته إلى بعض مدائن المشرق أو المغرب أو غير ذلك من تافهة مجسمة وحقيرة معظمة يعدها قطب حياته ومحورها وكل أمر يقع له بعد ذلك وكل حادث يحدث فلا يكون عنده ذا قيمة إلا إذا كان له نسبة وصلة بذلك القطب والمحور الذي يصبح تدور حوله جميع أفكار الرجل وأحاديثه حتى يهلك. ومن ثم ترانا نقطن في كل إنسان لي خصيصة تميز أسلوب فكره وحديثه ونعرف الموضوعين أو الثلاثة التي تشغل جميع لبه وذهنه لا يكاد يعني بشيء غيرها ثم لا يزال في كل حديث له يذكرها فإذا طرأ موضوع جديد تنبأنا برأيه فيه وتوقعنا ما سوف يقول عنه. وهذه حالة عامة ونقص شامل يستوي فيه العالم والجاهل والعاجز والبارع. وخريج الجوامع وخريج الشوارع فلقد شهدت في حفلات أعياداً الجامعات الرجل العالم الأديب الذي قد ترك الجامعة منذ العشر السنين أو العشرين قد عاد إليها عين ذلك الصبي الذي تركها لم يزد الله في عقله مثقال ذرة تضحكه عين تلك الأمازيح الباردة وتعجبه نفس هاتيك الحقائر التافهة. وكل ما يرى له من تلك الرجولة وذاك المنصب إنما هو زخرف باطل وطلاء مموه إذا امتحنته تكشف لك عن ذاك الصبي القديم هو هو بعينه. كأني والله بنا لن نكون مدنيين قط بل نبقى ما شاء الله قرويين نرى أن كل شيء بقريتنا الحقيرة خير مما يماثله بكل بقعة أخري والمفاخرة تختلف ولكن كل مفخرة هي في نفس صاحبها وقود لنار من الغرور لا تخبو. فمفخرة هذا أنه ركب البحر ومفخرة ذاك أن لاقى المصاعب في دخول الجامعة ومزهاة الآخرا. سافر إلى جزر الهند الشرقية وخامس يفخر بأنه خرج من الماسونية. وسادس يفخر بأكلته وشربته، وسابع بحلته وحليته. إنما هي حياة لعب وزخارف وعيشة خدع وسخائف. والإنسان بينها يولد طفلاً ويعيش طفلاً ويموت طفلاً. ما أبعد البون والخلاف بين ما نرى من الناس وبين ما يجب أن يكون الناس. نري أناساً سراعاً إلى الغرض الحقير خفافاً إلى الغرض اليسير كأنما يساقون فى طريق الحياة ضرباً بالسياط ونخساً بأطراف الإبر. قوماً معجلين لهني قد غضن إلهم وجوههم وخدد العناء لحومهم وغل الحرص أعنانهم يخيل إلى أنهم أفراس تعدو سراعاً على متونها فرسان لا تراها الأعين. أين السكينة والهدوء والطمأنينة؟ لقلما نبصر هذه المكارم. لقلما نبصر من

يستحق أن يدعى رجلاً: إني أغمض عين ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أري رجلاً ليس بيننا أبراراً متقون. ولا أرى الناس إلى البر والتقى يهرعون. وترانا مع ذلك نعتقد بوجود البر والأبرار والتقى والأتقياء بوجود الحياة الطاهرة والعيشة المقدسة على أنا لم نرها إلا قياساً ولم نجدها إلا إحساساً. والحقيقة أنه ما كانت الطبيعة لتعمل كل هذه الوسائل الجمة العظيمة. وتبذل كل هذه القوي الجسيمة. لتحصل على مثل هذه الثمرة القليلة والنتيجة الخسيسة. بل إن آمال الناس وطماحها نحو الجمال والفضيلة أجل ومالا نبرح نراه في خلال حركات الناس وفي أسارير وجوههم من لمحات الجمال والجلال والطهارة تكاد تمهد السبيل إلى حياة أرقى. لكل فرد من الناس جماله الخاص ولكل نفس حلاها. وإن أحدنا ليشهد المحافل والسوامر فتروعه ثروة الطبيعة البشرية وغنى النفس الآدمية عندما تلتقي في خرت أذنه نغمات الأفراد ضروباً وأشكالاً لكل منها موسيقي خاص مميز. ويجتمع في مرآة نفسه أخلاق الأفراد صنوفاً وألواناً لكل منها فتنة خاصة مميزة ويري وجوهاً غريبة ذات معان غريبة. فيجد أن الطبيعة قد وضعت لكل من أبنائها قواعد بناء مقدس لو أنه شاد عليها فأعلى. وليس من صورة آدمية إلا وهي كفؤ أن تكون موطناً لعقل رجيح. أو خلق سجيح ومسبكنا لفطنة ذاكية. أو روح سامية. وكما أن محاسن الطبيعة وملامح الحق والجمال في الإنسان تنبهنا للسمو إلى حياة أصدق وأرقي. ومنزل أطهر وأنقى. - منزل يضارع جلاله روعة السكون وبهجة الدنيا - فإن فيما لم نزال نجده في نفوسنا من الميل إلى مصادقة الأخيار وصحبة الأبرار. حاد آخر يحدونا إلى تلك الحياة السامية. لله ما أسعد الدار التي تبني فيها المودات والصداقات على أساس من الأخلاق وقاعدة من الآداب ما أسعد الدار التي تزوج فيها الروح بالروح والقلب بالقلب وتقترن فيها الطباع والشيم لا التي تكون متلقى القلوب المتنافرة. والنفوس المتناكرة وخليط مشوش من متناقضات أفكار وآراء وعقائد. ومتضاربات أخلاق وأحوال وعوائد. في مثل هذه يكون الزواج نعمة جلي. ولذة كبري. إذ يصبح كل من الزوجين مرآة أخيه. يصلحه ويرنيه. ومصباحه يرشده ويهديه وكنزه يمده ويغنيه. وعماده يؤيده ويعليه. ومجنه

يصونه ويقيه. زينة البيت خلانه الذين يختلفون إليه. ويكثرون التردد عليه. ولا نعلم فى الوجود شيئاً هو أعظم من ظهور وجوه جديدة حول مائدة الدار إلا تلك المكارم والشيم التي استهوت هؤلاء الضيوف الجدد ونزعت بهم من مواطنهم حتى أوفدتهم هذه الدار وأجلستهم حول تلك المائدة وقد أضاف الكاتب لا ندور إلي الكلمة التي عرّف بها الرجل العظيم هذه اللفظة وهى وهو أيضاً الذي في استطاعته استجماع نخبة الناس وصفوة القوم متى شاء وأحب وقد بقى لنا على كر الزمان قافية من قريض الشاعر اليوناني القديم مياندرا في مدح الصداقة هي خير نقيذة الدهور. ووديعة العصور. ما الجنة الغناء تسجع طيرها ... في ناعم لدن القوام وريق والمسمعات المحسنات صوادحاً ... والراح في طاس وفى إبريق أشهي وأعذب في النفوس على ظمأ ... ودخيل همّ من خيال صديق هذه هي السعادة التي أن تعرف حقيقتها أزرت بكل سعادة غيرها وأرخصت قيمة الحكومة والتجارة والسكنيسة. وأي سعادة أنعم وأي يوم أعظم من يوم يتقابل الناس وكل لسائرهم مؤيد ونصير ومنعم يستهل بشؤبوب من النجوم وكاف بالنور والحيا بالبر والهدى. بالرأي والندى. هذه كلمات على سبيل العزاء وأمان يزجيها الرجاء هده درس الحياة والغاية التي خلق الناس لها. وأقيمت دعائم البيت من أجلها. وأرانا اليوم أحوج إلى مدبر وفاتح منزلي. منا إلى مدبر وفاتح حربي. فمن كان من الشجاعة والبطولة بحيث يقدر أن يخضع لنا جبار العادة والاصطلاح ويهدى الناس إلى سبيل المعيشة الطاهرة النقية. الماجدة السنية. ويعلمنا كيف نأكل ونستريح ونعامل الناس من غير أن نحدث ما فيه معزة ومخزاة فذلك هو المعيد إلى حياة الإنسان عزها وجلالها. الراد عليها رونقها وصقالها. الخالد اسمه ما اصطحب الفرقدان. واختلف الجديد أن إطليلاً لهامة الدهر. وغرة في جبهة الزمان.

مطرح الهموم

مطرح الهموم لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع كلمة من أعيان كلمات الكاتب الإنكليزي أديسون مما يؤثر عن الحكيم سقراط أنه قال إذا جمعت مصائب البشر كلها في وعاء ثم قسمت على جميع الناس بسواء. لأصبح من كان يحسب نفسه أشقى الناس وأخسرهم يفضل أولى الحالتين على الثانية. وجاء بعد سقراط الشاعر الروماني هوراس فعدّل هذا المعني فقال إن ما يكابد أحدنا من المصائب أخف عليه من مصائب أي إنسان آخر إذا وقع بين الرجلين تبادل. فبينا أنا ذات يوم متكئ في خلوتي أفكر في هاتين الحكمتين وقد أخذتني سنة من النوم إذ خيل إلىّ أنه بأمر إله الآلهة قد نودي في الناس أن يحمل كل امرئ مصائبه فيأوابها جميعاً فيطرحوها بعضها فوق بعض في سهل فسيح فوقفت وسط ذلك السهل وسرني أن أرى الناس طراً يأتون واحداً بعد واحد يلقون أثقالهم العديدة حتى ارتفع من مجموعها جبل طالت ذؤابته السحاب. وكان هنالك امرأة نحيلة خفيفة قد شمرت عن ساعد الجد وسط هذه الشعائر تحمل في إحدى يديها مجهر أو عليها ثوب فضفاض هفهاف سابغ الذيل موشي بعدد عديد من تصاوير الجان والعفاريت كلما ضربت الريح الجلباب تلونت وتشكلت تلك التهاويل أشكالاً وألواناً وكان في عينها وله ولهف وحيرة وكان اسمها الوهم وهى التي كانت تسوق كل فرد من البشر إلى المكان المعين بعد إعانتها إياه على ربط حزمته وحبكها وإلقائها على عاتقه فأذاب قلبي رؤية أخوتي وأبناء أمي وأبي ينؤون بأحمالهم. ويئنون تحت أثقالهم. وفتت كبدي أن أبصر ذلك الجبل الباذخ الذي من أحزانهم تكوّن ومن آلامهم تألف. على أنه ألهاني عند ذلك. وسلاني هنالك. عدة من القوم لغريب أحوالهم وعجيب هيئاتهم. فمن بين هؤلاء رجل في حلة مطرزة أقبل يسعى حتى جاء المكان فأخرج من تحت حلته الموشاة المزركشة حملاً فألقاه فحددت البصر أتبينه فإذا هو الفقر. وأقبل آخر يرزح تحت ثقله وبعد كثير من التنفس والزفير أقي حمله فنظرت فإذا هو زوجته. ورأيت عدداً عديداً من العشاق على كواهلهم أثقال عجيبة من سهام وشمل. ولكن أعجب

من ذلك أنه برغم ما رأيته يكاد يمزق قلوبهم من غلواء الوجد وبرحاء الكمد وبرغم زفرة لهم ترقي. وعبرة لهم لا ترقا. كانوا لا يستطيعون مطاوعة عقولهم على الماء تلك الأثقال عند ما بلغوا الكثيب. ولكنهم بعد قليل من المحاولة - محاولة المشاقل المتكرد - هزوا رؤوسهم ورجعوا بأثقالهم أشد ثقلاً. وأفدح حملاً. وأبصرت كثيراً من العجائز يلقين تغاضين وجوههن وكثيراً من الفتيات يلقين سمر جلودهن. ورأيت كوماً من أنوف حمراء. وأسنان قلحاء. وشفاه فلحاء. والعجب العجاب أنى رأيت معظم الجبل مؤلفاً من عاهات بدنية. وآفات جسدية. ثم لمحت من بعيد رجلاً على ظهره حمل لم أر في سائر الأحمال ما يدانيه عظماً فألعمت النظر فإذا هي حدبة فألقاها فرحاً بذلك بين سائر البلايا الآدمية. ورأيت كذلك عللاً وأمراضاً من كل ضرب وصنف غير أنى رأيت الوهمي من ذلك أكثر من الحقيقي. وشاهدت بين هذه نوعاً قد ألف من جميع الأمراض والعلل يحمله في الأكف عدد عظيم من ذوي النعمة والرفاهية واسم هذا الداء الملل. وأعظم عجبي وحيرتي أنى لم أر أحداً قط ألقى بين هذه الآفات والمصائب شيئاً مما ابتليت به نفوس البشر من الرذائل والحماقات والأضاليل. والنقائص والسخافات والأباطيل. فأدهشني ذلك أيما إدهاش إذ كنت قد ظننت أنها فرصة لا يدعها أحد حتى يطهر نفسه من أدران الأهواء والشهوات. ويخلص طبعه من أكدار العيوب والعورات. ورأيت في الجماعة رجلاً فاسقاً لم أشك في أنه جاء مثقلاً بأوزاره وآثامه. فلما أقبلت على ما رماه أفتشه ألفيت أنه لم يرم شيئاً من تلك الذنوب والحوب وإنما رمى ذاكرته وتبعه رجل ساقط جاهل فنظرته فإذا هو قد نبذ حياءه لا جهله. ولما فرغ الناس من طرح أثقالهم وفرغت الجنية النحيلة الخفيفة من عملها وكانت قد رأت مني رجلاً ينظر ولا يعمل دنت منى فقلت لذلك فلم يرعني إلا رفعها المجهر إزاء عيني وكنت أعرف في وجهي القصر فإذا هو قد تناهي قصراً حتى عاد أبشع شيء فساءني منظره فألقيته كما يلقي القناع. وكنت قبل ذلك ببرهة أبصرت رجلاً رمى بوجهه لفرط طوله وكان أطول وجه حتى لذقنه وحدها تطول وجهي بأكمله فاستراح من مصيبته واسترحت واستراح الخلق طراً. وأطلق لكل امرئ أن يستبدل ببلواه محنة غيره. على أنه لم يبق في الجمع إلا متعجب من هذه المحن كيف عدّها أهلها محناً وكيف كان قد

غرّ بها وخدع فيها فحسبها نعماً وفوائد وبينا نحن نتأمل خليط المصائب. ومزيج النوائب. صدر أمر إلا له الأكبر أن يستبدل كل امرئ بمصابه ويرجع إلى مثواه بحظه الجديد. عند ذلك تحركت الوهم وقسمت الكثيب في أخف نشاط وأكمل سرعة فأعطت كلاً نصيبه وكأني باليراع يعجز أن ينعت ما حدث إذ ذاك من هرج ومرج ثم كانت أمور كثيرة أذكر الآن بعضها: رمي شيخ كبير على كثيب المصائب علة كانت في بطنه وكان عاقراً يتمني ولداً يكون عماد شيخوخته ووارث ثروته فمدّ يده ليعتاض من دائه الذي طرحه فاختطف ولداً فاجراً عاقاً كان آفة أب له وكان ذلك الأب قد نبذه في النبائذ يريد به بدلاً وقد أخذ بدله مرض البطن الذي رمي به الرجل الأول. فلم تمض إلا برهة حتى رأيت ذلك الغلام قد ثار بالشيخ الكبير فأخذ بلحيته وناصيته وهم أن يفلق رأسه. فما هو إلا أن أبصر الأب الأصلي وكان يسعي نحوه ممسكاً بحشاه من وجع المعدة حتى صاح به يرحمك الله وإيانا خذ ولدك بارك الله لك فيه وأعطني علتي ولكن قضى الأمر وكان مالا يكون تبديله. ولا يستطيع تحويله. يا ابن بوران لا مفرّ من الله ولا من قضائه المحتوم ورأيت أسيراً مقيداً خلع قيده. وقلع صفده. فاعتاض منه النقرس. ولكن أبدى من التأوه والتأفف والتلوّي والتنزي ما دل على أنه لم يكن في تجارته تلك بالرابح الصفقة. ولقد كان من الممتع اللاذ أن تبصر ما وقع إذ ذاك من المبادلات والمقايضات من علة بخلة وجوع بفقدان شهوة وهم وتسهيد بأسر وتقييد. أما النساء فكن من تبادل الأعضاء - أعضاء الوجه والجسم - في شغل شاغل فواحدة تستعيض لمة شمطاء من جلدة سمراء. وثانية تأخذ عنقاً قصيراً وتعطى أنفاً كبيراً. وثالثة ترمي عرضاً مفضوحاً. وتلتقط وجهاً مقبوحاً. وما منهن إلا من تدرك في الحال أنها اعتاضت من سيء أسوأ ومن رديء أردأ وكذلك حال سائر الجمع في كل بلية وآفة لعله لأن ما أصابنا به الله مناسب لمقدار صبرنا واحتمالنا أو لأن كل مصيبة تذللها العادة. فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت ولقد رحمت من صميم مهجتى ذلك الأحدب الآنف الذكر إذ راح معتدل القامة وافي الشطاط لكن بداء في كلاه. وعلة في حشاه. كما رحمت معاقده ومبايعه الذي راح محدودب الظهر

يظلع وسط سرب من الفتيات كن قبل ذلك به مولعات. وفيه هائمات. ولست ناسياً ذكر شأني وشأن ذي الوجه الطويل فإن ذلك الرفيق ما كاد يأخذ وجهي القصير حتى أضحى فيه أعجوبة الأعاجيب فاستلقيت ضاحكاً من وجهي حتى أخجلت وجهي وأدرك الرجل المسكين خطيئته. وعرف غلطته. فخجل واستحي. غير أنى ما لبثت أن فئت إلى نفسي فعلمت أنه ليس لي أن أزهي وأختال وأسخر من الغير وأنا سخرة وأضحك منهم وأنا ضحكة وإن لى في غرابة هيئتى لشغلاً عن اللهو بهيئات الناس ومندوحة وذلك أيها القارئ أنى رفعت يدي أريد في وجهي أريد إحدى عيني صكت يدي أنفى لبروزه وضخامته مراراً. ثم نظرت ناحية منى فأبصرت رجلين في مثل حالنا من السخرية قد أحدثا تبادلاً فى زوجين من الأرجل زوج غليظ أعوج قصير. وزوج طويل نحيل. فكان صاحب الرجلين النحيلتين كأنما قد رفع في الهواء على عمودي بيت فهامته تدور مع الريح حيثما دارت وأما صاحب الرجلين العوجاوين القصيرتين فكلما حاول السير دار في مكانه لا يبرحه. ولما رأيت على محياه سيما الحلم والظرف والفكاهة أقبلت عليه أمازحه فقلت له سأجعل لك كذا وكذا إن استطعت أن تبلغ هذا ورسمت له خطاً على مسافة ذراعين مرسى قدميه في مدة نصف ساعة. وأخيراً تم توزيع كثيب المحن والآفات على أهلها من ذكر وأنثي. وأقبلوا جميعاً تحت أثقالها الجديدة رزحاً حسرى. ولها حيرى. وقد ملؤا السهل والحزن ضجة وأنيناً ورنة وحنيناً. ثم أدركتهم رحمة الله فأمرهم بطرح أثقالهم كرة أخرى فألقوها فرحين بإلقائها مسرورين. وأمر الوهم تلك الشيطانة التي غررت بهم وضللتهم أن تنصرف فانصرفت وأرسل الإله بدلها ملكاً كريماً جد مخالف لها هيئة وشكلاً. مباين لها خلقاً وخلقاً. رزين الحركة ثابت الحال قد جمع في هيئته بين الطلاقة والجد والوقار والبشر لا ينفك من حين إلى آخر يرفع نحو السماء طرفه ويسمو إلى عرش الإله بأمله واسم هذا الملك الصبر. وأعجب ما رأيت أن هذا الملك ما قام بجانب جبل الآلام إلا وأخذ الجبل يهبط ويضؤل حتى لم يبق منه أكثر من ريعه ثم أعاد ملك الصبر إلى كل حظه الأول وألهمه الصبر الجميل وأشعر قلبه قوة الجلد ونور اليقين فراح مغتبطاً سعيداً يحمد الله على كل ما أعطاه.

تائباً مما اقترفه من الجهل وجناه. فمما أفدت من هذه المقالة مع سائر العظات والعبر أني لست حقيقاً أن أتبرم لشئ مما يصيبني به الله على امرئ هبة أو نعمة إذ كان مستحيلاً على امرئ أن يعلم حقيقة جاره ويعرف سر صاحبه ويقف على مبالغ أحزانه وأشجانه وكربه وَنُوَبه وبلاياه ورزاياه. فكل لكل سر غامض وخزانة مقفلة وسفر مطبق. ولكني آليت على نفسي أن آخذ نفسي بثلاث كتمان العلة وكتمان الفاقة وكتمان المصيبة مع الصبر عليها جميعاً وأن لا أحسد امرأ على شيء وأن أكون أبداً حاضر الصفح للناس واسع العفو إذا كان أعقل الناس أعذرهم للناس.

العزوبة والزواج

العزوبة والزواج للفيلسوف باكون من كان ذا زوج ورب عيال فقد وضع عند الدهر رهوناً، لأنهم حوائل تحول دون الأعمال الخطيرة، وعقبات تأخذ على المرء طريقه إلى الأفعال الجسيمات، شراً كانت أم خيراً. إن خير الأعمال وأنفعها للشعب وأصلحها للجماعة هي حسنات العزاب ونتاج الأعقام الصادرة عن حب الشعب وخدمته وكان أولى بأولئك المذاكير أن يفكروا فى المستقبل القادم ويتزودوا للزمان المقبل، ويعلموا أنهم يرهنون لديه أفلاذ أكبادهم ويضعون في ذمته أعز الرهون. وإن من الأعزاب من لا يفكر إلا في عيشه ولا يهتم إلا بنفسه ويعد القصد إلى الأيام المتهادية وقاحة وطيشاً. بل إن من الناس من لا يعد الزوجة والعيال إلا سفاتج ووثائق، بل هناك أغنياء أنهام مجانين يفخرون بأن ليس لهم أطفال كي يظن الناس عنهم أنهم أوفر مالاً وأجم قدحاً وأوفى سجلاً، ولعلهم سمعوا إنساناً في الحي يقول فلان موسر كبير فرد عليه آخر نعم ولكنه رب عيال. كأنما أصبحت الخلفة انتقاصاً للغنى وحطة في الثراء. والحرية أحسن ما في المعيشة العزب والحياة الوحيدة لاسيما عند المفاريح ذوى الألباب النزاعة إلى الفكاهة الجانحة إلى اللهو الذين يتبرمون بأقل شيء حتى ليكادون يحسبون أن مناطقهم وأربطة سوقهم سلاسل وقيود. والعزاب خير من يسلم إليهم ود، وصفوة من يرعون العهد، والعزاب خيرة الأسياد، وخير الموالى والخدام، على أنهم ليسوا أبداً فى الرعية لمخلصين، لأنهم خفاف في الهرب، سراع في الفرار، والفارون من طوائل القانون، الناشزون عن بلدهم النازحون، أكبر ما يكونون عزاباً لا زوج ولا طفل ولا لهم عند الزمان رهون. والعزوبة أليق ما تكون بقواعد الكنائس وأهل الأديرة، فإن الصدقات لا تروى أرضاً ينبغي أن تتفجر من الإحسان عيوناً. والزواج والعزوبة للقضاة وأهل الحكومة بين الناس سواء، فإنهم إن يصبحوا أغراراً يسلس قيادهم، ويغلب على أمرهم، ويغمز بالمال جانبهم، ليجدون لهم خادماً أسوأ من

أزواجهم مرات، وليقعون على صنيعة شر من نسوانهم عوناً على الرشوات. أما الجنود فإني أرى القواد في مواعظهم يذكرونهم بأزواجهم وبنيهم ويوصونهم بهم خيراً وإني لأحسب احتقار الأتراك الزواج يجعل جنديهم أحط قدراً وأعيب شأناً أجل. إن الزوجة والولد نظام من نظامات الإنسانية والعزاب وإن كانوا أكثر تصدقاً وأنمي إحساناً لقلة ما ينفقون فهم أغلظ أكباداً، وأقطع رحماً، وأنضب عين رحمة، لأن رقتهم لا تسترعي وحنانهم لا يزار. وأهل الطبائع الساكنة الذين اعتادوا الجسد واطمأنوا له ليكونون أزواجاً رحماء محببين، كما قد قيل عن (يلوسيس) أنه آثر على الخلود زوجته العجوز. والنسوة العفيفات فى الغالب فخورات تياهات، وطائشات مستبدات كأنما يدللن بعفافهن، ويفخرن بنصيبهن من الطهر. والعفة والطاعة خير ما اجتمع عليه زوجان، وأوثق ما ارتبط به قلبان وأحبك ما ائتلف به روحان، والمرأة لا تأخذ نفسها بهما إلا إذا رأت من زوجها رجلاً عاقلاً وشهدت فيه صاحباً أريباً، ولن تفعلهما إذا ألفته قلقاً غيوراً إلا أن الزوجات لسيدات في عهود الشباب، صواحبات في الزمان المكتهل، مراضع إذا صاح نهار المشيب. لقد نوه الناس برجاحة لب الرجل الذي سئل عن أى العهود أصلح للزواج فقال إن كان فتي فليس أوانه، وإن شيخاً فأبداً. والمشهود أن شر الأزواج يرزقون بطيبات الروجات، فإن وقع ذلك فقد عز ثمن رحمة الزوج إن رحم، وغلا أجر رأفته إن رأف وعلا شأن عطفه إن عطف، بل حسب الزوجة لصبرها على رجلها وغلظته دلاً وفخراً. فإن عصين صحابهن، وطاوعن هوي قلوبهن، فتزوجن من رجال سوء فهن مجزيات بطيشهن، مصلحات جنونهن.

كاتبة إنجليزية من المطالبات بحق الانتخاب

كاتبة إنجليزية من المطالبات بحق الانتخاب تدافع عن أترابها أنشأت المس كريستابل بنكهرست في إحدى المجلات الفرنسية الكبرى مقالاً ضافياً تذود فيه عن حقوق الإنجليزيات المطالبات بحق الانتخاب وتدافع عن تلك الحركة التى نالت إعجاب كل من يعمل لحق أو يكافح لمطلب أو يناضل لرأى ينزل عليه وفكرة يريد لها تحقيقاً. والمس كريستابل بنكهرست اليوم على رأس المطالبات وفى طليعة أترابها المتحمسات وهي تبالغ في إطراء الحركة الشديدة التي تقوم بها النساء وتنادى في الملأ باستحسانها متبعة في ذلك خطة أمها المسز بنكهرست التي حكم عليها منذ عهد قريب بالأشغال الشاقة ثلاثة أعوام سوياً لاتهامها بأنها من الفوضويات ونحن نعرب للقراء ذلك المقال الرائق في السطور الآتية. . أكثر الناس ويكثرون من الكلام في شأن المطالبات بحق الانتخاب ولكن مهم مثلوهن فأساؤوا وصوروهن فشوهوا وسخروا مما يسمونه (عظيمة فعالهن) فلن تصرف نحن النساء عن نهضتنا ولن نميل عن مطلبنا. إنهم يخدعون أنفسهم ويغررون بها فإن النساء يعرفن حقهن ويعلمن ما يردن. وإنهن ليستخدمن لتحقيقها مختلف الوسائل وقد يعيبونهن عليها ولكن لن يتهمن أحد بما يسميه الفرنسيون (نقصان العقل) بل إني لأصرح أن نقصان الوسائل لدينا تهمة لا يرمينا امرؤ بها. لقد طلبنا حق انتخاب النساء فأنكروه علينا وما نجح سؤلنا ثم كررنا الطلب ورفعنا الصوت عالياً فأعدوا وأبرقوا، وأغضبنا أمرهم فثرنا وأجمعنا فيما بيننا أن لا يحول دوننا حائل أو يردنا عن حقنا راد. أجل. إنني أعلم أن في فرنسا حيث الأمثال شائعة والحكم كثيرة مثلاً يقول إن الصبر والسكون لا يسخطان المرء بل يزيدانه قوة على قوة. على أن للصبر حدوداً لا يجمل عندها وقد انتهينا إليها والدليل على ذلك سخطنا. نريد إصلاحاً كبيراً. وما من إصلاح تحقق لأهله إلا بعد ما رسموا خطته وأحكموا أمرهم فيما

بينهم حتى إذا ملوا عصفت بينهم ريح الثورة فثاروا وفى ثورة الرجال المذابح والمعارك الدموية. نريد أن يبحثوا في مطالبنا ويدققوا البحث. ولذلك نحن نسترعى اهتمام الناس يحدونا الأمل بأن سيأتي يوم فيه يعلم الجميع حقنا لأن الضوضاء التي أقمنا قد أصمت مسامعهم. ولكن هل يكفى هذا لنصرتنا؟ نود لو اطلعنا إلى الغيب فعرفنا عاقبة أمرنا. ولكن لن يخفت للمطالبات صوت، ولن يكسر من حدتهن شيء. لا السجون ولا العقوبات بل إنهن ليفخرن بها ويعتززن. ويوجد الآن أربعمائة عضو في مجلس النواب من 670 قد أجازوا إعطاء النساء حق التصويت ولكن لم يعمل حتى اليوم شيء. ويتساءلون. أذلك الخلاف بين الأعضاء! ونجيبهم. كلا. بل هو عدم الاكتراث. فلا يعجبون إذن ولا يدهشون إذا رأونا ننتصح بنصيحة السير كامبل بانرمان التي قالها لجمع من المطالبات كنت بينهن وقد سألناه ماذا ينبغي لنا أن نعمل؟ قال. أذهبن وأثرن العالم! ونحن اليوم صادعات بما نصح. . بدأت حركة المطالبات منذ سنين طوال على أنها لم تأخذ شكلها الحاضر ولم تكتسب قوتها إلا منذ اليوم الثالث عشر من أكتوبر سنة 1905 إذ انتدى في ذلك اليوم جمع من المطالبات في حضرة السير إدوار جراي فلما خطب الجمع ذلك الموظف الكبير وتكلم عن مطالب العمال قمت أنا والمس كنى وألقينا السؤال الآتي: هل ترضى لجماعة النساء حق الانتخاب؟ فوجم ذلك الخطيب المفوه وجمد في موقفه ولكننا لبثنا في مكاننا ننتظر جواباً على أنهم طردونا من جنابه أفظع الطرد. وكنا في كل اجتماع عقد بعد ذلك ورأسه لويد جورج أو آخرون نكرر على الخطباء سؤالنا. هل يرضي الخطيب لجماعة النساء حق الانتخاب؟ فكان جوابهم كجواب السير إداورد جراي في وجومه وأخذت قسوتهم في معاملتنا تشتد، ووحشيتهم في لقائنا تزداد.

ولكن صيحاتنا التي وقروا مسامعهم دونها وكلماتنا الموجزة التي جعلوا أصابعهم في آذانهم منها أثارت ضجة في الناس واهتاجت الجمع. ووددنالو نعلم السبب الذي يمنعنا حقنا ويغريهم بنا ويحرضهم على قتالنا. ولذلك عجنا على السير كامبل بانرمان واستأذنا في مقابلته وترددنا عليه مرات متواليات فرفض لقاءنا ولما كانت النساء إلى الجزع أجنح وعن الصبر الطويل أميل اجتمع أمرنا على أن ننصرف عن القول إلى الفعل ورسمنا لحركتنا خطة تثير ضجة كبرى. وكنا ثلثمائة. فاحتلنا أن ندخل بالقوة مجلس النواب واشتبك القتال وحمي الوطيس فزجوا في السجن منا إحدى عشرة. وكان لهذا الهجوم تأثير كبير وكانت الحكومة حتى ذلك العهد في ريب من قوتنا ولا تظن أن مسعانا سيصادف أعجاب الشعب الإنجليزي وهو أكثر الشعوب تقديراً لكل حركة ناهضة وأعطيت الأوامر للمستر تشرشل بمصادرتنا وحركاتنا من غير أن يقبض علينا. فلما كنا بأبواب مجلس النواب نريد الدخول أمر المستر تشرشل أمره فإذا الجنود تبالغ في مقاومتنا وتشتد في معاملتنا حتى أن عضوين من أعضاء المجلس هما اللورد روبرت سسل وهو في الوزارة الحالية وأليس جريفيس خطباً نأنحيا باللائمة على المستر تشرشل ونقدا خطبته. وجملة القول إن كان يجب على أن أتبع سير الحوادث التي تنقلت بينها حركتنا وأخرج منها بنتائج هذه الحرب الناشبة قامت أن نهضتنا لم تجر بعد شوطاً بعيداً وإنما استرعت الاهتمام وأصح مطلبنا. موضوع حديث الطبقات جميعاً وينبغى إن أردف ذلك بقولي أننا قد ربحنا في هذه الحركة ضربات شديدة ولكن ذلك لن يصرفنا عما نريد. يجب علينا أن نخرب. . لما لم تجد مجهوداتنا السلمية شيئاً ولم يقر حقوقاً أولئك الذين هم أسعد منا نحن النساء حظاً وأوفر قسطاً كان حقاً علينا أن نكثر من مساعينا وحيلنا فانقطع رأينا أن نحطم الزجاج وانتهى تخريبنا بنكسير نوافذ الدور العمومية والصحافة والمجلات فلم يكترث القوم بادئ بدء بتحطيمنا الزجاج ولكن أرباب المجلات وأصحابها الذين نزل بهم التخريب صاحوا محتجين واستصرخوا معارضين وقفت على آثارهم شركات التأمين وكان لزاماً عليها أن

تدفع تعويض ما خربنا هذا والصحف تكتب ألا عاقبوهن! ألا خذوهن بتخريبهن! ولكنهم لما رأوا أن وعيدهم لا يهدئ لنا ثائرة ولا يسكن فينا جأشاً بل دفعنا إلى زيادة التحطيم والسلب جعلوا يقولون في أنفسهم إننا سنزاحمهم وننافسهم إذا نزلوا على حقنا المطلوب وطفقوا يقولون أعطوهن حق التصويت فيسود السلام! ولسنا اليوم وحدنا المطالبات بحق النساء بل إن الفكرة سائرة في طريقها. ما سكتنا عن مطلبنا بل بالعكس عمدنا إلى صناديق البريد فأحرقناها وتأثرت حركة التجارة وازداد الاضطراب. وإن نهضتنا التي سخروا في أول الأمر منها وضحكوا أصبحت في كل يوم مدار البحث والمناقشة. ونحن اليوم قد أقدمنا على تخريب الأملاك الخصوصية وقد سطونا على بعض القري وكانت الضجة كبري. لا نبغي شيئاً غير ذلك فقد عرف الناس في كل مكان وجه النهضة التى أقمناها بل إني لأستطيع أن أقول إننا نلقى تشجيعاً وظهيراً من كل فج. وماذا نحن صانعات غداة الغد؟ إني لأشفق أن تأخذنا سورة الغضب ويزداد سخطنا فيرمي بالويل والثبور ولا أعجب من تسمية بعض الجرائد مستقبل حركتنا (بخسائر جديدة). أجل. إننا لا نعارض في تسميتها كذلك ولكن ألا يشفع لها بكم الذين نخاطبهم وخرس إلا لي نطالبهم بحقوقنا؟ ألا يعلمون السورة التي تقوم فى نفس المطالب بحق مهضوم لا يجاب له سؤال؟ إنهم ليجدون فى أنفسهم المعاذير لهذه الحركة الوحشية التي أثارها الجزع ثم أضرم الغضب نارها بعد ذلك. هذه حالنا. نسألهم فلا يحيرون جواباً حتى أساءنا سكوتهم وإني لأخشى أن يفضي بنا إلي غضب شديد. لماذا نترك أنفسنا تقضي من الجوع؟ إن شجاعة أترابنا لا تنكر وشهامتهن لا تجحد وقد استطاع فريق منهم أن يصرح أن طائفة

كبيرة من المطالبات اللاتي قبض عليهن وأودعن ظلمات السجون رفضن كل طعام يقدم إليهن. لذلك نريد أن نحتج على القانون الذي يبيح للرجال ما ينكره على النساء ويلزم الأولين حقوقاً يحرمها على الأخريات. أبوا أن يعطونا حق الانتخاب ولكن لا قانون عندهم لنا. . ما يكاد يشاع بين الناس أن إحدى المطالبات السجينات رفضت الطعام حتى تسمع قوماً يصيحون دعوها تقضى نحبها جوعاً!. نصيحة ليست من السداد في شيء. إذ لو ماتت إحدانا في سجنها جوعاً لجر عليهم موتها ضجة كبرى وألحقهم موتها عاراً لا يمحى. ونحن نعتمد على اشتراك الكثيرين في شعورهم معنا ورحمتهم بنا وقد وجد مطلبنا أعواناً كثيراً يحتجون لنا ويغضبون ورأت الحكومة أنها من أمرها في مأزق حرج فأصبحت من حزمها تتجنب أن تدع السجينة تموت كما تشاء من الخصاصة والطوى. وقد احتالوا على قبول السجينات الطعام بالحث أولاً والنصح لهن ثم الإكراه أخيراً فما أفلحت الأولى ولا نجحت الثانية بل إن إكراههن علي الطعام جر خطراً شديداً وطريقتهم في الإكراه هي أن يدخلوا في أنف السجينة أو فمها أنبوبة من اللبن بشكل أترك للقارئ تخيله. وزهدهن في الطعام وهن يرين في الإمساك عنه الفخر كل الفخر قد أثر على هؤلاء البائسات تأثيراً بليغاً وأنحف جسومهن حتى أننا رأينا المس ليتون تترك السجن كأنها من الهزال هيكل عظمى. وقد عرفت في السجن عن رضي مني ألم الظمأ ولست وحدى التى رفضت الشرب والري. فقد كتبت سيلفيا أختي وهي اليوم طليقة السراح فى سجنها تقول: أماه العزيزة. إنني أناضل وأجاهد. ويحرسني كل يوم نفر من الحفاظ ويعودني طبيبان وقد تماوت مرتين في اليوم فجعلوا يفتحون فمي (بخابور) من الصلب ينفذونه بالقوة بين فكي. وأنا أقاوم جهدي كل يوم ولثتاي تدميان كل حين. وكتفاي مرضوضان من طول ما كابدت في مقاومتي وعانيت. أذيد خلون الأنبوبة في حلقي كرهاً. وليلة أمس الأول أحسست بألم في

القلب بعد ما أكرهوني على الطعام وبت ليلتي مريضة موجعة وكذلك كانت حالي بالأمس وكنت أحسبني سأجن وأروح مخلوطة العقل أما اليوم فأنا قادرة على التغلب والنضال. . . . . . . أخشي أن أفقد معدتي طول الحياة. إذا كان هناك فريق يحرض على تركنا فريسة الجوع والخصاصة فهناك فريق آخر ينصح للحكومة أن تنفينا إلى (سانت هيلين) كما نفى نابليون. ولو انتصحت الحكومة بهذا الرأي لدلت على ضعفها إزاءنا وإن رغبتهم في أبعادنا ستظاهر مطلبنا وتنصر حقنا إذ يعلم الجميع أننا خطيرات مهيبات الجناب. نفى نابليون إلى (سانت هيلين) خشية أن ينسل إليه أنصاره وأعوانه ويلتف حوله فتيانه وكأني بهم يخافوننا خوفهم (نابليون) وحسبنا ذلك فخراً. ولكن (سانت هيلين) لتضيق بنا سهلها وحزنها ونحن في كل يوم نزداد عدداً وقوة ورباطة. وهم يستحسنون لنا قانون لينك بتهمة أننا نجمع الجماهير حولنا ولو صح ما يقولون لكان أيضاً عملاً إذ لو قتلت إحدانا لانقلبت الضوضاء ضجة تصم الأسماع ولن يزجرنا قانونهم عن حركتنا. وقد اتهموا الحكومة بالضعف لاقتصارنا في عقابنا على السجن وهم على خطأ مبين فليس التشدد في العقوبات والإرهاق بالمثلات الدواء الناجع لهذه الضائقة الجائحة ويتجنون علينا بأننا نستخدم مالا يتفق وطبيعتنا ويقولون أن الشدة ليست من شأننا ونحييهم بأن جان دارك كانت امرأة مثلنا ولا حاجة بنا إلى طالة الكلام على شهامة أترابنا. لما تناقش رجال حكومة النرويج في حق انتخاب النساء قامت على سداده حجة انتهت بتقريره. قال الخطيب صاحب الحجة انظروا ما يحدث في إنجلترة واجتنبوه فاجتمع الرأي على إعلان حق النساء في تلك البلاد. سننشر مطلبنا في البلدان والأصقاع لاسيما في فرلسة ولست أريد بمقالي هذا أن أذيعه اليوم هنا بل جئت لأعرض على الناس رغبات المطالبات ووسائلهن في تحقيقها ولا أود الآن بحثها فهي إنجليزية محضة ونحن في إنجلترة نعمل مالا يتفق مع روح النساء في الممالك الأخرى. وعسى أن يمشى على أسوتنا ويقي على آثارنا وسيبقى علماً علينا أننا

أقمنا حركة أعجبت العالم والتي أستميح القراء عن إطالة الكلام عنها أجمل المعاذير. اه.

شذرات من كتاب حديث المائدة

شذرات من كتاب حديث المائدة حديث المائدة كتاب جليل. وسفر نبيل. لواضعه أوليفار وندلهولمز الأمريكاني من فحول شعراء الطبقة الأولى وكتابهم وجملة علمائهم وفلاسفتهم. قد جمع بين العلوم والآداب على قلة الجامعين بينهما فأشبه في ذلك جيتا الألمانى وفولتير الفرنسي وراسكين الإنكليزي. وكتابه حديث المائدة من أملح المؤلفات نادرة وأبدعهم طرفة وأغربهم أسلوباً قد طبعه على غرار لم يسبق إليه ونسجه على منوال لم ير في عالم التأليف من قبل. وذلك أنه تخيل ربة نزل قد اجتمع عندها في حين من الدهر زمرة من الناس أشكالاً وأصنافاً فيهم الشاعر والأديب الفلكي والحشري (عالم الحشرات) والطبيب والماليّ والعاطل الذي لا عمل له والقسيس وفيهم كذلك نساء مختلفات الأحوال والأشكال الفتاة والعجوز والقبيحة والمليحة واللينة والشكسة. وإن جميع هؤلاء يجتمعون كل صباح على مائدة الإفطار فتجرى بينهم أحاديث فهذه الأحاديث قد جمعها الكاتب وسردها في ذلك الكتاب الذي سماه حديث المائدة. هذا ما تخيله الكاتب وهو خيال بديع وأسلوب مخترع ولقد أجاد في هذه الأحاديث ما شاء فجاءت كأنها السحر أو أدق. في ألفاظ تخالها الماء أو أرق. ولما كانت تدور حسب تخيله بين أناس من كل شكل وصنف وحرفة وصناعة فلا جرم أن حوت كل نوع من الكلام وكل ضرب من الفن كأنها حديقة ضمنت فنون الثمر ألواناً. وأنواع الزهر نرجساً وحوذاناً. وضروب الطير مثني ووحداناً. ولا جرم أن سميناه دائرة معارف لا سفراً. وقد رأينا أن لا يحرم قراء البيان من مؤلف كهذا فشرعنا نعرب لهم أطيب ما فيه وها هي نخبة من ذلك نطرحها الآن بين أيديهم. (1) الحديث مازال ذوو القرائح السمحة والخواطر الحافلة والأذهان الخصيبة ينفرون كل النفور من ذوى الجمود ممن قد تمسكوا بطائفة من الآراء جعلوها القواعد التي لا يشذون قط عنها مهما كانت الأسباب والدواعي حتى لكأنما الآراء والإنكار شيء مقيس محدود كنظريات الهندسة والجبر والحساب - كأن كل رأي في الدنيا هو كقولك 2 2=4 والخطان المتوازيان لا يلتقيان أبداً - مع أن الآراء والأفكار لا تخلو قط من عناصر الوهم والتمويه

والشك ثم هي شيء ذو وجوه مختلفة ينظر إليها من جهات مختلفة. ولكن ذوي الجمود لا يفهمون ذلك ولا يريدون ولا يستطيعون وقد أبوا إلا أن يجعلوا من نظرياتهم وقواعدهم آفات لذوى الأفكار الحرة والخيالات الواسعة. وإلا أن يرسلو من نظرياتهم هذه في مجالس الأنس ومحافل السمر وحوشاً ضارية تزعج الندىّ وتسوء الحفلة فلا غرو أن سميت نظرياتهم هذه وحوش ميادين الذهن والخيال. وأيكم لم ير فى حياته أمثال هؤلاء الثقال ممن قد تشبث بنظرية أو اثنتين يسحبها وراءه كلما دخل مجلساً كأنهما كلبان عقوران قد تأهب واستعد أن يرسلهما على كل من يسوقه سوء الحظ إلى أن يبدى رأياً جديداً أو فكرة مبتكرة أو خيالاً مستملحاً. الحديث من أجل الشؤون وأخطر الأمور. وإن في الناس من يلحقك من ساعة تقضيها بالحديث معهم من الضعف أضعاف ما يلحقك من صيام يوم والخير لك أن تفقد قدحاً من الدم من عروقك من أن يقطع بعض أعصابك فتراق منه قوتك العصبية. فإنه ليس هناك من أحد يزن قوتك العصبية وهي تسيل فتذهب كما يفعل الطبيب بدمك إذا سال وليس من أحد هناك يضمد دماغك ويربط مخك كما يفعل بجراحك. من الناس من يأخذ علىّ أنى ربما أعدت بعض بنات أفكاري في مجالس مختلفة كأنهم يرون الأفكار كطوابع البريد لا يعاد استعمالها. بيد أنى لا أرى الرجل الذي يتحاشى إعادة أفكاره إلا عاجزاً مأفوناً. فلتفرضن أيها القارئ أن صاحب حكمة بالغة وعظة ثمينة مثل اعرف نفسك أمسك طول عمره الطويل عن ذكرها والإشارة إليها! كيف ترى ذلك! إلا إنما آراء المرء وأفكاره آلاته وأدواته. أفتحسب النجار محرم عليه أن يستعمل منشاراً بعينه بعد نشره عوداً من الخشب أم تراه حتم عليه أن ينبذ قادومه بعد دقه أول مسمار؟ أنا معك في أنه ليس لي أن أعيد حديثاً. فأما تحريمك على إعادة الفكرة فذلك ما ليس لك أن تفعله. والفكرة ربما تقولها المرة التسعين وهى الجديدة بعد. لأنها قد عادت إليك من طريق جديد على قطار جديد من القرائن. وربما عثر بالمرء يعيد حديثاً له بعينه ثم لا يعد مليماً ذكروا أنه كان خطيب مصقع وعالم نحرير ممن يتنقلون في البلاد يلقون المحاضرات فلما كان في بعض المدن أدبته إلى مائدة الشاي سيدة من ذوات العلوم والآداب وأشارت وهم على المائدة إلى كثرة تطوافه وتجواله.

وحله وترحاله. فقال أجل إنى لكذلك الطائر الدائم الجولان لا يقع أبداً فأنا أبداً على العجلات كما ذلك الطائر أبداً على الجناحين. ثم تصرمت بعد ذلك العصور. وتجرمت الدهور. وعاد الخطيب إلى عين ذلك البلد لعين ذلك الغرض. وعادت السيدة إليه بالدعوة. وعادت مائدة الشاي وحفلة الشاي لا تزال فى تطواف وتجوال. وحل وترحال. كذلك قالت السيدة فأجاب الخطيب أجل إني لكذلك الطائر ـ وأكمل الجملة بعينها. ولكن ماذا كان ألمه وضيقه حينما خطر بباله أنه قد قال هذه العبارة بحروفها مرة قبل ذلك! ولا يحسبن القارئ - ولعله قد ألقى في روع السيدة - إن الخطيب قد جعل طول هذه المدة - أي فترة ما بين الزيارتين لا يمر به يوم من الأيام إلا ويذكر تلك الجملة يحلى بها كلامه ويزخرف بها حديثه. كلا. فإنه ما سنح بخاطره ذلك الطائر الجوالة إلى أن أثارت تلك الظروف الخاصة تلك الفكرة الخاصة. ولعله قد كان أخلق به أن يسر ويفخر بدقة حساب ذهنه فإن الذهن المحكم المتين إذا أعطيته عوامل بعينها مرة بعد أخرى لم يعطك إلا نتيجة بعينها شأنه في ذلك شأن المكينة الحسابة ويكون أدني اختلاف في نتيجتها - إذا أعطيتها العوامل بعينها - آية على فسادها. ما هي آفات الحديث الكبرى؟ قلة المعاني وقلة الألفاظ وقلة الآداب هكذا تقول ويقول الناس وما كنت لأعترض على قولكم هذا ولكنى سأعلمكم أي شيء وجدته أفسد للحديث الصالح من كل ما عداه. وأتلف للسمر الطيب من كل شيء سواه. هذا هو المجادلات الطويلة في نقط خاصة بين أناس يختلفون في المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها هذه النقط. لا تحمد العلائق ولا تصلح المعاملات بين فئة من الجلساء حتى يتفقوا على أساس من العقيدة لا يكون عرضة لأن تزعزع أركانه رياح المناقشة والمحاورة. وحتى يكون عندهم من العقل ما يمكنهم من تتبع المسائل الثانوية المرتكزة على تلك المبادئ الأساسية إلى مصادرها وأصولها. والكلام كالضرب بالعود ليست الحاجة إلى إسكات الأوتار أحياناً بأقل منها إلى إنطاقها. أرأيت شيئاً أقدح في كرامتك وأجرح لشعورك وآذى لعزتك من أن يعترض أحد المجلس جدك بمزحته ويستقبل حكمتك بنكتة. السب الصريح والشتم المهين أهون والله من ذلك. وهل ذلك إلا منتهي الاحتقار. والازدراء والاستصغار. للكلام على خطارته. وصاحب

الكلام على كرامته. مثال ذلك أن تذكر في سياق حديث لك كلمة (معناها بالعربية سقوط القدر أو الخسة) فتحمل النكتة أحد الجلوس على أن يعترض تيار جدك يقول لك كل ما قلته في هذا الغرض هو (معناه هذيان محض) ماذا أصنع مع ذلك الوحش؟ إني لأود أن ألقيه في أعماق السجون لأنه بلية وآفة ولكني لا أقدر. لقد أعدمت كرامتي بتحدثي إليه فمن لي بأن أعدمه! مثل قالة النكت كمثل أشرار الصبية الذين يلقون الحجارة على قضبان السكك الحديدية يأتونها ملهاة لهم ولأندادهم وربما كانت متلفة للجم العديد من مصالح العباد وأرواحهم بقلبها القطار أعلى لأسفل وكذلك قائل النكتة لا يخجل أن يقلب قطار الحديث من أجل نكتة يلهو بها. إني لأعلم في الناس من يضن على الاستماع أثناء الحديث بنخبة أفكاره اعتقاداً أنها أغلى قيمة وأعلى من أن تبذل في المحاورات والمحادثات. ولقد كان أحد الفصحاء ينثر الدر منذ أيام في بعض المجالس يطلق الحكمة البليغة في عرض حديث كالجوهر المنثور فدنا منه بعض الجلوس وقال له - أتدرى ماذا قال له؟ قال: عجباً لك أنك لتضيع مقداراً جماً من بضاعة رائجة وتطرح على أديم الأرض ما يقدر ثمنه بعشرة جنيهات في كل ساعة فإذا استمررت على هذه الحال خمس ساعات بلغت خسارتك خمسين جنيهاً أفتدري ماذا كان جواب الرجل الفصيح على ذلك. كان جوابه أنه أخذ الرجل إلى نافذة المكان وسأله أن يشرف ثم قال له ماذا تبصر؟ قال الرجل لا أبصر إلا طريقاً ترباً يسوق فيه أحد الناس آلة رشاشة. قال الفصيح لم لا تنه الرجل عن صب الماء فتقول له أنه يضيعه سدي؟ إلى أية حال من اليبس وقلة الرطوبة وكثرة التراب يصير سبيل الحياة إذا نحن لم نسحب فوقها رشاشات أفكارنا مفتوحة الثقوب أحياناً؟ هذا ولذلك النوع من الحديث فائدة أخرى قد سهوت عنها وعي أن ذلك الحديث يصب أفكارنا في أحكم قوالبها وأبدع أشكالها. فترى أمواج الحديث لا تزال بالأفكار تدحرجها وتقلبها حتى تتركها مدورة مصقولة كما تفعل أمواج البحر بالذي على سواحله من الحصي. وكذلك أصوغ أفكاري بالحديث والمحاورة كما يجرب النحاس تمثاله في الطين

قبل صوغه من الحجر لأن الطين لين يشكله الصوغ أشكالاً يعجبه ويدحوه ويدوره ويمطه ويكسبه ويملؤه ويجوفه ويلزقه. ونحو هذه الأفعال كلها ما يفعله المحدث بالحديث حين يصوغ فيه أفكاره قبل أن تبرزها الكتابة في القالب النهائي والشكل الختامي. - قبل أن تراها فى الكتاب الخالد دمية من العاج أو نحيتة من المرمر. ولي في هذا الموضوع تشبيه آخر. وهو أن الكتابة والطبع كالرمي بالنشاب قد تصيب من ذهن قارئك موضع الفهم وقد لا تصيبه. ولكن الحديث كالتمرين على الرمي متى كان الغرض أمامك وفى الوقت متسع ضمنت لنفسك الإصابة. ليس من السهل على اثنين يتحادثان أن يتفاهما لأنهما كثيرون (هنا نظر أصحاب المائدة بعضهم إلى بعض متعجبين من كلمتي يريدون شرحاً لها وتفسيراً). قلت إذا كان جون وتوماس مثلاً يتحاوران فسيكون لا شك بين الستة شيء من الخلط وسوء التفاهم. (هنا اصفرّ وجه ربة البيت. لا ريب لقد حسبتني خولطت في عقلي وذلك أمر يستلزم نقلي من دارها إلى المستشفي ففيه عليها خسارة مادية. فلا غرو أن اصفر وجهها إشفاقاً وقلقاً. أما سائر القوم فرفعوا رؤوسهم دهشة. وخاف الشيخ الذي كان جالساً أمامي أن أتناول سكين الفاكهة فأطعنه فزحزحها جانباً كالذي لا عمد عنده.) قلت أنا كفيل أن أفهم هذا الصبي الصغير كيف أن في كل محاورة تجرى بين اثنين - جون وتوماس - يوجد ستة أشخاص يتنازعون أهداب الحديث. (3) جون جون الحقيقي الذي لا يعلمه إلا الله (2) جون الموجود في مخيلة جون. هو دائماً مخالف لحقيقة جون مغاير له (3) جون الموجود في مخيلة توماس مخالف دائماً لحقيقة جون مخالف كذلك لجون الموجود في مخيلة جون مغاير الاثنين (3) توماس توماس الحقيقي توماس الموجود في مخيلة توماس توماس الموجود في مخيلة جون لا يدفع ضريبة إلا واحد من الثلاثة ولا يمكنك أن تزن بالميزان إلا واحداً من الثلاثة. حتى

إذا جري الحديث أصبح للاثنين الآخرين مثل أهمية الأول فالثلاثة كلهم سواء. فلنفرض أن جون الحقيقي كبير السن قبيح الخلقة بليد الذهن. ولكن بما أن الحكمة الإلهية لم تمنح ابن آدم مزية النظر إلى نفسه بعين الحقيقة فأكبر الظن أن جوناً يرى نفسه حديث السنّ جميل الخلقة حديد الذهن ثم يتكلم كمن هذا شأنه وهذه مزاياه. وتري توماساً من وجهة أخرى يعتقد أن جوناً ماكر محتال فجون في نظر توماس محتال ماكر ولا شك مع أنه ساذج غبيّ. ومثل هذا جمعيه يقال في توماس. فمن ثم ينتج أنه سيكون بين كل متحادثين ستة يتنازعون المحاورة إلى أن نجد الرجل الذي يعرف نفسه كما خلقها الله أو يبصرها بالعين التي يبصرها بها الغير. هذا ولا تنس أن أقل الثلاثة أهمية هو ذاك الذي سميناه الشخص الحقيقي. فلا عجب أن تري المتناظرين يتغاضبان ويتشاجران بعد أن علمت أن المشتركين في الحديث ستة. وكان بجانبي فتى يدعى جون فطبق هذه النظرية على نفسه تطبيقاً غير فلسفي وذلك أنه أدير عقب الأكل على الجماعة وعاء فيه خوخ - فاكهة نادرة قلما يعرفها أمثالنا نحن سكان الفنادق - فلما بلغ الوعاء جوناً هذا ولم يبق فيه إلا ثلاث خوخات واحدة له واثنتان للاثنين الباقين من إخواننا وكان جون أمياً لا يفهم الفلسفة أخذ الثلاثة لنفسه قائلاً أنه سيعطي كل جزء من أجزائه الثلاثة واحدة. فطفقت أبين له أن هذا الاستنتاج العملي خطأ وسفسطة ولكن الخوخات الثلاثة ذهبت أثناء الشرح والتفسير في بطنه واحدة أثر أخري. (2) نظرية بسيكولوجية حاسة الشم أقرب طريق يوصل الإدراك إلى دائرة الذكرى والخيال والإحساسات الغابرة والقرائن القديمة. ولا شك أن الروائح التي تعمل في مشاعرنا تختلف باختلاف الأشخاص فما يؤثر في هذا لا يؤثر في ذاك. إنما ذلك بحسب ما كان من ظروف أحوال الشخص وتاريخه الخاص. وسأخبرك ببعض الروائح التي تؤثر فيّ والسبب في ذلك منها رائحة الفوسفور. وأصل ذلك أني أولعت بعلم الكيمياء عامين من زمن صباي جعلت أثناءهما لا أسمع بمعمل كيمياء إلا ذهبت إليه فكنت معظم أوقاتي بين الأدوية والعقاقير والقناني والأنابيب واتفق أني كنت

في هذا الوقت عاشقاً أيضاً فكانت عاقبة ذلك أن حدث اشتباه واختلاط بين عوامل الكيمياء وعوامل الحب بين أبخرة حمض الآزوت البرتقالية اللون وبين أحلام الغرام وهي أزهي لوناً وأبهى صبغة: بين ورق عباد الشمس الأحمر وبين حمر الخدود وآسفاه لقد رثت ديباجة تلك الخدود ونصلت صبغتها وغاض ماؤها وذهبت نضرتها. ومهما يكن من قدرة الكيمياء على تجديد الخلق وتنضير الذليل فلا طاقة بها على تجديد رونق هذه الخدود وقسمتها! أقول حدث التباس واشتباه بين عوامل الكيمياء وعوامل الحب فامتزجا في وعاء الذهن واختلطا واصطحبا في إناء الذاكرة واقترنا فكلما ضربت أنفي رائحة الفوسفور (وكانت أحدّ روائح ذلك العصر الكيماوي الغرامي) أشعلت في الدماغ سلسة هذه القرائن للتو واللحظة وأوقدت في صميم الأحشاء ذكرى الغرام والجوي حتى أروح منها في غشية وفي حلم وكأنما طلع على ذاك البخار بضبابتين ضبابته المشرقة البرتقالية وضبابة الحب القديم والعهود الذهبية. فللفوسفور بذلك على اليد البيضاء كلما أشعلت عوداً من الكبريت فالتهب فوسفوره وأضاء التهب قلبي شغفاً وأضاء في سويدائه ظلام الغابر وحسبت عود الكبريت زهرة من بساتين الحب أو كوكباً يضيء لي منهج الهوى. كل الكبريت عندي كذلك إلا النوع المسمى كبريت فينا ذلك الخالي من الفوسفور لا رعاه الله ولا قدسه فإنه لا يذكرني عهداً ولا يهيج لي صدى. وإني أراني منذ استعملته غليظ الكبد كثيف الظل مظلم الهواء جامد النسيم. ومن الروائح المؤثرة في نفسي أيضاً البهار وأصل ذلك أنى لما كنت طفلاً صغير الجرم كان أبى إذا ركب في بعض أسفاره حملني بين ركبتيه فكنا ربما عبرنا قنطرة إلى القرية المجاورة فعجنا على كوخ متطامن السقف حقير الهيئة لريفيّ مسكين شاحب اللون ملوّح فتخرج من الكوخ الحقير أخت له مثله مسكنة وشحوب لون وتلويح. لها فوق ذلك صوت حزين ونغمة شجية فتحنو على شجيرات لها فتلقى صفرة البهار بصفرة وجهها فتجنى بهارة للغلام الصغير هكذا كانت تسميني. وهي الآن ثاوية بمدفن الكنيسة تحت نصب من حجر الإردواز تعلوه أعشاب قد أمالته العصور بعد تطاول الأمد فجنح. وقد ذهبت هذه الأيام وذهب الكوخ وربه وذهبت الأخت المسكينة وشجيرات لها. فيها شموس للبهار وارسة

كل ذلك قد ذهب ولكن نفحة من البهار ترجعه إلى جميعه بأسرع من لمح البصر. وعسي أن هناك سبباً مادياً لما يوجد من تلك الصلة الغريبة بين حاسة الشم وبين العقل. قال لي أستاذ مائدة الإفطار أن عصب الشم هو العصب الوحيد الذي يتصل مباشرة بالدماغ - والدماغ - كما أثبت العلم - هو مقر العقل ومجال حركاته. وهذا مخالف لتركيب عصب الذوق الذي لا يتصل بالدماغ مباشرة وإنما بنهاية العمود الفقري ومن ثم تري حاسة الذوق أضعف بكثير من حاسة الشم إيقاظا للذكري واستحضاراً للقرائن. يا الله! ماذا يخفق في حشاي وينبض في أوتار قلبي من نغمات الشعر الصامت إذا أنا فتحت غرفة مخصوصة في المنزل الذي ولدت فيه! - الغرفة التي أبليت فيها جلباب الصغر ونضوت فيها حلة الحداثة التي عققت بها تمائم الطفولة وبها ألقيت ثنايا الرضاع. - إذا أنا اقتحمت هذه الغرفة فقلت لنفسي على هذا الرف كانت توضع أواني القرنفل والعنبر ولطائم العطر وفأرات المسك وقوارير ماء الورد. وفي هذه الخزانة كان يدخر التفاح كأنما يراد به أن يبقى إلى أن تسوّد بذوره ولكن يمنعه من أن يصل إلى هذه الغاية أن في البيت عيوناً صغاراً قلقة يقظى ماتني تفتش وتعقب. وأنياباً صغاراً مرهفة حداداً مضاءة في شأنها من القرض والقضم كرحا الطحان ما تنفك تدأب وفي ظلمة تلك الخزانة لبث الخوخ أياماً وليالي يتذكر الشمس التي فقد حتى أصبح كقلوب النسكة الأبرار الموجهين جلّ أفكارهم - بين حسرة وتندم - إلى السموات والعرش والجنة. أصبح كهده القلوب قد فاح له أرج كأنفاس الملائكة إلا أن بأركان هذه الغرفة يتردد صدي عبق - هو صدى عشرين خريفاً قد بادت فانقرضت. 2 نظرية أخلاقية المزاح والجد إن فيكم من يبلغ به حب المزاح أنه يود أن يراني أسعى على أم رأسي ولا يود أن يراني واعظاً على منبر استخدم هذا الرأس - بدل السعي عليه الذي لا يجدي أكثر من إثارة الضحك - للإرشاد والنصيحة. ألم تعلم أنه ليس من أسبوع يمر على صديقي أستاذ مائدة الإفطار إلا ويرد عليه كتابان أو

ثلاثة من أناس من نخبة أهالي الولايات المتحدة وبريطانيا وسائر قراء الإنكليز يعلمونه أنه قد صدئت قلوبهم من قلة الضحك وأنه ليس أحد أولى بأن يضحكهم منه حتى لأوشكت أن أحسب الأستاذ الجليل مجاناً عمومياً لا حكيماً وواعظاً وحتى هجس ببالي أنى سأراه يوماً في رداء مجان - ذلك الرداء الذي ألف من كل لون وصبغة - وأن أري برأسه الأجراس والجلاجل كلما تحرك رن وطن كأنه معمل الحديد أنا لا أمقت منكم ميلكم إلى الضحك ولا أظن عليكم بالكلمة تضحككم متى قدّر لي الله على ذلك فإما أن تطلبوا إلىّ أن لا أقول إلا ما يضحك وإلى أنفسكم ألا تفعل شيئاً غير الضحك فذاك مخالف لسنة الطبيعة وجدير بمن كان هذا شأنه أن ينقلب قرد التوه وساعته فيكون أستاذاً في فن المضحك. ولكن الإنسان حيوان ضاحك باك. وقد خلق الله الضحك والبكاء قوتين تديران مكينة الشعور في الآدمي فالضحك هو القوة الهوائية والبكاء هو القوة المائية. وقد سمعت أستاذ حديث المائدة يقول أن الهستيرية (نوبة عصبية يتردد أثناءها الإنسان بين البكاء والضحك) هي أوضح تمثيل تبين به الطبيعة سرعة تحوّل الحالتين النفسيتين - اللتين عنوان واحدتهما الضحك وعنوان ثانيتهما البكاء - كل إلى الأخرى. وهذا مالا تزال تراه في الأطفال كل ساعة. فإذا أردت أن تري كيف يكون هذا في الكبار فانظر الممثل الحاذق المستر بلاك في دور جمس رورال فإنك لن تملك البكاء لهول ذاك المنظر. إن من البلية على الكاتب أو الشاعر أن يسترسل في باب المضحك فإنه يعوّد الناس بذلك على ألا ينتظروا منه إلا المضحك وأن لا يعرفوه إلا مزاحاً فهم يضحكون معه مادام يضحكهم فإذا أراد الجد فشرع ينطق العلم والحكمة ضحكوا منه وهزأوا به على أن هناك سبباً أغمض من ذلك. ألا تشعر أنك ترى نفسك فوق كل إنسان يتصدى لإضحاكك سواء بحركات جسده أو بحركات قلمه. ألا تشعر أنك تفيض عليه من برك وإحسانك إذ تمن عليه بتقبلك منه الوثابات الحقيقية أو الشعرية؟ فإذا لزم أدبه ووقف عند حده فخيراً يفعل وإذا أساء الأدب وتعدي طوره بأن حاول أن يعلو إلى مقامك الرفيع فينزلك عنه إلى منزلته الوضيعة عاكساً الحال قالباً الوضع ثم أخذ يدلى إليك من منبر عظته نوابغ الحكم فبئس ما صنع وساء ما أتى وإنما جاء ما لم يكن في الحساب ولا جرى بخاطر. لذلك أنصح لكل ذي يراع أن يدخر مجونه إلى أن ينال في العلم والحكمة رتبة وإلى كل

ممثل أن يكون هامليت أولاً ثم تاتشتسون بعد ذلك. ولكن لا تحسبن إذا بدأت حياتك التمثيلية بمظلة بول براي ثم أمسكت بعد ذلك خنجر ماكبيث أن الناس يرونك مجيداً بعد المظلة أعمال الخنجر. قلت لك أنى لا أستحي أن أضحكك أحياناً. بل إني سأسمعك شيئاً من مضحكاتى يوماً ما إن أنت أحسنت الإصغاء إلى عظاتي ومبكياتي. والمضحكات كائنة في الطبيعة ليست من مبتدعات البشر ولكنها أمر إلهي تمثله النكات العملية من القطط والقردة قبل ظهور المزاحين الكبيرين موليير وشاكسبير. وإني لأعجب للناس أنى تطرق إلى عقولهم هذه العقيدة الغريبة وهى أن الحياة الأخرى - حياة الأبرار في الجنة - أرفع وأشرف من أن يدخلها الضحك والمضحك. حقاً لقد جردوا الأبرار سكنة الجنان من نصف إنسانيتهم. ولقد رأيت كثيراً من هؤلاء الأبرار يهيئون نفوسهم في هذه الحياة إلى تلك العيشة العابسة (حياتهم في الجنة الخالية على زعمهم من الضحك) بطردهم من ساحات صدورهم كل ميل إلى السرور ومن صحائف وجوههم كل لمحة من سنا البشر والطلاقة. وكثيراً ما أصادف في غدواتي أحد هؤلاء الأبرار العابسين فينظر إلىّ - كمن عرفني - نظرة موحشة ثلجية كأنما هو قاض سماوي قد هبط إلى هذا العالم ليحكم بأقصى العقوبة على كل من يعرف - أقول ينظر إلىّ النظرة كأنما أخذتني سحابة من برد فأسعل في الحال وأحمل إلى دارى من تلك اللحظة برداً يفكك مفاصلي ويوهي عظامي. مثل هذا الرجل يقطع ولا شك ذنب هرته إذا هو عثر عليها تعبث به. بالله سله من علم الهرة أن تعبث بذنبها؟ 3 وصف الشاعر والنبوغ والعبقرية إذا نظرت إلى الشاعر من بعض الوجوه رأيته أبداً شيخاً. ورأيت أن أذنه الحديدة تسمع من همسات الأبدية ما ليس تدركه الآذان البليدة إلا بعد أن تقطع نحوه المسافات البعيدة من الوقت. وربما كانت اللمحة الدالة خيراً من النظر الطويل وخطفة البرق من البصيرة النافذة أنفس من تجربة دهر. وكثيراً ما رأيت في صغار الصبية من تطاول عليه البؤس وتمادى

به الهمّ حتى لاح وجهه علائم الهرم ولا تعدم الملاجئ والإصلاحيات أمثال هؤلاء الغلمة. كان الله للفئة المساكين! إن بوجوههم من سيما الحزن والجوى. ومن غضون الرثاثة والبلى ما يخيل إليك أن أعوامهم القلائل ستون عاماً. وكائن رأينا من شاعر كان إذا نفثت كلماتهن قلب شاخ قبل أوانه. وكأنما صباح شبابه لحزنه وبرودته ووحشته مساء الشيخوخة في غيره. ومن تأمل الشاعر الشاب شلى حيث يقول لهممت من فرط الأسى ... ومضاضة الحزن الأليم القي بنفسي في الثرى ... وأصيح كالطفل اليتيم وأميت نفسي بالبكا ... ء فأستريح من الهموم وأرى حشاشة مهجتي ... تنثال في الدمع النظيم أعذب بانداء الردى ... في حبة القلب الكليم من تأمل هذه الأبيات وتدبر ما تنطوي عليه من شدة الجوي علم أنها خرجت من فؤاد هو كما قال ذلك الشاعر قد شاخ قبل أوانه_من فؤاد عمره_وشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الشاعر كما يقدرون أعمار سائر البشر كأنهم لم يعلموا أن دقيقة الشاعر يوم غيره - من فؤاد عمره ست وعشرون. كلا النبوغ والعبقرية زيادة في العقل على مقدار المتوسط على أن العبقرية أكثر وأرجح. هذا من جهة المقدار فأما من حيث النوع فإنها صنف آخر خلاف النبوغ. النبوغ ملكة إنسانية. والعبقرية ملكة فوق الإنسانية. فإن تشأ فقل جنية (وهو مطابق لاشتقاق اللفظة) أو ملائكية أو إلهية. النبوغ ينقاد للإرادة فهو أشبه بالصفات الإنسانية كما قلنا ولكن العبقرية ضرب من الغريزة والإلهام كالذي نراه في الحيوانات السفلى يدبر بارع أفاعيلها ويضبط بديع حركاتها فعليها لذلك صبغة بهيمية. ولكن الغريزة في الحيوان هي كما شاهدناها أصدق من أسمى محاولات البشر. ألم تنظر إلى الطير كيف تجري في أسفارها على نظام لو سئل المجمع الجغرافي الملوكي أن ينقح فيه لما وجد للتنقيح فيه مجالاًً. وكذلك الشاعر (العبقري) يسافر بلا خريطة وبلا أعلام إلى بقاع من عالم الحقيقة غير مطروقة لم تهتد إليها الفلسفة بعد ولم تضعها على خريطتها. ذلك أن الفيلسوف يهتدي

إلى منهاجه بالنظر والبحث ولكن الشاعر يفوّض أمره إلى غريزته فيبلغ المدى بطريق أقصد وأقرب. نقول أن على العبقرية لصبغة بهيمية كأن ذلك عيب ومنقصة. كلا! أو ليست الغريزة حتى في أسفل الحيوان أكثر آلهية من أعلى وأفضل ما أملاه عقل الإنسان ورويته؟ ماذا ترى ببيت النحلة إلا أنه فكر إلهي محض صريح وماذا تري قانون أعظم المهندسين إلا أنه فكر إلهي كدر مشوب - نسخة ممسوخة من قانون محكم سنته الحكمة الإلهية فأخذته نفس بشرية ثم عكسته مشوهاً كما تعكس المرآة الكدرة الصورة. النبوغ كثير والعبقرية نادرة. والنبوغ صفة قد تشمل الأسرة معظمها أو جميعها والعبقرية من مزايا الأفراد. مثلما ترى في العشيرة مارداً واحداً أو قزماً واحداً ولكنك لا ترى عشيرة كلها مردة أو كلها أقزام. والنبوغ مسلط عليه العقل يقوده - كما أسلفنا_بالإرادة. والعبقرية مسلطة على الشخص بأجمعه تفعل به كما تشاء. والناس يرحبون بالنبوغ في أي إنسان ويمشون له ويفرحون به. ولكنهم كثيراً ما يضيقون ذرعاً بالعبقرية وصاحب العبقرية ويحارون فيه ماذا يصنعون به. وذلك أن النبوغ سهل ذلول. كأنه بين يدي الدنيا حيوان مذعان يحنو لها رأسه وهي (الدنيا أي الناس) تلبسه الرسن وتلقي عليه الحمل فيستقل به في نشاط وروح صبوراً على الشكيمة جلداً على السوط. ولكن العبقرية تجزع من اللجام وتقلق من السرج. ويمنعها غليان الدم في عروقها أن تسكن للسائس وتذعن للمرتاض والنبوغ في كافة الأحوال محسود. وقلما ترى صاحب العبقرية إلا بالرحمة جديراً. وكيف وما زلنا نرى صاحب العبقرية عرضة لأن يموت في مستشفى أو سجن أو مثقلاً بالدين أو موصوماً بسبة. ولكن مالي أزن الكلام في مقارناتي كأني بين ذخائر البلاغة يقال. في يدي الموازين والأثقال. وأراك بعد لست إلى كل ذلك في حاجة. وفي تجاربك ما يكفيك. ألست تعرف عشرين من ذوي النبوغ يرقون في سلم الحياة؟ وربما تعرف عبقرياً واحداً. فإن صح ذلك فما أراك تحب أن تعرف عبقرياً آخر. لأن العبقرية وعلى صاحب صاحب العبقرية أن يعالجا تلك الغريزة الإلهية المشاق التي تجدو الطائر نحو الجنوب وتحدو الشاعر نحو السماء. لقد كان حقاً من أصعب أن رزق بعض الناس صاحباً مثل شاترتون أو بارنز.

نوابغ العالم

نوابغ العالم فريدريك الأكبر بقلم كبير كتاب الإنكليز ومؤرخيهم اللورد ماكولى تمهيد هذه المملكة البروسيانية، أحدث أمم الغرب عمراً، وأنضرها شباباً وخامسة أترابها خلائق وسكاناً، ووفرة وغناء، وثالثتها إن لم تكن ثانيتها أدباً وعلماً ومدنية وعمراناً، وثبت من منشأ وضيع، وطفرت من أصل خفيض، وتسنمت ذروة المجد، وكانت من قبل في الحضيض. أنعم الإمبراطور (سجسماند) على أسرة هوهنزلرن، العريقة في النهل المتمكنة في الشرف، بمركيزية برندنبورغ، وكان القرن الخامس عشر لا يزال بعد وليداً، فلما قضي ذلك الجيل وأقبل القرن السادس عشر يمشي الخيلاء، دخلت هذه الأسرة الكريمة في دين لوثر، واعتنقت مذهبه، وفي أوائل القرن السابع عشر خلع عليها ملك بولونيا دوقية بروسيا وقلدها ذلك المنصب. على أن هذه الأرض التي تملكتها، والولايات التي تقلدتها، ما نهضت بها إلى مرتبة أمراء سكسونيا، ولا رفعتها إلى مقام سادة (بافاريا). كانت أرض (برندنبورغ) جرداء، لا يطيب فيها زرع ولا يصلح فيها نبات بل كانت جنبات برلين، وهي عاصمتها، وجوار بوتسدام، وهي مقام حكامها المحبوب ومقر ولاتها الأمين، عراء خلاء. وكان يحصل في بعض أصقاعها، من كثبان رمالها، على شيء نزر من الحنطة والدخن، بشق النفس، ومشقة الحرث. وفي نواح أخر بقيت الغابات القديمة والأجمات التي جازها الفاتحون من الدولة الرومانية إلى ضفاف (الطونة)، لم تمسها يد الإنسان، ولا عملت فيها معاوله. وما كان من هذه الأرض غنياً خصيباً فشت فيه المستنقعات وأفسد هواؤها صحة السكان حتى تولى الزارع عنها بعد ما غرهم خصبها وخدعتهم جودة تربتها. وكان فريدريك غليوم الملقب بالأمير الكبير السيد الذي اجتمع خلفاؤه على أنه واضع أساس عظمتهم، ومعلى بناء

مجدهم، نال من معاهدة (ويستفاليا) أملاكاً واسعة كثيرة، ومن بينها مقاطعة (مجديبورغ) وبلدها الغني، وترك لأبنه (فريدريك) من بعده أمارة لا تقل في شيء عن تلك الإمارات التي لم ينل حاكمها لقب الملك. وطمحت نفس فريدريك هذا إلى الملك والملكية وكان مفتوناً بالمظاهر سخياً مبذراً، غافلاً عن فوائده الحقيقية، قاعداً عن واجباته، قلقاً يحتال للشهرة التي لا قيمة ولا وزن يقام لها، فلم تتسع على يديه أملاك الحكومة التي هو واليها، ولا ترامت أرض لرعية التي هو راعيها، بل لعله أورثها بنيه وقد حط من شأنها ولم تزدد به قدراً، ولكن نجحت غاية عيشه وفاز بأمنيته فنال لقب الملك في عام 1700 واتشح بوشاحه ونودي بجلاله. وكان يجب عليه عند ذلك أن يحتمل المتاعب التي تصيب الطامعين الحديثي عهد بالسلطة والنعمة. وكان بين الرؤوس المتوجة في أوروبا أشبه بالإنجليزي التاجر الذي أثرى في الهند وطال هناك غناه فاشترى بالمال لقب الشرف فبدا بين جماعة الأشراف الذين تآمر أجدادهم على أسرتي (يورك) و (لانكستر) المتنازعين على الملك المتقاتلين. وكان حسد الطبقة التي فارقها، واحتقار الوسط الذي سلك نفسه بين ملوكه، ظاهرين أوضح ظهور. رفض أمير سكسونيا في أول الأمر أن يقر لذي الجلالة الجديد، بمنصبه السامي البعيد، وجعل لويس الرابع عشر ينظر إلى أخيه المليك مزريابه نظر الكونت في رواية موليير إلى السيد (جوردان) وقد حاز مظهر السيادة لا حقيقتها، وابتزت النمسا منه أشياء طائلة ونفائس كثيرة لكي تعترف له باللقب الحديث، وترضى له بالملوكية واسمها، ثم جادت عليه بعد ذلك باعترافها، من غير ما رقّه ولا أدب. وخلف م بعده ابنه (فريدريك غليوم) وكان على شيء من المقدرة على الإدارة والنظام، وإن شوه خلقه تلك الشرور المنكرة التي ركبها والرذائل التي لبسها، بل أن الأفعال الشواذ التي كان يأتيها لا ترى إلا في مستشفى المجاذيب. وكان في تصريف وجوه الأمور دقيقاً نشيطاً. وهو أول من فكر في جعل بروسيا أمة ذات قوة وسلطان بين أمم أوروبا بتعبئة جيش عرمرم شديد وساعده اقتصاده المعنت أن يكفل

في السلم ستمائة ألف مقاتل وكانوا على نظام لو وضعت كتائب (فرسايل) بجانبه أو جنود (سان جيمس) لبدت إزاء جيوشه شرذمة قليلين، ورَب قوة كهذه يرهب جانبه ويخاف بأسه، ويطمع في صداقته، وينتفع من محالفته، وترى فيه الجيران عدواً لا تكسر له حدة، أو حليفاً قيماً غالياً. ولكن عقل فريدريك غليوم كان مختلاً فانقلبت أمياله غراماً وكان ذلك الغرام نتيجة مرض عقله ونقص أخلاقه. وأصبح ذلك المقتصد شحيحاً مغلول اليد، وبات حبه أبهة الجيش ووراءه جنوناً، كجنون شيخ البلدة الهولاندي بزهر الخزامى، فبينا أهل بلاط (برلين) في الفاقة يتضورون، وأهل العواصم الأخرى يضحكون من حالهم ويسخرون، وبينما طعام أمراء الأسرة وأميراتها لا يسمن ولا يغني من جوع، بل لتمتنع عنه النفس والنفس طاوية، لم يعز على الملك أن يصرف الأموال الطائلة في جمع الجند الطوال. وكان غاية الملك أن يؤلف فرقة من الجنود الطوال النجاد فأرسل رسله يبحثون في كل مملكة وينقبون عن طوال رجالها ولم يقصروا البحث على البلاد الغريبة، بل ما ارتفعت على رؤوس الجموع رأس في أسواق حلب والقاهرة وسورات ولا طالت على الهام هناك هامة واستطاع صاحبها أن يفر من أيدي رجال فريدريك ولقد نال (ايرلاندي) تبلغ قامته أكثر من سبعة أقدام التقطه سفير بروسيا في لندن، جائزة مقدارها ألف وثلاثمائة جنيه، وهي تربى بكثير على مرتب السفير نفسه. ذلك إسراف طائش، وتبذير مجنون فلعل فتي شديد الأسر لامتناه في القصر ولا في الطول بريالات معدودات يكون خيراً من هذا وأحسن عملاً. . . . وعجيب أن يكون فريدريك غليوم أحب الملوك للمسلم، وأكرههم في الحرب، وهذا مطمعه في القوة الحربية، وهذا عهده المأثور في تاريخ النظام الحربي، وهذا حبه لرواء الحرب. ونحن نخشى أن كراهيته للحرب لم تكن أثراً من أثار الإنسانية فيه بل إن هي إلا وهم من أوهامه، وخيال من خيالاته. وكان خوفه على جنده خوف البخيل على ماله. هام الملك بجمع الجنود وعدهم وازدياد عددهم ولكن لم يطاوعه قلبه يوماً أن يباغت ذلك القطيع العزيز.

وكان ينظر إلى المستقبل قيمني النفس بأن جنوده ستسوق راجلة العدو سوق الأغنام. على أن ذلك اليوم الذي كان يتعلل به، والحرب التي يتوقع نشوبها، كانت تعدو هاربة من أمام عينيه، ولو كان الله مد في فسحة أجله ثلاثين حولاً لما ألفى أصعب ملمة، ولا أعصب شدة، من قتال بسيط في سهول برلين. ولكن قضى الله أن تستخدم هذه المعدات التي أعدها، والوسائل التي ادخرها، روح أصدق منه لقاء، وأثبت جرأة، وأعلى في النظام كعباً. . ولد فردريك، الملقب بالأكبر، ابن فردريك غليوم، في يناير سنة 1712. ونحن نقول أمنين، أن الله رزقه فهماً ثاقباً، وذكاءً حديداً، وحلماً قليلاً وعزمة راسخة. أما معالم أخلاقه الأخرى فلا ندري أهي من متممات الطبيعة، أم هي تأثير التربية الغريبة التي ترباها. وتأريخ نشأته وعهد شبيبته مؤلم يشوق المستطلعين. فلا أوليفر توست في معمل القرية، ولا (سميك) في معمل الصبيان، بأشقى حالاً من ذلكم الوريث المسكين. كانت شيمة أبيه فردريك غليوم الغلطة والشر وقد صيره استبداد الملك وحشاً فتاكاً ضارياً. وامتد أذاه في كل مكان، عن اليمين وعن الشمال، باللكمات واللعنات كان إذا خرج إلى الرياضة والنزهة فر الناس من طريقه، وعدوا هاربين ما يحتمون كأنما من نمر انطلق مفلتاً من قفصه. إن لقي امرأة في الطريق رفسها ثم أمرها أن تتولى إلى بيتها فترعى أطفالها، وإن صادف قسيساً يعظ الجنود نصح له أن يعمد إلى صلاته وقراءته ويأخذ في تضرعه ومطالعته، وأتبع النصيحة بالعصا. أما في داره فهو الأحمق الذي لا يراض، والوحش الذي لا يسكن. كان قصره جهنم وكان هو أرجم الشياطين. وكان ابنه فردريك وابنته ولهلمينة موضع كراهيته وتعذيبه، وكان جاهلاً ما هذبه علم ولا أخصب من قلبه ما أجدبه الجهل، يكره الأدب ويزرى به، ويمقت الملحدين وشيعة البابا والفلاسفة الباحثين فيما وراء الطبيعة، ولا يعرف الفرق بينهم جميعاً. شأن الحياة لديه أن يريض جنده وأن يتريض، وألذ رياضات ذلك الأمير وأبردها على

كبده، أن يدخن حتى يمتلئ هواء الحجرة بالدخان، وأن يحسو من جعة السويد، بين ذوائب غليونه، وأن يلعب (الطاولة) مراهناً بقطعة من المطاط لا تساوي ثلاثة فلوس، وأن يقتل الخنازير البرية، وأن يصيد من الحجل بالألوف. وولى عهده فردريك راغب عن أمور أبيه وملاهيه، لا يميل إلى استعراض الجند، ولا يحب رائحة التبغ ولا (لعب الطاولة) ولا يرغب في القنص، فجنح إلى المزمار فأفتن فيه، وكان أول ما أخذ ذلك عن فئة من لفرنسيين الطريدين حببوا إليه الأدب الفرنسي وحببوه في مجتمعه وأيقظوا ما هدأ من عواطفه. وكان فردريك غليوم يعد كل ذلك مخنثاً مزرياً، وكلما ازداد على ابنه نكيراً وتضييقاً، ازداد هذا ميلاً إليها ورغباً فيها. وحان الوقت الذي فيه يتطور عقل الشباب وتثور في القلب الثورات، فاشتد ما بين الابن والوالد من العلائق جفوة وفتوراً. وارتكب فردريك بعض هفوات من هفوات الصبا ونزقه مما يحسن بالأب العاقل الأريب أن يغض عنها بصره، ولا يأخذ بها ولده. ولقد اتهموه بعد حين، إن صدقا وإن كذباً، بارتكاب شرور يحمي التاريخ عنا ناظريه، بل ليخجل النقد أن يذكر اسمها، شرور تتحاماها الطبيعة الحيوانية في الإنسان وهي التي تجر إلى عظائم الذنوب وتقود بابن آدم إلى كل جرم. على أن هفوات صباه لم تكن نهاية في المنكر، ولا اختلفت عن الذنوب الأخرى الشائنة، ولكنها اهتاجت غضب الملك وزادت سخطه وكان يكره الهفوات إلا ما كان منها حظه ونصيبه، ويحسب أنه طالما تضرع إلى الله يحمده إذ كرهه في العواطف الرقيقة وحببه في الجفوة والقسوة ولم يكن فردريك ممن يأخذ المسائل الدينية قضية مسلمة، لا بحث فيها ولا جدال، فجعل يلقي الأسئلة المعضلة في الدين، وطفق يأتي بحجج تشتم منها رائحة المروق عن مذهب لوثر وشيعته، وظن الملك أن ابنه سيصبح ملحداً، زنديقاً كان أم (كالفينيا) فرأى أن القسوة على ابنه أمست واجبة لأنه مسيحي يغار على مسيحيته، فعمد إلى مزماره فحطمه، وإلى الكتب الفرنسية فأمر بإخراجها من قصره، وانحنى على الأمير رفساً وضرباً وتقريعاً وتأنيباً.

وإذا جلس إلى الغداء رمى بالصحاف في وجهه، وكان لا يقدم إليه حيناً إلا الخبز والماء، وحيناً يلجئه إلى ازدراد طعام خبيث فاسد لا تكاد المعدة تسيغه ولا تكاد تمسكه، ولقد رماه أبوه إل الأرض ثم جعل يجره حتى النافذة يريد أن يخنقه بحبال الستائر! هذا والملكة في أشد الغضب تشفق من زوجها على ابنها، وأخته ولهلمينا انحازت له فلقيت ما يلقى كل يوم من عذاب. وبلغ بفردريك الشاب اليأس فاحتال للهروب، وبلغ بأبيه المستبد الغشوم الغضب فاستحال جنوناً. وكان الأمير ضابطاً في الجيش، وفراره يعد في العرف نكولاً، والنكول في قانون فردريك غليوم أكبر الجرائم نكراً، وقد كتب ذلك الملك المتدين في إحدى رسائله الهوجاء النكول من الجحيم، عمل صبية الشياطين وأطفال الأبالسة، لا يقع في جريرتها عبد من عباد الله. وكان مع فردريك شريك يرى رأيه، ويذهب مذهبه، فأمر الملك بقتله، ولم تأخذه فيه رحمة، ولم يستمع لنصيحة المجلس الحربي له أن يأخذه بالعفو. وكاد فردريك نفسه يلحق بشريكه، وكاد ينفذ فيه حكم أبيه بالموت، لو لم يقيض الله له حكومات هولاندة، وملوك بولونيا والسويد، والإمبراطور فتداخل الجميع في أمر ذلك الحكم، وبعد تعب وجهد سكنت حدة الملك وأنقذ آل براندنبورج من وصمة كادت تعلو جباههم، وعار قتل أوشك أن يلبس شرفهم. وعلم فردريك بعد قلق عدة أشهر أن حياته قد أنقذت من مخالب الموت، ولكنه لبث في السجن طويلاً، وقد رأى أن لا مناص من غياباته. ووجد في حبسه من الحراس رحمة لم يجدها في أبيه، وألفي بين الحفاظ قلوباً رحيمة أين منها قلب والده ومليكه. ولم تكن مائدته في السجن فاخرة، ولا الطعام لذيذاً، لكنه صحي مفيد، يقتل الجوع ويسكن ثائرته، واستطاع أن يقرأ (الهنريات) ولا يرفس من أجلها، ويعبث بمزماره، وينفخ بالألحان والنغم، ولا يكسر فوق رأسه. فلما انقضت مدة حبسه، خرج من محبسه رجلاً وقد أوشك أن يتم الحول الواحد بعد العشرين، فلا يستطيع أحد، حتى وإن بلغ من القسوة مبلغ والده، أن يضيق عليه أو يصرفه

عن وجهة هو موليها. خرج وقد أصبح أنضج الألم فهمه وذكاءه، وأقسى العذاب فؤاده، وأمر الهم طبيعته وأخلاقه. تعلم ربط النفس وحكمها، وملابسة الناس وخديعتهم، وادعى أنه منتصح ببعض آراء أبيه وقبل يد المرأة التي أحب والده أن يزوجها منه، ولم تكن في الحقيقة زوجته إلا اسما واشتغل تحت أمرة الأمير (أوجين) في حرب ما اشتهر عنها شيء ولا حدث في نقعها للشجاعة خارقة ولم يكن لفردريك فرصة فيشرق في وطيسها ذكره. وسمح له والده أن يعيش في دار منفصلة واستطاع بذلك أن يكفل ملاهيه ويطفئ كلما استعرت جذوة أمياله سراً لا علانية. وصرف جزءاً من وقته ينظر في الأمور الحربية والمسائل السياسية وذلك لإرضاء الملك وعن ميل في نفسه ورغبة تنازعه وكذلك كان فردريك يدرج في معارج المقدرة على تصريف هذه الشؤون دون أن يعلم بذلك أخلص أصدقائه، ولا أصدق المخلصين. وكان مقامه المحبوب رينسبورغ، على مقربة من الحدود التي تفصل أملاك بروسيا عن دوقية ميكلنبورغ. درينسبورغ موضع خصيب، ومكان ضاحك، وخميلة طيبة، في وسط رمال المركيزية المترامية الأطراف. وكان يحوط الدار أجم السرو والسنديان، تشرف على بحيرة واسعة هناك كان يلهو، وفي هذه البقعة الجميلة كان يمرح، يزرع البساتين في طرق متشعبة وغير متشعبة: ويبني المسلات والمعابد والمتاحف، ويقطف الأثمار والأزهار. وكان يخفف عنه عزلته صحاب جمعهم إليه وأدناهم منه، وآثر الفرنسيين منهم مولداً وأصلاً. وكان يأكل مع هؤلاء جميعاً ويشرب، ويقيم للهوه المراقص، وحيناً يقرأ في كتاب ديني سماه (عهد بايارد)، ولكن في الأدب كان كل هواه. وتعلم كل شيء بالفرنسية، وأن العلياء التي نعم بها لويس الرابع عشر، والنبوغ العظيم الذي رزقه شعراء ذلك الأمير الكبير وكتاب مآسيه ومضحكاته وأهاجيه والشأو الذي حازه

خطباؤه ودعاته، تركت اللغة الفرنسية شائعة في أوربا منتشرة في كل فجاجها ذائعة في كل أقطارها، حتى في البلاد التي لها أدبها، والتي تستطيع أن تفخر برجال أعظم من راسين، وأقدر من موليير، وأبدع من ماسيون - بلد دانتي، وأرض سرفانت وموطن ملتون وشكسبير، اختار القوم أذواق باريس وأدبها وآثروا رقة لغة الفرنسيين وبدائع كتابهم. ولم تخرج ألمانيا في ذلك العصر شيئاً من محاسن الشعر وعقائله، ولا نشرت للناس من آيات الفصاحة البينات ولا من فرائد النثر المترقرقات، ولذلك شاع الأدب الفرنسي في أرضها لا يزاحمه مزاحم ولا يقف في سبيله حائل. فكان كل شاب ذي مكانة أو يافع رب وجاهة يتعلم اللسان الفرنسي كلاماً وكتابة، أما تعلمه الكلام بلسانه الأصلي والإنشاء بلغته الوطنية، أو تعلمه أدبها، وإن لم يستطع فسهولتها وصحتها، فكان غير مهم. حتى فردريك غليوم نفسه على خواطر في اللغة السكسونية بالية، وفكر ذاوية، كان يرى لزاماً لأبنائه أن يعرفوا الفرنسية، أما التمكن في الألمانية والتبحر في آدابها فأمر غير ذي بال، ومسألة لا ينظر فيها وليست من اللزوم في شيء. وأما اللاتينية فكانت ممنوعة محظورة. وقد كتب الملك أن ابني لن يتعلم اللاتينية، وفوق ذلك فأني لن أحتمل أن يذكر أحد ذلك أمامي. وقد جسر يوماً أحد الأساتذة على قراءة العجل الذهبي في الأصل اللاتيني مع ولي العهد وباغتهما (فردريك غليوم) فصاح بالمعلم في لهجة الملوك: ماذا تعمل، أيها الشقي فأجابه المعلم. ليهدأ ثائر ذي الجلالة فقد كنت أفسر العجل الذهبي لسموه. فصرخ ملك بروسيا، لأردنك أيها المجرم عجلاً، وارتفعت العصا، وجرى المعلم المسكين هارباً، وكان ذلك آخر عهد فردريك بالعلوم القديمة. ولكنه كان يتبجح في بعض الأحيان فيتشدق ببعض كلم سيشرون وكلامه. أما حظه من اللغة الطليانية فلم يك بالأكبر الأوفر بل ليصعب عليه أن يقرأ صحيفة من صحف (متاستاسيو).

أما في الاسبانيولية والإنكليزية، فلم يعرف على ما تعلم حرفاً واحداً.

سر تطور الأمم

سر تطور الأمم مبحث ضاف جليل في نقد نظريات كتاب سر تطور الأمم للكاتب الحكيم عباس محمود العقاد كتاب من الكتب القيمة وضعه عالم فرنسي جليل، وعربه وزير مصري عامل. والكتاب على صغر حجمه وإيجاز أبوابه من الأسفار التي قل أن يلج مثلها إلى عقول المصريين من جانب اللغة العربية. وأيسر ما يقال فيه أنه سيعوّد القراء أسلوب البحث الجديد فلا يركنون إلى تلك المباحث التي مدارها على التلفيق، وهي براء من المعنى براءتها من صدق النظر والتحقيق. فما أكثر الكتاب الذين كانوا ينظرون عندنا إلى أعضل مسائل الاجتماع وأغلق أبواب المستقبل بعين تتخيل الأفكار كما يتخيل الناظر الواهم صور الجمال والثعابين والحيتان في قطع السحاب المذعذعة في السماء. وحسب الواحد منهم أم تتم في ذهنه صورة ملفقة على هذا النمط فيبرزها للناس قضية مسلمة، ويبني عليها النتائج البعيدة والنظريات الخطيرة. أفرد المؤلف أكثر فصول الكتاب لتجلية الفكرة التي يحوم حولها في أكثر كتاباته. وهي أن لكل أمة روحاً تسير أعمالها، وهذه الروح هي التي تكيف أطوار الأمة وتشكل ملامحها الطاهرة. وإليها يرتد سبب كل حركة من حركاتها. وقد غالى في وصف ما لهذه الروح من الأثر في كافة أحوالها، إلى حد يوهم أنه ينكر ما للعوارض الطارئة من الأثر الثابت في حياة الأمة، والحقيقة أن لهذه العوارض شأناً في تاريخ الأمم لا يحسن إغفاله ولا سيما من وجهة النظر السياسي، كما أن الربان الحاذق لا يجلس مجلسه من السفينة إلا ليرقب ما يهب عليها من الأعاصير، ويثب إليها من الأمواج، ولا يغنيه علمه بأدوات سفينته وفجاج البحر الذي يسلكه عن الدربة على قيادة في تلك الأهوال، وإلا فإن ثورة واحدة من تلك الثورات قد تهوي بالسفينة إلى القرار. وما العوارض الطارئة إلا الخيوط التي ينسج منها روح الأمة، ويتكون من مجموعها سلسلة اختباراتها وذكرياتها الماضية، وهي لا تجعل في الأمة شخصاً غير شخصها، ولكنها تغير بنية ذلك الشخص، فليس لروح الأمة دخل في تاريخها إلا بقدر ما للإرادة في تاريخ الفرد، وكثيراً ما تكون الإرادة منفعلة بما يطرأ عليها ولا تكون هي الفعالة إلا إذا جاءت الحوادث بما يوافقها. وقد بالغ المؤلف في تقدير طول

الزمن الذي يرسخ فيه المبدأ فيصير عقيدة موروثة وجزءاً من أجزاء تلك الروح، وهي مبالغة غير محمودة لأنها توقف المصلحين موقف الحذر الشديد عند كل حركة جديدة، وتصغر من قيمة الفرص الوقتية في حسابهم ولا سيما إذا كان لا سبيل إلى تشخيص روح الأمة ومزاجها تشخيصاً يقطع الشك باليقين. ذلك ما هو واضح من غموض الفكرة نفسها في الكتاب فإن المؤلف لم يستطع إلا أن يلم بها إلماماً غير محيط بها ولا ضابط لدقائقها. حتى أن القارئ ليخرج من الكتاب وهو لا يدري حد الفارق بين روح الأمة الإنكليزية والأمة الفرنسوية. هذا على أنه يكاد يكون موضوع الكتاب الذي جاهد المؤلف غاية الجهد لتبنيه وتفصيله، ولا ريب أن مثل هذه الفوارق التي لم يلمسها المؤلف إلا بيد الحس لا يصح أن تكون أساساً للأحكام العريضة التي سجلها على أكبر مبادئ العصر بل على الدين الجديد في عرفه. فإذا كان الغرض من تقدير تلك الفكرة المبهمة الإشارة إلى اختلاف الأمم في الأمزجة فذلك مالا نزاع فيه أما إن كان يرمي به إلا أبعد من ذلك فالحق يقال أن قدمي هذه الفكرة لا تحملانها إلى أبعد من تلك الغاية. إذ ليس في الكتاب ما يبين بياناً جازماً أن الحادث الذي يقع في هذه الأمة لن يقع مثله في أمة أخرى، وليس فيه حجة دامغة تنفي القضايا التي قررها علم مقابلة التواريخ وأيد بها قولهم أن للأمم أطواراً تمر بها كل أمة حية، وأنه إن اختلفت الأزمان بعداً وقرباً فذلك لاختلاف المناسبات والطوارئ ولشيء قليل من تباين الأمزجة، ولكن هذا التباين لا يمنع أمة من أن تعتنق كل رأي في حينها المقدور لها، وإن كانت ربما دعته بغير ما يدعي به في الأمم الأخرى، تبعاً لاختلاف اللغات، وتفاوت الأحوال والعادات. فليس في مجلس انكلترا مثلاً حزب اشتراكي كحزب فرنسة الاشتراكي ولكن فيها حزباً للعمال. وكلا الحزبين غايته واحدة ومطالبه متشابهة. وهي أنصاف طبقات العمال من أصحاب الأموال. والدكتور لوبون يقول مع ذلك أن الاشتراكية شاعت في فرنسه لأن مزاج أهلها يميل بهم إلى الاعتماد على الحكومة ولم تشع في انكلتره لأن الإنكليز أهل استقلال لا يعولون إلا على أنفسهم - دع ذلك وانظر صوب ألمانية فإنك ملاق فيها شعباً اشتراكياً صريحاً وحزباً يمثل الاشتراكية في مجلسها هو أقوى الأحزاب وأوسعها نفوذاً والألمانيون كما تعلم شعب سكسوني قريبٌ مزاجه من مزاج الأمة الإنكليزية فما باله في

هذه الحالة أشبه بفرنسه اللاتينية منه بإنكلتره السكسونية؟؟ وكأن الدكتور يحس بركة تعليله في هذه النقطة فجعل الاشتراكية آفة أوربية عامة، وعبر المحيط الأطلسي ليجد له في الدنيا الجديدة برهاناً يدعم به رأيه. فانظر كيف يقول في ذلك: وإذا أردنا أن نعرف بكلمة واحدة ما بين أوربا والولايات المتحدة من التفاوت قلنا أن الأولى مثال ما يمكن أن تنتجه الأمة التي قامت فيها الحكومة مقام الفرد. والثانية مثال ما يمكن أن تنتجه همة الأفراد الذين خلصوا من كل ضغط رسمي. وليس لهذه الفروق الكلية منشأ إلا الأخلاق ومن المحقق أن الاشتراكية الأوربية لا تجد لها مكاناً تنزل به في البلاد الأميركية. لأن الاشتراكية آخر دور من أدوار استبداد الحكومة فلا عيش إلا في الأمم التي شاخت بعد أن خضعت قرونا طويلة إلى نظام أفقدها الأهلية لحكم نفسها. . . . . اهـ. ولكنا نقول للدكتور أن الاشتراكية قد سبقته إلى الولايات المتحدة أيضاً. وأنها ليست في بلد من البلدان أجهر صوتاً مما هي هناك. فليس في الدنيا حكومة تضطهد الشركات كما تضطهدها جمهورية الولايات المتحدة. وقد طاردت هذه الحكومة منذ سنوات أكبر شركات الاحتكار فحلتها وألزمتها غرامة فادحة. فكان الجمهور الأميركي يهلل لها ويثني عليها. وإذا قرأت أيام الانتخابات برنامج كل حزب من أحزاب السياسة هناك رأيت كيف تتبارى في إرضاء طوائف العمال ومهاجمة كبار الماليين. وكيف تحبر الصحف الفصول الطوال في تقبيح مطامع الأغنياء والعطف على الفقراء. فإن كان الدكتور يعني بالاشتراكية غير هذا. فليهدأ بالاً فليس في أميركا ولا في أوربة. لا بل ولا في الدنيا بأجمعها اشتراكية. وفيما خلا وصف روح الأمة وشرح ما لهذه الروح من التأثير في تكوينها. فالكتاب بجملته حملة منكرة على المساواة والاشتراكية. يخيل إليك أن الدكتور لوبون يكتب عن المساواة بقلم شارل الأول أو لويس السادس عشر. وأنه يكتب عن الاشتراكية بإيعاز من روتشيلد أو روكفلر فتراه ينعى على مبدأ المساواة ولكنك لا تعلم منه كيف يكون عدم المساواة. وتراه يتشاءم من الاشتراكية كما يتشاءم الناس من نعيب البوم. لا يعلمون لذلك التشاؤم سبباً. ولعل في الاشتراكية شيئاً من ثقل الدم لا يقبله مزاج بعض الناس ومنهم الدكتور لوبون؟؟ فمن أقواله عن المساواة: غاب عن بعض الفلاسفة تاريخ الإنسان وتقلب ماهية قوته العاقلة وتغير قوانين تناسله الطبيعية فقاموا ينشرون في الناس فكرة المساواة بين الأفراد وبين

الشعوب. خلبت هذه الفكرة أذهان الجماعات فارتكزت في عقولهم ارتكازاً قوياً وآتت أكلها بعد زمن يسير فزعزعت أسس الجمعيات الأولى وولدت أعظم الثورات ورمت أمم الغرب في اضطرابات شديدة لا يعلم مصيرها إلا الله ثم يقول إلا أن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة وأن الهوة التي أوجدها الزمان في عقول الأفراد والشعوب لا تزول إلا بتراكم المؤثرات جيلاً بعد جيل ثم يقول بعدما تقدم: ما من عالم نفسي ولا من سائح ذي نظر ولا من سياسي مجرب إلا وهو يعتقد الآن خطأ ذلك المذهب الخيالي أعني مذهب المساواة الذي قلب الدنيا رأساً على عقب وأقام في القارة الأوربية ثورة أرتج الكون منها وأذكى في القارة الأميركية نار حرب الأجناس وصير جميع المستعمرات الفرنساوية في حالة محزنة من الانحطاط ومع ذلك فقلما يوجد بين أولئك المفكرين من يقوم في وجهه بمعارضة ما. . . . . كل ذلك جرى من سريان مذهب المساواة!! على أن دعاة المساواة لم يشطوا في مذهبهم. وقد علموا أن الناس ليسوا على غرار واحد في العقل والفضل. فالعجب للدكتور ما باله يبادر فيمسك بألسنتهم ويأخذهم بشهادتهم كأن هناك تناقضاً بين قولهم ودعوتهم!! فإن دعوتهم إلى تساوي الناس في الحقوق أمام القانون لا تعطل تنازع البقاء بينهم ولا تذهب بمزايا التفاوت بين قادرهم وعاجزهم. بل هي تفسح المجال لهذا التنازع وترفع العوائق التي يضعها في طريق المنافسة استئثار بعض الناس ببعض المنافع بلا موجب للاستئثار. وبغير هذا المبدأ لا يكون تمت معنى للنظام والقانون إلا إذا كان الغرض من إبطال المساواة الدعوة إلى إطلاق الناس أقويائهم على ضعفائهم. وتحقيق مذهب الفوضى. يحق لأعداء المساواة أن ينكروا على دعاتها كل الإنكار. ويحق لهم أن يحتجوا عليهم بأن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة هذا إذا كان دعاة المساواة في شك من ذلك. أو إذا كان قد قام منهم قائم يمني العامل الجاهل بأن يتبوأ منصة الفيلسوف في الجامعة أو يسول له أن يطالب بوظيفة الطبيب أو المهندس. ولكننا نعلم أن داعياً كهذا لم يقم ولن يقوم لأن مديري البيمارستانات لا يفرطون في مثله إذا ظهر. وكل ما يمنى به الداعي إلى المساواة ذلك العامل أنه يكون متساوياً مع سائر الناس في الأمن على حياته.

وهل في ذلك من ضير؟؟ وإذا كان مبدأ المساواة لا يمنع إنساناً حق التمتع بثمرة تفوقه في المعارف أو المواهب العقلية على سواه فأي ضير فيه؟؟ إن كان الدكتور يصم هذا العصر بأنه عصر الجماعات وأنه يبيح للفرد الجاهل من الحقوق السياسية ما يبيحه للفرد المتعلم. وأن صوت الدكتور الفيلسوف كصوت الزارع الغبي في إنابة النواب وانتخاب الحكام فهذا أمر لا محيص عنه ولا سبيل إلى إبداله بما هو أصوب منه. على أن التساوي في أصوات الانتخاب ليس إلا تساوياً صورياً. والحقيقة أن لكل إنسان من الأصوات بقدر ماله من العقل والقدرة على إقناع سواه باختيار من هو أفشل من غيره للنيابة، وذلك ما يجعل أكبر الناس عقلاً أكبرهم قسطاً في سياسة بلاده، فإن بعض الموسرين يستعين بالمال على شراء الأصوات ويستخدم تلك الأصوات المتعددة في غرض واحد. فذلك ما يشكو منه الاشتراكيون الذين ينقم عليهم الدكتور لوبون. وهب أننا اليوم أبطلنا مذهب المساواة. فمن يا ترى يحكم بين الناس ويقدر لكل منهم ما هو أهل له من الحقوق السياسية والأدبية؟؟ أترانا نلجأ في ذلك إلى الحكومة؟؟ ذلك ما يأباه الدكتور لأنه يريد أن يقصر عمل الحكومة على الضروري الذي لا يسع الأفراد القيام به. فأولى به وهذه إرادته أن لا يدعها تتداخل بين الناس حتى في ترتيب أقدارهم وتمييز درجاتهم كأنما هم كلهم موظفون في دواوينها - فلم يبق إذن إلا أن تترك الناس يدع كل منهم ما يقدر على تحصيله بذراعه_وبمثل هذا النظام نأمن شر مبدأ المساواة ولا نكون قد تركنا أضغاث أحلامنا بالمساواة العامة تغشي بصائرنا لأننا إذا تركنا أضغاث أحلامنا بالمساواة العامة تغشي بصائرنا كنا أول ضحاياها فما المساواة إلا بين المنحطين وهي مطمح آمال صعاليك العقول يحلمون بها وهم بأحلامهم من التعساء الخ. ذلك حديث صاحب الكتاب عن المساواة. أما الاشتراكية فهو كما يظهر من الشذرات التي نقلناها عنه شديد الطيرة منها. وهو يمثلها تمثيلاً مشوهاً. ويعمد إلى شر مذاهبها فيعرضه على القارئ في حالة مشنوعة ثم يعمم حكمه على مذاهب الاشتراكية بحذافيرها. فتارة يحكم بأنها ستؤدي بالأمم إلى أرذل الانحطاط حيث يقول: نعم لا حاجة لأن يكون الإنسان ضليعاً من علم النفس ولا من علم الاقتصاد لينبئ بأن العمل بمقتضى مبادئ الاشتراكية يفضي بالأمم إلى أرذل درك الانحطاط وأخزى صور الاستبداد.

وتارة يصورها لك كما هي في أذهان الجهلاء الواهمين. فيسبق إلى ظنك أن هذه الاشتراكية صنف من الأفيون استورده أئمة الاشتراكية من بكين. فهي كما يقول الدكتور تمثل في ذهن النظري الفرنساوي صورة جنة تساوي الناس فيها فتمتعوا بالسعادة الكاملة في ظل الحكومة. وتمثل للعامل الألماني حانة طبق دخانها وطفق رجال الحكومة يقدمون لكل قادم أطباقاً من لحم الخنزير والكرنب المملح ودناناً من الجعة الخ. وأما والله لو كانت هذه هي كل الاشتراكية لما عز على الدكتور علاجها فما هو إلا حمل من النشادر يحتسبه على نفقة أحد المرابين أهل الخير - والمرابون كلهم يشفقون على الناس من سكر الاشتراكية_ثم يسعطه أولئك المساكين فيفيقون من ذلك الخدر العميق_ولكن هذه الأحلام ليست الأشق الاشتراكية الذي قد يلوح لبعض السذج من العامة ويبقى منها بعد ذلك مبادئها العملية وقواعدها وهي للأسف لا تدحض بالسفسطة ولا تنقض بالتعوذ والحوقلة لأنها مذهب مست إليه الحاجة وشعر به الناس قبل أن يعلنه الفلاسفة وأهل النظر. ولا سيما إذا كان بطلان مذهب الاشتراكية سر الدنيا لا يعرفه إلا علماء النفس الواقفون على أحوال الحياة وكانت الأدلة التي تقنع به لا تأتي من طريق العقل. الاشتراكية التي يراها الدكتور آفة الأمم ومباءة الفناء والاضمحلال هي رجاء الإنسانية ومعقد آمالها في التعمير والبقاء. ليست اشتراكية اليوم أسطورة من الأساطير. ولا هي وعد خيالي يبشر الناس بالتعادل في الأقدار والتشاكل في المنازل والأرزاق. كلا فليست المساواة بين الناس من همها ولكنها إنما تدعو إلى المساواة بين الأجر والعمل وتطلب أن يعطى كل عامل ما يستحقه بعمله، وأن ينتفع المجموع بأكبر ما يمكن الانتفاع به من قوى الأفراد. إن كانت الدنيا قد حم أجلها وكارب يومها لأن جائعاً يريد أن يشبع، ومنهوكاً يتمنى أن يستريح، ومظلوماً يود لو ينتصف، فلشد ما هزلت هذه الدنيا ونحف مزاجها بعد أن احتملت في ماضي العصور طغيان الجبابرة وبطر النبلاء، ووطأة الدعاة والدجالين. ومن العجيب أن الدكتور لا يستقبح من أنظمتنا الحاضرة شيئاً إلا كان دواؤه في الاشتراكية. فإذا أراد استنباط الدواء من غير هذا المذهب وقع في التضارب والحيرة. فاقرأ رأيه وهو يصف الدواء لنهوض الأمم المائلة إلى السقوط ويحيلها إلى النظام الجندي

يقول فأهم الشروط التي تلزم لنهوض الأمم المائلة إلى السقوط تعميم نظام الجندية وجعله قاسياً جداً وأن تكون الأمة على الدوام مهددة بحروب طاحنة. يريد الدكتور ليتخذ من نظام الجندية جبارة يشد بها عظام تلك الأمم التي رض الزمن عزائمها وكسر أعضاد همتها. وهو يعتقد أن الجندية سوق ترجع للرجل المتحضر رجولته واستقلاله وتشفيه من مرض الاشتراكية التي هي فناء الفرد في الدولة والتي تفضي بالأمة إلى أخس درجات الاسترقاق وتقتل في نفوس من خضعوا لحكمها كل همة وكل استقلال. يقول المؤلف قوله هذا على أن الناس يعلمون والمؤلف لا يجهل أن الرجل أضيع ما يكون استقلاله في الجندية، وأن الجندي في الجيش ليس إلا آلة تتحرك بإشارة من القائد وليس لها أن تعرف إلى أين هي مسخرة ولا في أي غرض يسخرونها. فإن كان في الجندية شيء من الخشونة فليس كل خشونة رجولة واستقلالا. قال الدكتور في الفصل الرابع من الباب الأول: أشار توكفيل إلى تدرج الفروق الذي نبحث فيه بين طبقات الأمم في زمن لم تبلغ الصناعة فيه من الارتقاء مبلغها في الوقت الحاضر فقال كلما وسع الناس في تطبيق قانون توزيع العمل ضعفت قوة العامل وحد عقله وزادت تابعيته لغيره. فالصناعة تتقدم والصانع يتأخر والفرق ينمو كل يوم بين العامل ورئيسه. وهي ملاحظة صادقة من توكفيل. فأن النظام الاقتصادي الحاضر قد أصار العامل قوة آلية وسلبه كل وسيلة إلى استخدام ذكائه وحذقه. فبعد أن كان العامل يصنع الأداة وحده فيفرغ ذكاءه في تجويدها ويتفنن في تكميلها وتحسينها، إذا هو الآن يتناول الجزء الصغير من تلك الأداة فيصنعه بلا روية، ويجيء المهندس أو رئس الصناع فيؤلف من تلك الأجزاء تلك الأداة على الوجه الذي رسمه فإذا خرج الصانع من المعمل لم ينتفع بصنعته وعجز عن العمل على انفراد ففقد مزية الاستقلال. هذا النظام الاقتصادي المودي بالمواهب، المعطل للعقول، هو النظام الذي تثور عليه الاشتراكية. فما قامت الاشتراكية إلا لترقي مدارك العامل وترفع عنه حيف صاحب المعمل، وتجعله إنساناً ذا رغبة في عمله وغيرة عليه، وليس كما هو الآن آلة تدير آلة. فإن كان الدكتور يفتش عن الاستقلال فلا يبحث عنه في ثكنات الجنود ولكن ينشده في مبادئ الاشتراكية.

وليست الاشتراكية سبباً في هذا الاضمحلال الذي يعتور الجيل الحالي من جوانبه الرئيسية. ولا هي من أعراض ذلك الداء التي لا تتخلف عنه. ولكنها حال تلازمه في بعض الأحيان وتظهر معه كما تظهر رغبة النجاة في الغريق عند الغرق. فما هي من مصطنعات هذا الجيل ولكنها قديمة وجدت في كل مكان يحرم فيه العامل ويغنم العاطل. إلا أن هذا العصر قد ترقى في فهمها وتوسع في تطبيقها تبعاً للرقي الشامل لكل مرافق الحياة. كانت الأمم الغازية تفتتح البلاد فيستأثر قواد الجيش الفاتح وجنوده بأطيب الأرزاق ويميزون أنفسهم عن سائر الأمة بمزايا يحرسونها بالقوة ويذودون عنا بالسلاح. ثم تؤل هذه المزايا بالوراثة إلى أعقابهم فتصير حقوقاً ثابتة. ويجنح هؤلاء الأعقاب إلى الدعة والكسل جيلاً بعد جيل فيجنون ثمرة ما لا يزرعون، ويجشمون غيرهم مشقة السعي وهم نائمون. وتفسدهم البطالة فيتمادون في اللهو والخلاعة ويتهالكون على المجون واللذة. ولا يزالون ذلك دأبهم حتى يضجر الناس منهم ويحنقوا عليهم، فتنقض عليهم في هذه الآونة جارة ترقب غفلتهم. فلا تصادف فيهم الأسراة لاهين ورعة ساخطين. كذلك ثار أرقاء الرومان على سادتهم، وكذلك ثار الفرنسويون على نبلائهم فقال المؤرخون عن الأولى عبيد تمردوا، وقالوا عن الثانية سوقة عربدوا - وما هي إلا الاشتراكية تبدو وتخفى في تاريخ الناس من حين إلى حين _. لسنا نحن في عصر يتحكم فيه سادة على عبيد، أو يستبد فيه شرفاء على سوقة. ولكن المسألة ظهرت في طور جديد. ظهرت بين أصحاب الأموال وطوائف العمال. أخرج العلم تلك الآلات الضخمة، فأصبح كل صاحب معمل يتمتع بتعب الألوف من الصناع الذين يستخدمهم في معمله. فكان التعب والحرمان من نصيب فريق والراحة والربح من نصيب الفريق الأقل. فتجددت الشكوى القديمة. وعادت الاشتراكية في هذا الثوب العصري. وقد عادت مرافقة لعهد الاضمحلال أيضاً. ولكنها ستكون في هذه المرة أطول منه عمراً. لأننا اليوم في مأمن من غارات القرون الأولى. ولأن العلم والنظام قد أصبحا ملكاً للإنسانية عامة وليسا من خواص أمة يذهبان بذهابها.

وإذا صح رأي نورد في كتابه التأخر والاضمحلال فهذا الضعف الذي استولى على الجيل الحاضر أثر من أثار النظام الاقتصادي فلقد أفرط الناس في إجهاد أبدانهم إفراطاً حط من قواهم وأتلف أعصابهم. وهم كلما أحسو بالضعف انكبوا على المنبهات من خمر وحشيش وتبغ وقهوة إلى أشباه ذلك فزادتهم ضعفاً على ضعف. فلو أن ساعات العمل أنقصت قليلاً وزيدت الأجور زيادة تمكن العامل من تعويض خسارته اليومية بالطعام وأسباب الراحة، لكانت الاشتراكية قد أنقذت الجيل القادم من غوائل هذا الاضمحلال. وبهذا الرأي - أي رأي نوردو_يسهل تعليل قول الدكتور في ختام الفصل الأول من الباب الثاني إذ يقول فالأمم تموت متى ضعفت صفات خلقها التي هي نسيج روحها. وضعف هذه الصفات يكون على قدر حظ الأمة من الحضارة والذكاء إذ لا تخفى علاقة بعض أنواع الضعف العصبي بالذكاء. قال عبد الله بن معاوية ما رأيت تبديراً قط إلا وإلا جنبه حق مضيع وغريب أن يهتدي كاتب من كتاب القرن الثاني الهجري إلى هذه الحكمة الجامعة. ولو شاء زعيم من زعماء الاشتراكية اليوم أن يتخذ لمذهبه شعاراً لما زاد على تلك الحكمة حرفاً. فالاشتراكية تقوم اليوم لتسترد ذلك الحق المضيع ولا مطمع لها في العدوان على إنسان. يتذمر الدكتور لوبون تارة من انحطاط الخلق العام وفقدان أفراد الأمة ملكة ضبط نفوسهم وانصرافهم عن المرافق العامة إلى حب الذات ويأسف حيناً لتلك الحقائق القاسية التي جلبت على أهل العقول الصغيرة فوضى الأفكار التي يمتاز بها المرء في هذا الزمان. وغيرت تلك الشكوك أطوار الشبيبة المشتغلة بالآداب والفنون. فغرست فيها جموداً مشوباً بالكآبة وذلك أفقدها الإرادة. ونزع منها القدرة على الاهتمام بأي أمر. وجعلها تعبد المنافع الذاتية الوقتية دون سواها. وقد تكلم ماكس نوردو في كتابه المتقدم عن هذا الخلق الذي دعاه الدكتور لوبون عبادة المنافع الذاتية. ومن رأيه أنه ناشئ عن أمراض الاضمحلال التي ألمعنا إليها وأنه شعبة من جنون الأنانية ونقول أن حب الذات ينشأ عن ضعف حاسة الواجب وهو مرض من الأمراض العقلية. ولكن يزيده إعضالاً تأكد الناس من عدم التوازن بين حقوق العاملين وواجباتهم، فيرون كيف يثري الوسيط ويعدم التاجر، وكيف يكرم القواد الوضيع ويهان

العامل الأمين، وكيف أن الكسب المباح يحسب بالدانق والسحتوت وأن ربح الاحتيال يعد بالدنانير والبدر، ولقد تدلينا في هذه الأيام إلى هذه الوهدة، وتلك مغبتها التي نعانيها. لا أمل في الخلاص من هذه السوآت إلا إذا ساد اعتقاد الناس بتضامن الإنسانية. وأيقن كل فرد أن على حقوقه حارساً من أمته، وأنه موضع عناية الإنسانية جمعاء. وبذلك تثوب الخواطر ويرعى الناس حرمة الواجب. وإلا فلو ظن الإنسان أنه ليس ثمة ضمير عام يؤنب الناس أجمعين على ما يحل به من الغبن والأذى. وأنه لا حق له في الرحمة أينما يمم وجهه. فقد مات ضميره وغلبه الحرص فتعلق بالجشع ونبذ المبادئ والفضائل إلا ما وافق منها هواه وفشت فوضى الأخلاق فارتفعت الحدود واندثرت معالم الشرائع إلا في الدفاتر والأوراق. يقول الدكتور لوبون: اليوم تميل الأمم القديمة إلى السقوط فهي تهتز من الوهن ونظاماتها تتداعى واحداً أثر واحد وعلة ذلك فقدانها كل يوم شيئاً من أيمانها الذي قامت عليه حتى الآن فإذا فقدته كله قامت حتماً مقامه حضارة جديدة مؤسسة على معتقد جديد. نعم فلا بد للأمم من معتقد جديد. أفتدري ما هو هذا المعتقد؟؟ هو وحدة الإخاء أو هو التضامن الإنساني أو هو الاشتراكية. ازرع في قلب الإنسان ثقته بعطف الإنسانية تكبره في عين نفسه وترفع من قلبه ذلة المخلوق الذي نبذته السماء ولم تعبأ به الطبيعة إلا كما تعبأ بأحقر المخلوقات. وينبغي أن يعتقد الإنسان أنه يعمل للإنسانية لا ابتغاء المثوبة أو خوفاً من العقوبة ولكن مسوقاً بمحرض من غرائزه التي لا طاقة له بالخروج عنها. فإذا عمت هذه العقيدة رضي كل إنسان بحظه ولم يطلب الجزاء على عاطفته النوعية إلا في إرضاء تلك العاطفة ومطاوعتها فيما توحي به. للضمير العام لعهدنا هذا حرم في كل أمة لا يحتمي فيه إلا أبناء تلك الأمة. وقد أشار الدكتور إلى ذلك في قوله أنك لا تجد بين ساسة الإنجليز واجداً لا يرى جواز استعمال أمور في جانب أمة أجنبية لو أتاها في بلاده لأنزلت به السخط من كل ناحية والحقيقة أن ذلك دأب ساسة الأمم كلها وليس الإنكليز وحدهم. ولكن ذلك الحرم تمتد حدوده يوماً بعد يوم حتى يشمل في زمن من الأزمان كل أمة جديرة بالدخول في لحمة تلك الأخوة العامة.

وكذلك كانت عهود الأخلاق في مبدأ أمرها غير مرعية إلا بين أبناء القبيلة. قال دارون في كتاب أصل الإنسان ولكنها - أي أصول الأخلاق_لم تكن معتبرة إلا فيما بين أبناء كل قبيلة على حدتها وما كانوا يعدون مخالفتها في حق أبناء القبائل الغريبة جريمة مستنكرة فما زالت هذه الأصول تنداح من نطاق إلى نطاق أوسع منه حتى شملت بناء الجنس الواحد ثم شملت أبناء كل دين على تباين أجناسهم ثم أصبح الناس يسلمون بها نظرياً في حق نوع الإنسان بأسره ولكنهم يخلقونها عملاً. وهم سائرون في طريق الوحدة. والطبيعة تقوم بعملها لهذه الغاية فتقرض الشعوب الذابلة ولا تذر منها إلا ما هو أهل للرعاية والبقاء. تمهيداً لوحدة الإنسانية وشمول أحكام الضمير العام. هذه هي العقيدة الجديدة فإذا ما سكن الناس إليها واشتاعوا عليها كانت مناطاً لا مالهم وتأسية لآلامهم. وكان لهم فيها نعيم وعزاء وفي الحيدة عنها عذاب وشقاء. لا يفوتنا بعد أن نقدنا ما خلنا فيه شيئاً من الغلو أن نقول أن في كتاب سر تطور الأمم من الآراء الصائبة والأفكار القويمة ما هو حقيق بإنعام النظر وطول التدبر. وأن المؤلف لو أخلاه من الأحكام والنتائج وقصره على الملاحظات والآراء لما كان فيه مأخذ ينتقد. فأن العلم والفن والأدب لم تجمع حتى الساعة الأدلة والمقدمات التي تكفي لأصدر تلك الأحكام المبرمة والنتائج المحتمة. ومن تلك الملاحظات والآراء ما يهمنا نحن المصريين لأنه ينطبق على حالتنا تمام الانطباق. فيظهر أننا لا نفهم بعد معنى الوطن حق الفهم. قال الدكتور كان وجود الروح أولاً في العائلة ثم انتشر منها في القرية ثم في المدينة ثم في الإقليم ولم يعم جميع السكان إلا في أزمان قريبة منا. هنالك وجدت فكرة الوطن بالمعنى المفهوم لنا في هذا العصر لأنها لا تصير واضحة إلا إذا تم تكوين الروح ولهذا لم تترق فكرة الوطن عند الإغريق إلى أبعد من فكرة المدينة ودامت مدائنهم في حرب مستمرة لأن كل واحدة منها كانت أجنبية في الواقع عن البقية. كذلك لم تعرف الهند منذ ألفي عام غير وحدة القرية فعاشت من ذلك الحين تحت حكم الأجنبي تقوم فيها ممالكه بسهولة كما تدول بسهولة. وذلك شبيه بمعنى الوطنية في مصر فإنها لا تعرف غير وحدة القرية وما أظن أن أمة غير

الأمة المصرية تقام فيها المناحات لسفر قريب أو صديق من مديرية إلى مديرية تجاورها. ويقسم فيها الرجل بغربته وهو في عاصمة وطنه. ولا أحسب أن لهذه الحالة دواء أنجع من نشر الكتابة والقراءة وذيوع الأدب المصري بين قراء المصريين في كل قرية ومدينة. المصريون لا يكاد يوجد بينهم شيء من وحدة المشاعر ويكاد يكون أبناء النيل اثني عشر مليون فرد وليس هناك أمة. ولا ريب أن ذلك ناجم عن اختلاط العناصر وتوالي الأمم الفاتحة كما أنه يعزي إلى سوء فهم الوطنية الذي قدمنا ذكره. ومن الحكمة استحياء أشد العصبيات أخذاً بقلوب هذه الشراذم المبددة. ولا فرق بين أن تكون عصبية مصلحة أو عصبية تاريخية أو عصبية وطنية مادامت تفضي إلى لم شعثهم وتوجيه نفوسهم إلى وجهة واحدة. ومن عيوب الأمة المصرية فقدان التخصص وشدة التقارب بين الصنائع والصناع وهو نقص بين فأن مستوى العقل - كما يقول الدكتور يكاد يكون واحداً عند جميع أفراد الأمم الدنيا ذكوراً وإناثاً. . . . . . وأما عند الأمم الراقية فالقاعدة هي اختلاف الأفراد وكذا النوع اختلافاً كبيراً. ولا نرى إلا أن للخصوبة دخلاً في هذا النقص، فإن الزراعة لا تبعث الحاجة إلى المنافسة كما تبعثها الصناعة. والمنافسة هي باب التفاوت والتنوع في الحرف والمصنوعات. وستضطر الأمة إلى الصناعة لأن الزراعة لا تقوم في هذه الأيام بمطالب الناس. ولقد أحجم أغنياء الأمة عن فتح باب المنافسة بإنشاء المصانع وتبادل النفع مع الأمة لأنهم غرباء عن البلد. وظل أكثرهم إلى زمن غير بعيد ينظر إلى القطر المصري نظرة المهاجر إلى دار هجرته، ويعامل المصريين معاملة الأجانب عنه، وكان أهل الثروة من أبناء النيل في الجيل الماضي أقل شأناً من أن يستقلوا بعمل وأجهل من أن يقدموا على غير الزراعة. ولكنا أصبحنا نرى سراة مصر وقد استوطنوها وارسخوا أقدامهم فيها وارتبطت مصلحتهم بمصلحتها فلا يبعد أن يكون شأنهم في المستقبل غير شأنهم في الماضي ولا سيما إذا عمت الوطنية سكان مصر على السواء وعد من أبنائها كل من ينفعها وينتفع فيها من الوطنيين والنزلاء فأن مصر بحاجة إلى تآلف الأغراض ألفة تشبه ما يعوزها من وحدة المشاعر. ولا ننس الأخلاق فقد لحقتنا كل أضرار المدنية الغربية ولما نصل إلى شيء من مزاياها.

ولا جرم فقد سهل على حواسنا أن تدرك ملذاتها فانغمست فيها. وقصرت عقولنا عن أدراك معانيها فحيل بيننا وبينها ولو أنك حملت زنجياً حقيراً إلى باريس لتمتع بكل رذائلها في اسبوه واحد ولكنه لن يتمتع بمعارفها وآدابها لأن الفرق في الحواس قريب بين أرفع الناس وأحطهم ولكنه بعيد جداً في العقول والأذهان. فنحن اليوم نعب من إباحية المدنية الأوربية ومنكراتها، ولا نذوق قطرة من عظمتها وطيباتها وما كنا لننتظر أن نجني ثمرة المدنية بغير شوكها. فإن المدنية شباب الإنسانية. وفي سن الشباب تتولد الشهوات كما تتفتح القوى وتنمو المدارك. ليست طهارة الفطرة إلا كطهارة الطفولة التي لا تأثم لأنها فارغة من الشهوات كما أنها فارغة من القوى والمدارك. ولكن الرزيئة أن نضيع سلامة الفطرة ولا نبلغ رقى المدنية. وذلك ما صنعناه. ولقد أصاب الدكتور لوبون كل الإصابة إذ يقول: الخلق لا العقل هو الذي تقوم عليه الجمعيات البشرية وتؤسس الديانات وتبني الممالك وهو الذي يجعل الأمم تحس وتعمل وما كان كسب الأمم كثيراً من شحذ الأذهان والتعمق في التفكير. أي والله. فأن الإنسان بغرائزه. وأن الحياة بزوبرها لا شيء إذ لمحناها من ناحية العقل ولكنها من ناحية الغرائز كل شيء، بل لا شيء سواها وليست الفضيلة ما سلم به الإنسان بتعليل عقله. ولكن الفضيلة ما نشأ عليه وتضمنه طبعه وزجلته إليه فطرته. فلتكن عنايتنا بالعلم بعض عنايتنا بالأخلاق. وهذا عمل تتكفل به المدارس والمحاكم والكتب. ومما يهون الأمر أن الإصابة محصورة في طائفة قليلة من ناشئة المدن. فإذا وقيت الأمة من عدواها كان الأمل في الجيل القادم وثيقاً. ولا ننكر أن الأمر يلزمه شيء غير يسير من التضحية والمفاداة. ولا بد له من قادة من عظماء الأخلاق والنفوس يقفون في وجه أهل الفساد وأنهم على التفافهم لتسرح فيهم كلمة الحق كما تسرح شرارة النار في الفاف الأجمة اليابسة. يقول الدكتور لوبون إن الفارق بين الأوربيين وبين الشرقيين هو اختصاص أولئك بفريق راق من العظماء دون هؤلاء. كلا. بل لكل نصيبه من العظماء. فللغرب عظماء العقول وللشرق عظماء النفوس. ومن للشرق اليوم بعظيم من أولئك العظماء الذين كان يجود بهم أحياناً. فيقوّم من أوده. ويعزر

من أيده. ويأخذ في طريق الحياة بيده؟؟

أثر القوانين الطبيعية

أثر القوانين الطبيعية في نظام الجماعة وأخلاق الفرد إذا بحثنا في أمر العوامل الطبيعية أيها أشد تأثير في نظام الجماعة وأخلاق الفرد وجدنا أن هذه هي الجو والغذاء والتربة والمناظر الطبيعية. ولنبدأ بالثلاثة الأول ثم نتكلم بعد ذلك عن الرابع فنقول. أما الجو والطعام والتربة فبعضها مرتب على بعض أي أن هنالك سبباً قريباً وصلة متينة بين جو إقليم وبين غذاءه النابت به كما أن ذلك الغذاء يتأثر بالتربة التي تنبته وبارتفاع الأرض أو بانخفاضها وبحالة الهواء. وقصاري القول بجميع تلك الأحوال التي يطلق على مجموعها لفظة الجغرافية الطبيعية. وإذ كانت الصلة بين هذه العوامل الثلاثة الطبيعية على ما ذكرنا من القرب والمتانة - فهي تعمل معاً وتؤثر مشتركات_كان الأجمل بنا أن لا ننظر فيها على انفراد بل ننظر إلى النتائج الناشئة من عملها المشترك وبذلك يكون نظرنا في هذا الموضوع أسمى وأشمل باجتنابنا الإشكال واللبس الناشئ من تفريقنا بين أشياء هي بطبيعتها مجتمعة لا تنفصل. وبذلك يزداد لنا وضوحاً وبياناً مبلغ ما كان للقوى الكونية والعوامل الطبيعية في أقدم العصور من الأثر العظيم في حياة الإنسان. فمن أهم وأقدم النتائج التي يحدثها الجو اجتماع الثروة والطعام والتربة في أمة من الأمم فإن اجتماع الثروة وإن كان بطبيعة الحال يتبع رقي العلوم ولكنه من الثابت الذي لا شك فيه أنه (اجتماع الثروة) في مبدأ تكوين الأمم يكون سابقاً لنشأة العلوم. وما دام كل فرد من أفراد الشعب مشغولاً بتحصيل المواد اللازمة لقوامه واستمراره فلن يوجد فراغ ولا ميل للمطالب السامية من الفنون والمعارف. فمثل هذه الظروف غير خليقة أن تحدث علماً أو تنتج فناً. بل كل ما يسطاع إذ ذاك هو محاولة اقتصاد العمل بفضل تلك الآلات الخشنة الناقصة التي لن يعدم القدرة على اختراعها أشد الأمم همجية وأكثرهم توحشاً. في مثل هذه الحالة الاجتماعية يكون جمع الثروة أول خطوة لأنه لا يكون الفراغ بلا ثروة ولا يكون العلم بلا فراغ. ثم ما دام مقدار المستهلك من الزاد في أمة من الأمم مساوياً لمقدار ما يملكونه فلا يكون هنالك ذخيرة وعلى هذا لا يكون للأمة رأس مال وإذ كان ذلك

كذلك فلن يكون هنالك مادة تعيش منها الفئة التي لا تشتغل. فأما إذا زاد الحاصل على المستهلك تكون من ذلك فضل لا يزال - حسب المعروف من مبادئ الاقتصاد يزداد وينمو حتى يصبح ذخيرة يستمد منها_من طريق قريب أو بعيد كل أمريء لم يخلق الثروة التي يعيش منها. بهذه الوسيلة وفي هذه الحالة يتسنى وجود فئة علمية يمكنهم التفرغ لتلك المسائل التي كان يحجزهم عنها في أول أمرهم شدة الاشتغال بإحراز لوازم المعيشة. من المعلوم أن في الأمة الجاهلة تكون سرعة جمع الثروة على حسب مالبلادهم من الخصائص الطبيعية، نحن لا ننكر أنه إذا فات هذا الدور الأول وجاء الدور الذي فيه تتمول الأمة يكون هناك أسباب أخرى لسرعة جمع الثروة. ولكن ما دام هذا الدور لم يبلغ فإن تقدم الأمة في سبيل الثروة يكون وقفاً على أمرين: أولهما ما يجري عليه العمل من النشاط والاطراد، ثانيهما جزاء الطبيعة من خيراتها على هذا العمل. على أن هذين الأمرين هما بعد نتيجتان من نتائج القوى الكونية والعوامل الطبيعية. فأما جزاء الطبيعة من خيراتها على عمل الأمة فذاك رهن بخصوبة التربة وتلك رهن كذلك بما تحوي من المواد الكيماوية وبما تنال من ريّ الجداول أو سقياً الغيوث وبمقدار حرارة الهواء ورطوبته. وأما ما يجري عليه العمل من النشاط والاطراد فذاك رهن بالحالة الجوّية. وهذا باد في صورتين. الأولى - وهي أوضحهما_أنه إذا كان الحر شديداً فإنه يسلب رغبة الناس في العمل ويقلل كفاءتهم له على حين لو يرزقون جوّاً سجسجاً وهواءً معتدلاً لأبدوا رغبة وكفاءة. الثانية - وهي أقلهما وضوحاً وإن لم تكن أقلهما أهمية_هي أن تأثير الجو ليس قاصراً على تنشيط العامل أو تثبيطه بل يؤثر كذلك من حيث إكسابه العامل أو حرمانه إياه فضيلة الثبات والمواظبة. وهذا هو السبب في أنك لا تجد من أمم الشمال من أوتي من المضاء والمثابرة والجدّ ما قد امتاز به سكان البقاع المعتدلة. وسبب ذلك بين إذا تذكرنا أن قسوة البرد ونقصان الضوء في أقاصي البلدان الشمالية مما لا يزال يعوق أهل تلك الجهات عن المضاء في أعمالهم والاستمرار في أشغالهم. نتيجة ذلك أنه لما كان هذان العائقان يضطران العامل إلى الانقطاع عن عمله فلا جرم أن يصبح هذا الانقطاع لكثرة التكرار عادة ثم يصبح بحكم العادة طبيعة. ولا جرم فلقد انقطع نظام أعمالهم وانبت سلك أشغالهم ففقدوا ذلك المضاء الذي هو من مضمون ثمرات الشغل الدائم والعمل المستمر.

ومن ثم ينشأ في الأمة طبيعة قلق وملل يبرئ الله منها أهل العمل المستمر الدائم. وهذا مرض قوي حسبك برهاناً على قوته أنه يظهر في البلدين المتفاوتي الأحوال المتناقضي الطبائع. فإنه ليس أعظم من الفرق بين السويد والنرويج من وجهة وبين اسبانيا والبرتغال من وجهة أخرى حكومة وشريعة وديناً وآداباً. ولكن هذه الأربع متحدة تمام الاتحاد في نقطة واحدة. وذلك أن الزراعة فيها جميعاً متقطعة غير متصلة. فالحرّ والجفاف في اسبانيا والبرتغال والبرد وقصر الأيام في السويد والنرويج تعوق العمل وتوقف سير الشغل. فمن ثم تري أن أهل هذه البلاد الأربعة على اختلافها في كثير من الأحوال والشؤون قد اتحدت في هذا الخلق أعني نوعاً من الملل والقلق وقلة الثبات والخور مما هو جِدُّ منافٍ لما لأهل البلاد الخالية من عوائق العمل من صفات الحزم والعزم والمضاء والمواظبة. ونحن إذا أجلنا الطرف في تاريخ الأمم القديمة لم نجد أمة أحرزت بنفسها حضارة وتمديناً إلا وكان ذلك بفضل هذين السببين (الهواء والتربة) أو أحدهما. فالمدنية في أسيا ما زالت قاصرة على تلك البقعة العظيمة التي ضمن خصبها لأبن أدم هذه الثروة التي لولاها لا تسرع الأمة قط في سبيل العلم وهذه البقعة العظيمة تمتد ما بين ساحل الصين الجنوبية شرقاً وساحل الأناضول وفلسطين غرباً. وفي شمال هذه المنطقة الفسيحة أرض مستطيلة جرداء مملحة لم تبرح موطن قوم همج رحالة ما زالوا من جدب أرضيهم في فقر وفاقة وقد رأيناهم لا تفارقهم الهمجية ما برحوا بهذه البقعة. فأوضح الأدلة على أنه لا علة لهذه الهمجية إلا الأسباب الطبيعية أن هؤلاء القوم بعينهم وهم أمم المغول والتتر - أسسوا في أوقات مختلفة دولاً عظيمة في الصين والهند وفارس بلغوا بها منزلة في الحضارة لا تقصر عن أسمى ما أدركته أفخم الدول القديمة. لأن بلاد الهند أرض حباها الله بكل ما يقر الأعين وتشتهيه الأنفس فجر أرضها عيوناً وسربلها حدائق وجنات وملأ تربها زاداً وقوتاً، وزبرجداً وياقوتاً، وشحن أنهارها سمكاً وحيتاناً، وبحارها دراً ومرجاناً، وأسكن آجامها ضروب الحيوان ذات الفراء الملس المرقوشة. وصنوف الطير ذات الأجنحة الموشية المنقوشة. في هذه الأرض الطيبة الكريمة كان أول ما نال أولئك الهمج شيئاً من الرقي والحضارة وأول ما أحدثوا علوماً وآداباً وطنية. وهي أمور لم يطيقوا إدراكها في أوطانهم ومساقط رؤوسهم وكذلك إذا نظرت إلى العرب ترى أنهم لم يكونوا في أوطانهم إلا قوماً

أجلافاً جفاة همجاً لشدة أمحال أرضهم، وقد قلنا أن الجهل ثمرة الأمحال والفقر. ولكنهم فتحوا فارس في القرن السابع. وفي الثامن فتحوا أكرم بقاع اسبانيا. وفتحوا في التاسع أرض السند ثم أوغلوا في بلاد الهند حتى استولوا على معظمها ثم لم تكد العرب تطمئن في ولاياتها الجديدة حتى حدث تغير عظيم في أخلاقهم فبعد أن لم يكونوا إلا همجاً جوالة في أوطانهم أمكنهم لأول مرة أن يجمعوا ثروة وبالثروة استطاعوا لأول مرة أن يخطوا خطوة في سبيل المدنية ويضربوا بسهم في جميع فنون الرقي والحضارة وهم في بحيث جزيرة العرب لم يكونوا إلا رعاة رحالة فأصبحوا في مساكنهم الجديدة بناة دول عظام، شادوا المدائن والمدارس وجمعوا المكاتب ولا تزال آثار سلطانهم باقية وآيات عزهم بادية بالبلاد التي كانت حواضر أملاكهم وقواعد ممالكهم قرطبة وغرناطة وبغداد ودلهي ومثل تلك الأراضي الجديدة المستطيلة الممتدة - في شمال الأراضي الخصبة_من شرقي آسيا إلى غربها. أرض أخرى تماثلها جدباً وامحالاً ومنطقة تمتد من شرق شمال إفريقيا إلى أقصى غربها عند ساحل الأطلانطيقي_ويفصلها عن بلاد العرب مضيق مياه البحر الأحمر. فلأن هذه الأرض مثل بلاد العرب جدباً ومحلاً فأهلها كأهل بلاد العرب ما زالوا بربراً همجاً لا علم عندهم لغير سبب سوى أنه لا ثراء عندهم. بيد أن في شرق هذه الصحراء يتدفق نهر من أكرم أنهار الدنيا. قد كسا تلك البقعة طبقة كثيفة من الثرى الجعد تجزي على العمل فيها أكرم الجزاء. وتعطي على الكد بها أجزل العطاء. فكانت نتيجة ذلك أن جمعت الثروة لأهل هذا البلد وجاء على أثر ذلك العلم وأصبحت هذه البقعة الصغيرة مقر المدنية المصرية القديمة. وهذه مدنية كانت على كثرة ما قيل فيها باطلاً من المبالغات تدهش المتأمل بشدة مناقضتها لما كان يشمل الأمم الإفريقية الأخرى من البربرية والتوحش مما قد غمرها غمراً وسد دونها كل منفذ من ظلمات الجهل إلى نور العرفان وأخذ عليها كل مخرج من بيئة الانحطاط إلى ميدان الرقي. فمن هذه الأمثلة نرى أن من السببين الأوليين في الرقي أعني خصوبة التربة واعتدال الجو كانت خصوبة التربة هي العامل الأكبر في مدنية الشعوب القديمة. بينما ترى أن العامل الأكبر في المدنية الحديثة أعني المدنية الأوربية هو السبب الآخر أي اعتدال الجو. وتأثير هذا هو كما ذكرنا تأثير في كيان العامل وتركيب جسده وعقله بمنحه الكفاءة التامة

للعمل مشفوعة بفضائل المثابرة والنشاط والجد. فجاء الفرق بين الحضارتين القديمة والحديثة مطابق للفرق بين سببيهما أعني بين خصوبة التربة واعتدال الجو. فإنه وإن كان أول أسباب كل مدنية هو اجتماع الثروة فإن كل ما يقع بعد ذلك للأمة مترتب من عدة وجوه على الطريق التي جاءت الثروة منها. ففي آسيا وإفريقيا جاءت الثروة من طريق تربة خصيبة تدر على العامل بالكثير الطيب من الخيرات. وجاءت الثروة في أوربا من طريق جو معدل يزيد كفاءة العامل فيمكنه من أن يبلغ من إجادة العمل وإتقانه غاية ينكل عنها ويحسر دونها من أوتي نعمة الخصب ولكن حرم نعمة الجو المعتدل. في الحالة الأولى ترى الأمر متوقفاً على علاقة التربة بالريع أو بعبارة على تأثير بعض أجزاء الطبيعة في بعض آخر. والأمر في الحالة الثانية متوقف على علاقة الجو بالعامل أعني على تأثير الطبيعة لا في نفسها بل في الإنسان. ولما كانت أولى هاتين العلاقتين أعني علاقة التربة بالريع أعني تأثير بعض أجزاء الطبيعة في بعض هي أبسط العلاقتين كانت لذلك أقلهما تعرضاً للعائقات والموانع وعلى هذا كانت أول الأمرين ظهوراً في الدنيا. ومن ثم كان لأخصب البقاع الآسيوية والإفريقية السبق والتقدم في ميدان التمدين والحضارة. ولكن مدنيتهم وإن كانت الأسبق الأقدم. فإنها للبعيدة من أن تكون الأفضل الأدوم. فإن الرقي الثابت ذا الأثر الدائم الفعال لا يكون بخصوبة الأرض بل بهمة الإنسان وجده ونشاطه. لذلك ترى أن المدنية الأوربية التي كان أكبر عواملها في طورها الأول جودة الهواء قد بلغت مبلغاً لم تسم إليه همم تلك المدنيات التي كان الخصب أكبر عواملها. وما ذلك إلا لأن القوى الطبيعية هي على ما يرى لها من العظمة محدودة ثابتة وعلى كل حال فليس عندنا أدنى دليل على أن تلك القوى قد زادت قط عن أصولها أو أنها ستزيد يوماً ما. بينا نجد القوى الإنسانية بناءً على المشاهدات والتجارب والمقارنات لا حد لها ولا غاية. ثم لا دليل يثبت لنا أنه سيكون لرقي العقل الآدمي غاية ينتهي إليها ويقف عندها. وبما أن ملكة النمو الذاتي هي مما خص به الآدمي وامتاز به عما نسميه الطبيعة فقد وضح لنا أن العامل الجوي ذلك الذي يؤتيه الثروة من طريق تنشيطه للكد وإنهاضه للجد هو أنفع له في مسيره نحو الكمال واعون له على بلوغ عليا الدرج والمراتب من العامل الأرضي ذلك الذي يمنحه الثروة لا من طريق استنهاضه وإرهاف حده ولكن بمجرد علاقة جمادية بين

طبيعة الأرض التي يسكنها ومقدار أو قيمة ما تنتجه عفواً بلا عمل منه ولا نصب. والآن ننتقل إلى مسألة أخرى ليست أقل أهمية مما سلف وهو توزيع الثروة بعد جمعها أو بعبارة أخرى ماذا يكون نصيب الطبقة العليا من الثروة وماذا يكون حظ الطبقة الدنيا. أما في الشعوب التي بلغت في الحضارة مبلغاً فذلك يترتب على عدة أمور دقيقة عويصة لا محل لها في هذه الصحائف وأما في الطور الأول من حضارة الأمة قبل أن تنشأ فيها المعضلات والمشكلات فتوزيع الثروة كجمعها يكون طبقاً لقوانين طبيعية. ثم هذه القوانين الطبيعية من القوة والسلطان بحيث قد قضت بالفقر المدقع وقيدت بسلاسل الفاقة السواد الأعظم من سكان أطيب بقاع الأرض فإذا أمكنا إثبات ذلك ظهر لنا مبلغ ما لهذه القوانين الطبيعية من الحضارة. لأنه ما دام قد ثبت لنا أن الثروة منبع من منابع السلطة فإن البحث في كيفية توزيع الثروة هو بمعنى البحث في كيفية توزيع السلطة فلا جرم أن يكون في ذلك البحث شرح وإيضاح لمنشأ تلك الفروق الاجتماعية والسياسية التي ما زال لها دخل عظيم في تاريخ كل أمة ذات مدنية. ولنذكر الآن ما هي تلك القوانين الطبيعية التي بناء عليها يكون توزيع الثروة بين الطبقتين العليا والدنيا أو طبقة العمال وطبقة المدبرين والساسة - الفئة العديدة والفئة القادرة. بما أن الأجور هي أثمان العمل فمقدارها كثمن أي بضاعة يختلف باختلاف أحوال السوق. فإذا زاد عدد العمال عن الحاجة هبطت الأجور وإذا قلّ عدد العمال عن الحاجة ارتفعت الأجور. فإذا كان في بلد من مبلغ من الثروة ليقسم بين العمال وأرباب الأعمال فإن كل زيادة تنشأ في عدد العمال تقلل متوسط الأجر الذي يناله كل واحد منهم. فمسألة الأجور إذن هي مسألة تتعلق بعدد السكان. ونحن الآن نريد أن نعرف ما هي تلك الأسباب الطبيعية التي تحدث زيادة في سكان البلد فتسبب بذلك نقصان الأجور. فأهم هذه الأسباب وأفعلها وأقواها وأكثرها انتشاراً هو أمر الغذاء. فإذا كان هناك بلدان متحدان في كل شيء إلا الغذاء - فالذي يكون الغذاء فيه رخيصاً وافراً يكون أملأ بازدياد السكان من الذي ترى الغذاء فيه أقل وأغلى. وبناء على ذلك ترى الأجور في البلد الأول أنقص منها في الثاني. فليس أمامنا الآن أهم من البحث في أمر القوانين الطبيعية لتي عليها تترتب الأغذية في البلاد المختلفة. وهذا لحسن الحظ مبحث قد أصبح بفضل ما وصلت

إليه الكيمياء والفسيولوجيا في هذا العصر جديراً أن يوصلنا إلى أصدق النتائج وأحكمها. الغذاء الذي يستهلكه الإنسان هو ذو أثرين - أثرين فقط_لازمين لحياته. وهما الغذاء يعطيه أولاً تلك الحرارة الحيوانية التي لولاها تعطلت وظائف الحياة ويعطيه خلاف ذلك بدل الذي لا يزال يفقده من مادة جسده. ولكل غرض من هذين غذاء مخصوص. فأما حرارة الأبدان فتصان بالمواد الخالية من الأزوت تلك التي تسمى اللاأزوتية وأما تعويض خسارة الأبدان فبالمواد الأزوتية التي نتغذاها يتحد مع ما نستنشقه من الأكسوجين فيتولد من اتحادهما ذلك الاحتراق الداخلي الذي تتجدد بواسطته االحرارة الحيوانية. أما في الحالة الثانية فإن قلة الألفة بين الأزوت والأكسوجين تحفظ الأغذية الأزوتية من الاحتراق فتتمكن بذلك من أن تعوّض البدن من مستهلكاته خيراً. هذان هما صنفا الغذاء الأعظمان. فإذا بحثنا عن تلك العوامل التي تدبر العلاقة الكائنة بين هذين الغذائين وبين الإنسان وجدنا أن أعظم تلك العوامل هو الجو. فإن الإنسان إذا كان عائشاً ببلد حار فحفظ الحرارة في بدنه يكون أسهل عليه مما لو كان يسكن بقعة باردة فتقل إذن حاجته إلى الأغذية اللأزوتية التي ليس من شأنها إلا أنها تبقي حرارة البدن عند درجة مخصوصة وكذلك تراه أعني ساكن الأرض الحارة أقل حاجة إلى الأغذية الأزوتية لأنه مذ كان على العموم أقل تحريكاً لجسده من ساكن البقاع الباردة فهو أبطأ استهلاكاً لمادة جسده. وبما أن سكان البلاد الحارة يستهلكون في حالهم العادية الطبيعية من الغذاء أقل مما يستهلكه سكان البلاد الباردة فينتج من ذلك أنه إذا تساوت في البلادين - الحارة والباردة_سائر الأحوال غير ذلك فإن زيادة السكان تكون في البلاد الحارة أسرع منها في الباردة. وأنه لا فرق بين أن تكون وفرة الغذاء في بلد ما ناشئة من كثرة الحاصلات وبين أن تكون ناشئة من قلة الاستهلاك. فإنه إذا كانت أمة من الأمم أقل استهلاكاً للغذاء فذلك ككونها أوفر نصيباً من ذلك الغذاء. لأن القليل في هذه الظروف يفعل فعل الكثير. وكذلك المقدار الغذائي بعينه يحدث من سرعة ازدياد السكان في الأرض الحارة ما ليس يحدثه في البقعة الباردة. ومما يؤيد هذا القول الأخير أن الغذاء في البلاد الباردة أصعب منالاً منه في البلاد الحارة يبذل في سبيل الحصول عليه من الكد والعمل أكثر مما يبذل في البقاع الحارة وسأوجز القول في بيان ذلك الأمر متجنباً الجزيئات والتفاصيل إلا ما كان ضرورياً لفهم هذا المبحث

اللاذ. وقد قلنا أن للغذاء غرضين توليد الحرارة الحيوانية في الجسد والإعاضة بدل المستهلك من مادته. فالأول يحدث بدخول أكسوجين الهواء في الرئتين واتحاده أثناء مروره في الجهاز الحيوي بالكربون الذي نتعاطاه في أطعمتنا. وهذا الاتحاد بين الكربون وبين الأكسوجين لا بد أن يحدث مقداراً عظيماً من الحرارة وبهذه الواسطة نضمن للجسد الحرارة التي لا يبقى بدونها. واتحاد الكربون والأكسوجين لا يكون إلا على نسبة محدودة وهو قانون كيماوي يسري على سائر الاتحادات بين العناصر. فبناءً على ذلك لا يستقيم أمر البدن إلا إذا كان مقدار ما يؤكل من الغذاء الكربوني مناسباً لما يستنشق من الأكسوجين. ثم واجب أيضاً أن يزداد مقدار ما يتعاطى من المادتين إذا خفضت حرارة الجسم زيادة في برودة الهواء. ولما كان الهواء في الأرض الشديدة البرد جم الكثافة لذلك كان التنفس يدخل في الجوف من الأكسوجين أكثر مما يدخله في البلاد الحارة وكذلك لما كان البرد الشديد يستعجل التنفس فيزيد حركة الاستنشاق سرعة أصبح ذلك سبباً آخر لازدياد مقدار المستنشق من الأكسوجين في البلاد الباردة عنه في الحارة. ولذلك كان من الضروري في البلاد الباردة أن يكثر الغذاء الكربوني حتى تحفظ بين الأكسوجين والكربون النسبة التي ليس إلا عليها يتحدان ليحدثا تلك الحرارة الضرورية للحياة. من هذه المبادئ الكيماوية والفسيولوجية نستنتج أن أكثر ما يكون البلد برودة أكثر ما يكون غذاؤه كربونية. وهذه النتيجة العلمية هي عين ما أثبتته التجارب العملية - أعني أنها عين الواقع وهي حكمة آلهية. عليها مدار إصلاح الكون. فترى أن أهل البقاع القطبية يستهلكون مقداراً عظيماً من زيت الحوت ودهنه. وهو غذاء إن يعطه أهل البقاع الحارة هلكوا لا محالة لذلك جعل الله لأهل البقاع الحارة الفاكهة والأرز والبقول والخضر. ولقد ثبت على الفحص الكيماوي أن في الأغذية القطبية وفرة من الكربون وفي أغذية البلاد الحارة وفرة من الأكسوجين وحسبي من التفاصيل التي أخشى أن لا تسر القارئ قولي جملة أن في الزيوت (الأغذية الكربونية) من الكربون ستة أمثال ما في الفواكه (الأغذية الأكسوجية) فأما الأكسوجين فيها فقليل جداً. بينا ترى النشا - وهو في عالم النبات أغذى وأعم غذاء_نصفه أكسوجين.

والغذاء الكثير الكربونية أغلى ثمناً وأصعب منالاً من الغذاء القليل الكربونية الكثير الأكسوجية. فإنك ترى فواكه الأرض - وهي التي أكبر عناصرها الأكسوجين_وفيرة جداً تنال بلا ملاقاة أخطار ويوشك أن تنال بلا تعب. ولكن الغذاء الكثير الكربونية الذي تتوقف عليه الحياة في البلاد الشديدة البرد لا ينال بتلك السهولة والراحة. فهو لا يخرج من الأرض عفواً كالفواكه. ولكنه يستخرج من جثث أبطش الحيوانات زيتاً ودهناً وشحماً وليس يحصل عليه إلا بملاقاة الأخطار ومكابدة الأهوال وكلال البدن كدا وتحلب الجبين عرقاً. ومن الواضح البين أن أبرد ما يكون البلد أكثر ما يكون الغذاء كربونية وأحر ما يكون البلد أكثر ما يكون الغذاء أكسوجية. وقد قلنا أيضاً أن الغذاء الكربوني لما كان مصدره من عالم الحيوان فهو لذلك أصعب منالاً من الغذاء الأكسويدي المأخوذ من عالم النبات لذلك ترى أن أهل البقاع الباردة الذين تضطرهم البرودة إلى انتزاع أطعنتهم من أيدي الحيوانات المفترسة الضارية. ومن بين أنياب الوحوش الفتاكة العاتية. وما زالوا أجرأ وأشجع من أكلة الأغذية الأكسيدية التي تحبوهم بها الطبيعة عفواً بلا تعب. ومن هذا الفرق الأصلي تنشأ نتائج أخرى لا موضع هنا لذكرها. ونما غرضي الآن أن أرى مالاختلاف الغذائين من الأثر في النسبة التي توزع الثروة على حسبها بين الطبقتين العليا والسفلى. المدبرين والعمال. . ولعل فيما أسلفت من الكلام بيان لكيفية تغير هذه النسبة على أنه يحسن بنا لضمان الوضوح والفهم أن نذكر على وجه الإجمال ملخص هذا الكلام وهو. يتغير مقدار الأجور بتغير عدد السكان. فيزيد عند قلة العمال ويقل عند ازديادهم. ثم عدد السكان يختلف نقصاً وزيادة باختلاف مقدار الغذاء. يزيد بزيادته وينقص بنقصانه. ثم الغذاء اللازم للحياة أقل في البلاد الباردة منه في البلاد الحارة. وليس أمر الغذاء قاصراً هنالك على القلة بل يحتاج منه إلى مقادير عظيمة - أعظم بكثير مما يحتاج في البلاد الحارة. وهما سببان داعيان إلى قلة نماء السكان الذين منهم تتألف طبقة العمال. نتيجة ذلك بعبارة موجزة واضحة أن الأحوال في البلاد الحارة تدعو دائماً إلى انحطاط الأجور وفي البلاد الباردة إلى ارتفاعها. ونحن إذا طبقنا هذه القاعدة العظمى على تاريخ الأمم لم نلق إلا شاهداً على صحتها. ولم نلق قط شاهداً واحداً على بطلانها. ففي آسيا وإفريقيا وأمريكا كان مركز المدنيات القديمة

جميعها في المنطقة الحارة. وكانت الأجور فيها زهيدة جداً ولذلك كانت طبقات العمال في ضنك وفاقة. وفي أوربا كان أول ما ظهرت المدنية في جو أبرد. فلذلك ارتفعت الأجور وقل الفرق العظيم بين نصيب الطبقة العليا من الثروة ونصيب طبقة العمال - وهي مزية لا تدرك في البلاد الحارة حيث وفرة الغذاء مدعاة إلى زيادة السكان. وهذا الفرق_فرق ما بين توزيع الثروة في المدنيات القديمة وتوزيعها في المدنية الحديثة الأوربية قد أحدث كما سنرى عدة نتائج اجتماعية وسياسية عظيمة الأهمية. ولكن قبل التكلم عن هذه النتائج أقول أن في المدنية الأوربية مسألة يحسبها من لا يحقق شذوذاً عن القاعدة حتى إذا أنعم النظر وجدها معززاً للقاعدة ومؤيداً للحجة. إن في أوربا أمة واحدة تملك غذاء مفرط الرخص. وهذه أمة الأيرلنديين وذلك أنه في أوائل القرن السابع عشر أدخلت في أيرلندة زراعة البطاطس وقد مضى على الأيرلنديين أكثر من مائتي عام وأهم أغذيتهم هذا المأكول وخاصته أنه أرخص من كل ما يماثله من الأطعمة جودة وطيباً. فملء فدان منه يكفي من الأكلة ضعف ما يكفي ملء فدان من الحنطة. نتيجة ذلك أنه إذا تساوت سائر الأحوال في بلدين فزيادة السكان في البلد الذي غذاء أهله البطاطس تكون ضعفها في ذلك الذي غذاء أهله الحنطة وهذا هو الواقع فإن عدد السكان في ايرلندة كانت زيادته قبل حدوث الوباء بها والهجرة ثلاثة في المائة كل عام بينما كانت الزيادة في انكلترا واحداً ونصفاً في المائة فنتج من ذلك اختلاف كبير بين البلدين في توزيع الثروة فإنه رغماً من أن زيادة السكان في انكلترا كانت على كل حال أكثر من اللازم وأن الأجور لذلك كانت منحطة لا توازي أتعاب العامل فلقد كان حال العمال في انكلترا أنعم حالاً بالنسبة للحال في أيرلندة. ولسنا ننكر أن مما زاد حال العامل الايرلندي شراً جهل الولاة وتلك الحكومة الفاسدة التي كانت أسود صحيفة في تاريخ انكلترا وأقبح وصمة في رونق مجدها. ولكن أفعل الأسباب كان ولا شك انحطاط الأجور الذي حرمهم مناعم العيش بل كثيراً من ضرورياته. وتلك آفة لم يكن لها سبب سوى رخص الغذاء الذي أسرع في نمو السكان حتى زاد عدد العمال عن الحاجة. ولقد قال أحد الأذكياء وكان قد ساح في ايرلندة منذ عشرين عاماً لقد هبطت الأجور حتى صار متوسطها أربعة بنسات في اليوم (ثلاثة قروش تعريفة) وأشد نكبة من ذلك أن هذا القدر الخسيس لا يضمن استمراره.

وكذلك كانت عاقبة رخص الغذاء في بلد هو على العموم أكثر البلاد الأوربية مصادر ثروة طبيعية. ونحن إذا بحثنا أحوال الأمم الاجتماعية والاقتصادية وجدنا هذه القاعدة سارية في كل بقعة ومكان - وجدنا أنه إذا تساوت بين الأمم سائر الأحوال فازدياد السكان راجع إلى الغذاء ومقدار الأجور راجع إلى ازدياد السكان. ووجدنا أنه إذا انحطت الأجور اتسع البون بين نصيب الطبقة العليا ونصيب الطبقة العاملة من ثروة البلد فاتسع لذلك البون بين نصيبي الطبقتين من السلطة والنفوذ الاجتماعي أو بعبارة أخرى العلاقة بين الطبقتين تترتب في أصلها ومنشئها على تلك الخواص الطبيعية التي حاولت أن بين آثارها وأوضح أفعالها. وبإضافة هذه الأشياء بعضها إلى بعض أرجو أن نهتدي إلى ما هنالك من دقيق الصلة وغامض النسب بين العالم الطبيعي والعالم الأخلاقي وإلى ما تجري عليه هذه الصلة من القواعد. وإلى سبب انحطاط المدنيات القديمة بعد ارتفاعها، وانقراضها بعد مجدها وسلطانها.

قريبك الفقير

قريبك الفقير بقلم شارل لام أمرّ شيء في الدنيا عليك قريبك الفقير، تكاتبه غير مبال به ولا حافل وترى في قربه مضاضة وفي جواره أشد الأذى. الله في عون المسكين، أنك لترى في ترداده وخز وجدانك وتحس في زوراته ألم سريرتك. قريبك الفقير هو الظل الشارد الممتد في ضحى سعادتك. هو المذكر المكروه، لا مرحباً به ولا تكريما، هو ثقب يسيل منه نضارك وينحدر ذهبك. رحمة للرجل، أنه لديه الدائن المرذول يلح على عزتك، والمطالب البغيض يلحف على أبائك، وهو الحائل دون نجاحك، الواقف حجر عثرة في سبيل توفيقك. قريبك الفقير هو وصمة في جبينك، وشائبة في دمك، ولطخة فوق درعك، ورقعة في أثوابك، ورأس ميت فوق مائدتك. قريبك المعسر هو الليث راصد لك في طريقك، والضفدع ينق في منامتك، والذبابة تسقط في مرهمك. لا بل هو قذي في عينك، وفرحة لعدوك، ومعذرة لأحبابك، وتنصل منه لأهل ودك. هو العطية التي لا حاجة بك إليها وهو المطر الهامل في موسم الحصيد، هو المر الكثير في الحلو القليل. وارحمتا للبائس، معروف لدى بابكم بدقته. وآسوه! هذا فلان لدى الباب. وما دقته إلا مزيج بين الدالة والتهيب، يطرق بابكم يسأل الحفاوة والترحيب وهو منهما يائس، ويدخل الدار ضاحكة أسرته بسام المحيا فلا يلبث أن يروح حيران مذهولاً. يمد إليك يده ليصافحك ثم يردها متهيباً، ويهبط عندكم صدفة في وقت الغذاء ومائدتك حافلة وقد كثرت على طعامكم الأيدي وأنت محتفل بضيفك فيريد لو ينصرف إلا أن شيئاً يضطره إلى البقاء. ويسقط في مقعد هناك وولدا زائرك جالسان إلى مائدة بجانب الجدار. لا يزوركم في أيام الزيارات، إذ تقول زوجتك، أيها العزيز لعل فلاناً منحدر إلينا اليوم،

ويذكر حفلات ميلادكم، ويعترف أنه سعيد أن تعثر بواحدة منها. مرحمة أيها الناس، حتى خدمكم يعدونه لغزاً من الألغاز ويشفقون أن يكونوا لديه خافضي الجناح من أدب وهيبة، ويتهامس الضيفان بينهم أنهم رأوه من قبل، ويتمعن كل منهم في حالته وكلهم يحسبه من مستخدمي الجمارك! ويدعوك باسمك دون الكنية ليدل الأضياف أن اسمه مثل اسمك، ويأنس لك قليلاً، ويتدلل بقرابتك واثقاً، وتود لو لم تكن هذه الثقة ليده وأن قلة اطمئنانه لك واحتشامه في حضرتك يظهر أنه أمام ضيفانك كأنه تابع اصطنعته لنفسك وصنيعة استخدمته لحاجتك، ولو تشجع لديك بعض التشجع لبدت للناس مكانته منك وعصبيته. هيئته أمامك لا تليق حتى بالصديق ومظهره لا يجمل بالولى. تدعونه لمائدة الميسر فيأبى محتجاً بفقره، وتأخذه العزة بالحق وقد تركتموه في الحجرة وحيداً. فإذا انتثر عقد جمعكم وتفرق عنك ضيفك رأيته يسارع ليأتيكم بمركبة ولكنه يدع الخادم مستبقاً. انه ليذكرك بأجدادك ويرمي في المجلس بحكاية تافهة عن أسرتك ويقص القصص عن أهلك، ويحيي عهوداً نقضت، ويسترجع زماناً ليس له رَجعُ، ويتفهم منك عن ثمن رياشك بلهجة المهنئ المقرظ، ويهينك بمديح أستار نوافذك وحُجُب شرفاتك، ويتجرأ عليك فيقول أنك تجد الراحة كلها في اقتناء مركبة ويسأل زوجتك في ذلك رأيها. وأنت ترى في المسكين ذاكرة شاردة هائمة وتحيات فاسدة باردة وتجد في حديثه غصة ألماً، وفي مقامه عناداً وتشبثاً، وفي مكثه إصراراً وثقلاً. فإذا انطلق من لدنك فلا احتفال ولا توديع، بل أنك لترمي بكرسيه إلى زاوية هناك وأنت تشعر أنك تخلصت من أذية كبرى.

الوقت

الوقت إن بالشرق ويا للأسف لآفات جمة ذهبت بسابق مجده، وأفضت به إلى نقيض شأنه وعهده، وكل تلك الآفات فادح غير أن أفدعهن جميعاً وأقلهن مع ذلك خطوراً على البال إنما هي آفة الإسراف في الوقت الوقت! ذلك الشيء الثمين. . . ذلك الشيء الذي لا يقوّم بقيمة، اللهم إلا إذا جعل في كفة من الميزان وجعلت المدنية بجُمّاع ما أتت به المعجزات في العالم كله منذ مبدأ الخلق في كفة أخرى. ذلك الشيء النفيس لولاد للعجائب، الجالب لضروب السعادات من عقلية وجثمانية المرقي للإنسان، العارف بقدره إلى أسمى درجات العز والمجد هو الذي نفنيه الدقيقة فالدقيقة والساعة فالساعة واليوم فاليوم والعمر فالعمر بلا غلة ولا فائدة، بل هو الذي نعكس آيته عكساً فاحشاً فنقضيه في اللهو والفراغ والأباطيل لنلف بها ألبابنا ونضعف عزائمنا ونصغر همومنا ونقرب آماد آجالنا إلى أن يبلغ أحدنا الكهولة فيشعر ونشعر جميعاً منه بأن الصدأ قد ثلم فطنته تثليماً، وأن الوبالة قد هدت قواه هداً. يعيش صاحبنا السبعين أو الثمانين من طوال السنين فإذا قضى وجمعنا أعماله النافعة فكأنه عاش سبعين أو ثمانين ساعة من مثل هذا الانهماك في اللذائذ والجهل العميم الذي أوخمه عاقبة جهلنا لقدر الوقت وتبديدنا لكنوزه الخلفية بلا حساب. إلى أية نتيجة أفضينا؟ وعند أية نهاية وقفنا؟ خذوا مصر مثلاً وما هي فيه الآن من كل ما ليس يرضى وقابلوا بين تأخرها وتقدم أدنى أمة راقية شرقاً أو غرباً تتبينوا الجنايات الكبرى التي جناها علينا الإسراف في الوقت. أيها السادة لعله ساءكم مني أن أسمعكم عن أمتنا العزيزة وبلادنا المحبوبة ما سمعتم من الحقائق الأليمة في القسم الأول من خطبتي ولكنني تسامحت في ذكرها رعاية لهذا المقام وضنا في الاجتماع الجليل أن نخرج منه ولم نستفد ما يستفيده الحصناء من حقيقة سيئة يكشف عنها النقاب ولا سيما إذ تبدو علامة واضحة الجلاء تبشر بأن في المجموع العظيم من القوم الجثوم القعود نفراً قد أخذوا ينهضون نهضة تشرفهم ومن نتائجها المحققة إن شاء الله أن

تكون داعية لسائر أفراد الأمة إلى الإقتداء. ليس من شأني ههنا أن أعدد ذلك النفر - على أنكم تعرفونهم_وهم اليوم قادة الشعب إما سلطاناً أو علماً أو رأياً بل حسبي أن أتكلم على رجل واحد منهم هو في تلك الطليعة وأراكم قد أدركتم بالبداهة من عنيت فلا حاجة بي إلى تسمية المحتفل به. أيها الأستاذ كان في وسعي امتداحك بكثير لأن فيك شيئاً كثيراً مما يمتدح. ولأن المادة لو أعوزت لا سمح الله فف الشعر على طريقته القديمة متسع للتلفيق المعجب غير أنني رقبت إتضاعك أن أعرض عليه مناقبك جميعها وأكرمت عقلك حين تخيرت بين كرائم شمائلك عن أيثار غير المأثرة التي أردت بها قبل كل شيء أن تمجد وأنت نافع لقومك. كل المحاسن التي جمعها الله في أخلاقك وصفاتك من أسطع الذكاء إلى أذرب ما يكون اللسان الفصيح محاسن خصيصة بك لا تتعدى ذاتك إلا إلى محيط قريب. أما سيدة تلك المحامد وهي التي بكل شعاع مرسل منها تشيع ذكرك وتنير أمتك في آن معاً. تلك هي التي جعلتها محور مقالي وتلك هي التي اعتقدتها أجدر أخواتها بأن تؤثر عنك وتبقى لك جيلاً بعد جيل. عرفت قدر الوقت فحرصت عليه حرص الضنين ولست بغيره ضنيناً فإذا مرت بك الساعة وقبست من جهدك ما قبست فصلت من خلوتك فصال الشهاب من سماء الغيب وقد حمل عظة للمتعظين، وهدي للعالمين. رقيت مناصبك مبطئً أحياناً بجناية من ذكائك عليك، ومسرعاً أحياناً بموافقة الزمان لهمتك على أنك في الحالتين من تمهل وتعجل، وفي المنزلتين من مُعِدّة ومُبِلغة، كنت لأتفرغ من أداء الواجب الذي وظنت عليه كأحسن ما يؤدي حتى تجيء خلوتك وتعرى إلى نفسك من مطامع المهنة وتستريح إلى ضميرك من متاعب ذلك القسم الأول من الكفاح وتقول كما يجب على كل حي أن يقول أن الوقت وديعة الله عندي تحت تصريف عقلي وأن العقل لمعاهدة معنوية بيني وبين ربي على أن أخدم به أخوتي من أبناء نوعها كافة وأبناء جنسي وموطني ولغتي خاصة فلأف بالعهد ولأحسن تصريف الوديعة.

تقول هذا وتجل إلى مائدتك وقد تكون مريضاً فتتغلب على مرضك وقد تكون نصباً فتقوى على نصبك. وقد تشتاق الهواء النقي في الحدائق النضرة التي تطل عليها. ومركبتك على بابك فتلبث. وقد تسمع طرفاً من أحاديث المارة المتنادمين وتود لو متعت بساعات تقضيها في معاشرة أخوان من الظرفاء فلا تنشط لذلك اللهو الطاهر وإن تكن في حاجة إليه بل تمكث يد تقلب الكتب وقلم يصر ولفيفة مشعلة وجبين تكاد غضونه تتحاك من التفكير إلى أن يؤدي فرض النهار. ما أصحك وأنت في تلك العلة، ما أقولك وأنت في ذلك الضعف ما أملأك للمدينة بل للبلدة وأنت في تلك الخلوة ما أصفى مجدك من كل شائبة حين يخرج من ذلك السأم ما أطهر سمعتك وأبعدها عن الريب حين تصدر عنه ذلك السكوت مجوهرة بمصقل ذلك التعب. يجيئنا كتابك تلو الكتاب فيقول أهل القانون هذا خير ما كتب فيه تفسيراً لغوامضه وحلاً لمعضلاته. ويقول السهار على أخلاق الأمة وتحولها الحادث هذا خير ما تعلم منه الجماعة قدرها وتتبين منه طيبها فتحتفظ به أو خبيثها فتقلع عنه آخذة عنه ما حسن عند غيرها تاركة بين يديه ما ساء من أمور سواها ويقول أهل التاريخ هذا سرد مضبوط وهذه مطالعات مثمرة وهذه نتائج ليست بملقاة الحبال على الغوارب وليست بعقيمة ويقول أهل الأدب هذا بيان صاف وكلام عربي تنسجم له آية ينفرد بها وهي أن كل كلمة فيه موضع ولا شيء في خلاله من كذب السراب الملمع. أيها الأستاذ هكذا تعي الحياة الفانية مدي الأدهار الطوال بآثارها الباقيات. . أنه إن لم يكن لك غير هذا ليجل تدرك ويعلو شأنك بين قومك فحسبك هذا. ولكن لك ما عدده الخطباء وما أخفاه على الناس اتضاعك فلست بمحصيه ولست بمستقصيه لكنني أقول للأمة المصرية الكريمة بل لأمم الشرق كافة من على هذا المنبر أن اليوم الذي يعز الوقت فيه على كل فرد في طبقته ورتبته ومهنته كما عز عليك فلا يبدده تبديد السفه بل يصرفه تصريف الحكيم العاقل لأنفس ما بين يديه فذلك اليوم هو مبدأ عهد الفتح للشرق

وأهليه، هو مبدأ استئناف المدنية العربية التي أمتد نورها في الخافقين، هو مبدأ عهد العمران المجدد، والفخر المستعاد، ينضاف فيه أنفس طريف إلى أقدس تلاد.

علموا الأمة علموا الأمة

علموا الأمة علموا الأمة سادتي رجعت إلى المعاجم التمس منها كلمات تسمو معانيها إلى سماء فضلكم أو صيغة حمد تفي بقليل من واجب شكركم، فما راقني لفظ ولا شاقني معنى ورغبت عن التنقيب والاستفادة، إلى الإقرار والشهادة. أنا عاجز، نعم عاجز عن إيفائكم حق الثناء لقاء صنيعكم لكني لن أعجز عن الاحتفاظ بعهدكم، والبقاء على الدوام متأثراً بجميلكم. شرفتم هذا المكان لتكريم خادم ظننتم به خيراً وما خيره إلا منكم وأردتم أن تولوا له فضلاً والفضل أنتم مواليه، ولا أرى في اجتماعكم هذا إلا حركة نفيسة من حركات الأمة تقطع دور السكون وتعن يقظتها وشخوصها نحو الرقي بعد أن اختمرت الأفكار وتمكن اليقين بأن لا حياة إلا بالحضارة ولا حضارة إلا بالعلم، وما أنا إلا ذريعة اتخذتموها للقيام بهذه الحركة المباركة. هذا مظهر خلق جديد كمن حتى اكتمل وسكن حتى نما وتم، خلق لا تقوم أمة بدونه، وهو عماد كل رق وهو محبة الكل خير الكل في كل فرد من الأفراد، وظهور هذا الخلق دليل على ما للأمة من الصفات الكريمة الأولية، ومن الأخلاق الفطرية الاجتماعية، مما إذا عولج صفا وأعلى مكانتها ووصل بها إلى الدرجة التي يستحقها في هذا الوجود. من يخبر حال هذه الأمة ويقف على كنه خلقها ويعرف جيداً حقيقة خصالها، ويدرك الصحيح من آمالها، وينعم النظر في أعمالها، ويقتنع بأن التربة زكية لا يفسد زرعها إلا شيء من البذور الرديئة، وبأن الخلق كريم يغشاه ستار من عدم العلم التام بالواقع، وبأن الآمال كبيرة شريفة لكنها مشوبة بشكوك وأوهام تطوح بنا يوماً ذات اليمين ويوماً ذات الشمال، أما أعمالنا فثمرة هذا وذاك، نهتاج والسكون واجب، ونلهو وكل النجح في العمل وما كان شيء من كل هذا يكون لولا خطأ في تقدير حقيقة حالنا، وعدم التفات إلى حركة البيئة التي نحن فيها، ونسيان لشيء كثير من الماضي ولهو عن الحاضر وعدم اهتمام بما هو آت، ومحال أن تدوم هذه الحال فلا بد لنا من إعداد العدة اللازمة لذلك التحول وما هي إلا العلم. العلم هو سلم الأمم إلى حضارتها، فهو كاشف ظلمات الجهل، ومسدد الآراء، ومنجح كل

مجهود، هو الذي اخترق الأرض فأخرج مكنوناتها، وحكم في المادة فاستلب منها كنوزها، وتسلط على البحار فسادها، ورمي إلى الجو فحلق في القبة الزرقاء طالباً للناس علواً وكمالاً، وقرب الأبعاد فأضاف إلى الوقت أوقاتاً، وضم إلى حياة الناس حياة وحياة، بهذا أنار البصائر، وشد العزائم، وقوى الهمم، فأنهض الأمم وأعلى كلمة التي كان حظها منه وفيراً. أرجو أن يكون في مظهركم هذا دليل على أننا قطعنا دور التنافر والتفرق وعرفنا الصواب بعد أن حجبته عنا الأوهام زمناً طويلاً، ودخلنا من باب العمل الصحيح النافع، واقتنعنا بأن الضعف وما الضعف إلا الجهل يطمس على القلوب ويجعل القوم يرون حسناً ما ليس بالحسن، يظنون أن التأخر آت من عارض خارجي، وأنهم إذا قعدوا عن التماس وسائل التقدم فالمقصد يجذبهم إلى الوراء، لكنهم متى علموا أن العلة ذاتية، وأن الدواء في اليد، وأن قتل الوقت في الظنة والاتهام مضيعة لما يفيد، وداع جديد من دواعي الضعف والتأخر. أرجو أن يكون في اجتماعكم هذا دليل على السآمة من هذه الحال بل على الفزع من أخطارها الاجتماعية الكبرى، وعلى أن العلم الذي ينبث فينا أخذ ينقي الضمائر، ويجمع شمل المتفرقين، ويطهر السرائر، ويوحد كفة المتنافرين، وينير البصائر فيهدينا إلى أن التآزر شرط النجاح، وأن يد الله مع الجماعة وأن التباغض مجلبة الشر، والتنابذ يمهد سبيل الذل، وأن في التضاعن تهلكة للناس. لعل رجائي محقق بإقبالكم على هذا المكان ملتفين حول راية واحدة مع اختلاف العناصر والمعتقدات، ومنبعثين من روح واحد ألف بين قلوبكم جميعاً تعارفتم وجئتم أخواناً فرحين بوجه باسم يحيي موجد هذا الروح وباعثك الشعور - العلم. سادتي ماخيم الجهل في أمة إلا أذلها، وما انبلج ضوء العلم بين قوم إلا عزوا أيها العلماء أيها العظماء أيها الشعراء والأدباء قادة الأفكار دعاة الأمة، أربأوا بها فالسبيل واضحة، علموا الأمة، علموا الأمة.

نوابغ العالم

نوابغ العالم ابن الرومي بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الفصل الأول في تاريخ ابن الرومي لقد كان هذا الفصل بغير هذا العنوان أحق، لانالا نرجو أن نؤدي للقارئ ترجمة لهذا الشاعر محكمة الحدود، مد محبة التأليف، واضحة الطريقة، ولا نستطيع أن نخرج به من هذه الظلمات التي أرخاها عليه إهمال المؤرخين السابقين من العرب، وأسبلها على حياته حظ الأعمى، وجده العاثر. لست أعرف رجلاً أصابه ما أصاب ابن الرومي ولا عظيماً تهاون به النا حياً وميتاً وتناسوا ما يجب له إلا هو، بل لست أعرف قوماً هم أشد استصغاراً لكبرائهم، وأقل إجلالاً لرجالاتهم، وأعظم تهاوناً بحقوقهم، وأضأل تنبهاً لأقدارهم من العرب. وليس يخفى علينا أنّ هذا القول سيقع من نفوس البعض موقعاً سيئاً ويصادف منهم كل السخط وأشد النفور، لأن للقديم روعة وجلالاً وقدراً في النفوس، ومهابة في الصدور، وللجديد المباغت صدمة يضطرب لها الذهن، ويتبلد لها العقل حتى إذا سكنت الطبيعة واطمأن الروع وثابت النفس تبين المرء مبلغة من الصواب وحظه من السداد، ومن أجل ذلك قالوا ينبغي أن يكتب الكاتب على أن الناس كلهم أعداء وكلهم خصوم بيدان من راض نفسه على توخي الصدق والتجافي عن قول الزور ومن شأنه التوق إلى أن تقر الأمور قرارها، وتوضع مواضعها. ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلد الذي يجري مع الظاهر ولا يعدو الذي يقع في أول الخاطر سيتابعنا في رأينا هذا ويؤاتينا على ما نقول وإن آلمته الصدمة، فإن الحق وإن كان صادق المرارة إلا أنه حق. ولنحن خلقاء أن لا تدفعنا العصبية الباطلة والتشرف الكاذب إلى وصف الزور ونسج الأفك وتمويه الحق وتلبيسه بالمين والبهتان، وماذا علينا إن فارت بعض النفوس من الغضب وثارت بها الحمية المصطنعة والحفيظة الملفقة وشهوة المباهاة الكاذبة؟ وما نبالي من سخط ممن رضى إذا نحن اخترنا كل ما فيه للتاريخ رضوان، وهل ترى غضبهم يغير الحق الصراح المعلوم في بدائه العقول؟ أم هل ينفي تسخطهم أن

مؤرخي العرب مقصرون وأن تفريطهم قد ألبس ابن الرومي برداً كثيف النسيج غليظ السرج لا تنفذ العين فيه؟ وليس ينزلنا عن رأينا هذا ماعسى أن يحتج به خصومنا في المذاهب من أن البيت الواحد من الشعر كان يرفع القبيلة أو يحط منها وأن القبيلة من العرب كانت إذا نبع فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر وتباشر الرجال والولدان وأن أمراء العرب وخلفائهم كانوا يقربون الشعراء ويملأون أكفهم بالعطيات، وأيديهم بالجوائز والصلات، وينزلون منهم في أمرع جناب وأصدق منزل، أو غير ذلك من الحجج والشواهد والنصوص التي لا تدفع قولنا ولا تديل منا وإن كانت في ذاتها مما لا يماري فيه ولا ينكر صحته. وذلك أن الهجاء والتشهير وخبث اللسان أوجع ما يتجرعه المرء وتتوجره النفس وما زال الناس في كل عصر يتفزّعون من ذلك ويتوقونه بكل ما في الوسع والطاقة تارة بالعطاء الجزل والنائل الغمر وأخرى بالمصانعة والمداراة أو الوعد أو الوعيد، ومن ذا الذي يرضى أن تشتهر له شهرة فاضحة وسمعة قبيحة، بل من ذا الذي لا يتقي الذم ولا يحفل بالغضاضة ولا يبالي ما قيل فيه؟ أو ما ترى كيف أن الكلمة الواحدة تخرج من فم الرجل قد تعطل تجارة أمة بأسرها وتفقدها ثقة غير هابها؟ والعرب قوم أولو سذاجة شأن كل البدو وسكان الخيم فليس بمستغرب أن يتخذوا من أبسطهم لساناً، وأقواهم عارضة، وأوراهم زنداً، وأسمحهم قريحة، درعاً يحمون بها أعراضهم ويذبون بها عن أحسابهم وسلاحاً يستظهرون به على خصومهم ويستطيلون به على أعدائهم كما كانوا يتقنعون في الحديد لصيانة جسومهم وأموالهم وحريمهم وكما كانوا يعدون الخيول للملاحم والزحوف، وليس بعجيب أن يبسط الخلفاء أكفهم للشعراء بالنوال والمبرات فإن ذلك أطلق لألسنتهم بالمديح وأكفّ لها عن القدح والطعن وأصون للملك وأحفظ له من الضياع. هذه هي حقيقة الحال، وواقع الأمر، وليس في ذلك ما يدل على أكثر من أن الشعراء كانوا بمنزلة الخيول والسيوف والدروع أو ما يُتفكه به على الشراب من النقل وما تزين به مجالس اللهو من الريحان والورد. مهما قيل في الاحتجاج للعرب والنضج عنهم والتنصل لهم مما نحدجهم به فإنه لا ريب

عندي في أن الشعر كان عندهم في منزلة دون التي هو فيها عند غيرهم من الأمم والشعوب ولا شك أنهم لم يكونوا من سعة الروح بحيث يفطنون إلى جلالة الشعر ويدركون ماهيته وحقيقة وعظم وظيفة الشاعر وإلا لكانوا انصرفوا عن هذه السخافات التي أولعوا بها وأمعنوا فيها ولتناولوا من الأغراض الشعرية ما هو أشرف من المدح وأنبل من الهجاء. وهذا باب من القول له اتساع وتفنن لا إلى غاية ولم نكن نحب أن نفتحه لئلا تستفتح أبواب من اللداد خير لنا أن تظل موصدة لأن عهد الناس بأمثال هذه الأبحاث ما زال حديثاً وما زالت عقول السواد الأعظم غضة ناعمة وليس الداء بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفاً والعي منجحا فانك لتلقى الجهد حتى تميل أحدهم عن رأي يكون له ثم إذا أنت قدته بالخزائم إلى النزول على رأيك والصدور عن فكرك عرض له خاطر يدهشه فعاد إلى رأس أمره ولكنا خلقاء أن لا ننكص عن أمر نحن أثرنا غباره وهجنا دفينه، وأحسب أن كثيراً من الناس تهجس في صدروهم هذه الآراء وإن كانوا يشفقون من إبرازها والمعالنة بها، والبلاء، والداء العياء، أنهم ربما ماروك ولا جّوك بألسنتهم، وهم بقلوبهم يطابقونك، جرياً وراء الجمهور وذهاباً إلى رأي الغوغاء والإسقاط. أظهر عيوب الأدب العربي في تقديرنا أثنان فساد في الذوق، وشطط في الذهن عن السبيل السواء، وليس بخاف أن هذين العيبين متداخلان وأنك تستطيع أن ترد الثاني إلى الأول والأول إلى الثاني ولكنهما على تداخلهما واضحا الحدود. وذلك أن العرب وإن كانوا بطبيعتهم شديدي الإحساس، لطاف الشعور، دقاق الإدراك، ككل البدو، إلا أن فيهم جفوة الأعراب وعنجهية البادية، فهم يجمعون بين فضائل البوادي ورذائلهم، وحسناتهم وسيئاتهم، ودماثتهم وتوعرهم، وهم لما ألفوا من الحرية لا يستطيعون أن يكسروا من غلواء نفوسهم، أو يحسبوا من أعنة عواطفهم، ففي كل حركاتهم وانفعالاتهم حدة جامحة بغير لجام، وشرّة ماضية بغير عنان، يبكون ويضحكون، ويثورون ويسكنون، ويحبون ويبغضون في غير رفق ولا أناة حتى لتكاد تلمح في كل أقوالهم وأفعالهم جميع مظاهر الغلو وآيات الحدة ولوائح الطغيان،. . . فكأنهم استعاروا من الشمس وقدتها، ومن الأرض حزونتها وشدتها، وكأن شعرهم العود النابت في الخلاء، لا الزهرة الزهراء في

الروضة العذراء، وكأنما ألفاظهم فهرس للمعاني التي في نفوسهم تشير إليها إشارة البنان، وكأن قائلهم لجلاج تحتشد في خاطره المعاني فيجيل بها لسانه في شدقه ثم يخرجها مزدحمة بعضها في إثر بعض وقد تخرج متصادمة وبينها وقفات يشقي بها صبره. وتعجبني كلمة لصديق لي في وصف الميوز العربية قال: الفرق بين عروس الشعر الإفرنجية وعجوز الشعر العربية أن الأولى تسكن السماء والثانية لا تألف إلا الرسوم المحيلة، والأطلال البوالي، ولا تغشى إلا الأربع الأدراس، فإذا أراد الشاعر أن يستمد منها الوحي ركب إليها ظهور الإبل ومتون النياق، حتى إذا أنثني عنها شغله وصف ما رأى في طريقه إليها من النجوم وكيف كان اهتداؤه بها، وما هب عليه من الرياح، وأومض من البروق خلبها وصادقها، وأظله من السحاب جهامها وماطرها، وكيف أذكره القمر وجه حبيبته المتألق، وجفلة السرب في الظلام نفرتها ليلة السفح، ثم لا يزال يذكره الأمرُ الأمرَ، ويفضي بك من حديث إلى حديث حتى ينسى ما أوحي إليه من بنات الشعر فيجتزئ بما قال!. وهذا القول صحيح لا يدفعه أن قائله رمى به إلى الدُّعابة والمزح، فرب هزل ترجم عن جدّ، والناظر في شعر العرب يجد أن الشعراء جمعاً قد ساروا في طريق واحد، وأن المتأخر منهم يقلد المتقدم ويجري على منهاجه وأن أكثر الفرق أنما هو في اللفظ والأسلوب لا في الأغراض وحسبك ذلك دليلاً على ضيق الروح والحظيرة والعجز عن التصرف في جميع فنون الشعر. لسنا نحاول الزراية على العرب أو الغض من شعرهم وإنما نريد أن نقول أن الشعر العربي لم يجاوز حد الطفولة، ولو أن الله فسح في البقاء للدولة العربية، وزادها نفساً في أجلها وسعة - ولكنه لم يشأ، وأن أحدنا ليقرأ آثار الغرب فيملك قلبه ما تبين فيها من سمات الصدق والإخلاص، ومخايل النبل والشرف، ويستشفه من دلائل الحياة والإحساس بالجمل وحبهما وعبادتهما في جميع مظاهرهما، ويتوسمه من ذكاء المشاعر، ويقظة الفؤاد، وصدق النظر، وصفاء السريرة، وعلو النفس، وتناسبها وتجاوبها مع ما يكتنفها من مظاهر الطبيعة. هذه حقيقة لا موضع فيها للشبهة وما ينكر أنّ الشعوب الآرية أفطن لمفاتن الطبيعة وجلالة

النفس الإنسانية وجمال الحق والفضيلة إلا كل مكابر ضعيف البصيرة أو رجل أعمته العصبية الباطلة عن إدراك ذلك - نقول العصبية الباطلة لأن الحق غاية الوجود، وكلنا سواء في التماسه، فأيما رجل فاز منه بنصيب فهذا السعيد الموفق، وإلا فهو معذور ومشكور، وليس يغض من أحد أنه انصرف عن هذه الدنيا غير منجح. وأنت إذا تأملت شعراء العرب وكتابهم وكبار رجالهم، لتعرف منازلهم من العظمة ومواقعهم من العبقرية، وجدت أولاهم بذلك وأولهم هنا لك، وأسبقهم في استيجاب التعظيم، واستحقاق التقديم، قوم ينتهي نسبهم إلى غير العرب من مثل بشار بن برد ومروان بن أبي حفصة، وأبي نواس، وابن الرومي، ومهيار، وابن المقفع، وابن العميد، والخوارزمي، وبديع الزمان، وأبي إسحاق الصابئ، وأبي الفرج الأصفهاني، وأبي حنيفة النعمان، وغيرهم ممن لا ضرورة إلى حصرهم،. . . وأنت فقد تعلم أنّ للوراثة أثراً لا ينبغي أن يستهان به في تركيب الجسم والعقل، فليس بمستغرب أن يرث مثل أبن الرومي وهو آري الأصل كثيراً من شمائل قومه وصفاتهم، وأن يكون في شعره أشبه بهم منه للعرب، وحسب القارئ أن يقارن بين قصيدة لأبن الرومي وأخرى لغيره من صميم شعراء العرب في أي باب من أبواب المعاني ليعلم الفرق بين المنزعين وكيف أن ابن الرومي أقرب إلى شعراء الغرب وبهم أشكل، وكيف أنه يطلق للقلم العنان فلا يوقفه إلا حيث يقف الخيال، وكيف أنه ربما تناول الغرض فاندرجت تحته أغراض أخرى كالسيل المتحدر فيه من كل أرض غشيها أثر، إلى أخر مزاياه وخصائصه التي سيمر بك الكلام عليها تفصيلاً. ولد علي بن العباس بن جريح وقيل جرجيوس الشاعر المعروف بابن الرومي بمدينة بغداد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين في الموضع المعروف بالعقيقة ودرب الختلية في دار بازاء قصر عيسى بن جعفر بن المنصور من نسل العباس بن عبد المطلب. هذا جل ما ذكره المؤرخون من ترجمة (المبسوطة) في ما وصلت إليه أيدينا من الكتب، وليتنا جهلنا ذلك وأحطنا بغيره مما طووه عنا ودفنوه في زوايا الغيب، وليت شعري أي نفع لنا من علمنا أنه ولد بعد طلوع الفجر أو قبله ولليلتين خلتا من رجب أو بقيتا منه وبالعقيقة أو بغيرها من المواضع التي طمست أشراطها، وعفت رسومها، وأنه كان مولى

عيسى ابن جعفر أو جعفر بن عيسى ما دمنا لا ندري كيف كان منه أو من غيره من الناس، وكيف كانت صلته بأهل زمانه، وكيف كانت مؤالفتهم له ومعاشرته لهم، كأن ابن الرومي لم يكن شاعراً كالبحتري أو المتنبي اللذين امتلأت من أخبارهما الأسفار أو كأنه لا يستحق من عناية المؤرخين مثل ما استحق عمر بن أبي ربيعة وأضرابه مثل كثير وجميل. أو المجنون الذي ينكره بعضهم وينفي وجوده، أو مثل ما استحق مركوب أبي القاسم. ولد في خلافة المعتصم وأدرك الواثق والمتوكل والمنتصر والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد - فلم يؤاسوه بأموالهم ولا أسهموا له في هباتهم ولا استحيوا أن يكون في عصورهم شاعر مثله في الحضيض الأوهد من الفقر والخصاصة ورقة الحال. ولسنا نظن أنه كان مولى رجل من العباسيين وكان متصلاً بالوزير أبي الحسين القاسم بن عبد الله وزير المعتضد وقد روى المسعودي في مروج الذهب عن محمد بن يحيى الصولى الشطرنجي قال كنا يوماً نأكل بين يدي المكتفي فوضعت بين أيدينا قطائف رفعت من بين يديه في نهاية النضارة ورقة الخبر وأحكام العمل، فقال هل وصفت الشعراء هذا، فقال له يحيى بن علي نعم قال أحمد بين يحيى فيها: قطائف قد حشيت باللوز ... والسكر الماذى حشو الموز تسبح في أزي دهن الجوز ... سررت لما وقعت في حوزى سرور عباس بقرب فوز قال وأنشدت لأبن الرومي وأتت قطائف بعد ذاك لطائف فقال هذا يقتضي ابتداء فأنشدني الشعر من أوله فأنشدته لأبن الرومي وخببيصة صفراء دينارية ... ثمناً ولونا رفَّها لك جؤذرُ عظمت فكادت أن تكون أوزّة ... وثوت فكاد إهابها يتفطر يا حسنها فوق الخوان وبنتها ... قدامها بصهيرها تتغرغر ظلنا نقشر جلدها عن لحمها ... وكأن تبرا عن لجين يقشر وتقدمتها قبل ذاك ثرائد ... مثل الرياض بمثلهن يصدر

ومرفقّات كلهن مزخرف ... بالبيض منها ملبس ومدثّر وأتت قطائف بعد ذاك لطائف ... ترضي اللهاة بها ويرضى الحنجر إلى آخر الأبيات، فاستحسن المكتفي الأبيات وأومأ إلى أن أكتبها له فكتبتها اهـ وفي موضع آخر من الكتاب قال محمد بن يحيى الصولي وأكلنا يوماً بين يديه بعد هذا بشهر فجاءت لوزينجة فقال هل وصف ابن الرومي اللوزينج فقلت نعم فقال أنشدنيه فأنشدته: لا يخطئ منك لوزينج ... إذا بدا أعجب أو أعجبا لم تغلق الشهوةُ أبوابها ... إلا أبت زلفاه أن تحجبا لو شاء أن يذهب في صحفه ... لسهل الطيب له مذهبا يدور بالنفحة في جامه ... دوراً ترى الدهنَ له لولبا عاون فيه منظرٌ مخبراً ... مستحسنٌ ساعد مستعذبا كالحَسَنِ المُحسن في شدوه ... تم فأضحى مغرباً مطربا مستكثف الحشو ولكنه ... أرق جلداً من نسيم الصبا كأنما قدت جلابيبه ... من أعين القطر الذي طنّبا لو أنه صور من خبره ... ثغراً لكان الواضحَ الأشنبا من كل بيضاء يود الفتى ... أن يجعل الكف لها مركبا مدهونة أرقاء مدفونة ... شهباء تحكى الأورق الأشهبا دين له اللوز فلا مرة ... مرت على الذائق إلا أبا وانتقد السكرَ نقاده ... وشارفوا في نقده المذهبا فلا إذا العين رأتها نبت ... ولا إذا الطرس علاها نبا فحفظها المكتفي فكان ينشدها اهـ وفي مكان آخر من الكتاب عن أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه قال أخبرنا محمد عبد بن حمدون قال تذاكرنا يوماً بحضرة المكتفي فقال فيكم من يحفظ في نبيذ الدوشاب فأنشدته قول ابن الرومي إذا أخذت حبه ودبسه ... ثم أخذت ضربه ومرسه

ثم أطلت في الإناء حبسه ... شربت منه البابلي نفسه فقال المكتفي قبحه الله ما أشرهه لقد شوقني في هذا اليوم إلى شربه اهـ وإنما استكثرنا من إيراد هذه الأخبار لتعلم أن اسمه كان مذكوراً في مجالس الخلفاء وذكره فاشياً على ألسنة ندمائهم - ولكنه على تصرفه في كل فنون الشعر المعروفة وإجادته في جميع أبوابه وكثرة ما سار عنه من ذلك كان من الفاقة وحقارة الشأن وسقوط الجاه بحيث كان يستجدي من أخوانه الكساء فلا يصيب منه قصاصه، وله في ذلك شعر كثير فمن ذلك قوله لأبي جعفر النوبختي كساء بني نوبخت مهلا فأنني ... أراك تناغي طيلسان بني حرب أعيذك أن تأتي مسيرة ليلة ... وتصبر للتسيير في الشرق والغرب كسآي كساي أنه الدرب بيننا ... فلا تدع الثغر المخوف بلا درب ولا تحسبنّي لا أغرد بالتي ... تليني بها في الحفل طوراً وفي الشرب فاعف بحقي في الشتاء فلن أري ... قبول كساء منك في الصيف ذي الكرب وصبراً فإن الحر باللوم تبتغي ... أنابته والعبد بالشتم والضرب وقوله أيضاً طلبت كساء منك إذا أنت عامل ... على قرية النعمان تعطي الرغائبا فأوسعتني منعا أخالك نادماً ... عليه وفي تمحيصه الآن راغبا فإن حق ظني فاستقلني بمترص ... يقيني إذا ما القر أبدى المخالبا وقوله يابن حرب كسوتني طيلسانا ... يتجني على الرياح الذنوبا طيلسان إذا تنفست فيه ... صاح يشكو الصبا ويشكو الجنوبا وتهب الرياح في أرض غيري ... فتهب القرور فيه هبوبا تتغنى إحدى نواحيه صوتاً ... فتشق الأخرى عليه الجيوبا فإذا ما عذلته قال مهلا ... لن يكون الكريم إلا طروبا طال رفوي له فأودى بكسبي ... يابن حرب تركتني محروبا (للفصل بقية)

فصول في الزراعة

فصول في الزراعة اللغة العربية والزراعة بين ظهرانينا الآن أفراد مخلصون يعملون في السر ولا تعنيهم الشهرة وهم عند النصفة أولى العاملين بالشهرة والذكر لأنهم مخلصون وعاملون بحق وممن نعرف من هذه الطائفة الصالحة حضرة الأديب الفاضل أحمد أفندي الألفي أحد الذين انقطعوا لعلم الزراعة وتوفروا على ترقيته في مصر وهي لعمري أحق البلاد بهذا العلم وأولى بأن يكثر فيها العاملون عليه - وقد تحفنا حضرة الألفي أفندي بفصول عدة في الزراعة نشرناها فيما سلف من البيان لمكانها من جودة الموضوع وجودة الأسلوب واليوم ننشر لحضرته فصلين عنوان الواحد اللغة العربية والزراعة وعنوان الآخر أنواع الأرض، وهما عند أنعام النظر ينمان على قدم راسخة في الأدب والزراعة معاً - قال التربة. ظاهر الأرض بقدر ما يثيره الحرث أي يقلبه ويعبر عنها بالأرض أو أرض الزراعة أو سطح الأرض أو الطبقة الزراعية. الرُفدة. تحت التربة، الذي لا يصل إليه غور الحرث عادة ويعبر عنه بتحت سطح الأرض. الثرى. التراب الندي الذي لم يصر طيناً. التراب. مادة التربة أو الأرض التي تقوم بالرمل والطين (بالمعنى العلمي) وغيرهما. الطين. أحد العناصر المعدنية المقوّمة للتربة أو الأرض والطين لغة التراب المجبول بالماء يقال جبل التراب إذا صبّ عليه الماء ودعكه طيناً. الرَدَغة. ثرى وجه التربة المشبع بالماء وتسميه العامة (روبة). الطُفَال. الطين اليابس خاصة ويقال أرض طفائية أي طينية. المدر. قطع الطين اليابس وتسميه العامة قلقيل. الابليز. الأرض ذات الملوحة والنز. (وتوصف الأرض بأنها) دمثة. إذا كانت سهلة لينة كالأرض التي تعرف بالأرض الخفيفة. مستحصفة. إذا كانت صلبة من شدة اليبوسة خاصة.

ولازبة أو علكة أو لزجة. هذه أوصاف للأرض الطينية التي إذا ترطبت تتلزّج طينتها وإذا يبست تشتد صلابتها. غَمِقة. الأرض المرطوبة برطوبة راكدة أي لم تصرف وهي أرض مكروهة. غَدِقة. الأرض الندية بماء الري خاصة أو إذا كانت ريا النبت أي مروية. (ملحوظة) استعمل معربوا كتاب الزراعة كلا من هذين اللفظين لأحد هذين المعنيين كأن اللفظين مترادفان والمعنيين متحدان وكل ذلك منهم وهم. أريضة. إذا كانت كاملة الخصال للنبات أي إذا كانت طبائعها جيدة. طبائع الأرض أو خصالها. يعبر عنها بقولهم صفات الأرض الطبيعية أو خواصها الطبيعية. والكلمة المستعملة في اللغة هي لفظة (خصال) يقال أرض كاملة الخصال وكذلك لفظة (طبائع) في استعمال فصحاء المعاصرين. ويقال أرض سمينة. إذا كانت جيدة قوية على ترشيح النبت أي تربيته ويقال عنها في العرف أرض سخية. زهاد أو شحاح. للأرض التي يسرع غيض الماء فيها ولا يعود يترشح منها. جَلد. للأرض التي يضعف نفوذ الماء فيها لصلابتها. ريا. للأرض الندية بماء الري خاصة. ثرية. يقال ثريت الأرض إذا نديت ولانت يبسها. (يتلي) أنواع الأرض تقوم الأرض بالطين والرمل معاً وتسمى طينية إذا كان الأول هو الأغلب في تربتها. وتسمى رملية إذا كان الثاني هو الأغلب في تربتها. وتسمى طميية إذا كانا متعادلين ومتكافئين معاً. وتسمى طينية رملية إذا كانا متقاربين تقارباً امتاز فيه الطين. وتسمى رملية طينية إذا كانا متقاربين تقارباً امتاز فيه الرمل. وقد تزيد ملوحة الأرض حتى تفسد تربتها فتعرف بـ الأرض الملحية ومتى نقيت من ملوحتها عرفت بنوعها الطيني أو الرملي * (الأرض الطينية وتعرف بالأرض السوداء) * وهي صنفان ثقيلة وخفيفة

فالخفيفة لينة التربة وسهلة الخدمة يرى ثراها أكدر اللون ووجها ترابي كامد. والثقيلة أغلب طيناً وأكدر لوناً وأصعب خدمة. لزجة إذا رويت شديدة الاستحصاف إذا يبست. * (الأرض الطينية الرملية وتعرف بالأرض الكحلاء) * الين تربة وأسهل خدمة وأفتح لوناً من الأرض السوداء الخفيفة. * (الأرض الطميية وتعرف بالأرض الصفراء) * سلسلة التربة والخدمة غبراء الأديم أما ثراها فهو أغبر بصفرة خفيفة وحينما تيبس عقب الري يعلوه بياض أكثر وأزهى مما يرى في غيرها كما أنه يكون في الأرض الكحلاء أظهر منه في الأرض السوداء. * (الأرض الرملية الطينية وتعرف بالرملية الصفراء) * هشة التربة خفيفة الخدمة رملية اللون بغبرة وصفرة خفيفتين. * (الأرض الرملية) * تعرف بلونها الرملي البحت وبعدم تماسك تربتها حتى أن خدمتها لا تحتاج إلا لمجهود قليل جداً فيما عدا الري والتسميد. * (الأرض الملحية) * ترى ملوحة تربتها أما ذات لون أسمر أو أبيض كامدين والأولى اردأ تأثيراً وأصعب إزالة وتصير التربة صلبة علكة وتعرف بالأرض المرة بينما الثانية تصيرها رخوة. مراتب الأرض من حيث ريها وزراعتها تقسم إلى (أ) أرض رواتب وهي التي تروى دواماً وتزرع بدورة كاملة وهي أرض الدلتا أي الوجه البحري وبعض أرض الصعيد. (ب) أرض مستجدة وهي التي عمرت حديثاً من أرض البراري ونحوها وتروى وتزرع كالأرض الرواتب ومتى تم تنويعها وتحسينها وعمرانها ألحقت بالأرض الرواتب. (ج) أرض الحياض وهي أرض الصعيد التي تروي غمراً مدة الفيضان ولا زرع إلا

زروعاً شتوية وقد تحول كثير منها شمالي الصعيد فصار من الأرض الرواتب. (د) الأرض الموات وهي التي لم تعمر ولم تزرع كأطراف الدلتا الشمالية ومتى عمرت ألحقت بالأرض المستجدة. من حيث موقعها تقسم إلى (هـ) الأرض الجنوبية العالية من الصعيد إلى جنوب الدلتا ونظراً لنقاوتها من الملوحة وازدياد عمق الرواسب النيلية فيها تعرف بالأرض العميقة الحلوة. (و) الأرض البحرية الواطئة شمالي الدلتا. خصب الأرض خصب الأرض في تربتها وكميته بها كبيرة إلا أن الفعّال منه لتغذية النبات حالاً قليل. أما سائره فكامن ومستعد. وبإتقان الفلاحة تزيد مادة الخصب ويتحول الكامن مستعداً والمستعد فعالاً فيزكو خصب الأرض في جميع حالاته. أما إذا أهملت الأرض فإنها تضعف ثم تمحل. ويختلف سمك التربة من نحو 15 سنتمتراً في الارض الضعيفة إلى ضعف ذلك في الأرض الجيدة. أما الرفدة أي تحت التربة وإن كانت مثلها تقوم بالطين والرمل معاً إلا أنها عقيمة لبعدها عن تأثيرات الفلاحة والجو ولكنها تعد وطناً تنمو فيه الجذور الطويلة ومورداً تستعد منه التربة ما استفرغه الزرع من عناصرها المعدنية فضلاً عن شأنها أي الرفدة في تقويم بعض خصال الأرض كدورة الماء مثلاً وقد تكون مفيدة للتربة إذا كانت أي الرفدة سهلة الثرى تحت تربة علكة أو كانت طينية تحت تربة رملية فإنها تعدل مزاج التربة في الحالتين ففي الحالة الأولى تساعد على تصريف رطوبة التربة وفي الحالة الثانية تمنع غيض الماء في الثرى بعيداً عن التربة وقد تكون الرفدة مضرة كما إذا كانت علكة تحت تربة سهلة فإنها تصعب دورة الماء في الأرض فتؤدي به التربة. (يتلى)

القطب الشمالي

القطب الشمالي الرحالة بيرى يصف عودته من القطب الشمالي بعد ربع قرن قضيته في كفاح وجهاد ومساغ ضائعة متتابعة أبى القدر إلا أن أنجح أخيراً فرفعت علم وطني، ذلك العلم الأمريكاني، في بقعة من ذلك القطب يحسدنا عليها العالم طرا. لقد أقمت بالقطب ثلاثين ساعة عصيبة رأيت في خلالها مناظر ومشاهد كثيرة واستطعت فيها أن أجد وسيلة لكتابة رقعة إلى زوجتي استلمتها في سدني. فلما كان اليوم السابع من شهر ابريل سنة 1909 في الساعة الرابعة من المساء بدأنا نعود أدراجنا من المخيم الذي ضربناه في ذلك القطب. ولقد يخطئ من يحسب أن المتاعب قد انتهت بعودتنا وأن ما لاقيناه من الرهق في سفرنا لا نلقاه في رجوعنا. إذ العود أشق والرجوع أصعب أنكد. ومصاب الكبتن سكوت ونحس طالعه في عودته دليل محزن مروع. وبرهان ناصع مجيد. أما أنا فلم يؤبه لعودتي لأني ما كدت أعود إلى أمريكا حتى أهملت ذكر ما حدث لي بعد ما رفعت العلم الموشى بالأنجم الزهر. فوق تلك الثلوج البكر. حتى وصلت إلى موطني. وقد جئت اليوم أروي للقراء تفاصيل ذلك الرجوع. وهم سيجدون أن الرحلة إلى القطب تشابه بعض المشابهة مسألة الطيران في صعوبتها وأخطارها. قبل الرحيل جمعت رجالي إلى حديث سريع ثم أفهمتهم ضرورة الوصول إلى الأرض قبل مد البحر القريب الحدوث. ووجوب استعمال جميع قوانا في تحقيق ذلك الغرض. وألقيت في روعهم أنه يجب أن نجد في المسير وننام النوم القليل وأن نسرع من غير توقف أو تمهيل. فأحدثت خطتي هذه همة كبرى عند أولئك الرجال وجعلنا نطوي المراحل مضاعفة إذ كنا نقطع المرحلة الواحدة ثم نقف ريثما نتناول الشاي وطعام الإفطار وبعد ذلك نواصل المسير فنطوي مرحلة أخرى ثم ننام بضع ساعات فإذا انقضت عاودنا على أننا والحق يقال لم نستطع أن نلزم هذه الطريقة في رحيلنا بل جعلنا نقطع تسع مراحل من ذهابنا في ثلاث من عودتنا وكل يوم يروح عنا بعض ما يعتادنا إذ كنا نشفق أن تندرس آثارنا الأولى

ويمحو تأثير الأرواح على الثلوج مواقع أقدامنا. وكان هناك بعد درجة 87 منطقة متسعة الأرجاء مترامية يبلغ محيطها سبعة وخمسين ميلاً وكنت مضطرب النفس أخشى أن لا نستطيع اجتيازها. ومضت اثنا عشرة ساعة والريح تزف زفيفاً شديداً وتهب هبوباً عنيفاً من كل مكان مذيبة هناك بحراً يجتاز. فتنهدت من أعماق نفسي تنهدة الخلاص بعد تلك الدرجة. ووجدنا في كل مكان آثار المرابط التي كنا نقف بها ورأينا معالم المواقع التي كنا ننزل عندها لم تمح ولم تمس. أما الزاد فكان لدينا وفراً يكفي رجالنا وكلابنا وكنا ننطلق كأنما كنا في حلبة السباق. ولا أنسى تأثير ما كان يخالج أرواحنا من نشاط وهدوء. وجملة القول كان كل شيء في جانبنا وكنا نتسلل وراء بعضنا مسرعين مولين في خلال خمسة الأميال الأولى من سياحة عودتنا. ووصلنا بعدها إلى صدع هناك ضيق امتلأ ثلجاً حديثاً ورأيناها فرصة سانحة نستطيع فيها أن نسبر غور تلك الثلوج ولم نكن فعلنا ذلك من قبل في القطب لكثافة الجليد المتراكم. أما في ذلك المكان فقد سهل علينا أن نحفر حتى الماء. وأرسلنا في ذلك الصدع حبالنا فغابت في الجليد نحواً من مترين وثلاثة أرباع متر دون أن نجد القاع. فلما كان خدمنا وهم من (الاسكيمو) يشدون تلك الحبال انكسرت منهم فهوت إلى القاع بخيطها ورصاصها فتركناها ومضينا في سبيلنا فوصلنا المخيم الأول مبكرين. وحل يوم الجمعة (9 ابريل) فكان يوماً عبوساً قمطريراً أذهبت من الشمال الشرقي ريح عصيبة استحالت عاصفة وإن كان ميزان الحرارة يتراوح بين درجتي 18 و 20. ولحسن الحظ كنا نمشي قبل هبوب الريح إذ يستحيل علينا أن نسير ضد تلك العاصفة الهائجة. ومهما كنا نفعل فإن العاصفة كانت تسوق كلابنا سوقاً وتدفعها إلى العدو دفعاً مستمراً. ولاحظنا أن الثلوج تسير معنا إلى الجنوب وقد ساعدنا ذلك على زيادة سرعتنا. ولم نر

ركام الثلج يتحرك ولا مناطقه تنحدر وإلا لو فعلت لكان لنا شأن محزن وفاجعة كبرى. فلما ضرب الليل خيامه سكنت الريح هونا ما ثم لم تلبث أن مضت تاركة الجو كدراً معكراً ولم نستطع مع الضوء صبراً ولم تطق أعيننا رؤيته وكدنا لا نتبين مواقع آثارنا الأولى. ولم نقطع في ذلك اليوم إلا مرحلة واحدة وإن كانت درجة الحرارة لم تزد عن 10 ولم نحاول أن نجد في السير ونلج في الرحيل إذ رأينا الكلاب قد أنهكها العدو وشعرت بتأثير جريها المتواصل ولزمنا أن نرفه عنا بعض ذلك الجهد ونتهيأ للغد إذ كنت أتوقع في غد متاعب ومحازن - على أنها بحمد الله لم تقع_من ذلك الجليد الذي سنلقاه في طريقنا. ورأينا لزاماً علينا أن نسرح بعضاً من كلابنا فاقتصرنا منها على خمسين كلباً. وكان الأحد (11 ابريل) يوماً صحواً جميلاً طلعت شمسه وبزغت غزالته من بين الغيوم والسحب بعد أن هدمنا خيمتنا وأنزلنا طنبها وكان الهواء رخياً هادئاً ولمشرق الشمس حرارة لذيذة ولبزوغها تألق متوهج ولو لم يكن لدينا مناظيرناالقاتمة اللون لسبب لنا وهج ضيائها مر ضافى أعيننا. وآثر فينا حسن ذلك اليوم وجدد من همتنا ما أخلقه التعب فسرنا بأسرع من قبل حتى قطعنا مرحلتين. فلما ضربنا خيامنا وألقينا بالليل عصانا كنا بمقربة من خط 87. وإلى القراء ما كتبته عن تلك الليلة في مذكرتي فهو يغني عن وصفها مرة أخرى. (نؤمل أن نصل غداً إلى النقطة التي خلفنا عندها مارفان. ولا يسعد خاطري وينعم بالي إلا أن أكون هناك فوق الثلج الكثيف. فإن هذه المنطقة تكون في شهر فبراير ماء غديراً ولا تزال كذلك أودية تسيل حتى أواخر مارس. أما تلك النقطة فمغطاة بثلج صغير يسهل السعي عليه ويحمد المسير فيه. على أنه ليس بالطريق الآمن ولا الوسيلة المثلى للرجوع. اللهم إلا قليلاً) وأقبل يوم الاثنين فقطعنا مرحلة مضاعفة طويلة الشقة انتهينا عندها إلى درجة 86، 38 وأفضينا منها إلى مخيم (أبريز) وإنما سميت كذلك تخليداً لذكرى أبعد نقطة شمالية وصل إليها دوق أبريز. وكانت مواقع الخطى في بعض الأماكن دارسة لا أثر لها. متقطعة لا ترى. على أننا لم نجد كثير عناء في تتبعها. وكان اليوم التالي عصيباً سيئاً سرنا فيه مواجهين ريحاً باردة شمالية ترمينا في وجوهنا

بقطع محددة من البرد كأنما وخزها وخز الإبر بل كانت تنفذ من بين فتحات أثوابنا. على أننا وجدنا في المسير فوق ذلك الجليد الصغير راحة وسروراً. وما همنا شأن ذلك البرد بل حسبناه معاكسة بسيطة ومزاحاً من القدر وخيمنا عند نقطة نانس. وما سميت هذه أيضاً بهذا الاسم إلا لإبقاء ذكرى نقطة شمالية سحيقة انتهى إليها الرحالة نانس فبعد نوم هنيء انطلقنا إلى مرحلة أخرى وهنا بدأنا نشعر بتأثير الرياح الشديدة الهوج وقد سمعنا ونحن نهدم خيامنا صوت الثلج المتكسر وانكسر عن كثب منا ركام من الجليد فانفتحت هناك فوهة كبرى فلم نجد مندوحة من اجتيازها في قوارب صغيرة كانت لدينا. فلما ارتحلنا للمرحلة الثانية اكتشفنا آثاراً جديدة هي ولا ريب آثار الحيوان الذي أنقذناه في سفرنا إلى القطب ولاقينا في الطريق فوهة تبلغ نحواً من ميل. وانحدرنا من جانب القطب نمشي الهوينا إلى مرحلة أخرى. وقد وصلنا في السابع عشر من شهر ابريل المخيم الحادي عشر على مسافة مائة وواحد وعشرين ميلاً من رأس كولومبية ومررنا بأخاديد من الثلج كثيرة كنا نقضي ست عشرة ساعة متوالية في المسير إذا استحال علينا أن نتبين آثار أقدامنا الدارسة. ولما طلع علينا يوم الأحد الثامن عشر من شهر ابريل سرنا ست عشرة ساعة أخرى وهبت في بدئها ريح رخاء لينة وانتهت ببرد يلفح وجوهنا شديد الأذى وابتلت أثوابي من العرق وامتد بنا المسير حتى ذر قرن الشمس فأشرقت في عين حمئة وهبت الريح من تلقاء الجنوب الغربي فتألمت من آثرهما ولفحت الشمس وجهي ولكنني تسليت عنا بالتفكير وجعلت أعلل نفسي عن الألم بأننا أصبحنا على مسافة لا تزيد عن مائة ميل من الأرض. وحاولت نسيان ألم الحمى الموجع من تأثير الشمس والهواء بتسريح النظر في تلك الغيوم الأرضية التي كنا نتبينها ونحن في خيمتنا فلما كان الغدر رأينا الأرض رأي العين ومات ثلاثة من كلابنا وأما الأخرى فبدت عليها علائم الموت. وأما المدة التي بين 18 ابريل والاثنين (19 ابريل) فقد استمر الهواء جميلاً واستطعنا أن تلمح الأرض البراح ووصلنا في سحر اليوم التاسع عشر الساعة الثالثة إلى المراكز التي وضعها الرحالتان مكملان وجود سل في عودتهما وقد قطعنا ثلاث مراحل في خمس عشرة ساعة ونصف وفي اليوم التالي طوينا مرحلة مضاعفة وانطلقنا لدى الأصيل فوصلنا لمخيم

السادس عشر وهناك غلينا القدر وأعددنا طعاماً خفيفاً حتى إذا انتهينا اعتزمنا طريقنا حتى صباح اليوم العشرين من شهر ابريل نريد المخيم الخامس عشر. وفي ذلك الوقت وصلنا إلى منطقة محفوفة بالأذى يعتورها الأخدود الكبير تسلمنا إلى المخيم الخامس عشر ومنه إلى رأس كولومبية. وقضيت ليلة ما كان أمرها وأصعبها إذ أخذتني فيها عوارض كثيرة منصبة جعلتني استدل منها على أنني مصاب باحتقان في الحنجرة على أن مواصلة السير والإسراع فيه خففا ما انتابني من ألم. وبعد يومين أو ثلاثة من مسيرنا لم يحدث فيها شيء غير مألوف وطئت أقدامنا أديم الأرض ورغماً من آلام حنجرتي وليلتي المسهدة فتنني ذلك الخاطر وسحرتني نعمته. أما في باقي سياحتنا فقد اضطررنا إلى إتباع أثر (بارتلت) بدلاً من اقتفاء الأثر الكبير الذاهبة معالمه وليس هنا موضع الشكوى فقد وصلنا إلى نقطة تبعد عن الأرض بنحو خمسين ميلاً أما أنا فقد كانت هذه المرحلة أوجع لي وأشد ألماً أذبت ليلة نبا فيها النوم عن جفني في خيمة شديدة القر وكانت أثوابي مبتلة ندية بالعرق وكنت أشعر بحرقة مستمرة وألم شديد في رأسي وفكي ولكننا ما كدنا ننتهي من المرحلة حتى بدأت أحس بتأثير جرعة الكينا ثم أخذ ذلك الألم يخف رويد حتى زالت أخيراً عوارضه الموجعة. ولم نحسب في ذلك اليوم حساباً لكلابنا إذ رأيناها كأنما فقدت همتها واسترخت لا تستطيع مسيراً. وبدأنا المسير الأخير قبل انتهائنا إلى أديم الأرض في الساعة الخامسة من المساء في ذلك الجو المتألق الهادئ والوقت الساكن الصافي والتقينا بأخدود لم يجتز من قبل وبعد جهد كثير ومحاولة غير مجدية لم نر وسيلة غير إسقاط بعض متاعنا في الماء لنتخفف منها وانقفل الأخدود من جهة الشرق فأتبعنا أثرنا حتى اجتزنا ذلك الشق الكبير. قال روبرت بيري بعد وصف بسيط. لقد أنجزت بغيتي في الحياة وهمي. وأديت للعالم همامتي وشغلي. تلك الهمامة التي كنت أجزم بتحقيقها وأعتقد في انجازها وها أنا قد وفيت بعهدي الذي أبرمت. وصلت إلى القطب بجهدي وحيلتي بعد أن قضيت ثلاثة وعشرين عاماً في سعي ومشقة

وخيبة وحرقة وهم وأخطار. ووضعت في ذمة الولايات المتحدة أكبر ثمن جغرافي ذلك هو القطب الشمالي. ذلك العمل الذي صرفت الأمم المتحضرة له ثلاثة قرون وأضاعت لتحقيقه منهج أبنائها وأنفقت عليه غالي أموالها لم يتذلل إلا لأمر يكا وأنا بذلك قانع راض. . .

تكريم النوابغ

تكريم النوابغ يقول اللورد تنيسون ذلك الشاعر الانجليزي الغَزِل مخاطباً ملتن سيد شعراء البريطان، أي ملتن، يا واضع اللحن المؤتلف ومنشد النغم المنسجم، ومغنياً في الدهر والأبد، يا مزهرَ سِحر أنعم الله به علينا، أن اسمك سيتردد صداه في العصور المقبلة وكذلك مكن الله لملتن وكذلك كان شأن الرجل العظيم. وأنت ترى الناس يقدسون العظيم طوعاً أو كرهاً ويعلمون أن لا غناء لهم عن عظيم، وكل شعب فرح بعظمائه يقدر فيهم جلالة الأخطار، ويمشي إليهم بالإعظام والإكبار، وما العظمة إلا نوع من السحر يجمع بين روح العظيم وأرواح بني وطنه، بل هي نار مشوبة في الزمان القر تؤمها النفوس المقرورة والأرواح الصاردة لتصطلي من حرها ولتجد على النار هدي، ولكل رجل منا عظيم يسكنه فؤاده وينزله ربع قلبه، ولا بدع إذا رأيت الشعب الانجليزي الفخور يجد في شكسبير الآية الكبرى ويأبى أن يساوم فيه بالهند، أجمل درة في التاج البريطاني كما قالت مليكتهم، بل يراه أرجح من الهند كفة. وأغلى ثمناً وأعلى شأناً. وقد تذيع في الخافقين عظمة العظيم فيصبح ملكاً شائعاً ليس لأمته فيه غير حق (التسجيل) فإنك ترى فيكتور هوجو في كل مكان وتسمع بشكسبير في كل بلد وتلتقي بجايتي في كل أرض. وقد تتبادل أمتان عظيما بعظيم فترى الأمة الفرنسية تقدس جولد سمث وتنوه بذكره وتتغنى وتؤثره على كثير من شعرائهم ونوابغ كتابهم بينا تجد الأمة الانجليزية تكبر موليير وتعلي شأن مؤلفاته. وأهل الغرب أعرف منا أهل الشرق بحق العظماء، وقدر النوابغ والعلماء فالعظمة عندهن في كل فن، فالموسيقار النابغة فيهم عظيم، والراقص المبدع منهم عظيم، والمغني الغرد لديهم عظيم، وكل نوابغهم عظماء، وكلهم من ذلك يبغي العظمة ويسعى لها. وتراهم يغارون على آثار نوابغهم فيقيمون بعد موتهم دورهم التي كانوا بها يسكنون، ومكاتبهم التي كانوا إليها يجلسون. ويحفظون الرياش والمتاع ليري الأجنبي كيف يقدسون الأبطال وكيف يعبدون البطولة، وقد قدرت براعة ديماس ذلك الروائي الذائع الصيت بالجم الكثير من الدنانير. ونحن اليوم قد بدأنا نهتدي بهدي الغربيين ونأخذ بطريقتهم ونعرف لنوابغنا وأعيان علمائنا حقهم المطلوب. إذا احتفلنا في السابع والعشرين من الشهر الماضي (يونيه) في دار

الجامعة المصرية بصاحب السعادة نابغتنا العظيم أحمد فتحي زغلول باشا لوضعه سفره الحديث شرح القانون المدني ذلك المرجع الجليل والأثر الباقي ما بقي القانون. وكان المحتفلون به أفاضل المصريين وكرام أدبائهم وعلمائهم وسرواتهم. وكانت اللجنة المنوطة بالتكريم مؤلفة من صاحب السعادة محمد باشا شكري وفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت وأصحابه العزة الأستاذ الكبير النابغة أحمد بك لطفي السيد والأستاذ محمود بك أبو النصر والأستاذ عبد العزيز بك فهمي والدكتور يعقوب صروف. فلما اكتمل الجمع وآذنت ساعة التكريم قام الخطباء الكرام يتلون على المدعوين روائع خطبهم ويشهدون للنابغة بنبوغه ويعترفون بجليل أسفاره وجميل مآثره على أن الوقت لم يتسع لتلاوة الخطب النفائس جميعاً، فأشرق على المدعوين سعادة المحتفل به يشكرهم وهو بالشكر أحق، ويثني عليهم وهو بالثناء أجدر، ثم انتثر عقد الجمع وكلهم عالم بمكان المحتفل به من النبوغ والفضل وقد نشر نافى موضع آخر من البيان ما وسعنا أن ننشره وأننا نتقدم إلى سعادة النابغة بالثناء الجزل والشكر الأوفر وندعو الله أن يهيئ من وقته فرصاً يخرج فيها آثاراً خالدة أخرى لمصر والمصريين. . . .

الملانخوليا

الملانخوليا السوداء أو الجنون الساكن تكفل حضرة الطبيب المصري النابغة الدكتور حسن إبراهيم أن يوالي البيان في سائر أعداده بكلمات نافعة في الطب وكذلك وعد أن سيجعل في البيان باباً للفتاوى الطبية إذا أحب القراء أن يبعثوا إلينا بأسئلتهم الطبية فجزاه الله عن العلم وأهله خير ما يجزي به المخلصون - قال حفظه الله تحت هذا العنوان. السوداء أو الملانخوليا مرض عصبي نفساني ينتقل بالوراثة بنسبة ثمانين في المائة وينشأ من تهيجات عصبية مختلفة بنسبة عشرين. والنساء يصبن بهذا الداء أكثر من الرجال، ويحدث في سن الخامسة والعشرين وقد أصابت السوداء صبية وهم في العاشرة من أعمارهم، وله كذلك أسباب أخرى مثل التسمم من الخمور سواء كان وراثياً أم غير وراثياً والانفعالات النفسانية والرعب والخوف والاهتمام الشديد، وتتمشى هذه العلة في المريض بالتدرج لا سيما إذا كان العليل من والدين عصبي مزاجهما، وفي بعض الأحيان يصيب الإنسان دفعة واحدة أثر انفعال نفساني شديد، والانهماك في الشراب يحدث جنوناً ساكناً لدى الأشخاص الناشئين في أسرة عصبية. عوارضه يأخذ هذا المرض عادة دوره تدريجياً وقد يأتي في بعض الحوادث دفعة واحدة ففي الحالة الأولى يشعر المصاب بخمول وفتور في همته وهمود في حركته ويشكو من صداع وأرق ورغبة عن الأكل وعسر هضم وهزال، وعلامته الخاصة أن يشعر المريض بحزن شديد غير مألوف ولا يستطيع التمييز بين الأشياء ويحس أولاً بارتخاء في عضو التناسل وعدم المقدرة على التفكير وضعف الإرادة والعجز عن القيام بأعماله ويرى في كل شيء يفكر فيه صعوبة ومشقة زائدة ويظن أن قوة عقله قد ضاعت واضمحلت وإذا أحس بأن عقلاً يفكر رآه ضئيلاً. يتكلم قليلاً وإذا سئل عن مسألة أجاب بجمل متقطعة محاولاً أن يجعل جواباً مختصراً ما أمكن الاختصار ويقف بين كل كلمة وكلمة برهة من الزمان وتراه لا يشعر بلذة الحياة ولا يجد للسرور ولا للفرح أي ارتياح ويرى كل شيء أمامه أسود مظلماً وينقطع في كل شيء

أمله ويتصور أنه أضحى فريسة لكل المصائب وإلاكدار ونهباً للأفكار المزعجة وقد يهتم أحياناً بأشياء تافهة وهو في ذلك تام العقل قوي الذاكرة وإذا أراد الاهتمام بأمر شق ذلك عليه ويجسد كل أمر متعباً شاقاً فهو لا يقوى على العمل ويهمل أشغاله وواجباته الضرورية حتى نفسه ويشكو بأنه مريض بأمراض عصبية نفسانية كالآلام والهذيان والصداع والاحتقان وتضعف لديه الرغبة في الأكل بل قد يرفض الطعام بتاتاً وتغشى لسانه طبقة بيضاء ويصير لعابه لزجاً ونفسه أبخر ويصيبه أمساك شديد ويقل نومه وكذلك وزن جسمه وتدل هيأة وجهه على حزن وهم مستمر وتفقد عيناه لمعتهما ويجف جلده وتظهر فيه الغضون ويصاب غالباً بضعف الدم ويصير تنفسه بطيئاً وربما يشكو من اختناق أو خفقان، وتضعف قواه التناسلية. وفي الإصابات الشديدة الوطأة التي تعقب الانفعالات النفسانية تكون قوته العقلية منزعجة جد الانزعاج إذ يتوهم المصاب بأنه ارتكب ذنباً لا يغتفر ون الناس لا تنصح له ولا تزجره وأنه سيبدأ عملاً يخالف القوانين والشرائع ويغضب الله العلي العظيم وتراه من ذلك يبكي بكاء مراً. وفي حالات أخرى يحسب نفسه قد أصبح من العجزة المساكين وأن عيلته لا بد أن تلتجئ إلى ملجأ الفقراء ويتوهم أن لا شيء يسد رمقه. وتجد بعض المرضى يتصور أنه مصاب بمرض عضال لا شفاء منه أبداً كالسرطان أو أن أمعاءه التصقت ببعضها وانسدت أو أنه فقد أعضاءه التناسلية وربما أنكر وجودها إنكاراً. ونتيجة جميع هذه التصورات أن المصاب يتوقع من وهمه حلول عواقب وخيمة عليه إذ يظن أنه سيقتل أو يسجن وفي بعض الأحيان ينتحر المريض أو يموت لامتناعه عن الأكل. ويوجد نوعان من هذا الجنون الشديد الوطأة فالنوع الأول أن المريض يضعف كثيراً ويتخذ شكلاً مخصوصاً في جلوسه ويلبث ساعات طوالاً ساهماً كئيباً ويبدو حزيناً مغموماً وإذا خوطب أظهر خوفاً وجبناً لا سيما إذا تحرك في مقعده وأما النوع الثاني فيكون فيه المريض هائجاً يصرخ ويخطر ويأتي بحركات غريبة ويشد شعر رأسه ولحم وجهه ويعض أظفاره وهو لا يشعر من ذلك بألم وكثيراً ما يلقي بنفسه في الأقذار والأوساخ ويبلغ

به الضعف مبلغه فيموت جوعاً أو تسمماً أو من جروح بليغة. نتيجة المرض يشفى المريض في مدة تتراوح بين أربعة أشهر وسنة وقد تلبث العلة طويلاً فتزمن أما من يصاب بها ثم يشفى فتعاوده نوبات تختلف في شدتها وتمكث النوبة الواحدة من أسبوعين إلى أربعة أسابيع وفي بعض الحوادث تأتي النوبات في أوقات معلومة محدودة حتى أن المصاب لينتظرها وهو متأكد من حدوثها، وأغلب الذين يعرفون أوقات نوباتهم يسارعون إلى المستشفيات

متفرقات

متفرقات غرائب الزواج من العادات الذائعة بين المتوحشين والهمج في هذا العصر عادة تسليف الزوجات عنواناً على الكرم والسماحة والجود. وبين قبائل النير من أهل الملابار تتزوج المرأة من أزواج عديدين وهي تعيش مع أمها وأخوتها أو تنتبذ عنهم مسكناً قصياً حيث يزورها أزواجها متتابعين. وفي هذه القبيلة لا يعرف الرجل أباه ويعد أبناء أخته ورثته من بعده. ومن آداب المتوحشين أن ابنة الزوجة لا يحل لها أن تكلم زوج أمها وأن زوجة الأب لا تظهر على ابن زوجها بل ينبغي أن يكون بينهما حجاب مضروب وأن النساء لا يعتدون بأزواجهن ولا ينادينهم بأسمائهم. المجاعات قد أحصى التاريخ من المجاعات والسنن الشهب التي أثرت في المجتمع أكبر تأثير ثلثمائة وخمسين مجاعة. وأهم الأسباب التي دعت إلى هذه المجاعات ولأنتجت أثرها السيئ على ترتيب أهميتها هي المطر والزوابع والأجرام السماوية والحشرات والهوام والحرب والجدب ونقص المواصلات والقوانين والمضاربة والإسراف في الغلال. المراوح يرجع استعمال المراوح في الأقاليم الحارة إلى زمن متأبد بعيد. وفي المتحف الانجليزي مروحة تمثل الملك سنكريب وحوله نسوة يحملن مراوح من الريش. وكانت المراوح شارة الملك ورسم العظمة عند قدماء المصريين وكذلك كانت في الهند شعار أهل النفوذ وفي بعض الأحايين كانت شارة مقدسة. والمراوح المطبقة مصدرها اليابان ثم ظهرت بعد ذلك في الصين. ومن التحيات وعلائم الود الخالص عند الصينيين أن تدعو صديقاً لك أو ضيفاً ذا فضل إلى كتابة شيء مما يخالجه من العواطف والحب لك على مروحتك. الصوم

تختلف فريضة الصيام باختلاف المناخ والجنس والمدنية واعتبارات أخرى ولا تجد ديناً أو شرعاً إلا فرضه وقد ذكر هربرت سبنسر أن كثيراً من القبائل المتوحشة في مشارق الأرض ومغاربها يصومون لموتاهم ويدخرون الزاد الوفر الكثير يضعونه بجانب جثث الموتى أو في أجداثهم. وكان قدماء المصريين يصومون في أعيادهم الدينية لا سيما عيد ايزيس على أن الصوم لم يكن عندهم كرهاً. السيف أول سلاح امتشقه الإنسان دفاعاً عن نفسه أو عداء على أخيه الإنسان هو السيف وكانت السيوف في غوابر الأزمان من الخشب مثل تلك التي كان أهل المكسيك يشهرونها عندما فتح الاسبانيون أرضهم. وكان سيف الرومان قصيراً عضباً له حدان للقطع والضرب. الإمساك مرض يصيب النساء كثيراً حاداً ومزمناً وسببه بطء حركة الأمعاء لا سيما الكبيرة منها وذلك ينشأ من أحوال كثيرة كفقر الدم وأمراض المعدة والكبد والرئتين والقلب والجهاز العصبي وغير ذلك أو يكون السبب في ذلك الضعف تلك الأغذية التي لا تنبه الأمعاء أو لقلة الرياضات الجثمانية أو أثر مرض معوي بالأغشية أو مرض بالجهاز العصبي كالنخاع الشوكي. وقد يكون الإمساك عادة لا أثر لمرض ولا نتيجة لعلة بل لطعام لم ترتح له النفس أو أكل كثير لم يشرب عليه وأما سببه عند النساء فقلة الحركة والرياضات ولبس المشدات وقد يكون نتيجة الكسل والإهمال والخوف من ضياع الوقت. وعوارضه رغبة عن الأكل وتغيير في طعم الفم ووساخة في اللسان وعسر هضم وتجشئة وضيق في الصدر وخفقان في القلب وتراخ في الجسم وضعف في الدم وصداع ونقط سوداء تلوح للإنسان أمام ناظريه وحدة الطبع وأحلام مزعجة. حمى الملاريا

معدل حرارة الجسم في حال صحته يتراوح بين درجتي 98، 4 و 99، 5 من مقياس الحرارة لفهرينايت (أي نحواً من 37 سنتجراد) وقد يختلف عن ذلك اختلافاً طفيفاً ما لعسر هضم أو قلة رياضة أو لجو البيئة التي يعيش الإنسان بينها. وعوارض الحمى (نريد حمى الملاريا) رعدة تأخذ الجسم وبرودة شديدة وقد يشتد عارض الحمى فيستحيل إلى رجات عصبية كما يحدث ذلك للأطفال غالباً ومع أن الأطباء يسمون هذه الحالة التي تعتري المريض بالدرجة الباردة للحمى فإن حرارة المصاب تأخذ في الازدياد ثم تعقب ذلك الدرجة الحارة فيسخن الجلد ويجف وتزداد الحرارة لدى الغروب وتهبط عند الصبح. وأنجع العقاقير للحمى هي عقار الكينا وبعض الأطباء يصف الكحول على أن الإسراف فيه مضر وأن كان تناوله في جرعات كبيرة يأتي بالشفاء العاجل للمريض. أما الحمى السوداء التي موطنها أرض السودان فأنجع دواء لها خمرة الشمبانيا. فاس كانت مدينة فاس في الأعصر الماضية كعبة زاهرة للعلم وكان بها سبعمائة مسجد وجامعة كبيرة ومعاهد دينية كثيرة ومكتبة من خيرة مكاتب الدنيا وأبهجها وأبرعها علم وأدباً وقد أندرس معلم تلك المدينة وغاب أثر تلك العظمة وتولى ذلك المجد المؤثل وانكمشت فاس إلى عمل الطرابيش وإن كانت النمسا وفرنسا وتركيا تزاحمها في هذه الصناعة. والصبغة التي يستعملونها في صنع الطرابيش إنما يأخذونها من ثمر التوت وهو قيات يستجم في ضواحيها وينبت كثيراً في أطرافها. وكان بناء فاس على المشهور في عام 793 ميلادية شادها أمير مسلم يسمى إدريس. الجميز هو ذلك الثمر المصري الشامي المعروف. وقد كان القدماء يضعونه في الماء أياماً كثيرة قبل أكله أما في الهند يزرعونه لغرض ديني إذ يعده البراهمة والبوذيون نباتاً مقدساً. الفرنسيات والفرنسيون للنساء الفرنسيات الحسان رقة في وجوههن يمازجها شيء من ضعف البشرة وذلك ما

دعاهن إلى استعمال المساحيق ولا تلبث المساحيق أن تحدث الغضون. وانك لترى الحسناء الشابة تبدو عجوزاً شمطاء وهي في الثالثة والعشرين والمرأة الجميلة تخرج لصيد القلوب وقد أربت على الستين وتتصابى وتدل دلال العذراء الغريرة وتروح بمروحتها وتلعب بعينها وترسل لخطبها وتتكلم في العواطف والقلوب الجريحة الدامية والأعين القريحة المسهدة وتقول أنها تموت في الحب والحقيقة أنها تموت من الكبر وطول العمر. ومن غرائب آداب الفرنسيين أن الفرنسي يكلمك بلغته ويطول به نفس الكلام من غير أن ينظر إن كنت بالفرنسية عليماً بل يمضي في حديثه ويلقي عليك ألف سؤال وسؤال ويجيب عنها بنفسه. ولعل الفرنسيين أحسن الناس طهاة ويبجحون بأن كل شيء لهم عظيم فكل حديقة جنة وكل دار قصر وكل امرأة ملاك! ثم تسمع الفرنسي يصبح طروباً يا إله السماء ما أبدع هذا الحسن وما أفتن ذياك الجمال! يا نفس ما هذه العظمة هل ساوانا قوم في علانا وهل في الدنيا أناس مثلنا؟ الجولان في النوم يقوم بعض الناس وهو في سباته ويروح ويغدو غير مستشعر شيئاً ثم يعود إلى فراشه حتى إذا صحا من نومه لم يذكر من ذلك شيئاً بل أن من الناس من يأتي أفعالاً عجيبة تتعلق بشؤونه اليومية ومشاغل نهاره وقد روى أن طاهياً كان ينهض من فراشه فيعمد إلى دلوه فيدلي الرشاء في البئر فيخرج من عينه ماء ثم يعود به إلى الدار فيملأ الأوعية دون أن تسقط من الدلو قطرة ثم ينقلب إلى مهاده فإذا طلع الصبح عليه لم يذكر من ذلك شيئاً ومنهم من يكتب الرسائل وينشر التقارير ويرسم الرسوم ويقع على المعازف والمزاهر وآلات الموسيقى. وقد دلت الملاحظات على أن المشتغل بالكتابة مثلاً وهو في النوم مستغرق إنما تتمثل أمامه صورة خيالية لرسالته وللحروف التي يخطها على القرطاس دون أن يرى حقيقة ما يكتب. لمحة في تاريخ الاشتراكية يرجع تاريخ الاشتراكية إلى عام 1817 إذ وضع الكاتب الانجليزي (أوين) خطة يريد بها

إنشاء مجتمع اشتراكي ثم عرض خطته على مجلس النواب، وفي ذلك العام أخذت آراء سان سيمون وفوربيه وجهتها الاشتراكية ثم بدأت حركة كبيرة في فرنسة وانجلترة واستمرت كذلك حتى عام 1850 وكان بطلا تلك الحركة في فرنسة برودهون ولويس بلانك وقد أخذا الاشتراكية عن سان سيمون وفوربيه أما في انجلترة فقد تبع (أوين) موريس وكنجلي، ومذهب الاشتراكية الحديث يعود إلى فلاسفة الألمان والروس على أنها اليوم تكاد تشيع في كل بلد وقطر. الجعة كان عمل الجعة معروفاً عند المصريين الأقدمين قبل مولد المسيح بمئات السنين ثم عرفها بعدهم الرومان والإغريق والغال القدماء ثم انتقلت من أهل الغال القدماء على مطية العصور إلى عهدنا هذا. وكل الممالك المتحضرة منها والمتبدية في كل عصر وزمان لها خمرة مخصوصة وراح أهلية وقد روى هيرودوت في كتابه أن المصريين لما أعوزتهم خمرة العنب أخذوا يجعلون من القمح راحاً لهم أما اليونان فكانت خمرتهم من الحنطة يشربونها في يومهم وأعيادهم وحفلاتهم وكان باكوس آله الخمر عندهم ومما لا ريب فيه أن اكتشاف الجعة كشراب ترتاح له النفس وتطيب به الروح، أمر قديم له عهد العنب وخمرته، وقبائل جنوب افريقية يعملون من عهد بعيد شراب الجعة من غلة الدخن وجعة الصين من الأرز وخمرة التتر هي حامض لبن أفراسهم. موسم الانتحار شهرا مايو ويونيه في أغلب البلدان هما موسم الانتحار على أن في بافارية وسكسونة يغلب الانتحار ويكثر في شهر يوليه واختلاف فصول السنة بين حر وقر يؤثر في المنتحرات أكثر من المنتحرين لا سيما في ايطالية ودليل ذلك أن تعيسات النساء يؤثرن الانتحار غرقاً وفي الأيام العصيبة الشديدة الحر يزداد عدد المنتحرين وأسهل الطرق في انجلترة للانتحار بين الرجال هو الشنق وأما بين النساء فالغرق وفي ايطالية ينتحر الرجال بمسدساتهم وقلما يخنقون أنفسهم وشقيات الايطاليات يؤثرن إغراق أنفسهن في النهر حتى لقد بلغت الغريقات خمسين في المائة من مجموع المنتحرات واستعمال السم شائع بين الانجليزيات

البائسات.

نبذ من ديوان شكرى

نبذ من ديوان شكرى ضوء القمر على القبور إذا رأى الإنسان ضوء القمر على الزهور خشع من جلالة ذلك المنظر ولكنه إذا رأى ضوء القمر على القبور امتلكه الفزع من قساوة ذلك المنظر الذي يحكي له فناء الجمال في الموت وفناء الموت في الجمال أني رأيت بياض ضوئك موهنا ... فوق القبور كعارض يتهلل ففزعت من ذاك البياض كأنه ... لون المشيب على الذوائب يثقل ولربما كره الفتى صور الردى ... وهو الجريء على الحمام المقبل ولقد رأيتك والقبور كأنها ... أشباح ساكنة النواظر مثل نظر البريء إلى القتيل مجندلا ... والروع في أنفاسه يتعجل ولقد رأيت على الهلال سآمة ... سأماً يعالج مثله المتأمل فكأنه الحسناء يطرقها الردي ... فتبيت تذوي في الفراش وتذبل طورا يريك الموت في لحظاته ... حتى كأن الحسن داء معضل ويبيت طورا في الرياض يعلها ... مما يريق على الفضاء وينهل ابتسامات وميض ابتسامات يضيء جوانحي ... ويجلو ظلام الهم واليأس من صدري إذا ابتسمت ضاء بعيني ابتسامها ... كما ضاء وجه البدر في صفحة البحر يكاد يضيء الغيب في مستقره ... وميض ابتسام فعله صادق السحر واسمع في نفسي أغاريد جمة ... يهيج صداها في الجوانح والصدر كأن بها من صادح الطير شاديا ... يغرّد في روض من الحب والشعر واني لكالبذر الدفين ولحظها ... غذاء كلحظ الشمس للزهر والبذر ويوقظ آمالي ضياء ابتسامها ... كذاك شعاع الشمس يزخر بالذر شعاع ابتسام كالغدير خواطري ... نوازل فيه كالكواعب في النهر فجر الشباب إني لأذكر أياماً لنا سلفت ... كما تذكر صوت اللجة الصدف

فكان للفجر قلب خانق أبداً ... من الحياة ووجه كله لطف والضوء يرقص في الأنهار موقه ... فقدّه مائس فيها ومنقصف وناظر ونجوم الفجر مائلة ... نحو الغروب كما يرنو لها الدنف وكلمتني الرياح في فمها ... سر الطبيعة مخبوء ومنكشف الكسل وصاحبه يحجم حتى كأنما خشيت ... أعضاؤه أن يموت في غده فيدرك الشيء غير طالبه ... ولا ينال المكسوب في يده وراعه أن ينال ما ضمن ال ... سعي فيشقى بقول حاسده يود أن الأقدار تسعده ... فيغتدي شاكراً لمسعده يحسب أن الأقدار ما خلقت ... إلا لتجري بنسج سؤدده شفة شفة تحلت باللمى ... فتبيت تحلم بالقبل غالى بها رغد النعيم ... وفوقها هبط الأمل

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة عكاظ ظهر في هذا الشهر (يوليه سنة 1913) صحيفة أسبوعية تطلع الناس صباح كل أحد أسماها صاحبها الفاضل (عكاظ) والشيخ فهيم قنديل هو أحد خريجي الأزهر الذين احلولى لهم أن يحترفوا بالصحافة فانتظم في سلك كتاب اللواء حيناً من الدهر حتى إذا انتثر عقد تلك الجريدة أبى الشيخ فهيم لما آنسه في نفسه من الكفاءة الصحفية إلا أن ينظم للناس قلادة أدب. في لغة العرب. يود المطلعون إليها أن تكون كما ترجو مصر. من أبناء هذا العصر. فتكون مثال أدب النفس. وأدب الدرس. إن شاء الله. شرح القانون المدني لسنا الآن بسبيل تقريظ هذا الكتاب الجليل الذي أقام الدنيا وأقعدها وبسبب ظهوره في مصر احتفل رجال القانون من قضاة ومحامين بمؤلفه النابغة العظيم سعادة أحمد فتحي زغلول باشا. وهذا الاحتفال وحده من رجال القانون دليل فيه غناء عن تفريط الكتاب - أما الكتاب فيباع بمكتبة البيان وثمنه مائة قرش وأجرة البريد ثلاثة قروش. واجبات الرجل أهدانا حضرة الفاضل محمد أفندي بشير الموظف بجمرك الإسكندرية الجزء الأول من كتابه واجبات الرجل للنابغة العظيم يوسف مازيني والكتاب جليل مشهور يفيد القارئين. وهذا الجزء الأول يحتوي الكلام على حياة مازيني ويقع في نيف وتسعين صفحة وثمنه ثلاثة قروش وأجرة البريد قرش ويطلب من مكتبة البيان. تقويم البلدان كتاب نافع محكم في علم تقويم البلدان الجغرافية للفاضل الأستاذ محمود أفندي مراد المدرس بمدرسة الناصرية بالقاهرة وقد أهدى إلينا حضرته نسخة من هذا الكتاب فوجدناه عند ظننا بصاحبه الفاضل إذ عني فيه بضبط الأعلام وتنسيق الأبواب وإتقان خرائطه التي تبلغ نحو من ستين وهو يطلب من مكتبة البيان. سر تقدم الانجليز السكسونيين

طبعت مكتبة البيان هذا الكتاب الاجتماعي النفيس للمرة الثالثة وثمنه عشرة قروش و15 و 20 حسب نوع الورق وأجرة البريد قرشان. محاسن الطبيعة وعجائب الكون يعلم قراؤنا أننا كنا شرعنا في ترجمة كتاب جمال الطبيعة للورد أفبري ونشرنا منه في العددين الثاني والثالث من السنة الثانية أربعاً وعشرين صفحة ولكن عاقنا عن إتمام الكتاب أن علمنا قيام جناب المترجم البارع وديع البستاني بترجمة هذا الكتاب وكذلك ترجمه فأحسن ما شاء. وأسماء محاسن الطبيعة وعجائب الكون وقام بطبعه أحسن قيام الرجل المجتهد متري صاحب مكتبة المعارف ومطبعتها. وثمن هذا الكتاب 6 قروش صاغاً ويطلب كذلك من مكتبة البيان. التصريف الملوكي كتاب جليل في علم الصرف لإمام النحويين أبي الفتح عثمان بن عبد الله بن جني النحوي. عني بتصحيحه وطبعه ووضع فهرس له مع إضافة فوائد من هذا العلم إليه الفاضل السيد محمد سعيد بن مصطفى النعسان الحموي. وقد زارنا السيد محمد سعيد القائم بطبع هذا الكتاب فرأينا منه رجلاً مخلصاً متوفراً على ترقية هذه اللغة والعمل على تسهيلها وتقريبها لمدارك الناشئين. وهذا الكتاب يحتاج إليه الناشئ وطالب العلم والأديب.

مجلة البيان

مجلة البيان بعث إلينا أحد كبار الكتاب في مصر الكلمة الآتية تحت هذا العنوان - وكلها كما يرى القارئ مدح وإطراء لهذه المجلة ولصاحبها_ونحن فلا نرى أننا أدينا لأمتنا الكريمة من الواجب ما نستأهل له بعض هذا الحمد والثناء. ولولا ما نجتليه أثناء سطور هذه الكلمة من آيات الإخلاص والغيرة الصادقة والحمية الشريفة لكنا اجتزأنا عن نشرها بالشكر لصاحبها المفضال_قال غفر الله لنا وله. الأزمنة كالأمكنة فيها المثمر العشيب، والممحل الجديب، وأعشاب الزمن وأجدابه، إنما هو بإثرائه من العلوم والأخلاق أو بأنفاضه. ولقد قدر لي والحمد لله أن أقضي حياتي بأحسن الأماكن وأسوأ الأزمان. وأنفق ساعاتي بألأم العصور وأكرم البلدان. فأنا أعيش في روضة (مصر) من أخصب رياض الدنيا. ولكن في صحراء من أفقر فيافي الزمن. تمتد فيها رمال الجهل إلى غير نهاية، ويستعر فيها هجير اللؤم والقسوة تحت سمائم الشغب والصخب. في مثل هذه البيداء الزمنية لا يجد الإنسان - ولا يرجو أن يجد_أدنى ظل لأكرومة، ولا أحقر غرس لمحمدة ولا أضأل منهل لعرفان. وأن تواتر على عينه سراب هذه الفضائل بالغرور والخديعة. وصادف هنا وهنالك وشلا من علم وضحضاحاً من أدب. وكذلك كل ما لقيت بهذه الصحراء الزمنية. إذ أسافر فيها على مطيتي الليل والنهار. وأنا أقول في نفسي أما آن أن نفضي إلى عين من الطبع الكريم جارية، وبئر من الخلق العظيم صافية، وشجرة من ورق العرفان حالية، وقطعة من ظل المروءة ضافية - أعلل النفس بهذه الآمال وأمثالها إلى أن سرى إليّ في أواسط عام سنة 1911 نسيم طيب شممت فيه ريح الأستاذ الإمام محمد عبده وإذا مهب ذلك النسيم من أوراق شجرة أنبتها نهران غزيران أحدهما يفيض من ذهن الشيخ عبد الرحمن البرقوقي والثاني ينبع من جيبه. وسألت عن اسم هذه الشجرة البرقوقية فقيل هي مجلة البيان. ألا حيا الله هذه المروءة وأيد الله تلكم الهمة، لقد راعني والله ما رأيت وحير لبي وهالني حتى رابني الأمر واشتبه عليّ الزمان والمكان أين أنا؟ في أية جهة أنا! ألست في عصر الجمود واللؤم؟ ألست في عصر المادة والجوع والشره، واصطدام الذئاب على تلك العظمة النخرة، والجيفة القذرة التي يسمونها الدنيا؟ ألست في عصر المعدن - عصر الحديد الذي

شاع فيه الحديد وفشا حتى لكأنه دخل في الأجساد فاغتصب مكان الأفئدة بعد أن طردها من أبدانها فلا قلب إلاَّ من حديد. ولا كف إلاَّ من حديد. بئست القلوب والأكف. وكأنما الناس آلات من الحديد وقد كف الله لأمر ما عن أن يخلق البشر وأحال ذلك العمل على فابريقات برمنجهام ومانشستر. ألسنا في عصر الذهب، ذلك الأصفر الخداع الذي تفض صفرة الهم والذل على متداوليه وطلابه - ذلك المفتر عن شبيه ابتسامة المعشوقة المومس تقود من تشاء إلى حيث تشاء من مهالك الخسران والندامة. ألست في عصر الاقتصاديين والأنانيين الناهين عن البذل والمعروف، الآمرين بالشح واللؤم. بلغوا غاية الرذيلة بمذهبهم استبقاء الأجود وإعدام الأردأ واشتغال المرء عن جميع المخلوقات بذاته. أما زال في هذا العصر. أم قد عدت إلى عصر النجدة والبطولة وأيام صلاح الدين وريكاردوس وعهد دون كشوت وسانكوبانزا؟ بلى لا أزال في عصر لتمدين الوحشي ولكن الأرض لا تخلو البتة من روح صلاح الدين وايفانهو. لقد لأتى على انطانيوس قيصر وقتان ضدان بلغ في احدهما منتهى الذم والنعمة، وفي ثانيهما غاية الحمد والمحنة، أما الأول فذلك حين كان يتقلب في أحضان ملكة الجمال - كليوبترا_وأما الثاني فذلك حيث كان يأكل الحنظل والمرار في بعض غزواته. والمحنة مع المجد أحلى ولا شك في نفس العظيم من النعمة مع الضؤولة. والعظيم لا يطيق الضؤولة إلا ريثما يتحول عنها. أيها الناس أرأيتم غير السيد البرقوقي رجلاً انفسحت له نعمة، وصفا له مورد العيش. فما راقه هذا إلا أن يشمر للمجد وينجرد في سبيل العلاء فأنش المجلة وأنفق عليها المال الجم. وليس بأقل من ذلك. ما أنفقه على مطبوعات البيان وكثير هي. ولعمر الله لو أن شركة قامت بكل هذه الأعمال لخارت قواها وكلت عزائمها مع ما هنالك من المثبطات والعوائق ولكن الفرد العظيم كالملك العظيم. هذا خير من الشركة وذاك خير من الجمهورية. والشيخ أيده الله قد أظهر أكبر الفضل في براعة أسلوبه وجودة إنشائه ولطف تخيله ودقة تصويره بما لا يترك أدنى مجال للشك في أنه كاتب جليل ومفكر قدير. ثم في اصطفائه للمجلة صفوة كتاب العصر ومصاصة ادبائه ثم تخير الموضوعات التي لا ترى بينها إلا

جلائل المسائل وبدائع الفن. ثم في تعريب نخبة ما كتب الإفرنج. كل ذلك في أجمل قالب وأرشق معرض وأحسن سياق، فقد أودع أحسن المعاني أحسن المباني. فكأن هذه في تلك عتيق السلاف، في القدح الشفاف، ثم المثابرة والمواظبة وارتخاص المال وامتهان الجسد والروح في هذه السبيل. وذلك مالم نره في آخر من أهل هذا العصر ولا ما سلفه. اللهم إلا عصور النجدة والبطولة تلك التي ذكرت آنفاً. وعندي أن مجلة البيان ومطبوعاتها فتوحات جديدة في تاريخ الأدب العربي. وثروة حقيقية أضيفت إلى مادة ذلك الأدب. وللمتنقل بين أبواب المجلة ومطبوعاتها لذة المتجول في أرض جديدة يملأ عينه من جمال بهجتها، وكفه من جزيل خيرها وبركتها، وقد جمعت المجلة فنون الأدب بحذافيرها. وبلغت غاية الإتقان في كل ما جمعت. ففيها النقد الأدبي وفلسفة النقد الأدبي. لا أريد التقريظ والهجاء كما يفعل معظم الناقشين بالمداد على الورق. ولكن النقد على الأسلوب العربي القديم. والأسلوب الإفرنجي الحديث. ذلك الذي هو أولى أن يلقب تشريحاً إذ كان أشبه الأشياء بالتشريح الجراحي يكشف عن خفايا الكتاب المنقود وغوامضه، فكأنه للقارئ مجهر يريه ما لطف ودق عن أن ينظر إلا ببصيرة نقادة جهبذ. وفي المجلة كذلك التاريخ الروائي ذلك الذي يكتبه صاحب البيان بعنوان حضارة العرب في الأندلس والذي حاز إعجاب القراء على اختلاف ضروبهم وأشكالهم وتعدد مشاربهم وأميالهم وهي طريقة جديدة في كتابة التاريخ، وخطة بكر لم يحاولها غير السيد قبل، ومع ذلك فقد ذلل السيد صعابها، واقتحم عقابها، وألف الله على يديه بين التاريخ والرواية، وهي غاية في التوفيق ليس دونها غاية. وفي المجلة كذلك الرواية وقد كانت تنقل عن الإفرنجية ثم شرع كتاب البيان أخيراً أن يكتبوها بأقلامهم وابتدأ العقاد فبرهن بمذكرات ابليس على أن ملكة الروائي ليست مما توحد به الغربيون. ولكنها كامنة في المصري تنتظر من كف الزمن قادحاً ومثيراً. وفي المجلة كذلك الرسائل الأخلاقية والاجتماعية والفكاهية والهزلية وفيها القصائد والمقاطيع وفصول التربية والتعليم والفلسفة والعلوم الطبيعية والزراعية والنبذ الوصفية. ذلك إلى ما ينشر فيها من غير المطبوع من نفيس آثار العرب تحت عنوان صحائف مهجورة ولعمر الحق لست أدري أي باب في الأدب لم تطرقه المجلة.

إن مجلة هذا شأنها كان فرضً على كل قارئ من المصريين أن يقتنيها مغتبطاً بها مقتنعاً أنه غانم رابح بل أنها أربح صفقة وأكبر غنيمة أأقول كان ذلك فرضاً على كل قارئ من المصريين؟ ضلة لي، لشد ما بان مني الصواب. وكأني لم أدر بالذي يفرضه على نفسه الناشئ. بل خريج المدارس من الواجبات؟ كأني لم اسمع بالكسل والغرور ومعاداة العلم وأهله وتطليق الكتب والتجرد من المحامد والتعري من المكارم وكأني لم أسمع باللهو واللعب وسهر الليل ونوم العصر والعصي الآبنوس والمنشات والكتاين والمركبات والجزيرة والحلويات ومصر الجديدة. كراهة الاطلاع ومعاداة العلم مع النفخة والغرور. هذا داء مصر الذي لا نجاح لها إلا بعد الشفاء منه ومتى يرجى الشفاء والداء عقام؟ ولكن اليأس سم الحياة، وما أعلم شيئاً أقتل منه للهمم والعزائم. فدعنا من اليأس وأمل خيراً وأنشد عصبة المتخرجين والطلاب وسائر القراء. أي عذر لكم في عدم قراءة جيد الكلام مجلة كان أو كتاباً أو رسالة قديمة أو حديثة عربية أو أجنبية وقل لهم هل أنتم - معاذ الله_من السذاجة بحيث تحتاجون إلى معلم يعرفكم أن أنفس الموجودات طرا هو الكتاب؟ وإذا كان ذلك كذلك فما بالهم يأتون كل أمر إلا اقتناء الكتب أين الأذهان والعقول ألا أن بالإبصار عن حكمة عمى * ألا أن بالإسماع عن عظة صم الخ الخ

موضوعات البيان

موضوعات البيان من بين موضوعات البيان التي لم يستيسر لنا نشرها في هذه الأعداد وسننشرها في العدد القادم مقالة (تمصير اللغة) لأديبنا الكبير النابغة السيد مصطفى صادق الرافعي، وكذلك رسائل اللورد شيسترفيلد ترجمة الكاتب الفاضل عز العرب أفندي علي، وكلمات للسيدة الفاضلة (فتاة النيل)، وهنا نقول أن من بين موضوعات العدد القادم كذلك تاريخ الأندلس، ومبحث يليه مباحث في الاقتصاد السياسي، وثروة الأمم لكبير كتاب الاقتصاد الأستاذ آدم سمث ترجمة الكاتب عباس حافظ، وفصل جليل في سر انحطاط المدنيات القديمة من كتاب مدنية انكلتره للعلامة بوكل، وموضوعات أخرى كثيرة تشوق القارئين. اعتذار نتقدم إلى قرائنا الأفاضل بالمعذرة عن تأخر هذه الأعداد الثلاثة عن مواعيدها إذ كان موعد العدد الخامس سَلخ جمادى الأولى، والسادس جمادى الثانية، والسابع سلخ رجب الأصم، فأظهرناها معاً في هذا اليوم (20 شعبان) وكان من حق القراء المقدس لدينا أن نظهرها متفرقة في أوقاتها لولا ما طرأ في البين من اشتغالنا بنقل إدارة هذه المجلة ومكتبتها ومطبعتها من مكانها الأول إلى مكان رحيب بشارع غيط العدة أمام دار الجريدة. على أننا عوضنا على القراء بأن زدنا هذه الأعداد صفحات أخرى علاوة على صفحات الثلاثة الأعداد تبلغ نحواً من أربعين صفحة وبذلنا الجهد في انتقاء الموضوعات المفيدة للقراء كما يرى الناظر إذا هو دقق النظر وأنعم الروية. وكذلك شأننا منذ أنشأنا هذه المجلة لا نألو جهداً في إتقانها وتخير موضوعاتها وبذل النفس والنفيس في هذه السبيل إلى الغاية التي لا ورائها والله الهادي إلى سواء السبيل. استدراك ذكرنا من بين وكلائنا خطأ حضرة الفاضل السيد عبد العزيز بن عبد الرحمن والحقيقة أنه السيد عبد الله بن عبد الرحمن في بندرمهاراتي - جوهر بالهند.

تمصير اللغة

تمصير اللغة نريد بهذا التمصير ما ذهبت إليه أوهام قوم من الفضلاء يرون أن تكون هذه اللغة التي استحفظوا عليها مصرية، بعد أن كانت مضرية، وأن نطّرد لهم مع النيل بعدد الترع وعداد القرى حتى ترسل الكلمة من الكلام فلا يجهلها في مصر جاهل ويصدر الكتاب من الكتب فيجري من أفهام القوم في طريقة واحدة ويأخذ منهم مأخذاً معروفاً غير متباين بعضه من بعضه ولا ملتو على فئة دون فئة ومن ثم يزين لهم الرأي أنه لا يبقى في هذا الجمّ الغفير. . . من علمائنا وكتابنا وأدبائنا من لا يعرف أين يضع يده من ألفاظ اللغة ومستحدثاتها إذا هو كتب أو مصَّر عن لغة أجنبية - ولا نقول عرّب فإن هذه بالطبع غير ما نحن فيه_بل يأخذ من تحت كل لسان ويلقف عن كل شفة ولا يبعد في التناول إلى نضطرب واسع ولا يمضي حيث يمضي إلا مُخِفّاً من هذه القواعد وتلك الضوابط العربية إذ تتهادن يومئذ العدوتان هذه العامية وهذه الفصحى وتصلحان بينهما صلحاً أن لا ترفع إحداهما في وجه الأخرى قلماً ولا لساناً وعلى أن تبيح كلتاهما للثانية حرية الانتفاع بما يشبه حرية التجارة إلا في المواد المضرة التي يعبر عنها دهاة السياسة اللغوية بالألفاظ العامية المبتذلة والألفاظ العربية الغريبة - ثم على أن تحفل إحداهما ما تركت الأخرى مما سوى ذلك فتستمر العامية على ما هي وتذهب الفصحى على وجهها. يقولون أن هذه هي شروط الصلح بين اللغتين أو هي المعاني التي ترجع إليها وتترادف بها متى أرادوا أن يبسطوا من هذه الشروط ويخرجوا بها إلى التعدد والكثرة، وإنما تلك آراء كان يتعلق عليها بعض فتياننا إفراطاً في الحمية ومبالغة في الحفيظة لمصر وأملاً مما يكبر في صدورهم على ما ترى من تهافتها وضعف تصريفها واضطراب أولها وآخرها لأنهم لا يثبتون النظر فيها ولا يحققون خطوة ما بين الإرادة والقدرة وفَوتَ ما بين الأمل والعمل ثم لا يعرفونها إلا أحلاماً قريبة الأناة ساكنة الطائر فكان ذلك عذر العقلاء إذا مروا بها لماماً وتروحوا بالأعراض عنها سلاماً حتى تناولها الأستاذ مدير (الجريدة) فحذفها وسواها وأخرج منها طائفة من الرأي تصلح أن تسمى عند المعارضة رأياً. فقال بالإصلاح بين العامية والفصحى على طريقة تجعل هذه تغتمر تلك وتحيلها إليها فعسى أن يأتي يوم لا تكون العامية فيه شيئاً مذكوراً. بيد أنه أخرج هذا الرأي البليغ من غير بابه، وتسبب إليه في النظر بما ليس من أسبابه،

وجاء به قولاً أن يكن فيه صواب فهو ما آثره من تقريب ما بين العامة والخاصة وإزالة الجفوة بين هؤلاء وهؤلاء، وتوثيق العقدة المنحلة بين الألسن والأقلام، أو بين لغة الكتابة ولغة الكلام، ثم ما رآه من التخطي بالعربية إلى الأمام، وإن يكن فيه خطأ فهو ما وراء ذلك مما أرسله في أقواله البليغة سناداً لرأيه وتثبيتاً لحجته. وإن مَجَم هذا الرأي ومستجمعه أن الأستاذ يرى (أخذ أسماء المستحدثات من اللغة اليومية وإمرارها على الأوزان العربية بقدر الإمكان فإن لم يكن لها ثمة أسماء فمن معاجم اللغة وكتب العلم لأن هذه عنده دون اللغة اليومية - فإن لم يصب ذلك في هذه أيضاً وضع لها الواضع ما شاء. وإن في استعمال مفردات العامة وتراكيبها إحياء للغة الكلام وإلباسها لباس الفصاحة إذ يكون من ذلك رفع هذه اللغة إلى الاستعمال الكتابي والنزول بالضروري من اللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب والتعامل. ذلك وإن ما استعملته العامة إنما هو قرارات الأمة في هذه الكلمات التي لا تريد النزول عنها. وأن الطريقة الوحيدة لإحياء اللغة هي إحياء لغة الرأي العام من ناحية وإرضاء لغة القرآن من ناحية أخرى. وأننا إذا أردنا الصلح بين اللغتين فأقرب الطرق إلى هذا الصلح أن نتذرع إلى إحياء العربية باستعمال العامية ومتى استعملناها في الكتابة. . . اضطررنا إلى تخليصها من الضعف وجعلنا العامة يتابعون الكتاب في كتاباتهم الخ الخ. هذا هو تحصيل رأي الأستاذ وأكثر ما أوردناه إنما هو من ألفاظه بحروفها فإن طال عليك ذلك السرد وبرمت به جملة فإن لك أن تدمجه في كلمتين ثم لا تكون قد أخللت من جميعه بشيء وذلك أن الأستاذ يرى تمصير اللغة لأننا إذا تابعناه فإنما نلتمس كل ما أشار إليه من العامية المصرية وحدها ونعطي هذه العامية سعة أنفسنا وبذل أقلامنا (طاقتها) فنلبسها بالفصيح ونخلط منهما عملاً صالحاً وآخر سيئاً ولعل هذا الرأي أن يشيع من ناحيتنا ويطمئن في كل أمة لها عربية فتأخذ مأخذنا في عاميتها وتنزع إلى ما نزعنا إليه فإذا أمكن أن يتفق ذلك وأن تتوافى عليه الأمم كان لعمري أسرع في فناء العربية وجدا عليها شؤم هذا الرأي مالا يجدو تألب الأعداء لو استأصلوا أهلها. وبلغ منها مالا يبلغه الفاتحون ولو ملكوا تلك الأرض كلها، ثم نحن نتسامح في استعمال المفردات والتراكيب العامية. وسينقاد لذلك من بعدنا ثم من بعدهم إلى أجيال كثيرة يتراخى بعضها عن بعض فيوشك أن يأتي

يوم تكون فيه تلك اللغة الفصحى ضرباً من اللغات الأثرية في كتابها الكريم لأننا لا ننظر فيما نترخص فيه الآن من كلمات معدودة صدرت بها قرارات الأمة أن لا تزال على وجه الدهر عامية ولكنا ننظر إلى الأصل في قاعدة التسامح والترخيص فإذا ثبتناه وأخذ به غيرنا ولم يكن عندنا لذلك نكير فما أشبهها أن تكون كالقاعدة الاستعمارية التي تبتدئ بالتسامح للمستعمرة والغزاة في أخذ الشيء القليل ثم تنتهي بالتسامح في كل شيء. ونحن فإن كنا نفهم رأياً من هذه الآراء الحاضرة فإننا لا نفهم كيف يكون إحياء العربية باستعمال العامية وكيف نرضي لغة القرآن التي تأبى إلا أن تتقيد بها اللهجات الأخرى كما محت من قبل لغات العرب جميعها على فصاحتها وقوة الفطرة في أهلها وردتها إلى لغة واحدة هي القرشية ثم نرضى من جهة أخرى هذه اللهجات العامية التي تأبى أن تتقيد بشيء وهي أبدا دائمة التغير بالأسباب المختلفة التي تؤثر فيها وتديرها في الألسنة حتى صارت في بعض قرى مصر كأنها مالطية (متمصرة) وصار بعض هذه القرى لا يفهم عن بعض. وإذا حاولنا مذهب الإصلاح العامي فليت شعري من أي لهجة نأخذ وأي لهجة في مصر هي غير مصرية فننبذها. وإذا ابتغينا بهذا الإصلاح استدراج العامة ليتابعوا الكتاب والخطباء فيما يكتبون ويخطبون فهل يتابعونهم على العامي وحده حين يُنزَّل في الفصيح إذ يستمرؤنه ويسيغونه حتى إذا عرض لهم الفصيح خالصاً أنكروه وغُضّوا به أم تكون المتابعة على العامي والفصيح جميعاً. إذا جاز على القوم أن يتابعوا الكتاب والخطباء على الفصيح الممزوج بالعامي فلم لا يكون ذلك إذا كان الفصيح خالصاً مأنوساً وكانت القرائن قائمة على ما فيه من جديد أو غريب وكانت ألفاظه لا تبرأ من معانيه ولا هذه تشق على تلك؟ نحن لا نماري في وجوب الإصلاح اللغوي ووجوب أن يكون للغة في هذه النهضة مجمع يحوطها ويصنع لها ولو على الأقل كمصلحة الكنس والرش. . . ولا نقول أن هذه العربية كاملة في مفرداتها ولا أنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها فإن من يذهب إلى ذلك لا يعدو باللغة وسيلة من وسائل العيش وأداة من أدواة الاجتماع الفطري. وليت شعري ما يصنع أولئك إذا صارت العربية لغة العلوم والفنون الحديثة وجاؤا إلى طائفة واحدة من الحشرات يقسمها العلماء إلى عشرين ألف ضرب اعتبروا في وضع أسمائها تباين ما بينها

في طبقات التشريح ثم ماذا يصنعون بضروب سائر الحيوانات وبالنبات وغير النبات مما لا يأتي عليه الإحصاء من متعلقات العلوم وفروعها وهل تجزئ في ذلك كله ألفاظ لسان العرب وكتب الحيوان والنبات العربية وما إليها مما أطلقت ألفاظه واضطربت أوضاعه واختلفت معانيه واستفاضت حدوده حتى ليصبح أن تعم اللفظة الواحدة بكثرة ما تطلق عليه في هذه اللغة شطراً من معاني العلم التي هي فيه؟ ألا وأن أعجب ما في أمرنا من المعروف والمنكر أن تختلف الأمم في معاني الألفاظ واختراعها وتحديدها ووجوه الانتفاع بها ولا نختلف نحن إلا على ألفاظ هذه المعاني وأنها عربية أو معربة وهل نتقبلها أو نردها ونثبتها أو ننفيها ونقرها أو ننكره وننسخها أو نمسخها. . . وقد فاتنا أالعرب أنفسهم لم يكونوا يعرفون شيئاً يسمى لغة إنما كان همهم استيعاب أجزاء البيان في كل ما ينطقون به على أصول الفطرة اللغوية التي يُنشّؤن عليها وقد ضبطت هذه الأصول فيما انتهى إلينا من قواعد اللغة وما نقل من ألفاظها فصار لنا حكمهم إذا نحن تدبرناها ونفذنا في أسرارها وأحسنا القيام عليها. وليس عندنا في وجوه الخطأ اللغوي أكبر ولا أعظم من أن يظن امرؤ أن اللغة بالمفردات لا بالأوضاع والتراكيب فإن اللغات المرتقية هي تلك التي تمتاز بوجوه تركيبها ونسق هذه الوجوه ولا يمكن البتة أن تكون لغة من اللغات ذات وفر وثروة من الألفاظ إلا أن تدعو إلى ذلك وجوه أوضاعها وتراكيبها. ولا تجد عندنا من الإنكار على من يقول بإباحة التصرف في تراكيب العربية والتكذيب له والاستعظام لما جاء به إلا كما عندنا من الرد لقول من يمنع التصرف في مفرداتها - بالتعريب وغير التعريب_ما دامت الحاجة إلى ذلك ماسة وما دام ذلك لا يخرج اللفظ الموضوع عن الشبه العربي الذي يجريه في اللغة ويجعله إليها ويلحقه بمادتها ثم ما دمنا نعمل هذا العمل فنقضيه صريحاً محكماً ونستن فيه سنة العرب في طريقة الوضع اللغوي وحكمة هذه الطريقة ووجه هذه الحكمة. فأنت ترى أنه لا ينقصنا من اللغة شيء وهي على ما هي من أحكام الأوضاع والتراكيب والاتساع للمفردات ولو أقبلت كأعناق السيل. ولكن ينقص هذه اللغة رجال يعملون ويحسنون إذا عملوا ويعرفون كيف يتأتى عملهم إلى الإحسان وكيف يكون عملهم عملاً. ولقد كان من سوء الصنع لهذه العربية أن قامت لإحيائها (مجتمعات) كلها كان يكدح في هذا

العمل الجديد على قاعدة قديمة فلا يعدون في طريقة العمل وجهة القصد منه أن يبدلوا لفظاً وحرفاً بحرف وينبهوا إلى الخطأ في بعض الاستعمال وصواب في بعض الإهمال مما يستخرجونه أو يقفون عليه أو يتفق لهم اتفاقاً. وهذا عمل تكون الجماعة فيه مهما اعتزمت واشتدت كأنها فرد واحد ويقوم الفرد المضطلع بالجماعة بل قد يفي ويمسح وجهها (بتقدمها) ويكون منها مكان الإمام ممن خلفه وإن كانوا صفوفاً متراصّة متقابلة، وهو أمر كان قديماً فإن العلماء والكتاب كانوا يتلقون الرواة والحفاظ بالمسئلة عن صواب الكلمة وعن وجه استعمال الحرف من اللغة وكان المأمون العباسي قد أرصد من هؤلاء طائفة في دار الحكمة ليرجع إليهم المعربون ثم ليتصفحوا عليهم فيصلحوا خطأ أو يقيموا وزناً أو يغيروا كلمة وكذلك فعل بعض الأمراء المتأخرين في دواوين الإنشاء حين ضعف الأدباء عن اللغة والتوت الألسنة وغلبت العامية وقد تولى ذلك للفاطميين طاهر بن بابشاذ في القرن الخامس وابن بري في القرن السادس وتولاه غيرهما من بعد إلى هذه الغاية في عصور ودول مختلفة على أن كل ذلك قد مضى مع أهله وبقيت اللغة تضرب في حدودها مقبلة مدبرة لم يزد فيها ما زادوا ولم ينقص منها ما نقصوا. ولسنا نرتاب على حال أنه لو قام في صباح كل يوم مجمع لغوي على هذه الطريقة لانتقض في مساء كل يوم مجمع منها لأن القوم يدعون الجهات الملتبسة إلى الصريحة ويتخطون الأصول إلى الفروع ويعملون في سدخلة محتملة ويتكلفون لضرورة في الوسع واللغة وافية بكل ما يأتون به لا يصدّ عنها إلا الجهل والإهمال وإلا سوء طلب الطالب وتحصيل المحصل وهذا أصلحك الله أهون الخطب. وأخف الضرر، وأيسر ما التاث علينا من أمر هذه العربية. فإن المحنة فيها باقية أبداً ما بقي في الأرض معنى ليس له فيها لفظ، وما دمنا لا نُطرّق فيها لهذه الألفاظ المحدثة بقواعد ثابتة، وعلى طرق نهجة، وما دامت في أيدينا جامدة لا نغمز منها، ولا نعيدها سيرتها الأولى في الوضع والاشتقاق بما لا يفسدها ولا يضارّ أصولها ولا يأتي بنيانها من القواعد. وإن ذلك لأمر أول التبعة فيه على متقدمي العلماء، ممن دونوا الأمهات في اللغة، وممن كتبوا في العلوم أو عرّبوا من كتبها. لأنهم عفى الله عنهم لم ينظروا لمن بعدهم. فلم يضعوا في ذلك ديواناً جامعاً، ولا أمضوا فيه بإجماع معروف ينتهي إليه علم. أو يقف عليه طريق

من طرق الرواية. إنما كان لكل واحد منهم رأيه ونظره ومبلغ علمه وإحاطة روايته. فإن اضطر أحدهم إلى ما يعجله عن الأناة، وإجالة الرأي في اختيار اللفظ وتعريبه، ودُفع إلى الكتابة والتأليف من هذه المضايق، لم يبال أن يتناول اللفظ كما هو في لسان أهله ولغة واضعه، ما دام لا يرسله إلا في أسلوب محكم من اللغة، ولا يحيطه إلا بالتركيب العربي المبين، وهم كانوا أبصر بما قررناه من أن اللغة بالأوضاع والتراكيب، لا بالمفردات، بالغة ما بلغت. وأن الشأن فيما ينتظم الكلمة الأعجمية انتظاماً عربياً لا في الكلمة نفسها. وهذا الجاحظ عالم كتّاب هذه الأمة، وفرد بلغائها، تتصفح كتبه فتعثر بالشيء من أسماء الأدوات ومصطلحات الفنون. وبعض ذلك لا سبيل إلى فهمه ومعرفة مدلوله إلا بالرجوع إليه في الفارسية والهندية والرومانية ونحوها وإلا أن اتفق للباحث أن يعثر على بيانه وتفسيره في بعض الموسوعات العربية أو كتب الفنون. وقد كان دأب هذا البليغ أن لا يتوقف عند اللفظة المحدثة يقلبها ويشققها، ولا يتردد عند الكلمة الدخيلة ينظر فيها ويحققها. وهو قد نص على ذلك في موضع من كتابه الحيوان، فقال: بعد أن ساق ألفاظاً من مصطلحات الزنادقة كالساتر والغامر والبطلان وغيرها، وأنكر غرابة الدلالة فيها، وأنها مهجورة عند أهل دعوته وملته، وعند العوام والجمهور إن رأيي في هذا الضرب من هذا اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمادة فيها - أن ألفظ بالشيء العتيد الموجود، وأدع التكلف لما عسى أن لا يسلس ولا يسهل إلا بعد الرياضة الطويلة، وأرى أن ألفظ بألفاظ المتكلمين ما دمت خائضاً في صناعة الكلام مع خاص أهل الكلام. فإن ذلك أفهم عندي وأخف لمؤنهم على. ولكل صناعة ألفاظ قد جعلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت بينها وبين معاني تلك الصناعة مشاكلات. وقبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خطبة أو رسالة، أو في مخاطبة العوام والجار، أو في مخاطبة أهله وعبده وأمته، أو في حديثه إذا حدث أو خبره إذا خبر. وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب وألفاظ العوام وهو في صناعة الكلام داخل. ولكل مقام مقال ولكل صناعة شكل. على أننا لا نستقصي القول في هذه الجهة، فإن موقع النية أن التكلم في تمصير اللغة، وإنما أفضينا إلى الكلام من هذه الناحية إذ كانت هي سبيلنا إليه. فإن القائلين بهذا الرأي،

والغالين فيه، والمكابرين عليه، إنما يدعون به الإصلاح ويذهبون إلى أنه خير ما ينتهي إليه الصواب من رأي، وخير ما يمكن لهم في جانب تلك الغاية، فإنهم زعموا يريدون الإصلاح من أقرب السبيل، ويطلبون الحاجة الراهنة، والمنفعة الدانية، وقد رأوا سواد الأمة عامياً، فلا بأس أن يكون من هذا السواد ظل في اللغة أو على اللغة أو قريباً من اللغة. وفاتهم أن من دون هذه السبيل سبيلاً أخرى هي أقرب في منحاهم، وأدنى إلى غايتهم، لو كانوا يرمون إلى تعليم الأمة وإلى الغاية من هذا التعليم. فإن الزمن الذي تعرب فيه الكتب أو تمصر ثم تطبع وتنشر، ثم تقرأ وتدرس، لا يذهب باطلاً إذا هو ذهب في تعليم لغة أجنبية من لغات العلوم، ثم إلقاء هذه العلوم بها. ويكون من ذلك أن الأمة تستفيد العلوم والفنون محققة وتربح معها فضلاً كبيراً. إذ تربح لغة برمتها وتجمع إليها آدابها وفوائدها. وهذا مالا يتيسر بعضه إذا مصرنا لها العربية لتلك الغاية التي زعموا، وما يطلبون بها من الكفاية والإصلاح. وقد أخذت بهذا الرأي جمهورية الصين الحديثة فإنها فرضت اللغة الانكليزية على كل من يطلب علماً أو صناعة حرصاً على الوقت أن تضيع به الترجمة والطبع والدرس، وتفادياً مما تدخله الترجمة على مصطلحات العلوم والفنون من الضيم في الشرح والتعيين وتحديد الدلالة ونحوها مما ليس منه بد في النقل بين اللغات المتباينة لغة إلى لغة. على أنه إن يكن في رأي التمصير خير فليس يقوم خيره بشؤمه. وهب أن أمراً من ذلك كائن. وأننا أجرينا التراكيب العامية في الفصيح، وأقحمنا مفردات القوم في اللغة، ومكنا للعامة على ما يتوهمون من مقاليد الكلام وأتبعناه مقادتهم، فما جداء ذلك عنهم، وماذا يرد على الأمة! ونحن نعلم أن جمهورها إذا احتاجوا إلى الكتب في العلم فإنما هي كتب ألف باء تاء. . . . قبل كتب المصطلحات العلمية والفنية. وأنه لعجيب أن نبدأ بالتربية من آخرها وأن نجيء إلى حال من الضعف فنتوهم فيها القوة، ثم نمضي على ما نخيل نعتده حقاً فنقرر الأحكام، ونؤصل الأصول، ونقابل شيئاً بشيء، ونستخرج حالاً من حال. وليس لنا مما قبل ذلك جميعه إلا أنه ظن توهمناه يقيناً، وفرض حسبناه قياساً. وإلا أنها العامية جعلنا نسومها ما ليس في طبيعتها، وحسبناها أصلاً بائناً بنفسه متميزاً من سواه بالصفات التي تجعل الأصل أصلاً وتنفيه من صفات فروعه. مع أن أصل هذه العامية لا يزال في

ألسنتنا وأقلامنا. ولا نبرح نردها إليه، ونحكمها به، ونقيمها على طريقه. ومع أن هذه العامية لا تصلح في تراكيبها وصيغها للكتابة ما لم تفصّح على وجه من الوجوه. وهي بعد لا وزن لها في كل ما ابتعدت به عن الفصيح. إلا في عبارات قليلة مما يكون أكبر حسنه أنه أخرج على نسق معروف في البلاغة العربية. كضروب المجاز والكناية وما إلى ذلك. فإذا هي نافرت الفصيح لفظاً أو نسقاً، فلست واجداً فيها إلا أطلالاً من كلمات عربية يأباها من يعرفها صحيحة ماثلة، ويعدها من النقص من يقيمها سوية كاملة. وكيفما أدرتها لا تعرف لها إلا رقة الشأن وسقوط المنزلة بإزاء أصلها الفصيح الذي خرجت منه، ولا تزال فيها مادته. فما اختلافنا في لغة هي في طبيعتها اللغوية تأبى أن تكون أصلاً، وأن تعد لغة، ومهما جهدت بها لا تتحول إلا إلى أصلها المعروف المتميز. فإذا أريدت على غير ذلك التاثت واضطربت، وفرت إلى الأسواق والسبل؟ فإن عارضنا القوم بأنهم يريدون تقريب الفصيح من العامة لا من العامية ليسهل عليهم أن يتأدبوا وأن يتعلموا، قلنا ذلك وجه، وسبيله غير ما يقولون به من تمصير هذا الفصيح العربي. فإن لهم مندوحة في طريق مختلفة يفصحون بها العامية نفسها بردها إلى أصولها القريبة، على نحو ما كانت عليه أيام الأمويين والعباسيين. فأني لأحسب أن العامي من أهل ذلك الزمن لو بُعِث اليوم لرأى أكثر أساليبنا الفصيحة دون عاميته. وقد كنا بسطنا جانباً من القول في مقالتينا اللتين نشرتا في (البيان) عن الرأي العامي في العربية الفصحى، والجنسية العربية في القرآن وأبنا ثمت فساد الرأي في إحالة الفصحى عن وجهها فلا نعيد شيئاً مما بسطناه. وإنما نرسل كلمة في تحقيق استحالة هذا الرأي، وأن القائلين به مهما عملوا فإنهم لا يعدون أن يجتذبوا إليهم طائفة من ضعاف شبابنا المتفرجين يناصرونهم بما تعده الأمة خذلاناً، ويزيدون فيهم بما لا تشعر به الأمة زيادة أو نقصاً. وذلك أنهم يغفلون عن الروح الدينية التي عليها ينشأ المسلمون - أهل هذه العربية_في جهات الأرض، وأن هذه الروح قائمة على نفي العصبية الوطنية كالمصرية وغيرها. فقد كان هذه العصبية عامة في قبائل العرب حتى محاها الإسلام. فأنزل الله سكينته على رسوله والمؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وجعلهم أخوة. ثم نفاها النبي صلى الله عليه وسلم. زنفى المؤمنين منها بقوله ليس منا من دعا إلى عصبية الحديث. وما عصبية قبيلة وقبيلة في المعنى إلا

كعصبية بلد وبلد ومصر ومصر. وما يقولون به من تمصير اللغة لا يعدو أن يكون وجهاً من وجوه هذه العصبية الممقوتة. فإنك لتجد المسلمين يختلفون في كل شيء حتى في الدين نفسه. ولا تجدهم إلا شعوراً واحداً بالروح الدينية العربية التي مساكها الكتاب والسنة في عربيتهما الفصيحة. التي لا سبيل إلى التغيير أو التبديل فيها لا على وجه التمصير ولا على وجه آخر، وسواء كان في ذلك إصلاح بين العامية والفصحى أو لم يكن. فإن شذ عن الجماعة فئة من شباننا قد أخذوا بغير أخلاق هذا الدين ونشؤا في غير قومه وعلى غير مبادئه فرأوا فيه بظنونهم وقالوا برأيهم ورضوا له ما لا يرضاه أهله، فهم مهما كثروا لا يستطيعون أن يحدثوا حدثاً، بل يفنون والجماعة باقية، وينقصون والأمة نامية، ويذهبون إلى رحمة الله ومن رحمة الله أنهم لا يعودون ثانية. ولن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة. وإن كنا لا نقول بالعكس. فإن فينا من الفضلاء من يخطئ في الرأي يراه أو يعجل به دون أن يطيل ترديده وتقليبه. فإذا بصرته بما فيه أعانك على نفسه، وأحكم ناحية الصواب منها، وأعطاك عن رضا وكأن في عمله خليقاً أن تعرفه بالحكمة وأن ترى تحوله عن الخطأ صواباً إن لم يكن أحسن من صوابك فليس بدونه. هذا وإن أصحابنا لا يجهلون أن الأصل في التربية العامة بالحمل على الأخلاق لا على العقول، وعلى روح الأمة التي تتميز بها وتتفق فيها، لا على صفاتها الأخرى. ونحن لا نجد من ذلك شيئاً في المسلمين كافة من المصريين وغيرهم إلا ما أومأ إليه من الروح الدينية التي تشملهم جميعاً والتي هي أساس هذا الدين. فلا سبيل لتمصير العربية واعتبار هذه المصرية أصلاً لغوياً مجمعاً عليه، إلا بتمصير الدين الإسلامي الذي يقوم على هذه العربية. فإن بعض ذلك سبب طبيعي إلى بعضه. فمن كشف لنا عن الوجه الذي يكون به الدين مصرياً وطنياً. . . وبصرنا بأسباب ذلك ونتائجه، قلنا له أخطأنا وأصبت كذلك أَخذُ ربك إذا أخذ القُرى وهي ظالمة.

حال الإسلام الحاضرة

حال الإسلام الحاضرة أهدى إلى البيان حضرة الكاتب المشهور محمد أفندي مسعود هذا المبحث الجليل، وهو خاتمة أبواب كتاب حضارة العرب للدكتور جوستاف لوبون الذي ينقله إلى العربية. ولعل قراء البيان يعرفون من هو جوستاف لوبون صاحب كتابي روح الاجتماع وسر تطور الأمم وغيرهما من الأسفار النافعة، وأن هذه اللغة بحاجة ماسة إلى مثل حسنات هذا العالم البحاثة ولا سيما ما كان منها خصيصاً بشؤون الإسلام وحضارة العرب مما يستبصر به المسلم في مدنية المسلمين وسر عظمتهم الماضية، وضعفهم الحاضر، ولا يكاد يظفر بمثله بين دفات تواليفنا العربية - وإنا نزجي خالص الشكر إلى مسعود أفندي على حسن اختياره، وتوفره على نقل هذا الكتاب القيم، وندعو الله أن يهيء له من ساعة حتى يخرج للناس هذه الدرة الثمينة. أهالت القرون على العرب غبار الزوال، وأدرجت حضارتهم في أكفان التاريخ. فلم يبق منها إلا سيرتها العطرة، وأثرها المائل. ولكن زوالهم هذا لم يكن موتاً سالباً للروح، ومورداً للجسد موارد الفساد والفناء. لأن الدين واللغة اللذين قام العرب بينهما في أرجاء العالم، أصبحتا لعهدنا الحاضر أكثر انتشاراً منهما أيام كانت الحضارة العربية متألقة السنا. فإن اللغة العربية يتكلم بها الصادر والوارد، والغادي والرائح، بين مراكش والهند. كما أن الدين الإسلامي لا يزال نطاقه يزداد كل يوم ترامياً إلى أبعد الآفاق والأقطار. يقول علماء تخطيط البلدان: إن عدد مسلمي الأرض ينتهي إلى مائة وعشرة ملايين: ولكن انحطاط هذا العدد عن حقيقة الواقع أمر لا ريب فيه. لأن تقديره إنما كان في زمن لم يخطر ببال أولئك العلماء فيه ما ترامى إليه انتشار الدين واللغة في الصين وافريقية من الأفق القصي والأمد البعيد. وإلا فالدين الإسلامي هو الدين الذي تخفق أعلامه على ربوع الشام وديار مصر وبلاد تركيا وأصقاع آسيا الصغرى وفارس وسواد الروسيا وافريقية والصين والهند. وقد بلغ من سعة انتشاره وعليا كلمته أن تناول جزيرة مدغشقر ومستعمرات افريقية. دع ذيوعه بين جزائر ماليزيا (الملايو) وإن سواد أهالي جاوه وسومطرة وغينية الجديدة يدينون به ويهتدون بهديه. ولقد تخطت عقائد وأصوله معتلج لجج الأقيانوس فبلغت امريكا على يد زنوج افريقية. ومما يسترعي نظر المتأمل سهولة انتشار الإسلام في نواحي العالم قاصه ودانيه فإنه ما

وقف مسلم على صقع ولا نزل بنجع ولا بَلَد بحلة إلا وترك فيها أثراً من دينه باقياً. ثم انظر إلى الأقطار التي لم يدخلها العرب قائمين بل انتجعوا إليها متجرين كبعض ولايات الصين وجهات افريقيا الوسطى والروسيا. فلقد بلغ من انتشار الدين الإسلامي فيها أن المسلمين أصبحوا يعدون فيها بالملايين. واذكر أن اتخاذ أهلها هذا الدين عقيدة لهم ما كان كرهاً ولا قسراً، وإنما كان رضي واختياراً. إذ لم ينته إلى سمع أحد، ولم يدون في التواريخ شيء من أبناء تجنيد الجند لقسرهم على الإسلام وإلزامهم اتخاذه ديناً يدينون له مكرهين، ويذلون أعناقهم لكلمته مرغمين. وقصارى ما في الأمر أن أولئك التجار كانوا يؤدون غير عامدين عمل المبعوتين في البلدان التي مروا بها لترويج سلعهم، وكانوا في كل خطوة خطوها يبذرون بذور الدين الإسلامي فزكا نبته وفرعت أفنائه واشتدت أصوله حتى أصبح استئصالها بعد ذلك أمراً وعراً آد أولئك الذين عالجوا ذلك من أعداء هذا الدين واخصامه المتألبين. ففي بلاد الروسيا التي أخ له فيها مقاماً طيباً لم يوفق الروسيون لاستئصاله من أرضهم على الرغم من سعيهم المتواصل في هذه السبيل. وهذه بلاد الهند قد أصبح حزب المسلمين فيها لا يقل عن 50 مليوناً ولطالما أفتن مبشروا البروتستانت في أساليب السعي والعمل لمناوته بل كثيراً ما أيدتهم الحكومة في خطتهم ومالأتهم على قضاء إربتهم فكانت العاقبة لها ولهم الفشل فيما أرادوا. أما عددهم في افريقية فما برح مجهولاً حتى اليوم ولكن الحقيقة الثابتة هي أن الرحالة والمستكشفين من أهل هذا الجيل لم تطأ أقدامهم ثرى بلاد ظنوا أنهم أول طارق لها ألا والتقوا فيها بقبائل تدين على بكرة أبيها بالإسلام، والإسلام في افريقية ينقل المستمسكين منه بالعروة الوثقى إلى حظيرة الحضارة، بعد أن كانوا في بيداء الهمجية هائمين، أو يترك بين أهلها أثراً من حميد آثاره في نفوسهم. كتب الموسيو دوفال: بفضل الإسلام وصدق تأثيره في نفوس من دانوا به، سقطت الأنصاب والأصنام، ودرس من بلاد العرب رسمها، فزالت عادة تقريب القرابين من الآدميين، وأكل اللحمات البشرية، واستقرت حقوق المرأة على الأساس الوطيدة، ووضعت الحدود لتعدد الزوجات وقيد بالقيود الكثيرة، فتوثقت العرى بين أفراد الأسرة، ومنح الرقيق المستعبد حق الإندماج في أسرة مولاه الذي هو ملك يمينه، فانفرجت أمامه مسالك الحرية، واستقامت طرقاتها واضحة النهج. ثم أن من معالم الصلاة والزكاة وغيرهما من أركان

الإسلام، تطهير العادات والأخلاق من درن المفاسد، وبث عاطفة العدل والإحسان في النفوس. وما من سيد في قومه، أو ملك في أمته، ألا وهو عليم بأن عليه من هذه الواجبات ما على رعاياه. فلا جرم إذا رست قواعد المجتمع عند المسلمين على أمتن الأسس، وكفلت الشريعة بما جاء فيها من الأحكام الرادعة عقاب المسيء في تصرفه أو الحائد عن جادة الحق. أما الذين رماهم الزمن بسهم صائب كأن أدركهم من طاغية جور فيساورهم أبداً الأمل في الحياة الأخرى وأن سيكون لهم من نعيمها وخيرها أحسن البدل عما فاتهم من عرض العاجلة ولهم من أملهم سلوان يجلوا لهم عن نفوسهم ويقويها على احتمال الضيم. تلك هي المزايا التي يقترن بها الإسلام إذا لاحت لوائحه بين الأمم غير المتحضرة والصين من أخص البلدان التي ينتشر الإسلام فيها كالضياء إذا انبثق أو الزيت إذا انساح. فإنك لا تمر بمدينة منها بان فيها شأو المبشرين المسيحيين، وقامت أعمالهم على أرسخ القواعد، إلا وسمعتهم يعترفون بعجزهم وجمودهم حيال ما يشاهدون من تقدم الإسلام، واتساع نطاقه على الدوام ولقد سبق لنا القول بأن عدد المسلمين الصينيين يبلغ الآن عشرين مليوناً وأنهم يعدون في مدينة بكين وحدها مائة ألف نسمة. كتب الأستاذ فازييليف: غشي الإسلام بلاد الصين من نفس الطريق الذي غشيتها منه الديانة البوذية. ومما لا يشك المسلمون الصينيون فيه أن ديانتهم سوف تحل محل مذهب ساكياموني أي المذهب البوذي وهي مسألة من الخطورة بما لا يخفي على الناقد البصير، لأنه إذا تحقق ذلك القول وترامى الصينيون الذين يعادل عددهم ثلث مجموع عدد الجنس البشري فلا بد من انفصام عرى الروابط السياسية التي تربط أجزاء العالم القديم بعضها ببعض. ومتى تم للديانة المحمدية الانتشار فيما بين جبل طارق والمحيط الهادي فهنالك الخطر على المسيحية والمسيحيين. وهنا نمسك عن الخوض ونلقي باليراع في مكانه إلى جانب الدواة لأننا بلغنا من كتابنا هذا الشوط الأخير والشأو الأبعد، فلنلخص كل ما جاء فيه في السطور التالية. إن أمماً قليلة بذت العرب في ميدان الحضارة والعمران، وبلغت إلى ما بلغوا إليه من المرتبة السامية والمنزلة المرموقة في مثل الزمن القصير الذي وصلت إليهما فيه. فإنهم رفعوا قواعد دين من أقوى الأديان التي دانت لها الأمم وبسطت سيادتها على العالم ولا

يزال تأثيرها مشهوداً بالعين حتى الآن. ومهدوا دولة من أكبر الدول التي عرفت في التاريخ وأوسعها أرجاء وأوفرها قوة وتولوا تمدين الأمم الأوربية ورفعها إلى أسمى ذري التقدم علماً وأخلاقاً. ولكن إذا كان القليل من الأمم قد تسامى إلى تلك الغاية العلياء فقليل منها تدهور إلى مثل الحضيض الذي تدهوروا فيه متنسكين بل ليس على وجه البسيطة أمة دلت على قوة تأثير العوامل والأسباب الباعثة على ظهور الدول وحياتها وموتها كالأمة العربية فيما تناولها من هذه العوامل والأسباب. (البيان) للدكتور جوستاف لوبون مبحث جليل في سر تدهور العرب وبيان الأسباب والعوامل التي سببت ذلك وقد وعدنا حضرة مسعود أفندي بإهداء البيان هذا المبحث وسننشره في العدد القادم - هذا والذي نعرفه من الإحصائيات يخالف ما جاء هنا عن عديد المسلمين في الهند والصين وخلافهما وسننشر إحصائية صحيحة عن ذلك إن شاء الله.

عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين

عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين (*) بين ظهرانينا الآن، وبمرأى منا ومسمع، رجل من نوابغ المشرق. بل من نوابغ العالم جميعاً. وبحسبه أنه زعيم طائفة كبيرة تعد بالملايين منثورة في مصر والفرس والهند وأوربا وأمريكا وأكثر أنحاء المعمورة تقدسه تقديس الأنبياء والمرسلين. وبحسبه كذلك أن الجرائد والمجلات في أوروبا وأمريكا، بَلةَ الكتب والأسفار وقفت له صفحات تنوه به وتشرح دعوته، وتجله إجلال الأبطال. ذلكم هو مولانا عباس أفندي الملقب بعبد البهاء زعيم البهائيين، وبطل الإصلاح الديني في هذا العصر بل سيد المصلحين. منذ ثمان سنين سمعنا بأن في القاهرة عالماً فارسياً يسمى أبا الفضل هو قبلة طلاب العلم، وكعبة يحج إليها رواد العرفان. فبحثنا عن هذا الرجل حتى اهتدينا إلى منزله فوجدنا ثمة رجلاً مخطف البدن نحولاً، رَبعه لم يبلغ قصراً ولا طولاً، كهلاً ينيف على السبعين، ولكنه كابن الثلاثين قوة ونشاطاً، وحدة وذكاء. ورأينا بين برديه روحاً لو كنا ممن يقول بتناسخ الأرواح لقلنا أن تلك روح المأسوف عليه جمال الدين الأفغاني تناجينا بين أثوابه، وتخلب عقولنا بسحر بيانه وحلو خطابه. فملك الرجل علينا أمرنا، وصار لا يحلو لنا الجلوس إلا إليه، ولا الحديث والسمر إلا معه. وكلما زدناه خلطة وامتحاناً، زادنا أدباً وعرفاناً. وفي أثناء ذلك سمعنا بالباب والبابيين والبهاء والبهائيين. ولكن لا من ناحية أبي الفضل أفندي، بل من ناحية بعض المصريين الذين رأيناهم يذكرون البهائيين على غير هدى، ويقرفونهم بم هم منه براء، شأن الحمقى الممرورين الطائري العقول الذين لا يستطيعون الصبر على البحث والاستقصاء والتنقيب. فلفتنا ذلك إلى النظر في أمر هؤلاء البهائيين من وقتئذ. ثم ضرب الدهر من ضَرَباته وسافر أبو الفضل أفندي إلى أمريكا وأخذنا نحن نفتش عن كتاب عربي تعرض للقول على البهائيين، إلى أن عثرنا بتلك النبذة الصغيرة التي كتبها البستانيون في دائرة معارفهم تحت عنوان البابية ثم بكتاب تاريخ البابية للدكتور مهدي ثم بما كتبه المستشرقون مثل العالم الإنكليزي برون في كتابه تاريخ آداب الفرس، وفي كتاب له كبير وضعه باللغة الفارسية خصيصاً بالقول على البهائيين ثم بما كتبته الصحف والمجلات الإنكليزية والأميريكية. فما ذلك إلا شغفاً بمعرفة أمرهم من مصدره الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأن الناس في الغالب الكثير إما مفرّط وإما مفرِط، وإما متعصب لك وإما متعصب عليك.

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: البرقوقي لم يكن بهائيا، لكنه الانخداع (المؤقت) بكل مستجد يدعو إلى الإصلاح، كما حصل مع بعض الكتاب في مصر مع أتاتورك .. ثم عرفوا حقيقته. وقد سارع البرقوقي إلي توضيح ذلك في العدد 14 (التالي لهذا العدد مباشرة) فقال: «وهنا نقول أن بعضهم غاب عنه غرضنا من الكلام على أبطال العصر وزعموا أنا نقصد بكلامنا على زعيم البهائيين إلى الحوم حول نحلته ولم يريدوا أن يفهموا أنا إنما كتبنا وسوف نكتب عن الرجل كما كتبنا ونكتب عن فولتير ونيتشه وسبنسر وأرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وابن رشد وأضرابهم من رجالات العالم إن موافقين لنا في الدين وإن مخالفين. لأنا لسنا في هذا الباب بصدد من الدين وإنما بصدد من العظمة والنبوغ».

وعين الرضا عن كل عين كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا وما زلنا بهذه الحال من الشغف والاستهتار (الولوع بالشيء لا يتحدث بغيره) إلى أن ابتسمت لنا الأيام وأديل لنا اليسر من الإعسار. وقدم حضرة زعيم البهائيين الأكبر عبد البهاء عباس أفندي المترجم به إلى وادي النيل. وقطعت جهيرة قول كل خطيب. فكدنا نخرج من جلودنا فرحاً واغتباطاً بقدوم الرئيس الأكبر إلى بلدنا، وشغفنا كله بلقياه حتى أتاح لنا القدر أن حظينا بزيارته في الشهر الماضي بمنزله في رمل الاسكندية. وقبل أن نصف هذه الزورة المباركة وما جرى من الحديث بيننا وبين جنابه. نمهد لذلك بذكر ما كتبته جريدة الكرونكل الانكليزية عن حضرة عباس أفندي إذا زار انجلترا في هذا العام واحتفل به العلماء الانكليز وأدباؤهم الاحتفال اللائق بمقامه الكريم - قالت الكرونكل. نحن في زمان اشتد فيه الضجيج، وعلت الضوضاء من كل مكان. فلا تكاد تسمع فيه دعوة للكمال، إذ أصبحت الشعوب المتحضرة رهينة الهزاهز والاضطراب، يقدح في ساقها الجهاد في سبيل الحياة، وتُصميها سهام الخلافات ونبال المنافسات، وتنقض ظهرها أثقال الاستعدادات الحربية، ويؤودها جهاز القتال. وترى الأمم المتجاورة يرمق بعضها بعضاً شذراً. وتنظر خشية وحذراً. وعالم الصناعة كشجار الديكة ذاهلة أربابه. تدمدم من حولهم الاضطرابات، وتؤاذنهم بوعيدها الثورات، وفي بهرة هذا العراك وذاك الصراع اللجب يسمع نداء المعلم الروحاني يدعو إلى السلام العام. ذلكم عباس أفندي الملقب بعبد البهاء، قد لفت الأنظار بسياحته في انجلترا إلى تلكم الحركة السريعة الانتشار التي تزداد نفوذاً وتنمو قوة لما جمعت بين كثيرين من أتباع الطوائف المتباينة، ووصلت بينهم على مبدأ الإخاء العام تؤلف بينهم عروة وثقى لا انفصام لها. فالبهائية - كما شرحها المستر (ارك همند) فأبدع في شرحها، في كتاب صغير من سلسلة كتب (الحكم المشرقية) _هي كمال حي، هي الكاثوليكية الصادقة يتبعها المسلمون والنصارى واليهود والبوذيون، وليست مذهباً متفرداً بل هي مستجمع المذاهب ومستجمَها، تردها إلى أصولها، وتحيلها إلى صادق مبادئها - كما لها أن الله واحد، إله كل شعب ورب كل دين، ودعواهم فيها سلام. المعلمون الثلاث

ولد عباس أفندي في طهران من أعمال فارس في الثالث والعشرين من شهر مايو عام 1844، في نفس اليوم الذي أسست فيه الدعوة البهائية، فأول دعاتها ميرزا علي محمد، إذ كان المبشر بهذه الدعوة المنادي بهذه العروة ولكن لم تخرج دعوته من بلاد فارس. وكانت دعوته في الحقيقة دعوة إصلاح ورقي للإسلام، إذ استخرج أسمى تعاليم القرآن فنقاها مما علق بها مما ليس من الدين الصحيح في شيء، وأخرج للناس مبادئ دينه ترمي إلى توحيد عقائد الناس في الله والخلوص بالروح لى عبادته، على أن أصحاب السلطة جعلوا يضطهدونه وكذلك نَفِس عليه علماء الذين لاعتدائه على دائرتهم. أما الحكام فلازدياد نفوذهم على رعيتهم، فما كان ذلك إلا ليؤازر حركته ويعين دعوته، وأدى اضطغانهم عليه وظلمهم له إلى أن قتلوه وصلبوه وذبحوا من رجاله خلقاً كثيراً. وكان قتلهم إياه سبباً في ازدياد الحركة قوة وانتشاراً وفي سنة 1863 خلف الباب بهاء الله في القيام بالدعوة - شريف من الأشراف انجذب منذ حداثته إلى هذه الكمالات الدينية، إذ حملوا أعلامهم إلى جميع الممالك ونادوا بالمؤاخاة بين بني الإنسان، ولكن اشتد عليهم العسف فنفي بهاء الدين مع سبعين من أتباعه وسجنوا في محبسين عامين، وعلى الرغم من شدة التضييق عليهم وعسفهم فقد تدرعوا بالصبر واعتصموا بمكارم الأخلاق حتى رق لهم كل حاكم جديد تولى سجنهم. ولبث حضرة بهاء الدين في السجن أربعين عاماً قضاها في الكتابة والتعليم دون انقطاع ولا يأس ولا فتور. وفي سنة 1892 صعد إلى جوار ربه فخلفه أبنه الأكبر عباس أفندي معلم هذا الزمان. قالت سيدة انجليزية أقامت في منزله المبارك ثمانية أشهر: أن إعجابها بحضرة عباس أفندي وإكبارها لشأنه ومقامه كان يزداد يوماً فيوماً: أما صحة تلقيبه بعبد البهاء فقد أثبتته خدماته لبني الإنسان. أما حياته فكانت دليلاً واضحاً وبرهاناً جلياً على هذه الحقيقة وهي أنه على الرغم مما يحف بنا من الجهاد في سبيل الحياة والمجد والثروة والسلطة الدنيوية فالحياة الروحية مع ذلك ممكنة بل أمر واقعي مشهود. فلينظر الذين يصلون لملكوت الله في الأرض ليروا في عباس أفندي رجلاً ساكناً في هذا الملكوت شاعراً به يفيض من حوله سلام يعلو على مدارك إفهامنا. أغراض البهائيين ذلكم عباس أفندي وتلكم مكانته. أما تعاليم البهائية فهي ظاهرة وصوفية باطنية في آن واحد

ولا جرم أنها تشبه من وجوه كثيرة ما كان ينبعث في العصور الوسطى من فرنسيس أُف أسبي من جمال الإحسان والخدمة العامة والنور. فها كم اليوم شيئاً من ذلك التأليف القريب بين الصفات الإلهية والخضوع الإنساني العظيم والقيام على الخدمة. فعباس أفندي ينهج في طليعة أتباعه طريقة تسمى عند بعض الناس طريقة الصوفية لكنهم أنّى ذهبوا يسيرون على طرق عملية، وإليكم مثلاً منها. أن هذا المعلم لا يدعو إلى الرهبنة بل يأمر أتباعه أن يتعلم كلٌّ حرفة كما كان بولص يصنع الخبز ويحضهم على النظافة والصناعة والاقتصاد فآمالهم تسمو إلى ما في السماء وعقولهم لا تلهو عما في الأرض. وإننا نجتزئ بقول من أقوال حضرة عباس أفندي نفسه في أغراض البهائيين. لا تسمحوا لأنفسكم أن تنم بكلمة على أحد ولو كان عدواً لكم ولتسكتوا من ينم لكم على عيوب غيركم، ولتتحلوا بالصدق والوقار، ولتملؤا صدوركم بالآمال. كونوا مرهماً لكل جرح، وماءً عذباً لكل ظامئ ومائدة سماوية لكل جوعان، ومرشداً لكل باحث، وغيثاً لكل حارث، ونجماً في كل أفق، ونوراً لكل مشكاة، ومبشراً لكل نفس مشتاقة إلى ملكوت الله. هذا مبدأ من مبادئ البهائية السامية فلا تطرف في الزهد ولا تعذيب للنفس أملاً في أوهام التنعم في الآخرة بل حال سرور ورياضة للنفس على الخدمة والمساعدة والتضحية وآخر دعوى البهائيين قولهم، اللهم ارحمني من نفسي. السياحة الروحية أما الطريقة الصوفية فيجب الأخذ بها وهذا يفسر بالسياحة في الأودية السبعة التي شرحها وفسرها المستر همند وهذا العدد الرمزي عام. فكما أننا نصعد مع دانتي درجات الطهارة السبع ونخلف في كل درجة إحدى خطايانا المميتة فأننا كما يرشدنا بهاء الله في كتاباته نمر في سير ترقينا بالأودية السبع التي أولها وادي البحث يركب فيه السائح مطية الصبر باحثاً عن الله جل شأنه فيجب أن ينشده في كل مكان حتى في التراب فهو في كل شيء. ثم يصل إلى وادي الحب ومطيته التضحية فيلزمنا أن نتناسى أنفسنا ونطرحها ظهرياً. فالحب الأناني لا يعد حباً وهكذا نستمر فوق تلال هذا الوادي المفرقة حتى نبلغ وادي المعرفة الإلهية فنخرج من الشك إلى اليقين، من تيه الآمال الدنيوية إلى الحكمة الربانية. فهذه

الأودية الثلاث درجات يعرفها كل من سار في الرحلة الروحانية في كل زمان. أما الوادي الرابع فيتميز بائتلافه مع آمال البهائيين. وادي الوحدة الإلهية. ولما كانت أغراض الناس مختلفة متباينة حق علينا أن نعترف بالوحدة الإلهية الموجودة في كل الوجود وأن نتحقق بمجرد وجودنا اتحاد الإنسانية وهذه - الوحدة الإلهية. وإذا تم ذلك استنارت أمامنا ظلمات الطرق وسهل حزنها فيصل السائح إلى وادي الرضا حيث كل شيء سار جميل ويجد طالب السعادة فيه ثوابه ويلي ذلك وادي الحيرة حيث تتحلى فيه المظاهر الأولى على حقيقتها وتخلص الأفكار من الأوهام والخرافات التي كانت تحوطها وينبلج الحق فنعترف به مع الخشوع والذهول اللذين يظهران على الطفل لو أوتي عقلنا وننظر إلى معجزات الكون التي عميت عنا أبصارنا على تقدم أعمارنا ثم نبلغ أخيراً وادي الفقر حيث نوقن أن كل مجد دنيوي تالد وطريف وكل شرف وفخار وحلية ونعمة ما هي إلا أسماء سميناها واتبعناها ما أنزل الله بها من سلطان. وفي ذلك أيضاً تظهر روح البهائية قريبة جداً من روح فرنسيس. إذن فلا شك في أن العقائد البهائية ليست جديدة في ذاتها ولا حديثة في تفاصيلها بل أقدم عهداً من شم الجبال ولكن تطبيقها في هذه الأيام المضطربة الكثيرة الضوضاء واللجب والجلبة تجعلها جديدة. فهلا يسمع العالم ذلك الصوت العالي المنادي بالمساواة المطلقة. والمؤذن بالأخوة الروحانية العامة هلا سمع العالم نداء الأنبياء؟ هذه هي كلمة جريدة (لندن كرونكل) عن البهائيين وزعيمهم الأكبر المقيم اليوم في رمل الإسكندرية - عباس أفندي الملقب بعبد البهاء_وسنأتي في العدد القادم على وصف زورتنا لهذا الرئيس الديني الكبير وما جرى من الحديث بيننا وبينه إن شاء الله.

نوابغ العصر

نوابغ العصر 1 أحمد بك شوقي الجمال أمر يدرك بالذوق والبصيرة، وسرّ يفهم بالوجدان والسريرة. وإنما العين باب إلى القلب، والحس مسلك إلى النفس. ولما كان الجمهور في البلاد المتأخرة غير ذوي بصائر، أو ذوي بصائر رمداء يحسن لديها القبيح. ويقبح الحسن. وذوي أذواق فاسدة تزدرد الخبيث وتلفظ الطيب. أصبح حكمهم على الأشياء متهماً ظنيناً لا ينبغي أن يعتد به أو يلتفت إليه. والجمهور في الممالك المنحطة كالطفل مقلد سريع التقليد، وكالصدي يقول ما لا يفهم، أو كالريح لا تدري أين تذهب. وقد رأيت المكابرين من أهل هذه الديار قد تمسكوا بعرى حجة واهية تخذوها مخرجاً لهم من مأزق الخصام. إذا حاول أحد إقناعهم بالدليل القاطع قالوا لكل إنسان مشرب أو الأذواق تختلف بلى قد صدقتم معشر لمكابرين الأذواق تختلف حسناً وقبحاً، وصحة واختلالاً، وسلامة ومرضاً. وطالما رأينا الرجل الذي ليس بالأعمى يتعشق المرأة القبيحة الشوهاء، والرجل الذي ليس بالأصم يطرب للغناء الفاسد الغث. ورأينا كذلك من تضحكه الكلمة السمجة الباردة، ومن تسره الفعلة السيئة المنكرة. فهل يقوم لهم حجة قولهم لكل إنسان مشرب والأذواق تختلف اللهم لا يكون ذلك ما دام القبيح قبيحاً، والمرذول مرذولاً، والغث غثاً. وأني لأطلب إلى أمثال هؤلاء أن ينسلخوا منا بأذواقهم ومشاربهم، وبكل ما قد اصطفوه واختاروه من محتويات هذا العالم طعاماً كان أو شراباً أو شعراً أو نساءً. وأقسم أن الدنيا ستكون بعد زوالهم أكثر وأغنى، وأملح وأسنى. في خراب البلدان، تكثر البوم والغربان. وفي خراب الأذهان تكثر كذلك البوم والغربان من قالة الهذر والهذيان. فيا ويل عشاق الغناء يومئذ ويابؤسهم، يدورون ويطوفون، وينصبون الآذان، ويرهفون الحواس، علهم يسمعون صوتاً يلذهم، أو نغمة تطربهم. ولكن ماذا تنتظر من البوم وما ترجو لدى الغربان! في هذا الخراب المؤيس إذا طاب السحر، ومرض النسيم، قد يسمع من حين إلى حين بلبل غريد، حلو الأرانين، عذب الأهازيج، يستوقف عاشق الغناء، ذلك التائه الحيران، والهائم الولهان. فيحي بصوته الشجي ملحود الرجاء، ويهدي بلحنه الشهي منشود الرخاء. يسترق

الأسماع. ويسترجف الأضلاع. ويستثير الأدواء، ويستطير الأحشاء. هذا البلبل الشجي، والطائر المحكي. هو مثل أمير الشعراء، وسيد الفصحاء. أحمد بك شوقي. لقد طالما قلت في نفسي ماذا كانت تكون حالنا إذا لم يكن بيننا أمثال شوقي. ماذا كانت تكون حالنا وسط أولئك الوزانين الرصاصين الذين يصنعون أشعارهم بالأيدي والبراجل،_أولئك الصخابين الذين يسمعوننا بدل الألحان والانغام، قرع المطارق فوق السناديل، وقد حولوا غابة الشعر (روشة) بل ماذا كانت تكون آذاننا إذ ذاك إلا آفات لنا_أبوابنا تطرقنا منها صيحات تلك المطارق وضجات هاتيك السناديل. بئس مسالك الشر ومناهج العذاب! لولا أمثال شوقي لكانت مصر بلدة خرساء غير ذات لسان يعبر عن وجدانها ومقول يبسط مطوى إحساساتها. ولكن شوقي هو ترجمان هذا الجيل وبوقه، وهو مزهر تبعث منه الطبيعة رناتها. وتخرج الإنسانية منه أناتها. ولولا شوقي لاستحيينا أن ننتسب إلى آبائنا من العرب، وكيف ولا صلة لدينا ولا نسب. ولكنه السبب الذي به نمت إليهم، والآصرة التي تربطنا بهم على تقادم العهد وتطاول الأمد. أجل أنه منذ انحطاط آداب العرب بانحطاط دولتهم لم ينهض بدولة الأدب إلا شوقي. ومنذ أفول شعر العرب بأفوال سلطانهم لم يلح بأفق القريض إلا شوقي. فهو مسلم هذا العصر ونواسيه. وحبيب هذا الوقت وبحتريه. تبصر في شعره جزالة الجاهليين ورقة المولدين ورشاقة الأندلسيين وعذوبة العباسيين. ويلذك من ديوانه اعتذارات النابغة وأماديح زهير وافتخارات الفرزدق وزهديات أبي القاسم وغزليات الوليد ومراثي الطائي وأوصاف ابن المعتز وبدائع ابن الرومي. وزاد شوقي على ذلك الشيء الذي هو أول شرائط الشاعر الحق وألزم لزومياته، والذي لولاه لا يكون شاعراً، أعني التعبير عن روح عصره وبذلك يعرف فق ما بين الشاعر الفطري الذي يعبر به العصر عن معانيه، ويكشف به الوقت عن مغازيه. فيكون مرآة العصر وصدى الجيل. وبين الوزان المقلد، الذي لا يجيء بشيء من عنده وإنما يردد أقوال الماضين مع المسخ والتشويه، ويسرق معاني الغابرين مع الطلاء والتمويه. ولقد طالما شق علينا أن نرى العلوم تدرس بالمدارس والكتب تفسر ثم لا نرى بينها ديوان

شوقي. وأن نلقي الناس يخرجون للسياحة في الأقطار الغريبة ذات المناظر الشائقة ولا يصنعون سياحة في ديوان شوقي. وأن نجد للأهرام والهياكل والأبراج القديمة وسائر عجائب الكون ونوادر العالم شرّاحاً ومفسرين، ولا نجد ذلك لديوان شوقي. وإن ديوانه لأعجب من كل هذه وأبدع، وأغرب من كل هاته وأروع. وأحق بالدرس والمذاكرة، والبحث والمناظرة. ونحن فقد رأينا أنه ليس من الحكمة أن نقضي الوقت بالأسف على تقصير القوم في حق العظماء، فإن الأسف ضرب من التقصير. وإنما الحزم أن نعمل نحن ما لا يدعو إلى الأسف فنهضنا لهذا العمل الجليل، ونحن نسأل الله القدرة عليه. وأخذنا له أهبه ورأينا من الواجب قبل تناول ديوان شاعرنا الكبير أن نقول كلمة في ماهية الشعر والشاعر لكاتب غربي كبير. قال ذلك الكاتب: الشاعر هو الفصيح المفوه بين قوم بكم، أو الوصيّ بين أحداث. يعبر عما في صدور الخرس، أو ينفق على الصبيان من ميراثهم فأني أرى سواد الناس صبياناً لم يستولوا بعد على تراثهم (أعني محاسن الخليقة وجمال العالم) أو خرساً لا يستطيعون نقل ما يجري من الأحاديث بينهم وبين الطبيعة. وأنه ليس من إنسان إلا وهو يشعر أن للشمس والنجوم والماء والتراب فائدة روحانية - فائدة خلاف الظاهر من فوائدها. وإنها تتأهب لتؤدي له خدمة خاصة. ولكن في طباعنا من الظلمة والكثافة ما يحول دون اجتناء كل الثمرة المنتظرة. وأثر هذه الكائنات في نفوسنا أضعف من أن يهيجنا إلى حدّ الشاعرية وأوهن من أن يفجر على ألسنتنا ينبوع القريض. وكان الواجب أن تعرونا لكل لمسة من الطبيعة هزة، ولكل نغمة منها رجفة ورجة. وكان الواجب أن نكون من حدة الجنان وحدة اللسان بحيث يمكننا التعبير عن كل ما وقع لنا من الطبيعة وجرى. ولكن رنات موسيقى الطبيعة تبلغ الحواس ولا تصل إلى الصميم، وليس دون بلوغها الصميم ما يستردّها لفظاً ويستعيدها كلاماً. فالشاعر هو الرجل الصافي الطبع الذي يرى ويلمس من بدائع الوجود ما يحلم به الغير. فهو معلم القوم وخطيبهم لأنه أشدّهم أخذاً وإلقاءً، وأكثرهم تناولاً وإعطاءً. ليس في الدهر حادث أعظم من ظهور شاعر، وليس في الدهر حادث أندر من ظهور شاعر. وكأن بابن أدم يترقب طلوع امرئ يكشف له قناع الحقيقة، ويركزه على أساس

متين من الصدق، ويخلصه من ربقة الشك وظلمة الشبهة. ويرفعه فوق هذا الجو المغيم وإن خاله صحواً، وهذا اليوم خير من يوم ميلاد. ففي ذلك اليوم صار حيواناً وفي هذا يتجلى نور اليقين ويبصر وجه الحقيقة. هذا أمله وذاك ما يرقب وينتظر. ولكن ما أكثر ما يخيب أمله ويضيع انتظاره. إذ يجد ذلك الرجل المجنح لا يصعد به إلى سماء وإنما ينغمس به في غيوم ثم يطفر به من سحابة إلى سحابة وهو أثناء ذلك يؤكد له أنه صاعد به إلى السماء. ويصدقه الآخر لقلة خبرته وتغيب عنه الحقيقة، وهي إن ذلك المجنح لا يعرف الطريق إلى السماء، وكل ما لديه هو أنه يعلو قليلاً كالسمكة أو الدجاجة ثم يهوي. الشاعر يصف الأشياء فيزيد الجمال جمالاً والحسن حسناً. لأن لكل شيء حسن ظاهراً جميلاً وباطناً أجمل. وذلك الباطن الأجمل لا يبدو إلا لعين الشاعر التي هي أنفذ وأمضى، وأثقب وأذكى. وكما أن أشكال الكائنات ينطبع لها في إنسان عين الناظر وصور أجمل من الحقيقة وأبدع. فكذلك أرواح هذه الكائنات أو كما قلنا الآن بواطنها ينطبع لها في ذهن الشاعر صور أملح كذلك من الأصول وأبرع. وهذا من قبيل تطور الأشياء من حال إلى أرقى، ومن جوهر إلى أنقى. وإن لكل شيء روحاً تحوم فوقه فكما أن عين الناظر تعكس صورة ذلك الشيء، فكذلك ذهن الشاعر يعكس تلك الروح في هيئة غناء - أعني شعراً. أجل إن للبحر والجبل والنهر والزهر في الحقيقة أنغاماً تجري مع النسيم كالروائح العطرة لا يسمعها إلا ذوو الآذان التي هي أحدّ وأرهف_أعني الشعراء. ثم هم يحاولون كتابة هذه الأنغام فأكتبهم لها أشعرهم: وكذلك لا ينبغي أن تكون القافية في أي القصائد بأقل حسناً من النقش في الصدفة، ولا من تشابه الأشكال في طائفة الزهر. وأني أرى ازدواج العصافير ضرباً من الرباعيات. وأرى الزوبعة قصيدة حماسية. والصيف بزرعه وحصاده وخزنه قصيدة قصصية حسنة التقسيم مطردة السياق. فلم لا يتسرَّب إلى أرواحنا شعبة مما نراه في هذه الظواهر الطبيعية من الصحة والصفاء والنظام؟ أيها الشاعر! قد كان الفرسان في سالف الأزمان ينالون المجد والعلاء بالانقطاع إلى حماية عقيلة ذات حسب وجمال، وكانت مواطنهم يومذاك القلاع، وسوح الحرب والصراع. فأصبحت غاية المجد تنحاز لك بانقطاعك إلى آلهة الشعر بالمروج الخضر والغابات. فاعتزل رعاك الله الأوقات والعادات، والاصطلاحات والسياسات، والآراء والاعتبارات.

وخذ كل ما تحتاجه من آلهة القريض ودع لغيرك الحرف والصناعات والأعمال والأشغال. واترك لهم عجلات الحكومة يديرونها والبرلمانات والخطب والمحاكم والقضاء والحرب وزلزاله، والخوف وبلباله. واستتر عن هذه وهاتيك في زوايا الطبيعة ملتحفاً أبراد الظلال، على خرير الزلال. مستهدفاً لقاذعة الذم والهجاء. وقارعة السخر والاستهزاء. فهذا عمرك الله هو الستار الذي صان به بان زهرته المحبوبة وتعز بتشجيع أخوانك. وتأييد خلانك. ولك الأرض بعدُ مجالاً وممرحاً. والبحر مغاصاً ومسبحاً. ولك العيون والأنهار. والسيول والأمطار. وكل ما استعاره الغير أو استأجره فأنت صاحب حوزته. ومالك ربقته. ولأنت رب الخضراء والغبراء والدأماء. وحيثما سقط الثلج أو جرى الماء. وغنى الهزار وصاحت المكاء وأسفر القمر ولاحت الجوزاء. واختلط الظلام في مطلع الفجر بالضياء. وامتزج الغناء من حمائم الأيك بالبكاء. وحيث كان الحب والولاء. والكره والبغضاء. والخوف والرجاء. وجدت أيها الشاعر مسبحاً ومجالاً. وانهالت عليك الخواطر الحسان انهيالاً. (يتبع)

نوابغ العالم

نوابغ العالم فردريك الأكبر بقلم كبير كتاب الانجليز ومؤرخيهم اللورد ماكولي تعريب عباس حافظ وأكثر ما اقتني من خيرة الكتب وأعيان المؤلفات، هو ما صاغه الكرام الكاتبون من الفرنسيين، وما وضعه كتاب ذلك البلد الأمين، فلا عجب أن رأينا إعجابه بهم غير محدود، واستحسانه محاسن ما أنشأوا، وبدائع ما خطوا، متناهياً مترامياً. واستحثته شيمة الطمع والشوق التي فيه على أن يقلد ما أعجبه، ويحاول نسج ما قد حبكوا، وأحب الأماني إلى قلبه وأنداها على فؤاده أن يروح معدوداً بين سادة أهل الشعر في فرنسا، ورؤوس أهل البيان والفصاحة فيها. وطفق ينثر وينظم بجد وصبر للنثر والنظم، كأنه أديب متضور، ولكن الطبيعة التي أتمت عليه مواهب القائد والمنظم أمسكت عنه تلك النعم الأكبر شرفاً، الأسمى مكاناً، الأندر وجوداً، التي تجدّ الصنعة الكتابية سدى لتخرج مثلها بياناً يبقى على الدهر، وحلاوة يطيب بها فم لزمان، ولحناً خالداً في مسمع الأيام. ولو كان منح خيالاً أرق، وذكاءً أنضج مما يظهر، وخاطراً أخصب مما يبدو، لظل مع ذلك رهين نقص كبير يمنعه إلى الأبد أينال مكانة عالية بين الكتاب والأدباء. لم يأخذ من أية لغة بزمامها، ولا راضت له مطيتها، ولا ذلت له أعنتها، ولم يكن له من خواطره ما يستطيع به أن ينهر غلمانه ويزجر خدمه ويأمر رؤساء كتائبه، ولم يُعن بالقواعد ولا اهتم بالنحو، بل ساءت مخارج ألفاظه ونبرات نطقه. وكان يشق عليه أن يفهم أوضح المعاني الشعرية في الأدب الألماني، أو يستخرج مرامي أسلس بيوت الشعر، أو يفقه أريض معاني القريض. وقرئت عليه يوماً ترجمة (افيجيني) للشاعر راسين، فأمسك الأصل الفرنسي في يده، ولكنه اضطر أن يعترف أنه لم يستطع أن يفهم الترجمة حتى وإن راجع الأصل. على أنه وإن كان ترك لسان بلده وأعرض عن لغة موطنه، وأقبل على اللغة الفرنسية، ووضع لديها كل اهتمامه، فلم يفضل نصيبه منها على مرتبة الأجنب عنها، وما طال حظه

على علم الدخيل فيها. لزمه أن يكون في ناديه أدباء باريس وكتابها، ويخطر في جنابه أعيان الآداب وأعلامها، ويمرح في ندوته فحولها وساداتها، ينبهونه إلى ضعف التأليف الفاشي في كتاباته، والأبيات المتهدمة والقوافي العاثرة والأناشيد الضالة الخاطئة، التي تحيرت في نظيمه، وغلبت في قريضه. ولو كانت له روح شعرية - وكان منها عاطلاً جد العطل_لمنعته حاجته إلى اللغات وضعفه أن يكون شاعراً فحلاً يروح الناس بأشعاره ويغدون. ولا نذكر أن فريدة من فرائد الخيال أو عقيلة من عقائله لم يكتبها كاتبها إلا بلغة حفظها ووعي دخيلتها أو تكلم بها في سهولة تامة وبيان نطق قبل أن يعلم مبانيها ويعرف أسرارها ومناحيها. لقد نظم بعض نوابغ الرومان وسادة كتابهم أشعاراً وقصائد باليونانية، فكم من تلك القصائد يستحق الخلود والبقاء؟ وعمل أهل المواهب السامية والألباب الكبيرة في العصور الحديثة أشعاراً لاتينية، ولكن ليس في تلك القصائد والأشعار، حتى ولا في تلك التي نسج (ملتون) بردتها، ووشى حواشيها، ما يصح أن يعد في المرتبة الأولى من الصنعة، أو يكون في رأس الطبقة الثانية وطليعتها. فلا غرابة إذن إن لم نجد في أبيات فردريك وقصائده الفرنسية ما يعلو على شعر (نيوديجيت) طبقة ومظهراً، أو يفوق نصيب أي امرئ أوتي صنعة وكفاءة لا بأس بهما. ولعل أحسن مقطعاته وأبدع أبياته، تعادل أسوأ ما نظم (دورلى) وجمع في منتخباته. ما في التاريخ فكان نجاحه أبهر، وخيبته أقل، ونحن لا نكاد نجد في أي مكان من مذكراته الضخمة، خاطراً بعيد الغور، أو نقع على فكر رائع، ورأي ثاقب، أو نلقي وصفاً حياً وتصويراً خفاقاً مترقرقاً تتحير الحياة في أثنائه وتجري الروح في خلاله. على أن الكتاب ممتاز بوضوحه وإيجازه، ومعانيه، ولهجة صدق وسذاجة هي أروع ما تشهد في رجل جلس إلى دواته يقص أفعالاً جسيمة قضاها ويروي للناس أحاديث أعماله العظيمة. وجملة القول ليس فيما جرى به قلمه أجمل من رسائله أو أظهر حسناً لا سيما تلك التي أنشأها بجد لم يوشها بشعر ولا زركش حفا فيها بقريض.

ولا غرو أن رأيت شاباً حدثاً تفرد للأدب وتفرغ، وقصر اطلاعه على الأدب الفرنسي وسكن إليه وحده أن ينظر إلى نبوغ (فولتير) نظر الموقر المتعبد، بل ليس من العدل أن يلام على عاطفته أو يؤنب على حبه. يقول كالدرون في إحدى (كوميدياته) الفاتنات إن رجلاً لم يشهد الشمس ووضحها، لا يلام إذا حسب أن القمر لا يداني فخره فخر، ولا يبز ضياء ضياءه، بل أن امرءاً لم ير الشمس ولا القمر لا يعذل أن تحدث بضوء نجمة الصبح ونورها الذي لا يبرزه نور. ولو استطاع فردريك أن يقرأ هوميروس وملتون أو فرجيل وتاسو، لعلم أن إعجابه بالهنريات دليل على فساد ذوقه وجهله الأكبر بخالص الصناعة الشعرية وبهرجها، وحسنها وزيفها. ولو اطلع شكسبير وسوفو كليس لترقبنا منه في رواية (زير) حكماً عدلاً ومقدراً منصفاً. ولو أمكنه أن يدرس تاريخ (ثيوسيديد) و (تاسيتاس)، لعلم أن للفصاحة تلعات، وللبيان رامات وذروات، تقصر دونها مقدرة صاحب تاريخ (حياة شارل الثاني عشر) وتعز عليه وتطول. ولكن خير ما قرأ م شعر حماسي ووعى من مآس موجعة فاجعات وتاريخ عليه غلالة الحسن وروعة الجمال هو ما خطه يراع فولتير. ولقد شغفت الأمير الشاب حباً تلك المآثر، وتيمته المحاسن وكاد يروح لها عابداً. ولم تكن آراء فولتير في الدين ومسائله الفلسفية قد نشرت للناس بعد وبسطت للجمهور. فلما نفي من وطنه وأنشب على الكنيسة حرباً قلمية صرح بها للناس وأذاع. ولما كان فردريك يسكن رينسبورغ كان فولتير لا يزال في حاشية الملك وبطانته. ولئن لم يستطع أن يمنع روحه الفياضة ويعصي هوى ذكائه، وينشر بعد ما يخرجه من فرسايل ويطرده من جناب مليكه، فقد نشر شيئاً قليلاً لا يجد فيه لذة رجل ديني أخذ عن (جروتياس) و (تلستون). وتري التقوى المسيحية تتمثل في هنرياته وتتجلى في روايتي (زير) و (ألزير) بأرق مظاهرها وخير أنواعها ولقد تنزل بعد سنين من الزمان الذي نحن في صدده أحد الباباوات فقبل إهداء روايته في (محمد).

وعواطف ذلك الشاعر الحقيقية ومراميه لتبدو لذي العين البصيرة والنظر الحديد من خلال ذلك القناع الذي تقنع به والخمار الذي أرسله عليها، والحجاب الذي ضربه لها، ولم يفت على فردريك فهمها، إذ كان يرى رأيه ويذهب مذهبه وكانت شيمته المواربة والنفاق. (يتلى)

شذرات من كتاب حديث المائدة

شذرات من كتاب حديث المائدة 5 الريحان جاءت الفتاة تحمل بين أفنان شعرها وردة وكانت قد بكرت الغداة على البساتين تستنثي نسيم الصبح وعادت بثلاث وردات تلك التي ذكرت ووردتين واحدة على كل وجنة. فقلت لها ذلك بعبارة تناسب المقام فتحولت وردتاها ارجوانتين. وقلت ما أحببت شيئاً قط حبي الورد وأحب الورد إليّ ذاك الذي كان ينمو حول دارنا فيطل علينا من نوافذنا يحيينا بحمرته ونضرته ونفحته. وإني لأوصي صحابّي وأهل ودي وقرابتي إذا أنا هاج بي الغضب أو ثارت بي لوثة أو جنة أعيت كل مداوية. وأعجزت كل راقية. أن يقربوا من أنفي شيئاً من الريحان تسكن بأذن الله سورتي: وتخمد نار ثورتي. مثلي في ذلك مثل الوحش الذي حدثتنا عنه بعض الصحف في كلمة تحت عنوان رياضة العاديات. وسياسة العاتيات. قالت: ذلل رائضنا المشهور بحيلته. وأخضع بفضل حذقه ومهارته. أمام جمع حافل من الخلق وحشاً من أفتك الضاريات. فأخرج للمحفل كالغول يكاد يقطع أصفاده. من شدة النشاط والقوة، يخور ويجرجر في تلك السلاسل الوهاجة كما غل الرعد في سلاسل برقة تخال عينيه جمرتين أو شعلتين. يدير حجاحاه إذا الليل جنه ... شهاب لظي يعشى له المتنور فأخذ الرائض ورقاً طيب الرائحة فسحقه تحت حوافر الوحش لتذيع رياه ثم جعل ذلك المسحوق في طرف عود وأدناه من خرطوم الوحش فتبدلت في الحال هيئته فاستنشق الطيب بشغف وقوة وحاول أن يمسكه بين شقي حافره. حتى إذا زال الرائض بعمله هذا الريبة من نفس الوحش عقد ريحانة من ذلك الصنف بطرف القضيب وأدناها من الوحش فعملت فيه كالسحر فاغرورقت عيناه بمثل قطرات السحاب وضغط على الريحانة بشفتين رجافتين. ثم وقف بعد ذلك مطمئناً ساكناً ومضى فجلب لرائضه صاعاً من الحنطة ولم يجنح إلى وثب ولا هيج ولا جماح. أرى بعض الناس يأخذون على الشعراء أنه ليس من شاعر يظهر إلا ويقول في الورد على

كثرة ما قيل فيه. لم يأت شاعر منذ برأ الله الخليقة إلا قال في الزهر وأكثر. حتى للذي بدواوين الشعر من حدائق الريحان أكثر بكثير مما بظهر البسيطة. أسمعت بشاعر لم ينعت الزهر؟ أو ليس الشاعر بوق الطبيعة ولسانها. ومفسر الطبيعة وترجمانها. أو العبارة أبلغ أليس الشاعر مرآة الطبيعة وهل تأخذ المرآة شيئاً وتترك شيئاً. هل تراها تعي اليوم ولا تعي غداً. هل رأيت مرآة مضياعاً غير مأمونة. إذن فكيف يطلع الورد في جميع أنحاء الأرض ويتفتح وينضر ويشرق ف كل آن ولحظة ويسكت الشاعر فلا ينطق؟ كيف تلد الأرض بناتها الحسان ولا يصدع البشير؟ كيف تجلو الأرض عرائسها ولا يصدح الشادي؟ كيف تجود الطبيعة وتبخل المرآة؟ كلا! ستشرق الأزهار. وتضيء الأنوار في دواوين الشعراء ما أضاءت وأشرقت في دواوين الطبيعة أعني البساتين - قديمة على الأيام جديدة. لمَ نهاب تكرار القول ولا تهاب الطبيعة. لمَ نضعف عن الإعادة ولا تضعف الطبيعة. لم نمتنع عن النطق بالأفكار، ولا يمتنع الليل عن النطق بالنجوم الدراري، ولا الأرض عن النطق بالعيون والجواري، والجداول والأنهار؟ أنظر إلى الطبيعة أتراها قط ملت أن تتلو النشيد النباتي. وإلى السحاب أتراها قط سئمت أن تتلو الحديث القطري والثلجي؟ ما خلا قط من هذه الصلاة الخفية العلنية شبر في الأرض ولا في السماء. وآمين الطبيعة - أثر كل دعاء_زهرة.

اعترافات ده موسيه

اعترافات ده موسيه الفصل الرابع فلما رأى ديزينيه أن اليأس قد بلغ بي حتى عز الدواء، وتوارى الرجاء، وأنني بت لا أريد أن استمع لنصيحة الناصحين، أو أقبل على أحاديث اللائمين، وأني أصبحت لا أفارق حجرتي، همته حالي وأشغله أمري. جاءني في ليلة مرسلاً على معارفه سيمياء الجد، وفي أسارير وجهه علائم الحزن، ثم جعل يحدثني عن خليلتي في لهجة المتهكم، وطفق يرمي النساء بكل نكراء سيئة، وأما أنا فتحاملت حتى استويت في سريري أسمع له وأرى. وكانت ليلة مظلمة، تئن فيها الريح أنين المحتضر، والسماء رذاذاً يتناثر على زجاج النوافذ، تاركاً بين آن وآن سكوناً كسكون الموت، وكل شيء في الطبيعة محزون يتوجع، فالشجر يتمايل من ألم، مطرقة أعاليه من حزن، وأطيار الحقول انزوت في الدغل والوكن، وأقفز الشارع من الناس، وعاد جرحي يؤلمني. بالأمس كانت لي خليلة، وكان لي صديق، فنفرت الخليلة وتولت وألزمني الصديق سرير الوجيعة والألم. ولا أكاد أعلم ما خطر في نفسي، ولا أظن إلا أنني كنت في حلم مروع مخيف، وأني أغمضت عيني لأنهض في الغد سعيداً ناعم البال، مشرق الأمل، وبدت لي حياتي في تلك الساعة حلماً مضحكاً باطلاً، أشبه بأحلام الصبية الصغار، انكشف باطله، وبدا كذبه، وكان ديزينيه جالساً إزائي بجانب المصباح رزيناً ساكناً، تلوح على فمه ابتسامة لا تفارقه. ذلكم ديزينيه، رجل كله قلب، على حين أن فيه جمود الصفاة الملساء وخشونة الصخرة الصماء، رجل بكرت في الحياة تجاربه، وغرب نهار مشاهده، على أن شمس حياته لا تزال في مشرقها، وأحفى مر الغداة شعر رأسه فبان أصلع قبل الأوان. لقد عرف ديزينيه الحياة وبكاها في حينها، وجرت دموعه في همها، ولكنه اتخذ لحزنه درعاً من الصبر، وكان دهرياً، وكان يرتقب الموت. وأنشأ يقول: أني أراك تذهب في الحب مذهب أهل الخيال والشعراء ومذهبك يمنعك من الرجوع إلى رشدك، ويقودك إلى هموم كثيرة ومتاعب.

إن الشعراء يمثلون الحب كما يمثل المصورون الجمال، كما يبتدع الموسيقيون أصوات الغناء، كما يختلقون الأنغام والألحان. إن لهم أمزجة عصبية، وطبائع رقيقة شفافة، فهم لذلك يمثلون أطهر عناصر الحياة، ويرسمون في صنعة التصوير أفتن معالم الحسن، وأزهى صفحات الجمال، ويصدحون بأحلى نغم الطبيعة وأعذب نشائد الكون. قالوا كان في أثينة ترب من الفتيات الحسان فرسمهن (بركستيل) جميعاً واحدة في أثر واحدة، فلما أتم تصوير مختلف حسنهن، وعلم من صورهن عيوبهن، مزج بديع الحسن برائع الجمال، وجعلها في صورة واحدة، كانت هي صورة الزهرة آلهة الجمال. وأن أول رجل صنع آلة للموسيقى، وجعل لصنعة الغناء قواعد، ووضع للألحان قوانين، كان من قبل يستمع لخرير الجدول، وينصت لسجعات البلبل، وكذلك الشعراء، علماء الحياة، شهدوا غراماً طال وغراماً مضى، ورأوا حباً عاش وحباً قضى، وأحسوا في أعماق قلوبهم، وحرارة مشاعرهم السامية، أن عاطفة الهوى تثور في الفؤاد يوماً وتسكن، وتعلو في جنبات القلب حيناً وتهن، وترهف من طبيعة الإنسان تلك العناصر التي تحط من قدرها، وتنزل بها من كل مكان، ولذلك ابتدعوا هذه الأسماء الغريبة، التي تنتقل من عصر إلى عصر، وترتحل من زمان إلى زمان، وهي في أفواه الرجال، وعلى شفاه المحبين تلكم الأسماء: دافنيس وشلو، وهيرو ولاندر وبيرام وتسبا. وأنت إن أردت أن تبحث في حياتنا الدنيا عن هوى أبدي مطلق كنت كالباحث في بيوت البغايا عن حسان كالزهر فاتنات، أو المتطلب من البلبل أن يغني مقطعات (بتهوفن) ويصدح بأناشيده المستعذبات. لا كمال في الدنيا، وإن اعتقاد ذلك انتصار للذكاء الإنساني، ومجد للعقل الآدمي، وما تطلب الكمال إلا شر الجنون، وما رغبه إلا أخطر الحمق. افتح نافذتك وانظر هل ترى بعينك اللانهاية، ألا تشعر بأن السموات لا حدود لها ولا أطراف، وهل يحدثك بذلك قلبك، وهل أنت للانهاية مدرك؟ إنك تذهب في أمر لا نهاية له، أنت المولود بالأمس والميت غداً. والناس من روعة الكون في جنون، ومن روعة الكون نشأ الدين، بل أن رغبة امتلاك

اللانهاية هي التي جعلت (كاتو) ينحر رقبته، وهي التي حرضت المسيحيين على تسليم أنفسهم إلى الأسد تنهشهم، وهي التي ألقت البروتستانت إلى الكاثوليك يسومونهم سوء العذاب. كل شعوب الأرض تمد للكون أكفها وتثب له وثبتها، والأحمق يريد أن يمتلك السماء، وأما العاقل فيعجب بها، ويجلو عينه في كبدها، ويركع من رهب لها، ولا يفكر في طلبها. الكمال أيها الصديق، لم يخلق لنا نحن الناس، فلا ينبغي أن نطلبه في شيء، أو نبحث عنه في حب أو جمال أو سعادة أو فضيلة، بل حسبنا أننا نحب الكمال لنكون ما استطعنا قوماً أخياراً حساناً سعداء. هب لديك في حجرتك صورة لرفائيل، ترى فيها كمال الصنعة ودقة التصوير، وجئت تتطلع إليها ليلة الأمس فاكتشفت فيها عيباً كبيراً كأن رأيت مثلاً عضواً مكسوراً أو عضلاً ناتئاً دون طبيعته، إذن لشد ما يروح حزنك، ويا عظم ما يكون أسفك، على أن نفسك لا تسول لك أن ترمي في النار بصورتك، بل تقول أن الصورة ليست كاملة في صنعة التصوير، ولكن هناك رسوماً وصوراً غيرها تستحق الاستحسان والإعجاب. وهناك نساء يأبى عليهن كرم طباعهن، وتمنعهن صداقة قلوبهن أن يكون لهن عاشقان في وقت معاً، وأنت كان عهدك بخليلتك منهن ولا لوم في الحقيقة عليم ولا عتب، ثم بدا لك أنها تخدعك وتغرر بك، فهل يؤدي بك ذلك إلى احتقارها والإساءة إليها، واعتقادك أنها تستحق كراهيتك ونقمتك. ألا هبها كانت تهواك دون سواك فما أبعد ما بين حبها وبين الكمال، حب إنساني تافه، يتبع سنة نفاق العالم وأخاديعه. وأذكر أنها كانت متاعاً لرجل أو رجال قبلك، وستكون من بعدك في حوزة رجال آخرين، وأن الذي يرمي بك في أحضان الأسى، تطلبك الكمال في خليلتك، فلما رابك من أمرها ما رابك، أنزلتها عن مكانها الأول من فؤادك، ولو علمت أن رأيك في الكمال رأي إنساني حقير، لرأيت أنها ليست إلا درجة واحدة من ذلك السلم الكبير الذي أفسده النقص الإنساني. ألست ترى أن خليلتك كان لها من قبل عشاق وأحباب، وسيكون لها من بعد متحببون وأصحاب، وأنت لا ريب تقول أن معرفة هذه الحقيقة لا تهمك ما دامت تصبو إليك ولا

تصبو إلى سواك، وأنا فأقول لك، إذا علمت أنه كان لها عشاق كُثر فماذا يهمك إذا كان ذلك أمس أو قبل هذا العهد بعامين، بل ماذا يهمك أن تعلم أنها في غد أو بعد غد أو بعد أحوال، نازعة إلى أصحاب أغرار، وإذا كانت اليوم تهواك غير منهومة العين بالهوى، فماذا يهمك أن تعرض عنك بعد ليلة أو بعد سنين. ألست رجلاً، ألا ترى أوراق الشجر تسقط عن غصونه، والغثاء يفترق عن أفنانه، ألا ترى الشمس تشرق ثم تغرب وتطلع على الناس بوضحها فتزاور إلى طَفَلها، ألا تسمع صوت ساعة الحياة الراحلة في كل دقة من دقات قلبك، إذن فهل ترى ثمة من فرق بين حب يأفل في ساعة وحب يدور دورته في عام. إنك تصف بالوفاء المرأة التي تصدق عامين في حبك، كأن لديك (تقويماً) أعددته لتحديد الوقت الذي تجف فيه قبلات الرجال من ثغور النساء، وتزول فيه لثمات الفتيان من شفاه الحسان، أنت لا تفرق بين المرأة التي تهب نفسها من أجل المال، وتلك التي تهبها من أجل الشهوة والإلتذاذ، وبين تلك التي تهبها من أجل العزة والإعتزاز، وتلك التي تهب الروح من أجل الحب المُصَرّد والتضحية الخالصة، وإن من بين النساء اللائي اشتريت، من دفعت إليهن ثمناً أغلى من أترابهن، ومن اللاتي التمست في هواهن لذة حواسك، وطلبت في عشقهن مسرة مشاعرك، من خلصت إليهن، وسكنت أكثر من سكونك لغيرهن، وكذلك ظهرت للواتي تعشقت لأجل الترف وروعة المظهر، في أبهة وحسن مقتبل ما ظهرت بهما لدى أية امرأة أخرى، وفي العشيقات اللاتي صادقت وأحببت من وهبتها ثلث قلبك، وأخرى ربعه وثالثة ألزمتها النصف من فؤادك، وذلك على قدر أنصبتهن من الأدب والأخلاق والأسامي والمولد والجمال والسجية وتبعاً لظروف الأحوال والساعة التي أنت فيها والشراب الذي أنت معاقر والمشمولة التي أنت حاسيها. أي أوكتاف، أنت لدى النساء العزيز المحبب والعشيق المرحب، لأنك ما تزال بعد الفتى الشاب والغيساني الصب، وأنت ذو الكبد الحَرَّى والقلب الخفاق. لك الوجه المستدير والصفحة المشرقة الجميلة، والشعر المنظم المهذب، ولكنك يا صاحبي لا تعلم ما المرأة؟ إن الطبيعة قبل كل شيء تريد من المخلوقات نتاجها ذلك لأن الحياة الدنيا تخاف الموت في كل مكان من قلال شم الجبال إلى قيعان الأوقيانوس، ولكي يحفظ الله ما أبدع ويخلد ما

صنع شرع تلك الشرعة الخالدة، أن أكبر لذاذات الحيوان في نسلها، وأمتع نعيمها في ولدها، وأحفل هناءها في ذراريها. إن الذكر من النخل يؤخذ منه غبار شماريخه الكثيرة التوليد فتلقح به أنثاه، فيهتز من حب، ويتمايل من طرب، في رياح الهاجرة وأهوية الظهيرة، والوعل يصوت للسفاد ويُهتاج فيبقر بطن الأنثى إذا تمنعت عن سفاده، والورقاء تنتفض تحت جناحي صاحبها، كما يرجف العاشق الصب وتنتفض العاشقة الوالهة والرجل يأخذ زوجه بين ذراعه فيمشي بها في بهرة الطبيعة القادرة فيحس بذلك السنا المتألق المقدس الذي بعثته صبابته، يثب في نواحي قلبه ويطفر في حنايا ضلوعه. رويداً أيها الصديق، إذا ضممت ذراعيك العاريتين غادة حسناء المتجرَّد عذبة الميسم، ورأيت لذتك تهجم عليك بالدموع وشهوتك تستبكي عينيك وألفيت شفتيك تدميان بأقسام الحب الأبدي وعهود الهوى الخالد ووجدت اللانهاية قد هبطت من مكانها العلي إلى فؤادك فلا تخف أن تسلم نفسك وتخلص بروحك، ولكن حذار أن تخلط بين الخمرة والنشوة أو تمزج الصهباء بالثمل أو تعتقد أن الكأس التي تحسو منها مطهرة كجمامها، ولا تعجب لها أن تراها في المساء فارغة محطمة، بحسبك أنها امرأة، إنها آنية سريعة التحطيم، صنعها من تراب الأرض خزاف. واحمد الله الذي أراك السموات، ولا تظنك عصفوراً لأنك تنتفض وترتجف، فأن الأطيار نفسها لا تستطيع أن تجوز السحب أو تعبر الغمائم لأن في السموات العُلى أفقاً يعز فيه الهواء، وأن القنبرة تصعد في الأجواء صادحة شادية في غيم الصبح وضباب السحر فتسقط على الأرض ميتة، خذ من الحب قدر ما يأخذ من الخمرة الرجل المعتدل، ولا تعدُ في الدنيا سكيراً، ولا تغدُ في الحب مدمناً، فإن كانت خليلتك صادقة العهد مطمئنة الهوى فأحبها لصدق عهدها واطمئنان هواها. فإن لم تكن كذلك وراحت لعوباً واغتدت حسناء تياهة، فأحبها للعبها وتيهها، وإن كانت رشيقة المتقبل وخفيفة الروح فأحبها لخفتها ورشاقتها فإن لم تكن لا هذا ولا ذاك وكانت تحبك فأحبها لحبها، ولا تغضب ولا تسخط ولا تقل أنا قاتل نفسي لأن لي مزاحماً ينفس عليّ حبي ويستخلص مني خليلتي، وتقول أنها تخادعني نازعة إلى هوى غيري، وتعذبك عزتك ويجرحك إباؤك ولكن ما بالك لا تقول أنه

المخدوع بي فتمسك بذلك عليك عزتك. لا تقل أريد أن يكون كل الحب لي، قاصيه ومبعده، فإنك رجل والرجال هواء لا يقيمون على حال، وإنك لا بد زائد على قولك - ما أمكن _. خذ المان كما يقبل والريح كما تسفر، والمرأة كما تكون، واعلم أن الاسبانيوليات، سيدات النساء، صادقات الحب وفياته، طيبات القلب مدلهاته، ولكن يحملن طوال المناكب أوفياء الشطاط، والانجليزيات ساميات عاليات، ساكنات رزينات ولكنهن باردات الدم متكلفات، والألمانيات رقيقات خفيفات على أن في أخلاقهن مللاً وفي طبعهن سآمة، وللفرنسيات رشاقة متناهية وحسن مظهر وجري إلى شهوة ولكنهن أكذب من سراب. لا تتهم النساء ولا ترمهن بعيوبهن، فنحن الرجال شوَّهنا ما أبدعت الطبيعة، وأسأنا ما أحسنت وابتذلنا ما صانت. إن الطبيعة التي تعمل لكل شيء وتدبر، خلقت الفتاة العذراء لتكون معشوقة محبوبة، على أنها لا تكاد تحمل حملها وتضع طفلها حتى يسقط فرع لها وذؤابة ويشوه ذلك الخصر الأهيف ويبدو في جسمها الناعم آثار القروح وذلك لأن المرأة خلقت لتكون أماً ولتروح والدة! وأن الرجل ليتولى عنها إذ ذاك ويعرض، نافراً من جمال ضائع، مشمئزاً من حسن مفقود، هذا وطفله متشبث به في بكاء ودموع. تلكم الأسرة، ذلكم القانون الإنساني، والشرعة الآدمية، فكل من تنحى وحاد فهو وحشي مسيخ. وفضيلة الريفيين أن نساءهم آلات للولادة والرضاع، وأنهم آلات للعمل والكدح، ليس لهن ضفائر مصطنعة ولا ذوائب مستعارة ولا لبان الأبكار، ولكن ليس على حبهن برص أو جذام. آخذون في ود صادق، وحب فطري ساذج، فلا يعلمون أن هناك عالماً جديداً اهتدينا إليه يسمى أمريكا، استعاضت نساؤهم عن رقة العاطفة وحدَّة المزاج، صحة الأبدان وسلامة الجسوم. لا ناعمات الأكف بل خشنات. لابضات الراح بل شثنات على أن ليس لقلوبهن خشونة

أكفهن. إن المدينة تعمل على عكس الطبيعة فإن العذراء المخلوقة لتجري مع الشمس. ولتعجب بالمتصارعين. ولتختار وتحب، نلزمها الدار فلا تخرج، ونحبسها في عقر البيت فلا تظهر، على حين أنها تخفي قصة غرام تحت نوطها. الله لجمالها، لشد ما تعود صفراء عاطلة أما مرآتها، وواهاً لها تُذبل في سكون الليل جمالاً يختنق. وتُذوي تحت أنفاس الظلام حسناً يعوزه الهواء. ثم نخرجها فجأة من مضربها جاهلة كل شيء لم تحب أحداً وتطلب الجميع، فتقع على عجوز تعلمها دروسها وتلقي عليها تعاليمها، ويأتي إليها فاسق فيهمس في أذنها بكلمة سوء فتنقاد إليه، إلى سرير رجل لا تعرفه أكفهن. إن المدينة تعمل على عكس الطبيعة فإن العذراء المخلوقة لتجري مع الشمس. ولتعجب بالمتصارعين. ولتختار وتحب، نلزمها الدار فلا تخرج، ونحبسها في عقر البيت فلا تظهر، على حين أنها تخفي قصة غرام تحت نوطها. الله لجمالها، لشد ما تعود صفراء عاطلة أما مرآتها، وواهاً لها تُذبل في سكون الليل جمالاً يختنق. وتُذوي تحت أنفاس الظلام حسناً يعوزه الهواء. ثم نخرجها فجأة من مضربها جاهلة كل شيء لم تحب أحداً وتطلب الجميع، فتقع على عجوز تعلمها دروسها وتلقي عليها تعاليمها، ويأتي إليها فاسق فيهمس في أذنها بكلمة سوء فتنقاد إليه، إلى سرير رجل لا تعرفه يسرقها عذريتها، ويهتك حجابها. ذلكم زواج المدنية، وتلكم العيلة المتحضرة، وانظر الآن إلى تلك الفتاة البائسة التي تزوجت فأصبحت حاملاً، وانظر إى شعرها المتساقط وخصرها المتثاقل، فقدت حسن العاشقات ولم تعشق، وضيعت فتنة المحبين ولم تحب. حملت ثم وضعت وهي تسائل لمَ الحمل وعلام الوضع؟ ويجيبونها: أنت اليوم أم. وتقول كلا، ما أنا بأم، ادفعوا بالرضيع إلى مرضِعة ترضعه، فليس في حلمتيّ من لبن. ويجيبها زوجها أنها على حق، فلعل وليده يأبى أن يرضع من ثدي والدته. ويروح أهلها ويغدون، يزينونها ويجملونها، ويضعون الغلائل الرقاق فوق سريرها الغارق بالدماء ويُعنون بالنفساء، ويتعهدونها بالدواء، حتى تتماثل إلى الشفاء، ولا يمر شهر حتى تراها في (التويلري) أو في المرقص أو في دار (الأوبرا)، وطفلها عند المرضع، وزوجها في أحضان المومس والبغيّ ويتلقاها عشرة فتيان شباب، ينفخون بكلم الحب في أذنيها، ويرسلون عبارات الهوى إليها، ويكلمونها عن الإخلاص والعاطفة والعناق الخالد، ويوحون إليها بكل ما يسكن ربع قلبها وينزل في ناحية من فؤادها. فتتخذ لها منهم عشيقاً، تضمه إلى نهديها، وتلقيه فوق كاعبيها، وتمكنه من عفافها فيبدده، وتسلم إليه صونها فيبتذله، وتعود إلى دارها بخزيها، وتنقلب إلى زوجها بعاره وعارها. ثم تنزوي في الدار مهجورة منتبذة، تبكي الليل، وترى أن جفنيها عادا قريحين من طول ما

بكت، فتنزع إلى فتى آخر ترود في عشقه عزاءها، وتطلب في حبه سلوتها، ثم تفقده فلا تني تبحث عن عزاء في غيره حتى يبلغ عشاقها الثلاثين أو يزيدون. وتعيش بعدهم جريحة قريحة، لا حب ولا رقة ولا جمال ولا غم ولا نفور، فرُب ليلة تلتقي فيها بشاب من الأحداث، له شعر فاحم وعين يطل من بين جفنيها الحب والعطف والحنان، وقلب بعلالات الآمال خفاق، وعلائل الرجاء نبّاض، فتذكر شبيبة لها ضاعت، وآلاماً تكبدت، ولوعة ذاقت، فتفيض عليه من دروس حياتها وعبر شبابها وتنصح له ألا يحب أبداً. ذلك مثل المرأة التي أخرجنا، هؤلاء خليلاتنا وضجعائنا، ولكن على رسلك، بحسبك أنهن نساء، وفيهن للذة سوانح وللنعيم فيهن فرص. فإن كان فيك صلابة وكنت حقاً رجلاً فاسمع نصيحتي إليك، ألق بنفسك في غمار العالم، واقذف بها دون خشية في لججه وعواصفه، واتخذ حبائب لك، خليلات وراقصات، وحضريات ومركيزات، وكن ثبتاً ومتحولاً، وفياً وغادراً، حزيناً ومفراحاً، مخدوعاً أو محترماً، واعلم أنه لا يهمك شيء ما أحببنك الساعة التي أنت فيها. وإن كنت امرأ وسطاً عادياً فرأي لك أن تتمهل في ريبك زماماً حتى يستقر، ولا تعتد بشيء تظنه في عشيقتك. وإن كنت رجلاً ضعيفاً تنزع إلى إسار المرأة وتنزل على سلطانها وتريد أن تنبت حيث ترى أية قطعة من الأرض. فاجعل لنفسك درعاً يقيك، وحرزاً يحميك، فإنك أن تُترك لطبيعتك الضعيفة الناحلة لن تنمو ولن تذكو ل تعود هشيماً كالإنبات الباطلة فلا زهر ولا ثمر، وتنتقل عصارة حياتك ونخوتها إلى شجرة غريبة، وتغدو أعمالك صفراء كأوراق السرو والصفصاف، لاريَّ لك إلا من دموعك ولا غذاء لك إلا من قلبك. ولكنك إن كنت ذا طبيعة سامية تهيم في الخيال وتطير تريد تحقيق أحلامك فأقول لك بكل صراحة - الحب غير موجود _. وهبني قلت لك أحب، أفليس الحب أن تهب الروح والجسم وإن شئت فقل تجعل من مخلوقين اثنين مخلوقاً واحداً، أليس الحب أن تمشي تحت ذُكاء، في الهواء المطلق الساجي، بين السنابل والمراعي، وألاعواد والمرج بجسم ذي أربع أذرع ورأسين وقلبين

اثنين! الحب هو الأيمان، هودين السعادة الأرضية، هو مثلث من النور استقر في سماء هذا المعبد الذي نسميه العالم! وأن تحب هو أن تمشي كيف تشاء في ذلك المعبد، يخطر إلى جانبك مخلوق يعلم لمَ تستوقفك الخطرة، وتستملك الكلمة، وتستلفتك الزهرة، لترفع رأسك إلى ذلك المثلث السماوي. إنفاذ المواهب السامية في وجودها حسنة كبرى. ولذلك كانت العبقرية نعمة محمودة، وأن تضم إلى موهبة وتجمع إلى قلب قلباً وإلى ذكاء ذكاء سعادة أسمى ونعيم أمتع، ولكن الله لم يكثر لنا منها، ولذلك كان الحب خيراً من العبقرية وأغلى قدراً وأعز شأناً. ولكن رويدك، أهذا الحب لدى نسائنا؟ كلا. فليس الحب لديهن إلا أن يخرجن مختمرات، ويكتبن مبهمات مُلغزات، ويخطرن مائسات، ويمشين على أطراف أصابعهن متهاديات، ويُبكين ويُضحكن ويظهرن للرجال بأعين مراض، ولحاظ فاترات، ويرسلن عفيفة التنهدات من أزار مصَنَّع مُرجَّل. الحب لديهن أن يذللن مزاحماً، أو يخدعن زوجاً، أو يهجرن حبيباً، أو يعرضن عن العشاق. الحب لدى نسائنا هو التلهي بالكذب، تلهي الصبية بالاستخفاء في اللعب. قلوب فاجرة، ونزعة إلى شهوة أين منها شهوة الرومان إلى أعياد برياب، واستخفاف بالشر كاستخفاف بالخير، ورواية هزلية ثقيلة الروح يتهامس الجميع فيها ويرمين بالنظرات، كل شيء فيها صغير بهيج، وكل شيء فيها شنيع، كمثل لعبات الخزف التي نجلبها من أرض الصين، سخرية بالجميل والدميم، وأزراء بالرائع والمروع والطيب والخبيث والطاهر والكدر، ظل ولا عرض، وهيكل لكل ما خلق الله. . .

واجب المرء نحو نفسه

واجب المرء نحو نفسه وواجبه نحو الله ما الغرض الذي ينتهي إليه الحق والواجب. وأين يستكن المطلب السامي البديع الذي كان حقاً علينا تحقيقه. والبحث في أن العدل يتجاوز تلك الحدود الضيقة التي وضعناها، ويعدو على تلك الرسوم التي رسمناها وإن الإحسان في دائرة العدل وتحت سلطانه أمر يشق علينا أن نأتي به في كلمة أو كلمتين بل بحسبنا أن نقول أن الواجب هو العدل، وسنرى بعد أن لا غنى لنا عن عنصر آخر هو الحرية فإنه وإن كان الظلم شراً مستطيراً وأن لا خير إلا في العدل فإن من الشر ما يكون عدلاً. وقبل الخوض في هذا البحث ينبغي لنا أن نشرح معنى ما يسمى بالواجبات الشخصية والواجبات الدينية، ولما كانت تلك الواجبات والحقوق علاقات بين الناس وروابط بين الأفراد كان صعباً علينا أن ندرك قولنا أن للمرء حقوقاً تخصه وواجبات تلزمه. ولما كان الواجب هو العدل والمساواة ركنه المكين وكانت المساواة في حق الله غير جائزة كان أشق علينا أن نفهم ما نعني بقولنا واجب المرء نحو الله. إن الآداب كلها آداب اجتماعية وقبل أن تذهب بك بعيداً ينبغي لنا أن نبحث فيما إذا كان هناك آداب دينية وآداب شخصية والمعنى الجدير بكليهما. الفصل الأول واجب المرء نحو نفسه هل لأنفسنا حق علينا؟ قالوا أن رجلاً اعتزل العالم وعاش في نجوة منه. في جزيرة مقفرة كما كان ربنسن كروزو، ملزم باحترام الإنسانية في شخصه ولكن هل يتصور العقل فرضهم أو يقبل منهم قولهم. فأين لإنسان بعيد عن الحياة الاجتماعي لا يدركها ولا تربطه بها رابطة ولا تجمعه بها آصرة أن يحترم الإنسانية ويوقرها. ما كان ربنسن كروزو منقطع الأمل من الرجوع إلى الإنسانية والمعيشة بين قومه بل قد عاد إلى الناس وآب إليهم وكان لربنسن كلب وقط وببغاء والتقى في معتزله (بجمعة)

إن من يحترم الإنسانية في شخصه حق عليه أن يعد نفسه جزءاً منها، ومن انفرد عن العالم وانتبذ مكاناً من المجتمع وانقطع منه كل رجاء في الرجوع إليه ولم يرتبط به في شيء فقد أصبح غريباً عن الإنسانية خارجاً عنها ولو أمكننا أن ندرك أن في وسعه أن يحافظ على كرامته وشرفه وقد فعل لما كان فعله إتباعاً لآداب عمومية وقياماً بواجبات اجتماعية وإنما هو إحساس شريف ونزعة جميلة. الواجب دَين، والإنسان لا يكون مديناً لنفسه ولا يملك لها إبراء ولا صرفاً فلا وجود إذن للواجب الشخصي بالمعنى الحقيقي. من كان مديناً لغيره فحق عليه العمل لسداد دَينه وكلنا مدينون للمجتمع فيلزمنا إذن أن نعمل لتوفيته دَينه وأن نقف بحيث يتسنى لنا العمل وما واجبنا على أنفسنا في الحقيقة إلا حقوق للمجتمع وعهود وخلاصة هذه الواجبات أن يحافظ المرء على كيانه ويسلم من الأذى. إن الشقي الذي ناء بالحياة حملاً وضاق بها ذرعاً وأقفر من الفرح ولأمل فأجمع أمره على فراقها والتخلص بالانتحار من همها أحق بالرأفة وأجدر بالرثاء والرحمة وعلينا أن نكم أفواهنا إزاء بأسائه ونمسك عن القول أمام شقائه ومن كان في رغد من العيش لا يشقى بعبء الحياة فلا يحق له أن ينقم على المسكين ويحكم فيه بأمره فإنه لا يدري ماذا كان يفعل لو كان في مكانه وهذه حقيقة لا يقل عنها ثبوتاً ووضوحاً أنه لا يجوز لأحد منا أن يستل روحه ويجهز على نفسه هرباً من واجب الإنسانية وتخلصاً مما عليه من الحقوق. إن المجتمع في حداثة أعمالنا يقوم بجميع حاجاتنا ولا نقوم في مقابل خدمته بشيء إلى أن يبلغ الفرد منا خمس عشرة سنة إن كان صانعاً أو العشرين أو الخمسة والعشرين إن كان محترفاً بإحدى المهن الحرة كالطب والمحاماة فهو قبل تلك السن ثروة إلى حين ومتاع مدخر لم ينتج بعد شيئاً للمجتمع ونبت لم يزهر وغرس لم يثمر وهو ملك للجماعة بكليته. المحافظة على النفس غير مقصورة على الاحتفاظ بالوجود بل على جميع قوى الحياة الأدبية والمادية من صحة وعقل وذكاء ولب وقلب وحرية وليست قوانين الصحة إلا قواعد أخلاق واجب على المرء إتباعها أضف إلى قوانين الصحة قواعد تثقيف العقل وإنماء المدارك فلا يسوغ له أن ينهك ذكاءه أو يخمد وهج نوره أو يقسي قلبه بل يجب عليه أن يتعهده بأنواع الحب والشفقة ولا يميل به إلا إلى كل حسن جميل وإذا جاد لامرئ بقلبه

فليجد دون قيد ولا شرط. والغيرة على الحرية واجبة قبل كل شيء فلا يجعل المرء لأحد سلطاناً عليه فإن مصيبة المصائب ونكبة النكبات أن يكون الإنسان آلة في أيدي غيره وأنني إذا ما خامرني شك في استقلال امرئ بيني وبينه خلطة وعمل ورأيت منه أنه لا يعمل بإرادته ولا يفكر بعقله عراني لحاله ألم شديد وتضاءل أمامي حتى لأتلمسه فلا أجده وإنما أجد مكانه خيالاً يدعو إلى الرعب والفزع كلما قام أو قعد ظننت أنه يخفي وراءه شباكاً نصبت لاغتيالي. أعمل بإرادتك واختيارك وإذا ما أحرجتك الصيحة فلا تستثر إلا ذا بصيرة وعقل ولكن احرص كل الحرص على حقك في إهمال رأيه إذا أنت لم تجده سديداً وأن في تخيلك عن حريتك تركاً لحقك في قضاء واجبك ولا تضع شيئاً فوق ضميرك ووجدانك. وجملة القول واجبك نحو نفسك أن تكون صالحاً لأمر ما وذا قيمة ونفع للبيئة التي تعيش فيها وقد تضطر بعض الأحيان إلى تضحية النفس في سبيل خدمة قومك فافعل ولا تحجم إن كانت هذه التضحية من واجبك ولا يلتبس عليك الانتحار بالتضحية وما تضحية الروح إلا أن تقذف بنفسك إلى حظيرة الموت أو أن لا تطير على الأقل من الموت رعباً وجبناً فإن كان الدافع لك صالحك الشخصي بأن اعتقدت أن في مفارقتك للحياة سعادة لك وهناء لروحك أو نهاية لآلامك وأحزانك وخلاصاً من بؤسك وشقائك فهذا هو الانتحار. أما التضحية فالعمل بشجاعة وثبات على قضاء واجب يكون الموت خاتمته وقد يدعوك واجبك إلى اقتحام المخاوف وتعريض حياتك إلى الأخطار وبذل صحتك وراحتك أو ترك شيء من آمالك وما ترتجيه من مستقبلك أو إلى تمزيق قلبك وإطفاء وجدانك، ومن الجائز - وإن كان من أندر الأمور_أن يقضي عليك صالح الجماعة بتنازلك عن جزء من استقلالك وحريتك فأقدم ولا تجبن إن كان هذا واجبك فإن ما في جسمك من لحم ودم وعظم وما في رأسك من ذكاء وعقل وبصر وسمع وما فيك من قوة وصحة وشعور وإحساس متاع للمجتمع وثروة لست إلا مديرها وأنك لم تعط هذه المواهب لتحبسها وتضن بها كالبخيل الذي يشح بماله ويحتفظ بكنوزه فتذهب فائدتها وإنما لتحسن تصرفها وإنفاقها في صالح أمتك ووطنك. الفصل الثاني

واجب المرء نحو الله وهل لله حق على الإنسان؟ وهل من حقوق الله أن نؤمن به ونسلم بوجوده؟ ليست العقيدة كرهاً لأنها خارجة عن إرادة المرء فليس في وسع الإنسان أن يحمل نفسه رغماً منها على التصديق بدعوى يعلم باطلها أو يرغم شعوره على إنكار حقيقة أقتنع بصدقها أو يكره عقله على تصديق ما لم يكن مصدقاً، ومن ذا الذي يستطيع أن ينتزع من مخيلته صورة شيء ماثل أمام عينيه يلمسه ويراه، ولكن لا يجوز له أن يعارض في الحق أو ينصر الباطل أو يرضى بحجة لا يرى سدادها، وإنما الجائز له أن يبحث دون غضب أو تحيز. لا إكراه في الدين، وإنما الإكراه على حسن النية، ولقد يدعي المتدينون أن إخلاص النية يؤدي حتماً إلى الأيمان ولكن من لم يهده نور الإنجيل فلا هادي له من نفسه وإن من استرشد بتعاليم المسيح فلن يضل السبيل إلا إذا استبدت به شهواته وميوله الفاسدة. لا ننكر عليهم أن كثيرين من الملحدين ساقهم إلى الإلحاد أسباب غير شريفة ولا وجيهة وإن الطفل الذي يتربى في أحضان الدين يضن بعقائده الساذجة عن أن تعرض إلى المناقشة والبحث حتى إذا ثارت شهواته وتيقظت مداركه شرع يبحث في عقيدته وأخذ في نقدها وتحليلها وفك قيودها وأغلالها وقل ما يكون عادلاً أو دقيقاً ولا يكاد يفسد أيمانه حتى تنهار أخلاقه وتسقط آدابه وكذلك كل بناء يرتكز على أساس غير متين لا يلبث أن ينهار لا محالة. ما أضعف التربية المرتكزة على الدين المحض وما أشد خطرها على الأخلاق بل ما أبلغ ضررها على الدين نفسه فإن فكرة الناشئ في التخلص من عقيدته والخروج عليها تحدث غالباً من ميل فيه إلى التخلص من الآداب والأخلاق. وإذا نبذ الشاب الحدث معتقداته الدينية خفة منه وتسرعاً فإن الرجل الناضج قادر على نقدها واختبارها دون ميل أو تحيز ولا يسعنا أن ننكر عليه رزانة فكره وسداد رأيه أو أن ننسب عجزه عن مقاومة شكوكه إلى نقص في صدقه وأمانته فإن العقيدة هي التي تنقصها الأمانة في البحث.

أليس من الأمانة أن يتنزه المرء عن الأغراض ولا يضع نصب عينيه نتيجة معلومة له من قبل يروم الوصول إليها ويتطلب كل دليل يقوم على صحتها وما العقيدة إلا دعوى مسلم من قبل بصدقها أو تحيز إلى طرف مخصوص. وحب المتعصب دينه أكثر من حبه الحقيقة فلا يعرض دينه لخطر المناقشة ويعمل جهده على الابتعاد عن الجدل ويحرم قراءة بعض الكتب ويحكم على مناظره بأنه عدو للدين لدود فكأني به غير متثبت من يقينه أو لا يريد الإقرار بهزيمته وضعفه. إن المعرفة شيء والاعتقاد شيء أخر ولا جامعة بين العلم والدين فكل بمعزل عن الأخر إذ الدين عبارة عن التشبث بأمر لم يقم الدليل على صحته. إن وجد المرء عقيدة أفضل من عقيدته فإخلاصه يقضي عليه بالخروج عن عقيدته واعتناق الأخرى وأن يشك فيما هو موضع للشك وأن يقول لا أدري فيما لا يدري. أجل إن من المتدينين من ليس مقلداً ولا متبعاً أسلافه إتباعاً أعمى وإنما آمن بدينه لاقتناعه بصحته ونهوض الدليل لديه على صدقه غير أن اليقين المطلق الذي لا يقبل نقضاً ولا شكاً غير موجود إلا في بعض نظريات رياضة وفيما عدا ذلك فكل م نعلمه ونعرفه معتمد على أساس من الريب والظنون وقد أرجع سبينوزا أسباب الاقتناع إلى أمرين فالأول أن يدرك الذهن بنور ذكائه متانة البرهان فيذعن له والثاني أن يعمى المرء لجهله أو لغباوته عن ركاكة الدليل وأوجه الطعن فيه فلا يرى بداً من التسليم. فالدليل لا يكون ناهضاً قاطعاً إلا لمتانته أو لعدم إدراك مواضع ضعفه ولكن لا يمضي يوم ويظهر لنا فساد بعض الأراء والأدلة التي كنا مقتنعين بصحتها مخدوعين في متناتها وذلك بفضل البحث والمناقشة. من بذل لنا جهده فقد قام بواجبه ولا لوم على من سعى وأخطأ. إذن فلا إكراه على العقائد وإنما المرء مكره على أن لا يبحث في المسائل الهامة بنزق وطيش بل عليه أن يبلوها بصدق وثبات. ومن عمل جهده في مسألة وجود الله واليوم الآخر وكان رائده الإخلاص والأمانة فلا يستحق اللوم والتأنيب مهما كان الحل الذي يصل إليه فلا حجر على الآراء والمبادئ ولا واجب بإزائها غير الدقة والأمانة.

لا حقوق لله على أولئك الذين ينكرونه، ولكن على المتدينين أن يعلموا بدينهم ويصدعوا بعقيدتهم. ومن المدهش تسامح المتدينين مع من يظهر الأيمان ولا يعمل به وتشددهم في معاملة الملحد وعظيم كراهتهم له مع أن الاثنين سيان لأن المهمل لقواعد دينه في الواقع لا دين له والأيمان عنده ولا يعلق أهمية كبرى على عقائده حتى يفكر في خلعها ويستهتر بها ويعتدها ميثاقاً محلولاً فلا يهتم لنبذها. ومن نظر إلى الأديان نظرة اعتبار واهتمام فألقى حبلها على غاربها وأخلى عقله منها بعد أن فكر فيها كثيراً أقرب رجوعاً إلى الله وأكثر استعداداً لقبول المعتقدات الدينية. ليس لنا أن نبحث في الطقوس الدينية والشعائر الخاصة بنظام الكنيسة لخروجها عن موضوع هذا الكتاب وعدم تعلقها بالآداب والأخلاق ونقصر القول على المبادئ الدينية العامة التي يشترك فيها جميع الأديان والتي يسميها بعضهم بدين الفطرة. أول واجب لله عز وجل إطاعة أوامره وتنفيذ إرادته والمتدينون يعتبرون الوازع الأدبي بمثابة إرادة الله ووحي منه إلى القلوب والأفئدة ويرون أن واجب الله هو أول الواجبات وأعظمها فقد قال السيد المسيح أول الواجبات محبة الله ثم أعقبه بقوله أحب لغيرك ما تحبه لنفسك لا فرق بين الآداب عند المتدينين وغير المتدينين فما يعمله الفريق الأول طاعة منه واحتراماً أو خوفاً ورهبة يعمله الفريق الثاني لدواع اخر وسواء كانت الحكمة المحصنة هي التي ألهمت الضمائر الوازع الأدبي أم ذات عليا هي التي أوحت به إلى القلوب فالوازع واحد لا فرق فيه. إن أهم التكاليف الدينية بعد محبة الله ولب الدين ومحوره الذي يدور عليه هي الصلاة. وليست الصلاة بركوع وسجود وترتيل وتمتمة وإنما هي صعود بالروح إلى الله وتمثله في مخيلتك والإخلاص في حبه بل هي هتاف ذاكرتك وخفقان قلبك وأنعام فكرك، وإن أردت الصلاة فأحب الله واستحضره في ذهنك، إنه يقرأ ما يكنه صدرك وما يجول في خاطرك. يستمد الحب نوره من العطف والحنين وذلك أن تتجاوب القلوب بخفقانها وتتناجى الأرواح بمكنوناتها وجدانها على لسان من الانفعالات النفسية التي تظهر على الوجوه والأطراف، والحبيب في حديثه وأفعاله ونظرات طرفه وتقاسيم وجهه وابتسام ثغره يزيدنا تعلقاً به

ويحمل روحنا على الامتزاج بروحه والله سبحانه وتعالى لم يتجل لنا إلا في صنعه ومخلوقاته أعني الكون والطبيعة فبالكون يتسنى لنا الإفصاح عن محبتنا لله عز وجل. والإعجاب بالطبيعة في جلال منظرها وعظيم اتساعها وحسن نظامها ودقيق سيرها صلاة وعبادة هذا إذا لم يكن استخدام أسرارها في منفعتنا واستدرار خيراتها هو الباعث لنا على ذلك. أجل إن نفوسنا لا تتجه إلى الله عز وجل إذا كان همنا من التأمل في مخلوقاته استثمارها والانتفاع بأسرارها لأنا حينئذ لا نحب إلا أنفسنا ولا نفكر في غيرنا ولا نعطف على أحد سوانا إنما الصلاة أن تطيل نظرك في محاسن الطبيعة وتتغلغل بفكرك في عجائب الكون لتبع طرفك من الجمال ونفسك من الهيبة والخشوع. إن الله هو الكمال والدوام والغيب والخفاء لا تدركه الأبصار ولا تحيط به العقول، مهما حثثنا السير إليه وأجهدنا قوانا للاقتراب منه لا نقطع غير مرحلة صغيرة لأن مواهبنا محدودة ومحصورة يستحيل فك قيودها وإطلاقها من سجنها وإنما في قدرتنا أن نباعد بين جدران سجنها بأن نعيش لغيرنا ولا نفكر في أنفسنا ولا نتفانى في حب ذاتنا وأن نعني من شؤون الناس بمثل ما نعني بشؤوننا ونفسح المدى لقلوبنا ونزيد دائرة اهتمامنا ونمتزج بالمجموع حتى تفنى شخصياتنا. الإنسان بطبعه ميال إلى الاعتزاز بنفسه والاعتداد بشأنه والاهتمام بشخصه والاعتقاد بأنه ركن العالم وقطب الرحى وهذا خلق مناف للدين والتقى إنما الدين في كل ما يكبح من جماحك ويقصر من غلوائك ويخمد من كبريائك ويردك إلى منزلتك ويعرفك بحقيقة قدرك وقيمة نفسك كما يقول بسكال وفيما يمر بنا من الهواتف الداعية لنا بالرجوع إلى الصواب وعدم النظر إلى الأمور بعين الأثرة وحب الذات وفيما يحملنا على الاعتقاد والشعور بأنا لسنا ذرة صغيرة في الكون لا قدر ولا أهمية لها في الوجود وفي كل ما يكشف لنا الغطاء عن واجبنا ويهدينا إلى العمل الصالح. إن الفنون الجميلة تعد من قبيل الصلاة ولا أعني الفنون الدنيئة التي تثير اللذائذ وتوقظ الشهوات بل الفنون الراقية التي بخيالها وجمالها وخداعها للعين تصور الطبيعة وتمثل الحقيقة وتبعت في النفوس (كما يقول كانت) سروراً عاماً لا قصد له.

ولا يعشق الطبيعة إلا من عرفها وألم بأسرارها ومن تعمق في دراسة صنع الله وأنعم النظر للوقوف على أسرار خلقه كان أقرب إلى الله. ولذلك كان العلم ضرباً من ضروب التعبد والتسبيح ولكن ليس ذلك العلم الذي يسعى في إذلال الطبيعة لخدمة الإنسان بل العلم الذي نتطلبه حباً في العلم وتوقداً للذهن وإطفاء لظمئنا إلى الحقيقة واليقين فهذا أجل العبادات وأطهرها. أليس الله كما يعتقد المؤمنون هو الحكمة الخالصة واليقين المطلق وإذا كان الأمر كذلك فهل يوجد أنقى من صلاة يتزلف فيها المرء إلى ربه بنور الحقيقة وضياء اليقين. وما أحسن ما قاله مالبراتس في ذلك من يعرف الحقيقة يرى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتجلى لنا في النتائج ويظهر في البديهيات هو نور ذكائنا وشعاع عقولنا. ليست الصلاة مقصورة على التأمل والنجوى وتسريح الظن في صنع الله بل تشمل الاستغاثة والاستعانة به سبحانه وتعالى فإن الله كعبة المؤمن ومحط آماله ورحاله ومصدر الخير ومنبع الاحسان ولكن ماذا يجمل بنا طلبه منه عز وجل؟ هل نبتهل إليه ليرفع عنا البلاء ويعافينا من الأمراض والأسقام ويسدد مساعينا وينجح مقاصدنا ويسبغ علينا من نعائمه وينزل علينا الغيث ويسخر لنا الشمس لحرث الأرض وإنبات الزرع؟ ألا أنه لا يحسن بالمؤمن أن يتضرع إلى ربه ليؤثره بخبراته فإن طلباً كهذا أساسه الأثرة وحب الذات والأثرة قارورة الشر ومن الجنون والحمق أن ندعوا الله إلى خرق ناموس الطبيعة وتغيير نظام الكون وقد جاء في انجيل متى أن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه بدون أن تسألوه إياه. وإنما الذي يحسن بنا أن نطلبه من الله أن يهدينا السبيل ويرشدنا إلى الخير ويوفقنا إلى الإحسان ويهبنا القوة والشجاعة في أداء واجبنا فإن هذا لا يستلزم إظهار المعجزات ولا يدعو سبحانه وتعالى إلى خرق نظامه ولأن صلاة كهذه تقوي فينا العاطفة الأدبية وتقتلع من أفئدتنا أصول الشر وتحملنا على بذل الخير وعمل الإحسان. وخليق بالصلاة أن تعد من ضمن ما علينا من الواجبات لأنفسنا لا من حقوق الله علينا فأن الله قائم بذاته غني عن العالم غير مفتقر إلى أحد لا تؤثر عليه أفعالنا لا في قدرته وإرادته ولا في جلاله وكبريائه تعالى عن النقائص وتنزه عن الفقر لا تعوزه صلاتنا وإنما نحن الذين تعوزنا الصلاة إليه فإن في الصلاة وصعود الفكر وتوجيه القلب إليه تزكية للنفوس وتطهيراً

للضمائر وتقوية للعزائم وتنويراً للأذهان. إذا تقرر كل ذلك علمنا أن في طاقة الملحد بل من المحتم القيام بواجب المؤمن قبل ربه فإن الأخير وإن صف يديه وثنى ركبتيه غير أن ما يخفيه بين أحشائه ويكنه في ضميره قد يخالج الأول ويستقر في أعماق نفسه. إننا إذا صعدنا بنفوسنا قبل الله فإنما نصعد بها قبل العدل والجمال والحقيقة والملحد غير عاجز عن ذلك. إن المؤمن وإن رأى ضرورة تمثيل الكمال والجمال والحقيقة والعدل في ذات الإله إلا أنه لم يتقدم عن الملحد خطوة ولم يسبقه قيد شيء لأن مواهبه محدودة فلا يقدر أن يحيط بغير المحدود ولا يدرك شيئاً من الحقيقة إلا بواسطة العلوم ولا يحظى بالجمال من غير الفنون والطبيعة ولا يتسنى له العدل إلا بالعمل. ومن هنا يتضح لنا جلياً أن الواجبات الدينية هي في الحقيقة واجبات شخصية وقد أثبتنا أن جميع الواجبات الشخصية في الواقع واجبات اجتماعية والخلاصة أن الآداب النفسية والدينية داخلتان ضمن الآداب الاجتماعية التي هي الكل في الكل.

ابن زيدون

ابن زيدون أو صفحة من مجالى الأنس في ليالي الأندلس هذه هي المحاضرة الجلية التي ألقاها سعادة العالم البحاثة الثقة أحمد زكي باشا سكرتير مجلس النظار في نادي موظفي الحكومة بالاسكندرية - وقد أتحف بها سعادته مجلة البان فنشكر لسعادته الشكر كله طرفة غالية ستعيها إن شاء الله أذن صاغية 1 تمهيد قلبي بأندلس مدله وعقلي بأطلاله موله. وهيامي بأهليه حديث قديم، وغرامي بساكنيه مقعد مقيم. وحنيني إليه يحبب لي فيه الأسى والحنين. فلا غرو إذا كنت أتصيد الفرص السوانح ولا عجب إذا كنت أتقنص الشوارد والبوارح، لأترنم بذكرى المحبوب. فإن الذكرى بلسم القلوب. أفليس المصدور يروح نفسه بنفثه؟ وهل يلام المستهام إذا تحين خلسة لبثة؟ فاعذروني على هذا الهوى العذري! فقد خانني شعري ولم يساعدني نثري على أنني أعلل نفسي بأن تستمعوا لهمسي وتعاونوني على إحياء أندلسي فذلك الهوس هوسي قد لازمني في حلمي وفي حسي واستمكن من عقلي واستولى على نفسي فهل أحظى بشارقة يكون بها أنسى قبل أن أدخل في رمسي. ناشدتكم الله أن تسمحوا لهذه الزفرات أن تتصاعد على مسمع منكم! وأن تبيحوا لهذه العبرات أن تتحدر على مشهد منكم! فلعلي أجد في هذا الأنين راحة مما يجده قلبي الحزين! ولعلي أتوصل لإيصال صورتي إلى أعماق قلوب الحاضرين ولإرسال صداء إلى غاية مداه بين الغائبين! ولعلي ولعلني. ولعلني أرى الكثيرين من أبناء أمتي يشاركونني في صبابتي ولوعتي! فو الله أن الشرك في مثل هذا الغرام ليس فيه شيء من الحرام لا في شرع الهوى ولا في شرع النهي، ولا في شرع الهدى، فكل شرك مذموم: اللهم إلا ما كان فيه تعاون على البر والتقوى. وليت شعري أي تعاون أفضل من وضع الأيدي ومن توازر العقول بالعقول ومن تجاذب الأرواح إلى الأرواح للتناصر على إحياء كلمة الأدب بين العرب حتى يزدان هذا العصر الجديد بما كان للشرق من فخر قديم ومجد تليد.

لعمري إذا ما سرى هذا التيار تيار الكهرباء المنبعث من ذياك الغرام في صدور أبناء العرب الكرام، فلا جرم أن تتوقد في قلوبهم تلك الحمية التي امتلكوها بها نواصي الأيام. ولا ريب في أن يشتعل في نفوسهم ذلك الحماس الذي سادوا به على الناس فالأيام دول ومن سار على الدرب وصل! كنت آليت على نفسي في هذه السنة أن لا أناجي هذا النادي، وأن لا أحاضر هذا السامر بما أتلقفه من بطون الطوامير وما أهتدي إليه بين دفات الدفاتر مما ينضاف إليه شيء من علمي القاصر وخاطري الكليل الفاتر وكنت أردت أن أحقق في نفسي ما قاله حكماء العجم والعرب. إن كان الكلام من فضة: فالسكوت من ذهب فلزمت الصمت ولازمت البيت: وعكفت على خدمة الدفاتر والطوامير. ولبثت منتظراً انهيال القناطر من الدنانير: ولكن حرفة الأدب لا نسبة ولا نسب بينها وبين الذهب. فلم أحظ بذهب السكوت وانفضت عني فضة الكلام فكان حظي صفقة المغبون. وكأن الأقمار حكمت علي بفضة الكلام لا غير فأثارني من مكمني. وهزني بشدة عنيفة لمعاودة المحاضرة في هذا النادي. ذلك أن جريدة النوفيل التي تصدر في الإسكندرية كتبت ذات يوم فصلاً عن المسيو بوانكاريه رئيس الجمهورية الفرنسية أثناء زيارته لعاصمة الأنقليشيين (كما يقول الأندلسيون) أو الأنكتار (كما كان يقول المصريون في أيام الحروب الصليبية) أو الانجليز (كما نقول نحن اليوم) تلك العاصمة التي كان أهل الأندلس يسمونها لوندرس وعلى منوالهم جرى الاسبانيون إلى الآن، وهي لوندرة في اصطلاحنا عن الفرنسيين أو لندن في عرفنا أيضاً عن أبناء جلدتها. قالت جريدة النوفيل أن المسيو بوانكاريه استقبل عشرين وفداً من طوائف الانجليز ورجالاتهم المعدودين، وكلهم قدّم له خطبة للترحيب بمقدمه إلى بلادهم. فأجاب كل خطبة بعبارة من الشكر تخالف ما أجاب به الأخرى. وهكذا استعمل الرئيس عشرين صيغة مختلفة في الشكر. فدل بذلك على تضلعه من لغته وتبحره في آدابها. وكانت هذه البراعة سبباً لإعجاب الناس بهذا الاقتدار. تلقف الإخباريون هذه النادرة فأطنبوا في مدحها وأعجبوا بالرئيس إعجاباً ما وراءه من مزيد.

رأيت ذلك فأخذتني العصبية لقومي، والحمية للغتي. فأمسكت القلم وكتبت في الحال لجريدة النوفيل فصلاً باللغة الفرنسية تكرمت بنشره في اليوم الثاني. أظهرت في هذا الفصل ما تذكرته من أوجه الشبه بين الوزير ابن زيدون وبين الرئيس بوانكاريه ثم ذكرت ما رواه ابن بسام صاحب الذخيرة في محاسن الجزيرة أي جزيرة الأندلس. قال عن ابن زيدون: فاما سعة ذرعه، وتدفق طبعه؟ وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه: فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد، والرمل الذي لا يحصى ولا يعد. أخبرني من لا أدفع خبره من وزراء اشبيلية، قال: لَعهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حُرَمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم، فما سمع يجيب بما أجاب به غيره لسعة ميدانه، وحضور جنانه قال الصلاح الصفدي: وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام. وهو أمر صعب إلى الغاية وأقل ما كان في تلك الجنازة - وهو وزير_ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يشكر له، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر. وهذا كثير إلى الغاية، ولا سيما من محزون فقد قطعة من كبده. ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب أظهرت للجريدة الفرنسية أن ما صنعه ابن زيدون أكثر بكثير مما فعله الرئيس بوانكاريه، ولا سيما إذا نظرنا إلى الموقفين فإن المثكول بالأولاد، المحروق الفؤاد، يستعصي عليه الكلام، ويحتبس لسانه دون البيان، ولو كان في بلاغة قس وفصاحة سحبان. ثم ذكرت في تلك الرسالة أن ابن زيدون ممن يستأهل التعريف به في هذه الأيام، وأنني ربما اختلست فرصة من وقتي وتملصت من الأشغال الكثيرة التي تستفرغ جهدي وفكري لتحضير محاضرة أتحف بها أخواني في نادي الموظفين بالإسكندرية. ولكنني لم أختم الرسالة دون الاستطراد إلى ما فعله بعض المشارقة مما ينطوي تحت هذا الباب واخترت ثلاثة شواهد أوردتها لأولي النهي من الإفرنج والجاهلين أو المتجاهلين من المصريين المتفرنجين ليعلموا أن في العربية كنوزاً لمن يطلبها، وذخائر تجعل لها ولأهلها فخراً باقياً. اخترت المثال الأول من العراق، وأشرت إلى الحريري صاحب المقامات وذلك أنه كلما جمع بين الحارث بن همام وبين أبي زيد السروجي واحتاج إلى التفريق بينهما وإلى القول فلما أصبح الصباح تراه يعبر عن هذا المعنى في كل مقامة بعبارة تغاير الأخرى.

والمقامات بيننا تنطق بهذا الشاهد الصادق. واخترت الشاهد الثاني من مصر. فإن الخطيب ابن نباتة (الذي شرح إحدى رسائل ابن زيدون) أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه ترجعون وهذا أمر بارع معجز والناس يغفلون عن هذه النكتة فيه. والشاهد الثالث اخترته من لشام وهو الصلاح الصفدي (الذي شرح رسالة أخرى لابن زيدون) فإنه ألف كتاباً كبيراً في تاريخ المشهورين في عصره وسماه أعيان العصر وأعوان النصر وهو يقع في اثني عشر مجلداً: فكلما ذكر وفاة أحد المترجمين استعمل عبارة تخالف الصيغة التي استعملها عند كلامه على وفاة غيره وهلم جراً. هذه خلاصة الرسالة التي نشرتها في جريدة النوفيل في اليوم التالي لليوم الذ أوردت خبرها عن براعة الرئيس الفرنسي. فأنتم ترون أن الفضل الأول يرجع إلى هذه الجريدة في محاضرتي الليلة. والفضل الثاني يرجع إلى مؤلفي العرب الذين رجعت إليهم في تلقف هذه الشوارد التي سأقصها عليكم: وهم: أولاً_ابن بسام صاحب الذخيرة (وقد أحضرنا في دار الكتب الخديوية نسخة منها بخط مغربي نقلناه إلى الخط المشرقي بواسطة العلامة فقيد اللغة والأدب لعهدنا هذا المرحوم الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي) ثانياً_قلائد العقيان للفتح بن خاقان الأندلسي. ثالثاً_المعجب بتلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي. رابعاً_البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى المراكشي (وترجمته للغة الفرنسية للموسيو فانيان خامساً_سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة المصري. سادساً_تمام المتون من رسالة ابن زيدون التي كتبها لابن جهور وهو لصلاح الدين الصفدي (وتوجد منه نسخة جليلة في الخزانة الزكية). سابعاً_أعيان العصر وأعوان النصر لصلاح الدين الصفدي أيضاً (وليس لهذا الكتاب أثر في القطر المصري سوى الجزء الأول الموجود بالخزانة الزكية).

ثامناً_مسالك الأبصار لأبن فضل الله العمري. تاسعاً_تاريخ مسلمي الأندلس للعلامة دوزي الهولاندي في أربعة أجزاء إلى غير ذلك من الكتب والرسائل الأخرى الموجودة بلغات متعددة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها: ومما يحسن ذكره أنني حينما شرعت في هذا المبحث رأيت أن اثنين من أفاضل العلماء المستشرقين قد سبقوني إليه. وذلك أنني كنت أبحث في قوائم الكتب المعروضة للبيع في بعض أسواق ألمانية فرأيت كتابين عن ابن زيدون لم يكن لي بهما علم قط قبل ذلك اليوم. فأولهما - كتاب صنفه دكتور في العلوم اللاهوتية وهو الاستاذ هَندرك أنجلينس بن ويَّرس الهولندي اقتضر فيه على نقل ما كتبه الفتح بن خاقان عن ابن زيدون ثم ترجمه للغة اللاتينية مع شروح كثيرة وتفاسير عدة وطبعه في مدينة ليدن سنة 1831 (وقد أحضرت هذا الكتاب). وثانيهما - هو المستشرق بستورن طبع رسالة ابن زيدون إلى ابن جهور وترجمها باللاتينية وصدرها بحياة ابن زيدون وعلق عليها كثيراً من الحواشي والشروح باللاتينية وطبعه سنة 1889 (وقد سبقني غيري إلى اقتنائه ولكنني سأجتهد في الحصول على نسخة منه أضمها إلى الخزانة الزكية). فأنتم ترون أن رجلاً كابن زيدون يُعنَى به العلماء من العرب وغير العرب على كر الغداة ومر العشي واختلاف المذاهب جدير أن يكون موضوع السمر في هذا النادي. 2 كلمة صغيرة عن الأدب الأندلسي فتح العرب الأندلس في أواخر المائة الأولى للهجرة، ثم أخذوا ينثالون على تلك البلاد الجميلة من جميع بلاد الإسلام، هنالك راجت سوق الحضارة الإسلامية، واستبحر العمران العربي، ونفقت بضاعة الأدب، وارتفعت رايات العلم، فبلغ القوم شأواً بعيداً، وأبقوا لهم فخراً مجيداً، فكانت لهم تلك الآثار التي تلعب بالعقول، ولا لعب الشمول، وسحروا الألباب، بما أتوا من العجب العجاب، حتى أقر بفضلهم ابن فضل الله العمري مع شدة تعصبه عليهم في كتابه المشهور مسالك الأبصار فقد اعترف بأنهم لطفوا مسالك الأدب، وأفادوا شرف الحضارة محاسن العرب، وقلبوا الأعيان، وسحروا الألباب بالبيان، فجاؤوا بأعجب

العجيب، وزادوا بحسن السبك خالص الذهب، وإن كان المشرق قد أنتج من طبقة أهل الأندلس من لا يُحجم به المُفاخر، ولا تحجب به المفاخر. ولكن للأندلسيين لطائف أعلق بالقلوب، وأدخل على النفوس في كل أسلوب. وستسمعون مصداق ذلك مما سأسرده عليكم من نقثات تلك الآيات البينات، التي تدلكم على أن كلام الأندلسيين ذهب بين رقة الهواء وجزالة الصخرة الصماء. فكان كما قال شاعرهم الأندلسي عبد الجليل بن وهبون المرسي: رقيق كما غنّت حمامة ايكة ... وجزل كما شق الهواء عقاب أولية ابن زيدون كان في جملة القبائل التي ذهبت إلى الأندلس رهط من بني مخزوم توطنوا في جهات قرطبة وما إليها. وناهيك بهذه القبيلة ذات الشرف الصميم، واللسان القويم. فكان بنو زيدون من رجالاتهم المعدودين، خصوصاً في الفقه والأدب. واشتهر منهم ثلاثة حفظ لنا التاريخ أسماءهم وهم: أولهم_أبو بكر غالب بن زيدون. ثانيهم_أبو الوليد أحمد بن زيدون (وهو قطب الدائرة في هذه المحاضرة). ثالثهم_أبو بكر بن زيدون. كان مولد الأول سنة 304 ومات سنة 405 بعد أن بلغ من العمر مائة سنة. توفي في ضيعة له، ثم نقلوا تابوته إلى قرطبة، فدفن بالربض (أي الضاحية). وهنالك رثاه أبو بكر عبادة الشاعر الأندلس بما يعرفنا بمقامه في قومه: أي ركن من الرياسة هيضا ... وجموم من المكارم غيضا حملوه من بلدة نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا مثل حمل السحاب ماء طبيبا ... لتداوي به مكاناً مريضا وأما ثانيهم فهو واسطة العقد، والذي سيدور عليه كلامنا فيما بعد. والثالث هو الذي تقلد بعد أبيه (أبي الوليد) وزارة المعتمد بن عباد. وقد انتقم لأبيه من ذي الوزارتين ابن عمار على ما سنراه في آخر الكلام. وكان أبو بكر هذا هو الذي تولى السفارة عن أبن عباد إلى يوسف بن تاشفين صاحب المغرب الأقصى حينما تنمر

الاسبانيون مع ملكهم الأذفونش (الفونس السادس) لملوك الطوائف، وخصوصاً لبني عباد في خطب يطول شرحه، ولا يسع المقام تلخيصه. من هو ابن زيدون عني خذوا أخباره وتلقفوا ... أشعاره وتتبعوا آثاره فالحر من أمضى لنيل تراثه ... عزماً وأسهد ليله ونهاره وبيمن عباس تهيأت النهى ... للعلم واقتنت الورى أسفاره عباس قد غرس الفخار بأرضكم ... فتعهدوه لتجتنوا آثاره هو ذو الوزارتين أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب ابن زيدون المخزومي الأندلسي. كان مولده بقرطبة في سنة 394 أعني في الوقت الذي سرى فيه الانحلال في جسم الخلافة المروانية بالأندلس بعد أن بلغت من المجد نهاية النهايات، وأدركت من الفخامة مالا تصدق معه الروايات. في ذلك الوقت تحللت عرى الدولة، فانقسم المسلمون على أنفسهم، وتخاذلوا، واستنصروا أعدائهم على بعضهم بعضاً، وسلموا البلاد والقلاع والحصون واحداً تلو الآخر إلى أعدائهم ليمدوهم بالمعونة على إخوانهم. وهكذا حتى أودت تلك الفوادح بذلك الملك الكبير، ثم أتت على القوم بأكملهم فأصبحوا خبراً بعد عين. نتساءل عنهم بقولنا كيف وأين؟ في تلك الأيام استظهروا على شهواتهم بجر ذيولها، وامتروا بطالاتها من أخلاف أباطيلها. حتى انشقت عصاهم، ودارت بدائرة السوء على الجهالة رحاهم. كان ابتداء الاضمحلال والانحلال من أول يوم جلس فيه المستعين على عرش الخلافة في منتصف ربيع الأول سنة 400. فقد كانت أيامه كلها كما وصفها ابن حيان الأندلسي شداداً نكرات، صعاباً مشئوومات. كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحات المنتهى والخاتمة. ما فقد فيها حيف، ولا فورق خوف. ولا تم سرور، ولا فقد محذور. مع تغير السيرة، وخرق الهيبة، واشتعال الفتنة، واعتلاء العصبية، وظعن الأمن وطول المخافة. دولة كفاها ذماً أنها تمخضت عن الفاقرة الكبرى، وآلت من التي بعدها إلى ما كان أعضل وأدهى. مما طوى بساط الدنيا، وعفارسمها وأهلك أهلها. وإذا أراد الله شيئاً أمضاه.

وكذلك لم يكن في المستكفي أدنى كفاية للخلافة. وإنما أرسله الله على الأمة محنة وبلية. إذ كان منذ عرف منقطعاً إلى البطالة، مجبولاً على الجهالة، عاطلاً عن كل حلية تدل على فضله. عضته الفتنة فأملق، وهان حتى أهانه أهله ولقد رآه أبو حيان مؤرخ الأندلس المشهور أيام الخسف بأهل بيته في الدولة الحمودية، ولم يكن ممن لحقه الاعتقال منهم لركاكته. كان يقصد أهل الفلاحة يومئذ بقرطبة أوان ضمهم لغلاتهم يسألهم من زكاتها. قال وقد أجمع أهل التحصيل أنه لم يجلس في الأمارة منذ تلك الفتنة أسقط منه، ولا أنقص. إذ لم يزل معروفاً بالتخلف والركاكة، مشتهراً بالشرب والبطالة، سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عامل الخلوة. ذلك الوقت هو الذي أشار إليه ابن حزم بقوله: فضيحة لم يقع في الدهر مثلها! أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب له في زمن واحد: أحدهم خلف الحصري باشبيلية على أنه هشام بن الحكم المؤيد. والثاني محمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء والثالث محمد بن علي بن حمود بمدينة مالقه والرابع إدريس ابن يحيى بن علي بسبته تلك هي الأيام التي كان العرب والبربر فيها في خصام مستديم، وكان كل من الفريقين منقسماً على نفسه، وكان الجميع في خلاف مع أهل المغرب الأقصى من الجنوب، وفي حروب وخطوب مع بقايا الأمم الاسبانية من الشمال والغرب. في ذلك الوقت العصيب تفرق أهل الأندلس فرقاً، وتغلب في كل جهة منها متغلب. وهم الذين عرفهم التاريخ باسم - ملوك الطوائف_وقد أرادوا أن يفخموا أنفسهم وممالكهم فتقسموا ألقاب الخلافة، كما تناهبوا أشلائها. فكان منهم المعتضد والمأمون والمؤتمن والمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والموفق والمتوكل. إلى غير ذلك من الألقاب الخلافية. حتى قال في ذلك أبو علي الحسن بن رشيق بيتين سارا سير الشمس، وبقيا بقاء الدهر. وهما: مما يزهدني في أرض أندلس ... سماع مقتدر فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد فكانت طرطوش وسرقسطة وافراغه ولاردة وقلعة أيوب في يد بني هود. وكانت بلنسية في يد عبد الملك بن عبد العزيز. وكان الثغر، أي ما فوق طليطلة من جهة الشمال

في يد بني رزين وكانت طليطلة في يد بني ذي النون. وكانت قرطبة في يد أبناء جهور. وكانت اشبيلية في يد بني عباد. وكانت ملقة والجزيرة الخضراء وغرناطة في يد بني برزال من البربر - وأما المرية فكانت في يد زهير العامري الخادم ثم خيران العامري الخادم. ثم أبن صمادح. وكانت دانية وأعمالها والجزائر الشرقية (الباليار) في يد مجاهد العامري. وكانت بطليوس ويابرة وشنترين والاشبونة في يد بني الأفطس. فلا عجب إذا كثر الوزراء في تلك الأيام، ولاعجب إذا كثر أيضاً ذوو الوزارتين. فالناس على دين ملوكهم. فكان كل من امتلك مائة كيلو متراً مربعاً في مثلها يعد نفسه سلطاناً كبيراً، ويتخذ من الحاشية ما يضارع به أبهة الخلافة - وقد كان عهدهم بها قريباً_فكثر عندهم الوزراء. وكثر بينهم الذين يسمون أنفسهم بذي الوزارتين. ومن الطبيعي أن الرئاسة إذا انحطت عن جلالتها تبعها المرؤوس في السقوط. فلما تدلت الخلافة في الانحلال، صارت الوزارة أيضاً في درجات الهوان. فإن المستعين الذي ذكرناه قال بعد أن جلس على عرش الخلافة للناس أجمعين: ارتعوا كيف شئتم وارتسموا بما أحببتم من الخطط فتسمى بالوزارة في أيامه مفردة ومثناة أراذل الدائرة، وأخابث النظار. فضلاً عن زعانف الكتاب والخدمة (عن ابن بسام). وصارت هذه الرتبة تنحط مع انحطاط الدول، حتى نزلت في أواسط القرن الثامن للهجرة إلى الدرجة التي وصفها لنا ابن فضل الله العمري حيث قال: سألت الشيخ العلامة ركن الدين أبا عبد الله بن القويع عن رتبة الوزير بالمغرب فقال: ليست بطائل، ولا لصاحبها شيء من الأمر. بل هو كالجاويش يخرج قدام السلطان يوم الجمعة: حقيقة دون السمعة وقد استبد هؤلاء الرؤساء بتدبير ما تقلبوا عليه من الجهات. وانقطعت الدعوة للخلافة. فلم يبق لخليفة هاشمي أو أموي ذكر على منابر الأندلس خلا أيام يسيرة دعى فيها باشبيلية لهشام المؤيد بن الحكم (أو لشخص شبه لهم) حسبما اقتضته الحيلة، واضطر إليه التدبير. ثم انقطع ذلك. فأشبهت حال ملوك الأندلس بعد الفتنة حال ملوك الطوائف من الفرس بعد قتل دارا. وحال قواد الاسكندر بعد وفاته. ولم يزل هؤلاء الرؤساء في اقتتال وتخاذل. ويستعينون بعدوهم جميعاً فيميل تارة إلى هذا وطوراً إلى ذاك حتى اختلت الأحوال إلى أن

تولاهم الضعف. فاستنصروا بالمرابطين فانتظم الشمل، وعادت المياه لمجاريها. ولكن إلى أجل معين. ثم عاد الانشقاق والانقسام. فانمحت كلمة الإسلام، وانطفأ ذلك النور، وباد القوم عن آخرهم في سنة 897 للهجرة، بعد أن أقاموا فيها ثمانية قرون. لأن دخولهم كان في سنة 92 للهجرة على يد طارق بن زياد. رفعت الستار عن هذا المنظر المحزن ليكون لكم ولأمم المشرق تذكرة وعبرة، خصوصاً في الأوقات الحاضرة. والآن أقول لكم أنه على الرغم من توالي الفتن واضطراب الأحوال كانت سوق الأدب رائجة وبضاعته نافقة. فكل أمير وكل وزير وكل كاتب وكل وجيه كان له من الأدب نصيب وافر. عرفنا من تقسيم الأندلس بين ملوك الطوائف أن بني جهور استبدوا بقرطبة، وأن بني عباد استأثروا باشبيلية. في المملكة الأولى درج ذو الوزارتين ابن زيدون وتربى وظهر فضله. وفي الثانية قضى بقية أيامه في العز والكرامة. وكانت بها وفاته في محرم سنة 463 على التحقيق الدقيق كما نص عليه معاصره ابن بسام ولا عبرة بالأقوال الأخرى عن وفاته، لأن الذين قالوا بوفاته في سنة 405 خلطوا بينه وبين أبيه غالب بن زيدون. وقد قدمنا الكلام عليه وعلى مولده ووفاته. اشتغل ابن زيدون بالأدب، وفحص عن نكته، ونقب عن دقائقه، إلى أن برع وبلغ من صناعتي النثر والنظم المبلغ الطائل. حتى قال فيه ابن بسام: كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء مخزوم، أحد من جر الأيام جراً، وفات الأنام طراً، وصرّف السلطان نفعاً وضراً، ووسع البيان نظماً ونثراً. إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه. وحظ من النثر غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني. وما عتم أن أصبح في الأندلس متيم ذلك الحي، وعاشق ولاّدة لامى. زاد عل مجنون ليلى، وقيس لبنى، وابن أبي ربيعة صاحب الثريا. تركه هواه أنحف من قلم، وأشهر من نار على علم، وله مع ولادة أخبار ما حكى مثلها ابن أبي عتق، ولا الأصفهاني عن سكان وادي العقيق، ولا الأصمعي عن أهل ذلك الفريق. أندى من نسيم الصباح، وأرق من ريق

الغوادي في ثغور الأقاح. وإذا تصفحنا دواوين الأدب عند الأمم الأخرى لا نجد له شبيهاً سوى تيبولسشاعر الرومان. وتنقسم حياة ابن زيدون إلى قسمين مهمين في قرطبة في اشبيلية. أولاً_في قرطبة: برع ابن زيدون في الأدب، حتى كان أبو الوليد في الأندلس شبيهاً ومثيلاً لأبي الوليد في دولة المتوكل العباسي. وقد سماه الناس بحتري الأندلس. ولقد صدقوا. فمن جملة المحفوظ عنه في صباه قوله: أخذت ثلث الهوى غصباً ولي ثلث ... وللمحبين فيما بينهم ثلث تالله لو حلف العشاق أنهم ... موتى من الوجد يوم البين ما حنثوا قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا ... ماتوا فإن عاد من يهوونه بعثوا ترى المحبين صرعى في عراصهم ... كفتية الكهف ما يدرون مالبثوا ثم هام بعد ذلك بحب ولاّدة بنت المستكفي الخليفة الأموي بالأندلس. وكانت أديبة، شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر. تناضل الشعراء وتساجل الأدباء. وعمرت عمراً طويلاً ولم تتزوج قط. جاءت على خلاف أبيها في كل أوصافها، فكانت مصداقاً لقوله تعالى يخرج الحيّ من الميت وقد ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله، فصارت تجلس للشعراء والكتاب وتعاشرهم وتحاضرهم، ويتعشقها الكبراء منهم. وكانت على خلق جميل، وأدب غض. وكان لأبن زيدون معها أخبار تطرف القلوب، وتشغف المسامع. لأنه خلع في هواها العذري عذاره. وقد شهد المؤرخون كلهم لها بالعفة والصيانة. ولكن الشعراء في كل واد يهيمون، فكيف لا يهيم بولاّدة أبو الوليد بن زيدون. والمقام لا يتسع لأشعاره فيها وأشعارها إليه، ولكني آتيكم براموز ومثال، واترك الباقي لغير هذا المجال. ودّعها ذات يوم فأنشدها مرتجلاً ودّع الصبر محب ودعك ... ذائعاً من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك يا أخا البدر سناءً وسنا ... حفظ الله زماناً أطلعك إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك ثم قال

يا نازحاً وضمير القلب مثواه ... أنستك دنياك عبداً أنت دنياه ألهتك عنه فكاهات تلذ بها ... فليس يجري ببال منك ذكراه علّ الليالي تبقيني إلى أمل ... الدهر يعلم والأيام معناه ولما كان مجلس ولاّدة بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة مسامرتها. وهي مع ذلك محافظة على علو النصاب، وكرم الأنساب، وطهارة الأثواب. ولقد طمع بعضهم في الاستئثار بها دون ابن زيدون. فنازعه على حبها، وزاحمه في ودها، رجل من رجالات عصره. وهو أبو عبد الله البطليوسي. فكتب إليه ابن زيدون يزجره بهذا الرجز: أيا عبد الإله اسمع ... وخذ بمقالتي أو دع وأنقص بعدها أو زد ... وطر في أثرها أو قع ألم تعلم بأن الده ... ر يعطي بعد ما يمنع فإن قصارك الدها ... يز حيث سواك في المضجع ومنهم الوزير أبو عامر بن عبدوس الملقب بالفار، وكان ممن أكابر رجالات قرطبة، فاغتاظ ابن زيدون وبعث له بهذه الأبيات: أثرت هزبر الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض وما زلت تبسط مسترسلاً ... إليه يد البغي لما انقبض أبا عامر أين ذاك الوفا ... إذ الدهر وسنان والعيش غض وأين الذي كنت تعتد من ... مصافاتي الواجب المفترض حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خسفا أبي فامتعض وإن سكون الشجاع النهو ... ش ليس بمانعه أن يعض عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض أضاقت أساليب هذا القري ... ض أم عفا رسمه فانقرض لعمري لفوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبت الغرض وشمرت للخوض في لجة ... هي البحر ساحلها لم يخض وغرك من عهد ولادة ... سراب تراآى وبرق ومض

هي الماء يأبى على قابض ... ويمنع زبدته من مخض ونبئتها بعده استحمدت ... يسرى إليك لمعنى غمض أبا عامر عثرة فاستقل ... اتبرم من ودنا ما انتفض ولا تعتصم ضلة بالحجاج ... وسلم فرب احتجاج دحض وحسبي أني أطبت الجنى ... ل يأبه وأبحت النفض ويهنيك أنك يا سيدي ... غدوت مقارن ذاك النفض ثم كتب له رسالته المشهورة على لسان ولاّدة، وقد عبث فيها به كما عبث الجاحظ في رسالته التربيع والتدوير بأحمد بن عبد الوهاب الكاتب في بغداد. فاشتهرت رسالة ابن زيدون في المشارق والمغارب. وهي التي شرحها كثير من أدباء المشارقة، كابن نباتة والصفدي. وشرح ابن نباتة قد طبع في مصر مراراً. وهو في غاية الحسن ونهاية الفائدة. وأما شرح الصفدي لهذه الرسالة فلم يصلنا. على أن ابن عبدوس لم ينثن عن محاولته، حتى تمكن من أيقاع الجفوة بين أبن زيدون وولاّدة واستأثر بها دونه، فاغتاظ ابن زيدون والتجأ إلى قريضه القارص، فلسع الرجل بقوله: أكرم بولادة ذخر المدخر ... لو فرقت بين بيطار وعطار قالوا أبو عامر أضحى يلم بها ... قلت الفراشة قد تدنو من النار عيرتمونا بأن قد صار يخلفنا ... فيمن نحب وما في ذاك من عار أكل شهي أصبنا من أطايبه ... بعضاً وبعضاً صفحنا عنه للفار ولقد فاز ابن زيدون بمناه، من إقاء الفار عن حماه، بل أن ولاّدة أخذت تعبث بذلك الوزير، حتى أنها مرت به ذات يوم في تربها وسربها وكان الوزير ابن عبدوس جالساً على باب داره يستنشق الهواء العليل، وكانت أمام داره بركة تجمعت فيها مياه المطر، وانساق إليها شيء من أقذار الدار. كان الوزير جالساً في أبهته وعظمته وقد نشر كميه، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه. فلما قربت منه ولاّدة نادته باسمه فهش إليها وبش، واقترب من البدر، فقالت له وهي تشير إلى البركة: يا ابن عبدوس أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر

ثم نفرت كالظبي الشارد وتركته حائراً بائراً، باهتاً صامتاً. لا يحير جواباً، ولا يعي خطأ ولا صواباً. وهذا البيت لأبي نواس تمثلت به ولاّدة ونقلته هذا النقل الحسن من المدح إلى الهجاء. غير أن هذا الوزير صبر حتى خلا جو قرطبة من ابن زيدون على ما سيأتي. فاستأثر بولاّدة وعاش وعاشت حتى بلغا الثمانين وهما يتراسلان ويرتعان في بساتين الأدب، ورياض العفاف. لم يبلغ ابن زيدون الخامسة والعشرين من عمره حتى نَبُه ذكره، وعم صيته. اصطنعه أبو الحزم ابن جهور المتغلب على قرطبة ونواحيها وضواحيها ونوه به لأنه رآه فتى الآداب، وعمدة الظرف، والشاعر البديع الوصف. ولما له بقرطبة من الأبوة السنية، والوسامة والدراية، وحلاوة المنظوم والسلاطة، وقوة العارضة، والافتنان في المعرفة. فكانت الكتب تنفذ من إنشائه إلى شرق الأندلس فيقال تأتي اشبيلية كتب هي بالنظم الخطير أشبه منها بالمنثور. ثم ترقى في وظائف الدولة القرطبية حتى صار إليه النظر على أهل الذمة، ثم رآه ابن جهور أهلاً للوزارة فرقاه إليها، بل جعله ذا الوزارتين. فكان منه بمنزلة السمير والوزير، والمشير والسفير. فكم أنفذه إلى ملوك الطوائف لأمور سياسية، ولمخابرات تقتضيها المعاملات والمجاملات التي يوجهها الجوار، أو تدعو إليها علاقاته معهم أو مع ملوك الاسبانيين الذين كانوا يتربصون به وبهم دوائر السوء. فأحسن ابن زيدون التصرف في ذلك، وغلب على قلوب الملوك. حتى كان كل ملك يخطب وده، ويتمنى أن يقيم عنده. ولكنه كان بعد انقضاء مهمته يرجع إلى صاحبه بقرطبة وإلى مجالس أنسه بها، ولهوه بأهلها. في ذلك الوقت المضطرب بالفتن الداخلية، والخطوب الخارجية كانت الجاسوسية لها أثر في مصالح الدولة، وفي أحوال الأفراد. نترك أمور الدولة وسياستها جانباً ونقتصر على الدائرة التي ارتضينا لأنفسنا الجولان فيها وهي ميدان الأدب، ونذكر حكاية تدل على الجاسوسية الفردية في تلك الأيام. كانت قرطبة جارية تتعشق فتى من القرشيين، وكانت لوجدها كاتمة. لكن الخبر وصل إلى الوزير ابن زيدون فلم يعبأ به لأن القوم كلهم كانوا متغلغلين في هذه السبيل. وكانت

الجارية تقول الشعر فجاشت نفسها ببيت فذ وامتنع عليها ما تريد وهذا لبيت هو: يا معطشي عن وصل كنت وارده ... هل منك لي غلة إن صحت واعطشي فجاءت إلى كبير الوزراء، وأمير الشعراء، وسألته أن يزيد عليه شيئاً وهي تظن أنه لا يعلم بما هي فيه من الغرام، فأمسك القرطاس، واغتنم فرصة الروىّ، وما يعلمه من السر المطوى. فكتب: كسوتني من ثياب السقم أسبغها ... ظلماً وصيرت من لحف الضنى فرشي أني بصرف الهوى عن مقلة كحلت ... بالسحر منك وخد بالجمال وشى لما بدى الصدغ مسوداً بأحمره ... أرى التشاكل بين الروم والحبش أوفى إلى الخد ثم أنصاع منعطفاً ... كالعقربان انثنى من خوف محترش لو شئت زرت وسلك الليل منتظم ... والأفق يختال في ثوب من الغبش جفا إذا التذت الأجفان طيف كرى ... جفنى المنام وصاح الليل يا قرشي ومن تأمل أحوال الأندلسيين رأى أنهم كانوا يبالغون في التشبه بالشرقيين في كل ما اشتهروا به أو اشتهر من أحوالهم. فمدائنهم وعمائرهم وقصورهم ومنازلهم سموها بما اختاره الشرقيون في بلادهم. كذلك حاكوهم في مجالس أنسهم. وأنا اقتصر على ما يتعلق بابن زيدون وصحبه، وأمهد لذلك بما كان في بغداد. كان في دار السام الوزير المهلى المشهور، والقاضي التنوخي، وقد بلغا من الكبر سناً عالياً، ولهما ذقون بيضاء تنهال على صدروهما، وكانا يتعاطيان في النهار أمور الدولة بغاية الحشمة والوقار. حتى إذا جن الليل اجتمعا في مجلس العقار، وخلعا العذار، فكانا يشربان في أواني من البلور والنضار، ولا يكتفيان بلذة الشراب، بل يغمسان أذقانهما في الأواني، ثم يرش كل منهما الشراب بتلك الرشاشات الغريبة على صاحبه لتتم لهما لذة السكر حساً ومعنى، باطناً وظاهراً. ويستمران على ذلك طرفاً من الليل. حتى إذا جاء الصباح عادا إلى أشغالهما: الوزير في تدبير الدولة، وقاضي القضاة في النظر في الخصومات والحكم على مقتضى الشرع. واستمرا على هذه الحال في معاقرة المدام، حتى وافاهما الحمام. فاسمعوا نظير ذلك في قرطبة كان القاضي ابو بكر بن ذكوان من الجلالة بأسمى مكان.

أدركته حرفة الأدب، وله في العلم باع طويل. وكان يتشبه في خلوته مع ابن زيدون بالقاضي التنوخي مع الوزير المهلى. وهنالك ما شئت من دعابات ورقاعات، وما تخيلت من فكاهات ومجانات. حتى إذا أصبحا ذهب ذو الوزارتين إلى شأنه في ديوانه، وبكر أبو بكر إلى مجلس الحكم بمقتضى الحق. ومتى اقترب المساء عادا إلى القصف، وتجاوزا في ميدانهما كل وصف. إلى أن سطا الدهر، على أبي بكر. واتفق أن مرّ لبن زيدون يوماً بقبر ابن ذكوان في لمة من أخوانه، وجماعة من عمار ميدانه، فعطفوا عليه مسلمين، فقال أبو الوليد ابن زيدون مرتجلاً: انظر الحال كيف تحال ... ولدولة العلياء كيف تدال من سر لما عاش قل متاعه ... فالعيش نوم والسرور خيال ولى ابو بكر فراع له الورى ... هول تقاصر دونه الأهوال يا قبره العطر الرى لا يبعدن ... حلو من الفتيان فيك حلال ما أنت إلا الجفن أصبح طيه ... نصل عليه من الشباب صقال ما أقبح الدنيا خلاف مودع ... غنيت به في حسنها تختال يا منشئ الأمثال منه أوحد ... ضربت به في السودد الأمثال نقصت حياتك حين فضلك كامل ... هلا استضاف إلى الكمال كمال من للقضاء يعز في أثنائه ... إيضاح مظلمة لها أشكال من لليتيم تتابعت أرزاؤه ... هلك الأب الحافي وضلع المال زرناك لم تأذن كأنك غافل ... ما كان منك بواجب إغفال أين الحفاوة روضها غض الجنى ... أين الطلافة ماؤها سلسال هيهات لا عهد كعهدك عائد ... إذ أنت في وجه الزمان جمال فاذهب ذهاب البدء أعقبه الغنى ... وإلا من وافت بعده الأوجال حيّ الحيا مثواك وامتدت على ... ضاحي ثراك من النعيم ظلال وإذا النسيم اعتل فاعتلت به ... ساحاتك الغدوات والآصال ولئن إذا لك بعد طول صيانة ... قدر فكل مصونة ستذال ولقد أفاض في مدح ابن جهور وأهل بيته بأمداح تزري بالقلائد ولا تحتملها هذه

المحاضرة، فاقتصر على هذه الأبيات: إن الجهاورة الملوك تبوؤا ... شرفاً جرى معه السماك جنيبا فإذا دعوت وليدهم لعظمة=لباك رقراق السماح أريبا هم تعاقبها النجوم وقد تلا=في سؤدد منها العيب عقيبا ومحاسن تندى دقائق ذكرها=فتكاد توهمك المديح نسيبا فتى أديب حر يصل هذه المكانة قبل أن يصل إلى الثلاثين من العمر، فكيف لا يكون كما قال المتنبي حرب الزمان والدهر. نعم فقد دبت عقارب الغيرة بينه وبين حاسدي نعمته وسعادته، والمناظرين والأنداد فتألبوا عليه وتآمروا حتى انتهوا بإيقاعه في شراكهم، ونجحوا لدى الأمير ابن جهور فحبسه حبساً طالت مدته فكانت تلك السجون مثاراً لشجونه. فبعد أن صاغ لبني جهور لا سيما لأبي الحزم قلائد وخرائد، كتب إليه من السجن أشعاراً ورسائل مختارة، فاضت بها نفسه في التنصل والاعتذار والاستشفاع والاستعطاف. ولكن المزاحمين له على مركزه في الدولة، وعلى حب ولاّدة، كانوا دائماً يفوزون. فبقي في السجن مدة تنيف على الخمسمائة يوم. كتب لابن جهور تلك الرسالة البديعة التي طبعها أحد المستشرقين في سنة 1889، وهي التي شرحها العلامة صلاح الدين الصفدي. وعندي في الخزانة الزكية نسخة جليلة من هذا الشرح. وختمها بقصيدة فريدة يقول في تضاعيفها: أيهذا الوزير، ها أنا أشكو! ... والعصا بدء قرعها للحليم! ما عناء أن يألف السابق المر ... بط في العتق منه والتطهيم وثواء الحسام في الجفن يثنى ... منه بعد المضاء والتصميم أقصير مئين خمسٌ من الأ=يام؟ ناهيك من عذاب أليم! فلم يفد ذلك شيئاً. ومنظوماته في هذا الباب كثيرة جداً، أذكر منها قيدة قصيرة: إيهٍ، أبا الحزم اهتبل غرة! =ألسنة الشكر عليها فصاح لا طار لي حظ إلى غاية ... إن لم أكن منك مريش الجناح! عتباك بعد العتب أمنية، ... مالى على الدهر سواها اقتراح! لم يثنني عن أمل ما جرى، ... قد يرقع الخرق وتؤسى الجراح

ولقد زارته أمه في سجنه، فخانتها دمعتها، فقال يخاطبها من قصيدته اللاّمية التي وجهها إلى ابن جهور مستعطفاً: ألم يأنِ أن يبكي الغمام على مثلي ... ويطلب ثأري البرق منصلت النصل؟ وهلا أقامت أنجم الليل مأتماً ... لتندب في الآفاق ما ضاع من نبلي؟ فلو أصفتني، وهي أشكال همتي، ... لألقت بأيدي الذل لما رأت ذلي! ولا افترقت سبع الثريا وغاضها ... بمطلعها ما فرق الدهر من شملي لعمر الليالي، إن يكن طال عمرها، ... لقد قرطست بالنَبل في مقتبل النُبل! تحلّت بآدابي وإن مآربي ... لسارحة في عُرص أمنية عطل أخص لفهمي بالقلى؟ وكأنما ... يبيت لذي الفهم الزمان على دخل! وأجفى على نظمي لكل قلادة ... مفصلة السمطين بالمنطق الفصل؟ ولو أنني اسطيع كي أرضى العدا ... شريت ببعض العلم حظاً من الجهل أمقتولة الأجفان، مالكِ والهاً؟ ... ألم تُركِ الأيام نجماً هوى قبلي؟ أقلى بكاءً لست أول حرة ... طوت بالأسى كشحاً على مضض الثكل وفي أم موسى عبرة إذ رمت به ... إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي ولله فينا علم غب وحسبنا ... به عند جور الدهر من حكم عدل وإن أردنا أن نتعرف حالته الروحية، وهو في سجنه، فهذه شذرات من قصيدة وجهها إلى أبي الحزم ابن جهور، يعاتبه فيها على عدم الإصغاء إليه. قال يصف نفسه: جواد إذا استن الجياد إلى مدى ... تمطر، فاستولى على أمد الخصل ثوى صافنا في مرابط الهون، يشتكي ... بتصهاله ما ناله من أذى الشكل وأني لتنهاني نهاي عن التي ... أشار بها الواشي، ويعقلني عقلي! أأنقض فيك المدح من بعد قوة؟ ... فلا أقتدي إلا بناقضة الغزل! هي النعل زلت بي فهل أنت مكذب ... لقيل الأعادي؟ أنها زلة الحسل! ألا أن ظني بين فعليك واقف ... وقوف الهوى بين القطيعة والوصل! وإلا جنيت الأنس من وحشة النوى ... وهول السرى بين المطية والرحل وأين جواب منك ترضى به العلا، ... إذا سألتني عنك ألسنة الحفل؟

ومن السجن خاطب صديقه أبا حفص بن برد، وقد حار لم يجد هادياً، وصار رهيناً لا يرجو فادياً، وعلم أن الناس متقلبون، وعلى من انقلب به الدهر منقلبون، لا يدينهم في الشدة إخاء، ولا يثنيهم عن ذي الخطوة زهو ولا انتماء: ما على ظني باسُ ... يجرح الدهر ويأسو! ربما أشرف بالمر ... ء على الآمال يأسُ! ولقد ينجيك أغفا ... لٌن ويرديك احتراس! والمحاذير سهام، ... والمقادير قياس! ولكم أجدى قعود، ... ولكم أكدى التماس! وكذا الحكم إذا ما ... عز ناس، ذل ناسُ وبنو الأيام أخيا ... ف: سراة وخساس نلبس الدنيا، ولكن ... متعة ذاك اللباس يا أبا حفص، وماسا ... واك في فهم إياس! من سنا رأيك لي في ... غسق الخطب اقتباس وودادي لك نص ... لم يخالفه القياس! أنا حيران وللأم ... ر وضوح والتباس لا يكن عهدك ورداً، ... إن عهدي لك آس! وأدِر ذكرىَ كاسا، ... ما امتطت كفك كاس فعسى أن يسمح الده ... ر، فقد طال الشماس واغتنم صفو الليالي، ... إنما العيش اختلاس ما ترى في معشر حا ... لوا عن العهد وحاسوا؟ ورأوني سامرياً، ... يُتَّقى منه المساس أذؤبٌ هامت بلحمي: ... فانتهاب وانتهاس كلهم يسأل عن حا ... لي وللذئب اعتساس إن قسا الدهر، فللما ... ء من الصخر انبجاس ولئن أمسيت محبو ... سا، فللغيث احتباس

ويُفَتُّ المسك في التر ... ب: فيوطاً ويداس وما ألطف وصفه لنفسه ولوشاته في إحدى قصائده الطنانة: كأن الوشاة، وقد منيت بأفكهم، ... أسباط يعقوب، وكنت الذيبا هذه الأحوال مضافة إلى نفس كبيرة تتعب في مرادها الأبدان، شيبت رأس ابن زيدون وجعلته هرماً قبل الأوان. فقد رأى الشيب في رأسه وعاضيه، فبكى على نفسه وقال قصيدة أخرى يستعطف بها ابن جهور أيضاً: لم تطو برد شبابي كبرة وأرى ... برق المشيب اعتلى في عارض الشَّعَر قبل الثلاثين إذ عهد الصبا كثب ... وللشبيبة غصن غير مهتصر وفيها يقول بما يعرفنا بأنه عارف قدر نفسه: أحين رف على الآفاق من أدبي ... غرس له من جناه يانع الثمر؟ وسيلة سبباً أن لا تكن سبباً ... فهو الوداد صفاء غير ما كدر فدلنا بذلك على أن الشيب ألمَّ برأسه وبلحيتهن قبل أن يصل إلى الثلاثين من عمره. وذلك مصداق لما ذكرناه من أنه بلغ مراتب العلا وهو في سن الفتوة وريعان الصبا. وذكر الصفدي أنه كان يخضب بالسواد. وأنا لست ممن يرى الخضاب للرجال، فإنما هو في رأي خليق برباب الحجال. لأن الطبيعة لا تغالب ولا تقهر، وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر. ويعجبني بهذه المناسبة قول تلك العجوز المشرقية: وصبغت ما صبغ الزمان، فلم يفد ... صبغي. ودانت صبغة الأيام ولا استجيز رواية البيت الثاني لكم. . . فإذا كان منكم من يعرفه فليهمس به لأخيه الذي بجانبهن وليطلب منه أن يلقيه في أذن صاحبه. وهكذا حتى يدور الدور، فأكون كأنني ألقيته عليكم وما ألقيته. ولكن الذي أسألكم العفو في إيراده، أن ابن زيدون كان كأنه نظر إلينا في هذه الليلة وتفرس أن سيكون من بني مصر رجل يعرف فضله، وينشر ذكره، فأشار بما أفاضته الحكمة الربانية على لسانه إلى هذا العاجز الواقف بين أيديكم يناجيكم في ناديكم. فقد قال في ضمن استعطافه لابن جهور بيتاً هو أشبه بالوحي الذي يفيض على ألسنة الشعراء: سيُعنى بما ضيعت مني حافظٌ ... ويغلي لما أرخصتَ من خطري مغلِ

ولكن ابن جهور أصر على القعود عن إقالته، من كبوته. فلما رأى ابن زيدون أن كل ذلك لم يجده نفعاً قال يخاطبه: قل للوزير وقد قطعت بمدحه ... عمري، فكان السجن منه ثوابي لا تخش لائمتي بما قد جئته ... من ذاك فيّ ولا توقَّ عتابي لم تُخطِ في أمري الصواب موفقاً ... هذا جزاء الشاعر الكذاب ثم أنه تحيل في الهرب ونجح. فلما خرج من السجنن اختفى بقرطبة وأقام فيها متوارياً. م نظم قصيدة طويلة يخاطب فيها ولاّدة ويستنهض الأديب أبا بكر بن مسلم للشفاعة ويستنزل أبا الحزم بن جهور. وفيها يعرفنا أن مدة حبسه بلغت خمس سنوات. قال: سنون من الأيم خمس قطعتها ... أسيراًن وأن لم يبد شدٌّ ولا ربط والقصيدة طويلة جميلة جليلة. ثم أنه ما زال بأبي الوليد بن جهور يستشفع به إلى أبيه أبي الحزم، حتى شفع له وانتشله من نكبته وصيره في صنائعه. ولما ولي الأمر بعد والده نوّه به وقدمه في الذين اصطنع لدولته وجلله كرامة لم تقنعه، زعموا. فلا غرابة إذا بكى واستبكى حينما مات أبو الوليد بن جهور الذي أذاقه من الحبس والعذاب ألواناً. فقد وجد ابن بسام بخط ابن حيان هذه المرثية البديعة لأبن زيدون في أبي الحزم: ألم تر أن الشمس قد ضمها القبر، ... وإن قد كفانا فقدها القمرَ البدر؟ وأن الحيا إن كان أقلع صوبه ... فقد فاض للآمال في أثره البحر؟ إساءة دهر أحسن الفعل بعدها، ... وذنب زمان جاء يتبعه العذر فلا يتمنى الكاشحون، فما دجا ... لنا الليل إلا ريثما طلع الفجر وإن يك ولى جهور؟ فمحمد ... خليفته العدل الرضا وابنه البر همام جرى يتلو أباه كما جرى ... معاوية يتلو الذي سنه صخر فقل للحيارى: قد بدا علم الهدى ... وللطالع المعروف قد قضى الأمر أبا الحزم قد ضاقت عليك من الأسى ... قلوب ومنها الصبر لو ساعد الصبر دع الدهر يفجع بالذخائر أهله ... فليس لنفس مذ طواك الردى قدر مساعيك حلى الزمان مرصع ... وذكرك في أيام أردانها عطر أمامك من حفظ الإله طليعة ... وحولك من آلائه عسكر مجر

وما بك من فقر إلى نصر ناصر، ... كفاك من الله الكلاءة والنصر ولكننا نعود إلى ولاّدة ونتساءل هل نسي أبو الوليد ولاّدة؟ كلا بل عاد إلى التودد إليها والتقرب منها، وكان يذكرها في قرطبة وغير قرطبة ويراسلها بأشعاره الرائقة الفائقة. ذهب مرة إلى الزهراء يتأمل في محاسنها فوصفها بقوله: أني ذكرتك بالزهراء مشتاقا، ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في أصائله، ... كأنما رق لي فاعتل إشفاقا والروض عن مائه الفضيّ مبتسم، ... كما حللتِ عن اللبات أطواقا يوم كأيام لذات لنا انصرمت ... بتنا لها حين نام الدهر، سراقا تلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندا فيه حتى مال أعناقا كأن أعينه، إذ عاينت أرقى، ... بكت لما بي، فجال الدمع رقراقا ورد تألق في ضاحي منابته، ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا سري بنا فجة نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح أحداقا كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا ... إليك، لم يعد عنها الصدر إن ضاقا لو كان وَّفي المنا في جمعنا بكم، ... لكان من أكرم الأيام أخلاقا لا سكن الله قلباً عنّ ذكركم، ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا لو شاء حملى نسيم الريح حين هفا، ... وافاكم بفتى أضناه مالاقا كان التجازي بمحض الود من زمن ... ميدان أنس جرينا فيه إطلاقا فالآن أحمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم؟ وبقينا نحن عشاقا ثم أرسله ابو الوليد بن جهور سفيراً إلى حضرة إدريس الحسني بمالقة، فأطال الثواء هنالك واقترب من إدريس وخف على نفسه وأحضره مجالس أنسه فعتب عليه ابن جهور وصرفه عن السفارة بينه وبين أمراء الأندلس فيما يجري بينهم من التراسل والمداخلة. 2_إلى هنا انقضت أيامه في قرطبة. فلقد خشي أبو الوليد أن يلاقي من الوليد ما لاقاه من الوالد. وحينئذ صحت عزيمته على الهجرة من قرطبة والذهاب إلى المعتضد بن عباد باشبيلية. فلامه بعض اخصائه على ما اعتزمه من التحول عن وطنه وهجرة أهله وخلانه فكتب إليه رسالة ضافية يعتذر فيها لنفسه ويقول من جملتها ما نصه:

وكنت أول حبسي قد وُضعت من السجن في موضع قد جرت العادة بوضع مستوري الناس وذوي الهيئات منهم فيه. وفي الشر خيار، وبعضه أهون من بعض. ثم اقتضى نقلي إلى حيث الجناة المفسدون، واللصوص المعتدون. وشكوت ذلك إلى الحاكم الحابس لي. . . فانتفى من الرضا به وأظهر الامتعاض. وتقدم إلى الموكل بالسجن في اختيار مجلس، أباين فيه من لا تليق بي ملابسته، وأنتبذ عمن لا تُرضى لي مجالسته. ثم لم ألبث أن أحضره (أي الموكل بالسجن) مجلس نظره وأمر بتأديبه على امتثاله فيما أمره به وانتهائه إلى ما حده له. واستأنف العهد في التضييق عليّ، زمنع من اعتاد صلتي من الوصول إلي. فأصعدت إلى غرفة في السجن أقنعني بها مع خساستها وامتلأت بالكون فيها على مضاضتها انفرادي من لفيف الأخلاط ومن ضمه السجن من السفلة والسقاط. فحين استوائي إليها عهد بحطي إليهم وخلطي بهم ووضعي بينهم فنقلت على أقبح النصب وأسوء الرتب. ودخل إلي في هذه الحال من أبلغ إليّ عن ابن الحكم رسالة جامعة من فنون مشتملة من الوعيد. فتبين لي أن ايحاشي نفسي بايناس أهلي، وقطعها في مواصلة وطني غبنٌ في الرأي وخور في العزم. ووجدت الحر ينام على الشكل ولا ينام على الذل. ولم استغرب أن أسأم بمثل هذا الخسف في مسقط رأسي، فقد ضاع المرء الفاضل في وطنه. فاستخرت الله عز وجل، واضح وجه العذر، ثابت قائم الحجة، عند من غصن عين الهوي، وخزن لسان التعسف. والله يصيب غرض الصواب برأي، ويقرب غاية النجاح على من سعى، حسبما ذلك في علمه أني مظلوم، مبغي علي، منسوب ما لم آته إلي ولعمرك يا سيدي أن ساعة العذر لتضيق عنك، وما تكاد تتسع لك في إسلامك تلميذك وابن جارك وشيخك الذي لم تزل آخذاً عنه مقتبساً منه، مع إكثارك من ذكر هذا والاعتداد به وادعاء الحفظ له. وقد رويت أن حسن العهد من الأيمان، ولكن من لك بأخيك كله؟ وما حم واقع، ولا حذر من قدر، وقد سبق السيف العذل! وتقدم من فعلي ما جف به القلم. وأنا الآن بحيث أمنت بعض الأمن، ألا إن نذراً من وعيد سقط إلي بأن السعي لم يرتفع، وأن مادة البغي لم تنقطع، وأن البصيرة مستحكمة في استرجاعي من الأفق الذي أحل به، والجناب الذي أحط فيه. وأكد ذلك ف ظني ما كان إشارة لي إليه بعض من كنت آوي إلى الثقة بعهده، وأبني على الوثاقة من عقده، من الفقهاء الموسومين بالثرة عند لحكم المذكور والمكانة منه. وقد

عاتبته على تأخره عن مضافرتي، وتقصيره في مؤازرتي. فاعتذر بأن ذلك لا سبيل إليه، ولا منفذ للحيلة فيه. إذ المحرض علي لا تتأتى معارضته، ولا يتهيأ الاستبداد عليه، وأنه وصفني بالبذاء، وعابني بالتسلط على الأعراض. ووالله! ما استنجزت هذا، بعد أن هتك من ستري ما هتك، وأنهك ما انتهك، إن كنت أقول معذوراً، وأنفث مصدوراً. فكيف قبل ذلك، إذ لم يحدث سبب ولا عرض موجب؟ ومالي وهذا الجني تم مالياً! وستكتب شهادتهم ويسألون. . . ووالله ما توهمت أني أوتي ممن أوتيت منه، مع اتصالي به وانقطاعي إليه واتسامي بالتأمل له والتعويل عليه. أن المعارف في أهل النهي ذمم. . . لقد كان من محاسن الشيم، وشروط المروءة والكرم، أن يهب لي ما أنكر لما عرف، ويغفر ما سخط لما رضي، ويدفع بالتي هي أحسن، ويؤثر الذي هو أجمل وأرفق، ويتوقف عندما نص له من سعاية، وزف إليه من وشاية. فإن كان باطلاً ألقاه وفضح المخبر المتقرب به وأقصاه. ون كان حقاً صبر صبر الحليم. وأغضي إغضاء الكريم. وقبل إنابة المعتب، واقتصد في مؤاخذة المذنب. فقدم التوقيف قبل التثقيف، والتأنيب قبل التأديب. فإن الرفق بالجاني عتاب. والحر يلحى والعصا للعبد. . . وهو يرى ويسمع أن بالحضرة قوماً لا يحصرهم العد، تحتمل سقطاتهم وتغتفر هفواتهم، وتقال عثراتهم. . . وما أعلم أنهم يدلون بوسيلة إلا شاركتهم فيها، ولا يمتون بذريعة ينفردون دوني بها. . . فإن كانت مسامحتهم لسابقة سلفت فقد أحرزت منها الحظ الأعلى أو لكمال أدب فقد ضربتُ فيه بالقدح المعلى، أو للطف تودد فما قصرتُ في الاجتهاد غير أني حرمت التوفيق. والأمر لله رب مجتهد ما خاب إلا لأنه جاهد والله لقد أظهرت مدحه، وأضمرت نصحه، وتممت على الصاغية له، وجريت ملء العنان إلى الاعتلاق به، اسقيه السائغ من مياه ودي. واكسبه السابغ من برود حمدي، وأجنبه الغض من ثمرات شكري، وأهدي إليه العطر من نفحات ذكري. لا يفيدني التحبب إليه، إلا ضياعاً لديه. ولا يزيدني التقرب منه. إلا بعداً عنه. والذي أحبه منك وأثق ف المسارعة إليه بك، لقاؤه مجارياً ذكرى، مفاوضنا في امرئ،

معلماً له بالذي لا يذهب عنه من أن الذي اخترته لنفسي غاية ما يسيء العدو به ويساء المولى منه. فالجلاء أخو القتل، والغربة أحد السباءين: قال الله تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم وقد هجرت الأرض التي هي ظئري، والدار التي كانت مهادي، وغبت عن أم أنا واحدها، تمتد أنفاسها شوقاً لي، وتغض أجفانها حزناً علي، والله يرى بكاءها ويسمع لي على من ظلمني نداءها. فالاستجابة مضمونة للمخلص وللمظلوم، وقد حملت السمتين، واستوجبت الصفتين ولتكن بغيتك التي دخرها عليها كلمة تأمين وإشارة إلى تأنيس وتذكير، تراجعني بها فأظهر بحيث أنا آمنا، وألقي العصا مطمئناً. فإن وجدت محر الشفرة فالعوان لا تعلم الخمرَة فإن اشبهت الليلة البارحة، أعلمتني بذلك، فطلبت الأمن في مظانه، وتقريت السلامة في مواطنها. وصبرت حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. كل يوم هو في شأن. ومع اليوم غد ولكل حال معقب. ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد. ولك يا سيدي في انتدابك لما ندبتك إليه الفضل، والأيادي قروض، والصنائع ودائع، لا يذهب العرف بين الله والناس. والتحية الطيبة والسلام المردد على سيدي ولكن ابن زيدون كان قد ذاق من الدهر حلوه ومره، فلم يرض لنفسه بالذهاب إلى اشبيلية دون أن يكون على ثقة من أمره. فلذلك كتب رسائل بديعة إلى بعض المقربين من المعتضد، قم إلى المعتضد نفسه، ليمهد السبيل إلى الهجرة حتى إذا تحقق أنه سينزل في اشبيلية على الرحب والسعة أزمع الرحيل إليها. وكان ذلك في سنة 441 للهجرة. واتفق في وقت فراره من قرطبة إلى اشبيلية أن صادفه عيد الأضحى فرأى الناس مبتهجين بالعيد، وهم يتزاورون ويتبادلون التهاني، وهو شريد طريد، ففاضت نفسه بوصف حاله: خليليّ لا فطر يسر ولا أضحى! ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى! لئن شاقني شرق العقاب، فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا وما انفك جو في الرصافة مشعري ... دواعي بث تعقب الأسف البرحا ويهتاج قصر الفارسي صبابة ... بقلبي لا يألو زناد الهوى قدحا وليس ذميماً عهد مجلس ناصح ... فأقبل في فرط الولوع به نصحا

كأني لم أشهد لدى عين شهدة ... نزال عتاب كان آخره الفتحا وقائع جانيها التجني فإن مشى ... سفير خضوع بيننا، أكد الصلحا وأيام وصل بالعقيق اقتضيته ... فا لا يكن ميعاده العيد، فالفصحا وآصال لهو في مسناة مالك ... معاطاة ندمان إذا شئت أو سبحا لدى راكد تصيبك من صفحاته ... قوارير خضر خلتها مردت صرحا معاهد لذات وأوطان صبوة ... أجلت المعلى في الأماني بها قدحا مقاصر ملك أشرقت جنباتها، ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحاً يمثل قرطيها لي الوهم جهرة ... فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا هناك الحمام الزرق تندى خفافها ... ظلال عهدت الدهر فيها فتى سمحا محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عزّ أن يصدى الفى فيه أو يصحا تعوضت من شدو القيان خلالها، ... صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا ومن حملى الكاس المفدى مديرها، ... تقحم أهوال حملت لها الرمحا فلما وصل اشبيلية، نزل على كنف المعتضد، وأصبح من خواصه وصحابته يجالسه في خلواته، ويرسله في مهم رسائله. وولاه الوزارة، وحفظ له لقبه ذا الوزارتين. كان المعتضد جعل مجلسه منحطاً عن مجلس ابنه وولي عهده المعتمد بن عباد. فكتب المعتمد لابن زيدون: أيها المنحط عني مجلساً! ... وله في النفس أعلى مجلس! بفؤادي لك حب يقتضي ... أن تري تحمل فوق الأرؤس! فأجابه ابن زيدون يشكره: اسقيط الطل فوق النرجس ... أم نسيم الروض تحت الحندس أم قريض جاءني من ملك ... مالك بالبر رق الأنفس؟ يا جمال الموكب الغادي إذا ... سار فيه، يا بهاء المجلس! شرفت بكر المعالي خطبة ... بك، فانعم بسرور المعرس! وارتشفت معسول ثغر أشنب ... تجنيه من مجاج ألعس! واغتبق بالسعد في جفن المنى ... يصبح الصنع دهاق الاكؤس!

فاعترض الدهر فيما شئته ... مرتقي في صدره لم يهجس! ولكن هل أنساه ذلك ولاّدة ومحاسنها، أم قرطبة ومساكنها؟ كلا! فلم يزل صاحبنا مشغوفاً بهذه وبتلك، وأشعاره أكبر دليل على ذلك. فكلما حانت له فرصة، أو هزته نشوة، قال فيها أقوالاً تذيب الفؤاد. فلقد تشوق إلى قرطبة وساكنيها بقصيدة تدل على حنينه لها ولمن فيها، فقال: على دارة الشرقي مني تحية ... زكت وعلى وادي العقيق سلام ولا زال روض بالرصافة ضاحك ... بأرجائها يبكي عليه غمام! معاهد لهو لم نزل في ظلالها ... تدار علينا للسرور مدام زمانٌ رياض العيش خضر نواعم ... ترف وأمواه النعيم جمام فإن بان مني عهدها فبلوعة ... يشب لها بين الضلوع ضرام تذكرت أيامي بها فتبادرت ... دموعي كما خان الفريد نظام! ومن أجلها أدعو لقرطبة المنى ... بسقي ضعيف الطل وهو رهام! محل نعمنا بالتصابي خلاله ... فأسعدنا والحادثات نيام! فما لحقت تلك الليالي ملامة، ... ولا ذم من ذاك الحبيب ذمام! وكان يبلغه عن بني جهور ما يسوءه في نفسه وقرابته في قرطبة، فقال يخاطبهم: بني جهور أحرقتمو بجفائكم ... فؤادي؟ فما بال المدائح تعبق! تعدونني كالعنبر الورد، إنما ... تفوح لكم أنفاسه حين يحرق! وأما أمداحه في المعتضد بن عباد فشيء كثير جليل. وأذكر فقط بيتين أرسلهما إليه مع هدية من باكورة التفاح، وهما: يا من تزينت الريا ... سة حين ألبس ثوبها! جاءتك جامدة المدا ... م، فخذ عليها ذوبها! وقد كتب عنه إلى صهره الموفق أبي الجيش بن مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية المعروفة الآن بجزائر الباليار: عرفت عرف الصبا إذ هب عاطره ... من أفق من آنا في قلبي أشاطره أراد تجديد ذكراه على شحط ... وما تيقن أنى الدهر ذاكره

ينأى الزار به، والدار دانية ... يا حبذا الفال لو صحت زواجره خلي، أبا الجيش، هل يدنو اللقاء بنا ... فيشتفي منك طرف أنت ناظره قصاره قيصر أن قام مفتخراً ... لله أوله مجداً وآخره قلت فيما تقدم أن ملوك الطوائف كانوا منقسمين على أنفسهم، وأن الحرب كانت دائرة بينهم. فإليكم مثالاً واحداً مما يتعلق بابن زيدون. وذلك أن الحرب وقعت بين المعتضد صاحب اشبيلية، وبين ابن الأفطس صاحب بطليوس، فانهزم ابن الأفطس هزيمة فظيعة، وخسر خسارة جسيمة، فقال ابن زيدون يهنئ المعتضد: ليهن الهدى إنجاح سعيك في العدا ... وإن راح صنع الله نحوك واغتدى! وبشراك دنيا غضة العهد طلقة ... كما ابتسم النوار عن أدمع الندى! دعوت فقال النصر. لبيك ماثلاً، ... ولم تك كالداعي يجاوبه الصدى! وأحمد عقب الصبر في درك المنى، ... كما بلغ الساري الصباح فاحمدا. ولما اعتضدت الله كنت مؤملاً ... لديه بأن تحمي وتكفي وتعضدا. وجدناك أن ألقحت سعياً نتجته، ... وغيرك شاو حين أنضج أرمدا. سل الخائن المغتر: كيف احتقابه ... مع الدهر عاراً بالفرار مخلدا؟ رأى أنه أضحى هزبراً مصمماً! ... فلم يعد أن أمسى ظليماً مشردا! يود إذا ما جنه الليل أنه ... أقام عليه آخر الليل سرمدا! وأصبح يبكيه المصاب بثكله ... بكاء لبيد حين فارق أربدا. هذا مع أن ابن زيدون سبق له مدح ابن الأفطس بمديحة غراء في قصيدته التي يقول فيها: لبيض الطلى ولسود اللمم ... بقلبي مذبن عني لمم! ففي ناظري عن رشادي عمم، ... وفي أذني عن ملامي صمم! مليك إذا طاولته الملوك ... حوى الخصل، أو ساهمته شهم. فأطولهم بالأيادي يدا ... وأثبتهم ف المعالي قدم. وأروح، لا مبتغي رفده ... يخيب ولا جاره يهتضم. أبوه الذي فل غرب الضلا ... ل ولاءم شعب الهدى فالتأم. فلا سامي الطرف إلا أذل ... ولا شامخ الأنف إلا رغم.

تقيل في العز من حمير ... مقاول عز جميع الأمم. نجوم هدى والمعالي بروج، ... وأسد وغى والعوالي أجم. أبا بكر أسلم على الحادثات ... ولا زلت من ريبها في حرم! وأني لأصفيك محض الهوى ... وأخفي لبعدك برح الألم! ولا غرابة في ذلك. فالملك عقيم، وتصاريف السياسة تقضي بالتغيير من حال إلى حال، خصوصاً إذا انقسمت أمة من الأمم على نفسها، وخاضت في غمار الخطوب والفتن. وفوق ذلك أفليس التقلب من مديح إلى هجاء ومن ملام إلى سلام، هو سجية من سجايا الشعراء الكرام وغير الكرام. فلما مات المعتضد بن عباد وتولى الملك ابنه المعتمد ابن عباد كان لابن زيدون عنده تلك الكرامة وهذه الحفاوة، تدلنا على ذلك شهادة التاريخ ويؤيدها قول ابن زيدون نفسه في رثاء المعتضد ومخاطبته روحه بعد دفنه. أعباد، يا أوفى الملوك لقد عدا ... عليك زمان من سجيته الغدر! فهلا عداه أن علياك حلية ... وذكراك في أردان أيامه عطر؟ أأنفس نفس في الورى أقصد الردى ... وأخطر علق للهدى اقبر الدهر؟ فهل علم الشأو القدس أنني ... مسوّغ حال ضل في وهمها الفكر؟ وإن متاتي لم يضعه محمد ... خليفتك العدل الرضا وابنك البر وأرغم في بري أنوف عصابة ... لقاؤهم جهم ومنظرهم شزر؟ إذا ما استوى في الدست عاد حبوة ... وقام سماطاً خلفه فلى الصدر، ومن المعلوم أن ابن زيدون هو الذي دبر دولة المعتضد واظهر صولته وأغراه بأعدائه وزين له الإيقاع بعماله، ووزرائه فغدا شجا في صدورهم، ونكداً في سرورهم، فلما آل الأمر إلى المعتمد. قام حساده وخصومه وسعوا لديه في النكاية به، ثم رموا إليه برقعة فيها قصيدة طويلة أولها: يا أيها الملك العلي الأعظم ... اقطع وريدى كل باغ ينئم! واحسم بسيفك داء كل منافق ... يبدي الجميل وضد ذلك يكتم! وهي قصيدة طويلة تتألف من 27 بيتاً كلها إغراء بابن زيدون، على سبيل التصريح

المفهوم. ولكن المعتمد كان أعقل من ابن جهور، فلم يصغ لتلك النميمة، ولم تنفع لديه تلك السعاية، فقل في صدهم ورد كيدهم في نحرهم. كذبت منا كم صرحوا أو جمجموا ... الدين أمتن والسجية أكرم! خنتم ورمتم أن أخون وربما ... حاولتم أن يستخف ململم وأردتم تضييق صدر لم يضق ... والسمر في ثغر النحور تحطم وزحفتم بمحالكم لمجرب ... ما زال يثبت للمحال فيهزم أني رجوتم غدر من جربتم ... منه الوفاء وظلم من لا يظلم أنا ذلكم، لا البغي يثمر غرسه ... عندي ولا مبنى الصنيعة يهدم كفوا وإلا فارقبوا إلي بطشة ... يلقى السفيه بمثلها فيحلم فلما بلغ ابن زيدون ما راجعهم به وتحقق حسن مذهبه وعلم أن حياته قد أخفقت، وسعايتهم ما نفقت، وسهامهم تهزعت، ومكائدهم تبددت وتوزعت. قال ينمدح المعتمد ويعرض بإعاديه بقصيدة طويلة مطلعها: الدهر، إن سأل، فصيح أعجم ... يعطي اعتباري ما جهلت فأعلم ومنها ولكم تسامي بالرفيع نصابه ... خطراً فناصبه الوضيع الالأم ومنها قل للبغاة المنبضين قسيهم ... سترون من تصميه تلك الأسهم ثم مدح المعتمد - إلى أن قال: امطيتني متن السماك برتبة ... علياء منكب عزها لا يزحم وتركت حسادي عليك وكلهم ... شاكي حشى يدوي وأنف يرغم نصح العدا في زعمهم فوقمتهم ... والغش في بعض النصائح مدغم وثناهم ثبت قناة أناتهم ... خلقاء يصلب متنها إذ يعجم وزهاهم نظم الهراء فكفهم ... نظم عقود السحر منه تنظم أشرعت منه إلى لغواة أسنة ... نفذت وقد ينبو الطرير اللهذم فرق عوت فزأرت زأرة زاجر ... راع الكليب بها البسبنتي الضيغم

ياليت شعري هل يعود سفيههم ... أم قد حماه النبح ذاك الأكعم لي منك، فليذب الحسود تلظياً، ... لطف المكانة والمحل الأكرم وشفوف حظ ليس يفتأ يجتلي ... غض الشباب وكل غض يهرم لم تلف صاغيتي لديك مضاعة ... كلا ولا حق اصطناعي الأقدم بل أوسعت حفظاً وصدق رعاية ... ذمم موثقة العرى لا تفصم فليخرقن الأرض شكر منجد ... منى تناقله المحافل متهم عطر هو المسك السطيع يطيب في ... شم العقول أريجه المتنسم فإذا غصون المكرمات تهدلت ... كان الهديل ثناءها المترنم الفخر ثغر عن حياضك باسم ... والمجد برد من وفائك معلم فاسلم مدى الدنيا فأنت جمالها ... وتسوغ النعمى فإنك منعم واستقر المعتمد به في وزارته فكان أحد وزرائه الثلاثة الأكابر المثناة وزارتهم (أي أحد الثلاثة الذين يلقب كل واحد منهم بذي الوزارتين) والآخران هما ذو الوزارتين ابن عمار وذو الوزارتين ابن خلدون (جد صاحب التاريخ المشهور). خرج الثلاثة في أحد الأيام من اشبيلية إلى منظرة (قصر خلوى) لبني عباد بموضع يقال له الفُنت (تعريباً للفظ اسباني وهو متنزه تحف به مروج مشرقة الأنوار، متنسمة الأنجاد والأغوار، متبسمة عن ثغور النوار. في زمان ربيع سقت الأرض السحب فيه بوسميها ووليها. وجعلتها في زاهر ملبسها وباهر حليها. وارداف الربى قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها، وأجياد الجداول قد نظم النوار قلائده حول لباتها، ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هباتها. وهناك من البهار، ما يزري على مداهن النضار، ومن النرجس الريان، ما يهزأ بنواعس الأجفان. وقد نووا الانفراد للهو والطرب، والتنزه في روضي النبات والأدب. وبعثوا صاحباً لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم، ونظام مسرتهم، ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجهن ويرمونه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه. فجلسوا الانتظار، وترقب عوده على آثاره. فلما بصروا به مقبلاً من أول الفج بادروا إلى لقائه، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه. واتفق أن فارساً من الجند ركب فرسه فصدمه، ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه، وكسر قمصالالنبيذ الذي كان معه، وفرق

من شملهم ما كان الدهر جمعه. ومضى على غلوائه راكضاً حتى خفي عن العين، خائفاً من متعلق به يحين بتعلقه الحين. وحين وصل الوزراء إليه تأسفوا عليه وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوانه، والخطب وألوانه، ودخوله بطوام المضرات، على تمام المسرات، وتكديره الأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات. فقال ابن زيدون: أنلهو والحتوف بنا مطيفه ... ونأمن والمنون لنا مخيفه؟ فقال ابن خلدون: وفي يوم وما أدراك يومٌ ... مضى قُمصالنا ومضى خليفة! فقال ابن عمار: هما فخارتا راح وروح ... تكسرتا فأشقاف وجيفه. ولابن زيدون مدائح في المعتمد بن عباد كلها درر وغرر، وآيات بينات، وله معه مداعبات، ومطارحات ومساجلات. فتارة يشوقه إلى تعاطي الحميا في قصوره البديعة، وتارة يرسل له التفاح ويكتب عليه الأشعار، يدعوه إلى تناول العقار، وتارة يهينه، وأخرى يمدحه. وله بيتان قد بلغا حد الإبداع في هذا الباب. قال يخاطبه: مهما امتدحت سواك قبل فإنما ... مدحي إلى مدحي لك استطراد يغشى الميادين الفوارس حقبة ... كيما يعلمها النزال طراد فما أحسن هذا التنصل بالتمرن على المديح، حتى إذا جاد وبلغ المراد أهدى ثمرته إلى ابن عباد. هذه قطرة من بحر من بحور شعر ذلك الفرد. وأما نثره، فشيء بعيد حصره. ومما يجهله كثيرون أنه ألف كتاباً في التاريخ، جعله ابن حزم من مفاخر الأندلس، وقال أن أبا الوليد بن زيدون ألف كتاب التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس على منزع كتاب التعيين في خلفاء المشرق للمسعودي. وقد نقل صاحب نفح الطيب سطراً أو سطرين عن هذا الكتب الذي لم يبق له أثر ولا عين. وما زال ابن زيدون يتشوق لقرطبة ولمن فيها ويعمل لدى المعتمد بن عباد حتى جعل قرطبة منتهى أملهن فسعى في مداخلة أهليها، ومواصلة ذوي الكلمة فيها. لأنه رأى عدم

الفائدة، في غير الحيلة والمكايدة، لاستمساك أهلها بدعوة الخلافة وأنفتهم من زوالها عنهم وانطماس رسومها في بلدهم فلما فاز بالمرام وانتظمت تلك العاصمة الضخمة في ملكه. ذهب إليها مسرعاً واهتم بتدبير شؤونها. هنالك جاشت نفسه بالفخر على سائر ملوك الطوائف. فقال: من للملوك بشأو الأصيد البطل، ... هيهات جاءتكم مهدية الدول! خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت ... من جاء يخطبها بالبيض والأسل وكم غدت عاطلاً حتى عرضت لها ... فأصبحت في سرى الحلي والحلل. عرس الملوك لنا في قصرها عرس ... كل الملوك به في مأتم الوجل. فراقبوا عن قريب! لا أبالكم، ... هجوم ليث بدرع البأس مشتعل أما ابن زيدون، فقد عاد قرير العين إلى وطنه وأهله وكانت له شيعة كبيرة في قرطبة، فارتفع جده، وزاد إقبال الدنيا عليه، وبلغ حظوته عند المعتمد درجة لا يطمع فيها. فحينئذ سعي في هلاكه صاحباه ابن مرتين وابن عمار، وتلطفا في إبعاده وإبعاد ابنه من بعده ليخلو لهما الجو، ولينفردا بالاستئثار بابن عباد. ولقد ساعدتهما الظروف. فقد وقعت فتنة في اشبيلية واضطر ابن عباد للتعجيل بإرسال جيش كثيف إليها تحت قيادة ابنه سراج الدولة بن عباد. فسول ابن مرتين وابن عمار لابن عباد أن يرسل ابن زيدون مع سراج الدولة وتلطفا في تفهيم السلطان أن ذهاب ذي الوزارتين فيه حقن للدماء، وحفظ للنظام، لما له من المكانة العالية والجاه الرفيع، ولأنه محبوب لدى جميع القلوب. ثم وسوسا له بأن المصلحة كل المصلحة هي في وجود ابن زيدون الوزير العاقل المدرب المحنك المجرب بجانب سراج الدولة الذي هو قرة عين الملك، ومطمح الأنظار لبقاء البيت العبادي. وما زال الرجلان ينسجان على هذا المنوال حتى أفلحا خصوصاً لغياب ابن زيدون في مرض ألزمه البيت. صدر إليه الأمر بالذهاب ولم يعذره السلطان في التوقف لما ألم به من الآلام. فخرج منها مع الحاجب سراج الدولة بن عباد والجيش متوجهين إلى اشبيلية. وكان ذلك في يوم 13 ذي الحجة سنة 462. وخلف في قرطبة ابنه الوزير الكاتب أبا بكر بن زيدون، ولكن

صاحبينا (بن مرتين وابن عمار) ما زالا يعملان لدى ابن عباد حتى صدر الأمر إلى أبي بكر بن زيدون أيضاً بأن يلحق بأبيه في اشبيلية. حينئذ خلا لهما الجو فاستأثرا بالأمور كلها وانفردا بتدبير الدولة بلا مشارك لهما في أهوائهما ولا معارض لهما في أغراضهما. وكأن زوال دولة ابن عباد كان مقدراً على يد هذين الرجلين. فابن مرتين، يكفي في التعريف بمراميه أنه ابن مرتين أي أنه من أصل غير عربي، فإن جده رجل اسباني يسمى وأما ابن عمار فقد أنكر فضل ابن عباد وشق طاعته وسعى في الفساد والخراب وخرق العهود وخان واتعب ابن عباد حتى أوهي دولته، على ما هو معروف ومشهور. أما ابن زيدون وهو في اشبيلية، فلم يطل الأمد به بعد لحاق ابنه به. فكأنه جاء ليكفنه ويدفنه بها في صدر رجب سنة 463 حينئذ تولى منه كهل لن يخلف الدهر مثله جمالاً وبياناً وبراعة وظرفاً. وهو عند أولي التحقيق في النظم أمد طلقاً وأحث عنقاً، فلا يلحقه فيه تقصير، ولا يخشى رهقاً. ولما وصل خبره إلى قرطبة، وله فيها عشرة كبيرة وأشياع كثار، تناعوه وحزنوا عليه لأنه كان منهم، هاوياً إليهم، حدباً عليهم، وليجة خير بينهم وبين سلطانهم الحديث الولاية. فأراد السلطان أن يترضاهم فأرسل لأبنه (أي أبي بكر بن زيدون) وقربه إليه، ورقاه في مراتب والده، حتى أحظاه بالوزارة. وقد اغتنم هذا فرصة ما وقع من ذي الوزارتين بن عمار من الخروج على ابن عباد فأوغر صدر ابن عباد عليه وما زال يعمل لديه حتى كان سبباً في هلاك ابن عمار على ما هو معروف ومشهور. يقولون مات ابن زيدون. فهل تظنون أن هذا قد كان أو يمكن أن يكون. أنا لا أقول بالرجعة ولا أذهب إلى الخلود. ولكنني لا أصدق بأن ابن زيدون قد مات. لأن المؤرخين اختلفوا في موته، والاختلاف مدعاة للشكوك والظنون. فشمس الدين الذهبي يقول أنه مات سنة 463. وأما ابن بشكوال فإنه يجعل ذلك سنة 405. فإن صدقنا هذا الثاني لأنه أندلسي، فإننا نرى ابن بسام (وهو أندلسي) أيضاً يؤيد قول الذهبي الشرقي. فهذا شك أول. ثم أنهم اختلفوا في موضع وفاته. فقال الذهبي أنها حدثت باشبيلية. وقال ابن بشكوال أن

ذلك كان بالبيرة (وهي مدينة كبيرة بقرب غرناطة). نعم إنهما اتفقا على دفنه بقرطبة. ولكن الرجل لا يمكن أن يكون قد مات في موضعين مختلفين وفي وقتين متباعدين. فذلك شك ثان نؤيده باستدلالات واستنباطات. وفوق ذلك فإن ابن بسام يؤكد لنا أن دفنه كان باشبيلية 0فهذا شك ثالث). كيف يموت ابن زيدون وأقواله لا تزال ترن في المسامع وتدور في الأفواه؟ كيف يموت ذلك الذي لا يصح لأديب أو متأدب أن لا يروي له شيئاً من الأشعار؟ كيف يموت ذلك الذي نظم القصيدة النونية التي افتتحها بقوله: أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا؟ كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي حكم بعض الأدباء بأن من رواها ولبس البياض وتختم بالعقيق وقرا لأبي عمرو وتفقه للشافعي فقد استكمل الظرف. كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي سارت في البلاد، وطارت بين العباد، واشتهرت حتى صارت محدودة، فقيل ما حفظها أحد إلا مات غريباً. كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي تهافت كبراء الأدباء على معارضتها في حياة صاحبها وبعد موته (الذي يزعمون) ولم يقاربها أحد منهم إلى الآن بل بقيت الشهرة لها كما بقي الصيت لصاحبها (الباقي إلى الآن). كيف يموت صاحب هذه النونية التي عارضها أبو بكر بن الملح وأراد أن ينازعه الراية، فقصر عن الغاية. وهذا مطلع قصيدته: هل يسمع الربع شكوانا فيشكينا ... أو يرجع القول مغناه فيغنينا كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي أراد الصفدي أزمان الشباب أن يعارضها بمرثية لبعض أصحابه في صفد، وأولها تحكمت بعدكم أيدي الثوى فينا ... وقد قامت بنادينا تنادينا كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي قصر عنها الأدباء فاحتمى بعضهم في ظلالها: واقتبس كلامها، فقد سدسها أحد علماء المغرب وهذا مطلع التسديس: ماللعيون بسهم الغنج تُصمينا ... وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا

تألق كان يحيينا ويضنينا ... تفرق عاث في شمل المحبينا أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وآن عن طيب دنيانا تجافينا كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي تلطف الشاعر المصري اللطيف وأعني به صدر الدين ابن الوكيل المتوفي سنة 706 بالقاهرة، فاقتبس من جواهر ذلك العقد النفيس ما حلا به موشحاً لطيفاً. وأني أترك إلقاء هذا التوشيح لبعض أعضاء النادي الكرام ليكون في صوتهم الشجي وتلحينهم الرخيم. تشنيف للأسماع يحسن عنده الختام، والسلام.

مشاهدات وخواطر

مشاهدات وخواطر تسعة أشهر بمستشفى الهلال الأحمر البحري الباخرة بحر أحمر بين الجرحى والمرضى والمهاجرين بقلم سعادة العالم الدكتور محجوب ثابت بك المدرس الثاني لعلمي الأمراض والبكتريولوجيا بمدرسة الطب ومستشفى القصر العيني سابقاً والخبير في الأعمال الطبية أمام محكمة الاستئناف الأهلية العليا. وَمَن لَم يَذُد عن حوضِه بسلاَحِه ... يُهَدَّم وَمَن لاَ يَظلِم النَّاس يُظلَم تلكم حقيقة نطق بها ذلكم الشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمى المازني منذ مئات السنين، يثبت فيها أن الاعتداء طبيعة ثابتة في التكوين الحيواني يقضي بها ناموس الاحتفاظ بالبقاء، كما شرح ذلك العالم البيولوجي شارلس داروين في نظريته المشهورة أي ناموس الاقتتال للحياة أو ناموس تنازع البقاء. وقد أعان على هذا الناموس مختلف الآلات الحادة والأسلحة القاطعة التي اكتشفت في دفين الأرض منذ آلاف السنين. سواء كان ذلك في العصر المعروف بعصر الحجر أو بعصر النحاس أو البرنز أو الحديد مما هو مدون في أسفار علمي الجيولوجيا الطبقات الأرضية والباليونتولوجيا المتحجرات النباتية والحيوانية (أي علم الهَلك) وكأنما كتب عليها بقلم الزمان، أي التعدي على الضعيف ومحاربة الكفؤ للكفؤ، وقتال القرن للقرن، طبيعة ثابتة في الإنسان. وقد أثبتت ذلك أيضاً الكتب السماوية بما هو معروف من قتل قابيل هابيل، فكأنما ولدا جد البشر قدسنا جريمة القتل وعلما منازعة الأقران للأقران وعصيا ربهما كما فعل من قبل أبوهما. قال في ذلك جل شأنه وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضُكم لبعض عدوٌّ ولكم في الأرض مستَقَر ومتاع إلى حين مما ضمنه شاعر المعرة وفيلسوف الإسلام في بيته المشهور: أبوكم آدم سنَّ المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان قامت الحروب من قديم الزمان بين مختلف الأمم والأجناس وأهل الأديان المتباينة، ولتجدن

كل صفحة من صفحات التاريخ قد كتب السيف فيها أغلب السطور، وكم قيت هذه الغبراء بزكيّ الدماء، وكم جالت في أوديتها الوحوش والأوابد، وكم سرحت العقبان والطيور والبوارح، تلتهم لحمان القتلى، وتأكل من أشلاء الشهداء. وقديماً تحارب أعتق الأمم مدنية وأسبقها حضارة، وقديماً أغاروا على جيرانهم، فتلكم حروب الفراعنة مع الرعاة، وتلكم أغارات أشور وفارس على مصر، وتلكم حروب اليونان والفرس والتتار مع الصين والهند والعجم والعراق، والحروب البيونوكية بين رومه وقرطاجه، وهذه فتوحات الإسلام ومحاربة العرب للمعارضين من اليونان والرومان والعجم والفرنجة، وهذه الحروب الصليبية وحروب الترك من آل سلجوق وآل عثمان، وفتوح القسطنطينية وحروب نابليون التي أثارها في بادئة أمره باسم حقوق الإنسان، ثم انقلبت بعد إلى توسيع سلطانه وإخضاع الرؤوس المتوجة لكلمته. وقصارى القول أنه لم يمر على الإنسان حين من الدهر إلا وكان فيه للسيف وأسنة المران وقذائف النيران، القول الفصل لبلوغ المطامع، وإطفاء لهيب التعصبات الدينية والجنسية، قول عمد إليه الأولون فيما اختلفوا فيه، واقتدى به الآخرون، على حين وجود ما يسمونه محاكم التحكيم، وستذهب السنون وقصر الهاي قائم يزينه ذلكم الاسم الجميل قصر السلام ولكن للأسف لا يلجأ إليه إلا في نادر الظروف، ولا يغاث فيه مجتاح ولا ملهوف، حتى لقد حق قول أبي تمام: السيف أصدق إِنباَء من الكتب ... في حدّه الحدُّ بين الجِدّ واللّعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والرّيب تتوالى السنون وتتقادم العصور وفي كل يوم نشهد لقول أبي تمام آلاف الأمثال الناهضة على صحته، فكل يوم نسمع زمجرة القوى الغضبية الراسخة في النفوس وتسلحها بمتقن المدمرات، فكم أفتنّ القوم في آلات التدمير، وكم اخترعوا من وسائل إزهاق الأرواح مما يحصد بين غمضة العين وانتباهتها آلاف النفوس. وقد نازع الشرقي عديد السنين محله في الحياة إزاء الغربي المهاجم ورأي يوماً له ويوماً عليه، وأخضع ما أخضع من مختلف الجنسيات والمذاهب، ودوّخ ما دوّخ من شاسع الأقطار والممالك، وخفقت أعلامه فوق متعدد البحار ومختلف الأقطار، حتى ظن المسلمون في وقت من الأوقات أنهم بلغوا من السلطان أعلى مكانه، وكنت ترى الفاتح العثماني

والسيف في يده مطلاً على أسوار (ويانة) والعربي والرمح متنكباً به، غير هياب ولا وكل، قد بلغ أعالي مجرى الرون، لا يفصله عن أخيه التركي إلا قمم جبال الألب، حتى لم يبق إلا اليسير لإتمام قوس الهلال، ويضع الفاتح الأندلسي يده في يد الفاتح البيزنطي، ولكن لم تتم نعمة الله، ووقف المسلمون حيال أمم الغرب وشعوبه، وقفة الليث يحمي عن عرينه، لا يرتد عن قرنه إلا مخضباً بدم فريسته وذلك ما فعله بعض ملوك الأندلس كابن الأحمر ومن قبله الخليفة الكبير عبد الرحمن الناصر والفاتحون العثمانيون. وقبر السلطان مراد الخامس الذي صار منذ سنة مضت يخفق عليه العلم الصربي بسهل قصّووه يعد تمثالاً حياً لها الكفاح وذياكم النضال. ولكن قضى القضاء على الدولة الإسلامية في الأندلس منذ خمسمائة عام وأخرج المسلمون من ديارهم، وتركوا الأموال والبنين بين أيدي العدو فنهب منها ما نهب، وسبي ما سبي، واستباح ما استباح، وعمّد ما عمد، وفرق بين المولود ووالده، وحال بين رضيع ومرضعه، وشيخ وعشيرته، ووضع السيف في الرقاب، وحول ما شاء أن يحول من بيوت كانت بالإسلام حافلة، ومدارس كانت بفلاسفته زاهرة، ومصائب حلت بالإسلام غرباً منذ خمسة قرون لا يزال (ناسور) جرحها يفرز صديد الأسف، ونواح أبي البقاء الرندي على الأندلس في مرثيته المشهورة لا يبرح يتردد صداه لدى كل ناطق بالضاد، وحوادث البلقان في العام المنصرم، وما حل بالإسلام في الرومللي، قد جددت تلكم الذكرى واهتاجت النفس، واستوقدت الضلوع، فليسمع المسلمون عولة أبي البقاء دهي الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وأنهد ثهلان أصابها العين في الإسلام فارتزأت ... حتى خلت منه أقطار وبلدان فسل بَلنسِية ما شأن مُرسيةٍ ... وأين شاطبة أم أين جَيان وأين قرطبة دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شان وأين حِمصٌ وما تحويه من نُزَه ... ونهرها العذب فياض وملآن وما يقوله أبو عبد الله بن الآبار القضاعي كاتب الأمير زيان صاحب بلنسية وقد أوفده مستنجداً بصاحب أفريقية أمير المؤمنين أبي زكريا بن أبي حفص: يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً ... للحادثات وأضحى جدها تَعسا

تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو يستنزف النفسا مدائن حلّها الإشراك مبتسماً ... جذلان وارتحل الأيمان مبتئسا فمن دساكر كانت دونها حرسا ... ومن كنائس كانت قبلها كنسا لهفي عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارس للمثاني أصبحت دُرُسا تلكم مصيبة كانت أعظم درس وأكبر عبرة، ولكن عميت بصائر القوم، فنسوا أسبابها، وراحوا على تخاذلهم وتنافروا وتنازعهم حتى دالت دول الإسلام إثر بعضها، فَدُر بعينك وقل أين بعدُ سلطان قرطبة وسلطان مراكش، وأين أمارة الجزائر، وأين تونس، وأين لا أين، زال الكل ولم تبق إلا أسماء مملكة في غير موضعها، ولولا أن اختار لهذه الأمم الإسلامية جماعة من الأغوار المساعير، فوقفوا بشطلجة وقفة مشهودة، لازدحمت دار الخلافة بخيل البلغار ورَجلهم، ولوطئوا مسجد أيا صوفيا بنعالهم، وتوجوا فردينند ملكهم بالتاج القسطنطيني كما كان وكانوا بذلك يحلمون، هذا وجماعة من الأمة منقسمون على اخوانهم يتمنون فوز العدو ونصرته، ولو كان في الخطب الأعم، كما كان بالأمس ملوك الطوائف ورؤساء العشائر بالأندلس كل يريد الملك لنفسه والسيطرة على الآخرين، فما كان في ذلك إلا هلكهم جميعاً، فما أشبه الليلة بالبارحة!! ذاك وأنا نجتزئ بهذه الكلمة عن الإفاضة والاسترسال مع نفس تنفث ألماً. وتسيل أسى. وتنقطع حسرة. وذكرى تجيش بالصدر. لغلطات ساسة كان في استطاعتهم أن يتلافوا هذا الاتحاد البلقاني الذي كادت ريحه تعصف بالدولة والخلافة. وكثيراً ما مدت أحدى دول هذا الاتحاد يدها طالبة إليهم الاتفاق على المسألة الكريدية مع حفظ الكرامة العثمانية وإبلاغ سكتهم الحديدية إلى سلانيك فما أصيخ لها ولا استمع. فحدث ما حدث وتعجل القوم خوض غمار حرب غشوم. على حين أن أولياء الأمور إذ ذاك سر حوا مائة وخمسين ألف جندي نظامي مستجمعين كل شرائط النصر وما النصر إلا من عند الله. ونحن نقول أن ما وقع كان عاقبة تلكم الغلطات الفاضحة. وأي غلطات هناك بعد سياسة ولدت الاتحاد البلقاني ذلكم الاتحاد المدهش الذي لم يقع في حسبان أحد ما. حتى أن السلطان المخلوع لما انتهى إليه نبأ هزيمة الجيش العثماني أمام اليونان عند مفارقته قصر

ألاتين بسلانيك ليقيم بقصر بكلربك سجيناً على ضفاف البوسفور وبلغه نبأ خفوق علم الصرب فوق مقبرة السلطان مراد الخامس وازدحام خيل البلغار بسهول لولو برغاس واستيلائهم على قرق كليسة وباقات الرياحين يقابلهم بها أهلوها بدلاً من مقذوفات البنادق والمدافع أخذه العجب واستولت عليه الدهشة وجعل يقول: كيف تركوا البلغار واليونان يتحدون؟ ولعمري لقد أصاب في تساؤله فإن الضغائن والأحقاد أيبست الثري منذ اثني عشر قرناً بين هاتين الأمتين. وقد أجمع مؤرخوا الإمبراطورية البزنطية على أنه لم يبق لها عدو غير البلغار على الرغم م كثرة أعدائها. ولذلك كان كل همهم وأول واجب على قياصرتهم أن يضربوا هذه القبائل البلغارية حتى لقد كان أكبر لقب يفخر به إمبراطرتهم هو لقب قاتل البلغار نقول ولكن أبى الله إلا أن ينزل بدولة الخلافة هذه الكارثة النكراء والداهية الدهماء. فانبعثت نفوس المسلمين في جميع الأقطار. ونفضوا غبار الغفلة عنهم. ودبت روح الحمية فيهم. ورأوا أن من واجب الخلافة عليهم أن يعرفوها وقت الشدة. ويمدوا إليها يد المساعدة. وكان في طليعة الجميع المصريون ثم إخواننا الهنود. والفضل كله في همة المصريين راجع لسلالة تلك الأسرة العلوية الكريمة فقد قام أمرؤها قومة مباركة وتركوا مشيد قصورهم ليالي وأياماً. واستعاضوا عنها بحجرات القاطرات أصباحاً وإمساء. وجابوا القطر طولاً وعرضاً ى يعرفون سآمة ولا تعبا. نخص بالذكر منهم دولتي الأميرين الجليلين البرنس عمر طوسون باشا والبرنس محمد علي باشا إذ كانت رياستهما احتفالات التبرعات أكبر داع للنجاح. وكانت للأموال التي جمعت أكبر معين للمجاهدين على استمرار جهادهم وأحسن عزاء، وأعظم آس لجرحاهم ومرضاهم. كل الناس يعلمون ما قامت به لجنة الإعانة للمجاهدين التي رأسها الأمير الجليل البرنس عمر طوسون باشا من جليل الأعمال. وكذلك ما قامت به جمعية الهلال الأحمر المصرية برئاسة دولة الأمير شقيق الجناب العالي الخديوي. والتي يرأس لجنتها التنفيذية الأمير الكريم البرنس يوسف كمال باشا. وترعاها أم المحسنين الموقرة والدة سمو الجناب العالي حفظهم الله فقد بعثت متعدد البعثات إلى

الأستانة وغيرها لتخفيف ويلات هذه الحرب ومواساة جرحى ومرضى المجاهدين. وقد كان من بين هذه البعثات بعثتنا التي كان مركزها الباخرة 0بحر أحمر) وكانت هذه الباخرة من قبل نقالة للجيش العثماني والتجأت إلى السويس أثناء الحرب الإيطالية العثمانية. فرأى سمو الخديوي استعمالها كمستشفى لمداواة الجرحى والمرضى ونقلهم والمهاجرين من سلانيك إلى الجهة التي تعينها الدولة لجمعية الهلال الأحمر وقد طلب سموه إلى صاحب الدولة شقيقه رئيسها المفضال أن يعين للقيام بهذا العمل بعثة خاصة ويحول هذه الباخرة إلى مستشفى مستوف شرائط الصحة الحديثة. فكان لنا الشرف بأن عهد إلينا دولته القيام بذلك في أخريات أيام نوفمبر من العام الماضي فأتمرنا مسارعين لتحقيق رغبتين ساميتين. وتنفيذ إرادتين جليلتين. مهما كلفنا ذلك. وأمكننا بعون الله ثم بمساعدة حضرات أعضاء لجنة إدارة جمعية الهلال الأحمر وسعادة محافظ القنال أن نحول هذه الباخرة التي مكثت بمياه السويس عاماً كاملاً حتى كادت تبلى إلى مستشفى بحري تام المعدات. ونكتفي بإيراد ما كتبه جناب الدكتور كاربنتر جراح المدرعة الدريدنوط الأمريكانية (تنسي) التي كانت راسية بثغر أزمير لحماية المسيحيين والمصالح الأمريكية حيث شرح حال المستشفى شرحاً وافياً في مجلة الجراحة العسكرية ذاكراً ما قامت به من الخدم نحو جرحى ومرضى ومهاجري الحرب البلقانية. (البيان): انظر صفحة 550 فقد ترجمنا ثمت هذه الكلمة - ولكلمة الدكتور محجوب بك ثابت بقية سنأتي عليها في الأعداد القادمة:

اكتشاف مصري

اكتشاف مصري حول اكتشاف الدكتور رياض (هذه أولى رسائل الدكتور أحمد رياض مكتشف (الفتوغرافية المخية) التي وعد أن يشرح بها اكتشافه وينشرها في مجلة البيان - وقد وعدنا كذلك أن سيتحف البيان في كل عدد من أعداده مبحثاً من مباحث العلوم الطبيعية والفلسفية النافعة فنشكر له الشكر كله هذه الهمم الكبار أكثر الله من أمثاله العاملين 1 تاريخ الأثير شاهد العلماء في جميع مباحثهم عن الكائنات وأصلها أن الطبيعة لا تجيز العدم، وأن كلمة (فراغ) إنما هي كلمة نظرية لا تطابق الواقع. ولما وجدوا أن بعض التغيرات التي تطرأ على بعض الأجسام من حركة تؤثر في أجسام أخرى على بعد منها من غير وجود الهواء بين الاثنين قالوا أنه لا بد من وجود مادة غير الهواء تتحرك حركة مستمرة بين الأجسام فتحدث التجاذب والتنافر بينهما، وهي السب في التوافق المشاهد أحياناً بين عملي جسمين غير متماسين. وقد ضرب العلماء لتفسير هذه الحقيقة أمثالاً كثيرة، منها أن سفينتين على سطح البحر لا يمكن تأثير إحداهما على الأخرى إلا بتوسط المادة وما فيها من طاقة. وذلك بأن تتحرك إحداهما فتحدث أمواجاً متسلسلة في الماء يضرب آخرها السفينة الأخرى فتتحرك حركة في اتجاه مماثل. أو بأن تقذف مادة من أحدهما على الأخرى فتحدث فيها تغيراً. ومن غير هذين لا يمكن تأثير أية سفينة في البحر على أخرى فيه بعيدة عنها. وكذلك لا يمكن تأثير أي جسم على آخر بعيد عنه إلا بواسطة مادة تتحرك بين الاثنين فتصل بينهما. فإن لم يكن الهواء هو الواسطة في النقل فلا بد من وجود مادة أخرى تقوم بهذا العمل. ولما كان التجاذب بين القطبين المتضادين، والتنافر بين القطبين المتجانسين في الكهرباء والمغناطيس واقعين بدون وجود الهواء بين الأجسام، فلا بد من أن هناك مادة كفيلة بهاتين الظاهرتين. وقد سموا هذه المادة بالأثير نسبة إلى استمرار حركتها، وقالوا أن هذا الأثير موجود بين

ذرات الأجسام، وفي جميع أنحاء العالم حتى فيما وراء القبة السماوية المكونة من غازات علمت للعام والخاص، وأنه هو البيئة التي فيها تسبح الكواكب وبدونه ما كانت تستطيع حركة. وقد تغلغل بعضهم إلى القول بأنه هو أصل كهرباء الجو وافلوفيا المغنطيس بعدما أثبت ذلك ببراهين شتى. وعندما انتهى هذا الاكتشاف إلى مسامع علماء علم النفس جعلوه أساساً لحركة الأعصاب التموجية، ونسبوا غليه نقل الرسائل من الجسم والحواس إلى المخ، وكانت نتائج أبحاثهم على هذا الفرض كلها معقولة. وفي حداثة هذا الاكتشاف كان كل فريق من العلماء يعتقد أن هناك أنواعاً كثيرة للأثير، وأن الأثير الذي يحرك الضوء غير الأثير الذي ينقل الرسائل إلى المخ، إلى حد أنهم كانوا يتكلمون عن أثير الضوء وأثير الكهرباء وأثير الجسم كأنها أسماء تدل على أشياء مختلفة. ومن ذلك أن الفيلسوف (اسحق نيوتن) قال أن هناك نوعاً من الأثير يتغير الضغط عليه فيسبب جاذبية الأرض، وأن هذه الجاذبية لا تترتب على غير ذلك. ولا أصل لها ألا هذا التغير في الضغط على الأثير ولكنه ترك هذه الفكرة حبراً على ورق ولم يذكرها في مؤلف له، وإنما نقلت هذه الفكرة عن الذين أطلعوا على بعض كتابته الخصيصة، أو عمن حادثوه من العلماء المعاصرين له. وكان أتباع نيوتن لا يذكرون الأثير في تفسير جميع الظاهرات لطبيعية مثل تجاذب الأجسام وتنافرها، لشكهم في حقيقة ما فرضه أستاذهم من وجود جوهر يملأ العالم يسمى بالأثير. أما العلماء الحديثون فيعتقدون أن الأثير هو جوهر متجانس في جميع أنحاء الكون، وأن أعماله هي التي تتغير على حسب الوسط الذي يعمل فيه أو على حسب مقدار تكثفه، وقد أثبت وجوده إثباتاً محسوساً في كيفية نقل الضوء. والذي اكتشف هذه الحقيقة هو العالم (هيوجينس). وقد أثبت غيره وجود الأثير من ظاهرات التشعع والضياء بأن أشعة الضوء لا تسير في مستقيمات بل هي مجموعة أقواس صغيرة جداً. وأهم ما وصلوا إليه من هذا القبيل هو إثباتهم أن الضوء ليس بمادة بل عمل ناشئ عما في

المادة من طاقة، وأن الهواء ليس بناقل الضوء من محل إلى آخر، وذلك بأنهم أحضروا ينبوع ضوء تخرج منه حزمة من الأشعة تمر داخل عدسات مرتبة بشكل معروف في علم الضوء، فتنقسم إلى حزمتين تضيء إحداهما أي لوحة إذا وقعت عليها مفردة، وتفعل الأخرى كذلك وحدها، وأما إذا وقعتا كلتاهما معاً على اللوحة وجد بينهما على اللوحة نقط غير مضاءة. ولا شك في أن عدم الضياء ناشئ من اتحاد ضياء الأولى بالثانية. فاستنتجوا من هذه التجربة أن الحزمة الأصلية كأية حزمة ضوئية أخرى تتكون من حزمتين متضادتين في التأثير، فإذا سمينا إحداهما موجبة كانت الثانية سالبة. ما دام لا يوجد في العالم بأسره مادتان إذا اتحدتا أعدمت إحداهما الأخرى فإنه لا يكون الضوء المكون من شيئين متضادين مادة أبداً لأن السلب والإيجاب من عوارض المادة. وعلى أثر هذه التجربة ونتائجها قال (فريزنيل) أن الضوء هو نتيجة تنازع مادتين إحداهما الأثير. ووافقه على روح فكرته العالم المشهور (نيومان) ولكنه اختلف عنه في اتجاه التنازع. وقد عملت بعد ذلك تجارب كثيرة لإثبات هذه الحقيقة فأسفرت عن نجاح تام. أما عدم قدرة الهواء على نقل الضوء فهذه فكرة واقعية أثبتوها بقولهم أن الهواء لا يستطيع أبداً نقل شيئين عملهما متناقض كما هي الحال في الضوء إنما يقدر فقط على نقل تذبذبات متجانسة كما هي الحال في الصوت. ومن جهة أخرى ترى سرعة الضوء تساوي ملايين عدة من سرعة التموجات العادية التي يقوم بنقلها الهواء مهما كبرت سرعته في نقلها ولذلك لا يكون الهواء أبداً ناقلاً للضوء، وإنما يقوم بذلك غيره وهو ما أطلقنا عليه لفظة الأثير. وقد شوهد أن سرعة الضوء تزيد إذا مر داخل أجسام غير الهواء وسببه أن هذه الأجسام تتحرك ذراتها حركة مستقلة بأكثر من سرعة حركة الهواء، فلذلك تعجل من سير الضوء وقد تنقص سرعته إذا كانت سرعة حركتها أقل من الهواء، وللأثير طاقة تقاس (في حال قيامه بنقل الضوء) بمقدار الحرارة التي تمتصها الأجسام من أشعة الضوء. لأن هذه الحرارة ناشئة من مقدار عمله. وله مرونة وكثافة محدودة أثبتت بتجارب شتى، وتوجد في كثير من الكتب العلمية الراقية التي تبحث في هذا الموضوع. ومما روي عن (فاراداي) العالم المعروف إزاء هذا الاكتشاف أنه قال أن كل ما يشاهد من

عمل في مناطق تأثير المغناطيس الكهربائية يحمله على القول بأن الأثير هو أصل قوى التجاذب والتنافر ومن غيره لا تكون. وقال (تلفر بريستون) في كتاب له أن الأثير موجود بشكل غاز، وأنه مكون من جزيئات لكل مادة ولكنه لم يثبت ذلك غير أن بعض الفلاسفة استنتج من قيامه بالتجاذب والتنافر بين الأجسام أنه مكون من جزيئات. والفكرة الغالبة أنه مادة متصلة متجانسة موجودة ككتلة واحدة مالئة للكون وقد بنيت جميع الاختراعات والاكتشافات الحديثة على حقيقة أن الأثير هو أصل كل حركة وتأثير وهو موجد العلاقة بين الأجسام، وأن له طاقة لا نهاية لها وأن أغلب الأجسام تحسن توصيله، بمعنى أنه يمكنه اختراقها والتجوال بين ذراتها. وفي فلسفة النشوء والتكوين أن العالم مكون من مادة وقوة أو مادة وطاقة وأن تحول الطاقة وانتقالها من نقطة إلى أخرى هو سبب كل ما في هذا الوجود من حركة، مهما كان نوعها وأن الأثير هو الموصل للحركة والتأثير الناشئين عن عمل الطاقة من جسم إلى جسم. فالأثير إذن موجود في كل موضع، وداخل أي جسم وفيه تنتقل ذرات الجسم من نقطة إلى أخرى داخله لتكوين الحرارة أو للمغطسة أو للتكهرب كما هو معلوم في علم الطبيعة والكيمياء الطبيعية. ومن ذلك أن الأثير موجود داخل جسم الإنسان، وكل حركة داخل الجسم تحدث فيه ذبذبة ينشأ عنها أمواج فيه تخترق الجسم إلى الخارج. أما عمل المخ فليس إلا حركات تتحركها ذراته بنظام فتؤدي إلى العلم والشعور بصور ومعان والفضل في هذا الشعور للخلقة أو الطبيعية ويثبت حركة ذرات المخ احتياجه إلى التغذية ومرضا احتقان المخ وفقر الدم فيه، لأن التغذية لا تكون إلا لتعويض ما فقده من طاقة على العمل. وعلى حقيقة تحرك ذرات المخ بنيت فنون كثيرة منها قراءة الضمير وتفسيره أن تذبذب المراكز المخية المنوطة بالتخيل يحدث ذبذبة في الأثير كما قلنا ينشأ عنها أمواج فيه تخترق الجسم حتى إذا وصلت إلى مخ ساكن مستعد لقبول الرسائل الخارجية تحدث في ذراته ذبذبة تؤدي إلى نفس المعنى المنقول لأن الطبيعة واحدة وخلقة المخ واحدة. وهذا

مشاهد كثيراً في حياتنا العادية حيث يطرأ على فكر الإنسان شعور بما يفكر فيه غيره بدون قرينة أو أفكار متداعية فيسميه الإنسان إلهاماً ولكن الحقيقة ما ذكرت. هذا هو الأثير وهذه بعض أعماله ومن لم يعتقد وجوده وأعماله فإنه لا مشاحة غير مستعد لقبول أية حقيقة (يتبع)

كشكول البيان

كشكول البيان تفاريق - علمية، وأدبية، وتاريخية، وفكاهية_ونظرات_في سير مشهوري العلماء، والمخترعين - وشذرات_في أخبار العالم وأحداثه الحاضرة. أرمينياس فامبري لقد فقد عالم السياسة رجلاً عظيماً، وصحفياً مجرياً قديراً. كان معدوداً بين أساطين الصحافة. ونعني به أرمينياس فامبري الذي توفي منذ أيام قلائل وقد ناز الثانية والثمانين. ولا والله كان صمويل سميلز، المشهور بين الناس بكتابته عن حياة الأبطال وسر عظمتهم، يعيش اليوم بيننا، وينعم بالحياة مثلنا. لما ونى في التنويه بذكر رجل بدأ الحياة مجاهداً مناضلاً. وما فتئ يقطع كل عقبة، ويجوز كل كأداة، ويحمل في سباق الحياة على نفسه. حتى استطاع بقوة الدأب وروح المثابرة، أن يذلل دونه المصاعب والمشاق، إلى أن عد أخيراً في طليعة أبناء عصره. كان لفامبري ولع غريزي بتعلم اللغات، فلم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى كان عليماً بكل لغات الغرب. ولكنه لم يقف عند ذلك. بل مابرح يقبل على تعلم اللغات الشرقية، حتى حذق عدة منها، ولا ننسى سياحاته الكثيرة في آسية الوسطى. وكان في كل أدوار حياته مدققاً بصيراً، وسياسياً ماهراً. وكثيراً ما هز أعصاب الأندية السياسية بنقده وحملاته. وقد زار فامبري انجلترة عدة زيارات، لقي في كلها دلائل الترحاب، وأمارات الود والإعجاب. وكان مقامه في أخريات أيامه مدينة بست عاصمة المجر، ومن هذا المعتزل كان يكاتب رجال السياسة ويقف على ماجرياتها وكان لدفاعه عن سياسة انجلترة ضد مطامع الروسيا أثر كبير في البلاد الانجليزية. وأن أنعام الملك إدوارد السابق في عام 1902 على فامبري بلقب قائد دليل واضح على عظم أعمل الرجل في سني حياته الحافلة بالحوادث. الفوضى في الصين لقد انتهت الثورة التي كانت في الصين بعد ما احتلت الجنود الشمالية مدينة نانكنج في أول سبتمبر الماضي، ولو لم يحدث بين القواد خلاف في أمر الزحف ووسائله لدخلت الجنود المدينة قبل ذلك بأسابيع عدة على أن الجنود إذ فتحت المدينة بدأت تقتل وتنهب، وراحت تفتك وتسلب، والضباط يشجعونهم ولا يبدون اعتراضاً ولا منعاً. ولم تكن الحرب ضد

الثوار على شيء من النظام حتى ترفع في عين أوروبا من شأن حكومة الصين. وقد حدث في خلال فتح نانكينج حادث كاد يكون سيء العاقبة على الصين، وهو أن الجنود قتلت ثلاثة من اليابانيين، وداست العلم الياباني بالأقدام، ووقع غير ذلك من الأحداث الشبيهة بهذه، مما ألجأ حكومة اليابان إلى طلب غرامة تكون بمثابة اعتذار عما فرط من الجنود الصينية، وتقديم ديات إلى عشائر القتلى، وعقاب الجناة، فكفلت الحكومة الصينية الغرامة والديات ولكن القائد شينغ هسان الصيني في نانكينج رفض أن يقدم اعتذاره الشخصي على تفريط جنوده وكان اعتذاره مطلوباً، فلم يكن من اليابان إلا أن أرسلت بعض سفائنها الحربية إلى جوار نانكينج، وكان يخشى من حدوث شغب بين الفريقين لو لم يذعن لقائد إلى تقديم اعتذاره، وعاد السكون كما كان. أما حكومة اليابان ففي موقف صعب. فإن الشعب الياباني يظهر في كل يوم رضاه عن ثوار الجنوب، وقد حاول أخيراً أن يلجيء حكومته إلى اتخاذ خطة عدائية ضد حكومة الصين، ولم يستحسن منها طلباتها، وهو يحرضها على طلب جزء من الأراضي الصينية، ولعل حكومة الميكادو وشعبه ألب على الصين. ولكن الحكومة تعلم أنه لم يحن بعد الوقت الذي تلحف فيه وتتشدد، لأن ذلك يدعو إلى تداخل حكومات أوروبا في الأمر، وقد أدت حمية أنف الشعب الياباني إلى هديد حكومته وقتل كبير من كبارها، عرفوا عنه أنه يحابي الحكومة الصينية. الحكومة في شخص كتب كاتب انجليزي في إحدى الصحف التي تصدر في انجلترة يصف أخلاق إمبراطور الألمان. كيف أن الإمبراطور يفطن إلى كل شيء يجري حوله وإن تظاهر بأنه لا يرى منها شيئاً. ودليل ذلك أنه ذات مرة بينا هو عائد من أحد وجوهه، كان جماعة من العمال وقوفاً في طريقه فتعمدوا أن يدعوه يمر بهم في سكوت. ليثبتوا له سخطهم على الحكومة، ولكن الإمبراطور كأنما تبين سوء نيتهم، إذ خرج من بين جنود موكبه وقصدهم محيياً، ولبث على هذه الحال ينظر إليهم ويحدق فيهم البصر حتى اضطرهم إلى مقابلة تحيته بمثلها فحسروا عن رؤوسهم محيين، فلما عاد إلى مكانه من محفله هتفوا له. قال الكاتب والإمبراطور جدُّ متقلبٍ، ولكن للتقلب حدوداً، والإمبراطور أطمع ما يكون في التألق في جو السياسة على حين أنه أخيب نصيباً منها وهو لا يني يؤكد للناس أنه يريد أن

يعرف في الأجيال المقبلة بأنه غليوم السلمي ويؤكد لجيرانه أنه يود أن يعيش وإياهم في ظل السلم، ومع ذلك يوعدهم ويحذرهم ويقول لهم أنه لا يتأخر عن لقائهم في الميدان إذا أرادوا حرباً، وأنه ليخطب خطبه الدينية، والسيف إلى جنبه، وحمائله في نطاقهن وفي هيئته ما يدل على أنه يتجهز لتجريده. الجراثيم كتب السير ويليم رامزي ذلكم العالم الكيماوي المشهور موضوعاً في تحويل الجراثيم إلى العمل لصالح الإنسانية، وقد استشهد بأعمال الأستاذ روبرت براون أمير علماء النبات ومساعي الأستاذ لوب، وكذلك بمجهودات باستور وكثيرين ممن يجتهدون في تحقيق هذا الموضوع. وقال أن غرض العلماء من تحديد الجراثيم النافعة والجراثيم الضارة هو تقليل الوفيات، ولكن ليس ذلك كل ما في الأمر، فإن كانت حمى الملاريا من جراثيم في البعوض وكذلك الحمى الصفراء قد ثبت بالفحص أنها تنشأ من البعوض، ومرض النوم قد دلت الأبحاث على أن سببه جراثيم قتاله تنفذ إلى جسم المريض من عضات ذباب (التستسي) الفاشي في أفريقية، والوباء قد عرف اليوم أنه يحدث من عضة برغوث يعدى الجرذان، بلى أن كان كل ذلك قد اهتدى إليه اليوم، فلم يقف العلماء بعدُ عن السعي في اكتشاف الوسائل لقتل هذه الجراثيم وجعل سكان الأصقاع الكثيرة الجراثيم من ويلاتها آمنين. الآلهة في أفريقية في مقاطعة بحر الغزال قبيلة تسمىقريش أجا تدين بآله لها: أسد يعيش دائماً في البحر، شديد البأس، حتى يستحيل على أهل هذه القبيلة أن ينقذوا من يقع في قبضته دون أن يقدموا له ذبحاً أو ضحية، وقد اعتاد أهل القبيلة خوفاً من غضبه أن يقربو له قربانين في كل عام، الأول في بدء الفيضان، والثاني عند هبوطه، وقد روي أن شرطياً من رجال الحكومة هناك وقع في قبضة الأسد الله وكان يسبح في عرض البحر ولم يتركه حتى قربوا له القربان المطلوب. الكلب البائع مما يروى في مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية بائع صحف له كلبان يخدمانه الخدمة الكبرى إذ ينوبان عنه إذا غاب في بيع الصحف فيجلس أحدهما على مقعد في

الدكان وبين فكيه غليون تبغ ويحمل نسخة من الجرائد اليومية ويلزم صاحبه مقعداً آخر ويحمل بين أسنانه قبعة صغيرة يحفظ فيها النقود، فإذا ابتاع أحد السابلة نسخة من إحدى الصحف استوى الثاني واقفاً يطلب النقود، ويبدو على الكلبين استعداد كبير للبيع ومهارة فائقة. وأما سيدهما فيركن لهما كل الركون. مجمع الشيوخ انعقد في الولايات المتحدة منذ أيام مجمع كبير للشيوخ الذين بلغو أرذل العمر، وقد بلغ مجموع أعمار الحاضرين عشرة آلاف عام، ولم يكن بينهم إلا شخص واحد لم يجز بعد السبعين وفيهم امرأة عجوز لها من العمر مائة وثلاثة أعوام، وكان هذا المجمع معداً لقضاء النزهة والرياضة، وهو يقام مرة في كل سنة في تلك البلاد إذ تؤلف جماعات تنفذ إلى كل مقاطعة لتدعو شيوخها وعجائزها وهم يعطون كل شخص شارة من الحرير فمن كان في سن السبعين أعطي شارة حمراء ومن كان في سن الثمانين أعطي زرقاء وتعطى شارة بضاء لمن تجاوزت أعمارهم التسعين. وتكفل هذه الشارات لحامليها السفر والأكل وجميع اللوازم دون مقابل، وخادماً إذا استدعت الحال، حتى إذا اكتمل جمعهم وانتدوا شيوخاً وعجائز في ناديهم، قضوا اليوم في عيد يجمع الغناء والألعاب والقصف بأنواعه، وتعطى مئات الجوائز لأكبر الرجال سناً، وأكثر النساء عيالاً، وأصغر الرجال الجند الذين شهدوا الحرب بين الولايات المتحدة وانجلترة، وأصغر النسوة اللاتي قطعن الصحاري وجبن الموامي، وأشد الرجال صلعاً أو قرعاً وغير ذلك، ويشترك الحضور في الألعاب الرياضية، وتعمل مقارنات في الرقص للنساء اللاتي بلغن السبعين أو الثمانين. برنارد شو ورواياته كتب كاتب في صحيفة ألمانية عن برنارد شو الفيلسوف والروائي الانجليزي الأوحد، فقال: إن في صدر المستر شو روحين تترددان، فهو في رواياته الشاعر الذي ينظر إلى الحقائق بالنظر العادي، أما في مقدماته ومقالاته فهو المحرك السياسي الذي اضطربت مخيلته من حركات الأحزاب. وأنك لتجد في حال المستر شو صورة مضحكة فبينا تراه يحارب المذاهب الكمالية الخيالية وهو الشاعر، إذ به يؤيد: وهو السياسي: مذهباً منها ونعني به

الاشتراكية نعم وقد يقولون أن السياسة والدين - وما الاشتراكية إلا جامعتهما_قد يزيغان في البحث أكبر العقول، ماذا يهمنا من برنارد شو سياسياً إذا كنا ننعم بثمرات قريحته شاعراً؟ وكتبت صحيفة فرنسية عن برنارد شو موليير القرن العشرين تقول دقق البصر في أية رواية من رواياته الجديدة يتبين لك أنها لا غضب الجمهور ولكن تسخط الناقدين، وطريقة المستر شو في رواياته أن يبسط للناس آراءه ويعرض عليهم مذاهبه، ويدعوهم إلى التفكير فيها، ثم يترك لهم الحرية في تحللها، فهو في ذلك ينحو منحى موليير، وقد أنشأ روايات هي آيات في الكوميديا. الشرق والغرب جاء في مجلة الشرق والغرب بقلم كاتب اجليزي كبير نبذة في تقدم المدنية هذه خاتمتها: إن مساعي السير ويليم جون ومونيير ويليم وماكس مولر قد أحدثت ثورة ساكنة في عالم الحياة الغربية وتطوراً كبيراً في أفكارها وإن (تغريب) الشرق ليظهر بأجلى مظاهره في نظام اليابان الحربي وهيئة حكومتها وكذلك (تهنيد) الغرب ليبدو لنا إذا نحن استطعنا أن ندقق التحليل والبحث في أفكار الغرب وأدب الغربيين لا سيما في دولة جوت وعالم شوبنهور والشرق لا يزال بعد سراً مجولاً وإن كانت شمسه لا تبرح تطل على العالم الغربي وتنفذ بضيائها من نوافذه. والحقيقة التي لا لجاج فيها هي أن المدنية الغربية قد أنهكت نفسها، وأن العالم قد أصبح اليوم على أبواب ثورة كبرى - كما قال فيلسوف هندي عظيم_ثورة ستسترد فيها أفكار الشرق القديمة ونماذج الكمال الماضية مكانتها الأولى. وستظهر على عظمة أوربا المادية والاقتصادية، وستسمو على سلطة الغرب الروحانية والفلسفية. الشرطة والمظلات في مصر وغيرها من البلاد لا يزيد لباس رجال البوليس الرسمي في الشتاء والأيام المطيرة عن (البدل السوداء) وفي أيام الصيف وحروره عن الأثواب البيض. على أن القائمين بنظام البوليس في هذا البلد قد اخترعوا لوقاية الشرطة من حرارة الشمس تلك القبعة التي تلبس فوق (الطربوش) ولكنها لا تغني كثيراً ولا تفيد أما مدينة (كلكتا) عاصمة

الهند القديمة فإن الشرطي يعطى من إدارة البوليس مظلة كبيرة يتقي بها حرارة الشمس ولفحاتها، فضلاً عن بدلة بيضاء لا تمتص الحرارة. وليس في الأمر عجب. على أن عامة المصريين لو شهدوا رجال البوليس في الطريق وهم يحملون المظلات لاجتمعوا ضاحكين معجبين مهللين. مأساة في البحر_حريق فولترنو النار تلتهم، والعاصفة تعصف، في الليل الأحلك، وفي وسط بحر الظلمات - الأوقيانوس الأطلانطي_على مسافتين متساويتين من ثغري الهافر ونيويورك، والتلغراف اللاسلكي يقود إلى مواقف الخطر عشر سفن من سفائن البريد، تحاول - ولكن عبثاً_كل حيلة للإنقاذ. . . ذلكم تاريخ حريق فولترنو سفينة من سفن البريد. تحمل 3000 طن، ملك شركة انجليزية تسمة (يورا نبام)، تركت ثغر روتردام في هولانده في اليوم الثاني من شهر اكتوبر وتريد ثغر هليفا كس من أعمال كندا تحمل اثنين وعشرين مسافراً وثمانية وثلاثين وخمسمائة مهاجر، وثلاثة وتسعين من موظفيها وبحارتها. فلما كان يوم الخميس التاسع من شهر اكتوبر شبت النار في مقدمتها وكان السبب كما يعتقدون طيش طائش رمي غير متعمد بقايا (سيجارته) فلم تلبث أن اشتعلت النيران في البضائع المختلفة وسلع المهاجرين ودنان الكحول. وفي الساعة الثامنة صبحاً طيرت السفينة بواسطة التلغراف اللاسلكي نبأ فاجعتها فلبي نداءها واستجاب لها عشر سفن مختلفات الأعلام أسرعن إلى مكان الخطر. هذا وفولترنو ترقص في الماء وفي النار، والمهاجرون فيهم خلق كثير من النساء والأطفال مكدسون في المؤخرة قد ذهبت نفوسهم هلعاً ورعباً، ولى القراء تقرير الربان كوسان قبطان سفينة (تورين) الذي لم تكد تصل إليه دعوى الإنقاذ من فولترنو في الساعة الثامنة والنصف حتى دفع إلى مكانها وغير سبيله في البحر سرباً. وفي هذا التقرير يصف القبطان رعب الغرقى وألم السفن التي ذهبت تطلب إسعاف السفينة وشجاعة الضباط وبأس البحارة. قال: في الساعة الثالثة وربع أبرقت فولترنو تسأل الإسراع في نجدتها. أن النار كادت تبلغ سطح السفينة. تريد الأحتيال بكل الوسائل، وقد وصلت إليها سفينتا (سيدلتز) وكيرزست: إن السفن الحاضرة لا تستطيع إرسال الزوارق لأن البحر خضم مضطرب فقد حاولت

(سيدلتز) ولكنها اضطرت أن تترك حيلتها، وأنزلت السفينة (كرامانيا) زورقاً إلى البحر ولم ترسل فيه نوتياً ولا بحاراً بل حاولت أن تربطه بحبل حتى تبلغه إلى فولترنو، ولكنها رأت هذه الحيلة صعبة شاقة فاجتنبتها وقد عملت سيدلتز وكيرزست مجهودات كثيرة وحيلاً مختلفة فلم يجد ذلك كله نفعاً. وفي الساعة الثامنة مساءً أرسلت فولترنو هذه الإشارة أنقذونا بأية تضحية فإن النار تضطرم وتنتشر وعلمنا من السفن الأخرى المستنجدة أن سطح فولترنو قد التهمته النار وأن تلغرافها اللاسلكي قد فسد فلا يصلح بعدها. وفي منتصف الساعة التاسعة ليلاً كانت كرامانيا تشك في أن فولترنو ستعيش بقية اليوم. وفي الساعة التاسعة رأيناها شعلة من النار وفي منتصف الساعة الحادية عشر قطعنا كل أمل في أصراخها وبلغ منا اليأس من إنقاذها، ولم يعد أحد منا يستطيع أن يخاطبها وقذف جماعة من الرجال بأنفسهم في لجج الأقيانوس فلم ينج إلا واحد انتشلته كرمانيا وهوى في اللج المتقاذف زورقان من زوارق فولترنو أنزلا إلى البحر يحملان خلقاً من ركابها، فانقلبا بمن فيهما واحتواهما الماء. وفي الساعة الحادية عشر إلا ربعاً قبل وصول السفينة الفرنسية (ترانس اتلانتيك) بخمسة عشر دقيقة ابتعد قارب من قوارب الصيد عن سفينة (تورين) يحمل قبطانها الثاني مسيو روسلوت بعد شجار بين الضباط والبحارة وخلاف في إحراز هذا الشرف وذهب الملازم (ايزينيك) في زورق آخر، وانطلق الزورقان مختفيين في ظلمة ذلك الليل البهيم. ومضت ثلاث ساعات، فلما كانت الساعة الواحدة ونصف بعد منتصف الليل رأينا مصباحاً يلوح هناك وإذا بمسيو ايزينيك قد عاد يحمل في الزورق خمسة من المسافرين وقد استطاع أن يخاطب السفينة فولترنو وقد حدثنا بما رأى، قال: أن المنظر رهيب مخيف لأن مقدمة السفينة ووسطها ليسا إلا شعلة من اللهب، والسفينة تهتز وتضطرب، وقد نقل المسافرون الأمتعة إلى الطرف الأقصى من المؤخرة وقد علا الضجيج واشتد الصريخ وقد اصطدم زورق الصيد الذي أرسله للنجدة من غير إرادته بجنب السفينة لإنحرافها واضطرابها، وفي الحال ترامى على الزورق بعض المسافرين ووثب إليها آخرون، واستشهد اثنان كانا يحاولان النجاة وتواريا تحت السفينة!!

وأراد مسيو إيزينيك أن يعود إلى فولترنو مرة أخرى ولكن القبطان آثر أن يلزم الزورق ضابطاً آخر وهو المسيو كوتيه. ولم تمض عشر دقائق حتى رجع المسيو روسلوت بثلاثة من المسافرين وقفل راجعاً إلى نجدة غيرهم واقترب من زورق وقف على جنبه خلق كثيرون وإذا بهم قد ترامو مثل حب الغمام على زورقه، ولم يسع المسيو روسلوت إلا ن يبتعد منقذاً سبعة عشر نقل إلى الزورق الآخر سبعة منهم وفي الساعة الرابعة سحراً كان مجموع من أنقذتهم (تورين) اثنين وعشرين هذا وقد اضطرب البحر وتقاذف لجه ونحن مرتقبون طلوع النهار لنواصل الإسعاف والإنجاد. فلما أشرق النهار - وكانت الساعة السادسة_اقتربت السفن جميعاً من فولترنو وقد قل الفزع، وسهل بعض السهولة إنقاذ المنكوبين، وفي منتصف الساعة الثالثة حيت السفن حطام فولترنو ومحترق آثارها وملتهب معالمها وأخذت كل سفينة طريقها يحملن ثلاثة عشر وخمسمائة مسافر. وشهداء هذه المأساة يبلغون المائة والأربعين، ولو لم يقم بين المسافرين ذلك الفزع الأكبر والرعب الأشد اللذان استوليا على النفوس لاستطاعت السفن أن تنقذ الجميع. وهؤلاء المهاجرين جمع مختلف من كل الأجناس والشعوب فيهم الروس والبلغار والنمساويون والبولانديون والجاليشيون (من أهل جاليشيا) وكانوا يحملون معهم كل ثروتهم ومتاعهم. وقد اعتاضوا عن العرض المتحول المتغير بنعمة الحياة، وكلهم يخاطب زميله بالبيت المشهور: ورأس مالك وهي الروح قد سلمت ... لا تأسفن لشيء بعدها ذهبا غش البرتقال حكمت محكمة السين في باريس منذ أيام على بائعة حكماً صارماً إذ قبض عليها وهي تلون قشر البرتقال الفج بلون صناعي لا يختلف عن اللون الطبيعي المشاهد في البرتقال الناضج. ولعمري أنها مهارة غريبة من البائعة تستوجب حكماً خفيفاً لا صارماً وماذا كان قضاة باريس يفعلون إذا رأوا باعتنا يغشون في أبسط السلع غشاً فاضحاً؟

واعجباً، لقد فاقونا حتى في الغش!

حول المرأة

حول المرأة قام بين الجرائد المصرية ضجة جديدة حول تحرير المرأة ننتهزها نحن الآن فرصة للكلام على المرأة ومستقبلها، مع بيان مختصر عن حال النساء المسترجلات في انجلترة التي توافينا التلغرافات كل يوم عن مشاغباتهم للحكومة. قد يتساءل الناس عند البحث عن حال المرأة ما هو مركز الأنثى مطلقاً في العالم الحيواني؟ وهذا ضروري لنعرف إذا كانت الطبيعة ترمي إلى تفضيل الذكر على الأنثى كناموس عام لها، أو هي الظروف فقط تفضل أحياناً الأنثى على الذكر في بعض الأنواع، وأحياناً أخرى تفضل الذكر على الأنثى. بحث سير لانكاستر في هذا الموضوع، وخرج منه بأن الأنثى في الجملة أقوى وأكبر جثماناً من الذكر على عكس ما يعهده القارئ. وقد ذكر ضرباً من الأسماك بالغت الطبيعة في إظهار أنثاه على الذكر حتى صيرت الأنثى تزن ألف ضعف ما يزنه الذكر. وهناك نوع آخر من السمك يتضاءل فيه الذكر حتى يصير في حجم الخراطين على حين أن أنثاه تكبر إلى حد كبير. وأنثى العقرب أكبر وأقوى من الذكر. فهي إذا شعرت أنها تلقحت منه انقضت عليه أكلته من رأسه إلى قدمه. وكذلك تفعل أنثى العنكبوت بذكرها. ولكنه أحياناً ينجو منها لأنه لا يكاد يشعر بانتهاء السفاد حتى يقفز عنها هارباً ناجياً. وليست الحضانة وتربية الأولاد من واجبات الأنثى الطبيعية كما يتوهم بعض الناس ذلك. فقد ذكر الجاحظ وحقق قوله العلماء الآن أن الظليم يرخم على بيض النعامة (يحضنه) كالدجاجة الرنقاء حين تسعى هي لمعاشها. وجملة القول أن الطبيعة لا تؤيد من يذهبون إلى تفضيل الذكر على الأنثى في القوة الجسمية أو العقلية. أما في النوع الإنساني فالذكر أقوى من المرأة مطلقاً في القوة الجثمانية وهي أقوى منه نسبياً في القوة العقلية. لأن حجم دماغ المرأة بالقياس لجسمها أكبر من حجم دماغ الرجل بالقياس إلى جسمه. وقد أثبت التاريخ أن الرجل كان القائم عليها في القرون الماضية مع شذوذ قليل ومثال ذلك أن في بعض القبائل الألمانية حكمت النساء الرجال حقبة طويلة من الدهر. وكانت المرأة المصرية القديمة تنعم بكل حقوق الرجل على أن ذلك كان في عصر التمدن

ولكن لا مراء في أن الرجل استعبد المرأة في كل زمن وحشيته وبربريته كما يفعل المتوحشون والمتبربرة الآن. فقد كانت المرأة ملكاً لرئيس الأسرة يتصرف فيها بيعاً وشراءً وقتلاً وعقاباً مثلما يتصرف في عبيده وأولاده وما ملكت يمينه. وإذا نظرنا إلى المدنية الغربية الحديثة وجدنا أنها بدت بتحرير أفراد الأسرة التدريجي من سلطة الوالد. فقد تحرر أولاد رئيس الأسرة من سلطته ثم تلاهم في ذلك العمال الذن يعملون في أرضه وتلا هؤلاء مواليه وتلا هؤلاء أخيراً المرأة. وقد شاع النقاب والحجاب عند بعض الأمم الشرقية مثل العرب والروس. فلما أراد بطرس الأكبر قيصر روسيا أن يدخل المدنية بلاده التزم أن يحتم على أمته رفع النقاب إذ عده منافياً للمدنية في القرن السابع عشر. وبهذه المناسبة أقول أن بعض البرتقاليات ما برحن بعدُ يلبسن الحبرة غير منتقبات، وما زال الأسبانيول يحجبون المرأة عن ضيفانهم ويفردون لها مقاعد في دور التمثيل حتى لا تجالس الرجال. وهذا أثر من آثار المدنية الإسلامية الموروثة فيهم. ويختلف شأن المرأة اليوم باختلاف الأوساط فهي عبد رق لزوجها أو أبيها بين المتوحشين ولكن مقامها يرتفع شيئاً عند الأمم المتبربرة، فلها شيء من الحقوق المدنية في الصين. وفي بعض بلاد التبّت حيث يشيع الضماد - وهو أن تتخذ المرأة أكثر من زوج واحد في وقت واحد_ترأس الأسرة وتتصرف في متاعها وأملاكها تصرفاً تاماً دون تداخل من أزواجها. أما عند الأمم المتحضرة فيختلف مقامها ولكنها سائرة يراُ حثيثاً نحو الحرية وإليك مثلاً المرأة الانجليزية فأنها كانت حتى عام 1882 لا تستطيع التمتع بأملاكها بعد الزواج. لأن عقد الزواج كان يسلبها هذا الحق وينقله إلى زوجها وقد عاش الأوروبيون كل هذا الزمن الطويل وهم لا يقرون للمرأة بحق الملك وذلك بخلاف المسلمين لأن الإسلام نص على حقوق المرأة في الملكية. وفي سنة 1886 منحت حق الوصاية على أولادها وكانت محرومة منه من قبل. وفي سنة 1884 اعترفت لها المحاكم بجواز تمنعها من الذهاب إلى بيت زوجها. وهذا الحق غير معترف به للمرأة المصرية مسلمة كانت أم مسيحية. وأقبلت المرأة الانجليزية

على دخول الجامعات من نحو سنة 1850 ولاقت من الصعوبات في ذلك ما لاقت، لأن مجالس الجامعات كانت تأبى دخول النساء وإذا أجازت دخولهن حرمت عليهن الامتحان ونيل الشهادات. ولكن دأب النساء ومثابرتهن وحميتهن وإقبالهن على العلوم، رفع عن أعين هذه المجالس غشاوة الجمود، ودفع أعضاءها إلى الإقرار بحق المرأة في دخول الجامعة. ومن ذلك العهد كثر خريجات الجامعات في الأدب والفلسفة والعلوم والحرف كالطب وغيره. والدافع الأكبر لإقبال المرأة على التفوق في العلوم والآداب والصناعات التي قامت تزاحم فيها الرجال اليوم ليس مجرد حب العلم أو الغيرة من الرجل ومزاحمته في صناعاته. بل الحقيقة أن الحالة الاقتصادية في القرن التاسع عشر هي التي نبهت النساء إلى وجوب نزولهن في ميدان أعمال الرجال ومزاحمتهم. وذلك لأن المرأة كانت إلى ما قبل هذا القرن تصنع بيديها كل المصنوعات التي احتكرتها الآلات في القرن التاسع عشر. فكانت تنسج المنسوجات وتحيك الثياب وتطحن الغلات إلى غير ذلك من الأعمال التي كانت تعملها بيديها وتعيش منها وحرمتها منها الآلات في هذا القرن. فوجدت نفسها على أثر اختراع هذه الآلات وانتشارها خالية اليد لا عمل لها في الدنيا يملأ فراغها ويكسبها مرتزقاً. لأن أصحاب المعامل والآلات يستعملون الرجال في إدارتها وقليلاً ما يستخدمون النساء. فنشأ من هذه الحالة جماعات من النساء عاطلات من كل عمل حاقدات على المجتمع ناقمات عليه نظامه. ومن هنا تجد أن الحركة النسائية اليوم بالغة أشدها في البلاد التي كثرت فيها المعامل مثل انجلترة وأمريكا. ولا تجد لها أثراً ضعيفاً في البلاد الزراعية مثل هولاندة والمجر. ففي انجلترة تطالب النساء بالمساواة التامة بالرجل في حقوقه وواجباته. يطلبن حق الانتخاب في البرلمان والتوظف في وظائف الحكومة. وللمرأة حق الانتخاب للمجالس البلدية في انجلترة، وللبرلمان وحق التوظف في الحكومة في السويد والنرويج وفنلاندة. فمنهن الأن عاملات في مصلحة البريد والتلغراف في أكثر الأمم الأوربية، ومنهن قاضيات وطبيبات ومحاميات في الولايات المتحدة وفرنسا. وبين فئة من نساء أوروبا المتعلمات حركة غريبة متناهية في التطرف. فأنهن لا يكتفين

بمطالبة المساواة بالرجال، بل يطلبن إلغاء الزواج الشرعي إذ يعدونه أثراً من آثار عهد الاستبداد بالمرأة أولاً ولأنه لا يتفق مع شرف الحب ثانياً. يقلن أن المرأة التي تربط نفسها بعقد شرعي مع زوجها مكرهة على المعيشة معه ولو لم تحبه. وهذا في رأيهن بيع صريح للعرض. أما إذا تزوجت زواجاً حراً فإنها تبقى مع زوجها ما دام الحب مكيناً بينهما، فإذا انفكت عراه انفصلا. ومن العلماء من يوافق على هذا الرأي، وقد ألف جرانت ألن في هذا المبدأ - وكان من دعاته - روايته المرأة التي فعلت. ومنذ نحو أربع سنوات قرأت في جريدة انجليزية إعلاناً هذه مجمله فلان وفلانة تزوجا اليوم زواجاً حراً وبدآ المعيشة معاً في دار واحدة. هذا مبلغ ما وصلت إليه الحركة النسائية في العالم المتمدن، فما هي العبرة التي نستخرجها من هذه الخلاصة؟ قبل البحث في ذلك يجب أن نبحث فيما إذا كانت الأسرة الأوروبية أسعد حالاً من أسرتنا، وفيما إذا كانت المرأة هي السبب الوحيد أو أحد الأسباب التي تدعو إلى ذلك. أما عن المسألة الأولى فحسبنا دليلاً على ذلك أن عدد وفيات الأطفال أقل مما هو عندنا بكثير كما تثبت ذلك إحصائيات حكومتنا عن وفيات القاهرة. وبيوتهم أنظف من بيوتنا. والطلاق غير شائع بينهم شيوعه بيننا. وقد تكون سعادة الأسرة في غير ذلك ولكن وجودها أرجح في هذه الشروط مما لو فشي الموت بين الأطفال وقذرت دورنا وكثر الطلاق بين الأزواج كما هي الحال بيننا. والمرأة الأوروبية هي سبب هذه السعادة. فهي على شيء من العلم تعرف به كيف تجمع بين جدران دارها كل مستلزمات الصحة فتقتل الأمراض وتزول منها. ويصبح بيتها بما فيه من ترتيب ونظام مبهجة زوجها وداعية سروره فلا ينفر سارباً إلى (القهوات والبارات) كما نفعل نحن الآن. وقلة الطلاق عندهم ليست ناشئة من الدين كما يتوهم البعض بل من حسن تخير الرجل لزوجته وتخير المرأة لزوجها قبل الزواج وذلك بفضل التزاور. وحجاب المرأة عندنا يمنع استيفاء هذه الشروط. فضلاً عن أن ذلك يضر بالمرأة نفسها لأن جسمها يحتوي على عضلات تحتاج إلى كثرة التمرين لكي تبقى سليمة صحيحة. فعضلات

جسمها تضعف وتهن لقلة حركتها إلا بين جُدُر الدار، ودماغها يقف عن النمو لقلة ما يشغله من الأعمال العقلية، وأن إغفال وظيفة عضو في الجسم يعود بالضعف عليه. ودليل ذلك أن الحشرات التي تعيش في الأمكنة المظلمة لا ترى في الضوء. والديدان التي تعيش في أمعاء الإنسان لا تأخذ طعامها بفيها وتهضمه بأمعائها بل تمتصه بجلدها ويذبل جهازها الهضمي ويزول بالتدريج. والأعضاء الأثرية التي في الإنسان الآن تدل على صدق هذه النظرية. فإن الزائدة الدودية هي بقية أثرية من المعي الذي كان يهضم الأطعمة النباتية وأصبح الآن ضئيلاً عاطلاً لا عمل له. لأن الإنسان استغنى عنه باستعماله المأكولات اللحمية المطبوخة. وما يحل بالمرأة من الضرر الناشئ من الحجاب يحل بأولادها أيضاً تبعاً لناموس الوراثة وأولادها إناثاً وذكراناً هم أفراد الشعب فالضرر إذن عائد على الشعب بأسره من جرّاء الحجاب. ولقد خبط الكتاب وهرفوا في مسألة الحجاب. قام الرجعيون منا يؤيدونه بدعوى أن الدين الإسلامي يأمر به. والحقيقة أن الحجاب ليس منشؤه الدين بل هو ناشئ من حاجات بيولوجية وفسيولوجية سيكولوجية. فإنه من العادات التي فشت قديماً بين أمم المنطقة الحارة من قبل أن تدين بأديانها الحاضرة. وإذا كان الحجاب قد تعدى هذه الأمم إلى أمم المناطق الباردة فإنما كان ذلك عن طريق التقليد لا غير ولذلك لم يطل عمره عندها كما حدث في روسية. وسبب ذيوع الحجاب بين أمم المناطق لحارة أن الفتيات في هذه الأمم يدركن سن البلوغ الجنسي قبل أن تنضج عقولهن. أي وهن في الثانية أو الثالثة عشر من عمرهن. فتتنبه شهواتهن الجنسية قبل أن يكون لهن من عقولهن رادع يردعهن عن الوقوع في أشراك الشهوة. فأصبح من دواعي بقاء هذه الأمم أن يحجبن بناتهن عن الخروج والاختلاط بالرجال حتى يحفظن فروجهن. ولذلك لم ينتشر الحجاب في أوروبا مطلقاً إلا عند الأتراك والأندلسيين. ولهذا أيضاً تزيد حرية المرأة كلما قربت من القطب الشمالي وتقل بقربها من خط الاستواء. فليس الدين إذن هو منشأ الحجاب. وكل ما فعل أنه شرط لهذه العادة شروطاً تخفف مما

عساه أن ينشأ عنها من الإضرار بالمرأة. ونظامنا الحاضر يزيل حاجتنا إلى الحجاب، لا لأن الطبيعة البشرية تغيرت بل لأن القوانين الحاضرة تكفل بعقاب من يهتك عذراء عقاباً ليس وراءه عقاب. ثم أن تربية البنت التي يرى لزومها حتى أنصار الحجاب تستدعي مخالفة مبدأ الحجاب إلى ما بعد سن البلوغ لأن البنت تضطر فيه أحياناً للذهاب إلى المدرسة في كل يوم إلى أن تبلغ الخامسة عشر أو السادسة عشر. وهذه هي السن التي قلنا أن الطبيعة دفعت الإنسان في أدوار همجيته إلى سن الحجاب فيها للبنات. ولا بد أن القرئ قد أدرك الآن أن الحجاب قد اخترع لصيانة لبنت لا لصيانة الأن عدم لزومه للمرأة ظاهر لأنها كاملة العقل ولأنها متزوجة. فليس هناك خطر عليها من شهواتها. بل على العكس قد تتنبه شهواتها الجنسية أكثر بواسطة الحجاب لما ينجم عنه من الإنفراد والوحدة وخلو اليد من العمل. والمعروف أن الاستنماء عند الذكور هو إحدى عادات الوحدة والراحة. فيجب إذن أن نخاف على المرأة من حجابها ونعده مثيراً لشهواتها الجنسية أكثر مما لو سمح لها بالخروج والاختلاط والاشتغال في الهواء الطلق بين مختلف الأعمال التي تفتح للأعصاب منفذاً تصرف فيه قواها. وإذا صح ما ذكره مؤرخو العرب من أن النساء كن يجالسن الرجال وأن أحد الخلفاء منع ذلك صدقت نظريتنا من أن الحجاب كان يقصد به في الأصل صيانة البنت ل المرأة الراشيدة. ونحن كدنا نعكس الغرض من الحجاب. فبينا نحجب نساءنا وهن الراشدات، إذ نسمح لبناتنا بالذهاب إلى المدارس سافرات. والسبيل المعقولة لمعاملة نسائنا هي منحهن الحرية التامة وهن أزواج راشدات مثل أترابهن الغربيات. ومراقبة طبائعهن وهن صغيرات، فيمنعن من الاختلاط مع الشباب بين سني العاشرة والخامسة عشر مثلاً. ولكن مراقبتهن لا يجب أن تصل إلى ملازمتهن البيت ولا يخفى أن ما تحتاج إليه بنات الوجه البحري من الرقابة أقل مما يحتاج إليه بنات الوجه القبلي لأن اختلاف الطبائع يستدعي اختلاف المعاملة. فمن بين البنات من تصل إلى سن

البلوغ عندنا وهي في الحادية عشر، وبينهن من لا تصل إلى هذه السن إلا بعد أن تجوز السادسة عشر. وقد زرت أيام كنت بانجلترة مدارس يعلم فيها الفتيان والفتيات معاً في حجرات واحدة يجلس فيها الفتى بجانب الفتاة بغير ماريبة تمر بخاطر المعلم. ويبقيان كذلك إلى سن الخامسة عشر. والغرض من هذا الاختلاط أن تدمث أخلاق الفتيان وتشذب، وتخشن أخلاق الفتيات قليلاً وترجل. حتى إذا تزوجا في المستقبل لم تكن فرجة الخلاف في الأخلاق بينهما متسعة. وأني أذكر هذه قصد إثبات تأخر سن البلوغ عند الغربيات وخلاف طبائعهن لطبائعنا. فإن مثل هذه المدرسة المختلطة لا تنجح أبداً عندنا. وأعوذ فأبرئ الدين الإسلامي من الحجاب وأقول أنه أصبح غير لازم لمجتمعنا المصري. سلامة موسى

مستشفى الهلال الأحمر المصري البحري بالباخرة

مستشفى الهلال الأحمر المصري البحري بالباخرة بحر أحمر بقلم الدكتور كاربنتر الجراح باسطول الولايات المتحدة نقلاً عن مجلة الجراحة العسكرية عدد شهر سبتمبر مجلد 33 نمرة 3 على الرغم من أن الأسطول العثماني لم يقم بأي عمل يذكر في حربه الحاضرة مع الدول المتحالفة، فإن هناك مركباً واحدة جعلت مستشفى بحرياً قامت بخدم جلى وأدت فوائد عظمى. وذلك أن نقالة من نقالات الجيش سلمت إلى جمعية الهلال الأحمر ببورت سعيد، فكانت مدى اسبوعين لا غير مستشفى كاملاً تسبح بيضاء الطلاء في وسطها منطقة خضراء وتحمل في قمتها العليا راية ذات صبغة بيضاء يتوسطها هلال أحمر. ولقد تم ذلك بمباشرة همة الدكتور محجوب ثابت استاذ علم البكتريولوجيا بمدرسة الطب سابقاً. وهو لا يزال رئيس هذا المستشفى، وتحت أمرته قبطان تركي مع جماعة من بحارته. وجمعية الهلال الأحمر في مصر معادلة عندنا لجمعية الصليب الأحمر، وعلى رأس الجمعية شقيق خديوي مصر البرنس محمد علي باشا، وقوام هذه الجمعية هي الأموال التي تجمع من تبرعات المحسنين، وجماعة الوطنيين المصريين. وهذه المركب بنيت في انجلترة عام 1893 وهي باخرة حمولتها ثلاثة آلاف طن، وقبل أن تصير نقالة تركية كانت تسمى. س. س. رولاند وطول هذه الباخرة (357) قدماً وعمقها 43 قدماً والمنغمر منها في الماء 24 قدماً وقوتها 2250 حصاناً بخارياً تجعلها في سرعة 14 عقدة وإن كانت قوتها البحرية هي 12 عقدة ليس غير. وسطح المركب العلوي منقم إلى قسمين سطح أمامي وسطح خلفي وفي كل منهما محل للبضاعة ينتهي إلى مخازن كبيرة سفلية وفي مقد السطح الأمامي محل صغير مغطى، فيه قمرات للبحارة. وفي السطح الأوسط محل يحتوي على وابورين لطبخ الحساء والخضروات وفوق ذلك سطح فيه عدة للتطهير ويوجد بالسطح العلوي محل البوصلة وغرف القبطان الفنية أما السطح الأسفل ففيه عدة حجر خاصة بالشؤون الجراحية وذلك لقربها من حجرة العمليات وقد اقترح وباشر الدكتور ثابت عمل غرفة العمليات وعدة سرر خشبية بعضها بجوار

بعض وبكل واحدة منها مرتبة ووسادة لنوم الجرحى كما أنه أوجد المتبرزات المصنوعة صنعاً بحيث توافق العادة التركية، وبجانبها الحمامات التي لكل منها حنفية وحوض صغير - هذا في وسط المركب، وبجانب المركب توجد حجرة الدكتور ثابت وحجرات أخر لخمسة من أطباء جمعية الهلال الأحمر وغرف للمرضى من الضباط. وبهذه الجهة الصيدلية وحرة العملياتن وتحتوي الأولى على كمية وافرة جداً من الأدوية من بينها مجموعة وافية من مصل كمصل التيتوس (الكزّاز) والحمى الشوكية (التهاب السحايا الشوكي) والدفتريا والتقيحات ذات الميكروب السبحي والعنقودي ومادة التطعيم للحمى التيفودية والجدري أما حجرة العمليات فإنها وإن كانت صغيرة إلا أنها تشتمل طاولة عمليات جيدة وجهازاً للتعقيم والتطهير وجميع أدوات الجراحة وأدوات غسل الجروح ولوازم الضمادات المختلفة التي يحتاج إليها. وبين الصيدلية وحجرة العمليات مستحم بحوض كبير ومتبرز وهما خصيصان بالضباط. أما السطح الخارجي العلوي ففيه غرف لضباط المركب وبالسطح الباقي وتحته عنابر عديدة للعساكر ينفصل بعضها عن بعض وذلك لكي يكون بعضها معداً لنساء وأطفال المهاجرين الذين كان معهم غالب الأحيان ما يلزمهم لفراش الممرضين من رجال الجيش التركي ولخمس وثلاثين ممرضاً من مرضى جمعية الهلال الأحمر وعلى نفس ذلك السطح يوجد جزء صغير ينفصل عنه به حجرات خاصة بالبحارة. وبعد أن وصف آلة السفينة البخارية ومراجلها الثمانية ووسائط تخلل الهواء إليها قال حضرته: أن الباخرة في الحقيقة ما بنيت لتكون مستشفى حديث الطراز في كل أجزائه بل هي في الحقيقة نقالة عسكرية حولت إلى مستشفى وصارت مستجمعة لكل ما جعلت له من نقل جرحى ومرضى ومهاجرين والعناية بتمريضهم وبذلك أدت خدماً عظيمة. وبعد أن أخذت اليونان والبلغار والصرب سالونيك أخذوا كل الجرحى والمرضى في مانستر وما جاورها أسرى فاعتني بهم في مستشفياتهم وقام على تمريضهم جراحون من الأتراك أيضاً وكان يوجد بسلانيك أيضاً نحو المائتين من الجنود التركية الذين أصيبوا بإصابات مختلفة في حادثة فرقعة بمخزن بارودها فأخذوا أسرى جميعاً. وقد سمح لبعثة الهلال الأحمر المصري أن تنقل هؤلاء الجرحى وغيرهم من سالونيك إلى

أزمير وأن تنقل أيضاً ما يربو على الثلاثين ألفاً من المهاجرين الآتين من الحدود، وقد كان سواد هؤلاء من الأولاد والعجزة. الذين البستهم هذه الحرب الغشوم برداً سميكاً من الحزن العرم. قدم هؤلاء وهم بين خمصان وعار وبين شاك وحاك لانتهاك عرض أو مقتل زوج أو ثكل بنين أو فقد رؤوم أو ضياع متاع أو ذهاب نعمة وليس بعجيب أن يعجز المرء عن معرفة أعداد أولئك الذين دهبوا طعمة لهذه الحرب بين ميت وقتيل ولكن الدكتور ثابت قدر ذلك بأكثر من مائتي ألف مسلم ذبحوا ذبحاً وقال أن هؤلاء ذهبوا ضحايا التعصب فأما المسيحية وأما السيف والنار والعارفون بتاريخ الحكم التركي في الأربعة القرون الأخيرة لا يعجبون إذا عمد البلغار والصرب بعد أن قاسوا ما قاسوا إلى استئصال مسلمي الرومللي ولو باسم المسيحية والدين: ومما لا يزال في الآذان صداه ما يقال بأن كثيرين ممن كانوا في اطنه كانوا أعضاء لما يسمى بالعصابة البلغارية وهي قوة غير منتظمة تزحف وراء الجيش ويعزي غليها كثير من الأهوال وانتهاك الحرمات. والحقيقة التي لا ريب فيها أن هؤلاء النسوة الأيامي والأطفال اليتامى أبرياء لا ذنب لهم ويجب أن يلقوا منا حناناً وعطفاً. ولقد قامت بعثة الهلال الأحمر بعمل جليل إزاء هؤلاء فعاملتهم معاملة البار الرحيم. وأنعشتهم بأنواع الغذاء هم وأولئك الجنود المرضى والمجروحين إذ أمكن الباخرة أن تنقل 1800 إلى 200 من المهاجرين و300 إلى 500 جرحى ومرضى من الجنود في نقلة واحدة مما لا حاجة الآن إلى بيان ما كان يبقى من الأوساخ والقاذورات بعد خمسة أيام تستغرقها في كل نقلة كهذه ونقل هذا العدد الجسم - أما في الأحوال المعتادة فيمكن هذه الباخرة حمل ثلثمائة من المرضى إلى خمسمائة من الجنود الجرحى والمرضى بدون ازدحام ولقد كان الدور الأعلى خصيصاً بالرجال وأما النساء والأولاد فكانت في الدور الذي يلي الدور الأعلى ولقد كان بين هؤلاء كثير من المرضى بالجدري والألتهاب الرئوي والروماتزم والتيفوس الطفحي بل كان بين المهاجرين نساء حبالى وضعن أثناء السفر حتى كان أطباء بعثة الهلال الأحمر في شغل دائم يبدأونه باكرين ولا يفرغون من العناء حتى تنقضي ساعات من الليل. وقد اضطر أطباء بعثة الهلال الأحمر إجراء العيادات اليومية لعدة مئات من الجرحى

المصابين بجروح ملوثة وبتر حديث إلى الإستعانة بسبعة من الجراحين بالجيش التركي ونحو ثمانين ممرضاً من الذين قدموا من سالونيك مع الجنود. ولم يشاهد بين الجنود مرض الكوليرا على حين كانت بينهم اصابات كثيرة بالإسهال الدموي الدسونتاري الشكل ولما كان غذاء هؤلاء بسيطاً في العادة، لم يكن هناك أدنى خطر عليهم. وكان غذاء الباخرة فوق الكفاف ولا يعدو الزبدة والشاي والقهوة والحساء والعدس والأرز والفواكه والخضروات وأحياناً قطع من اللحم والسمك. وأما أطباء الهلال الأحمر فهم رجال قديرون بلغوا مراتبهم الطبية من مدارس القاهرة أو بروت أو باريس ولكنهم لاقوا جم الصعوبات في المحافظة على القوانين الصحية مع جماعة ليس لديهم أقل فكرة من مبادئها. أما الباخرة فكان يعتنى بنظافتها وتطهر بعد كل نقلة تطهيراً فنياً مستجمعاً كل الشروط اللازمة وبكل اعتناء. ولما كانت اللغة المصرية هي العربية وهذه لا يفهمها الأتراك فقد كان التخاطب بين أطباء الهلال الأحمر والجراحين والأتراك باللغة الفرنسية، حتى إذا وصلت الباخرة ثغر أزمير كان المهاجرون الجنود ينقلون إلى الشاطئ بواسطة ماعونات يجرها زورق بخاري من مصلحة المينا فكان الجنود المرضى والجرحى يرسلون إذ ذاك إلى المستشفى الحربي أو المستشفى العثماني الملكي في المدينة وأما المهاجرون فيودعون في المساجد الكثيرة العدد لتوزيعهم على المملكة يسعون وراء عمل أو مرتزق وكانت الحكومة التركية تعطي كل مهاجر في اليوم ثمانية أو عشرة سنتات وهي قيمة تكفي تقريباً قوتهم اليومي وإنا لنشكر الجالية الأوروبية بأزمير على ما قدمته من الأموال المجتمعة من التبرعات والمشروعات الخيرية لمشتري ملابس وبطاطين وسائر لوازمهم وسينقل كل المهاجرين من سالونيك إلى آسيا الصغرى. في الأستانة نحو سبعين ألفاً أعتني بهم مثل هذا الاعتناء وهؤلاء قدموا إليها من تراقيه ووزعوا في شمال الأناضول وللهلال الأحمر المصري بعثات في الأستانة مكونة من أطباء وممرضين وممرضات تعتني بالجرحى ومرضى الكوليرا اعتناءها بالمهاجرين وإن أكثر ما يفتت الفؤاد في هذه الحرب هم أولئك المهاجرون الذين سيجهل التاريخ حقيقة ما أصابهم من ويلات هذه الحرب الطاحنة.

ويجب أن يكون الفخر كله لأعمال جماعة الهلال الأحمر المصري ومستشفاهم البحري بحر أحمر في تخفيف ويلات منكوبي هذه الحرب. (انتهى ببعض تلخيص)

من وصية أرسطو للاسكندر

من وصية أرسطو للاسكندر وأعلم أنه ليس أحد أصلح للناس من أولي الأمر إذا صلحوا ولا أفسد لهم منهم ذا أفسدوا وأن الوالي من الرعية مكان الروح من الجسد الذي لا حياة له إلا بها وبموضع الرأس من سائر الأعضاء فإنه لا بقاء لها إلا معه فبالوا إلى مع فضل منزلته من الحاجة إلى إصلاح الرعية مثل ما بالرعية من حاجة إلى إصلاح الوالي وقوة بعضهم زيادة في قوة بعض ووهن بعضهم سريع في وهن بعض وبعد الوالي من القدرة على إصلاح نفسه مع استفادة رعيته كعبد الرأس من البقاء مع هلاك سائر البدن غير أنه أجدر بإصلاح الرعية الصالحة من الرعية بإصلاح الوالي الفاسد وإفساد الوالي الصالح لفضل قوته عليها ووهن قوتها عن قوته. وقد قال هوميروس الشاعر أن الأئمة يصلحون المؤتمين بفضل قوتهم فأما الأئمة فلا يصلحهم مؤتم.

اختزال الكتابة العربية

اختزال الكتابة العربية الإختزال فن قديم يرجع عهده إلى الرومان. فقد زاولوا الخط المختزل في عهد شيشرون خطيبهم الشهير، وأول من كتب به نيرون الروماني. وقد عثر الدكتور أرثور هنت بمصر على ورقة من البردي (البابيرس) كتبت سنة 155 بعد الميلاد بالخط المختزل وهي عبارة عن عقد بين تلميذ ومعلم. ويستفاد من ذلك أن الإختزال كان يعلم في بلاد مصر ولكنه زال بزوال الرومان كما أن الديمطوقي أي الخط العامي المصري وهو عندهم في مقام الإختزال للخط الهيروغليفي القديم قد اندثر على مر الأيام. وكانت أول خطوة لانتشار الكتابة المختزلة ببلاد أوربا سنة 1174 بانكلترا ثم أخذ هذا الفن يذيع بتلك البلاد ويدخل في طور الإتقان إلى أن استعمل في فرنسا وعلم في مدارسها حتى وصل بين هاتين الأمتين إلى ما نراه اليوم من الكمال والإتقان. أما في ألمانيا فلم يوجد بها من وضع طريقة للإختزال ولم يظهر أثره فيها إلا في أواخر القرن السابع عشر. ولقد عمت فائدة هذا الفن وانتشر استعماله في أغلب البلاد الأوروبية فبدئ باستعماله في البرلمان الانكليزي سنة 1780 وفي مجلس الأمة بفرنسا سنة 1790 وفي مجالس النواب الألماني سنة 1890. وقد نشرت مجلة المقتطف في أواخر القرن الماضي مقالة في فن الإختزال ولخصت طريقة قد ابتكرها حضرة العلامة سليمان بك البستاني وهو أول من وضع أساس هذه الفكرة وقدر الفوائد التي تعود منها على البلاد العربية قدرها ولكنا نقول مع الأسف أن تلك الطريقة في بدئها لم تأت بنتيجة مرضية على الرغم من أن الإشارات التي استعملت لها كانت من أبسط العلامات الهندسية ولا شك عندنا أنه لو كان العالم البستاني بذل جهده ووجد متسعاً من الوقت كافياً لنجحت طريقته وعمت هذه البلاد. وقد جاء من بعده آخرون ووضع كل منهم طريقة للإختزال العربي ولكنها لم تف بالغرض المقصود إذ ظهر في بعضها نقص وعجز استحال معهما انتشارها. ولما شعرت الحكومة المصرية بحاجتها إلى وضع طريقة للكتابة العربية المختزلة قصد تعليمها في مدارسها التجارية وإدخالها في مصالحها أخذت تنشط الكثيرين وتمهد لهم السبيل حتى كثرت المساعي في السنين الأخيرة واتجهت الهمم إلى وضع طرق شتى. بيد أن القائمين بهذه الفكرة لم يتوخوا استنباط طريقة اختزالية خاصة باللغة العربية بل طبقوا

بعض الطرق الأوروبية واقتبسوا منها ما أدخلوه على الكتابة العربية فلم يوفقوا إلى إنجاح مشروعهم. فمنهم من استعمل في طريقته أشكالاً مبهمة ورموزاً غامضة، ومنهم من أدخل الشكل في الكتابة فزادها بذلك صعوبة وغموضاً ومنهم من استعمل أشكالاً مشتركة لحرفين أو ثلاثة أو أربعة حتى كانت تصعب القراءة على المختزل بعد كتابتها، وقد استنبط أحدهم طريقة أخرى ورأى كتابتها من اليسار إلى اليمين فمسخ بذلك روح الكتابة العربية المأخوذة عن الكتابة الأرامية وهي كما لا يخفى تكتب دائماً من اليمين إلى اليسار، ولم تتغير عن هذه الصورة منذ إنشائها إلى الأن. وقد قام سعادة المفضال أحمد باشا زكي سكرتير مجلس النظار وحث على الاهتمام بهذا الفن ورضخ من ماله (تبرع) بمبلغ خمسين جنيهاً وأعلن توزيعها على الفائزين في امتحان قام به نظارة المعارف في 18 ديسمبر سنة 1912 وقد بلغ عدد المتبارين عشرة فأستقرت النتيجة عن فشلهم جميعاً ولم ينل الجائزة المفروضة أحد إذ كان القدر المحدود تسعين كلمة في الدقيقة وهذا ما يدل على صعوبة الطرق التي كانوا يدرسونها. وقد اهتدى المسيو راوول بينكردي المختز لسكرتارية نظارة المالية إلى وضع طريقة إختزالية باللغة العربية بعد أن قضى زمناً طويلاً في بحث وتنقيب وذلل ما صادفه من الصعوبات الجمة في هذه السبيل ثم نشر كتابه في شهر يوليو الماضي إجابة لإلحاح الكثيرين ممن يفضلون طريقته على غيرها فطبع الجزء الأول منه مصدراً بمقدمة تاريخية مسهبة في تاريخ الكتابة عموماً والكتابة المختزلة خصوصاً ثم أخذ من ذلك الحين يدرس طريقته هذه مجاناً في مدارس برلتز ويلقيها على نفر ممن يرغبون في تعلمها ويسرنا أن نقول أن المجتهدين منهم يكتبون اليوم بسرعة كادت تسبق سرعة من سبقهم من الطلبة في هذا الفن منذ الأربع السنوات الأخيرة وذلك على الرغم من حداثة عهدهم وهي بلا شك نتيجة مرضية تنبشر بنجاح باهر. وقد تمتاز هذه الطريقة أيضاً بأنها لا تقتصر على وضع رموز وخطوط وأقواس ودوائر كما هي الحال في أغلب الطرق المختزلة بل أنها مبنية على قواعد معقولة مطابقة لروح اللغة العربية، وموافقة لأسلوب الكتابة بها كجمع الحرفين أو الثلاثة معاً وجعلها صوتية إذ أن الكلمات العربية تكتب غالباً كما تنطق وهذه ميزة قد لا تجدها في أية طريقة أخرى، ولقد تصفحنا كتابه هذا فوجدناه محكم الوضع سهل المأخذ،

فقد أعطي لكل حرف من الحروف الهجائية علامة هندسية خصيصة به ثم أتى بعلامات إضافية لبعض الحروف ليسهل بذلك اتصالها واستغنى بذلك عن الشكل لأنه من العبث استعماله في الكتابة المختزلة ثم اتخذ من ذلك كله قاعدة عامة ثابتة لا تتغير يسهل على الطالب إدراكها فجاءت طريقته أفضل ما ظهر (في رأينا) من نوعها حتى الآن. وقد طلبنا إلى المسيو راوول بينكردي نموذجاً من خطه المختزل فقدم لنا نبذة من المقامة العاصمية للشيخ ناصيف اليازجي نشرنا صورتها هنا (أنظر صورة المقامة) على الرغم من أن أغلب الكلمات العربية الموجودة في هذه النبذة لغوية ونادرة الاستعمال إلا أنك تجد لها علامات في غاية من البساطة لا يوجد بين الواحدة والأخرى أدنى غموض ولا إبهام وبعض هذه الكلمات كما ترى متصل بعضه ببعض وذلك مما يزيد السرعة في الكتابة فيتيسر بذلك مجاراة أذلق الخطباء لساناً. وأسرعهم بياناً. فحبذا لو نظرت الحكومة إلى طريقته بعين الإهتمام، وأخذت بناصره تشجيعاً له وتنشيطاً لغيره من الذين يعالجون الاستنباطات العلمية المفيدة شأن سائر الحكومات المتمدنة التي لا تفتأ تمديد التشجيع لمساعدة أفرادها النبغاء على أن اللغة العربية في أشد الافتقار إلى هذا الفن المفيد والحاجة ماسة إلى هذا الاختراع ولاسيما في نظارات الحكومة ودوائرها المختلفة مثل المجالس والمحاكم حيث تلقى الخطب والمرافعات والمحاورات بسرعة يتعذر على الكاتب تدوينها كما هي فيضيع معظمها سدى ويهمل في زوايا النسيان. ولما كانت الأمة المصرية قد دخلت في طور جديد من الرقي وخطت خطوة واسعة في سبيل العلم فنحن نرحب بهذا الاختراع المفيد ونطلب لى حكومتنا السنية تقريره في مدارسها التجارية حتى تعم بذلك الفائدة ونصل إلى الغاية المنشودة إن شاء الله.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة آداب اللياقة كتاب لم يكد يصدر حتى انتشر. ولم يكد ينتشر حتى علم الناس مكانته من النفع ومحله بين الكتب الممتعة التي نحن المصريين شيوخاً وشباباً بمسيس الحاجة إليها. ومما زاد جمهور القراء ثقة بجمام نفعه وكبير فائدته أن واضعه ذلك الكاتب اللبق والمطلع الباحث محمد أفندي مسعود الذي كثر ما عرفوا فضله وشهدوا مقدرته وتبينوا حذقه وسعة اطلاعه واجتهاده في البحث في سني تقويمه وغير ذلك من عقائل براعته ومحاسن قلمه. وقد زان الكتاب في كثير من موضوعاته بالأحاديث النبوية وروائع الكلم ومأثور الحكم وكثير من الاستشهادات والحكايات مما جعل الكتاب آية في بابه نفعاً وفائدة. وقد أحسنت نظارة المعارف صنعاً بتقريره في مدارسها، وعى أن يقرأه المعلمون على تلاميذهم، ويأخذوا النشئ بآدابه، ويحثوهم على العمل بقواعده، حتى تتهذب الآداب وتستقيم النفوس، وتطيب الأخلاق، فذلكم عماد الرقي ونهجه، والكتاب كفيل بأن يأخذ من النفوس مكانه، ويدلها على سامية الآداب ومحمود الأخلاق. وثمنه ستة قروش. الخلق اهدى إلينا حضرة الفاضل حسين أفندي فتوح الموظف بنظارة المعارف - وهو من أفاضل المصريين المشهورين بالألمعية والذكاء_مؤلفاً له سماه الخلق، وهو من خير ما وضع في هذا الغرض حيث لم يقف صاحبه الفاضل عند سرد الحكم والأداب مجردة عن البحث والتعليل والاستقصاء بل ترى الكتاب على صغر حجمه ووجازة كلمه شاملاً علمي النفس والأخلاق معاً وليس ذلك لعمري ببدع على مثل فتوح أفندي ومكانه من العلم والفضل مكانه أما الكتاب فيباع بمكتبة البيان وثمنه خمسة قروش عدا أجرة البريد. تهذيب الألفاظ العامية كتاب قيم وسفر جليل وضعه الأستاذ الفاضل الشيخ محمد علي الدسوقي المدرس بالمدارس الأميرية والعضو بجمعية التأليف المصرية وقد صدره مؤلفه الفاضل بمقدمة ضافية ألمّ فيها بشرح أدواء اللحن والتحريف والمولد والدخيل وأعراضها ووصف أدويتها وطرق التعريب في زمن العرب والإسلام ثم الكلمات العامية ومرادفاتها من العربية وقد جمع فيها طائفة

صالحة تسد حاج الكتاب الذين برموا بالكلمات العامية وضاقت بها نفوسهم وأنا نثني على الأستاذ المؤلف خيراً ونشكر له هذه العناية الكبرى والخدمة الجليلة التي أسداها إلى اللغة فسد بها حاجة كانت بنا ماسة أكثر من أمثاله العاملين، وثمن الكتاب خمسة قروش. القاموس العصري أخرج في هذه الأيام لجماعة المشتغلين باللغة الانجليزية وفئة المعربين جناب الفاضل الياس أفندي أنطون صاحب كتابي التحفة المصرية والهدية السنية قاموساً انجليزياً عربياً أسماه القاموس العصري وهو معجم مفيد ضاف تفرد بصحة المعاني العربية ودقة تعريب المفردات مما يقوم بحاجة الطلبة وكل من يعنون بالإطلاع والاستقصاء وهو عمل مبرور ويستحق الاستحسان والإعجاب وهو خليق بأن يكون في كل خزانة وقمين بأن يدخر في كل مكتبة ونحن لا يسعنا إلا أن نشكر واضعه الفاضل على اجتهاده وعنايته ونرجو لمعجمه الذيوع والانتشار. والقاموس يباع في مكبة البيان وثمنه ثلاثون قرشاً صاغاً عدا اجرة البريد وهي أربعة قروش. هنري الخامس هي تلك الرواية الذائعة الصيت الطائرة الذكر الخالدة الأثر التي دبجتها براعة ذلكم العبقر النادر ونعني به ويليم شكسبير الذي شهد له قومه بأن أرض انجلترة بل العالم بأسره لن تنبت مثيل شكسبير، والرواية تعد من محاسن رواياته التاريخية، ضمنها الحرب التي كانت ناشبة بين انجلترة وفرنسا وقد جمع شكسبير في هذه الرواية بين روعة التاريخ وبهجة الفكاهة. وقد قررتها نظارة المعارف على طلبة البكالوريا في هذا العام وعربها لمكتبة البيان محمد السباعي ليستعين الطلبة بدقيق التعريب على تفهم دقيق معانيها في الانجليزية فندعو كل مجد للإطلاع إلى اقتنائها وهي تباع بمكتبة البيان وثمنها عشرة قروش. مجلة العلوم الاجتماعية صدرت في بيروت في شهر يبتمبر الماضي مجلة باسم مجلة العلوم الاجتماعية وقفت صفحاتها على البحث في المسائل القانونية والاجتماعية والاقتصادية، أنشأها حضرة الفاضل المحامي توفيق أفندي الناطور الحائز على شهادة الحقوق من كليتي باريس

والأستانة وعهد بتحريرها إلى لجنة من الحقوقيين والاقتصاديين والاجتماعيين ويدير تحريرها محمد أفني منيب الناطور، واشتراكها السنوي ريالان في البلاد العثمانية وعشرة فرنكات في الأقطر الأجنبية، فنتمنى لها الرقي والرواج. المنهل اسم مجلة ظهر العدد الأول منها في شهر رمضان أنشأها محمد أفندي موسى المغربي في القدس الشريف وعني فيها بموضوعات الأدب والتاريخ والاجتماع وقيمة اشتراكها في السنة ريال مجيدي ونصف في البلاد العثمانية وعشرة فرنكات في البلاد الخارجية. ولعلها آخذة في سبيل التحسين وعسانا نراها بعد قليل على ما نحب لها من التقدم والرقي. الحكمة مجلة في بضع صفحات تصدر في ماردين من أعمال سوريا، مديرها المسؤول حنا القس ومحررها ميخائيل حكمت حقي وقد كتب تحت أسمها أنها مجلة دينية أدبية تاريخية أخبارية وهي تصدر مرتين في الشهر، فترجو لها النجاح. زينب لا نرى في عالم الكتابة في هذا البلد نقصاً أعيب ولا عاباً أفضح من خلونا من الكتاب الروائيين. ولعل مدعاة هذه النقيصة أننا قليلو الملاحظة حتى في أبسط المحسوسات ولو سألت أي رجل منا عن عدد نوافذ داره أو أبواب حجراته أو درج سلمه لتردد في الجواب غير عليم، ولا حجة لمن يدعي بأن بلادنا متناسبة المناظر متناسقها، لا ينبسط لها خيال الكاتب، ولا تمرح في معالم حسنها المتشابهة خاطرة الروائي، فليست الروايات مقصورة على وصف جلال الطبيعة وبديع مناظرها، ونحن نريد كتاباً روائيين يأخذون من حالنا الحاضرة وأدوائنا وعللنا ومبدأ المحافظة على القديم المتأصل في نفوس شيوخنا وبعض شبابنا والحال التي كان عليها آباؤنا وصالحة عاداتهم وفاسدتها موضوعات يصيغونها في أسلوب روائي على مبدأ (الرياليزم) ولا ضرار في وضع روايات خيالية يرمي كتابها بها إلى مبدأ سام أو فكرة رشيدة يهذبون بها العواطف، ويقومون بها أود الأخلاق فليس مبدأ (الرومانتزم) في فن وضع الروايات بأقل فائدة من الروايات القائمة على الحقائق. نقول ذلك وفي يدنا رواية صالحة، هي بدأ عهد جديد في عالم الكتابة نستقبله بالغبطة

والروح، تلكم رواية 0زينب) وضعها صاحبها يصف فيها حال الريفيين في طهرهم وعفافهم وسلامة قلوبهم وشريف حبهم وجمود كبارهم وتقوى كهولهم وضمنها مبادئ له عصرية ليس فيها إلا الرشيد القويم، متبعاً في ذلك مذهب ديكنز ولزاك وثكرى. ذلكم محمد حسين هيكل، رجل شديد العارضة، شديد الذكاء قوي الحجة، قوي المبدأ حاضر الذهن. سريع الخاطر. وقد جمع إلى ذلك مبدأ إنكار الذات في سبيل الخدمة العامة فاكتفى بكتابة (فلاح مصري) على غلاف روايته. وأنا نجل هذه منه كما نجل هذه الرواية البديعة النافعة ونرجو أن يفرغ الدكتور حسين هيكل إلى وضع الروايات فنحن بحاجة شديدة إليها وإلى ما يخرجه ذلك العقل الكبير ونتوقع أن تقل حاجتنا إلى معربات ديكنز وديماس ودوديه. وأمثالهم بما ينشئ من جلائل الروايات. (والرواية تباع ف مكتبة البيان وثمنها 10 قروش) مصر الجديدة هي الرواية الجليلة المحزنة التي مثلت على مسرح جوق جورج أبيض فكان لها أكبر تأثير في نفوس من شهدها وأعظم وقع من عواطف من حضرها، فهي مجموعة من أمراضنا الاجتماعية التي لا نهضة لنا ولا رقي ولا انتعاش إلا بالشفاء منها وقتل جراثيمها. وقد بدي فيها واضعها فرح أفندي أنطون عليماً بفن (الدراما) - أي فن وضع الروايات التمثيلية بعد ما عرفناه صحفياً قديراً تتجلى في كل موقف مقدرته. ومعرباً مبدعاً يتخير لتعريبه. ومطلعاً جم الإطلاع غزيره. وقد سرنا أن يطبع (مصر الجديدة) حتى يجمع الناس بين لذة القراءة ولذة المشاهدة. فتكون أرسخ أثراً. وأعم نفعاً وأنا نحث كل محب للإطلاع على اقتنائها. ونرجو لها مطبوعة الإقبال التي حازته على المسرح. (وهي تباع بمكتبة التأليف وسائر المكاتب) اعتذار اعتذار قد كنا أعددنا لهذين العددين موضوعات جمة وأبحاث كثيرة خلاف ما جاء فيهما، مثل خطاب السير أولفر لودج في المجمع البريطاني عن بقاء الروح مع نشر صورته الفتوغرافية. ومذكرات أميرة من أميرات الأسرة المالكة في أسبانيا وهل نستطيع أن نتنبأ بالمستقبل. وعادة أهل الصين في عقاب العشاق. إلى غير ذلك من الموضوعات الشائقة

المفيدة. ولكننا وجدنا أننا لو طاوعنا النفس على رغبتها. وخففنا لنشرها. وأخرجنا هذين العددين في حجم أضخم مما قرر لهما. لظلمنا أنفسنا وغبناها. وذهب أمرنا فرطاً ويرى القراء أنا أدخلنا على البيان باب التصوير. وليست النفقات عليه بالشيء اليسير وبينا نحن نبعد في الإنفاق على وسائل التحسين. إذ أكثر المشتركين يأبي إلا أن يمطلنا ويجعلنا في مأزق من أمرنا ويضيع علينا بمطله ثمين وقتنا. وكأني بهم يظنون أننا (بيت روتشلد) أو روكفلر أو أرنست كاسل غنى وثراء. على حين أن هؤلاء لا يرتضون أن يخسروا (بنساً) واحداً في عمل لهم. ونحن ننفق الكثير من حر المال وحر الجهد فلا نرى حتى مالنا. ماذا يريد منا وبنا المماطلون؟ أيريدوننا على أن نجعل لهم الإشتراك بقيمة مسح أحذيتهم؟ أيريدون أن نخرج لهم بدل مجلة البيان (حسن أبو علي سرق المعزة) أو سلسلة من سنكلر وكارتر وتلك التي لم يقف ضررها عند حد الجناية على الأخلاق بل تعداه إلى الجناية على اللغة؟ لقد ضقنا ذرعاً بهذه الإستهانة وذلكم المطل. ولا حيلة لنا إلا أن نطبع من البيان بمقدار المشتركين المهذبين ليس غير.

أبطال العالم

أبطال العالم مشروع جليل جديد في العربية (إلى كل قارئ وكل قارئة) قال توماس كارليل صاحب كتاب الأبطال: أن تاريخ الدنيا: أي تاريخ ما أحدث الإنسان في هذا العالم: إنما هو تاريخ من ظهر الدنيا من العظماء. فهم الأئمة، وهم المكيفون للأمور، وهم الأسوة والقدوة، وهم المبدعون لكل ما وفق إليه أهل الدنيا: وكل ما بلغه العالم وكل ما تراه قائماً في هذا الوجود كاملاً متقناً فاعلم أنه نتيجة أفكار أولئك العظماء الذين اصطفاهم الله وأرسلهم إلى الناس ليؤدي كل ماناطته به القدرة الإلهية من الخير. فروح تاريخ العالم إنما هو تاريخ أولئك الفحول. ومن هنا أجمعنا النية على القيام بعمل عظيم سوف يصادف في اعتقادنا موقعاً حسناً من نفس كل ناطق بالضاد ومن نفس كل قارئ وكل قارئة وكل الرجال وكل الشباب وبالجملة كل من يهمه أن يمتع نفسه ويشحذ ذهنه ويرهف حسه ويقوي مداركه ويقف على روح العلم والأدب والفلسفة والتاريخ وحياة العظماء في أحسن أسلوب وألذه وأمتعه أما هذا العمل العظيم فهو حلقات من الكتب والأسفار كل حلقة خصيصة ببطل من أبطال العالم كتاباً كانوا أو شعراء أو فلاسفة أو علماء أو روائيين أو قواداً أو روحانيين وسواء كانوا عرباً أو غير عرب. وهذه الحلقة تصدّر بفذلكة في تاريخ البطل ثم يلي ذلك أطيب ما قاله. وذلك أن نظهر في كل أسبوع أو كل أسبوعين أو كل شهر - حسب رواج هذا العمل وإقبال القراء عليه_جزأ يقع في ثمانين صفحة. عشرون منها أو قريب من ذلك في تاريخ البطل (وليكن فكتور هوجو مثلاً) والستون الباقية نثبت فيها أحسن ما كتبه في كتبه ورواياته فإن لم تكف الستون صفحة أردفنا هذا الجزء بجزء آخر في حجمه ننشر فيه بقية مختارات هوجو وهلم جراً أي أننا سنرصد لكل بطل حلقة قد تبلغ الخمسة أجزاء وقد لا تتجاوز الجزء الواحد،_وقد أسلفنا أننا سنكتب عن كل بطل في العالم شاعراً كان أو كاتباً أو روائياً أو فيلسوفاً أو عالماً أو مخترعاً أو قائداً روحانياً. وكان مصرياً أو تركياً أو عربياً أو انكليزياً أو فرنسياً أو ألمانياً أو روسياً أو صينياً أو هندياً أو فارسياً الخ_ومن ثم سيرى القراء من هذا العمل أعجب العجب، ولب لباب التاريخ والعلم والأدب بل سيرون، دائرة

معارف عربية جامعة لكل ما تشتهيه الأنفس وتقر به الأعين ويصبحون بقراءته أدباء وعلماء وفلاسفة ومؤرخين وكل شيء. أما القائم بكتابة هذه الأسفار النافعة فهو صاحب هذه المجلة وصفوة العلماء والأدباء في مصر - وأما القائم بطبعه ونشره والذي يخاطب في شأنه فصاحب هذه المجلة وحده. هذا وسيكون ثمن الجزء الواحد قرشان مصريان وللمقيم بعيداً عن القاهرة أن يشترك في خمسة أجزاء ثم في خمسة أجزاء أخرى وهكذا وقيمة الإشتراك في الخمسة أجزاء 12 لأننا سنرسلها إلى حضرته مسوكرة (مسجلة) والقيمة تدفع مقدماً (طبعاً) وسنظهر الجزء الأول من هذه الأسفار في أوائل يناير القادم ومن أحب أن يشترك فليرسل إلينا الخمسة عشر قرشاً حوالة على البريد والله الموفق.

حول الدين

حول الدين نبذة فلسفية جليلة حول الدين من كتاب حديث المائدة الذي يعنى البيان بنقل أطيبه إلى العربية حدث شاعر المائدة قال: زرت الأستاذ في داره ذات صباح فألفيته مكباً على أنبوبة من الزجاج محبوكة الطرفين فيها سائل كدر، وقال لي انظر فخبرني كيف ترى هذا السائل. قلت كدر قل إن هذا السائل سخن مدة ثلاث ساعات وما زال صافياً حتى منذ أيام قلائل ثم أخذ بعد ذلك يتكدر ثم أن الأستاذ فض أحد طرفي الأنبوبة فأخذ مقداراً يسيراً من سائل على قضيب زجاجي فوضعه فوق قطعة من الزجاج للفحص الميكروسكوبي ثم نظر في المجهر وصاح هاك دلائل الحياة. انظر فنظرت فإذا أشياء تشبه هذه العلامات فأما الأجسام التي هي كالخطوط المستقيمة فقد كانت تذهب وتجيء مسرعة في كل ناحية، وأما المنكسرة فكانت تتلوى كالأراقم، وكانت المستديرة تدور حول محاورها. والكل في حركة ذائمة كأنما لا تبرح تلتمس مالا تجد. قال الأستاذ إن عناصر هذه الأجسام لمتينة، فلقد غليت ثلاث ساعات فلم تمت، ولكني سأنظر ماذا كانت نتيجة الغلي مدة ست ساعات. ثم عمد إلى بعض أوعيته. ولعل القارئ قد أدرك ماذا كان يفعل الأستاذ، وإنما يزاول بعض تجارب تلك النظرية الشهيرة تولد الحياة من الجماد. وعاد بأنبوبة كالأولى ولكنها تعي سائلاً صافياً ثم قال غليت ست ساعات، أترى بها أدنى كدر. قلت كلا أنها لأصفى من قضيب بلور فقال ما أظن أن بها دليلاً واحداً على الحياة ثم فعل بها كما فعل بسالفتها، فإذا السائل خال من كل شيء ولا يكشف المجهر منه إلا عن قطعة من النور. قال الأستاذ لقد قتلها غلي ست ساعات. حسن هذا. أفتدري ماذا كان يحدث لو أنا وجدنا

هذه الأنبوبة كدرة، وأصبنا بها دلائل الحياة؟ إذن لاهتز قصر البابا وزلزلت أركانه، وتساءل القوم عن النبأ العظيم في أنحاء العالم الديني. إذن لارتجفت العقائد والروايات والملل والنحل والمذاهب، تطلعاً إلى نتيجة تجاربي وتشوفاً إلى ثمرة مباحثي، ليعرفوا تكدر السائل في زجاجتي أم صفا. ولا والله لا أعلم أأضحك من هذه الحال أم أبكي فأنتحب. فلما كان الغد وقد لفنا الصباح حول المائدة طرح الأستاذ مسألة الأمس على بساط المحاورة قلت لا بد من التسليم بأن تلك الجراثيم لم تحتمل غلي ست ساعات. قال الأستاذ: هذا من حسن حظ البابا، وكل من راعه وأزعجه لفظة العلوم الطبيعية فإنه إذا ثبت أن الأشياء الميتة قد تحي من تلقاء أنفسها كبر الأمر، وعظم الخطب، وانبرى لك بعض الناس يقول: إذا استطاع الشيء الميت أن يحي نفسه، فلا يبعد أن تكون الأرض قد ملأت نفسها بالخلائق من غير واسطة. على أنه لو كان ذلك حقاً لما كان ذلك من المعجزات الصعائب. والمعضلات الغرائب. ولأمكننا مع ذلك أن نجد في قلوبنا منفسحاً للاعتقاد بآله خالق. بدليل أننا قد نصدق الآن بوجود الآله، مع أنا نرى البذرة الضئيلة لا تزال تنمو حتى تمتص عصارات نصف فدان من الأرض، وكل ذلك تفعله بقوتها الذاتية الكامنة، بلى أن الحياة لتتولد في هذه الدنيا بأية كيفية. وما أظن أن جرثومة البرص قد خلقت مع آدم، ولكنما تولدت في هذه الدنيا بعد خلقته. قلت وهذا أيضاً اعتقادي وإلا فإذا كان آدم قد جمع في جسده كافة العلل والأمراض التي ابتلى بها ذريته ونسله، إذن فلقد كان والله مستشفى متحركاً. قال الأستاذ إذن فكيف تسنى لذاك الحيوان جرثومة هذا الداء أن يظهر في العالم؟ أتظن ذلك قد كان بناء على لائحة سماوية أصدرت بمنح ذلك المخلوق الخبيث هدية للإنسانية؟ فرأيت أن أجعل الصمت الجواب على هذا السؤال فسكت. وكان الفتى الفلكي (هو أحد أعضاء مائدة الأفطار) جالساً يسمع فتحرك فقال أني أيها الأستاذ وإياك نزاول مسألة بعينها. نعم لقد نظرت من وقت إلى آخر في مجهر فرأيت ارتجاج الذرات المتواصل في ذاك السائل وهو ما تسميه الحركة الذرية. وهذا وأبيك هو عين ما أبصر حينما أنظر في مرقبي إذ أرى تراب النجوم يدور دائباً في فضاء الأثير. وحيث لا أرى حركته أوقن بوجوده معللاً خفاءه ببعد المسافة. فالحركة والمادة في كل

مكان. ولا فراغ ولا سكون مطلقاً. ثم أراك تسأل عن ذراتك المضطربة لم لا تتجمع فتصبح أجساماً حية ذاتية الحركة: وأراني أسأل عن تراب النجوم لم لا يتجمع فينمو فينتظم حتى يصير عوالم مأهولة ودنامعمورة. والناس يروعهم بعد أن يسمعوا بتكون العوالم من غيوم النجوم (تراب النجوم) وليس يروعهم أن يروا العوالم المائية (كرات الماء: يريد بذلك قطرات المطر) تكوّن أنفسها بأنفسها من الغيوم السارية فوق أرؤسنا. ولكن إذا استطاعت العوالم أن تتألف من تلقاء ذاتها كهيئة تألف القطرات من المطر، إذن لتفاقم الأمر. واستفحل الشر. وكانت الفتاة جالسة معنا على المائدة، وقد راعها هذا القول المستقل والرأي الحرّ، فارتسم على وجهها أوضح آيات الإندهاش والخوف. وما أحسن وجود العنصر الأناني في مثل هذه الحفلات والمجالس. والنساء أتقى من الرجال وأورع، وأقوى إيماناً وأرسخ عقيدة. ولست بقائل لك ما يقوله ذوو البت في المستقبل من أنه إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فسيكون ربع سكان الخلود ذكوراً والثلاثة أرباع أناثاً. والسبب في فضل إيمان النساء وزيادة تقواهن أنهن أحوج من الرجال إلى أيمان يعضدهن، واعتقاد يؤيدهن. لأنهن شديدات الاحتجاز، لا تدعوهن إلى الخروج من أنفسهن تلك الدواعي التي تدعو الرجال إلى ذلك. وهن لما جبلن عليه من التوكل والاعتماد أسرع إلى الأيمان الذي إنما هو الثقة والتوكل والاعتماد على الغير. وخلق الاستقلال الفكري قد يخرج من النفس الرائع الحسن من كوامن الفضائل، غير أنه لا يبعث على الورع والتقى. فلما كان بعد يومين من انفضاض هذا المجلس جاءني البريد بالرسالة الأتية من الفتاة سيدي. وددت لو تعرف أني لست من قبيل أولئك النسوة الهيابات اللائي يذعرهن الخوض في المسائل الدينية والمباحث العلمية كالتي طرحتها على بساط المناقشة ذياك الصباح ونحن على المائدة. وما زلت اقرأ أمثال هذه الأبحاث تارة في الكتب وآونة في الجرائد فلا أرجف ولا أرتعد. وقد كنت أسمع أيام طفولتي أن الشعرة توضع في الماء فتصير بعد يومين ثعباناً فلا يهولني ذلك، لأني أرى البيضة تتحول فرخاً فلا أنزعج ولا أهال. وإنما أقول صنع قادر جل الخالق وتعالى شأنه. وكذلك أقول إذا أبصرت في أنبوبة الكيماوي حيوانات صغاراً، أو ما يخيل إلىّ حيوانات صغاراً. وما أراك تحسب أني أطوي أنجيلي،

وأهجر محرابي، لرؤيتي مشهداً عجيباً في عالم كله عجائب، ولغزاً مبهماً في كون كله ألغاز غير مفهومة. وكذلك أرى أنه يمكن التوفيق بين الكتاب المقدس وبين نظرية داروين في أصل الإنسان بحجة أنك ترى الرجل الدميم يلد المليح والأبن الصالح يولد للطالح، وهذا دليل على أن الرقى العظيم قد يحدث في فصائل النوع البشري إذا ساعد أمتداد الأمد. وسنوح الفرص، ولقد قرأت في بعض الأسفار أن الكلاب ينتهي نسبها إلى الذئاب. وأني كلما تذكرت كلبي الرفيق الرقيق ذلك الذي يخلص لربه الحب، ويمحضه المودة، ويكون في الدعة أمينه. وفي الشدة معينه. وهو إذا ما ناجاه صاحبه ... يفهم عنه ما تفهم الأنس وجدت أن مابينه وبين أسلافه الذئاب أبعد بكثير مما بين الهمج المتوحشين لسكان نمنم وبين أسلافهم القردة. قد ترى من غصون كلماتي هذه أني ممن يطلقون للعقل حرية النظر في أمثال هذه المسائل. ونحن معشر النساء نستطيع أن نجري مع تيار الزمن نصغي صامتات إلى ما يدور حولنا من المناقشات في المحاورات والكتب ونغير أسلوب حديثنا وتفكيرنا بأسهل مما نغير أزياءنا من عام إلى عام. وما أحسب أنكم عصبة الرجال تعلمون ما لتلك العادة - أعني عادة التوفيق ما بين أذواقنا وبين الاوضاع المتجددة والسنن المتبدلة_من الأثر في نفوسنا. فإنه والله لا يثبت على تلك العادة شيء في نفوسنا، ولا يستقر معها رأي في عقولنا. والتقلب كما تعلمون هو قاعدة الذوق. وظني أننا نتعلم من خاطة ثيابنا كيف نخلع عن عقولنا أرديتها القُدم فنطرح عليها الأكسية الجدُد في أتم سهولة، وما ذاك إلا لاعتيادنا تغيير الأزياء كل فصل وموسم. (وبعد) فقد أطلت جداً في مقدمتي هذه وأخشى أن يكون قد انتابك الملل قبل بلوغك جوهر القول وزبدته. تعلمّ سيدي أن الدين في نظرنا معشر النساء ليس هو بعض هذه المسائل التي يجعلها عشاق الكلام موضوعات للذة الجدل وسرور المحاجة. وإنما هو أمر غير ذلك. هو حياتنا بل هو أكثر من حياتنا. إذ أن حياتنا إنما تقاس بدقات قلوبنا، ولكن شعورنا الديني شيء

أبديّ ما أن يزال يهفو إلى الأبدية، ويطمح نحو العالم الروحاني. أنه لا يبعد أن تصبح أشكال الديانات بعد مضي بضعة قرون وقد نالها من التغير ما لا نكاد نعرفها معه. ولكن مهما يطرأ على أشكال الديانات من التغير فإن حاجة النفس إلى الاعتماد على القدرة الألهية وتلمسها الأتصال بذلك السر الخفي الأبدي - هذا أمر ثابت دائم لا يزول ولا يتغير. وما كان في قدرة مجهر الكيماوي أو مرقب الفلكي أو قادوم الجيولوجي أن ينزع من النفس حاجتها إلى تلك الصخرة الراسية تستقر عليها_إلى تلك النجمة التي لا تغرب_إلى ذلك الموجود الواهب الحياة لأدنى ذرات هذا الكون الواسع. والناس على الإطلاق لا غنى بهم عن الدين، من لم يحتج إليه صغيراً احتاجه كبيراً، ومن لم يعتقده مختاراً اعتقده مقهوراً. فإنك لتبصر الرجل الضعيف العقيدة يسترسل في جحوده ما شاء فيرميه الله بالمصيبة فإذا هو مؤمن. وأني لمن أدركوا سر الحياة الباطنية بطول مكابدة أهوال الحياة الظاهرة. ولقد كنت قبل أن يبتليني الله أكثر اهتماماً بلون قطيفتي ومقدار ملائمتها للوني مني بالدين وكافة شؤونه فأراد الله أن أفهم معنى قولهم المؤمن مصاب. ولما تأدبت في مدارس الشقاء، وسبكت بنار المحنة، علمت أنه لا ذخر أنفس من الأيمان، ولا حرز أمنع من اليقين. وذلك أني وجدتني غنية بذلك إذ أنفضت من متاع الدنيا. وكان إيماني كالعود الخوار فإذا هو كالنبعة الصلبة ألفيتها نعم المتكأ في الضراء. والمعتمد في النكراء. وكان يقيني واهناً ضعيفاً كخامد الجمر، فإذا هو كالضرام المتأجج جلى غيهب الشكوك وحندس الشبهات، وأوضح منهج الرشد فعلوته مسددة الخطوات مأمونة العثرات. ولست في ذلك إلا واحدة من آلاف آلاف كلهم قد لقي من هذه الأحوال ما لقيت. كلهم غمس في حياض البلاء ورسب في أعماق الكرب فعرف حاجة النفس إلى الإيمان والتوكل - إلى بث شكاياتها ونفث أشجانها ورفع دعواتها إلى أذن سميع مجيب يفهم حاجاتها ويرثى لبلواها. هذا حق لا يضر به ولا يؤثر فيه تداول الألسن إياه بالمناقشات والمباحثات وهل يعرف الناس شيئاً أثبت على الجدال وأرسى على المحاورة ولا أبقى على المعارضة وأدوم على المحاربة من الحق؟ وما أحسن ما نطق به الأستاذ في هذه الصدد إذ قال أحد الجلساء ألا

تخشى من إيراد المسائل الدينية في عرض الحديث الاعتيادي؟ فقال الأستاذ أخشى على م؟ فأجاب صاحبه على الحق قال الأستاذ ما كنت أحسب أن الوهن والمرض قد بلغا بالحق هذا المبلغ. متى كان الحق من شدة الضعف بحيث لا يستطيع الخروج إلى الناس إلا متلففاً في كسائه مختفياً في جوف مركبته خشية مس الهواء والشمس. دعني أضرب لك في هذا الصدد مثلاً يسر الصغار ولا يضر الكبار. يحكى أن صبياً كان له طيارة مملوءة غازاً ولها حبل يعقد طرفه بكفه خشية أن تندّ في الفضاء فتضيع، وكان للغلام أخ خبيث فأتاه ذات يوم فقال له أي أخيّ أنزل طيارتك أرها، فجذبها الغلام وكان في يد الأخ الخبيث إبرة فشك بها الطيارة فخرج من جوفها الهواء فتقلصت فإذا كل ما هنالك جلدة متقبضة. فلما كان ذات مساء وأبو الغلام واقف لدى النافذة نادى ابنه لينظر القمر ففعل فسرّه الكوكب المتألق غير أنه ما لبث أن قال أبي. لا تجذب الحبل فيهبط القمر لأني أخشى عليه أخي الخبيث أن يخرقه فيتقلص ويذهب فلا نراه أبداً. عند ذلك ضحك أبوه وأخبره أن القمر ما برح مشرقاً على الدنيا منذ أقدم العصور وأنه سيبقى كذلك أمداً طويلاً. وأم كلّ ما علينا هو أن ننظف زجاج نوافذنا فلا ندع التراب يتراكم عليها، وأن نبقي أعيننا مفتوحة ولكنا لا نستطيع أن نجذب إلينا القمر فنشكه فنخرقه. ولتعلمنّ كذلك أن القمر ليس ملكاً خاصاً بفرد من الأفراد وإنما متاع مشاع ينعم برؤيته كل من شاء. الحق صلب يابس ليس كالفقاعة يفقؤها اللمس. ولكنه كالكرة تركلها طول النهار بقدميك فلا تجدها لدى المساء إلا متينة منتفخة. وما أحسن قول المستر برينت حيث يقول. الحق متين لو مر فوقه قطار البخار ما ضرّه. والباطل سقيم يميته أدنى الخدش. وما أن رأيت ولا سمعت برياضيّ راح قلقاً على نظرية من نظرياته أن يبطلها مبطل أو يدحض برهانها داحض. ورأي أن خوفك المناقشة دليل قاطع على وهن اعتقادك.

لماذا لا نتزوج

لماذا لا نتزوج من الأخطار التي تحدق بالمجتمع الحاضر أحجام الشبان والشواب عن الزواج، فقد قلت نسبته اليوم في البلد الغربية، وفي مصر وغيرها من الأقطار عما كانت عليه منذ عشرين أو ثلاثين عاماً، وقد سئل في سبب ذلك كثيرون من مشهوري الفرنسيين والانجليز، وكثيرات من مشهوراتهم زفيهم فتيان وآنسات وكهول وعجائز. فآثرنا أن نأتي بآراء هؤلاء الأفاضل والفضليات في هذه المسألة الحيوية الخطيرة. قالت مدام ساره برنارد الممثلة الذائعة الصيت. أني على يقين من أن سبب قلة النسبة الحاضرة للزواج راجع إلى تغير في العادات والآداب والأطوار عما كانت عليه قديماً، فلما كنت فتاة لم يكن يسمح للآنسات من الحرية والإباحة عشر معشار ما ينعمن به اليوم، ولم نكن نعرف في شبيبتنا الأكل في المطاعم والفنادق بأن لا وسيلة للقاء إلا بالتزوار، وأحسن سبيل للخلاص من عناء الزيارة في المنزل، أن يسرعوا إلى الزواج ولكن تغيرت الحال في هذه الأيام، فإن الفتيات ينعمن في كثير من الوجوه بالحرية التي للرجال، نعم قد يصادف أن يكون الآباء على غيرة شديدة فلا يسمحون لفتياتهم بالخروج إلا مع الوصيفات، ولكن أغلب الوصيفات قد أصبح في هذه الأيام أقبل للخداع عما كن عليه في السنين الماضية. فنشأ من ذلك أن الفتى والفتاة قد أصبح لهما الآن من الحرية أكثر من أمس، فهما يستطيعان أن يلتقيا كل يوم بالطبع، فلا يكاد يمضي عليهما وقت كبير حتى يشعرا بأنه من الغبن أن يتخليا عن شيء من هذه الحرية، ويضحيا تلك العادات الطائشة التي لهما. وكلما تدبرت هذه المسألة من وجوهها، ورأيت هذه التغيرات الكثيرة التي عدت على العادات التي كنا نأخذ بها منذ خمسة عشر أو عشرين سنة، لا يسعني إلا أن أرى أن نسبة الزواج الآخذة في القلة لم تصر إلى مثل هذه الحال إلا لأن امتزاج الرجال بالنساء اليوم قد أصبح مستهاناً فيه، ومباحاً أكثر من قبل أضعافاً مضاعفة. وقال المستر أرثر بور شير وهو من الشبان: إن في رأيي أن سبب قلة الزواج راجع بأجمعه إلى خطأ المرأة، فإن المرأة العصرية هي بلا ريب أقل صبراً ورزانة من جدتها أو جدة جدتها، وهي أبداً تميل إلى عادة من اسوأ العادات وأقبحها وهي الماعبة، وأكبر شيء يعجز عن احتماله كل رجل هو أن تنتقده المرأة

وتسخر منه، فإذا لم يجد الرجل من النساء سخرية ودعابة فإني لا أرى هناك ما يمنعه من الزواج، فإن أوثق ما يرتبط به زوج وزوجة هو اتفاق اخلاقهما. وقالت مسز هنري دودنيت الروائية المشهورة ليس منشأ قلة الزواج خطأ أحد الفريقين أو كليهما، وإنما يرجع إلى شجاعة هذا العصر وإخلاصه، وفوق ذلك إلى روح المصادقة النامية بين الجنسين، وليست كما يظن البعض دليلاً على الأثرة والانحطاط، وإنما هي برهان جليّ على تقدم (الإِدياليزم) أي المثل الأعلى. لقد كانوا يظنون في الماضي أن اختلاف الجنس وتساوي المركز في المجتمع خير قاعدة يؤسس عليها الزواج، ولكن المحبين اليوم والحبائب يطلبون أكثر من ذلك، ويظهرأن الجيل الحاضر يريد زواجاً لا انحلال له. وتغير مركز المرأة في المجتمع له مساس كبير بالموضوع من الوجهة الاقتصادية، على أني أقدم العامل الأول وهو المثل الأعلى على العامل الثاني وهو السبب الاقتصادي، فإن الأول أبدي والثاني عرضي. وقالت الآنسة هيلدة تريفلان: أني أرى السبب الأكبر ف الإحجام عن الزواج هو غلاء المعيشة ويلي ذلك حب الملاهي والملذات، وهذا من أكبر معالم الفتيان والفتيات اليوم، وهناك سبب ثالث كسابقيه في أهميته، وهو اكتساب المرأة تلك الحرية لكبيرة التي رخصتها لها سنن المجتمع الحاضر، وأرى أن هناك شعوراً عاماً بين الشبان والشواب وهو أن الزواج لا ينبغي أن يفهم من معناه اليوم القيام بما ينتظره العالم من كل فتى أو فتاة، وأعرف كثيرات من الفتيات العوازب كما أعرف كثيرين من الفتية العزّابن يجدون في العزوبية والبقاء عليها كل الرضا، ويخال لي أن العزبة حال راضية، فلما وجد كل من الفريقين أن من الممكنات أن يكون سعداء ناعمي البال وهم وحدان عزاب فضلوا ما عدّوه السعادة العزبية المحققة على السعادة الزوجية المحتملة. وأرى أنه ما دامت النساء يتمتعن بنصيبهن الحاضر من الاستقلال، فلا بد من أن تظل نسبة الزواج أقل مما كانت عليه في تلك الأيام التي كانت تعيش فيه الفتاة عيشة النسك

والاعتزال. وقال الآنسة فانبروج: إن تساؤلنا لم لا يتزوج اليوم إلا القليلون ليبدو لي من أصعب المسائل التي يشق على فرد محاولة الجواب عليها، وأنا أميل إلى الظن بأن السبب الهام في قلة نسبة الزواج يرجع إلى الترخيص للنساء بهذه الحرية التي لهن اليوم. لقد وضعت مسز جراندي في الأيام الماضية طريقة صعبة وهي أن المرأة ينبغي أن يكون لها وقت فراغ طويل، ولايجب عليها أتلعب شيئاً من الألعاب إلا ما كان منها هادئاً، وأن تتعلم الخياطة والتطريز وتشتغل بهما في كل يوم، ولا ينبغي لها أن تخرج وحدها إلا نادراً، فنتج من ذلك أن الفتاة العانس رأت نفسها سجينة ما بقيت على عزبتها. فوجدت أن السبيل الوحيدة التي تستطيع بها أن تنال قسطاً أكبر من الحرية. هي أن تتزوج. أما اليوم فقد سمح للنساء بحرية أكبر من قبل. ورياضات أكثر. فنشأ ولا ريب من ذلك أن كثيرات منهن يشعرن بأنهن سعيدات مستقلات وهن في العزوبة. ومن الغبن أن يخاطرن بسعادتهن وحرّيتهن في سبيل الزواج. وقالت مسز ويليمسن الروائية المشهورة: أرى أن إحجام الناس عن الزواج كثيراً راجع إلى هذا الغلاء الآخذ في الأزدياد حتى لقد أصبح الحب في كوخ أغلى من قبل وأكثر نفقة، وقد زادت الحاجيات عن ذي قبل، ولذلك يعوز الفقير لخطبة الفتاة الحسناء شجاعة أكبر مما كانت في تلك الأيام التي كان الروائيون فيها يختمون رواياتهم بعرس أو خطبة. وفضلاً عن ذلك فإن النساء قد سنحت لهن فرص العمل عن قبل. وازدادت الأجور عما كانت في السنين المنصرمة. فلا حاجة بالنساء إلى أن يتزوجن لغرض الزواج ليس غير. وإذا كان الناس يتزوجون اليوم أقل من قبل فلعلهم يرون في الزواج حالاً أسعد مما رأى آباؤهم. وقال المستر تمبل ثيرستون الروائي المشهور، وهو من الشباب: من الخطأ الفادح أن نلقي سبب قلة الزواج على أحد الفريقين، وإذا كان هناك شجار في هذا الموضوع بين الجنسين، فلا بد أن يكون من الأثنين، ولعل النساء يعرفن رجالهن أكثر مما عرفن، والرجال يعرفون نساءهم أكثر مما عرفوا، ومن المحتمل أن يكون هناك شيء

من المثل الأعلى في الحياة متلجلجاً في صدور الرجل والنساء، ومنشؤه شدة الصحف اليومية، وليس في عصبة الرجال من رجل، ولا في جماعة النساء من امرأة، لا يكونان بالزواج السعيد أسعد حالاً وأنعم عيشاً، ولذلك نحن نؤمل أن تكون قلة النسبة عرضية لا تلبث أن تزول، وقد أصبحت هذه الأيام الحاضرة أيام حقائق، ولكن لا يسعني إلا أن أظن أننا لن نسمع بعد شيئاً عن قلة الزواج، إذا لم يتشبث الخطيبان بالحقائق جد التشبث، واعتقدا ما هو حق اليوم كما كان من قبل، وهو أن الزواج يقضي في السماء، ولا دخل في قضائه للأرض. وقالت مسز بي رينولدز من مشهورات الكتاب الروائيين وهي من العجائز: أن هناك أسباباً كثيرة لقلة نسبة الزواج الحاضرة، فمنها الروح الجديدة السارية بين الناس لطلب السعادة، والسعادة من الكلمات التي أسيء استعمالها جد الإساءة مثل كلمة الحب، وإذا تكلمنا اليوم عن السعادة كشيء ينبغي لنا اقتناؤه، فلا نقصد بذلك كلمة اللهو، ذلكم اللهو الذي يشترى بالمال ويتمتع بع في العطلة والفراغ، والزواج الذي يلازمه دخل قليل هو على نقيض هذه السعادة، إذ يستلزم الجهد والسعي والاستقامة وتضحية النفس، وكلها من الأشياء التي يكرهها هذا العصر ويدعي أنه يحتقرها ويزري بها. وهناك سبب آخر يعمل في أذهان المبصرين والعقلاء، ذلك أن الجيل الذي تقدمنا - آباؤنا وأجدادنا وجداتنا_كانوا يتزوجون دون تفكير أو استبصار، فكان من ذلك أن بلغت الأسرة عشرة أفراد أو أثني عشر فرداً، على حين أن دخل الأسرة لا يكفي لتعليم أربعة منهم تعليماً نافعاً، ونحن لا نزال نذكر نتيجة ذلك، ولهذا نريد أن نكون أحزم من آبائنا وأبعد نظراً ونريد فوق ذلك أن نكون أحراراً مستقلين، لنستطيع أن نكفل عيشنا ونضمن لأبنائنا ما يستعينون به على جهادهم في هذا العالم، فكان من المستحيل أن نتزوج ونحن في ربيع العمر وحداثة السن، فأما أن ننتظر حتى يتهيأ لنا أمرنا، ونأخذ للزواج عتاده، وأما أن نعجل بالزواج فنهبط في المجتمع، وننزل من مكانتنا التي درجنا فيها، ولا يستطع المقاومة والمصارعة إلا القليلون الأشداء. وفي الغالب ترى الأنتظار يقلل من رغبتنا التي غالبتنا في زمان الصبا، ويضعفها، ويذهب بها، ونصبح أكثر انزواء عن الزواج وإشفاقاً منه، واعتياداً للعزوبة والعمل تبع أهوائنا،

ويأخذ تأثير الزواج في الضعف ما انتظرنا حتى ينتهي غالباً بالرفض. وقالت مدام كلارت: أظن أن قلة الزواج ترجع كثيراً إلى فكرة الجيل الحاضر واختلافها عن فكرة أجدادهم وجداتهم، فإن لهذا الجيل أفكاراً أكبر، ومطامع اوسع وأكثر تبايناً، وأشد طماعة مما كان عليه آباؤهم. وكلما فكروا في الجهاد الذي لقيه آباؤهم في السنين الأولى من حياتهم الزوجية، وكيف كانوا يقتّرون ويقتصدون ويحرمون أنفسهم حتى من ضروريات الحياة، لكي يكفلوا لأبنائهم وسائل التربية الصحيحة، ساءل كل نفسه أيليق بمثلي الزواج، أن لي الآن دخلاً صغيراً، فهل يحق لي أن اسأل امرأة يدها لتعيش معي عيشة التضحية التي عاشتها أمي في الأعوام الأولى من زواجها؟. . ويذكر كيف كانت والدته وهو صغير تشتغل في الدار أبداً وتعمل، تصلح جوارب زوجها، وترقع أثواب أطفالها، وتجدد أخلاق ثيابها. فيقول بلى أني لأوثر أن أتزوج، ولكن يظهر أن الزواج لا يليق بي أو بحياتي. ويذكر بعد ذلك السؤال الذي يريد لو يلقيه على الفتاة الجميلة فلا يستطيع عليه إقداماً. وتمضي السنون عليه فيفقد ذلك الميل الذي كان يشعر به وتفقد فتاته الجميلة رونق الشباب. فإذا نظرنا إلى المسألة من هذه الجهة فمن ذا الذي يستطيع أن يقول أمصيباً كان في بقائه على العزوبية أم مخطئاً. أما أنا فلا أستطيع أن أجيب عليه ولا أرى لي فيه رأياً.

نوابغ العصر

نوابغ العصر أحمد بك شوقي 2 تكلمانا في العدد الماضي - وكنا بصدد من اعرية شاعرنا النابغة أحمد بك شوقي_عن الشاعر ومكانه من الجماعة، وجئنا بكلمة طيبة في ذلك لكاتب شاعر من خيرة كتاب المغرب الشعراء، ولما كنا قد اعتزمنا أن نكتب فصولاً عدة في شاعرية أمر الشعراء ونبوغه وآرائه وشعره وأدبه مما ليس في مكنتنا أن نلم به في فصل أو فصلين، رأينا من الفائدة أن نبدأ بفصل في الشعر وماهيته وتاريخ تطوره، وموازنة الشعر العربي بالشعر الغربي، وتقدير الأمم قدر شعرائها، حتى ينبسط لنا الكلام في موضوعنا الذي اجتمع رأينا على الاستفاضة فيه وتناوله من أجزائه وصميمه. الشعر هو ذلك الفن الوجداني الذي يصور أدق شعور النفس، ويمثل كامن مشاعرها، وعظيم وجداناتها، ويبسط أحوال العالم بمظاهره الكامنة، ومعالمه الظاهرة، ويمرح بالفكر بين وادي الحس ووادي الخيالن ويظهر للعيان أرواح العصور والأجيال، بين أنة يصعدها موجع، ودمعة يذرفها محزون، ونغمة يصدح بها مبتهج، وشكاة يبديها مظلوم، وكلمة كبيرة يصدرها حكيم، وضحكة ظهرها طروب، ولوعة يجدها عاشق. ولا تجد في تاريخ الإنسانية عصراً خلا من شعر له، فإن المخيلة أبداً تعملن ومشاعر النفس أبداً تنفّس عنها بالظهور، مما يثبت أن الإنسان خلق بطبيعته شاعراًن وأن الشاعرية كامنة فيه كمون النار في الصفاة، لا يعوزها للظهور إلا ما يعوز صاحب الجرس الحلو من توازن النبراتن وانتظام النغم، وخفة التقطيع وطيب الأوزان. ومن المعاني المستنبطة من توليد القريحة وابتكار المخيلة، والإفتنان في التعبير بما يقع من المجاز والكناية، فإن في انتظام النبرات ما في أغاريد الهزار وخرير الأمواه وحمحمة الجياد من تأثير، كما أن في بواكر المعاني أثراً غريباً في النفس، شأن كل جديد غير مرتقبز وكذلك فإن في أساليب الإستعارة والمجاز والكناية أعمالاً للفكر ينطبع له المعنى في الذهن بأشد مما لو كان صريحاً لا يحتاج الفكر في فهمه إلى شيء. وقد تبع الشعر سنة التطورن وكان تطوره من التماثل إلى التباين، فقد كان الشعر

والموسيقى والرقص أجزاء لشيء واحد، فصارت على ممر العصور كما نراها الآن منفصلة بعضها عن بعض، وأصبح كل منها فناً قائماً بذاته، وأنك لتجدها حتى اليوم متماثلة متحدة بن القبائل المتوحشة، فإن رقص الهمجيين لا بد من أن يصحبه نشيد متشاكل النغم، وتصفيق بالأيدي وقرع الدفوف، أي أن هناك حركات موزونة وكلمات موزونة ونغمات موزونة، ومن نظر إلى تاريخ الشعوب القديمة الأثرية رأى هذه جميعاً متحدة في الأعياد الدينية، وقد جاء في المدونات العبرية أن نشيد النصر الذي نظمه موسى في هزيمته للمصريين تغنوا به على الرقص وقع الطبول. وكان بنو اسرائيل ينشدون ويرقصون ويتغنون يوم اتخاذهم العجل الذهبي. ولما كانوا قد أخذوا العجل الذهبي عن (آبيس) معبود المصريين فلا جرم أن المصريين كانوا يفعلون فعلهم في الحفلات الدينية، وكذلك كان اليونان في أعياد آلهتهم وأبطالهم، وكان للرومان أعياد دينية يقيمونها رقصاً وإنشاداً وغناء، وفي بعض الشعوب المسيحية التي جاءت بعد هؤلاء كان الأهلون يقيمون حفلة راقصة منشدة تبركاً بالقديس، وقد بدأت هذه الفنون تنفصل بعضها عن بعض، ثم تنفصل عن الدين في عهد اليونان، فقد اتخذوها بعد ذلك في حروبهم، وابتدأ الشعر والموسيقى مجتمعين ينفصلان عن الرقص. وأنشأ الشاعر ينظم القصيدة فإن كانت مطولة ألقاها إلقاء، وإن كانت قصيرة غناها. وكان الشعر مع ذلك يتطور في نفسه ويتدرج تبعاً لتطور العالم وارتقائه، فقد كانت اشعار الإنسان بل الشاعر الأول أناشيد روحانية تدور حول الخالق والخلق. وكان العالم قفراً يباباً، وكان فكر الإنسان مذهولاً متلدداً بين السماء والأرض، فلما زادت الخيرات وخرج الإنسان عن أنانيته وحيوانيته فأصبح حيواناً اجتماعياً، وامتدت حدود الاجتماع فصارت العشيرة قبيلة وصارت القبيلة أمة، وتطورت جماعات المدينة إلى جماعات الأقليم، وتطورت جماعات الأقليم إلى جماعة الشعب، وشرع الكاهن والملك يلعبان دورهما في تاريخ الأنسلية، فأنشئت الأمارات وقامت الممالك، ثم بدأ العالم من جراء التكاثر يزدحم، وراح كل شعب يصطدم بجيرانه، فوقعت من ذلك الحروب والغارات، وولدت الحروب أمثال هوميروس، فكان الشعر هو مرآة لكل تلك الأمور، وانتقل من حد بيان الخواطر والمشاعر إلى وصف الحوادث وتصويرها، فكان منه التاريخ، وتدوين الوقائع، وتسطير

الحكايات والخرافات، ثم دخل العالم بعد ذلك في حال جديدة فتوارت الآلهة أمام العقائد الصحيحة، ووضعت آساس المدنية الحقة، فتحولت أخلاق الإنسان وتهذبت مداركه وأصبح الشعر بعد ذلك أقرب إلى الحقائق وأدنى إلى المعقول. وكأنما العالم راح بعد ذلك منهوك القوى من أثر المدنيات الأولى، فأقبلت عليه العصور المظلمة، وأرخت عليه سدولها، فنام الشاعر وسكنت أغاريده وتنوسى هوميروس وإلياذته، وفرجيل وإينيادته، وهوراس وشاعريته، وتتابعت عشرة قرون خرس كما يقول كارليل، حتى أنبتت أرض إيطالية دانتي، فأنشأ (الكوميديا المقدسة) وكان في منحاه صدى لفرجيل، وجاء بعده بترارك فنظم ملحمته (أفريقيا) وبوكاسيو وجيوتو ونكولر بيزانو، فكانوا جميعاً طلائع الشعر الغربي، ومرددي الشعر الروماني واليوناني، وتقوضت بهم حكومات الإقطاعاتن وبدأت عبادة جديدة للجمال، وأخرى للعلمن وثالثة للسياسة والمُلك، وأحدثت الآراء الجديدة في الإنسان والحياة ومقاصدها وحقوقها وواجباتها، ومباهجها وآلامها، وفي الدين والعلم وما إليهما مما له مساس بتاريخ الإنسانية، فنشأ من تلكم الآراء الإصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر وكالفن وجون نوكس واراسماس، ونجم عنها النظريات والآراء التي أضرمت نار الثورة الفرنسية الكبرى، ولا يزال أثر هؤلاء الشعراء باقياً في آداب الغربيين حتى يومنا هذا. وعن هؤلاء أخذ شعراء الانجليز والفرنسيين، واقتفوا آثارهم وآثار الشعر الروماني واليوناني اللذين أخذ عنهما هؤلاء الطليان. وكان معاصراً لهم أول شعراء الانجليز شوسر، فكان له من الأدب الطلياني عالم جديد سمت فيه شاعريته إلى أوجها، وتعلم من جحيم دانتي كيف تكون الروح الشعرية، وتلقن من مقطعات بترارك صناعته، وأخذ عن قصص بوكاسيو وإبداعه في السرد، وكان شوسر يأخذ عناوين قصائد هؤلاء فينسج على منوالها، في أحسن قالب ومكانة شوسر عند الانكليز مكانة امرئ القيس عند العرب، بل أن روحيهما تكادان تتفقان من أغلب الوجوه. فأنت ترى من ذلك أن الشعر الغربي يرجع مصدره إلى الشعر اليوناني والشعر الروماني. ولم يكن لشعراء الغرب في بادئة أمرهم إلا نوعان من الشعر أخذوهما عن اليونانية أيضاً، وهما الشعر القصصي، وهو ما يعبر عنه في الانجليزية بلفظة والشعر الغنائي، وهو ما

يعبر عنه بلفظة والكلمتان مأخوذتان من اليونانية أيضاً، ومرمى النوع الأول التعبير عن مشاعر الناس وأحوالهم ومرمى النوع الثاني التعبير عن مشاعر النفس، ولكل من هذين أنواع وأقسام. فمنها الشعر الروائي واسمه في الانجليزية كقصيدة شارل هارولد أودون جوان للشاعر بيرون، والشعر الديني كقصائد ملتن، والشعر الفلسفي مثل قصيدة (الأوكسترا) للشاعر ديفس وفيها يصف العالم ويشبهه بالمرقص، وقصائده التي عنوانها أعرف نفسك وقصيدة خلود الروح. والشعر التهكمي كأشعار الشاعر سبنسر، والشعر الصوفي مثل قصيدة إبراهيم كولي عن نفسي والشعر الوطني مثل قصائد درايتون ودانيل وصامويل، والشعر الغرامي كقصيدة امورتي للشاعر درايتون، وأغنية لودج في روسالين، والشعر الحربي كقصيدة موقعة البالطيك للشاعر كامبل، والشعر السياسي كتلك الأشعار التي كانت تنظم في أيام الثورة الانكليزية، والشعر الأخلاقي مثل قصيدة الواجب للشاعر كوبر، والشعر الثوري كشعر روبرت سونى - الشاعر الحمي الأنف الأسم_في الثورة الفرنسيةن وشعر اليأس والحزن مثل قصائد الشاعر القنوط كولوريدج. وجملة القول لم يدع شعراء الغرب فرعاً من فروع الحياة إلا وجالت فيه ناضجة قرائحهمن ومرحت فيه مريعة مخيلاتهم. ثم أدخلوا على هذين البابين وفروعهما باباً ثالثاً سموه الدراما ومعناه الشعر التمثيلي. ولهذا الباب أقسام وهي الكوميديا ومعناها الروايات المفرحة أو المضحكة. وكان يصحبها في بادئ الامر الرقص والغناء، والتراجيديا وهي الروايات المحزنة، والهستوريك أي الروايات التاريخية. ولم تكن الدراما أواخر القرن الثالث عشر في شيء من هذه الأقسام بل بدأت في انجلترة بنوع يسمى وهذا النوع يدور حول تمثيل حوادث التوراة والانجيل وأعمال المسيح، وكانوا يمثلونها غالباً في الكنيسة أو بجوارها. ولم يكن الممثلون إلا الكهنة، ثم أخذوا بعد ذلك يمثلونها في القرى، ثم توسعوا في هذا النوع وتصرفوا فيه وسموه وأدخلوا عليه تمثيل بعض قصص عن قديس أو شهيد وكانوا يمثلون هذه جميعاً في يوم عيد الميلاد والأعياد الدينية الأخرى. وتطور هذان النوعان المرتبطان بعد ذلك حتى كان عهد أدوارد الثالث بين 1327 و

1377 فأنشأوا نوعاً أخلاقياً جديداً سموه وأشخاص الروايات التي من هذا النوع هي الفضائل والرذائل مثل الثبات والإرادة والكذب والنميمة وغيرها، ثم أضافوا بعد ذلك أشخاصاً أخرى مثل الغني والفقير والموت، وكان المؤلفون يربطون هذه جميعاً ويصوغونها في قصة بسيطة تنتهي بفوز إحدى الفضائل. ثم توسعوا في ذلك فجعلوا يمثلون هذه في أبطال اشتهروا بها، فيجعلون مثلاً لتشخيص العدل أريستايديس اليوناني المشهور وللقوة هيركيوليس وللفصاحة ديموستنيس وأمثال ذلك، فأنشأوا بذلك مبادئ الدراما الحقيقية. ثم أشأوا لملهاة الجمهور قطعاً مضحكة يمثلون بها الحياة العامة وسموها ومنها تفرع النوع الهزلي الذي نشاهده في قهاوي الرقص اليوم، ويسمونه وقد يجمعون كل هذه الأنواع في رواية واحدة، كما جمع شكسبير فروع الشعر القصصي والشعر الغنائي في رواياته التمثيلية. ثم بدأت الدراما الأصلية، وكانت تنظم شعراً مقفي، يتخللها قطع نثرية، ثم بدأ الشاعر الانجليزي مارلو نظمها شعراً مرسلاً وجاء بعده ويليم شكسبير أنبغ نوابغ الشعر التمثيلي فأفتن في ذلك. وسما الشعر التمثيلي في انجلترة بشكسبير كما سما في ألمانية بجيث وشيلر وضعفت مكانته بوفاته، وجعل الشعراء بعده يقلدون بدائعه فلم يظفروا. حتى كان عهد ويليم الثالث بعد كرومويل ورجوع الملكية فأخذ مؤلفو الدراما ذلك أسلوب كابرناد وسكوديري من رجالات القرن السابع عشر واقترضوا روايات كورني وراسين مزاحمه وصاحب رواية الأدعياء وموليير أشعر شعراء الكوميديا، وأخذوا عن كورني أسلوبه المسمى بالإرتباطات الثلاث وهي المكان والزمان والحدوث ومعناها أن المناظر يجب أن تكون في مكان واحد، وأن حوادث الرواية يجب أن لا تحدث في أكثر من يوم واحد، وأن لا يدخل في الرواية مالا يختص بإظهار خاتمتها. وتركوا الشعر المرسل ونظموا رواياتهم شعراً مقفى. ولكن الشاعر دريدن وهو أشعر شعراء الملكية في انجلترة عاد فاستعمله. ولم يشتهر في انجلترة من لروايات بعد ذلك إلا رواية كاتو في عام 1713 وكان مؤلفها الكاتب المشهور ادين وقد امتدحها فولتير وأثنى عليها خيراً وقال أنها أول تراجيديا فلسفية.

واشتهر القرن التاسع عشر بنوع جديد سموه (الأوبرا) تلازم فيه الموسيقى التمثيل. وتفننوا فيه فاستعملوا نوعاً معروفاً عندهم باسم يتتابع فيه الكلام والغناء والنشيد. ونوعاً آخر اسمه اوبرابوف وهو نوع من الكوميديا. ومن الذين اشتهروا (بالأوبرات) أمثال فردي وأشهر رواياته ارناني وعائدة وترافياتا. وكانت وفاته عام 1901 وولد سنة 1813 ولذلك عمل له في هذا العام التذكار المئيني. وجو نود ودوزنتي وبرليوز وكثيرين. هذا ما وسعنا اليوم وسنعود في العدد القادم فنكتب في الموازنة بين الشعر العربي والشعر الغربي ثم نأخذ في موضوعنا الذي اعتزمنا إن شاء الله.

نوابغ العالم

نوابغ العالم عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية بالأندلس وفردريك الأكبر مؤسس الوحدة الألمانية عبد الرحمن الداخل أسلفنا في العدد السابع أن الأمير عبد الرحمن الأموي الذي أفلت من العباسيين ونهد إلى الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور، وأسس الدولة الأموية الثانية بعد أن عثر الدهر بالأمويين في المشرق عثرته - نقول أن هذا الأمير بعد أن ذهب إلى الأندلس وظفر بولاتها ثبت قدمه في الملك واستوسق له الأمر واستقر بقرطبة، قال ابن خلدون: ومهد الدولة بالأندلس وأثل بها الملك العظيم لبني مروان وجدد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها واستلحم الثوار في نواحيها على كثرتهم هناك وقطع دعوة العباسيين من منابرها، وسد المذاهب منهم دونها وقضى سنة ثنتين وسبعين ومائة وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل لأنه أول داخل من ملوك بني مروان إلى الأندلس، وكان أبو جعفر المنصور يسميه صقر قريش لما رأى ما فعل بالأندلس وما ركب إليها من الأخطار وأنه صمد إليها من أنآي ديار المشرق من غير عصابة ولا قوة ولا أنصار فغلب على أهلها وعلى أميرهم وتناول الملك من أيديهم بقوة شكيمة وامضاء عزم حتى انقاد له وجري على اختياره وأورثه عقبه، وكان يلقب بالأمير وعليه جرى بنوه من بعده فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدباً مع الخلافة بمقر الإسلامومنتدى العرب حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر وهو ثامن بني أمية بالأندلس فتلقب بأمير المؤمنين على ما سنذكره لما رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة وغلبة الأعاجم عليهم وكونهم لم يتركوا لهم غير الأسم وتوارث ذلك بنوه واحداً بعد واحد. وكان لبني عبد الرحمن الداخل هذا بالعدوة الأندلسية ملك ضخم ودولة متسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة. وعندما شغل المسلمون بعبد الرحمن الداخل وتمهيد أمره قوي أمر الجلالفة واستفحل سلطانهم وعمد ملكهم فرويلة بن أدفونش (ألفونس الكاثوليكي ملك استوري) إلى ثغور البلاد فأخرج

المسلمين منها وملكها من أيديهم فملك مدينة لك وبرتقال وبورتور (إحدى مدائن البرتقال) وسمورة وقتشالة (كستيلية) وشقوبية وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور بن أبي عامر آخر الدولة. ولما استقر قدم الأمير عبد الرحمن بالأندلس أخذ في بناء المسجد الجامع والقصر بقرطبة وأنفق نحواً من ثمانين ألف دينار وبنى مساجد أخرى كثيرة. قال ابن حيان: ولما ألفى الداخل الأندلس ثغراً قاصياً غفلاً من حلية الملك عاطلاً أرهف أهله بالطاعة السلطانية حنكهم بالسيرة الملوكية وآخذهم بالآداب. فأكسبهم عما قليل المروءة وأقامهم على الطريقة وبدا فدون الدواوين وعقد الألوية وجند الأجناد حتى اعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه وتحاموا حوزته ولم يلبث أن دانت له الأندلس واستقل له الأمر فيها. وخاطب عبد الرحمن قارله (شارل مارتيل) ملك الأفرنج وكان من طغاة الأفرنج بعد أن تمرس به مدة فأصابه صلب المكسر تام الرجولية فمال معه إلى المداراة ودعاه إلى المصاهرة والسلم فأجابه للسلم ولم تتم المصاهرة قال ابن حيان: وكان الداخل يقعد للعامة ويسمع منهم وينظر بنفسه فيما بينهم ويصل إليه من أراده من الناس: قالوا: وكان عبد الرحمن أصهب خفيف العارضين بوجهه خال طويل القامة نحيف الجسم له ضفيرتان أعور أخشم والأخشم الذي يشم ولما ذكر الحجاري أنه أعور قال ما أنشد فيه إلا قول امريء القيس: لكن عوير وفي بذمته ... لا عور شأنه ولا قصر قال ابن خلدون: وفي سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث اليحصبي من أفريقية إلى الأندلس ونزل بباجة الأندلس داعياً لأبي جعفر المنصور واجتمع إليه خلق فسار عبد الرحمن إليه ولقيه بنواحي أشبيلية فقاتله أياماً ثم انهزم العلاء وقتل في سبعة آلاف من أصحابه وبعث عبد الرحمن برؤوس كثير منهم إلى القيروان ومكة فألقيت في أسواقها سراً ومعها اللواء الأسود وكتاب المنصور للعلاء فارتاع المنصور لذلك وقال ما هذا إلا شيطان والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر أو ما هذا معناه. وغزا عبد الرحمن بلاد الأفرنج والبشكنس ومن وراءهم ورجع بالظفر وكان في نيته أن

يجدد دولة بني مروان بالمشرق فمات دون ذلك الأمل وكانت مدة ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وكان موته في خلافة الرشيد وأمه أم ولد بربرية اسمها راح ومولده سنة ثلاث عشرة ومائة بدير حنا من أرض دمشق وقيل بالعلياء من تدمر ومات أبوه في أيام أبيه هشام سنة ثمان عشرة عن إحدى وعشرين سنة وكفله واخوته جدهم هشام وخلف عبد الرحمن من الولد عشرين منهم أحد عشر رجلاً وتسع إناث. تلك هي ترجمة عبد الرحمن الداخل كما ذكرها ابن خلدون مع الحذف والزيادة والتقديم والتأخير. ومن وقف على ترجمة هذا الأمير العظيم تجلى له كالشمس في وضح النهار أنه من نوابغ العالم وأعاظم الرجال العصاميين الذين سودتهم نفوسهم، وأهابت بهم إلى العلياء هممهم. بقي علينا أن نصف حال الأندلس في عصر هذا الأمير والممالك الاسبانية التي كانت تجاوره وتناوئه العداء، وحال العرب الاندلسيين في ذلك الوقت وما ندر منهم من الأغاليط التي سببت ضياع هذا القطر الكبير من أيديهم بعد ذلك. وموعدنا العدد القادم إن شاء الله. فردريك الأكبر بقلم كبير كتاب الانجليز ومؤرخيهم اللورد ماكولي 3 وكتب الأمير فردريك كتاباً إلى معبوده فولتير في لهجة العابد، وأجابه فولتير بأجمل أسلوب وأحسن أدب، وتبع الرسالتين رسالات، وأن الرسائل التي دارت بينهما لتعد روساً نافعة لمن يريدون أن يمهروا في صنعة الملق. ويحذقوا فن الإطراء. ولم يكن ليضارع فولتير أحد في إهداء الأماديح. ولم يكن ليسبقه في تقديم التزكيات سباق. وكان يجعل لأماديحه أبداً طعماً شهياً منبهاً. يلذ الأفواه التي سئمت من جاف الثناء. وبرمت بأنماط المادحين. ومن يد فولتير وحده يستطيع الأمير أن يزدرد سكراً كثيراً دون سآمة ولا ملل. وكان الصديقان يتبادلان القصائد. ويتهاديان الموائد. ويتقارضان الطرائف. وهذا وفردريك يدفع بكتاباته إلى فولتير. وفولتير يصفق لها. معجباً بها. ويهتف لها مستحسناً. كأنما جمع الله راسين وبوسويه في واحد. ومن بين منشآت الأمير كتاب له عارض به كتاب ماكيافلي. ونقد حججه. ونقض أدلته.

وتعهد فولتير لعابده أن يحمله إلى المطبعة. وسمياه ضد ماكيافلي فكان كتاباً ممتعاً. حمل المؤلف فيه على سيئات الأغتصاب والأنتهاب والأغتيال والأستبداد والحروب الغاشمة الظالمة. وخلاصة القول أن المؤلف أنكر المساوئ التي ما يبرح يذكر عليها اسمه. وما يفتأ يشهر لها بين الناس أمره. والملك الشيخ يبرم بين فترة وفترة بملهاة رينسبورغ ويضيق بين آونة وآونة ذرعاً بقصف وريثه وملاعبه. ولمنه كان متخاذل القوى. ضارع الجسم. قد ذهبت مرته. وحانت منيته. ولم يبق له من مباهجه إلا مبهجة واحدة وهي رؤية الأماليد من جنده. وطوال المناكب من عسكره. وهين على المبعد أن ينال قربته. وعلى المسيء أن يظفر بحظوته. إذا هما أتحفا الشيخ بجندي طويل. ومن ثم كان فردريك ابنه يوافيه بين حين وحين بهذه التحف. ويكثر له من تلكم الطرف. ولقي الشيخ ربه في أوليات عام 1740 برباطة جأش وسمو نفس يليقان برجل أحفل فضلاً وأمتع عقلاً. وأصبح فردريك. وكان قد ناهز الثامنة والعشرين من سنه. ملك بروسيا ورأسها. ولم يفهم أحد في بادئة تتويجه معالم أخلاقه. ولكن لم يتلجلج في خاطر امرئ جلس إليه واستمع لحديثه وسمر في ناديه. أو كانت بينه وبين فردريك مراسلة. أن ينكر حفل نصيبه من الكفاءة. ومتع حظه من المقدرة. ولكن الحياة السهلة الشهوانية التي كان يتابعها. وحبه لذَّ المآكل وطيب الشراب. وميله إلى الموسيقى والسمر والحديث والأدب. جعلت الناس يعدونه امرأ شهوة ينبعث في أثرها بروحه وجثمانه. وأن ترنمه بمديح الأعتدال والسلام. وتغنيه بفضل الحرية والسعادة التي ينالها ذو العقل الكبير من إساد غيره. قد غررا ببعض القوم. وكان ينبغي لهم أن يكونوا بأمره أوسع علماً. أما الذين أحسنوا الظن به فقد كانوا يتوقعون منه (تليماك) آخر. على غرار (تليمام) فنيلون. وتنبأ آخرون بأنهم على أبواب عصر جديد يضارع العصر المديسي. عصر تنتعش فيه دولة الأدب. وتزهر فيه دولة العلم. وتدول به دولة اللهو. ولم يشك إنسان في أن الصاعد أريكة الملك. المتبوىء عرش بروسية. مليك مطلق، له كفاءة حربية خارقة، ومقدرة في السياسة غير مألوفة، ومهارة في الصناعة غير معهودة، ولا خوف يساوره، ولا أيمان يطاوعه، ولا حدب يخالجه.

وأن موجدة فولستاف على تتويج صديقه القديم لم تكن أكبر من الموجدة التي لاقاها صحب فردريك وشربه، وكانوا من قبل ينظرون يوم تتويجه كأنه اليوم الذي يبدأ فيه تاريخ نعيمهم، وعظمتهم ونباهتهم، فلما متع النهار الذي كانوا به يحلمون، ونزلوا بالأرض التي كانوا يظنون أنها حافلة بأنهار من لبن، فياضة بأنهار من عسل ماذى إذ هم عند صحراء تسوخ في فدافدها القدم. ولقد أهاب فردريك يوماً بأحد أصحابه ناهراً، كفاك مجوناً، وحسبك دعابة! وبدا لهم أن الملك الجديد يشبه أباه في كثير من الأمور، والحقيقة أن هناك فروقاً كبيرة بين الوالد وولده في حدة الذكاء وعظمة الفكر وسرعة الخاطر وحب الملاهي والمناعم والمذاكرة والإطلاع والمظهر والمخبر، ولكن أساسي أخلاقهما متشابهان متماثلان، وأن فردريك ليحكي والده في حب النظام والعمل والشح، ويشابهه في آرائه الحربية وزهوه وخيلائه، وحدثه واحتدامه، وتلهيه بإيلام الناس وإذلال أنوفهم. وما كانت هذه في الوالد إلا عن سخف في الرأي وضعف في الفكر. وما كانت في فردريك إلا عن حكمة وحزم وسداد، وإليك المثل. كان فردريك كأنداده الملوك الصيد في عنايتهم بتهذيب جيوشهم وتنظيم كتائبهم، ولكن هذه العناية لم تبلغ إلى حد الجنون، ولم تؤد به إلى فارط الأعطية التي كان يحبو بها طوال الجنود، وكان فردريك في الاقتصاد كما ينبغي لكل أمير أن يكون، ولكنه لم ير كوالده القصد في العيش، والحرص على المال، والغناء بفاسد الأطعمة، من أجل توفير ستة شلنات في العام أو تزيد. وإنا لنشفق أن يكون فردريك مثل أبيه نزاعاً إلى الشر. وميلاً إلى الأذى، ولكن ذكاء فردريك أعانه على أن يظهر ميله إلى الشر في سبل قواصد وأشكال متقنة. ولبث قومه وجيرانه في شك من أمره حتى وقعت بعد ذلك أحداث، تجلى فيها صادق خلقه وظهر للناس ما خفي من دخيلته، وبدا لهم ما احتجب من سريرته، إذ لم يكد يمر على ولايته بضعة أشهر حتى لقي ربه شارل السادس، إمبراطور جرمانيا، وآخر أسرة النمسا من الذكران. لم يعقب شارل السادس ولداً، وكان قبل وفاته في بأس من تخليف أبن يكون وريثه في

الملك. فمن ثم جعل كل همه أن يضمن لأبنته تيجان أسرة هابسبورغ وأرائكها فأصدر لذلك قانوناً جديداً، وسن شرعة حديثة، في وراثة الملك، طبق ذكرها الآفاق، كفل بها لأبنته الأرشيدوقة مارية تريزة، زوجة فرنسيس لورين، حق الخلافة على أملاك آبائه الأولين. ومكث وزراء النمسا وأساطين ساستها يعملون لمقصد واحد، هو تحقيق توليتها، فلم يتركوا أميراً يعلمون أن له حقوقاً تتأثر بتحقيق هذا القانون إلا استخلصوا منه تنازلاً، وارتضى القانون الشعوب والإمارات التي تنزل على سلطان النمسا وتدخل في حوزتها واجتمعت انجلترة وفرانسة وأسبانية وروسية وبولونية و (بروسية) والسويد ودانيماركة وولايات جرمانيا، على أن يكفلن جميعاً تحقيق هذه المعاهدة، وهكذا عهد بحمايتها إلى شعوب العالم المتحضر، وهكذا اتعد ملوك أوروبا، وتعاهدوا على ميثاق يجب أن يحفظوه وأبرموا عهداً لا ينبغي لأمثالهم أن ينكثوه. وما كان مركز مارية وسجاياها إلا لتثير في قلب كل رجل كريم الرحمة واعطف والنجدة والإعجاب، وكانت قد بلغت الرابع والعشرين ربيعاً، يزينها الجلال. وتحف من حولها العظمة، وكانت حسنة المعارف قسيمتها، وسيمة الطلعة رقراقتها، حلوة الملامح عذبتها، ناعمةالجرس، مستملحة الأغاريد، جميلة المختلق، كريمة الخلق. وكانت عفة الثوب، طاهرة الجيب، ما في زواجها لوم ولا عتب، تزوجت من رجل أحبته، وكانت قبل أن يحول الموت بينها وبين أبيها، توشك أن تضع وليداًن فكان فقد الوالد وأعباء الملك وزراء تنوء بحمله وهي في نفاسها وضعفها فشفها من ذلك الحزن وانتابها الأسى، واصفرت وجنتها وذبلت وردتها ولم يكن يجمل بها أن تبتئس، بعد ما ظهر لها أن العدل والإنسانية ورعى الذمم ووفاء العهود ستظهر جميعاً كلمتها وتسأل حقها ومكانتها، وأن العهد استخلصته في رهبة وسكون سيوفي لها في دعة واطمئنان. وكتبت انجلترة وروسية وهولاندة وبولونية أنهن قائمات على عهدهن، مستمسكات بمواثسقهن، وقال وزراء فرنسة مثل ذلك، ولكن سيدة المجر لم تر في الملوك أخف من ملك بروسية إلى نصرتها ومودتها. على أن ملك بروسية، مؤلف (ضد ماكيافلي) لم ينشب أن اجتمع رأيه على الخنث بمؤكد أيمانه، ونقض مغلظ أقسامه، وحزم أمره لسرقة الحليف الذي استؤمن عليه، وسلب

الخليص الذي استنصر له، وإلقاء أوربة جمعاء في غمرات حرب دموية. طويلة الآماد، ذهابة بالطارف والتلاد، ولا مطمع له إلا أن يوسع عليه أرجاء سلطانه ويمد في أكناف مملكته، ويرى أسمه في الصحف منشوراً، ويقرأ خبره في الأسفار مسطوراً. واعتزم أن يؤلف جيشاً عرمرماً في خفية وسكون قبل أن تعلم الملكة بخدعته، وتتهيأ لمناجزته، وتتخفف للقائه، يدفع به على فتح سيلزيا، ليجمع إلى أرضه، تلك الولايات الغنية، المريعة الجناب. (يتلي)

فصول في التعليم

فصول في التعليم مسألة التعليم هي اليوم موضوع بحث قادة الأفكار وجبابرة العقول، الذين وقفوا حياتهم، وعصارة ألبابهم، ومهب خواطرهم، على النهوض بشعوبهم إلى أرفع مستوى لتأخذ من الرقي والسعادة الأهلية والمكانة السامية بين متنافس الشعوب ومتزاحمة الأمم، فلا بدع إذا رأينا علماء أوربا ومصلحيها قد تفرغوا اليوم إلى درس مسائل التعليم وتمحيص باطلها، وتوخي أصلح الطرق لها، ووضع أنفع السنن لتهذيبها، وسواد المصلحين مجمعون على مسألة تعميم التعليم العملي ومحو فكرة تقسيم العمل التي سنها الأستاذ آدم سمث أبو الاقتصاد السياسي، والأعتياض عنها بوجوب الرابطة بين العلم والعمل حتى يكون المجتمع جمهوراً من علماء صناع وصناع علماء - ولما كانت سنة البيان أن ينقل أنفع ما كتب كتاب الغرب في أمهات المسائل الاجتماعية والعلمية والاقتصادية وغيرها فقد أخذ على نفسه أن يقف صفحات منه يتناول فيها أهم ما يذهب غليه المصلحون الغربيون في مسألة التعليم وها نحن أولاء بادئون بتخليص مبحث مستفيض نقتطفه من كتاب وضعه مصلح روسي كبير هو البرنس كروباتكين، فقد ألم بهذه المسألة وذهب بها مذهباً صالحاً وإليك مجمل ما تناوله في هذا المبحث الجليل. الطلاق الحاصل بين العلم والعمل - التعليم العملي_التعليم العام_طريقة جامعة موسكو واستعمالها في مدارس شيكاغو وبوسطن وابردين_تضييع وقت الطلبة من جراء فساد التعليم الحاضر - العلم والصناعة_الفوائد التي تنتج من ارتباط العمل الفكري بالعمل اليدوي. وهذا هو الموضوع. العلم والعمل ووجوب اقترانهما للبرنس كروباتكين المصلح الروسي الكبير لم يستهن أحد من العلماء في العصور الماضية بقيمة العمل اليدوي، ولا سيما أولئك الذين بذلوا كل جهدهم في تقدم الفلسفة الطبيعية. بل أن منهم من كانو يصنعون عددهم ومراقبهم (تلسكوباتهم) بأيديهم أمثال جاليليه ونيوتون ولايبنتز، ولم يكن العمل اليدوي عند كبار العقول عائقاً لهم عن أبحاثهم الفكرية وإنما كان عوناً لهم عليها، وإذا كان عمال الماضي لم

يجدوا فرصة لتحصيل العلم فقد تنبهت على الأقل عقولهم إلى تنوع الأعمال التي كانت تؤدي في المعامل التي كانوا يشتغلون فيها، وكثيرون منهم جلسوا إلى العلماء ودارت بينهم أبحاث ومناقشات أمثال جيمس وات وريني وبرندلي وغيرهم. ولكن تغير الآن كل شيء، فقد فرقنا بن العامل بديه بحجة تقسيم العمل، وكان نصيب فئات العمال من التعليم نصيب أجدادهم، وأما العلماء فهم مستهينون بالعمل اليدوي على أنهم يعجزون عن عمل آسهل الآلات. وقد بلغ من احتقارهم العمل اليدوي أنهم يقولون أن ليس من المهم أن يفهم العمال حقيقة الآلات التي يشتغلون بها والقوانين التي صنعت بها وأنه يكفي أن العلماء والمهندسين الفنيين هم الذين يعُنَون وحدهم بتقدم العلم والصناعة. ولا يفوتنا أن نقول أن هناك من العلماء من يخالف هذا الصنف منهم بل فيهم من كانوا وهم في حداثة أعمارهم صناعاً ولكن ساعدتهم الظروف فنالوا قسطاً من علم وحظاً من معرفة فجمعوا بذلك بين العلم والعمل، ولكن للأسف قليل منهم. وما معنى هذا الصوت العالي الذي نسمعه في انجلترة وفرنسة وألمانية والولايات المتحدة وروسيا ينادي بالتربية العلمية ويدعو إليها إلا أن يكون مظهراً من مظاهر سخط عام على تقسيم المجتمع إلى علماء ومهندسين فنيين وصنَّاع؟ وخلاصة هذه الشكوى أن تقسيم العمل قد أفقد العامل قواه المفكرة وسلبه قواه المخترعة، وكثيراً ما اخترع في الأزمان الماضية، وقد اخترع العمال في خلال القرن الماضي كل هذه الآلات التي غيرت عالم الصناعة كل التغيير ولكن أصبحت اليوم كل السلطة في أيدي أصحاب المعامل فلم يعد العامل يخترع شيئاً. إن ما يخترعه المهندسون إن لم يكن خلواً مما يدل على عقل كبير وفكر عبقري فأغلبه غير صالح. إذن فقد أصبح تعميم التعليم العملي ضرورياً لرقي المخترعات وتعددها ولا مخرج لنا من هذه الضائقة إلا أن نقرن العلم بالعمل ونعتاض عن تقسيم العمل بتعميم التعليم. تلك هي خلاصة الحركة الحاضرة ومطالبها، ولكن قادة هذه الحركة لم يحسنوا تمحيص المسألة فذهبت آراؤهم شتيتاً من هذر، ونحن نقول أن صالح كلا العلم والصناعة، بل صالح المجتمع بأسره يلزم كل إنسان رجلاً كان أم امرأة أن يتلقى نصيباً من التربية تعينه

على أن يجمع بين إلمام بالعلم وإلمام بالعمل، ولا نريد بذلك أن ننكر ضرورة الإخصاء في فرع من العلوم، ولكننا نقول أن الإخصاء لا بد أن يتبع التعليم العام وأن التعليم العام يلقى علماً فكرياً وعملاً يدوياً، وأن تقسيم في الجماعة إلى عمال بالأيدي وعمال بالأفكار تفريقاً لكلتا القوتين. والطريقة التي ننادي بها هي أننا نريد من المدرسة أن تكفل للفتى والفتاة نصيباً وافراً من العلم يعينها إذا غادر المدرسة في سن الثمانية عشر أو العشرين على أن يكونا عاملين نافعين للجماعة، وأن تجعلهما ينالان من كل علم نصيباً يساعدهما على أن يأخذا مكانهما في هذا العالم العملي. ولعل هناك كثيرين يظنون أنني أشتط في الطلب وأتعسف، ويرون أن ما أدعو إليه ليس إلا من قبيل المستحيلات، ولكن أقول لهؤلاء أن ما يتوهمونه مستحيلاً قد تحقق فعلاً ولا يريد إلا التوسع فيه إذ جربت هذه الطريقة في مدرسة الصنائع في موسكو عشرين سنة متتابعة لتعليم مئات من الطلبة، وقد شهد بنجاحها ثقات كثيرون في معارض بروكسل وفيلادلفيا وويانة وباريس. والطريقة التي سنتها المدرسة هي أنها لا تقبل إلا من تجاوز عمره الخامسة عشر، ولم تطلب منهم إلا أن يكونوا على شيء في الهندسة والجبر واللغة الروسية، وأما الذين تقل أعمارهم عن هذا الحد فقد قبلتهم في فرقها التحضيرية ثم قسمت المدرسة إلى قسمين قسم الميكانيكا وقسم الكيميا وما إليها. وإنا سنقصر الكلام على القسم الثاني والتعليم الذي يتلقى فيه. ترك الطلبة المدرسة بعد مكثهم خمسة أعوام أو ستة وهم على علم تام بالرياضيات العالية وعلوم الطبيعة والميكانيكا وغير ذلك من العلوم المرتبطة بعضها ببعض ولم يقل نصيبهم منها عن نصيب طلبة أكبر المعاهد الأوروبية وجامعاتهت وكانوا يصنعون بأيديهم دون مساعدة الصناع آلات بخارية وزراعية وعلمية وكلها تعرض للبيع وينالون أكبر الجوائز على صنع أيديهم في المعرض الدولية فكانوا من ثم عمالاً متعلمين تعلماً عملياً، عمالاً تلقنوا علوم الجامعة واكتسبوا ثقة أصحاب المعامل في روسيا. أما الطرق التي اتبعت في تخريجهم كذلك فهي أن المدرسة لم تشجع طلبتها على حفظ

الدروس والاعتماد فيها على الذاكرة بل كانت تشجعهم على البحث والتقصي المستقلين، وكانت تعلمهم االعلم جنباً لجنب مع وجوه تطبيقه فما يتلقى في حجرة الدرس يطبق في المعمل، وعنوا العناية الكبرى بجعل علم الهندسة الوسيلة إلى ترقية المخيلة والأبعاد في البحث والاستقصاء. أما التعليم اليدوي فكانت طرقه مختلفة الإختلاف كله عن طرق أغلب المدارس الصناعية إذ اعتبروا الرسم أول خطوة في التعليم العملي حتى إذا أتقنه الطالب نُقل إلى قسم النجارة حيث يتعلم جميع أنواع النجارة الدقيقة منها وغير الدقيقة، ولم يغفلوا أية وسيلة تعين الطالب على أن يفتنّ في هذه الصناعة التي هي أساس كل الصناعات، ثم ينقل الطالب بعد ذلك إلى قسم الخراطة ثم إلى معامل الحدادة ولا يسمح له بدخول قسم الهندسة والميكانيكا إلا إذا جاز هذه الأقسام كلها - وقد أدخلت هذه الطريقة المثلى في مدارس شيكاغو وبوسطن في أمريكا ولكن اقتصر فيها على الجزء العملي. فترى من هذه التجارب سهولة اقتران التعليم العملي الراقي بالتعليم الذي لا بد منه في إخراج عمال مهرة أكفاء. أن أهم مَعلم من معالم تعليمنا الحاضر - هو تضييع أوقاتنا جزَافاً_فأننا لا نتلقى في المعاهد والجامعة إلا مجموعة من السفاسف والسخافات وإذا كان هناك منها شيء نافع ضيعنا في تحصيله جزءاً كبيراً من وقتنا. ولا يخفى أن سني الطفولة لا ينبغي أن تروح عبثاً وتذهب باطلاً، فقد أظهر المعلمون الألمانيون أن لعبات الأطفال يسهل أن تصنع بطريقة هندسية حتى تحمل إلى عقول الأطفال شيئاً من المعرفة المادية بالهندسة والرياضيات وأن المسائل التي أتعبتنا أيام المدرسة ليسهل حلها على الاطفال الذين لا يبلغون من العمر أكثر من ثمانية أعوام إذا وضعت في شكل ألغاز لذيذة وفي الواقع لا يستطيع أحد أن يتصور أن كثيراً من العلوم الطبيعية سهلة التلقين إلى الأطفال بل من المستطاع أن تعلم الأطفال قبل سن العاشرة أو الثانية عشر مبادئ العلوم ما عدا علم الاجتماع (طبعاً) ليكتسب الطفل فكرة عامة في الكون والأرض وسكانها وعجائب المخلوقات من كيماوية وحيوانية ونباتية - وتترك قوانينها إلى زمن آخر. نحن نعلم ما للأطفال من الميل إلى عمل اللعبات بأيديهم وتقليد الكبار إذا شهدوهم في

المعمل أو المصنع ولكن إما أن يريد الآباء أن يعطلوا هذا الميل وأما أن يكونوا بوجه الانتفاع به جاهلين. فإن سواد الآباء يستهينون بالعمل اليدوي ويحقرونه ويؤثرون أن يرسلوا بنيهم إلى دراسة تاريخ الرومان أو تعاليم فرانكلين في التوفير (!) على أن يروهم يشتغلون في عمل (لا يفيد الطبقات الدنيا) كما يقولون. ثم تأتي سنو الدراسة فيضع مسرعاً سدى - خذ لك مثلاً من تعليم الرياضيات التي يجب على كل إنسان أن يتعلمها لأنها الأساس الذي ينهض فوقه كل تعليم. فترى أن سواد طلبتنا لا يتعلمونها في مدارسنا العليم الحقيقي النافع، وكذلك ترى الوقت يذهب هباءً في تعليم الهندسة على طريقة الاعتماد على الحافظة فلا يكاد التلميذ يخرج من المدرسة حتى ينسى كل شيء ويعجز عن حل أبسط المسائل الرياضية وكذلك الحال في سائر فروع التعليم. من العين واليد إلى العقل ذلكم هو المبدأ الحق لاقتصاد الزمن في التعليم، وإن في إكراهنا ابناءنا على دراسة العلوم من غير اقترانها بالعمل والتطبيق إكراهاً لهم لهم على تضييع زمانهم، وقتلاً لاستقلال أفكارهم، وخيبة لتعاليمنا. وأن المعرفة السطحية وإعادة الدروس كالببغاء وجمود الفكر - كل ذلك من نتائج طريقتنا الحاضرة في التعليم. ولسائل أن يسأل إذا كانت هذه الطريقة التي ندعو إليها تأتي بالسرعة المطلوبة للعمل أم لا، ونحن فنقول أنه مهما يكن من بساطة العمل فإن العامل المتعلم قادر على إجادته والإسراع في إنجازه أكثر من العامل الجاهل - تلكم هي السرعة التي تنشدها الإنسانية ويطلبها صالح الجماعة. حقاً أنني لا أقول أن صلاح التعليم على هذا الطراز التام سهل التحقيق ما دامت الأمم المتحضرة باقية تنوء تحت هذا الظلام الأناني المتبع في الاستثمار والاستغلال. وكل ما تتوقع من ذلك أن نبذل الجهد لتأدية بعض الإصلاح. لنتصور أن جماعة أو مدينة أو أقليماً - يبلغ سكانه على الأقل بضعة ملايين قد سن هذه الطريقة في تعليم أحداثه دون تمييز بين ذكور وإناث. ومن غير أن يسألهم شيئاً في مقابل تعليمهم إلا ما يؤدونه يوم يصبحون من العاملين على ثروتها_لنتصور ذلك ثم دعنا نحلل نتائجها! أنا لا أصرّ على زيادة الثروة التي تنتج من أحراز جيش صغير من المستثمرين المتعلمين، ولا على الفوائد الاجتماعية التي تحدث من استئصال هذا التمييز الحاصل بين الصناع

المفكرين والصناع اليدويين، ولا أتمسك برغد العيش الذي يضمنه الفرد الواحد إذا لأعين على أن ينعم بقواه العقلية وقواه الجثمانية معاً، ولا على المنافع التي تأتي من تقدير العمل قدرته ورفعه إلى المكان اللائق به في المجتمع بدلاً من أن نطبعه بطابع الاستهانة والتحقير كما نفعل اليوم ولا أريد أن أتناول البحث في زوال الشقاء الحاضر وما يتبعه من شرور وجرائم وسجون وغير ذلك، وجملة القول لا أريد أن أبحث اليوم في هذه المسائل الاجتماعية الكبيرة وإنما أريد أن أبين الفوائد التي تعود على العلم من هذا الإصلاح. قد يقول فريق من الناس أن في النزول بالعلماء إلى مصاف الصناع انقراضاً للعلم وفناء للعبقرية، ولكنهم إذا تدبروا الاعتبارات الآتية وجدوا أن الأمر على عكس ما يقولون - أي أن في ذلك أحياء للعلوم وانتعاشاً للفنون وتقدماً للصناعة أشبه بنهضة العلوم التي قامت في القرن الخامس عشر ولقد شاع على الأفواه أن القرن التاسع عشر كان زمان تقدم العلوم ونهوضها وأن للقرن الحاضر ما يفخر به، ولكن إذا تدبرنا أن أغلب المسائل التي حلها هذا القرن وضعها وتنبأ بحلها القرن الماضي، ولذلك يلزمنا أن نعترف بأن التقدم لم يكن سريعاً كما كان متوقعاً وأن شيئاً هناك عاقه عن سبيله. إن نظرية الحرارة ارتآها في القرن الماضي رامفورد وهامفري دافي ثم مضي أكثر من خمسين حولاً قبل أن تعود هذه النظرية إلى عالم العلم ثانية ألم يكن لامارك وجفروي وسانت هيلير وارسماس ودارون وكثيرون غيرهم اعلم بتطور النوع؟ ألم يمهدوا السبيل إلى تأسيس (البيولوجيا) - علم الحياة_على قاعدة التغير والتحول، ولكن مضي نصف قرن قبل أن يتناول أحد مذهبهم. وكلنا يذكر كيف كان طلبة الجامعة يكرهون على آراء دارون إكراهاً، ولقد مضت أعوام وعلم الفلك يتطلب إعادة النظر في نظريات كَنت ولابلاس ولكن لم تظهر حتى اليوم في هذا العلم نظرية أتفق عليها الجميع. وجملة القول أن كل فرع من فروع العلم ينقصه بحث الآراء الماضية وإعادة النظر فيها وإذا كانت إعادة النظر يعوزها تلك العبقرية التي حركت جاليليه ونيوتون فإنها في حاجة أيضاً إلى جمهور من الصناع العلماء. وهناك دليل من العلم الحديث يشهد بصلاح الطريقة التي نطلبها للتعليم وهو أنه بينمت الصناعة لا سيما في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر قد أكثرت من

المخترعات حتى غيرت وجه الأرض كان العلم يفقد بالتدريج قواه المخترعةن والعلماء لا يخترعون اليوم أو قل ما يخترعون. أو ليس من المدهش أن تكون الآلة البخارية - حتى في مبادئها الأولية_والقاطرة والقارب البخاري والتليفون والفونوغراف وآلة الغزل والنسيج والتصوير بالألوان وغير الألوان وآلاف من دقائق المخترعات لم تخترعها علماء فنيون، وإن لم يكن فيهم من يرفض أن يضع اسمه على أي مخترع منها؟ إن أولئك الرجال الذين لم يتلقوا شيئاً من التعليم وإنما التقطوا من موائد الأغنياء فتاتاً من المعرفة، أمثال سميتون وجيمس وات وستينفن وغيرهم هم - كما يقول سميلر_مؤسسو المدنية الحديثة وواضعوها الحقيقيون. وتفسير هذه الحقيقة المدهشة أن هؤلاء الرجال عرفوا شيئاً جهله أولئك العلماء - ذلك أنهم عرفوا كيف يعملون بأيديهم.

الحرية

الحرية هذا هو الفصل الثاني من الباب الثاني وعنوانه العدل الاجتماعي من كتاب (العدل والحرية) للستاذ جوبلوت الذي أتحف به البيان الدكتور عبده البرقوقي - وعنوان هذا الفصل (الحرية) وهو مبحث جليل مفيد ضمّنه الأستاذ أحدث الآراء العلمية في الحرية: العدل وحده غر كاف لبلوغ الخير والرفاهية. إن هو إلا كالإناء الفارغ لك أن تملأه بالطيب وبالخبيث. أو تكيل به الشر والخير. أجل لا إحسان من غير عدل ولكن قد يعدل في الشر فما العدل إلا تقسيم الأنصبة بدون جور ولا إجحاف. البلاء إذا عم صار عدلاً ولكنه لا يزال خبيثاً، والجدب شقاء ولو تساوى جميع الناس في مقاساة آلامه واحتمال مضضه، وإذا ألقي في النهر نصف غذاء مائة رجل وقسم النصف الباقي عليهم وروعيت شهوة كل منهم إلى الطعام عد هذا العمل عنتاً وجنوناً ولكنه لا يعد من الجور والظلم. أجل، لهم أن يضجعوا من الألم ويستغيثوا من الجوع ولكن ليس لهم أن يشكوا الظلم حيث لم يميز بعضهم عن بعض بل كلهم في الآلام سواءن لم ينل كل منهم إلا نصف غذائه. وإذا روعي في الضرائب الفادحة درجة كل إنسان من الفقر والغنى تصبح عادلة ولكنها تظل آخذة بالرقاب محرجة للصدور. ونحن مهما أسهبنا في ذكر منافع العمل وبالغنا في تعداد فوائده من أنه يشرف الإنسان ويعلي من شأنه ويؤتيه بالخير الجزيل إلا أن العمل المكره عليه ولو كان ضرورياً عناء وبلاء حتى ولو كنا عائشين في المجتمع الذي يحلم به الإشتراكيون حيث كل إنسان يعمل حسب قدرته فلا يوجد فيها فريق ينصب ويشقى وفريق يرفه وينعم. ولقد انحسم الظلم في التجنيد لخدمة الجيش إذ جعلوها الآن إجبارية لا يفلت منها إنسان على أنها ما برحت إحدى المصائب البالغة التي رزئت بها الأمم والأفراد ولو أمن الناس هول الحروب وعاشوا متآخين متحابين لربحت الإنسانية تلك القوى العظيمة التي تستنفذها خدمة الجيوش الدائمة. وخلاصة ما تقدم أنه لو كانت الآداب مقصورة على العدل لما ساغ لنا أن نرفع أصواتنا بالشكوى من التكاليف التي تنوء بها كالخدمة العسكرية والضرائب المالية إذا روعي العدل في توزيعها. ومما لا شك فيه أنا لا نكتفي بالسعي لتقسيم ما بين أيدينا من السعادة والرخاء وتوزيع الفروض والأعمال حسب ما يقتضيه العدل بل نسعى جهدنا للإكثار من دواعي تلك السعادة وتخفيف الويلات والآلام.

لقد أضاف هربرت سبنسر على العدل وكنا في الحقيقة غريباً عنهز إذا ضرب زيد عمراً فاقتص منه عمرو بضربه أو لو أتلف زيد مزرعة عمرو فجازاه عمرو بإتلاف مزرعته لما كان في هذا شيء من العدلز ن الإنتقام من المشيء ومجازاة الجرم بالإجرام أفكار الجمعية الإنسانية الساذجة التي كانت ترى من الظلم عدل. أخذت الإنسانية بأسباب الرقي وسارت في طريق التقدم ونشأ في العقول رأي ما زال ينمو ويشرق حتى ظهر أخيراً على لسان فيلسوفنا الكبير هربرت سبنسر إذ يقول كل إنسان حر في أن يعمل تبع إرادته بشرط أن لا يعتدي على حرية غيره ومعنى ذلك أن العدل لا يكون إلا مع الحرية الملتزمة حد الإعتدال وأن التضييق على الحرية غير جائز إلا إذا دعت إليه ضرورة التوازن والمساواة بين الناس. يشدد هربرت سبنسر النكير على تلك البدعة الحديثة في تعريف العدل بالمساواة ويرى أن للعدل ركنين أيجابياً وسلبياً فالأول كل ما كان ضرورياً لحياة الإنسان على وجه الإجمال والثاني يقلل من تلك الحاج ويجدد من قيمتها بسبب أن الإنسان غير عائش بمعزل عن الناس. ومن رأينا أن هذا المذهب صالح مكين غير قابل للنقد إلا في شكله فأنا لا نرى أن نجعل الحرية داخلة في كيان العدل بل نؤثر أن نعدها الغاية القصوى التي ينتهي إليها العدل فنحن وهربرت سبنسر مجتمعون على أن العدل وحده غير كاف لتحديد الواجب وتشخيصه. آداب المرء نوعان بصفته فرداً منعزلاً عن العالم وآدابه بصفته عضواً متمماً للمجتمع. فالعدل هو ما يجب عليه التمسك به على الاعتبار الثاني وينبغي لنا أن نبحث عما يلزمه على الاعتبار الأول. يرى هربرت سبنسر أن غرض الإنسان في الحياة الحرية. أي أن يكون مطلق السراح رخي العنان لا يعوق أعضاءه عن الحركة عائق ولا يمنع فكره عن الرقي مانع وهذا رأي صائب نوافقه عليه ونرى فيه رأياً جامعاً لما يجب على الإنسان باعتباره فرداً وقد خالفنا بعض الكتاب في ذلك حيث قال أن السعادة هي غرض الإنسان في الحياة ومحط رحاله والغاية التي تنتهي إليها آماله. وهذا رأي مردود فاسد واهي الأساس دعامته تلك النظرية القائلة بأن غرض جميع الأجسام

الحية الحساسة اقتناص اللذائذ والابتعاد عن الآلام وهذا خطأ بين فما للذة والآلم إلا وسيلتان يستعين بهما المرء كما يستعين بهما الحيوان لبلوغ أغراضه الحقيقية وسبب هذا الخطأ ألتباس الإحساس الجثماني بالشعور النفساني على كثيرين من الناس وعدم إدراك أي فارق بينهما. إنا لا نرى أصح ولا أدق من الرأي القائل بأن حكمة الألم واللذة تسهيل العمل على أعضاء الجسم للقيام بواجبها أحسن قيام. ينشأ الألم من فساد إحدى الأجهزة الحساسة أو عن هيجان شديد لا يصبر له والخوف من الألم هو الذي يحمل الحيوان والإنسان على الابتعاد عن العوامل المتلفة وفي أكثر الأحايين لا يكاد الألم يحدث حتى يزول بحدوث حركة مخصوصة فمثلاً ذا أحس الإنسان باحتراق يديه أسرع إلى قبضها وإذا شم رائحة مكروهة حبس أنفاسه. ويغمض عينيه أمام باهر الضوء. يستعين الحيوان بحاستي الذوق والشم على اختيار غذائه والتفريق بين النافع له والضار فتراه يشتهي النافع ويلتذ بطعمه ورائحته أما الضار فيعافه ولا يقبل رائحته ولا يطيق ذوقه وكذا يفعل الإنسان غير أنه كثيراً ما يرى الإنسان يتجرع السم على حين يصدف عن العقاقير النافعة الصحية ويتألم من تناولها وسبب ذلك أن السموم والعقاقير مواد صناعية ليست بطبيعية ولم يمض عليها زمن كاف لتطور حواس الإنسان حتى تصبح قادرة على نقدها ومعرفة النافع منها والضار ولو أحاطت الكحول بنا كماء الينابيع والأنهار أو كثمر الأشجار وغلات الأرض لفني النوع الإنساني من شربها وانقطع دابره من الأرض فإنها سم قاتل. أو لكانت طبيعة أجسامنا مخالفة لما هي عليه الآن وقادرة على هضمها والإنتفاع بها أو لطبعنا على كراهتها والنفور منها وكم في العصر الحاضر من أمم وأفراد على أبواب الفناء لتفشي شرب الخمرة فيهم إلا أن الطبيعة لا تبقي على غير الصالح القوي والإنسان ذو عقل وإرادة قد يمنعه عقله من تجرع سموم الكحول كما قد يمنعه منها عيافه عنها وكراهته لها ولا يبقى في الوجود إلا رجلان أحدهما مجبول بطبيعته على شرب المسكرات. إن المدمن مهدد في شخصه ونسله؟ تنتابه الأمراض والأسقام، ويقضي عليه بالموت العاجل وأبناؤه يولدون ضعافاً مرضى معرضين لقبول الأمراض فإذا لم يكن العقل

ناهياً للإنسان عن الشراب قضي عليه بالموت والفناء أو يعافها كما يعاف ماء البرك والمستنقعات. يتخذ بعض الناس لذتي الحب والطعام غرضين يتطلبونهما لذاتهما ويقصرون سعيهم على الإبعاد في طلبهما ولا هم لهم إلا الإلتذاذ والتنعم بيد أنه قد أثبت الطب أنهما وسيلتان يستعين بهما بعض الأعضاء على إنجاز وظائفها فالغرض الذي من أجله وجدت لذة الحب هو المحافظة على بناء النوع الإنساني والغرض من لذة الطعام هو حفظ حياة الفرد ومن قصر أغراضه على هاتين اللذتين وتطلبهما لذاتهما غير معني بتحقيق الغرض منها عرض نفسه وأمته إلى الموت والفناء ولذا ترى بعض الأمم سائرة الآن في طريق الفناء والإنقراض. هنا انتهينا من الكلام على الحاسة الجثمانية ونحن بادئون الآن بالبحث في الشعور النفساني من ألم ولذة وقبل أن نخوض في هذا الموضوع لا يفوتنا أن نلاحظ أن الألم النفساني نوعان تعب وملل فالأول حينما يجهد الإنسان قواه لإدراك غرض له ولم ينله والثاني حينما لا تجد مداركنا شيئاً يشغلها ويحملها على القيام بواجبها. الإنسان مسوق بطبعه إلى الحركة والعمل وإعمال الفكر وهذا ينبيء بأن للحركة قصداً تنشده وللفكر غرضاً يسعى إليه. يفيض القلب حبنا بالعواطف الشريفة ولا يجد من يبذلها له ألا ترى الناس يعمدون إلى أمور تكون ملهاة لقلوبهم وعقولهم إلى أخرى تكون مسرحاً لحواسهم وأعضائهم فالطفل يتخذ من الألعاب ما يدعو إلى الركض والوثب والصياح والفتيان والكهول يلهون بإجهاد عقولهم في اللعب بالورق والشطرنج والفتيات والزوجات اللاتي لا ولد لهن يقتنين الكلاب والقطط لسد فراغ قلوبهن. يغتبط الإنسان بالعمل وتزداد غبطته إذا وفق إلى الفوز والنجاح. فما أعظم السرور لذي يجده المرء وهو يحاول حل إحدى المعضلات وشعوره بأنه سائر في الطريق القويم يتخطى العقبات ويزيل الشبهات ويستضيء بنور الحقيقة التي أخذت في الإشراق إزاء عينيه ومن أسعد حالاً وأنعم بالأمن من عاشق التقى بمعشوقه يبث إليه وجده وشوقه فيجيبه هذا بالتودد له والعطف عليه ومن جاهد في الحياة وغالب العقبات والصعوبات ونال منها مأربه أحس بالغبطة والسرور فما السرور مقترن بالعمل وإن كان غير داخل في كيانه وأن

الإنسان ليجد لذة في العمل حتى ولو كان العمل في طلاب اللذة ولكن شتان ما بين اللذتين فلذة اللعب غير لذة الفوز. لا تعرف النفس إلى السرور سبيلاً إذا كانت طامحة إلى غرض وكان غرضها شيئاً آخر غير السرور قال استورت ميل السعيد من رام غير السعادة بأن سعي مثلاً إلى إسعاد من سواه أو وقف حياته على تحسين حال الإنسانية والتخفيف من ويلاتها وآلامها أو وضع نصب عينيه عملاً نبيلاً يفرغ فيه قواه ومجهوداته لا كوسيلة يتذرع بها إلى غرض آخر بل طلبة سامية وأمنية شريفة. لا تأتي ملذات الحياة إلا عرضاً ولا يقصد إليها قصداً وإنما تقابلنا عفواً في طريقنا حين يكون سعينا مقصوراً على غيرها ألا شد رحالك إليها. وبجميع قواك ومواهبك للحصول عليها ولا تدخرن شيئاً في وسعك إلا بذلته لاقتناصها ومتى بلغتها فستراها من أول وهلة إنها غير مشبعة ولا مقنعةن إنها تتضاءل أمامك كلما دققت فيها النظر وأمعنت في اختيارها. سل نفسك هل أنت سعيد تر السعادة قد ولت مدبرة وإذا أردت السعادة فلا تعمل لشهواتك وملذاتك بل أنشد غرضاً آخر غريباً عنهما وافرغ فيه قواك الجثمانية والعقلية وقف عليه ضميرك ووجدانك وأبذل فيه دمك وحياتك ومتى فعلت ذلك تر السعادة مقبلة عليك مرقرقة فوق رأسك من غير سابق انتظار ولكن أحذر من أن تتخيلها في ذهنك أو تسعى لإدراك كنهها وحقيقة أمرها أو تسائل نفسك عن نصيبك منها فإنها لا تلبث أن تفلت من يديك وتفر من وجهك. وخلاصة القول أن متاع النفس في الحياة حريتها في إظهار قواها والانتفاع بمواهبها وأن اللذة ما هي إلا وسيلة لذلك حتى ولو عكسنا الأمر واتخذنا اللذة مما لنا أفلا تكون السعادة في أن نكون في حل من أمرنا وسعة من إرادتنا لا عارض يمنعنا عن الذهاب مع شهواتنا! وهل هناك أهنأ من حياة ينال الإنسان فيها أو في حظ من سعة المدرك وسمو الفكر، وأوسع مكان وأخصب بقعة لإنماء مواهبه؟ وقد قوبل هذا الرأي بكثير من الاعتراضات. يقول المعترضون إنا نسلم بأن الحرية تكسب المرء أباء وأنفة وتعلي من منزلته في عينه وترفع من أخلاقه وتهديه إلى واجبه وتسوقه إلى التضامن الاجتماعي. أما كونها تسعده فلا نقول به ولا نذهب إليه وحسبك من آلامها أنها تضطرك إلى العمل وتلتقي عليك مؤنة البحث عن أفضل الأعمال وتثقل كاهلك

بتحملك نتيجة عملك وإلقاء المسؤولية فيه عليك. وقد أبان ويستوفسكي هذا الرأي بإسهاب وتبيين في رواية له ومضمون هذه الرواية أن المسيح ظهر في أسبانيا أيام محكمة التفتيش وأخذ في دعوة العامة والغوغاء فتبعه عدد عظيم منهم كما كان شأنه في جليلة وظهرت على يديه معجزات كثيرة فأحيا ابنة وردها إلى أمها ولما بلغ خبره محكمة التفتيش أمرت بالقبض عليه وحكمت بإحراقه. وقبل الذهاب به إلى موقد النيران زاره رئيس المحكمة وقال له وحتى لو كنت حقيقة المسيح بنفسه فلا بد من إعدام حياتك وإزالة وجهك من على الأرض إلا لا يمكنك أن تزيد شيئاً على ما قلته لو فعلته أيام كنت في جليلة إذ لا حق لك في ذلك فقد نزلت عن كل شيء للكنيسة وخولت لها الحل والعقد والتحليل والتحريم أن ما تبشر به الآن وتنشره بين الناس يفسد عليك عملك الأول الذي خلفته لنا وهي الأساس والبناء فرفعنا أركانه وقومنا أوده نعم إن الفضل في ذلك لتلك السلطة الواسعة التي منحتها إيانا ألست أنت الذي وهبت الناس الحرية وهم لا يستحقونها ما أشد ألم المرء وعذابه من تركه حراً وسلبه ما كان يخضع له ويذعن إليه أنك لا تعرف الإنسان ولا تدري حقيقة أمره وتظن فيه فوق ما يستحقه إن الإنسان ضعيف خوار أأنت الذي تحبه أكثر من نفسك: إلا أنه لا يوجد في قلبك ذرة من الرأفة به والرثاء لحاله. الشك والقلق والشقاء تلك هي الحظوظ التي نالها من جراء آلامك وعذابك فعلى من يرجع باللائمة إذا لم تطق النفوس صبراً على منحك وعجزت عن النهوض بها والقيام بأعبائها! إن من حسن حظ الإنسانية أننا وبيدنا ذلك السلاح القوي وتلك السلطة الواسعة التي خلفتها لنا فأصلحنا خطأك وقومنا بناءك على أساس متين من الرهبة والجبروت وخلب العقول بالمعجزات فأسرع الناس إلينا أفواجاً لائذين بنا مستصرخين مما انتابهم من الجور والأذى فأمرنا بإلقاء الحرية عن كواهلهم فطرحوها تحت أقدامنا ورجعوا خفافاً فرحين مستبشرين وعادوا إلى سيرتهم الأولى من الخضوع والخشوع والإنقياد الأعمى كأنهم قطيع من الغنم وبهذا خلصوا من هبتك الملعونة التي أورثتهم الغم والهم: فسكت المسيح ولم يحر جواباً. أجل إن من يقطع مرحلة كبيرة من عمره في الأسر والاستعباد ثم يرى نفسه بعد ذلك مرخي العنان مطلق السراح يجد في الحرية حملاً ثقيلاً ينوء به ولا يستطيع النهوض به

من اعتاد تسليم غيره ذمام عقله لا يفكر بنفسه ولا يسير خطوة إلا بمشورة سواه وبدون سابق وعيد ونذير يتخلف عنه قواده ومرشدوه ويتركونه وحيداً تجمع به الحرية وتلقيه في الردى ويشعر بألم عظيم وعذاب شديد ولا يجد له مندوحة عن البحث عن سيد آخر ليلقي عن كاهله عبء البحث والاختبار ويحمل عنه تبعة عمله أنه لا يكفي لتحرير الإنسان كسر قيوده وأغلاله ولا يدهشك من سجين قضى حياته موثق الساقين أن يتخاذل في مشيته حين إخلاء سبيله أتأخذه فجأة وعلى غرة من الليل الدامس الذي كان فيه مدة سجنه إلى النور الساطع ثم نقول أنه لا يبصر ولا يرى إلا أن الحرية ليست أمراً سلبياً فقط وليس بكاف لتحرير الناس تخليصهم من الأسر. أن الحرية تضاعف من قوى المرء وتزيد من كفاءته وتجعله يشعر بلذة في العمل ويرى الشرف كله في تحمل أوزار عمله. لندع الناس أحراراً يعملون على إسعاد أنفسهم بأنفسهم ولا نأخذ على عاتقنا عبء هنائهم وسرورهم ويجب علينا أن نمدهم بمعونتنا ونقرضهم قوانا ومداركنا ولا ندع لنفسنا سبيلاً إلى منافرتهم والأخذ بتلابيبهم وسوقهم إلى السعادة مكرهين بل يجب علينا أن نقف عند حد المساعدة فندعهم وشأنهم يعملون لسعادتهم وسرورهم فما كان الحامل لتلك المظالم الي حلت بالعالم على يد النبلاء ومحاكم التفتيش والأرزاء التي رجم الناس بها الملوك الطغاة المستبدون إلا إسعاد النوع الإنساني والسعي لراحته ورفاهته.

فكاهات

فكاهات التذكرة الصفراء بقلم أحد كبار روائي الانكليز العصريين منظر القصة في موسكو هناك عند ملتقى الشارع الكبير بميدان تفرسكايةز هناك حيث تمثال بوشكن قائم وعلى ميمنته الدير الكبير. تلكم هي البقعة الطيبة، والممرح السهل، يخرج إليه عصافيره، ويختلف إليه مع الظلام أطياره، في حسن ريش، وجمال مظهر، يتراوحن في الشارع، على أنوار الحوانيت، ثم يخترقنه دافعات إلى الشارع الكبير، كأشباح تخرج من الظلمات إلى النور ثم تعود. ذات ليلة في بكرة الشتاء وإبانه، شتاء عام 1912، كانت تروح بين هؤلاء فتاة قاصرة في ثوب دافئ بسيط، كأثواب الريفيات. مشت ممدودة الطرف إلى السابلة، منهومة العين بالمارة، كأترابها عصافير الليل، تمشي الهوينا مشيهن، وتسير متباطئة سيرهن، وإن لم يكن الوقت وقت الهوينا، ولا الحين حين بطء. بكر الشتاء الأشهب في مقدمه. وأقبل في غير مقتبله. حتى لقد كان الهواء في نوفمبر يقذف بالجليد هذا والكواكب تتألق في صحيفة السماء. هذا والنجوم تستطع في أديم القبة الزرقاء. ولم ينشب أن أقبل في الشارع فتى نشأ، يمشي مسرعاً مهطعاً. حتى إذا جاءها وقع البصر على صفحة وجه الفتاة وعينيها. وهي تخطرأزاء نافذة حانوت. فاستوقفه مرآها وأقبل عليها يسأل. هل تنظرين واحداً؟ فأجابته في سكون - لا أنظر واحداً معيناً. فعاد يسألها مبتهجاً طروباً. وهل ترضيني؟ فرنت بنظرها إليه ثم أطرقت راضية. على أن قبولها غير في الحال هيأته. فوقف لديها لحظة حيران متردداً. ومد إليها يده. كأنما يريد أن يأخذ بذراعها. على أنه قبضها وهو يقول. يحزنني أن أكون مضطراً إلى تناول العشاء الليلة مع قوم من عشيرتي. ولقد تأخرت ولكن يجب أن ألقاك. يجب أن نتعدز فإني لم أر حسناً مثل حسنك. وأنا لا أستطيع أن أقضي الليلة معك. يجب أن أذهب الآن. فلا مناص من موعدي. فهل تقبلين أن نلتقي مساء الغد؟

فهزت الفتاة رأسها مترددة؟ قال متعجباً: ولمه. أني والله أريدك. فقد وجدت لي فيك فتنة. وأنا أريد أن أعرف كل أمرك فعديني أنك ستذهبين الآن إلى بيتك ثم نلتقي ليلة الغد. فعادت تهز رأسها وتقول. لا أستطيع أن أعدك. قال ولماذا ل تستطيعين. أتقبلين أن أدفع إليك ثمن هذه الليلة. ثم فك أزرار معطفه وأخرج بعض أوراق مالية. فلما رأته الفتاة ارتدت عنه وتراجعت تقول كلا لا أسألك عليه مالاً. فأجابها كيف لا تطلبين مالاً. حسبك حماقة وسخفاً. وماذا غير المال أتى بك إلى موقفك. هذه عشرة روبلات فاذهبي إلى منزلك وسألقاك غداً الساعة السابعة ونصف من المساء. فهزت برأسها. ولكنه أمسك بيدها ودفع بالورقة في راحتهاز ثم قال: أنني ذاهب واثقاً من لقائك هنا غداً ولا أظنك. وأنت بهذه السنز تخدعين. وانطلق مفلتاً ولم تلتفت إليه الفتاة بل وقفت برهة مترددة. ثم أخرجت كيساً لها ودفعت بالورقة في أثنائه وواصلت مشيتها. فتارة تلحظ السابلة. وتارة تقف بخلاعة مصطنعة وخلابة متكلفة. أزاء نافذة حانوت. في باهر الأضواء وساطع الأنوار. ثم لا تلبث أن تتابع مشيتها. ومضت برهة وإذا برجل آخر يسألها: ماذا تصنعين؟ فرفعت إلى الرجل بصرها وأجابت: لا شيء. فاسترسل يسألها وهي يماشيها إلى نور الحانوت. ما اسمك؟ قالت وهي تنظر إليه (ربكة) فأجابها: أنت والله يهودية؟ قد كان يحق لي أن أتوسم يهوديتك في لونك وعينيك النجلاوين. على أن ليس في مظهرك ما يدل على يهوديتك وهذا الأنف الأقنى وأنت لعمري حديثة عهد بهذه الصناعة. أليس كذلك؟ فتقابل النظران قالت بلى فسألها هل تأتين لنتعشى سوياً؟ فأطرقت ملبية. قال: وهل أنت خالية الليلة؟

فأطرقت ثانية. قال إذن فتعالي إلى عشاء طيب وسمر. ولم تمض لحظة أخرى حى استوقف مركبة يجرها جواد أدهم. وساعد الفتاة على أن تنأخذ مكانها منها. ثم أهاب بالسائق إلى دار الرهبنة. وانطلقت بهما المركبة. ودار الرهبنة هذه فندق مستجمع شروط الرفاهة والراحة فيه نحو مائتي نوع من الحجرات تتراوح أجورها بين خمس روبلات وبين خمسين في الليلة الواحدة. وتختلف درجاتها من حجرة ذات سرير وأدوات الزينة اللازمة إلى طابق فيه قاعة للجلوس وحجرة للنوم وحمام رحيب. ولهذه الدار ستة عشر مدخلاً لتقل فرصة لقاء من لا تود لقاءه. وكان الرجل تاجراً ناعم الحال طيب المرتزق. ولذلك تخير طابقاً فخماً. وبينما هما يسيران في أثر الغلام إلى البهو إذ بهما يسمعان دق جرس صغير واستمر في دقه حتى احتوتهما قاعة الجلوس ثم سكت الجرس. فسألت الفتاة رفيقهاز ما أمر هذا الجرس؟ فأجابها الرجل وهو ينزع عن يديه قفازاته ويبتسم للخادم تلك إحدى عادات هذا المكان. أليس كذلك يا أيفان. إن الجرس يدق ليلفت الزوار إلى أن لا يتركوا حجراتهم حتى يستقر الأضياف الجدد في أماكنهم ولئلا يرى الزائر في طرقات الدار وممشيها ناساً لا يحب أن يراهم. والحق أقول لك. ن كل شيء في دار الرهبنة على أبدع نظام. فأطرقت الفتاة برأسها مبتسمة ووقفت في بهرة لقاعة. وأمر الرجل متعجلاً كأنه من (زبائن) الدار. بتهيئة الطعام. ولم يكد الخادم يترك الحجرة حتى التفت إليها متعجباً وهو يقول كيف ذلك ألم تنزعي بعد قبعتك. وربطتك؟ وتقدم نحوها كأنما ليعينها. وأسرعت هي إلى مرآة هناك ورفعت القبعة عن رأسها وأخذت تنظم شعرها. ثم جعلت تنضو عنها ربطتها في رفق. ثم طبقتها بعناية. ووضعتها على المقعد. وشرع الرجل في الحديث قال. إن لقائي بك الليلة لنعمة عين. فلقد كنت هذا المساء في حيرة من أمري. حتى اهتدى بصري إلى وجهك الجميل فكم سنك يا ربكة؟ قالت ست عشرة. قال لقد كنت أظن أنك في الربيع التاسع عشر. على أنكن اليهوديات تفرعن أكثر منا نحن الروس. أليس كذلك؟

فهزت الفتاة منكبيها وأجابت أني لاأظن ذلك. وقطع عليهما الحديث دخول الخادم بالعشاء. فلم يتكلما إلا قليلاًز فبدئ الطعام باللحم ثم أعقب بالسمك كعادة الروس في موائدهم. فلما انتهيا من السمك. وكانت شهوة الرجل إلى الطعام قد هدأت قليلاًك لاحظ أن الفتاة لم تمس الطعام بعد. قال: يجب أن تأكلي. فأجابته لا استطيع فأني لا أشعر بجوع. قال وهو يصر. ليس هذا بسبب معقول. نحن الناس نعيش بالأكل. ويجب أن تشربي أيضاً. فهل تحبين خمرة الشمبانيا؟ قال ذلك وملأ كأساً منها. ولكن الفتاة قالت بعد أن جرعت منها أن طعمها لشديد ولقد تصاعدت رائحتها إلى أنفي. ولم أر هذه الخمر من قبل. فقال متعجباًز إذن فأنت قريبة عهد بهذه الصنعة. ومتى كان نزولك بموسكو؟ فبدأ على الفتاة التردد والحيرة ونظرت إليه ثم أطرقت. قال لا حاجة بك إلى اخباري إذا كنت لا ترغبين. وقاطعهما الخادم ثانية. ومضت بضع دقائ. ورفعت المائدة. واشعل الرجل لفافة تبغ. وترك الخادم الحجرة لأخر مرة واختلى الإثنان. وبدأت المداعبة بينهما والمغازلة والمماجنة. قال الرجل أخيراً. ألا حدثيني متى نزلت بهذه المدينة؟ وكانت الفتاة واقفة إزاءه مشتبكة اليدين كأنها من فتيات المدارس وبدأ عليها أنها قد جمعت أمرها على الكلام. قالت (في هذا المساء) فسألها: ماذا تقولين. وللمرة الأولى؟ أجابت: نعم. وللمرة الأولى. قال: وأين تقيمين؟ فأجابت: هنا فسألها: وماذا تقصدين؟

قالت وقد فصلت ديها عن بعضهما ثم شبكتهما. إن لي قصة طويلة وحديثاً عجباً. قال قصيها. فلا يزال لدينا من الوقت سعة. وأحب أن أعلمها بحذافيرها. وأدناها منه وشرعت تقص قصتها: قالت جئت من مدينة جورود في القطار والقصة طويلة وكنت أريد من رحيلي من جورود إلى موسكو أن أدخل الجامعةن ولم يسمح بالسفر من جورود إلى هذه العاصمة إلا لثلاث من اليهوديات، وكانت اليهوديات الثلاث اللاتي أُذن لهن قد لازمن الدرس منذ أعوامن وكانت صغراهن في الثلاثين أو تزيد، ولا يؤذن إلا لثلاث على حين أن في جورود آلافاً من الفتيات اليهوديات. وكنت أنا الرابعة، فكان لزاماً عليّ أن أمكث عاماً أو أكثر من عام، ولما كانت والدتي امرأة أرملة، جعلت أحتال عليها واغريها، حتى دفعت إليَّ المال الذي سألت وأذنت لي في السفر إلى موسكو للمذاكرة وطلب العلم. فسألها الرجل: ولم تطلبين المذاكرة، ولم ترغبين في التحصيل؟ وما فائدة الكتب، وما نفع الأسفار؟ والله ليس في الكتب إلا تعب لساجيات العيون ومريض الألحاظ. فحدقت الفتاة بصرها في الرجل عجباً ودهشة، إذ لم تتوقع مثل هذا السؤال، فجعلت تفكر في الجواب ثم شرعت تقول: أريد أن أعلم من العلم كثيراً، أريد أن أكون من لدات عظيمات النساء اللاتي أحدثن في العالم أموراً كبرى، ولا أدري ماذا يجول في خاطري من حلو الأمانيّ، وإنما أعلم أن الجهل في هذه الأيام أمر منكر معيب. قال: وهكذا جئت إلى موسكو؟ فاسترسلت تحدثه بحديثها قالت أجل. في هذا المساء. وكان الليل قد بدأيرخي على العالم سدوله، فذهبت إلى فندق واتخذت حجرة ولوازمها، ولكن قبل أن يرسل أهل الفندق غلمانهم إلى المحطة ليأتوا بحقيبتي وجعبي، جعلوا يسألونني عن جواز سفري (الباسبورت)، فلما أنبأتهم أن ليس في يدي من جواز، تغير رأيهم وقالوا أن ليس لي حجرة عندهم وخير لي أن أذهب. . . فذهبت إلى نزل أرخص أجرة وأريتهم ما لدي يميني من مال، ولكن ما كادوا يعلمون أن ليس لدي جواز السفر حتى لفظوني من نزلهم، وطاردوني إلى بهرة الطريق. . . . فحرت في أمري ولم أدر ماذا أعمل، فأقبلت على سيدة أكلمها. فنهرتني وعاملتني كما تعامل السائلين، وانتهى بي أمري إلى أن كلمت امرأة من أولئك اللاتي

يخطرن في الطرق ويمرحن، فرقت لحالي، ورثت لأمري، وأنبأتني أني لن أجد في موسكو طولاً ولا عرضاً، مقاماً من غير الجواز، ولما علمت مني أني يهودية أيضاً، حدبت عليّ وعطفت وقالت أني في سوء حال. وأني لن استطيع أن أحصل على (جواز السفر) لأن الشرطة لا تحب اليهوديات، وليس لي من وسيلة إلا أن استخلص (تذكرة صفراء) وهي كما تعلم رخصة البغايا والمومسات. وقالت لي أنها تستطيع أن تصحبني إلى إدارة الشرطة إذ لا يزال هناك وقت. فلما كنا في الطريق قالت ليس في موسكو شيء أسهل من استخلاص تذكرة صفراء. ولا يتطلب ذلك إلا أن أدخل غير متخاذلة إلى إدارة الشرطة وأدفع خمسة عشر روبلاً وأسألهم تذكرة صفراء ثم أتولى عنهم، وبهذه الرخصة أجد آلافاً من الدور والفنادق تفتح لي أبوابها. وترضى بمقامي بين أهلها. وبدونها أُترك في الطرق إلى برد الشتاء وجليده. وتوقفت الفتاة إلى الحديث ونظرت إليه ثم تابعته كأنها تحدث نفسها. يرحب بالبغيّ. ولا يؤهل باليهودية في موسكو. في موسكو المسيحية! فضحك الرجل من قولها وطوق خصرها بذراعيه. ثم قال وهو ضاحك السن. يالك من فاتنة. ثم ماذا حدث لك بعد ذلك؟ فاسترسلت تقول: ذهبت إلى إدارة البوليس وسألت شرطياً هناك عن مكان الحصول على التذكرة الصفراء، فحاول أن ينال قبلة مني. ثم أدخلني حجرة المفتش وجاء المفتش فجعل يسألني عدة أسئلة. فلما قلت أني لم أصل موسكو إلا في المساء حاول أن يقبلني. فأبيت عليه ذلك. ولكنه قال أنه لن يعطيني التذكرة الصفراء إلا إذا سمحت له بقبلة. فسمحت له ولكنه طلب مني أن. . . . فتوليت هاربة من المكان. من غير التذكرة الصفراء. فوجدت أن صاحبتي قد ذهبت. ولم ألبث أن التقيت ببغيّ أخرى. فحدثتها بما حدث وقال أنها لا ترى وسيلة أحسن من أن أذهب مع رجل إلى خلوة لنا واسأله أن يصحبني ضحى إلى إدارة الشرطة. فأُعطى التذكرة الصفراء في الحال. ثم أردفت ذلك بقولها: وإذا كنت تستطيعين أن تدفعي مالاً. فكل شيء في موسكو على حبل الذراع. وكل لبانة في موسكو سهلة ذلول. ثم استطردت تقول في سكون. كأنما التذكرة الصفراء جائزة تنال على الخلوة.

قال الرجل غير مكترث. استطيع أن أضمن لك التذكرة الصفراء. ولكن أصدقيني الخبر. هل أنت حقاً بالبغاء حديثة العهد؟ فأطرقت الفتاة. وراح يسألها. . وهل تريدين أن لا تعودي إلى هذه الصناعة؟ فأطرقت ثانية. ولكن في هذه المرة بسرعة وشوق فمد إليها ذراعيه وهو يقولك يا لها من قصة عجب! أنت يا ربكة سعيدة الحظ بوقوعك في أيد طاهرة وأنا بأمرك في شغل. ولكن من غريب أمري أني لا أميل إلى تقبيل من لا تميل إلى تقبيلي. أليس في ذلك غرابة؟ قال: كلا. با أنها لتبدو لي أمراً طبيعياً. فأجابها مبتسماً. ذلك لأنك لا تزالين بعد صبية. إن ذلك ليس بطبيعي عند سواد الناس. وهل تريدين أن تدخلي هذه الحجرة وتنامي حتى الصباح وحدك؟ وماذا تريدين بي أن أصنع؟ هل أتركك تنامين وحدك. حتى إذا تنفس الصبح أعنتك على نيل التذكرة الصفراء؟ أم تريدين أن أدخل الحجرة معك؟. . . قال ذلك وهو يشير إلى حجرة النوم. قال: كلا، ولكن أين تنام أنت؟ أجاب وهو يشير إلى غرفة هناك، أنام هنا، لطالما نمت في مضاجع أسوأ حالاً، وأنبي فراشاً، سأقرأ الصحف التي أتيت بها في جيب معطفي. ولك أن تذهبي فتلزمي سريرك. قال قوله كأنما يطردها. وأما الفتاة فتقدمت إلى باب الحجرة مترددة. فلما بلغته أنثنت فرنت إليه. فأطرق مبتسماً. ولوّح بيده إليها. قال: ليكن ذلك. وليهنك النوم. ولك تلبث أن اختفت في الحجرة وأقفلت الباب ومكث الرجل برهة ينظر إلى باب المخدع وهو يبتسم. ثم تقدم إلى معطفه فأخرج بعض الصحف اليومية. وأشعل لفافة تبغ. وجلس في مقعده يتصفحها. ومضت ساعة. فساد السكون. وأما الرجل فنضا عنه سترتهن وخلع نعليه. واشتمل في معطفه الكثيف. ثم تقدم إلى باب المخدع وتسمع. فإذا الحجرة في سكون. ثم وقف برهة ولكنه لم يلبث أن تولى إلى النمرقة فاضطجع. وما مضت بضع دقائق حتى ضرب الله على أذنيه. فإذا هو في سبات عميق.

واستيقظ الرجل عند الساعة الثامنة. فقام إلى النوافذ ففتحها. ثم دق الجرس. وطلب طعام الفطور. ثم تولى إلى الحمام فاغتسل. وخرج من الدار مسرعاً. في حين أن الخادم يهيء المائدة. ومضت ساعة فعاد. وعند ذلك تقدم فطرق باب مخدعها. وسمع في الحل صوتها. فدخل الحجرة. فإذا هي إزاءه في كل أثوابها. فسألها: هل كان نومك الليلة هادئاً؟ فأطرقت ثم رنت بعينيها النجلاوين وقال: أشكر لك مبرتك. فقال: وهل استيقظت باكرة؟ فأجابت: استيقظت منذ ساعتين. قال: ياللطائر الباكر في صحوه! ألا تعالي إلى طعام الفطور. فأني آتيك الساعة بنبأ غريب. ومد إليها يده. فأقبلت عليه طوعاً. وأدنت رأسها الجميل إلى رأسه. فقبلته. قال: تلك قبلة خير من قبلاتك الأولى. يالله. لقد علمت في أربع وعشرين ساعة كيف تجيدين التقبيل. فأجابت بجرأة. ما أسهل ذلك وما أهون. إذا علم القلب الشفتين. فسألها إذن فأنت تحبينني؟ فاستقر لحظها عليه. وأجابت موجزة: أجل. وكأنما أراد أن يتخلص من باعث يتلجلج في صدره. إذ استوى واقفاً. وقال في صوت عادي: لقد خرجت من الدار أحاول أن أنفعك بشيء ثم أخرج محفظته وأوراقه فوضعها على المائدة. واسترسل في حديثه يقول: لقد همتني حالك ليلة الأمس. فأردت خدمتك وأقبلت عليك. وودت لو تميلين إليّ بقلبك. ولا أعلم السبب. فجاءت إليه ووقفت بجانبه ثم قالت: والله أنها لمكرمة منك. ولكنك تعلم أني إليك أميل؟ فطوق خصرها بذراعيه. وقال: كان ذلك يخطر في بالي. فأردت أن تكوني في هذا البلد طليقة سراح. لا يعسفك من عسفها عاسف. ولذلك خرجت فعمدتك. يا يهوديتي الصغيرة.

بإسم غير اسمك. وأخذ في يديه وجهها المشرق الوسيم. فقبلها في شفتيها. واسترسل يقول. فلست الآن ربكة. بل أنت من هذه الساعة (فره نوفيكوف) فأخذتها الدهشة. ورددت الأسم الجديد. فأخرج ورقة من بين ثنايا محفظته وقال: أجل. كل شيء في موسكو يشترى بالمال. ولقد ذهبت إلى إدارة الشرطة لأبتاع جواز سفر لك. وقد استخلصته باسم فره نوفيكوف فإنك بهذا الأسم الجديد تستطيعين أن تعيشي في موسكو أين تشائين. وكيف تشائين. لا عسف ولا إحراج ولا إرهاق. فصاحت تقول: ما أطيب قلبك وما أرق فؤادك! ولكن لا بد من أن ذلك قد كلفك مالاً كثيراً قال وهو يبتسم لها. كلا. بل أن الجواز لأرخص ثمناً من التذكرة الصفراء. فقد قلت أنها تساوي خمسة عشر روبلاً. على أني لم أدفع من أجل الجواز إلا أثني عشر روبلاً. فأنت ترين أن جواز السفر أرخص من تذكرة البغاء. ثم دفع بالجواز إليها. فأخذته في يدها وقالت في هدوء وسكون. كأنما تخاطب نفسها بلى. أنه أرخص ثمناً. وأن جواز السفر لا يكلف المرأة ما تكلفه التذكرة الصفراء. . .

اعترافات سكير

اعترافات سكير ليس في مناحي الأدب وأبوابه منحى أشد تأثيراً وأعظم وقعاً في نفوس القراء من ذلك المنحى المعروف بالاعترافات، ولقد صدق الشاعر بوب حيث قال: أن أصدق بحث في شؤون الإنسانية هو البحث في شؤون الإنسان: أو ليس معنى الاعترافات أن الكاتب يستقبلك بين ثنايا ضميره. ويرحب بك في أعماق سريرته. ويقبل عليك بأسراره ويفتح لك صدره لتطلع إلى خباياه وأخباره. إن كاتب الاعترافات لا يكتب للساعة التي هو فيها وإنما يكتب للعصور والأجيال. ولا يخاطب رجلاً واحداً وإنما يخاطب الجميع. وكتابة الاعترافات على نوعين، فالنوع الأول بدأ به روسو فالتزم فيه الحق، ولم يستعن فيه بأبواب الأدب. فكان مطلع اعترافاته. إذا نفخ في الصور. وقام يوم الحساب. سأذهب وكتابي هذا في يدي. فأمثل في خضرة الملك الأعلى. فأقول عالي الصوت. أي ربي هذا ما صنعت. وهذا ما فكرت وهذا ما كنت. لقد كنت في قول الخير صريحاً كما كنت في قول الشر. لم أقتل من الشرور شراً. ولم أضف على الخيرات خيراً والنوع الثاني نحاه جوت. فلم تكن له شدة روسو. ولك تكن له صراحته بل جنح فيه إلى شاعريته. واستعان فيه بمخيلته. ونحن نقدم لقرائنا هذه الاعترافات التي كتبها الكاتب الفكه شارلز لام. فلم يلتزم فيها النوع الثاني كل الالتزام. ولئن بدا في اعترافاته شيء من الأدب والفكاهة. فلا يكون ذلك إلا راجعاً إلى شخصية الكاتب وروحه. وأن في هذه الاعترافات لعبرة وتذكرة لشاربي الخمر. المكثرين منها والمقلين. لا حديث للمقلين من الشراب. الصادفين عن الخمر. الراغبين عن الراح إلا النصح للمكثرين باجتنابها. وحث المدمنين على احتوائها. وحضهم على كرهها. ولقد صادفت أحاديثهم وعظاتهم اعجاباً كثيراً. واستحساناً كبيراً. لدى معاقري الماء القراح. أما المريض الذي له ينصحون. والعليل الذي يطلبون له الشفاء من برحاء العلة، فما بلغت ضوضاؤهم مسمعيه. ولا طرقت أصواتهم أذنيه. أما وقد عرف الداء. فقد ذل الدواء. وهو فليمتنع المكثرون! وليس ثمت قوة تكره المرء على رفع الكأس إلى شفتيه. وليس من سلطان في الأرض

يجعل المرء يدني القدح من فمه دون إرادته. وامتناع الناس عن الشراب أمر هين سهل. كالامتناع عن قول الكذب. واجتناب السرقة والانتهاب. ليس من طبيعة اليد أن تسرق. ولا من شأن اللسان أن يحمل أفكاً. أو يشهد زوراً. أو يقول بهتاناً. وأن زجرة واحدة من الإرادة المهذبة. تكفي لرد اليد عن متاع الناس. وكف اللسان عن الرتع في لحومهم. وتقول الزور والبهتان. هين على لسان الكاذب أن يخف للحق خفته للباطل. ويبتهج بقول الصدق ابتهاجه بقول الكذب. الذي اعتاد أن ينثر بذوره. وينثر أخاديعه وأحابيله. ولكن إذا راح الإنسان مدمناً، وغدا في الحياة سكيراً. . . فعلى رسلك. أيها الأخلاقي، الشديد الأسر، المجتمع الخلق القوي الأعصاب، المنيع الرأس، السليم الكبد، ولا تعجل، ولا ترفع عقيرتك لما كتبت، قبل أن تعلم دخيلة الأمر، (وتستطلع) طلع الداء، فإنك ستمزج، إن علمت، بكراهيتك للرجل الرحمة له، وتخلط باشمئزازك من حاله الحدب عليه، وتعارض أنفتك منه بالرأفة به، وهوناً ولا تمش على أطلال المسكين، ولا تطأ بقدميك بقايا الرجل. ولا تكرهه - وهو في مثل عذابه وآلامه_على إحيائه من حالة موت. أشبه بالحال التي لم ينشر منها لعازر إلا بمعجزة. لو كنت بدأت بتطبيبه. قبل إدمانه. لأفلج الله سهمك. ولكن ليس لك بعلاجه يدان، وكان بدء شرابه كخوض في مستعر النيران. وماذا يجدي القول. وأجهزة الجسم لا بد من أن تتغير تغيراً شديداً يشبه التغير الذي نشهده في أجسام بعض الهوام والحشرات، وماذا ينفع الوعظ. وبدن المريض يسام عذاباً. لا يقل عن عذاب الذي يسامه الحي الذي يغري أهابه. ويسلخ جلده. وأين الاستسلام لهذه العذابات من الإقبال على تلك الشرور التي لم تؤثر في جسم المقبل عليها تأثيراً يصبح من ضرورياته. ولم تغيره تغيراً يعود من لوازمه. ولم تستول على جسم رهينها وروحه؟ لقد عرفت سكيراً في هذه الحال. حاول أن يكف عن الشراب ليلة واحدة. بعد ما فقدت الصهباء لديه تلك النشوة التي كانت تأتي بها. وخلت الشمول من تلك البهجة التي كانت تحدثها، بعد ما وثق من أن الخمر لن تذهب بشجوه بل تثيره. ولن تضع عنه همه بل تزيده، أجل. لقد عرفته في شدة صراعه. ومحاولته التخلص من ميله إلى معاودة الكأس.

ومراجعة الشراب. يصيح من ألم. ويصرخ من عذاب. ومالي لا أقول أن ذلك السكير الذي عنه أحدثكم هو أنا، ولا عذر أتقدم به إلى الناس ولا شفيع، بل أنا الذي جررت على طبيعتي هذه النكبة النكباء. أني اعتقد أن هناك أجساماً قوية. ورؤوساً منيعة، ومعداً حديدية، لا يضيرها إدمان على شراب، ولا يؤذيها اعتياد اصطباح واغتباق، ولا أثر لمعتق الراح، ومصفق النبيذ، وأن جرع أصحابها منها كؤوساً، واشتفوا منها أقداحاً، إلا أن ترنق مشاعرهم، وتكدر مداركهم. ولعلها لم تكن يوماً في صفاء. لا أريد هؤلاء بحديثي. فالحديث لديهم هباء مضيع. بل أنهم ليضحكون من أخ لهم ضعيف، رام أن يوازن قوته بقوتهم، ويقارن شدته بشدتهم، فرجع من معمعة الكؤوس مذموماً مدحوراً؟ بل عبثاً أريد أن أنصح لهم. وباطلاً أطلب أن أحذرهم خطر الإدمان. وعقبي الإكثار. بل أسوق الحديث إلى فئة غير فئتهم. وشرب ليسوا من حزبهم. إلى الضعفاء والعصبيين. إلى أولئك الذين يحسون بأنهم بحاجة إلى مقو خارجي يرفع أرواحهم في المجتمع إلى مستوى أرواح الناس، ويكسبهم البهجة التي يرونها بادية على وجوه الجماعة. ذلكم هو سر جنوحنا نحن الضعفاء إلى الخمر. وتلكم حكمة ميلنا إلى الشراب. منذ اثنتي عشر سنة. كنت قد أتممت الربيع السادس والعشرين. ولقد عشت منذ تركي المدرسة إلى تلك السن في معزل عن الناس. لا صحب لي إلا كتبي. وإلا رفيق أو رفيقان من عشاق الكتب ورواد العزلة. وكنت أبكر في صحوي وفي نومي. ويخال إليّ أن المواهب التي أتمها الرحمن عليَّ لم تترك فيَّ لتصدأ. وحوال ذلك الحين وقعت في غمار أصحاب ليسوا على شاكلتي، وليسوا من طبيعتي، رجال ذوو أرواح متقدة مضطربة. ونفوس مهتاجة مستعرة. سهر ليال، وحلفاء أسمار. يقيمون الليل في نزاع وجدل. ويقطعونه في نشوة وثمل. على أن فيهم مخائل نبل. ودلائل كرم. وديباجة شرف. كنا ننتدي بعد هدأة من الليل سامرين. ونجتمع ضاحكين ماجنين. وكان نصيبي من سعة المخيلة أربي على أنصبة نداماي. وأجزل من أقسام أصحابي. فكنت أرمي بالنكتة

فيصفقون لها. وألقي بالمزحة فيعجبون بهاز فلم ألبث أن رحت بينهم مزاحاً صناعاً وغدوت فيهم منكتاً بارعاًز والحال أني أقل الناس استعداداً للمجون، وأبعدهم عن المزاح. لعي يصيبني إذا أردت كلاماً. وحصر يلازمني إذا رمت حديثاً، وعارض عصبي يبدو على إذا تكلمت. أيها القارئ إن كنت عصبياً مثل. فنشدتك الله كن كيف شئت. ولكن حذار أن تصير مزَّاحاً. فإذا جنحت بك شهوة للنكت. ونزعت بك نزعة إلى المزاح. ورأيت الخواطر تهجم عليك، وشهدت طريق الأفكار تتنازعك، وإزاءك كؤوس وقوارير. فاجنب نفسك شرها، واحذر ويلها، حذرك أفجع النكبات. وأخش ضرها، خشيتك أفدح المثلات. فإن لم تستطع أن تستحق سلطان مخيلتك، فانزع بها منزعاً قصداً، وارسلها في غير هذا المنحى، أكتب مقالاً، أو أنشئ فصلاً، أو دبج وصفاً، ولكن حذار أن تطاوعها، فتكتب كما أكتب الآن، والدموع تنحدر على خديك، وشؤونك تفيض فوق وجنتيك. وأن تكون موضوع رحمة الصديق، ورهين سخرية العدو، وأن يلحظك الغرباء، بالعين النكراء، وأن تروح مطمح أنظار السخفاء، وملقى أبصار الأغفال السفهاء، وأن تظن غبياً، في حين لا تستطيع أن تكون ذكياً، وأن يصفق لذكائكن ويهتف لظرفك، على حين وثقت من غباوتك، وتبينت في نفسك برود نكتتك. وأن تدعي للمزاح، وما بك من مزاح، ويطلب إليك المجون وما بك من مجون. ويغرر بك. ليسخر منك، وأن تنطلق تطلب للناس الفرح، فتجر عليك أشد البغضاء، وتنبعث تبحث عن اللهو فتعود بأعظم الشحناء، وأن تمشي إلى الناس بالسرور. فيؤجروك شراً ويهمزوك حقداًز وأن ترهن أصباح آلام من أجل إمساء جنون، وتضيع فسحت زمانك، وخلوات أيامك، لتؤجر عليها نزراً من تصفيق. وقليلاً من أعجاب - تلك هي الأجور التي تنالها على مزاحك. والجعول التي تعطاها على موتك. ولكن الدهر. له ضربة صدق تنقض كل رابطة لا يمسكها إلا سبب مثل الخمر واه، كان أحنى عليّ من نفسي، وأعطف علي من حزمي، فرفع عني غطائي، فابصرت بأخلاق صحبي. وشاهدت خلالهم، فمضيت عنهم. وانصرفت عن ندواتهم. واحتجبت عن سمرهم. ولم يبق لهم عندي إثارة ود. ولا أثر عهد. إلا شروراً أخذتها عنهم. وإلا عادات تلقنتها منهم. ما برحوا على تلك الشرور متوفرين. وما زالوا بتلك العادات قائمين.

ولم ألبث أن كان لي أصحاب غيرهم. أناس أهل فضل مضمر ومشهود. وقدر باطن ومعدود. ولئن بدا لي أن تعرفي لهم قد كان شراً على وويلا. فلا أدري أن يقضي الله أن تعود حياتي سيرتها الأولى. هل استطيع أن أفر من أذى ودهم. متنازلاً عن مغانمه. مضيعاً مرابحه. لقد جئتهم يعلوني لهب أبخرة الصحبة الأولى. فكاد أقل وقود يدفعون به إلي كافياً لإشعال ناري. لأرود بها حالة أخرى. ولم يكونوا حلفاء مدام. ولا جلساء ندمان. بل كان فيهم إثنان بالتبغ مولعان. الأول من عادة لزمته. والآخر من عادة ورثها عن أبيه. وكأنما تخير الشيطان للموجع من ذنبه. التائب من إثمه. أحسن الأحاييل لأيقاعه. وأخدع الأشراك لاصطياده. وكأني كنت بانتقالي من تجرع كؤوس تلك النار السائلة. واشتفافي أقداحاً لها وعساسا. إلى نفخ ذوائب من دخان التبغ. أخدع الشيطان وأتغفله. وأكيد له وأماكره. ولكن الشيطان يظلم لنا إذا أردنا خلوصاً من شديد العقاب إلى خفيفه. ومن مبرح الألم إلى طفيفه. وأنه ليسعفنا إذا أردنا من آلامنا بديلاً. وإننا لنطلب الإنصراف عن منقصة لنا قديمة، إلى معجزة، فيكيل لنا الكيل كيلين. ويلزمنا منها ضعفين. وكذلك أقبل على شيطان التبغ. يسعى وراءه سبعة شياطين. كلهم ألعن منه. وكلهم أعظم شراً. ولولا أني أشفق من سأم القارئ. لتنقلت معه بين الحالات التي اعتدت. والعادات التي التزمت. من ولع بالتبغ والجعة. إلى تدرج في معاقرة خفيف الشراب. ومن أقبال على المشعشعة بالماء. الشديدة السورة. إلى شرب خمور ممزوجة تحتوي مقداراً كبراً من خمرة (العرق) أو من سم شبهها. وكنت أقل من مزاجها حتى صرت أجرعها صرفاً. بل أني لأعنت القراء. وأخشى أن أكون عندهم غير مصدق. لو قصصت عليهم فعل التبغ وتأثيره. وأنبأتهم باستسلامي لسلطانه. وذلتي لمفعوله. كيف أني وكنت أشعر بعد اعتزامي الخلاص منه. وإجماعي على الخروج عليه. أن في ذلك جحوداً لنعمته. وكفراناً بصداقته. وخيانة لعهده. وكيف كان يقبل علي يسألني حقاً ضيعته. ويمشي إلي يطلب وداً صرفته. وكيف كنت أنكب على إصرار الأسابيع على مقاومته. إذا التقيت بذكره اتفاقاً في رواية، أو قرأت له عرضاً وصفاً في كتاب، وكيف كان يتمثل لي بعد منتصف الليل خياله، ويتراءى

لي شبحه، ويلزمني حلمه، حتى ألجأ إلى تحقيقه، وأعمد إلى إرضائه، وكيف كان متصاعد دخانه، ولطف رائحته ولذات شربه، تنزع عني ألم غيابه. وتزيل عني برحاء عتابه، وكيف أشعر الآن وأنا أعترف بالقصة كلها، وأقر بحقائقها المروعة. أن بيني وبينه رابطة شديدة، وعلاقة ليس في وسع القلم وصفها. سيعرض على قولين كأنه صورة مبالغ فها، جماعة لم يعتادوا البحث في دواعي أفعالهم، ولم يشهدوا سلاسل العادة وأغلالها، ولم يرسفوا يوماً في أسار عادة غلابة، لا عاصم اليوم منها. وملا مهرب من أسرها. كتلك التي في أغلالها سلكت. وأنا اليوم من ويلاتها اعترفت. ولكن أين المفر. من أسر لم تجد فيه عظات الخلصاء. ولا عولات الزوج. ولم يغن عنه شقاء الحياة. ولا نكد الدنيا. بل كم من بائس. لم يكن نزاعاً بطبيعته إلى الشر. ولم يكن رغاباً بسجيته عن الخير. دفع به العادة إلى الكأس والغليون. شهدت صورة لكوريجيو. رسم فيها ثلاث نسوة وقفن أزاء رجل مقيد في جذع شجرة. أولاهن (اللذة) تعزبه وتبهجه. وثانيتهن (العادة) تسلكه في غصن الشجرة وتربطه. وثالثتهن (التوبة) تضع حية بجانبه. ويبدو على وجه الرجل بصيص من بهجة. ويظهر عليه انصراف إلى ذكرى الماضي عن الشعور بلذائذ الحاضر ومناعمه وابتهاج بالشر. واستخفاف بالخير. وتخنث أشبه بتخنث أهل صباريس. ورضى بالأسر. واختلال في الإرادة كاختلال أداة الساعة. وجمع بين اللذة والألم. وندامة بعد اقتراف. وتوبة ولا انصراف. فلما رأيت كل ذلك عجبت بمهارة المصور وحذاقته. ولكني رجعت فبكيت نفسي. وعدت فرثيت لحالي. لا أمل لي في تحول أمري. ولا رجاء عندي في انصراف بليتي. وقد اصبحت غريقاً في لج نكبتي. وأني لأصيح. لو يسمع الغريقُ النداء. بأولئك الذين وضعوا رجلهم في سيلها العرم. وألقوا بأنفهم في لجها المتقاذفز ولو شهد حالي ذلكم الشاب الذي لذته أول كأس علها. وارتاح لطعم أول خمرة ذاقها. فرأي كأن مناظر الحياة تجلت لعينيه، ومثلت أمام ناظريه، وأحس كأنه قد دخل جنة اكتشفها، وخطر في دروب روضة لقيها، ولو استطاع أن يفهم ألم السكير وعذابه، إذ يشعر بأنه مرتطم في هاوية سحيقةن

بعينين مبصرتين، وإرادة متخاذلة، ويرى الويل دافعاً إليه، ولا قوة له على رده على حين يعلم أنه محدثهن ويشهد روحه خلاء من الخير ونفسه قد ذهب عنا التقى، وهو لا يستطيع أن يتناسى زماناً كان قلبه بالخير فياضاً، وروحه بالتقوى مترعة. ولو رأى ذلكم الشاب عيناً لي محمومة، من أثر شراب الليلة الماضية، وشهد شوقاً بي إلى رجعها، وولعاً بعودها. وميلاً إلى تكرارها. ولو رأى جسمي المهزول. وسمع صحاتي وعولاتي. لما وسعه إلا أن يقذف بالكأس إلى الأرض. عزة وأباء. ورب قوم يعترضونني سائلين. إذا كنت هكذا تمتدح الرغب عن الخمر. وتريدنا على أن نفهم فهمك. ونرى رأيك. ونشعر بشعورك. وإذا كانت لذات العقل في سكونه. ومبهجة الرأس في هدوئه. خيراً من الاحتدام الذي تصف. والحرارة التي منها تتأوه. فما يمنعك أن ترجع إلى كراهيتك الخمر. وما ضرك أن تعود إلى رغبتك عنها. وإذا كانت النعمة تستحق الحرص عليها والاحتفاظ بها. فماذا يمسكك عن استردادها وماذا يؤخرك عن العود إلى احرازها؟ لى والله لو أنني بأمنيتي أعود إلى أيام الصبا. وزمان الشباب. أيام كانت نهلة من العين الصافية الصادرة. تكفي لشفاء غلتي. وإرواء ظمئي. هناك حيث شمس الصيف وملاعب الحداثة توقد الأجسامز وتحدث الغليل. أي ماء تلك العين. أي منهل الأطفال والزهاد. ما أشوقني إلى الرجوع إليك. وما أبهجني بالعل من نميرك. والنهل من سلسالك. أني لأتمثلك في أحلامي. وأتخيلك في علالات آمالي. وعذب ماءك يبرد لساني المحترقز وقلبي الصديانز وجوفي الملتهب. ولمعدتي المتيقظة في الأحلام تمجه. وفمي المتقد يعافه. ولكن أليس لك من سبيل قصد وطريق وسط بين جد الامتناع وهذا الإكثار القاتل؟ إليك أيها القارئ. حتى لا تبلغ يوماً إلى مثل حالتي. وحتى لا تخبر من هذه النكبة خبرتي. وتجرب من هذه البلية تجربتي. أسوق الحقيقة الهائلة. وهي أني لم أجد يوماً بين الحالتين طريقاً وسطاً! إن الإقلال من الشراب عن ذلك القدر الكافي لتهميد جسم السكير وإرسال النوم إلى عينيه. ذلكم النوم الذي يحكي الخمود في سكونه. لا يُغني عنه شيئاً. وأني أوثر أن يصدقني

القارئ على أن يدع معرفة ذلك إلى تجاربه. بل وف يعلم الحق إذا بلغ يوماً إلى تلك الحال التي يرى فيها أن التفكير لا يعوده إلا وهو منزوف نشوانز ولا تأتي إليه الخواطر سراعاً إلا وهو ثمل سكران. والحق المروع المخيف. هو أن الإدامن على الشراب ينقل المواهب العقليةز من دائرتها الطبيعيةز ويسلبها نشاطها. ويحرمها عملها. حتى لا تعمل إلا بمعاودته. ولا تسترد نشاطها إلا بمراجعته. وأن السكير ليفقد نفسه في ساع صحوهز ويتجرد عن روحه في أوقات أفاقه. وأن في الأذى لخيراً له. فأنظر في الآن أيها القارئ وأنا في غلواء الشباب. وروق العمر. قد عدت أبله ممروراً. ورحت ضارعاً مهزولاً. وأسمعني أعد الأرباح التي جنيتها من كؤوس الليل. والفوائد التي اكتسبتها من أقداح السحر. كنت منذ أثنتي عشر سنة صحيح العقل. سليم البدنز ولم أكن مرير القوى. بل أني لأظن أن جسمي كان في نجوة من الأمراض. ولم أكن أعرف الشراب ولا احتساءه. ولم أكن أعرف الخوان ولا أصحابه. أما الآن فلا يفارقني الألم. إلا إذا فقدت نفسي في بحر من الشراب. كنت في صيفي وشتائي أصحو من نومي. قبل أن تؤذن الساعة السادسة صبحاً. كنت أقوم ناعم البال. منتعش القوىز لا تكاد تغيب عني عذب الخواطر وبهيج الأفكار. ولا تكاد تفوتني نجوى لليوم الوليد. أو أنشودة للصبح المشرق. أو أغنية للضحى الساجي. واليوم أنفض عني ساعات الرقاد. وأنا ضائق الذرع باليوم المقبل. يسعى في أثره العناء. ويماشيه الجهد والشقاء. وأنا منتفخ السحر بمقدمه. أود لو أني أستطيع ملازمة الفراش. وأوثر أن يطول بي أمد الإغفاء. وأن لحياتي في اليقظة ما في مخيف الأحلام من متعبة وتردد واضطراب. وكأني في غداة اليوم أتعثر بربى مظلمة وجبال. أما في عملي. ولم يكن ملائماً طبيعتي جد الملاءمة. بل لحاجة ينبغي أن تنفذ. وضرورة يجب أن تنجز. بل يستعان على قضائها بالابتهاجز ويستنصر في إتمامها بالفرح. فقد اعتدت أن أبدأه في سآمة وتبرم. وأصبحت اليوم أجد فيه عناء. وألقي منه رهقاً. وأشهد

منه عسفاً وتكلفاً. وأستعين عليه في مخيلتي بأنواع التثبيط. وأعتصم منه بضروب التخاذل. بل أن أتفه مهمة يدفع بها إلىّ صديق. وأي واجب أريد أن أنجزه لنفسي. كتوصية تاجر بعمل يء، أو شبيه ذلك، ليتمثل لي عملاً شاقاً يستحيل عليّ إنجازه، وهكذا اختلت فيّ أداة العمل. ولقد صحبني هذا الجبنن ولازمني هذا الخور، حتى في معاملتي الناس ومواعدتهم، وحتى في معاهدتهم وموالاتهم، فلا أجسر أن أفي بعهد مسؤول، أو أصون ذماماً يجب أن يصان، أو أرعى آخية ينبغي لها أن ترعي، وهكذا مات سلطان الفضيلة فيّ. ولقد كانت لي في زمان التصابي منازع فتولت. وكانت لي في الأيام الماضية ميول فذهبت. وأصبحت لا يذل لي عمل. ولا يهون لدي شغل. بل أني لأجد في الأشتغال برهة من الوقت وصباً قاتلاً. ولقد كتبت هذا الاعتراف على مرات كثيرة. وفي فسحات طويلةز وعانيت في جميع شوارد خاطري عناء شديداً. بل أن تلك الشذرات الرائعة التي كنت أقرؤها في كتب التاريخ أو الروايات الشعرية فأبتهج برشاقتها. وأنعم بحلاوتها. لا تصادف مني الآن عبرة مهراقة. ودمعة متحذرة. ترسلها رقة عاطفة. ويجريها ضعف وكأني بطبيعتي المختلة المهملة تنزوي أمام كل عظيم. وتضؤل إزاء كل جليل. وأني لأنظر أبداً في بكاء ودموع لأي سبب أو لغير ما سبب. ولا أعلم ما تجمع هذه المنقصة من خجل. وما تدل عليه من تخاذل وضعف. تلكم بعض عوارضي وحوادثي. وإن أردتم إلا الحق قلت أنها لم تكن كذلك على الدوام أتريدون أن أبعد في رفع الحجاب المضروب بين ضعفي وبينكم. معشر القراء. أم بحسبكم هذه الخاتمة؟ أناني بائس. ومغمور شقيز لا يريد بإعترافاته فخراً. ولا ينشد القارئ. أن كان له فيها نصيب. أو رأى له فيها مساساً. لقد أنبأته بعقبى أمري. وخاتمة خمري. فليمتنع من ساعته. وليمسك ف حينه. ومن أنذر فقد أعذر.

كشكول البيان

كشكول البيان تفاريق علمية. وأدبية. وفكاهية. وتاريخية: ونظرات - في سير مشهوري العلماء. والمخترعين: وشذرات في أخبار العالم وأحداثه الحاضرة ألفرد رَسّل وُلَّس إن الحق. في عالم مثل عالمنا هذا. أنشأه خير غير محدود. وخلقته حكمة لا نهاية لها. هو عون الأفراد. وناصر الشعوب. وقوام الغني. وسناد المقل. وأن الباطل. إن عاجلاً. وإن آجلاً. عقباه الشقاء. وخاتمته الدمار. لقد كنا نعتصم طول القرن الماضي بالباطل. فجنينا - ولا نبرح نجني_الشقاء والدمار. وقد حان الوقت الذي يجمل بنا فيه أن نغير طرقنا الباطلة في أساسها. الظالمة في أصولها. السقيمة في مجموعها. الفرد رسل ولس كتب أحد أصدقاء فقيد انجلترة العظيم. بل فقيد العالم الإنساني. الدكتور الفرد رسل ولس. مقالاً شائقاً في مجلة المجلات الانجليزية. ألم فيه بعظمة الرجل. وترجمة حياته. والرسائل التي دارت بينه وبين دارون وكثيرين من أصدقائه العلماء. قال أن اسم دارون قد أخذ بين الأسماء الطائرة الذكر. التي زانت عصر فكتوريا المكانة الأولى. والمحل الأرفع. وهناك أسماء أخرى أنبه ذكرها. وأعلى مكانها. تيار مذهب النشوء. نخص بالذكر (لايل). الذي كان دارون وولس يركنان في أول أمرهما إلى مساعدته. ويسألان معونتهز وجالتون الذي ترك بعده أثراً باقياً. لتأسيس مجتمع جديد لا يبنيه إلا إنسان جديد. وهكسلي. المدافع عن مذهب دارونز الرافع شأنه. الذي لقبه دارون. بناصري الجليل. وهربرت سبنسر صاحب الفلسفة التركيبية التي يجدر بها أن تكون أثراً خالداً. ومعلماً أبدياً. ورب ذلك العقل المبتكر. والرأي المدبر. الذي لا يقارن بخصبه خصب. ولا يوازن بثروته ثراء. هؤلاء الأعلامز أهل العظمة المتألفة. والروعة المشرقة. هم قادة تلك الحركة المأثورة في تاريخ العالم. تلك الحركة التي بدأتها مجهودات لامارك وبافون وكثيرين غيرهما. لا تنسى آخر الدهر أسماؤهم. والذين مهدوا السبيل للمذاهب الطبيعية. وذللوا الطريق لاكتشاف أسباب النشوء والتطور وقوانينهما.

وأن من بين هؤلاء العلماء النابهين. والأعلام الذائعي الصيت. عظيماً لا يدانيه أحد في عظمة الشأنز ونعني به ألفرد رسل ولس. ولقد قال لي يوماً وهو يبتسم (أني أعيش في زمن قبل زمني. وجيل غير جيلي). ولقد انتهى بوفاته عصر الأبحاث في مذهب النشوء. دخل ولس المدرسة فلم تظهر فيها مواهبه الطبيعيةز ولم تتجل بين جدرانها عبقريته. فخرج منها واشتغل مساحاًز يقيس الأرض ويذرعها. وكان يقضي أوقات الفراغ في الاشتغال بعلم النبات. فلما شب عن الطوق. وصار رجلاً. ذهب إلى لندن. لا عمل له ولا صناعةز فكانت هذه النكبة داعياً له إلى اعتزام سفر بعيد. وباعثاً على اتخاذ خطة شاقة. وهي الرحيل إلى مجاهل الأمازون وغاباته. ليشهد الطبيعة ويخرج أسرارها. وليسعى على رزقه محتطباً. وقد قال بعد ذلك الحين بستين عاماً لقد كان بي ولع شديد وشوق كبير إلى معرفة أسرار المحسوسات وأسبابها، وغرام بالجمال في كل أشكاله وألوانه ولقد وجد لروحه شبيهاً في هنري والتربيتس وفي مذكرات دارون، وجيولوجية لايل. ورحلات همبولت. وآثار شامبر. فأخذ أسفارهم في جعبته. وبدأ طوافه وتجوابه في مجاهل الأمازون وأجمه. ثم في جزر الملايو الهندية. بعيداً عن المدنية وروائها. ماثلاً في كل حين بين أيدي الطبيعة وجلالها. مراقباً عجيب تغيراتها وغريب أحوالها. شاهداً مثل دارون. وهو مبتهج طروب. حال الهمج وطبائع الوحشيين. في صفائها وطهرها. سكان الكهوف. وأهل غاب الأمازون. نائماً بين الأحراش والأدغال. جامعاً عدداً كبيراً من الفراش والخنافس والأطيارز وعلماً أكبر وأوسع لم يسبقه إليه أحد. فكان منه مثل دارون عالم طبيعي مبتكر. وكان ذلك أساس حياته وأعماله. هناك جمع الحقائق التي تجلت له. والتي وضع بها سفره الرائع في فائدة الألوان في حماية الحشرات والطيور والحيوان من التلاشي والفناء. وهناك بدأ ذلك البحث الذي أدى به إلى وضع كتاب في توزيع الحيوان والنبات الجغرافي. وهناك في تلك الأصقاع النائية رأى الطبيعة في أبهى مناظرها. وأروع محاسنها وأجمل معالمها. هناك حيث لا يكاد ينفذ إلى وارف ظلال الغاب. ومظلم أفياء الأجم أشعة الشمس الحارة. حيث الشجر باسقة أفنائه. فارعة أغصانه. وأن منها لما يطول كأنه العمد الممدة. وأن منها لما يبلغ مائة من الأقدام.

ولا فروع له مهصورة. ولا صون له متأودة. . . . . حيث تخلق أغرب الطيور. وتدب لطف الحشرات، وتزحف الأفاعي وذوات الأثدية. وتعدو في أكماتها الأثمار. وتنساب في مسارحها العاصرات من البوّاء. هناك عند وريف الظل كان يسمع ولس تغريد الأطيار. وفي أثناء رحلاته. تفرغ إلى التفكير في موضوع نشوء الأنواع. وفي سنة 1855 كتب ولس مقالاً في (القانون الذي به تتولد الأنواع الجديدة) وبعد ذلك بثلاثة أعوام ظهر مقاله الطنان الذي قرن أسمه باسم دارون. وجعله شريكه في اكشاف نظرية الانتخاب الطبيعي. أما أصل مذهب (نشوء الأنواع) فيظهر أن دارون سبق ولس إلى إعلانه. وإن كان اسم الثاني يجب أن لا ينسى إذا ذكر ذلك المذهب. وقد كتب دارون إلى هوكر لقد عزمت على أن أجمع على غير هدى كل حقيقة تدور حول الأنواع وسرها. . . . . . وقد اهتديت أخيراً إلى بصيص من النور. وأكاد أوقن (وفي ذلك مناقضة لما كتبت في مطلع الخطاب) أن الأنواع قابلة للتغير (وكأن اعترافي هذا اعتراف بجريمة قتل). . . . . . . . وأظنني قد اكتشفت الطريقة السهلة في تذليل الأنواع إلى مقاصد كثيرة. هكذا تجلى سحر الحق على دارون، فكتب ما كتب. وصرح إلى هوكر ولايل ما صرح. وحوال ذلك الحين. كان ولس في غابات (ترنات) البكر. قد أدنفته حمى الملاريا. وأوهنت جسمه. ولكنه كان يفكر في نفس الموضوعز ثم سطع عليه نور الحقيقةز فلم تكد تذهب عنه الحمى قليلاً. حتى كتب مقالة إلى دارون في شأن الموضوع. وقد قال دارون بعد قراءتها أن هذه المقالة في جلاء معانيها. وأوضح مراميها. تحوي تماماً ما كتبت أنا في مقالي. ولو كانت عند ولس مسوداتي المكتوبة في سنة 1842 لما استطاع أن يخرج منها مختصراً أحسن من مختصره. وأن اصطلاحاته ليست الآن إلا رؤوساً لموضوعاتي وعناوين لفصولي. إذن فسيضيع ابتكاري هباءً منثوراً. وقد سبقت إلى اكتشافي جد السبق وأن سلوك الرجلين لهو مثال واضح ودليل جلي على ما سمي بعد ذلك (تلك الفضيلة السامية. وذلك الكرم العالي والسماحة الكبيرة. التي لن يضعف أبد الدهر وقعها من نفوس الناس). كتب ولس إلى دارون يقول أما عن النظرية فأني سأكفل دائماً أن تكون لك. ولك وحدك. .

وكل ما استحق من الفضل هو أني كنت الوسيلة التي جعلتك تكتب وتبادر بطبعها. فكتب دارون إلى العالم الطبيعي هنري بيتس، صديق ولس الحميم. يقول ما أجمل العقل الفلسفي الذي يحمل صديقك ولس. لقد فعل من جهتي ما يفعله الرجل الصادق ذو الروح النبيلة. تلكم شذرة من تلك القصة العطرة التي لم أذكر منها لا لمعاً. أما الرجلان في نفسهما فقد كانا أعظم شأناً من نظرية النشوء والارتقاء التي أنارت العالم بهديها. وأشرقت على الدنيا بنورها. ولم يحدث بينهما في مدى السنين التي عرف كل فيها صاحبه أدنى ظل للتنافس أو الحقد. وقد كان كل منهما على جانب عظيم من ذلكم الهدوء الذي يكسبه العلم الصحيح. ويورثه التوفر على الحق وخدمته لذاته. على حين أصبح الحق يخاف عليه أن يضيع في هذا العصر اللجب. ويفقد في هذا الجيل المتحاسد المحموم. فلما فرغ من رحلاته وجولاته، تزوج في سنة 1866 من ابنة المستر ميتن. ذلك العالم النباتي المشهور. وبدأ بذلك تلك الحياة المنزلية الناعمة. وخلالى الكتابة. وفرغ إلى البحث. ولعل القارئ يلذه أن يرى شيئاً من حياة ولس اليومية في مدى العشر سنين الأخيرة من عيني أبنته. قالت. كان ينهض من نومه الساعة الثامنةز فيتناول طعام الافطار في مكتبه وحده. وطعام أفطاره لا يزيد عن فنجان من الشاي وشيء من الكاكاو. وكان يصنعه بيده. ثم يأخذ في قراءة الصحف. فإذا فرغ من ذلك. ذهب إلى الحديقة ليتعهد شجيراته. ويرى نجماً له يكون مهتماً به في ذلك الحين ثم يكتب عادة الرسائل أو يشتغل بكتاب له يريد أن يتمه. وفي الساعة الحادية عشر أو منتصفها يشرب ماءً ساخناً. ثم يعقبه ببرتقالة. وكان يحب البرتقال حباً جماً. وبعد ذلك يخرج إلى الحديقة. ويزور نباتاته الخصوصية. ولا يتناول طعامه التام إلا عند الساعة الواحدة. وهو يتركب من قطعة من اللحم البقري. يقطعها نتفاً صغيرة. ولم يكن يأكل الخبز ولا الخضر، بل كان يؤثر الفاكهة. وكان يلذ تلامذتي مرآه وهو يأكل اللحم بالموز والبرتقال. وكان يستريح بعد الغذاء حتى الساعة الثالثة. فإذا نهض جال جولة أخرى في الحديقة. وإن زارنا زائر قابله.

وفي الساعة الرابعة والنصف يتناول الشاي. وكان يصنعه كذلك بيده. ولا يأكل شيئاً. وكان يتناوله في مكتبه عادة. إلا إذا زارنا أصدقاء لنا مقربون. أو جاء لزيارته من يحب رؤيته. فقد كان يأتي إلى قاعة الاستقبال. وكان دائماً في استعداد للقاء الناس في ذلك الوقت من النهار. وإذا لذه الحديث. ووجد في محاضرة الزوار روحه وسروره. لم يأبه للوقت مهما أقاموا. فإن لم يكن هناك أضياف. أخذ في أي عمل له حتى الساعة السابعة ونصف مساءً وهو موعد العشاء. والطعام خفيف. شيء من الأرز والفاكهة المعتادة. ثم يشرب ماء سخناً ممزوجاً بعصير البرتقال. وقدر (ملعقة) من خفيف النبيذ. وبعد العشاء يعمد إلى قراءة رواية. ولا يقرأ في غير ذلك الوقت. وكان يؤثر في اختياره الروايات التي تدور حوادثها حول المنزل والأسرة. ولكنه كان يحب أيضاً الروايات التي تحوي الغرائب والمخاطر. وكان يأوي إلى فراشه بين العاشرة والحادية عشر. وهذا نظام أغلب أيامه. ولكنها لا تخلو بطبيعة الحال من تغير واختلاف. ففي بعض الأحيان كان يشتغل أكثر من عادته. ولا سيما إذا كان يضع كتاباً له. وفي أوقات أخر. إذا لم يكن عنده ما يكتبه. يجعل كل همه في العناية بنباتاته. يغير أمكنتها. أو يبذر بذورها ولقد ذكا لديه مئات من أنواع النبات. كانت تبعث بذورها إليه من جميع أنحاء العالم وأرجائه. وكان طول حياته مستقلاً. معتمداً على نفسه. يصنع كل شيء لنفسه بنفسه. يقرأ ولا يقرأ عليه. وكان يكتب رسائله بيده. ولم يستعن فيها بعون أحد. لا في أخريات أيامه. وكان نشيطاً. يتخطى المقاعد ليرفع ما سقط من الكتب. ويمشي بخطوات واسعة. ولساقه اليمنى هزة خاصة. وكان يحتذي في جولاته في الحديقة أحذية طويلة. خشبية الكعب. يبلغ طولها ثلاثة عشر (بوصة). وأن الإنسان ليعجب له كيف كان يمشي بها. وكان المشي في أوليات أيامه أحدى مباهجه. وكثيراً ما خرجنا جميعاً إلى الرياضة وترويح النفس طول اليوم. ونأخذ معنا الطعام والزاد. كنا كلما كان لنا أيام عيد أو عطلة. نمشي معه كل يوم. نخبر الأقليم المجاور ونطوف بجنباته. ونجول بأرياضه. مهتدين بمصور جغرافي نأخذه معنا في جولاتنا. ولم يكن يخشى الجراثيم أو يرهب أذاها. بل كان يطلق عليها كلمة أي (كلام فارغ). حتى لقد كان يشرب أي ماء يبدو لعينه صافياً، لا أذى فيه ولا كدر، وأني لأذكر أنه

كان يحمل دائماً في جولاته قدحاً، ففي إحدى جولاته البهيجة التي لا أنسى أبداً ذكراها، وكنا نروح النفس في إحدى الغابات أخرج من جيبه أنبوبة من المطاط، وولى وجهه وأنا أتبعه شطر غدير كان على عدوة الطريق، وسألني أن أعل بواسطة أنبوبته من ماء ذلك الغدير، وإذا جرح لنا إصبع، ضمده بأوراق الطوابع. أما عن مزاياه العمومية. فقد كان أبداً مغتبطاً مبتهجاً. يظن بالحياة خيراً ويعلق عليها الآمال. وكان يكره مذهب التشاؤم. وأما عن معارفه وعلومه فكانت جعبته منها حافلة. حتى لقد كان يستطيع أن يتكلم في كل موضوع. وقد كان لنا دائرة معارف حية ممتعة تحبونا في كل شيء بالمعلومات الوافية الضافية. وكان يحب الطفل الصغار، وطالما استحثني على أن أعلم طفلاً أو طفلين. وإذا غاب الأطفال التلامذة. سألني إن كان أحد منهم مقبلاً. ولا أظنه كان يحب الحيوانات. ولكنه لم يكن يتأفف منها. ولم يكن ليعيرها كبير اهتمام. على أنه كان يسمح للهرة أن تجلس فوق مكتبه. ما دامت لا تقلقه. وكان يلتذ برؤية صغار القطط وهن يلعبن ويتداعبن. وكان بينهن قط عجوز. لا تجده في أغلب الآحايين إلا نائماً في حجرته الخصوصية بين القماطر والأسفار. نما عنده الدين جنباً لجنب مع الأسرةز وكان سراً كالحياة غامضاً. وأحسن اسم نطلقه على دينه هو قول كارليل العقيدة الطبيعية في وجود قوة خارقة للطبيعية وقد كتب إلى كاتب هذه الأسطر قبل وفاته بقليل يقول إن ذلك العقل المادي الذي كنت أحمله في زمان الصبا والشباب أخذ يتشكل في رفق ويتحول إلى أن صار الآن ذلك العقل الاشتراكي الروحاني. المؤمن. ذلك العقل الذي يظنه أصدقائي العلماء قد بلغ منه الضعف في متهدم العمر وأخذت منه البساطة حتى يعتقد أن الفاكهة والأزهار ومستأنس الحيوان وعظيم الطير والهوامز والصوف والقطن والسكر والمطاط. والمعادن واللآلى والدر. خلقت من قبل خلقنا وأنشئت لتهذيب الإنسان وتنعمه وقال في خطاب له آخر: أن القول بقوانين الطبيعة مع إنكار وجود كائن هناك يعمل ويدبر. قول هراء وكلم لا معنى لها. وسواء كان الحق المجهول كائناً فرداً يعمل في كل مكان من الكون بنفسه وهو الخالق والمنظم والمدبر لأدق حركة في العالم والعوالم الأخرى الممكنة أو يعمل. وهو ما أرى بواسطة طبقات لا تحصى من الكائنات. فالأمر في كلا

الرأيين. ولعل رأي هو الجلي المعقول. هو تعاليم الإنجيل وسويدنبرج وملتون وكان يدافع ويناضل قائلاً أن هناك قوة خارقة وعقلاً مدبراً. ومقصداً سامياً إلى خلق هذا العالم الحيواني المتسع. وإلى هذا التطور الذي تبعه من عهد خلقه. وذلكم المقصد هو ترقية الإنسان. وكان يعتقد إمكان مناجاة الأرواح. ويحتج بأن تكاثر الأدلة والشواهد على حدوث هذه المناجاة كاف لإقناع المكذبين. وكان يقول لمحاجيه وأخصامه المنكرين مذهب وجود قوة خارقة لقوى الطبيعة ما قاله كارليل إذا كنا لم نعلم بعد من فعل الطبيعة وأحوالها في هذا العالم الذي لا يكاد يكون جزءاً صغيراً من كوكب إلا العلم القليل. فمن يعلم ما وراء هذا الفعل من قوة أخرى يركن إليها ويسير بمشيئتها. ومن يعلم ما تدور حوله هذه الدائرة من دوائر لا تعد ولا تحصى؟ يجوز للسمكة أن تعلم كل حصاة. وكل ركن. وكل ضرب من الأسماك. ولكن هل تفهم هذه السمكة الصغيرة مدالاوقيانوس وجزرهز ولججه وتياراته المنتظمة والرياح التجارية. وأرواح المونسون وخسوف القمر. تلكم الأحوال التي بها تنتظم حال كل جزيرة في الأقيانوس الخضم. ومنها تتغير في كل حين وتنعكس. مثل تلكم السمكة الصغيرة هو الإنسان. ومثل هذه الجزيرة كوكبه الأرض ومستقره. وما أوقيانوسه إلا الكون الذي لا يقاس ولا يحد. وما رياحه وتياراته إلا أقدار العناية الآلهية الرهيبة من آباد الآباد على أن العلم والدين لم يستنفدا كل ميوله. ولم يستبدا بكل معارفه. بل شغل في أعوامه الأخيرة بأرائه الاشتراكية وكأنما كان يكتبها وقد أبدى هذه الآراء في كثير من مقالاته نخص بالذكر الكتاب الأخير الذي وضعه في الوسط الاجتماعي والتقدم الأخلاقي وقد حمل فيه على الوسط الاجتماعي الحاضر. وأظهر في نقائضه وعيوبه. وأثبت فيه بالأدلة الجائزة أن أخلاق الإنسان وأحواله الملازمة له عقلية كانت أو نفسية أو أدبية. هي ملاصقة له من يوم مولده. وأنها نهرضة للتغير قابلة للتحول. ويختلف تغيرها في الأشخاص. ومن السهل تهذيبها بتأثير الرأي العام. ونفوذ التربية. بما أنها ليست وراثة فمن ثم لا ترتقى الأخلاق ولا تهذب الآداب. إلا إذا كان هناك قوة انتخابية أو مشتركة تساعد على رقيها. وقال إن التاريخ يدل على أن ازدياد الثروة ووفرة الخيرات لم يراع في تقسيمها العدل.

وصرح بأن أول واجب على الحكومة الراقية هو أن تعمل على جعل الجميع يتساوون في الانتفاع بثمرات العمل. وأن تسارع إلى منع تفشي الموت جوعاً. وانتشار الأمراض الناتجة من الإقامة بالمساكن المضرة بالصحة ومن الأشتغال بالأعمال الخطرة. وكان يرى رأي كارليل وهو أن الظلم يعقب خسارة فادحة (بفوائد) باهظة. وإلى القراء خاتمة الجملة التي حملها على المجتمع الانجليزي ونقد بهاز قال: إذا اعتددنا بهذا الحقائق المترادفة المتعددة الصادقة، وكثير منها هائل مخيف حتى لا تمكن المبالغة فيه. كان لنا أن نقول أن نظام مجتمعنا فاسد من عاليه إلى سافله. وأن الوسط الحاضر في مجموعه هو أسوأ الأوساط الاجتماعية التي رآها العالم. وأنجع دواء يراه الدكتور ولس هو أن النظام الحاضر يجب أن ينقض ويغير. إذ يجب أولاً - أن يكون هناك تعاون عام بدلاً من هذا التنافس العام،_وثانياً_أن يعتاض عن هذا النظام الاقتصادي العدائي بنظام اقتصادي أخوي. وثالثاً أن تعطي الحرية لاشتراك الجميع في الأرض وفي رأس المال. وأخيراً. أن ينعم الجميع بالمساواة في فرص العمل أو في أملاك الحكومة المودعة عندها على ذمة الشعب. ويقول الدكتور ولس: نحن أنفسنا الذين أنشأنا وسطاً اجتماعياً مجرماً فاسداً. فلكي نمنع نتائجه اللازمة يجب أن نعكس وجوه النظام الحاضر. ينبغي أن يكون كل إصلاح اجتماعي نبديه أو قانون اقتصادي نسنه على نقيض أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية الحاضرة. كذلك كان ولس عالماً بيولوجياً طبيعياً جغرافياً اجتماعياً وكان كذلك على علم بالعلوم الفلكية. فتراه في كتاب له محللاً رأي العالم الفلكي لويل في إمكان وجود سكان في عطارد. ومركز الإنسان والأرض من الكون، وفي سفر له آخر باحثاً عن نتائج التطعيم. ثم في التنويم المغناطيسي، وكان له به معرفة واسعة، ثم تراه شاغلاً وقتاً من زمنه في إعادة النظر في ذلك المذهب الذي أبت عليه سماحته إلا أن يسميه (الدارونية)، وكان يصح أن يدعى (الولسية)، وفي كتاب آخر باحثاً في (علم التقليد المجوني) وتشهده بعد ذلك باحثاً في شؤون القرن التاسع عشر وغرائبه، وقد استعان أخيراً بك معلوماته ومعارفه ومعتقدات وجدانه على الدفاع عن الموجعين والمناضلة عن البائسين المظلومين ولقد يصح أن يكون شعاره تلك الكلمة المأثورة التي جاءت في مذكرات سلى وهى لا يثور الشعب حباً في القتل

والسلب. بل عجزاً عن احتمال العذاب والآلام. وكان ولس جريئاً مقداماً على ابداء آرائه وإظهار الحقائق التي تنكشف لهز مهما كانت نتائجها وعواقبها. وكان لجثمانه قوة روحه وسلامتها ولقد قالت زوجتي وكانت معي في إحدى زوراتي الأخيرة له لو نظرت إليه منذ بضعة أشهر لما صدقت أنه قد جاوز التسعين. وكان جميل الطلعة، مستوي القامة، مشرق المحيا، ثابت الخطا، وكان لرأسه الجميل وقد جلله المشيب، ولحيته البيضاء وقد تدلت إلى صدره، روعة وجلال. وكان يضع منظاراً أزرق لا تبدو من خلال زجاجه عيناه. وإذا تكلم بدت على معارف وجهه ابتسامة لا تغيب. وإذا جلس وضع رجلاً فوق رجل. وشبك يديه أمامه. وكانت نبرات صوته حلوة عذبة كالموسيقى. حتى ليستمع إلى الحديث جليسه وهو مقبل عليه مبتهج ويصغي وهو طروب إلى ذلك السيل المتدفق العذب. الذي لا يشوبه للضعف أثر. وكان قد بدأ يضع كتاباً جديداً ولكن عاجلته المنية فجأة. وكانت وفاته. وأن شئت فنومه الهادئ. في يوم الجمعة لسبع خلون من نوفمبر. بعد الساعة التاسعة من المساء بخمس وعشرين دقيقة. وهو في الواحد والتسعين. وشيعت جنازته يوم الإثنين العاشر من ذلك الشهر في لفيف من العلماء، وسار خلفه أبنه وأبنته وأخت زوجته. فأدرج في قبره في رفق وأسى. فلما كنا بالقبر وقوفاً ذهبت نفوسنا حسرات على زوجه المقيمة في البيت التي لن يعود إليها ذلكم الزوج العظيم آخر الدهر. وقد أخلي له في الكنيسة موضع بجانب قبر دارون. ولكن رغباته ورغبات أسرته لم تسمح بذلك. على أن زوار الكنيسة لم يلبثوا أن رأوا اسم ولس منقوشاً على وسام تحت صورة له في الجمعية الملوكية. وأخرى في متحف الصور. وإذا سمحت الميزانية أقيم له تمثال في متحف الآثار. وكذلك راح دارون وولس. كما كانا في الحياة. مرتبطين مصطحبين. وكذلك كانا من أبطال العالم في الحياة وفي الممات. تأثير الكحول على النسل

كلفت الحكومة الألمانية جماعة من العلماء بعمل مقارنة بين تأثير الكحول على نسل المدمنين السكيرين وبين تأثيره على المعتدلين. وقد أجرى العلماء أبحاثهم في الموضوع في عشر أسرات من كل فريق من الفريقين وخلصوا من بحثهم على أن نسبة الوفيات في الشهر الأول من حياة الأطفال الذين أدمن آباؤهم على الشراب وسكنوا إلى الكأس هي 43 في المائة، وثمانية في المائة عند أطفال المعتدلين وأن نسبة الأطفال الذين أصيبوا من مفعول الشراب في آبائهم بالعته والجنون 10 في المائة وبالصرع 8 وليس من بين أطفال شاربي الخمر إلا سبعة عشر في المائة تنمو مداركهم النمو العادي. معرض سان فرنسيسكو القادم سيقوم في ربيع سنة 1915 معرض دولي في سان فرنسيسكو سموه معرض بناما والباسيفيك (المحيط الهادئ) وقد تخيرت سان فرنسيسكو هذا الموعد وهو كما يعرف القراء موعد إتمام قناة بناما الواصلة بين المحيطين لتؤكد للناس مبلغ رقي الأمريكي وعظمته، وسيشترك في المعرض سبعة وعشرون شعباً وسيقام في بقعة فسيحة يبلغ طولها نحواً من خمسة كيلو مترات. شكسبير في نظر المقتطف يقول المقتطف في بضعة أسطر كتبها تقريظاً لرواية هنري الخامس تأليف أكبر شعراء الدراما وأنبغ نوابغ العالم ويليم شكسبير، تلك التي قررتها نظارة المعارف العمومية على طلبة البكالوريا في هذا العام، والتي عربها على نقتنا الكاتب المعروف محمد السباعي. (لم تكن لغة شكسبير حينما وضع رواياته من الفصاحة في شيء لكنها صارت عند الانكليز مقياس الفصاحة). ونحن فإنا نعجب للمقتطف كيف يعجل بكلمة مثل هذه لا تتفق مع الحقيقة في شيء، فضلاً عن أنها تناقض لم يكن ليفوت صاحبيه الفاضلين ومكانهما في الفضل والفلسفة مكانهما، والذي يدور الآن في خلدنا هو أن صاحبيه لم يشتغلا دهرهما بروايات شكسبير، بل استنفدت الفلسفة كل أوقاتهما، فكان حظ شكسبير من المقتطف حظ مواطنه الكاتب الحكيم توماس كارليل صاحب كتاب الأبطال الذي عربناه إلى العربية وكتب المقتطف عنه في حينه وانتقصه إذ ذاك، ولو نحن أقدمنا على ترجمة أصل الأنواع لشارلز دارون لأشفقنا

من تقريظ المقتطف وخفنا على داروين من أن يقول رصيفنا المقتطف أنه ليس من العلم في شيء وأن كتابه (أصل الأنواع) لم يكن له أدنى أثر في الفلسفة الطبيعية، ولو خطر لنا أن ننقل كتاب رسل ولس في الانتخاب الطبيعي لما ظفر ولس من المقتطف بكلمة مديح. يقول المقتطف أن لغة شكسبير لم تكن في شيء من الفصاحة ويخال لنا أن المقتطف لم يقرأ شيئاً عما كتب الانجليز عن أسلوب شكسبيرن ولم يفرغ للبحث في أدبه، كما يظهر من كلمته المخالفة للحقيقة فإن شكسبير كان على علم قليل باللغة اللاتينية، ومعرفة أقل باللغة اليونانية، ولكنه كان حافل الجعبة من الانجليزية وقد استعمل 15000 كلمة وكان يكتب بالانجليزية الصميمة الصحيحة ففي كل خمسة أفعال أو ظروف أو أسماء أربع منها (تيوتونية). وإذا كانت لغة شكسبير ليست من الفصاحة في شيء، كما يقول المقتطف، فكيف يجوز لها أن تصبح بعد ذلك مقياساً للفصاحة؟ وإذا صح قوله أن لغة شكسبير أصبحت مقياساً للفصاحة لكان يكون إذا أراد الكاتب العصري من الانجليز أن يروح بين جيله فصيحاً فليس عليه إلا أن ينحو منحى شكسبير ويقلد أسلوبه ولغته؟ وهل لغة الكاتبين العصريين المشهورين، ويلز وتشترتون تتفق مع لغة شكسبير؟ نحن نعلم أن في روايات شكسبير كلمات كثيرة لها معان مخالفة لمعانيها اليوم، ولكننا لا نتصور أن ما يكون بالأمس غير فصيح يصبح اليوم وهو الحد الذي تقاس به كل فصاحة! هذه كلمتنا نسوقها إلى المقتطف حتى يتثبت مما يكتب، وحتى لا يعجل في أمره فيكتب كما شاء القلم وشاء له الهوى. اللغة العربية والزراعة للفاضل أحمد أفندي الألفي (تابع لما في الجزء 5 و 6 و 7) النجل والنز والأمدان النجل الماء المستنقع. والنز الذي يتحلب من الأرض. يقال استنجل المكان كثر فيه النجل

- أي النز ويقال استنقع الماء أصفر وتغير من ركوده في الأرض. النز - ما يتحلب من الأرض من الماء يقال نز المكان صار ذا نز ويقال للأرض السبخة النشاشة ذات ملح ونز. الأمدَّان - هو الماء الناقع في السبخة خاصة. ويعرف من ذلك أن النجل أو النز هو ما يعبرون عنه الآن بالماء السفلي أو ماء الطبقة السفلية أو الماء الأرضي أو ماء تحت الأرض أو الرطوبة الراكدة في الأرض التي تصيرها غمتة والمختار عندي لفظ النز لأنه أعرف وأكثر استعمالاً. الغمر الغمر ماء الأرض والماء الغمر هو الماء الكثير ومعلوم في فن الزراعة أن الماء الأرضي نوعان الأول هو النز الذي تنشأ منه عماتة الأرض كما مرّ بيانه والثاني أعمق من الأول ولا ينشأ منه ضرر للأرض ويسمونه الآن بالماء الأرضي العميق أو الأعمق. وعندي أن لفظ الغمر ينطبق عليه فهو أحسن لفظ يستعمل له. الماء الخاثر ماء خاثر أي كثير الطين (كمياه النيل أبان الفيضان) ويعبر عنها في العرف وغيره بالمياه الحمراء أو العكرة وفي اللغة أن تقانة الماء خثورته وتقنوا أرضهم أرسلوا فيها الماء الخاثر لتجود كما يقال في العرف (نيلوا الأرض أي أصلحوها بماء النيل أو التنييل) السيح: الماء الجاري على وجه الأرض. العين: الماء الجاري من العيون. الآبار المنبثقة هي ما يسمونه الآن بالآبار الارتوازية خطأ أو الآبار المتفجرةولا أدري أخطأ مشهور خير أم صواب مهجور؟؟ البعل من الزرع: ما شرب بعروته (أي بجذيراته) من الأرض من غير سماء (أي من غير مطر) ولا شقي وهو ما يعرف في العرف الزراعي بالزراعة البعلية في أرض الملق أي حياض الصعيد. المسقوى من الزرع - ماسقي بالماء وهو ما يعرف في هذا العرف بالزراعة المسقاوي

العفر - أول سقية يسقاها الزرع بعد بذر الحب مباشرة ومنه (زراعة العفير) إحدى طرق الزراعة المعروفة في زراعة الحبوب وهي المقابلة لزراعة التخضير. السد - الردم لسد الماء. الرصف - السد المبني للماء وأيضاً الحجارة المرصوف بعضها ببعض في مسيل الماء المنزفة - الشادوف. وقد وهم معربو كتاب الزراعة المصرية فحسبوه (الدالية) وليست هي إياه (راجع المخصص). المحوض - ما يصنع حول الشجرة كالشربة لسقيتها. الأخدود - الحفر المستطيلة في الأرض ج أخاديد وتوجد الأخاديد بكثرة في أراضي الملق التنبيث. التطهير (أي ما يعرف في العرف بتطهير الترع ونحوها) يقال نبث النهر استحدث حفره والنبائث التراب المستخرج الملقى على شط النهر. الزريعة. التقاوى سواء كانت حباً أو غيره. البذر البزركل حب يزرع أو يبذر المحفر: آلة الحفر المعروفة في العرف بالكريك. المسحاة - هي الفأس. المعزقة - أو المعزق فاس العزق خاصة فهي أخص من الفاس. العزاقة - آلة العزق - إحدى الآلات المستحدثة. أرض مبكار - أي معجلة بالنبات وضدها الأرض المئخار. كدت الأرض - كدوا أبطأ نباتها أو قل يقال كدأ الزرع ساء نبته ونبت كدى قليل الريع الأرض الموات - وهي التي لم تعمر ولم تزرع بعد. إحياؤها - أي عمارتها وإصلاحها. (للحديث بقية) العقائد القديمة والحديثة في الصين يقول أهل الغرب أن السببأكبرقدم المدنية الغربية هو انقراض سلطة الكنيسة، وإن كان الذين يريدون أن يهموا من أنفسهم معنى الأديان يزيدون في كل يوم عدداً وتأثيراً فلا يصح للكنيسة بعد ذلك أن تدعي أنها تهدي القلوب الراغبة في الأيمان، ثم يقولون أن الصين

واليابان في حاجة إلى الانتفاع بتأثير الشعور الديني في تحقيق تقدمهم، ولكن بينا ترى اليابان تحاول أن تدين بشيء من المسيحية، إذ بك تجد الصين تجتهد في إحياء الدين القديم، إذ يرجع أهل الصين الآن إلى عبادة كونفوشيوس، والغرض من ذلك أن يربطوا الأقاليم المختلفة برباط وثيق من النزعة الدينية، ولئن كان تأثير ذلك المعلم الديني قد ضعف في خلال القرن الماضي، فلم يصر بعد عند أهل الصين نسياً منسيا، كما يشهد بذلك الاحتفال الذي أقاموه يوم عيد ميلاده الأخير، وكان في السابع والعشرين من شهر سبتمبر الماضي وقد كتبت قبل يوم العيد نشرة عامة بعثت إلى كل حكام الأقاليم وضمنت كل فضائل كونفوشيوس، وكان العزم أن تقدم هذه النشرة لقضاة البلاد ليقدموها إلى الجمهور، وبذلك تتمهد السبيل لكونفوشيوس فيصبح قائد الجمهورية الصينية الحديثة، ورجال حزب الصين الفتاة يرون أن البلاد في حاجة ماسة إلى قائد يحكمها أو دين يهديها. وإن هذه الحاجة يجوز أن تسد بإحياء دين كونفوشيوس. ولكن في شكل حديث. وقد أقيمت لكونفوشيوس في كثير من بلاد الصين الاحتفالات وأنشدت الأناشيد مما يجعلنا نتوقع أن نهضة الصين ستكون في بادئ أمرها دينية. ثم تنقلب بعدها إلى نهضة سياسية. ولكن من ذا الذي يعلم نتيجة الرجوع إلى دين كونفوشيوس؟ الآي آي إن الحيوان الذي ترى أمامك صورته هو من حيوانات جزيرة مدغشقر الإفريقية، وهو أحط أنواع فصيلة القردة وأشدها اختلافاً عن بقية الأنواع، ولقد جاء الانجليز به إلى نجلترة ووضعوه في حدائق الحيوان، فلم يعش طويلاً. وقد كتب كاتب يصفه قال: رأسه أشبه من القرد بالدب، وذنبه غزير الشعر جثله، يحكي ذنب الذئب، وأسنانه الأمامية كبيرة الحجم حادة الطرف كأسنان الفأرة، وقدماه كأقدام القردة، لأن للأصبع الكبير ظفراً مسطحاً، يخالف الأصابع الأخرى ولها أظلاف طوال، وأما الأصبع الأوسط فنهاية في الطول والرفع، ويقولون أن الحيوان يستخدمه في إخراج الحشرات والديدان من أصول الشجر. ويقول ثقة أنه يستخدمه أيضاً إذا قدم إليه طعام سائل. إذ يدني شفتيه من السائل المقدم إليه. ويدخل هذا الأصبع في فمه ويضعه خلف أسنانه. ويجعل يقدمه ويؤخره كلما ارتشف من الماء. وكذلك يفعل في أكل البيض.

ويقول الكاتب أنه لا ينفع في حدائق الحيوان. لأنه يقضي طول النهار في زاوية مظلمة من قفصه. ولا يخرج منه إلا إذا اشتدت ظلمة الليل. فكاهة أراد صاحب مطعم أن يداعب ماركوني مخترع التلغراف اللاسلكي. وقد جاء إلى مطعمه لتناول العشاء. فكتب في قائمة الأصناف التي أكلها بدلاً من (فصولية خضرة بالزبدة) فصولية خضرة ماركوني فلما قرأها المخترع سأله لم فعلت ذاك. مع أن الفصولية من النوع الفرنساوي المعروف فسأله صاحب المطعم وهل كان فيها شيء من الخيوط؟ قال لم يكن فيها أدنى خيط ثم ضحك الرجل وقال أذن فنسميها الفصولية اللاسلكية وإن شئت قلنا فصولية ماركوني! فابتسم ماركوني وابتسم الرجل. فكاهة حدث أن الصحف الانجليزية نعت كذباً وفاة رجل. فلما وقعت في يده الصحيفة وقرأ المنعي أسرع إلى مكتب التلغراف فأرسل إلى زوجته تلغرافاً في الحال يقول فيه لا أزال على قيد الحياة. فلا تتزوجي! الفلسفة الساذجة كم في حدائق الأدب من زهور. ولكن كم من هذه الزهور نراه رقيق الغلالة بديع اللون طيب الشذى. وهو القاتل السام. هل تظن أن من الفلسفة في شيء قول فوفينارج يولد الناس كلهم أوفياء. ويموتون جميعاً خونة غادرين أو قول سافارين قل لي ماذا تأكل أنيئك من أنت أوكلمة ميرابو أقتل ضميرك. فهو أعدى عدوك. إن طلبت النجاح أو كلمة جيلرت (من يح رذيلة. وقع في حب الرذائل جميعها) أو قول شاملور إن الطمع يتغلب على الارواح الصغيرة أكثر من تغلبه على الأرواح الكبيرة. كالنار تأكل سقوف الأكواخ أكثر من سقوف القصور أو كلمة باسكال (في الروح العظيمة كل شيء عظيم) أو أغنية الشاعر بونستد (كل عين دعجاء خداعةز. وكل عين ظمياء فاسقة خوانة. أما

العين الزرقاء فدليل الطاعة!) واسمع ما جاء من المتناقضات يقول ليسنج (الحياء في العظماء) ويقول جوت (الحياء في المجرمين) ويقول جان بول (الحي من خجل إذا أنب قبل أن يخجل إذا مدح)

أخبار وحوادث

أخبار وحوادث عيد الجلوس الخديوي احتفلت الأمة المصرية قاطبة في اليوم الثامن من هذا الشهر بعيد مشهود في تاريخ سعادتها وتقدمها. وذكرى يوم بدأت منه تسير في سبيل الرقي بخطوات واسعة. ذلكم هو عيد جلوس مولانا سمو الجناب العالي الخديوي الحاج عباس حلمي الثاني - حرسه الله وأبقاه_على أريكة كنانة الله في أرضه. وسننشر صورة سموه الكريمة متيمنين في مستهل عامنا الثالث ونكتب عن عهده الخصيب وأيامه الزاهرة. جورج أبيض وجوقته عاد من البلاد السورية بعد غياب أشهر عدة الممثل النابغة الكبير جورج أبيض وسيبدأ التمثيل في الأوبرا الخديوية أوائل مارس وقد بدأ في هذه الأيام بتمثيل رواية نابوليون في مرسح برنتانيا وهي رواية شائقة جليلة الموضوع تدور حول المؤامرات التي كان يعقدها الملكيون لقتل نابوليون أيام القنصل الأول. وكان أفراد الجوقة وكلهم من الممثلين الأكفاء يمثلون أدوارهم في غاية من الدقة والافتتان وكان الأستاذ جورج أبيض يمثل دور نابوليون وقد تجلى فيه آية في الإبداع. وكانت حركاته التمثيلية غاية في المهارة والإتقان، ولهجته نهاية في التأثير. وقد كانت الجوقة في هذه الرواية موضوع أعجاب الحضور، ونحن نشكر للأستاذ جورج أبيض عنايته بانتقاء القديرين من الممثلين. واهتمامه الكبير بترقية فن الدراما في مصر. ونرجو أن يتخير أيضاً الأكفاء من المعربين حتى ينهض التمثيل على يديه بجملته. وتلازم الأساليب السهلة الراقية الصناعة التمثيلية العالية. وندعو المصريين جميعاً إلى أن يقبلوا الإقبال كله على روايات ممثلنا النابغة وأن يكبروا شأن التمثيل. فليست النهضة التمثيلية بأقل شأناً من النهضة العلمية أو النهضة الأدبية أو غيرهما من النهضات النافعة. وليست دار التمثيل بأقل خدمة للشعب من المعهد أو المدرسة. وليست الروايات التمثيلية إلا محاضرات عالية يقدمها الممثل لتزكية أفراد الشعب بأجمعه. وأن الإقبال على الدراما الراقية دليل على أن الأمة متنبهة تطلب الرقي من مصادره وتبحث عن منفعتها من مكانها.

هذه كلمة مجملة اليوم وسنعود إلى تفصيل الكلام على الأستاذ جورج أبيض وترجمة حياته ورواياته ونشر صورته في الأعداد القادمة. علي باشا أبو الفتوح ليس الموت هو الذي يخيف ويفزعن بل هي اشراكه وحبائله. بل إن غمرات الموت وسكراته، وعويل الخلصاء، وبكاء الأقارب، والأثواب الغدافية، والمناعي والمناحات. هي التي ترينا الموت رائعاً هائلاً. وإذا كنا لا نرهب الموت ولا نخاف وقعه، فإننا نأسي على الذين يختطفهم الموت، وهم ركن شديد لنا، وحمى منيع لدينا، بل كم من مئات من الناس يموتون في اليوم الواحد، لا يبكي الشعب عليهم، ولا يعلم عن موتهم إلا أرقاماً في الإحصائيات الأسبوعية، وكم في الأحياء من ألوف يحسبون في التعداد، وما كان أحق أن تحتويهم جداول الموتى، وكأني بالموت لا تخدعه الكثرة، ولا يغره العديد، وإلا لما رأيت الجيوش تعود من الميدان بكتائب منها، بل كم من جندي ثابت اللقاء راح في المعمعة قتيلاً، على حين عاد منها إلا كتع الهيابة يبتهج بالنصر، ويلهو بالظفر، وإلا لما رأيت العظيم ينتشل من بين شعبه وفيه الآلوف من الرذالة والغوغاء الذين يحسبون إلى شعبهم بموتهم. وإذا كان في حياة العظيم فرح أمته وابتهاجها، فإن في موته أسى لها يزيد على قدر ذلك الفرح، لأن الأسى على العظمة المفقودة أشد من الفرح بالعظمة الموجودة، وإذا كان الفرد يبتئس بموت صديقه النافع، فما بالك بأسى مجموع الشعب على صديقه القائم على خدمته ونصرته. تلك كلمة جالت بخاطرنا إذ ذكرنا فقيداً لنا اختطفته المنية من بيننا في الشهر المنصرم، وإذ ذكرنا فقده شهماً لا يهم بأمر إلا أمضاه، ورجلاً جمع بين النبوغ الفطري، والعزمة الراسخة والعلم الواسع. وأنا لنذكره ما دامت مجلة البيان أنه الذي عني بها ولم تك بيننا وبينه صداقة مؤكدة ولا غير مؤكدة. إذ أرسل إلينا خطاباً دون سابقة عرفان بيننا يقول أنه قد قرر اشتراك نظارة المعارف العمومية في مجلدات من البيان. ولقد زرناه في النظارة قبل مرضه بأيام فاحتفل بنا ووعدنا أن سيكتب في البيان ويعطينا صورته. فخرجنا من لدته ونحن أعلم من قبل بنبوغه وفضله ووطنيته. وأنه الرجل الكبير الفذ الذي يقدر كل مشروع

مفيد قدرهز ذلكم هو فقيد الشعب المصري ألا سيف المرحوم علي أبو الفتوح باشا وكيل نظارة المعارف السابق. فلا حول ولا قوة بالله. . . الجمعية التشريعية كان موعد الانتخاب العام لأعضاء الجمعية التشريعية يوم السبت 13 ديسمبر الماضي وما كان المساء حتى عرف الناس أسماء بعض المنتخبين الذين كانت مصر تعلق على فوزهم في الانتخاب الأهمية الكبرى ومن ذلك الأعضاء النائبون عن القاهرة، ولم يكد يرتفع ضحى اليوم الثاني حتى عرف أغلب المنتخبين الفائزين وأجل انتخاب البعض ليوم إعادة الانتخاب، وقد أعيد الانتخاب فظفر به من ظفر، وسيكون افتتاح الجمعية التشريعية في اليوم الثاني والعشرين من هذا الشهر (يناير سنة 1914) وسيحضر النواب بالملابس الرسمية والنياشين. وقد نشرنا في الصحف أننا سنصدر عدداً خاصاً بحضرات الأعضاء وتراجم حياتهم ومبادئهم وآرائهم حتى يكون ككتاب خالد، وسيصدر في القريب العاجل إن شاء الله. التنقلات الإدارية في الحكومة حول ديوان عموم الأوقاف إلى نظارة وانتقلت شؤونه إلى أيدي الحكومة المصرية فسبب هذا التحويل تنقلات كثيرة في الإدارة فقلد وزارة الأوقاف سعادة الوزير العامل أحمد حشمت باشا وحل محله في وزارة المعارف سعادة أحمد حلمي باشا وقد كان ناظراً للمالية وأصبح على وزارة المالية سعادة سعيد ذو الفقار باشا الذي كان مديراً للدقهلية. وأحيل على المعاش سعادة إبراهيم باشا نجيب الذي كان مديراً للأوقاف وعين سعادة الأستاذ المحقق محمد بك أمين واصف مدير الجيزة مفتشاً عاماً لنظارة الأوقاف. وكذلك حولت مصلحة الزراعة إلى نظارة وقلد وزارتها سعادة محمد محب باشا مدير الغربية وزيد في اختصاصاتها فانتقلت جميع المدارس الزراعية العالية والابتدائية من رعاية نظارة المعارف إلى رعايتها وكذلك أخذت اختصاصات أخرى من نظارة الأشغال وأعدت لها مكاناً لها بسراي فاضل باشا بالقرب من نظارة الأشغال لتكاثر الأشغال عليها وعين في وكالة المعارف سعادة إسماعيل باشا حسنين ناظر مدرسة المعلمين الخديوية.

وبذلك أصبحت نظارات الحكومة تسع نظارات يشغلها ثمانية وزراء. ومن هنا حدثت تنقلات في المديديات ووكالاتها. النبأ العظيم حول مشروع أبطال العالم علم القراء ما هو مشروع أبطال العالم. ونزيد هنا أنا سنفتتح هذا المشروع الجليل بسيرة سيد العالم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم - وذلك كما يأتي: ستقع هذه السيرة المحمدية المباركة في ستة أسفار كل سفر مانون صفحة (وهذه الثمانون صفحة هي أقل صفحات فرضناها للكلام على كل بطل) لا تظهر هذه الأسفار الست الخصيصة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم متتالية بعضها إثر بعض ولكن سيظهر السفر الأول منها مبتدأً الخمسة الأسفار الأول ثم تظهر أربعة أسفار عن أربعة أبطا منوعين. وبعد أن تنتهي الخمسة الأسفار الأول (ومنها السفر الأول في السيرة المحمدية طبعاً) يظهر السفر الثاني من السيرة المحمدية ثم أربعة أسفار عن أربعة أبطال منوعين. وهلم جراً إلى أن تنتهي السيرة المحمدية على هذا الترتيب. أما طريقتنا في الكلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم فهي على الجملة طريقة أهل البحث والنظر وبالحري طريقة المؤرخين الباحثين لا طريقة المؤرخين الذين يسردون الحوادث سرداً (أنظر النبذة الأولى من المقدمة الأولى لتاريخ الإسلام في العدد الأول من السنة الأولى للبيان) وسيكون معولنا في ذلك كتب مؤرخي العرب ومؤرخي الافرنج وكل كتاب عربي أو غربي يتعرض لمسألة عمرانية أو فلسفية أو تاريخية أو جغرافية أو أدبية تعترضنا في هذه السبيل. ومن هنا أحضرنا مكتبة جامعة تحتوي كل كتاب عربي وغربي له صلة كبيرة أو صغيرة بموضوعنا هذا. وسنشير إلى هذه المصادر ف هوامش صفحات السيرة وسنبدأ السيرة بمقدمات في صفة جزيرة العرب وتاريخ العرب وأديانهم وعاداتهم وما إلى ذلك مع الصور والخرائط. وفي ضفة سائر الدول التي كانت تعاصر المصطفى عليه السلام وفي القول على سائر الأديان التي كان الناس يدينون بها في تلك الأعصر. ثم يلي ذلك تاريخ العالم بأسلوب نرجو أن يكون عند رجاء القارئين إن شاء الله والله وحده هو الموفق والمعين. الشيء يذكر بالشيء

وإذ قد كنا جعلنا من بين أبواب البيان باب تاريخ الإسلام - وكان القسم الأول من هذا التاريخ وهو تاريخ المصطفى صلى الله عليه وسلم ومقدماته سنفرد له أسفاراً من بين أسفار أبطال العالم، وكان من حق القراء علينا أن نستمر في هذا الباب باب تاريخ الإسلام لمكانه من الفائدة واللذة. رأينا أن نستأنف القول على تاريخ الإسلام من وقت أن استأثر الله بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك في العدد القادم إن شاء الله. موضوعات العدد القادم قد انتهت بهذا العدد العاشر السنة الثانية من البيان وسيستقبل عامه الثالث وكله أمل أن يكون فيه عند تعضيد القراء وإقبال المشتركين على دفع اشتراكاتهم المتقدم منها والمتأخر حتى لا يمسكنا عن إصدار العدد في موعده مطل الماطلين. ومن بين موضوعات العدد الأول من السنة الثالثة مقدمة العام وباب تاريخ الإسلام وفصل في التعليم من كتاب روح التربية للعلامة الدكتور جوستاف لوبون، والعلم والمدنية الحديثة من كتاب النزاع بين العلم والدين بقلم أكبر منصفي الإسلام الفيلسوف الأميركي ويليم دريبر، وفصل في سر تطور المادة يتضمن الآراء الحديثة عن فناء المادة بقلم جوستاف لوبون. ورواية بديعة تامة للكاتب الفرنسي العصري المشهور أناطول فرانس وتابع مقدمة الكلام على نابغة الشعراء أحمد بك شوقي وغير ذلك من الموضوعات الجليلة الشائقة وهذا عدا التصوير وكشكول البيان والمطبوعات الجديدة الخ الخ. حالنا الأدبية في شهر عزمنا أن نضيف على أبواب البيان من بدء السنة الثالثة باباً جديداً تحت هذا العنوان نتناول فيه نقد كل ما نقع عليه في الصحف من قصائد الشعراء أو مقالات الكتاب والأدباء وكل ما يصدر من الكتب المؤلفة والمترجمة، وما صدر منها مما لا نرى السكوت عليه وسنأخذ فيه بالنقد الصحيح حتى يتبين منها الجيد والبهرج. فنلفت إليه أنظار القراء. صحيفة الأشرار الحقيقة ضالة الناقد العدل. الصحيح القلب. الشريف المبدأ. فهو يمضي في طلبها غير منثن ولا مرتد. وإن علم أنه سيسيء في إعلانها إلى نفسه. أو إلى أمته. أو إلى شعوب الأرض.

والناقد العدل هو الذي لا يضع إزاءه عاطفته وعاطفة منقوده فيعارض بينهما. ولا ينقص من هذه ليزيد في تلك. ولا يستعين على نقده بجيوش الباطل من سياب وافتاء واتهام. ولا يقدم عليه قدوم المتهور على قتالز ولا يعمد إلى مواهب الناس فيجعلها عوناً له على ظهور بعد خمول. ولا يدعي أنه يحنو على القراء. ويحوطهم برعايته. ويعلمهم كيف يحكمون. وكيف يمدحون. ولا يزهي عليهم بأنه عريفهم وولي أمرهم. وأعرف منهم بالبهرج. وأخبر بالزيف. ليشهد له كما يشهد للصيني الذي يقيس مبلغه من الحكمة بطول أظفاره. فإذا اجتمعت هذه الأسباب كلها في الناقد. وكثر عدد الآخذين بها في وسط من الأوساط. فاعلم أن الجمهور فيه محترم القدر. لا يجترأ على خدعته. ولا يقدم على الكذب عليه. ولا تنال الشهرة على حسابه. أما إذا قام الجاهل المطرح فاستمع له. وانبري الدعى المنبوذ فأصغي إليه. واستوي الشتام البذيء فأصاب الشهرة ببذائته. ودب الخسيس الفاسد الدخلة فتعرف بين الناس بخسته. فثق أن الرأي العام في الأمة قائل. وأن الجمهور فيها غير محترم. ولقد كان حظ هذا البلد من الأولين سيئاً. وكانت نكبته بالآخرين فادحة. فقد تخاذل الأدب بالأدباء. وتشابه الادعياء بالأكفاء. وأصبح الأديب يرى في الأديب مزاحماً منافساًز وعدواً مكاشحاً. وأصبح كلهم يمشي بالسعاية لأخيه. والأذية له. والزراية به. والسخرية منه. واندس بينهم الدعي الجاهل. يرفع عقيرته بالشتائم ويصرخ بما توحي إليه نفسه الصغيرة وروحه القذرة. ويتصيد الشهرة بالصياح. ويفرغ من فمه بالكلم العور. لسد ببذر المال. ويحقد عليك مقدرتك ويدعي أنك الحاقد. وينفس عليك كفاءتك ويصيح بأنك النافس. ويصفك بطيب السريرة ليتفرد هو بسوءها وينعتك بسلامة النية. ليحتكر هو عليلتها. فإذا أسرعت من سفهه إلى السكوت. كان كالكلب يرى الرجل يعدو في سبيله. فيظن من خوف منه وخشية. فيتبعه نباحاً وعواء. وإن خرجت إليه. فجاريته في سبابه. سجلت عليك شتمتك. ونزلت بمجاراته عن مكانتك. ولم تسلم من عتب العقلاء. وأنت فتعلم أن أمثال هذا كثيرون. كلهم يعيشون من خداع الجمهور. ويسدون أرماقهم من الرتع في لحوم الناس. وكلهم المعني بقول الفيلسوف نيتشه انظروا! هذا هو جحر العنكبوت (الترنتي) فهل

تريدون أن تشهدوه. هذا هو نسجه فهزوه تروه مهتزاً مقبلاً. هذا هو الحيوان جاءكم طواعية واختياراً، فمرحباً ياذا العنكبوت السام، إن فوق ظهرك بثوراً سوداء، وأني لأعلم ما في روحك. ألا أن في روحك يختلج الحقد وأنك كلما عضضت بدت على ظهرك قرحة سوداء. وأن سم حمتك ليجعل الروح ذاهلة. إليكم أيها الأناسي العناكب. أسوق القول وأني مخرجكم من مكامنكم وأجحاكم إلى النور. وأني لأضحك السمو والعلاء. وسأهدم نسيجكم. وأبدد خيطكم. حتى يبعثكم الغضب والسخط على ترك جحر الأكاذيب إن قلوب العناكب تحدثها فتقول اعمدوا إلى الانتقام. وخذوا بشتم من ليس في درككم. وارفعوا الصوت في وجوه أهل المقدرة والقوة إن في كل حسراتهم ولهفاتهم يصوت الحقد. وفي كل أماديحهم يكمن الشر والويل بل هم. كما يقول نيتشه في موضع آخر. يمدحونك كما يمدح الله. وما هم إلا المالقون الصارخون. ويعاقبونك على فضائلك. ويغفرون لك في أعماق قلوبهم هناتك. وأنت تقول من كرم فيك وعظمة شأن. لا عتب على الأقزام المجاهيل. وتصرخ فيهم نفوسهم. لا عتب إلا على العظمة. بل أنت لتكرمهم. وتوادعهم. وتلابسهم. ومع ذلك يشعرون أنهم عندك المرذولون المحقورون. ولا يرضون أبداً عن عزتك الصامتة. ويبتهجون بالحقد المحتجب. ألم تر إليهم كيف يروحون خرساً إذا دنوت منهم. وكيف تتخلى عنهم خفتهم كدخان النار الخابئة. فاعمد يا صاحبي إلى العلة عنهم. فهم الذابا السام. وأنت لم تخلق لكون مروحة وهل رأيت أفضح أمراً من أن يقوم أجهل الجهلاء. وأظهر الأدعياء. فيخرج للناس صحيفة يقصرها على شتم من يحقرونه. ويعرفون مبلغ جهله. ويقيمها لنهش أعراض الأخيار. ويخرجها حافلة بالأغلاط التي يخجل منها طلاب المدارس الابتدائية. ويصدرها بأقلام المتقاعدين من الأدباء. الذين يودون لو تلصق مقالاتهم وقصيدهم فوق جدران الطرق. والذين يغلب فيهم حب الشهرة على الشعور بالعزة. فيسارعون إليه بكتاباتهم وخواطرهم. خشية من شره. وجبانة من قحته. ويهجم على قرائه. وما أقل عدادهم. بالهجر من القول

الذي تأنف منه النسوة الرادحات في ثنيات الطرق. ويبعث بصحيفته إلى المبصرين من الكتاب. فيردونها لسخفها ولوثتها. ويخاطب فيها قلم المطبوعات وقلم المطبوعات يعرف أمره. ويدعي أنه يوجه القول إلى إدارة الشرطة. وإدارة الشرطة تعلم دخيلته! وماذا عسى ينتظر الناس من خبيث فاسد الروح. خرج من بلده في أطمار وأسمال. وجاء إلى الأزهر، فكان حرباً على نفسه وذويه وأخوانه. ولم يلبث أن مشى بين الأزهريين بالفتنة، وسعى بينهم بالحطب الجزل. وخطر في صفوفهم بالأراجيف. حتى كاد الأزهر ينقلب إذ ذاك من شؤم هذا الحيوان ميدان تضارب وقتال، ورأت إدارة الأزهر فيه جرثومة أين منها حمة التستسي فطردته أشنع الطرد، ولفظته من رحمتها، فخرج ولم يقض في طلب العلم. وإن شئت الحق. فقل في أحداث الفتنة، إلا شهوراً معددات، وكأن الأقدار أبت إلا أن يجد ثمن طعامه. فاشتغل مصححاً في مطبعة أحدى الصحف اليومية فلم تهدأ دناءته. بل ما فتيء يدس الدسيسة. ويصوغ الفتنة. وينسج الفرية حتى إذا كشف لمدير تلك الجريدة بعض أمره. بادر بطرده. ومن ذلك الحين راح متبطلاً شريداً. وصار قعيدة القهاوي. وجوابة الطرق. يغشى المجالس فيتهافت به أهلها. ويختلف إلى جمعيات الخطابة فيطرد من على المنبر. ويزور إدارات الصحف. فيأمرون الخدم بمنع دخوله. فلما قعدت به الحال. وأزرى به الدهر فوق أزرائه. ورأى آلام الجوع والإفلاس. فكر في الحصول على أداة تجلب المال. وسلاح ينفس الكربة. فطفق ينكفئ كل يوم إلى نظارة الداخلية. ليستخلص ترخيصاً له بإصدار صحيفة أسبوعية. وطفق الموظفون يشتدون في أهانته. ويأمرونه في كل مرة بترك المكان. ومضي على هذا الهون بضعة أشهر. يهدد في خلالها من يزري به. ويوعد في أثنائها كل من يسخر منه. أما نحن فكنا نظن أنه لن يظفر بالترخيص أبداً مما كنا نسمع منه عن سوء المعاملة التي كان يلقاها من كبار الموظفين وصغارهم. ومما كنا نعتقده من أن الحكومة تعرف من هو طالب هذا الترخيص وتذكره في فتنة الأزهر. وحادثة المؤامرات. وتعلم مرماه من إصدار صحيفته ومبتغاه. وكنا مثق أن الحكومة تحرص على كرامة أفراد شعبها حرصها على كرامة كبارها ولكن شاءت الأقدار أن يفوز بالترخيص. وأقبل يوم حصوله عليه فرحاً متهللاً. وطلب إلى صاحب البيان. وطالما أكرمه وأحسن مثواه. أن يبتاع له الورق. وينفق على إصدار الصحيفة. وجاء

باسمها ليخرج له صاحب البيان (كليشتها) على نفقته ولكن السيد البرقوقي. المسلم الأزهري كما يقول. كان يعرف دخيلة الخبيث ويعلم مستقبل صحيفته وغرضه من إظهارها. فلم يشأ أن يعينه على أعراض الناس. أو يشجعه على النيل من مقدرة الأكفاء. ولذلك رفض سؤله ولم يبض له بدرهم واحد. فأسرها في نفسه. ورأي الناس منه بعد ذلك في حق مكرمه ما رأوا. هذه ترجمة حياة هذا الشاب مفصلة. لم نرد أن نمسكها. إشفاقاً على أخلاق قراء صحيفته. ولا سيما طلبة المدارس. من عدوي هذا المتشنج المحموم. الذي لا يكتب كلمة مديح إلا ليسأل الممدوح. ولا يرمي بالكلمة العوراء إلا وهو فاغر فاه من الجوع. والذي يدعي أن به نعرة دينية. والحقيقة أنها نعرة (معوية!). فلا بدع إذا قرف هذه المجلة الشريفة المبدأ. الشريفة الجيب، بقبول الأجور. فهو على حد قول المتنبي: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم على أني أقول أن السيد البرقوقي لا يستطيع أن يكفل فوق الإنفاق على المجلة وإدارتها ومطبوعاته ومشروعه. أبطال العالم ثمن طعام الجائعين. وإنقاذ المنكودين. والمحرويين. فليغضب هذا السباب وليسخط. وليشتم وليصرخ. فإن أفشل الأشياء أجهرها صوتاً. ذلكم هو السباب الذي يود أن يكتسي من سبابه بعد عري. ويشبع بعد مسغبة. وينتعش بعد متربة ولو شئنا أذاه لقلنا كلمة واحدة تسرع بقلم المطبوعات إلى تعطيل صحيفته. وإلقائه في غيابات السجون. ولكنا لا نحب أن نقطع عنه مرتزقه، ولا نود أن نغلق في وجهه باب عيشه. وإن كنا لا نرى الركون المطلق. ولا التزام المجاراة المطلقة. وإنما نعرف كيف نزع كل سفيه. ونرد كيد كل كائد. ونرغم أنف كل مكابر وإنا لفاعلون. غيور (البيان) جاءت إلينا هذه الكلمة من ناحية كاتب مخلص. حدا به إلى كتابتها صدقه وغيرته على الأخلاق والأعراض إذ رأى تحت سماء مصر بلد المضحكات. وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا نوعاً غريباً من عجائب المخلوقات. ذئاباً في جلود أناس. قد حشروا أنفسهم غصباً واقتسارا بين جماعة الصحفيين. وأبت عليهم خستهم ولؤم غرائزهم. ونضوب معينهم من العلمز

وإجداب ثراهم من الفضل. وإخصابه عوض ذلك بالحماقة والجهل. إذ هم. كما يعرف ذلك من وقف على جلية أمرهم. ليسوا من العرفان ولا قلامة ظفر. إلا أن يتحرشوا بنا كما تحرشوا بأكبر أفاضل المصريين. ويريدونا على أن نسقط إليهم. وكأنهم لم يسمعوا لا سمعوا ذلك الأدب الآلهي الكريم خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ثم قول إبراهيم بن العباس الصولي بعد ذلك في مثل هذا الواغل البذيء قل كيف شئت وأنى تشا ... وأبرق يميناً وأرعد شمالاً نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أن ينالا عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين سننشر في العدد القادم وتواليه في باب أبطال العصر بقية كلامنا على زعيم البهائيين عبد البهاء عباس أفندي. وهنا نقول أن بعضهم غاب عنه غرضنا من الكلام على أبطال العصر وزعموا أنا نقصد بكلامنا على زعيم البهائيين إلى الحوم حول نحلته ولم يريدوا أن يفهموا أنا إنما كتبنا وسوف نكتب عن الرجل كما كتبنا ونكتب عن فولتير ونيتشه وسبنسر وأرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وابن رشد وأضرابهم من رجالات العالم إن موافقين لنا في الدين وإن مخالفين. لأنا لسنا في هذا الباب بصدد من الدين وإنما بصدد من العظمة والنبوغ. وبعد فإنا لا نأبه بعويل هؤلاء ما دامت قلوبنا مطمئنة بالأيمان وما دمنا في شغل بما هو أجدى وأراد على القارئين. عن إضاعة الوقت في مناظرة المكابرين. وإن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى. الغرفة التجارية المصرية يرى القارئ في غير هذا المكان صورة سعادة عبد الخالق باشا مدكور رئيس الغرفة التجارية المصرية وهي ذلك المشروع الجليل الذي طالما كانت التجارة المصرية في حاجة إلى تحقيقه وكذلك صورة رئيس الأمة التجارية الانجليزية ونود أن تصبح أهمية الأولى لهذه البلاد أهمية الثانية للشعب الانكليزي في علائقها التجارية وسنعود إلى الموضوع في العدد القادم إن شاء الله.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة ديوان المازني نعرف صديقنا الأستاذ المازني من نوابغ كتابنا المعدودين، ونعهده كذلك من أكفأ المترجمين، وأشدهم استمكاناً من أدب العربية والانجليزية، وكذلك عرفه قراء البيان مما رأوا له من روائع المقالات، وبدائع الموضوعات، ولعلهم يذكرون معنا جزالة أسلوبه وفخامته في ترجمته كتاب (أميل) ومقال الشخصية والأخلاق ورواية صريع الكأس وكلمته عن ابن الرومي إلى غير ذلك من آثار قلمه. ولقد كنا نقرأ له في الصحف بين حين وحين مقطعات وقصائد كثيرة في أغراض شتى فلم نكن نتأول في خلالها تلك المكانة السامية التي نالها الأستاذ لدى القراء بمقدرته الكتابية واضطلاعه بالترجمة. إلى أن ظهر ديوانه وقد كنا انتهينا من العددين الثامن والتاسع فوعدنا القراء أن سنكتب في هذا العدد العاشر كلمتنا. ونحن على ما بيننا وبين الأستاذ المازني من فرط الود وشدة الإخلاص ومتانة الصداقة وارتباطه البليغ بالبيان، على اعترافنا بفضله ونبوغه. وإقرارنا بأنه من أركان الأدب في مصر، ولا يسعنا إلا أن نبدي رأينا غير مريدين أحداً على أن يراه، إذ لكل إنسان رأيه، ذلك أن ديوان المازني ظهر قبل أوانه، وخرج من كمه قبل أبانه، وكان أحق بأن يختمر في نفس صديقنا ويطمئن في وجدانه. وكان أولى بالأستاذ أن يأخذ في نظمه، ويسكن إلى وصف مشاعره حتى يسكن سواد القراء إليه وإلى قصائده، ويرتقبوا اقتناءها، وينتظروا بشغف احتواءها، ويلهجوا بمديحها والاستهتار بها على نحو ما فعل شوقي وحافظ والرافعي لعهدنا هذا، وعلى ما نحو ما يفعل شعراء المغرب، إذ يسارع الشعب إلى جمع دواوين الشعراء، ولا يسارعون هم إلى طبعها على غرة من الفراء. ولو لم يكن الأستاذ المازني قد أصاب مكانة سامية من نفوس الناس قبل طبع ديوانه، ولو لم تكن قد تجلت لهم شخصيته وكفايته من قبل، ولولا ما في شعره بعض الآحايين من المعاني السرية التي يخيل إلى القارئين أنها من توليد الأستاذ وابتكاره، والألفاظ النقية التي هي متاع مشاع لجميع الشعراء ولا تكاد تتفاضل فيها الشعراء، لما أقبلوا على الديوان ينقدونه ويقرظونه ويحتفلون به هذه الاحتفال الذي نرى.

هذه كلمتنا لم نشأ أن نكتمها عن صديقنا، وإن كنا نشهد للأستاذ بالفضل والكفاية والنبوغ ونتوقع له أكثر من ذلك وأسمى. هذا وربما كان لنا عودة تكون كالتفصيل لما أجملناه هنا نرجو أن ننشره في أحد الأعداد القادمة إن شاء الله. وللديوان مقدمة من أبدع ما كتب الكاتبون في الشعر ونقده تقع في نحو من ثلاثين صفحة ولا جرم فهو الكاتب المجيد المبدع عباس محمود العقاد. أكثر الله من أمثاله المفكرين. والديوان يباع بمكتبة البيان وثمنه خمسة قروش. الوساطة بين المتنبي وخصومه كتاب جليل، وسفر أدب رائع. ونقد عدل. يعد أحسن درس لجماعة الناقدين في هذه الأيامز أولئك الذين يكتفون في النقد بتحليل العرض دون الجوهر. ولا يتغلغلون إلى صميم الأشياء. ليقفوا على مراميها الصحيحة. ويظهروا الصحيح من بين أثناء الباطل. ويخرجوا الحق من معتزله. لأن الحق يميل أبداً إلى العزلة والسكون. وإذا كانت اللغة الانجليزية تفخر بكتاب النقادة صمويل جونسون في الموازنة بين شعرائها. فخليق بالعربية أن تفخر بهذه الوساطة التي عقدها النقادة العدل أبو الحسن الجرجاني بين المتنبي وخصومه. ولقد كنا نتمنى أن يوفق هذا الكتاب إلى الطبع. حتى حقق أمنيتنا رجل فاضل. وكاتب غيور. هو حضرة المفضال أحمد أفندي عارف الزين. صاحب مجلة العرفان. إذ قام بطبع الكتاب وتصحيحه وشرحه وتبويبه. فأحسن في جميعها. وناهيك بما في ذلك من نفقات ومجهودات. والكتاب يقع في أكثر من أربعمائة صفحة من القطع الكبير. متقن الطبع جيد الورق وإن كان فيه بعض أغلاط مطبعية يفطن إليها القارئ. وهذه أكبر سيئات المطابع في الشرق. ونحن نشكر لرصيفنا الفاضل هذه الخدمة الكبرى التي أسداها إلى اللغة والأدب والنقد. ونحث القراء على اقتناء هذا السفر الجليل. هذا والكتاب يباع في مكتبة البيان وثمنه 16 قرشاً وأجرة البريد ثلاثة قروش. الموازنة بين أبي تمام والبحتري هذا كتاب آخر. هو خزانة أدب ونقد دقيق. وحكومة عادلة. وضعه شيخ الناقدين أبو القاسم الأمدي. وما يقال في الوساطة يقال في الموازنة. فإن الكتابين في رفعة الشأن أخوان. وفي نصفة المنحى صنوان. وقد طبع للمرة الثانية. ومع ذلك لم يخل من أغلاط مطبعية كثيرة

يكاد القارئ يختنق من وقعها. وحبذا لو كان الطبع أكثر نظافة. وحبذا لو كان الورق أجود. على أن الكتاب ليس بصغير الحجم. تزيد صفحاته على المائتين وهو بالحرف الصغير. وفي طبعه على غير هذا الغرار. تكلف الكثير من النفقات. فنستحث كل قارئ على قراءة هذا الكتاب القيم. ونرجو له الرواج والانتشار وقد أعاد طبع هذا الكتاب المكتبة الأنسية في بيروت وهو يباع بمكتبة البيان وثمنه خمسة قروش. على مسرح التمثيل هو اسم لسلسلة تلخيصات روائية ونتف أخلاقية اختيرت من أشهر كتاب العالم وقد بدأها واضعها الكاتب الأديب إسماعيل أفندي عبد المنعم في الجزء الأول من هذه السلسلة بتلخيص أشهر مآسي شاعر الدراما الأوحد ويليم شاكسبير، وأسلوب التلخيص رائع واضح، ولعل الكاتب رجع فيه إلى تلخيصات شارلز لام، وحبذا لو عمد في جزئه الثاني إلى ما كتبه ويليم هازلت عن أشخاص هذه المآسي حتى يجمع بين فائدة التلخيص وفائدة التعليق ونحن نشكر لحضرة الملخص عنايته وندعو كل محب للإطلاع إلى اقتناء هذا السفر الجليل. الشرائع صدر في طنطا مجلة بهذا الأسم وقفت صفحاتها على الأبحاث القانونية وما إليها ومديرها حضرة الفاضل الأصولي سعاده بك المحامي وقد ظهر منها حتى الآن ثلاثة أعداد وقيمة اشتراكها في السنة خمسون قرشاً ولطلبة الحقوق بنصف هذه القيمة وتطلب من المطبعة العمومية بطنطا ومن المكاتب المشهورة فنرجو لها الذيوع والانتشار. العائلة المصرية يسرنا أن يقبل الآنسات المصريات المتعلمات على الكتابة في المسائل المصرية والاجتماعية والحيوية، ويتضامن مع الرجال في الحركة الكتابية الحاضرة، وقد قرأنا للآنسة أوليفيا الأقصرية كتاباً أسمته العائلة المصرية جمعت فيه خواطر لها منظومة ومنثورة في موضوعات كثيرة تحوم حول التربية المنزلية والمدرسية وقسوة الآباء وعقوق الأبناء والمرأة المصرية في جميع أدوارها إلى غير ذلك من الموضوعات مما يجعلنا نغتبط بهذه النهضة الشريفة التي تقوم بها فتياتنا وندعو الآنسة المؤلفة إلى متابعة التفكير والكتابة

والاسترسال في القراءة والبحث والإطلاع ونرجو لباكورتها هذه كل الرواج والنجاح. وهي تباع بمكتبة البيان وثمنها أربعة قروش. الاشتراكية لا يألو حضرة النابغة المطلع سلامه أفندي موسى جهداً في انتهاز أوقات الفراغ لإخراج كتب جليلة الشأن وإن كانت قليلة الحجم يرمي بها إلى تنوير الرأي العام في المسائل الاجتماعية الكبيرة والمذاهب العصرية وقد أردف كتابيه مقدمة السبرمان ونشوء فكرة الله لجرانت ألن، بكتيب جديد في الاشتراكية صدره بلمعة في تاريخها وأفكار مؤسسيها ثم أعقبها بكلمات في مفاسد النظام الحاضر وماهية الاشتراكية وتسلطها على الفكر السياسي في أوروبا فنحمد إليه كتيباته وندعو كل قارئ إلى قراءتها. ميزان الذهب وضع حضرة الاستاذ الفاضل الشيخ أحمد الهاشمي مراقب مدارس فكتوريا الانجليزية وصاحب كتاب جواهر الأدب المعروف بين الطلبة ورواد الإنشاء من التلاميذ كتاباً جديداً سماه ميزان الذهب في صناعة شعر العرب قرب فيه لطلاب علم العروض والمشغوفين بتعلم الأفاعيل والأوزان مثالاً سهلاً يساعدهم على تحقيق طلبتهم ويعينهم على مأربهم من العروض فنرجو له الذيوع الذي هو أهله وثمنه أربعة قروش ويطلب من مكتبة البيان.

(بسم الله الرحمن الرحيم) ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير واللهم لك الحمد على كل نعمة عندنا أوليتها، وعلى كل درجة لنا أعليتها، وعلى ما وفقت من الفضل وأعنت عليه، وما فتحت من العلم ويسرت إليه. فإنه لأفضل إلا ما أسيت وأسديت، ولا هدي إلا ما أرشدت وهديت. واللهو صلاتك وسلامك على سيدنا محمد أفضل من خلقت، وأفصح من أنطقت، وأكمل من سويته في الخلق إنساناً، وأحكم من أوليته قلباً ولساناً. وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، ومن أخذ بشريعته من الأخيار. ونضرع إليك اللهم بالدعوات ظاهرةً وباطنة، ونتوجه إليه بالنيات بادية وكامنة، أن تنزل نصرك وتأييدك، وتجزل عونك وتسديدك، لأميرنا المفدى حمي العلم والأدب، وقبلة لغة العرب، (الحاج عباس حلمي الثاني) الذي رفعت فضائل عصره لدولة الأدب أعلامها، وأحيت فواضل مصره في أيدي الكتاب أقلامها. أما بعد فإنا نتقدم لقرائنا بالثناء على ما لقينا منهم إقبالاً وكرماً ومروءة، والحمد لما شدوا منا معونة وإسعافاً ومؤازرة حتى خطا البيان إلى عصره الثالث أشد ما كان ركنا وأثبت ما كان عزماً وأفسح ما كان خطوة، وهو اليوم يغلق باب دهر ويفتح باب دهر، لأن العام الواحد في حياة المجلات العربية إنما هو آجال وأجيال، وما تقطع المجلة منها عاماً ونبتدئ عاماً إلا ما كانت بحول الله وقوته كأنها تبعث بعثاً جديداً، لتحاسب حساباً شديداً، فإن القراء عندنا وإن كانوا جموعاً غير أنها جموع قلة لا ترد ولا تجدي. وأعجب ما في أمرهم أن أكثرهم يستمرئ حقوق المجلة ويهضمها ويصيبه العسر كله إذا طولب بها أو بما تيسر منها ولكن لا يصيبه شيء من عسر هذا (الهضم). . . فكيف لعمري يجد صاحب المجلة العربية ما يُغنى من جوع فضلاً عما يسمن من شبع؟. ولقد خبرنا القراء على طبقاتهم، وداخلناهم على أنواعهم، وبلوناهم بحسناتهم وسيآتهم، فرأيناهم لا يتشابهون إلا في صفة واحدة هم فيها سواسية وإن الذي بينهم في كل ما عداها لمختلف جداً. فأما هذه الصفة فهي الحرص على المجلة وطلبهم إياها بهذا الحرص، وإلحاحهم علينا في هذا الطلب، والتوطئة لما يلحون بما يلبس الأمر علينا من الثناء مستطابا، والدعاء مستجابا، وملء الكتاب فخراً بنا وإعجاباً،. . . وأما بنعمة ربك فحدث.

ثم المواعيد العريضة من تأييد (البيان) وشد أزره، (والاشتراك) في أمره، ولولا التقي لقلنا على طبله وزمره. . . ثم ما شاء الله من قليل وكثير على هذه الوتيرة مما لو صح بعضه واستقام بعضه وفسد الباقي لرأيت (البيان) يدور حول الأرض دورة فلكية مع الشمس في أفق ومع القمر في أفق ولكن متى يستقيم الظل والعود أعوج؟. ولو أن صاحب مجلة عربية (كالبيان) يجمع مثل هذه الكتب بعضها إلى بعض لقد كان يجمع منها مؤلفاً ضخماً وافر الحشد ممتلئاً من حساب نعمته وثروته، ولكن من ذا الذي يسره أن يجمع على نفسه مع الخسائر التي تذهب عليه حساب هذه الخسائر بالتواريخ والأسماء. . .؟. تلك هي الصفة التي تسع القراء جميعاً ولا تضيق إلا على صاحب المجلة وحده، وأما الذين يختلفون فيه فأصناف كثيرة إذا نحن مخصناها جميعاً لم نجد زبدتها غير فئة واحدة هي التي يقوم بها العلم والأدب، وهي التي تمثل الروح والمبدأ، وهي التي تمشي بالحاضر إلى المستقبل، وهي التي يضرب بها قلب الأمة وينبض لها نبض التاريخ، وهي طائفة الفضلاء الأجواد التي (يأكل) سائر المشتركين على (حسابها). . . والفرق بين هؤلاء وهؤلاء أن الفاضل لا ينفك أبداً يعمل على أن يزداد به الفضل وأن يزداد هو فضلاً فلا يدع مجلة أو صحيفة مرجوة الفائدة إلا اشترك فيها (دافعاً) لا مدافعاً ليعين أصحابها على تهيئة المزاج التاريخي الصحيح للأمة، وليكون عاملاً لنفسه مع نفسه ولأمته مع العاملين لأمته. وهو لا يشعر من طبعه بهذا الحس ويعتقد في نفسه هذا الواجب إلا إذا كانت سامي الأخلاق عالي النفس بعيد الهمة. فإن الأخلاق لا غيرها هي التي يشعر بها المرء أنه قطعة من أمته فتأبى له نفسه أن يكون قطعة من تلك القطع الرنة البالية التي تتمزق بكل سبب واه من الأسباب الاجتماعية لأنها أو هي منه فيكون مرآها في الأمة دليلاً ظاهراً من أدلة العدم. وهو يأنف من ذلك ويدعه لمن لا نفس له إلا النفس الحيوانية، تلك التي لا تحس المعاني والعواطف، والتي نعرفها في كثير من قومنا في بعض أدبائنا أيضاً، والتي هي أقوى ما تكون حين تكون في الجلود السميكة. . . هذا الطائفة - طائفة الفضلاء - هي رأس مال العلم والأدب في كل أمة. وما الربح إلا بنسبة رأس المال كثيرة وقلة، وقد ترى أن صاحب المجلة العربية يستنفد وسعه في الإنفاق

عليها من كحر ماله ويدأب في العناية بها لا يتني ولا ينثني من اعترضته العقبات وناوأته الصعاب من أمور نفسه ولا يهن ولا يحزن من اعتراه الضعف والتخذيل من أمور الناس، ثم هو مع هذا كله لا ينال من عاقبة الصبر ولا يفيد من جزاء العمل شيء يسمى عوضاً مما بذل، ولا شيء يسمي ربحاً لما أنفق، لأنه إنما يتاجر بعقله في سوق تقل فيها العقول قلة واضحة، وأستغفر الله بل فاضحه. وما المال الذي يسخر به ويبسط يده فيه ويقرضه ولا يقرضه ليجعل عمله بذلك عملاً إلا إحدى الوسائل في إظهار العقل الذي يتاجر في سوق الأدب بعلمه وتفكيره ونشاطه وقوته، وليس له من وراء ذلك ربح أوفي من أن يوجد في القراء العلم والفكر والنشاط والقوة، أو في القليل حب هذه الصفات العالية، أو في الأقل حب الانتفاع بها، أو في العدم لا حبها ولا بغضها. . . . حتى لا يشكو أصحاب المجلات من أهل المطل وهم الذين لا يحسون شيء من كل ذلك وإن أحسنوا فقهم من الغلظة وخديعة الطبع كأنهم لا يحسون. وأكثر الناس عندنا: إما ذو مال لا عقل له أو لا عقل له إلا في المال - وذانك بائسان كلاهما في سوق العلم والأدب أفلس من الآخر. وإما ذو عقل ولا مال له وهو حزب الهبوط في سوقنا فلا يتألف إلا من قوم ذوي (عقول وإحساس) وهم الكرام، وهم القليلون، وهم طبقة الفضلاء. فالعقول سبيلهم إلى الرغبة في المجلة النافعة. والإحساس فهو سبيل صاحب المجلة إليهم لا يرهقهم ولا يعنتونه، ولا هو يشكوهم ولا هم يمقتونه، وكلاهما في عون الآخر، وهما جميعاً وهما جميعاً في عون الأمة، وليس بعد الأمة غاية تنتهي إليها محاسن الأخلاق الاجتماعية. أما غير هذه الطبقة فهم همج هامج، وهم نشر لا نظام لهم وما دخلوا في عمل إلا أفسدوه على صاحبه وكانوا فيه القوة السلبية التي يجهد في رفع إساءتها أكثر مما يجهد في إحسان عمله، ويبتلي من دخائلها بما يغمر ظاهره وباطنه، فلا هم يدعونه يمضي لشأنه خفيفاً مستجمع النشاط مستحصد العزم رخي البال، ولا هم يرفهون عنه بعض أمره بالمعونة. وهم أثقل أمره بقل هم البلاء الحتم والقدر المقضي، وكلما كثروا على صاحب المجلة فسد نظامه واختل أمره وضعفت مادته وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء، وابتلى بالقلة في كل شيء ولا يكون بلاء القلة إلا من كثرة القراء. . .

نحن نعتقد أن قراء (البيان) خاصة هم في الجملة خلاصة الأمة وإن أكثرهم من ذوي الإحساس الشريف المتفضل فليس في مصر مجلة كبرى غير (البيان) وليس في العربية وآدابها مجلة تسد مسده، ومن أجل ذلك لا يكون عجيباً أن نعد من قراء البيان خلاصة الأمة، بل يكون عجيباً أن لا نعدهم، وما خلاصة الأمة إلا ذوو العقول والإحساس فيها. غير أننا نعلم أن أكثرهم يستهين بأمر الاشتراك استخفافاً منه بالقيمة لضعفها في بذل يده وكرم نفسه وسخائه وأريحيته فقليلاً ما يجد من تلقاء نفسه باعثاً على المبادرة بها فلا يزال على ذلك ناسياً مستخفاً. وبعضهم على وفائه وشرف نفسه لم يألف بعد نظام الأمم الراقية في معونة صحفها وادخار قيمة الاشتراك مما ينفقون، واعتبارها مما لابد من إنفاقه على أنها من غذاء العقل ومن مؤنة التاريخ الذي تعوله الأمة كلها، فإذا جاء وقتها لا تستأخر عنه ساعة وكانت حاصرة في يد صاحب المجلة أو الصحيفة فلا تنقطع مادته ما بقي في عمله ولا يفتر في عمله ما بقيت مادته وبهذا ينصرف عن الفكر في القراء إلى الفكر فيما يرضيهم، وعن العمل في الطلب منهم إلى العمل في الطلب لهم، فلا يجد في نفسه ما يضطرب له ولا يعدم من نفسه بعد ذلك الحزم في النية وإنما الأعمال بالنيات. هذان صنفان من قراء (البيان) وكان عندنا ثالث هو الذي لا يحس ولا يستحي ولا يبالي، وكان في عملنا كأنه عضو أشل فبترناه بتراً، وحذفناه حذفاً وطمسنا على آثاره طمساً، وما هو إلا شر لاحق، أو بلاء متلاحق، ولأن نتقدم خفافاً خير من أن نتأخر ثقالاً، ولأن تكون العدة على الأدب فئة قليلة ثابتة خير من أن تكون فئة كثيرة منهزمة. ونحن نعلن أنه لم يبق للبيان من قرائه غير من يعتز بهم ويستند إليهم ويعتمد بعد الله عليهم من أديب سنى، وفاضل سري، وكريم سخي، غير أننا نسألهم متأدبين سؤال ذي رجاء وثقة، وذي محبة ومقة، أن يذكروا أطال الله بقاءهم أن قيمة الاشتراك ليست من ضرائب المواريث والتركات وأن يعرفوا وقاهم الله أنها ليست من ديون بعض المرابين، وأن يحفظوا أسعدهم الله أنها ليست أموالاً في التجارة، وأن يستيقنوا أغناهم الله أنها ليست مما يشق على أحد أن يجمعه، ولا يفقره أن يدفعه، ولا يغنيه أن يمنعه بل هي على قلتها مادة (البيان) وأساس نظامه، والذريعة إلى تمامه، وهي كل ما نستوجبه على القراء ولا تكاد تفي ببعض حقهم علينا من تحسين المجلة وإتقان موادها وتوفير أصنافها واطراد

التجويد في نسقها وكتابها وترتيبها وما إلى ذلك مما يضي إلى حد العلة، ويستغرق الوقت كله، ولا تنفع فيه من الجهد ولا من المال قلة. وليس بين القراء وبين أن يروا من (البيان) نظاماً كنظام المجلات الأوروبية الكبرى إلا أن ينتظم كل واحد منهم في جمع ستين قرشاً من نفقات عامة، لا من نفقات طعامه، ومن حذق يده، لا من رزق غده، وإلا فمما ينفقه على حذائه، لا على غذائه، وما يبذله في لهوه وسرفه، لا ما يدخره لعزه وشرفه. وإلا - وأكرم الله قراءنا - فليس إلا ما قال الأول لعنة الله على الأدب إن كان بائعه مهيناً لن ومشتريه مما كسا فيه. وهذه المجلة رعاكم الله لا تقوم بعصبية دينية ولا بعصبية قومية تجمع إحداهما عليها أيدي المشتركين غيرة على الدين أو غيرة على الجنس كسائر المجلات العربية الأخرى فليس لها إلا قوة مبدئها ومادتها ولغتها وهي كفيلة لنا بخواص القراء من أهل العقول والألسنة وفيهم الغناء كله والحمد لله لو يأخذون في أمرهم وإن قل بالحزم، ولو يدعون من أنفسهم هذا التهاون بالقليل وهم يعلمون أن السحابة صاعدة غير السحابة هابطة ولكنها إن لم ترتفع قطرة إلى قطرة وذرة إلى ذرة لم تهبط بالرحمة في وابل ولا طل. و (البيان) فقد عرف الأدباء كافة أنه خزانة الأدب الحديث، وأنه لبس لهم في معناه ما يسده مسده، أو يرد مرده، وأنه على ذلك من حاجة المتأدبين يقوم من ألسنتهم ويرهف من أقلامهم ويشحذ من أذهانهم ويطرح نظرهم مطرحاً بعيداً في التفكير والنقد بما يقلب عليهم من فنون الأدب وأنواع المعاني، وما يهديهم إليه من مناحي الرأي وما يجلوه عليهم من قرائح الفلاسفة وخواطر الأدباء في عصور الدنيا وجهات الأرض. ثم هم منه أبداً في طرائف ممتعة. وعلى موائد مشبعة. يجمعون به أدباً إلى علم وعلماً إلى سلوة وسلوة إلى تفكهة، ويخرجون منه بالكثير الطيب والجيد البارع من كل ما تستقل به الطرقة وينضج الأسلوب وتتهيأ الملكة ويصح الرأي ولذلك كله أنشأناه، وعلى ذلك أدرناه، ومن أجل ذلك بذلنا في العمل ولم ندخر وجهدنا ولم نأل، وعانينا ولم نفتر، وصبرنا ولم نضجر، ومضينا ولم نلو، وكنا عند ما قدر أهل الفضل من الثقة بنا وحسن الظن فينا على ما اعترضنا من كلال المهنة وعلى ما حاق بنا من مطل بعض القراء. وعلى ما لقيناه من كفران الصنيع في بعض الأدباء. وعلى أشياء كثيرة مما تخر به العزائم هداً. وتخور عنده القوى جداً. ولا

يملك له المرء دفعاً ولا رداً. وها نحن اليوم نبتدئ عامه الثالث على بركة الله ونستأنف عملنا على تيسير الله، والنية فيه ما قد نوينا من قبل من التشمير والجد في خدمة العلم ونشر الأدب وإحياء اللغة على أنا لا نألو في ذلك جهداً ولا ندع فرصة ننتهزها إلى الإحسان. في الإتقان. ولا نغفل طريقة نتخذها إلى الزيادة. من الإجادة وسيرى القراءان المزيد إن شاء الله مما بلغناه ميسور. وأننا نقطع إلى غايتنا البعيدة بأجنحة النسور. فإنه لنا لعز ما لا يكل مهما (جري)، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً.

شذرات

شذرات من حديث المائدة: لا نعد مبالغين إذا نحن قلنا أن ما تنقله من كتاب حديث المائدة هو خير ما أخرج لقراء العربية - ومن هنا كان خليقاً بقراء البيان أن يقرؤه ويمعنوا النظر فيه مرةً مرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً. 7 قال أستاذ مائدة الإفطار: قد شاهدنا كثيراً أن المرء المتوسط الذكاء أنهض بواجبات الحب والصداقة من النابغة العبقري، ولنضرب لذلك مثلاً ساعتين (آلة قياس الوقت) إحداهما بسيطة الكيان، والثانية مركبة. فالبسيطة التي تريك الساعة والدقيقة جديرة أن ترضيك فتستصحبها ما حييت، وإن لم يك بها عقرب بريك الثواني أو كانت غير دقاقة ولا موسيقية ولا محلاة بالذهب والجوهر، وقصارى القول إنك لترضى هذه الساعة صاحبها مستديماً وإن هي لم تشتمل على غير بضع عجلات ويدين نافعتين ووجه طلق صريح. وأكثر ما يكون عدد العجلات في الساعة أو في الذهن أصعب ما يكون مراسهما وأشد ما يكون سياستهما. ولا تزال وثبات الخاطر الطموح وطفرات الخيال الجموح، مشفوعة بشيء من الأنانية ولكن خير أساس الحب والصداقة إنما هو نفس ساكنة مطمئنة وذهن مستنير صاف غير عرضة لما يصيب ذوي العبقرية عادة من الانفجارات والأزمات النفسية، وإنك تري الذهن الجبار إذا ثار لنظم قصيدة أو تأليف مقالة أقبل على القلب فامتص منه خلاصة دمه ولا يستطيع القلب في آن واحد أن يبذل دمه في تأليف الكلم الرائع ويبذله كذلك في اجتذاب فؤاد الصديق وتنعيم روح الرفيق. وليس على الخل الوفي والصاحب الحميم أن يكون من المعرفة بالعلوم والفنون بحيث يشرك المرء في أميال ذهنه ومطالب نفسه من الأدب والمعارف. فإنك إن أردت مثل هذا الشريك فحبك بالكتب والعلماء (وبعد) فإن معظم ما جرى ويجري بالعالم من حوادث الحب والصداقة إنما كان بين من لا يعرفون القراءة والكتابة. أما أن يتهافت المرء على غير ذي ود ويلقي بنات قلبه على كتلة تأخذ ما يلقي عليها ولا

تعطي ويرمي بأشعة روحه على صخرة لا يؤثر فيها ضوء الابتسام ولا ضغط إلا كف والشفاه، فهذا والله تضحية الأنفس البارة واستشهاد الأرواح الودودة، وأكثر ما يبتلى به أرق الجنسين وألطفهما - النساء. لعلك لاحظت ما قلته آنماً من أن معظم ما جرى ويجري بالعالم من حوادث الحب والصداقة إنما كان بين من لا يعرفون القراءة والكتابة - وهل هؤلاء إلا النوع الإنساني إلا أفراداً قلائل هنا وهنالك. لا أقول إني أكره الكتب، كلا إني لأحبها ولي بها كشغف السمك بالماء. والطير بالهواء. وأحسبها نعم الأستاذ والرفيق. ولكني أعلم برغم ذلك أن أكابر رجال العالم لم يكونوا عادة من ذي البسطة والرسوخ في العلم. ولا كان ذووا الرسوخ في العلم عادة من أكابر رجال العالم. وكأني بزعماء الطائفة العبرانية كانوا لا يكادون يملكون بضعة أسفار وهم مع ذلك يمثلون لك أثم صورة من الرجولة. ولعلنا لو نستطيع نحن جماعة الأدباء أن ندعو إبراهيم لينازعنا الغداء أو العشاء يوماً ما عددنا ذلك مفخراً عظيماً وغنماً كبيراً. وكل ما أردت أن أذكره عن الكتب هو أنه ما من إنسان ذي مفكرة قوية إلا ويرى نفسه أحياناً فوق الكتب والأسفار الإنسانية. عند ذلك انبرى الفقيه فقال معترضاً ما أري الرجل الذي يجسر على حسبان نفسه في أية ساعة فوق شكسبير إلا مغتراً. قال الأستاذ أعلم سيدي أن الرجل الذي لا تعتريه قط حالة نفسانية يحس أثناءها أنه مفعم الصدر بوجدانات ومعان فوق طانة التعبير ودون منال اللسان ولو أنه ملك أعنة البلاغة وأخذ بناصية البيان - إنما هو لا يعدو أن يكون عباد ألفاظ، على أني لا أكاد أحسب أنه يوجد مثل هذا الإنسان وما عليك يا سيدي إلا أن تذكر قوة الموسيقى وسلطانه فإن الأعصاب التي تتأثر بالأنغام تتشعب من مجاري النخاع في أحدها إحساساً، أعني حيث تنفرج لتسمو إلى خلايا الدماغ، فالموسيقى إذن يسري إلى موطن الإحساس من النفس لا إلى موطن التعقل. ولكنه (الموسيقي) يحدث برغم ذلك سلسلة عواطف وأفكار حسنة الانسجام مطردة السياق إلا أنها أفكار جد مخالفة للأفكار الاعتيادية المعهودة من حيث أنها تعجز اللسان المعبر وتعيي البيان المفسر. ثم ماذا تجد يا سيدي من البون البعيد إذا أنت

قابلت بين عواطف الإنسان وألفاظ اللسان! أتراك سمعت بامريء أنحله وأضناه قراءته قصة روميو وجوليت أو آخر انتحر أسفاً لما حل بامرأة عطيل من دنيسة زميله أياجو؟ وإني لأعرف من الرموز والعلامات ما هو أفصح بكثير من الكلم وأذكر حادث عن زوجة فتية السن وقفت لوداع زوجها وكان مزمعاً سفراً فلم تهيئ لموقف الوداع قصيدة ولا خطبة وإنما أعلنت بها وأبدت شكواها بطريقة أخرى - وذلك أنه امتقع لونها واكتسى وجهها من الألم الكمين والداء الدفين صبغة برتقالية، وفي الناس جانب عظيم لا يملكون من البلاغة والبيان إلا أسلوباً واحداً وهو أنهم يضنون ويهزلون حتى يدركهم الموت. في هذه الأحوال التي تبلغ فيها العواطف أقصى منتهاها كيف يستطيع المرء القراءة؟ إن استطاعته القراءة دليل على أن إحساسه الشديد قد بدأ يفتر وأن تفكيره قد أخذ يتراخى، أنت تعجب أنى تبلغ القحة بإنسان عادي يحسب أنه قد يسموه به فكره أحياناً حتى يفوق فكر أكبر العقول - عقل شكسبير. على رسلك، وتدبر معي هذا الأمر في روية تعلم أن فرقاً عظيماً بين قراءة أحد الصبية كلام شكسبير وقراءة الأستاذين الجليلين كولوريج وسكليجل آيات هذا الشاعر الأكبر! فإذا كان ديوان شكسبير البحر الزاخر فقراءة الطفل فيه كالغرف باليد وقراءة الأستاذين الجليلين كالغوص على كل لؤلؤة بكر ودرة يتيمة، فسواء كان القارئ صبياً أو فيلسوفاً فإن ما قد يجول بخاطره ويفعم صدره أحياناً من شديد العواطف وجليل الأفكار لأسمى بكثير لا من حقيقة قول المؤلف بل من تأويل ذهن القارئ لقول المؤلف. وكأني بمعظم قراء شكسبير تسمو بأذهانهم كلما هذا الشاعر أحياناً إلى طبقة من الإحساس والتفكير كالتي يرفعنا إليها الموسيقي. حينئذ يلقون ديوان شكسبير من أيديهم ثم يفضون إلى عالم الأفكار الذي لا يبلغ إليه اللفظ وقد نكون أنا وأنت من طائفة الأغبياء ولعلها الحقيقة إلا أن يوجد البرهان على ضد ذلك. ولكني وإياك قد ندرك أحياناً لمحة من ذلك العالم الروحاني حيث ترانا على ما بنا الآن من غباوة نمعن في أودية التفكير إلى ما وراء أبعد غايات الذهن الآدمي. وإني أشهد أنه لتمر بي أوقات أكره فيها الكتب حتى لا أطيق أن أراها. وأحياناً أشعر أن من حاجة البدن وأسباب صحته ودوافع علته أن أنفث مكنونات الضمير قبل أن أضع فيه

شيئاً جديداً إذ أنه من أضر الأشياء أن تكتم في الضمير أفكار أو وجدانات كان ينبغي ظهورها اكتتام العلل والإدواء التي كان من حقها أن تبدو على ظاهر الجسد. إني ما زلت أرى للحياة من جسامة الشأن وعظم الخطر مالا أراه للكتب وأحسب أن يوماً واحداً من هذه الحياة الدنيا بما بها من مئات آلاف المواليد والمنايا وما فيها من المودات والعداوات والانتصارات والهزائم والنعم والنقم - أحسب أن يوماً واحداً من الحياة الدنيا هو أوفر نصيباً من الإنسانية من كافة ما حبر وحرر من القراطيس والصحف. والأسفار والرسائل، وأعتقد أن ما يفوح للأزهار النابتة الآن على وجه البسيطة من الطيب هو لا محالة أذكى شذاً مما فاحت به الغوالي المقشرة منذ بدء الخليقة إلى وقتنا هذا. 8 قال شاعر المائدة: وعن شمالي من المائدة كان يجلس مخلوق ما رأيت أغرب هيئة منه إلا في معرض أو متحف، لردائة الأسود لمعان كأنما خرج من أيدي الصياقله لتوه وساعته، وكان مقوس الظهر، دليل على شدة انكبابه وفرط انصبابه على دقيق من العمل، وله أطراف ضئيلة آية على قلة السعي وطول القعود، ذو مفاصل كمفاصل الجراد يخيل إليك أنه ربما نشر مطوى جسده وطفر في الهواء لا يمشي، يلبس نظارتين يقول إنهما تريحان بصره بعد كده في استبانة الدقائق واكتشاف الغوامض، لصوته صرير ضئيل كأن في حلقومه آلة صغيرة بعيدة العهد بالزيت، ولم أدر ما حرفته، فقلت خليق بالمرء أن يعرف عمل جاره، ففاتحته الحديث وفي نيتي ذلك وكان موضوع كلام الناس يومذاك انتخاباً تؤخذ له العدد، فقلت: من ترى يحرز الأغلبية غداً؟. قال ليس غداً وإنما الشهر القابل. فصحت متعجباً الشهر القابل! عجباً لك. أي انتخاب تقصد؟. قال مندهشاً أريد انتخاب الرئيس لجمعية الحشرات وفي وجهه ولهجته دليل على شدة تعجبه وإنكاره أن يكون في الناس رجل يفكر في انتخاب آخر قال شد ما اشتدت المنافسات يا سيدي بين الذبابيين والفراشيين كلاهما يرجو إحراز الرئاسة. قلت أحسبك من علماء الحشرات يا سيدي.

قال كلا أنا أشد تواضعاً من أن أطمح إلى مثل ذلك. ومن لي بأن أرى الرجل الذي يجرأ على إدعاء هذه الدعوى! أنا لا أنكر أنه قد يتأتى وجود جمعية تسمي نفسها جمعية علم الحشرات فأما الفرد الذي يدعي لنفسه ذلك فهذا لعمري دعى محتال وكاذب دجال، إنه محال يا سيدي أن يوجد الفرد الذي تسميه بحق عالماً حشرياً إذ علم الحشرات، أوسع نطاقاً وأبعد مدى من أن يحيك به فرد. قلت وبي من أثر قوله ولهجته نوع من الهيبة هل لي أن أسألك يا سيدي ما موضوع دراستك من هذا العلم؟. قال لقد قصرت مطامعي وحبست أيامي على مذاكرة باب الخنافس لا كل أصنافها - بل الخنافس الأصلية، وحسبك بهذا الباب درساً طويلاً يستنفد العمر المديد ليله ونهاره في البحث والفحص والمذاكرة فسعني إن شئت الخنفسي أو الجغرافي والثانية أولى. وقصاراي يا سيدي أن أفعل ما استحق به هذه التسمية. وكان بيننا شاب فلكي يقضي زمنه بين المريخ والزهرة، بمعزل عن هذا العالم الأرضي، فدعانا ذات صباح إلى غشيان مرصده في ليلة صافية الأديم ساطعة الأفلاك، فكلنا أجاب الدعوة إلا صاحبنا الجغرافي فسألته عن السبب فقال: كثرة العمل يا سيدي - بحث علمي لا يسمح لي بالنظر إلى الكواكب ولو كلمح البصر. قتل حقاً؟ وهل لي يا سيدي أن أسألك عن موضوع ذلك البحث؟. قال مع مزيد الارتياح يا سيدي. وأنه لم أهم الأبحاث وأصعبها وهو تحقيق ماهية الحشرة الطفيلية بيدوكيولوس ميليتا التي تركب ظهور النحل. . يا للعجب العجاب! أيكون في هذا الكون شيء أعجب من هذه الدنيا، حقاً إن هذا العالم لفي جنة أيها الناس هاكم إنساناً مثلي ومثلكم يدعى إلى مرصد تدني له فيه بدائع السموات وروائع الأفلاك فيمنعه من انتهاز هذه الفرصة اشتغاله بحشرة دنيئة مما يركب ظهور النحل أما والله لا بد لي من نظرة في مجهر ذلك الجغرافي لأنظر هذه الحشرة التي تشغل من ذهنه ولبه مالا يشغله مشهد النجوم الباهر. وموكب السماء الفاخر. قلت أتبيحني نظرة في مجهرك أتبين بها هذه الحشرة الطفيلية؟. عند ذلك نشط الجغرافي وارتاح لي وهش واكتست عيناه نظرة إنسانية وسربل محياه

سمياء آدمية وخيل إلي أن ذراعيه تمتدان لمعانقتي. ولا غرو فهو الذي ما زلت أراه مهجوراً من أصحاب المائدة مهملاً منبوذاً لا يؤبه له ولا يعني به ولا يحس وجوده، ولا أبدي هو قط أدنى دليل على أنه من الأنس. فما هو إلا أن لمست منه ذلك الموضع الذي انحصرت فيه حيويته واجتمعت فيه إحساساته حتى أقبل عليَّ حاسراً لي عن وجه إنسانيته وإخائه. وقال جئني عقب الإفطار مباشرة. جئني أراك الحيوان الذي ارتجت له أنحاء العالم الحشري ودوت له بكثرة التسآل أركانه. وعلى ذلك غشيت غرفة الجغرافي ومرقده ومعمله ومعرضه - حجرة واحدة تؤدي هذه الوظائف جميعها. قلت وددت لو أن في الوقت متسعاً فأنظر جميع نفائسك وكنوزك ولكني أخشى أن لا يكون لدي من الوقت أكثر مما يسع رؤية طفيلي النحلة. ولكن ما ألمح هذا الفراش المثبت في هذا الوعاء!. قال الجغرافي: أجل أجلْ إنه لحسن ولقد جاءنا من أمريكا الجنوبية مع هذه الخنفساة. انظر إليها. واعلم أن الخنفساوات ملوك طائفة الحشرات والأفرشة فيها بمثابة الرجال والذباب الصبية. وكانت الخنفساة التي لقتني إليها حيواناً قذراً خبيثاً أشد سواداً من عرض إبليس تشمئز منه النفس ويزوي دونه الوجه ونقدي برؤيته العين وأهون ما يستحق من المار به أن ينبذه بقدمه إن لم ينزل به ما هو أشد وأنكى. ولكن الجغرافي جعل يرنو إليه رنو الفرح المرتاح ويعيره نظر المحب إلى الحبيب المقبل. وصاح ملحة وأيم الله وطريفة إبليس لها في طول هذه البلاد وعرضها من مثيل درة يتيمة ولؤلؤة فذة ثم في امتلاك الشيء المقطوع القرين للذة أية لذة. ولن تجد والله يا سيدي نظيرها دون أن تذهب إلى أمريكا الجنوبية. فسرني جداً أن البلاد خلو من مثل هذه البلية معتقداً أن في الذي بالقطر من الخنافس المعتادة خير عوض من الحيوان المذكور، يغني غناءه ويؤدي وظائفه كافة. قال الجغرافي هناك طفيليات النحل وأراني صندوقاً مملوأ بقطع من الزجاج قد أثبت على

كل منها طفيلي النحل معداً للفحص الميكروسكوبي فكان أكثر اندهاشي من حيوان ضئيل الجثة قد بسط وفرطح ذي أرجل ست تنتهي كل واحدة منها بمخلب كمخلب الأسد وأفظع. قلت هذا هو الذي يمتطي صهوة النحلة ويأكل من لحمها ومن دمها جاعلها مركباً ومسكناً ومرقداً ومطعماً ومشرباً؟. فلم تلح على وجه الجغرافي أدنى ابتسامة، وأكبر ظني أن الابتسام لا يعرف وجهه، وما أحسبه أنه سمع كلمتي هذه أو حاول أن يسمعها. يعيش على النحلة هذا إن فكرت أنعم عيش وأرغده وأي عيشة ألذ من أن يظل ذلك الطفيلي على ظهر النحلة يسبح في الهواء ولا يتجشم مؤنة الطيران، ويدخل كل مكا تلجه النحلة ولا يتكلف أجرة الدخول ثم لا خوف عليه أن يزل من فوق تلك المطية أو يزيله عن ذلك المركب الوطيء مزيل، بل كيف وتلك مخالبه تسد نشبت في متن النحلة نشوب المنية في الآجال، ثم يمتص من عناصر جسد النحلة ما شاء، تأكل النحلة أطايب الجنان ويأكل هو أطايب النحلة، ويعيش في الهواء، وطوراً في سرادقات الزهر النضير، وأروقه النبت العشيب. وحيثما سار حفت ركابه مغردة الذباب تشنف أذنيه بأعذب النغمات، فما أحسب إلا أن دوى النحل وإن دق في مسامعنا هو في أذن ذلك الطفيلي أجهر من سمع المسمعات وعزف الضاربات. كل ذلك جال بذهني ودار بخلدي بينما الجغرافي يحسب أني أتأمل دقائق صفات الحشرة الخطيرة الشأن وخواصها.

عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين

عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين أسلفنا في العددين الثامن والتاسع من السنة الثانية من البيان أن قد أتيح لنا في الخامس عشر من شهر أكتوبر سنة 1914 زيارة زعيم البهائيين في منزله برمل الإسكندرية كما زاره كثير من أمرائنا وعلمائنا وصحفيينا، وكما يجمل بصاحب مجلة شرقية أن يستطلع طلع زعيم ديني شرقي له من المريدين والأتباع ما يعد بالملايين منثورة في الفرس وأمريكا وأوروبا وغيرها من أنحاء المعمور. وعنى بالكتابة عليه والتنويه به كثير من علماء المسلمين واليهود والمسيحيين - شرقيين وغربيين - وأفردوه بالتواليف والمصنفات وأفسحت له كبار اصحف والمجلات في مصر وأوروبا وأمريكا بين أنهارها. ـ. وأن قد دري بيننا وبينه حديث هام وعدنا بنشره، ومهدنا له بكلمة عن جريدة الكرونكل الإنكليزية. بيد أنا لم تنشر هذه الكلمة حتى رأينا بعض ذوي الغايات الذين هم في الحقيقة واحد من اثنين - رجل ينفس علينا هذا الأمر مجلة البيان وأعمالها وقد أكل الحقد صدره أن رأى مجلة البيان قد ذاعت وتغلغلت في جهات الأرض، وأقبل عليها جميع الناطقين بالضاد بالإكبار والإعجاب والغبطة والسرور فهو يهتبل الفرص للنيل منا وتسوئ سمعتنا وتهويش ما بيننا وبين قرائنا. - وذاك خلق فاش - وا أسفا علينا - بين المسلمين. بين الرجل وزوجه. وبين الرجل وابنه - وبين أفراد الأسرة الواحدة وبين أهل الضيعة الواحدة. وبين أهل البلد الواحد - وبين أهل المملكة الواحدة. وبين أهل الحرفة، الواحدة حتى لقد وقعنا فيما خافه علينا الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم إذ قال عليه السلام ما معناه إني أخاف عليكم داء الأمم قبلكن والحسد والبغضاء فاللهم لطفاً. ذاك أو رجل جاهل غبي ليس من العلم في قليل ولا كثير. ولا من الفهم والفطنة في فتيل ولا نفير. فليس في مكنته أن يفهم مرامي الكلام ومناحيه وإنما يأبى ذهنه المجدب إلا أن يحرف الكلم عن مواضعه ويفهم الشيء فهماً سلبياً حتى يتساوق مع طبعه البليد: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم وكلا الاثنين قبل كل شيء ماكر لئيم أسود النية، سيئ الطوية. فهو يأبى إلا أن يقيس الناس وأعمالهم بنفسه وأعماله على حد ما يقول أبو الطيب: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم ومن هنا قام هؤلاء المساكين وظنوا بكلمتنا الظنون ورجموا الغيب وألصقوا بنا كل سواة.

واتهمونا بكل شنعة. وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل أمعنوا في الهجر والسباب وافتروا على الله الكذب - وما أجرأهم على الكذب والبهتان ولم لا وهو بضاعتهم وهم منه لا من غيره يرتزقون - حتى صورونا للناس في وهمهم. . . كأنا لسنا من الناس، فاللهم حوالنا ولا علينا. ونحن فلو أرخينا للقلم العنان لأخللنا بما أخذناه على أنفسنا أنا لا نسف إلى هؤلاء المساكين ولا نسقط إلى حضيضهم الأوهد إذ لو فعلنا لكان ذلك مضيعة منا للوقت على قرائنا فضلاً عن أن ذلك لا يرد ولا يجدي - وإنما الذي نقصد إليه بهذه الكلمة هو أن نبين للمنصفين من الناس أنا لسنا أول من ذكر زعيم البهائيين. وأن ما قلنا إنما هو غيض من فيض بالقياس إلى ما قاله غيرنا ومن بينهم أمراؤنا وصحفيونا وكبار العلماء في أوروبا وأمريكا. فإذا كنا بما قلنا قد صبأنا، أو زلت في سبيل العفة قدمنا كما يقول هؤلاء المساكين - فقد صبأ - معاذ الله أن يصبأوا بذلك أو أن يصبأ مسلم من أحقر عباد الله - الأمير الجليل محمد علي باشا والأستاذ الإمام محمد عبده وشيخ الصحافة الإسلامية المصرية المرحوم السيد علي يوسف. والمسلم الغيور محمد أفندي الكلزة صاحب جريدة وادي والنيل المصرية، إذ قالوا ما نحن ذاكرو بعضه الآن. قال دولة الأمير الجليل محمد علي باشا شقيق سمو الجناب العال الخديوي أمير مصر المفدى في رحلته إلى أميركا الشمالية. في صباح يوم (الاثنين 22 يوليه) ركبنا عربة وذهبنا لشراء كتب هندسية. . وهند عودتنا إلى الفندق أخبرت أن فضيلة العالم الشرقي الجليل عباس أفندي زعيم البهائيين يريد مقابلتي فضربت له موعداً في الساعة الثالثة بعد ظهر هذا اليوم. إلى أن قال دولته. حضر بعد ذلك عباس أفندي فقابلته مرحباً به معظماً له ولم تؤثر الشيخوخة في ذكائه المفرط فإنه مكث معي نحو ساعة من الزمن وهو يحدثني في موضوعات شتى مفيدة جداً دلت على سعة إطلاعه وكثرة اختباره. فهو إذا رجل العلم وعظيم من عظماء الشرق. ثم قال دولته. أما خطاباته الكثيرة المؤثرة فإنها أخذت دوراً عظيماً في أمريكا وقد كانت إذ ذاك حديث الجرائد ينشرونها ويعلقون عليها آراء علمائهم الدينيين. وبالجملة قد توصل باقتداره إلى بلوغ الدرجة التي يحسده عليها الحاسدون. وقد مكثت معه زمناً أحادثه

ويحادثني فيطربني بلذيذ كلامه. ثم انصرفت من عنده وأنا أحفظ له في قلبي المودة والاحترام. وقال المرحوم اليد علي يوسف في المؤيد عدد 6194 الموافق يوم الأحد 16 أكتوبر سنة 1910 تحت هذا العنوان: الميرزا عباس أفندي وصل إلى ثغر الإسكندرية حضرة العالم المجتهد ميرزا عباس أفندي كبير البهائية في عكابل مرجعها في العالم أجمع. وقد نزل أولاً في نزل فيكتوريا بالرمل بضعة أيام ثم اتخذ له منزلاً بالقرب من شتس (صفر) وهو شيخ عالم وقور متضلع من العلوم الشرعية ومحيط بتاريخ الإسلام وتقلباته ومذاهبه يبلغ السبعين من العمر أو يزيد على ذلك. ومع كونه اتخذ عكا مقاماً له فإن له أتباعاً يعدون بالملايين في بلاد الفرس والهند بل وفي أوروبا وأميركا. وأتباعه يحترمونه إلى حد العبادة والتقديس حتى أشاع عنه خصومه ما أشاعوا. ولكن كل من جلس إليه يرى رجلاً عظيم الإطلاع حلو الحديث جذاباً للنفوس والأرواح يميل بكليته إلى مذهب (وحدة الإنسان) وهو مذهب في السياسة يقابل مذهب (وحدة الوجود) في الاعتقاد الديني. تدور تعاليمه وإرشاداته حول محور إزالة فروق التعصب للدين أو للجنس أو للوطن أو لمرفق من مرافق الحياة الدنيوية. جلسنا إليه مرتين فأذكرنا بحديثه وآرائه سيرة المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني في إحاطته بالمواضيع التي يتكلم فيها وفي جاذبيته لنفوس محدثيه إلا أن هذا يتسع حلماً ويلين كتفه لحديث مخاطبيه ويسمع منهم أكثر مما يسمع السيد جمال الدين - ثم نقل المؤيد عن عباس أفندي كلاماً في شأن إقامته في مصر وأنه لا يحب أن يتعرض للسياسة. . . الخ. وجاء في جريدة وادي النيل في العدد 890 الموافق يوم الأربعاء 22 مارس سنة 1911 قال أثناء مقالة افتتح بها هذا العدد تحت عنوان: عباس أفندي بهاء الله. وقد خلط الكتاب على صفحات الجرائد في الكلام عن هذا الرجل الموقر بين البابية والبهائية في حين لا جامعة بين الأمتين ولا رابطة تربط الدعوتين. وما البهائية التي نحن في صددها سوى أنموذج الفضيلة. جوهرها وحدة الإنسان وتعاليمها إزالة فروق التعصب للدين أو للجنس أو للوطن أو لمرفق من مرافق الحياة الدنيوية. . .

إلخ إلى أن قال ومن هنا يتضح أن هذا الشيخ الجليل كثير التسامح جميل المقاصد حسن العقيدة. ولاشك أن كتاب والده المسمى الكتاب الأقدس مملوء من هذه التعاليم الطيبة التي ترمي جميعها إلى الفضيلة. وما أحلى دين الفضيلة والمعروف. فقد قال كاتب في جريدة المقطم. إني كنت أطالع في الكتاب الأقدس وهو ذلك الكتاب الذي ذكر فيه انبهاء زعيم الطائفة البابية. قال كاتب وادي النيل (وهنا خلط أي كاتب المقطم بين البابية والبهائية) تعاليمه. . . فوجدت في هذا الكتاب أقوالاً وتعاليم عديدة تدل على أن البهائية هي أكثر المذاهب دعوة إلى الدستور. . . الخ مما يريد بيانه الكاتب من أن بهاء الله غير ما أشاع عنه خصومه وأعداء مبادئه الصالحة ـ. ثم قال كاتب وادي النيل. أما انتشار دعوته فمما لا مرية فيه ويدلنا عليه إقبال الناس إلى زيارته من كل فج وبينهم كثير من ذوي المقام الرفيع والعقل الراجح واليسار الأكيد ودليل ذلك ما جاء في (الجريدة) بتاريخ 3 يونيو الماضي بعنوان البهائية والإسلام مترجماً عن الجرائد الإنكليزية. قالت (أي الجريدة المصرية التي يديرها الأستاذ المفضال أحمد لطفي السيد). خطب المستر تمبل خطبة في إيران وتجدد الإسلام على جمعية الفنون الملكية الإنكليزية التي عقدت جلستها في 25 مايو سنة 1910 برئاسة الأستاذ برون أستاذ الفارسية في كلية كمبردج. ومما قال في خطبته أن أوروبا غير مبالية الآن بنشوء الحركة الدينية الجديدة في إيران والمسماة بالبهائية (نسبة إلى بهاء الله منشئها) فقد بلغ عدد البهائيين في الدنيا منذ ابتداء هذه الحركة مليونين أو أكثر مع أن مؤسسها كان حياً في أواخر القرن الماضي. والناس يقبلون عليها أفواجاً من غير المسلمين وهي تنتشر في روسيا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا وعدد البهائيين في لندن كثير ولهم دوائر صغيرة في مانشستر وليفربول وأدنبره وغلاسكو. وينتظر أن تصبح الولايات المتحدة الأمريكية مركزاً كبيراً للبهائية. والاعتقاد الشائع أن البهائية دين يراد به أن يكون دين العالم كله كلغة الأسبرات والتي يراد جعلها لغة عمومية ولكنه ليس في واقع الأمر ديناً بل حركة دينية. وقد جيء به لتجديد آسيا وأهلها وروحه مضادة للبابوية وللكنيسة الإنكليزية ولسائر الآكليروس. وهو عامل قوي ينتظر أن يكون ذا

تأثير عظيم في التطهير والتجديد. ونشرت جريدة (الأديشيان غازت) التي تصدر في الإسكندرية عدد 34 سبتمبر الماضي تحت عنوان: (الأستاذ فامبري والبهائية) مقالاً للسيدة ستنادر العالمة الإنكليزية المشهورة التي كانت تلقى محاضرات جليلة حول علم النفس في دار الجريدة هذا نصه. قالت مسز ستنارد: لما كانت وفاة ذلكم البحاثة المشهور والمستشرق الكبير الأستاذ أرمينياس فامبري، لم يتضمن عليها إلا أيام قلائل. رأيت أن خطابه الذي بعث به قبل وفاته ببضعة أسابيع إلى عبد البهاء عباس أفندي قد أصبح رسالة تدون في التاريخ. وكتاباً مأثوراً. ذا مكانة عظيمة وأثر كبير. ويسرني أن قد أذن لي في نشر ذلكم الخطاب. ولم يكن قد نشر بعد للناس. وأن في حسن أسلوبه. وأدب عباراته. لدليلاً واضحاً على تمكن ذلكم الأستاذ المبدع من فهم قلب المشرق المتدين. وبرهاناً جلياً على توافره على تعضيد كل مقصد نبيل حق ومطلب شريف صدق، ولعل كثيرين لم يروا في فامبيري إلا عالماً طبيعياً. لا يفتر عن البحث. ولا يرهقه الاستقصاء. وبحاثاً مكتملاً. يبحث في أصل الحيوان والإنسان. وآخرون يعلمون ما يجري في الشرق الأدنى من مشاكل في الحياة وفي الفكر. ويرون في الأستاذ رجلاً أعظم شأناً مما يظن هؤلاء. وأطول باعاً مما عرفوا وأسمى شأن مما عهدوا. وإن حياته المتوقدة نشاطاً وهمة وعزماً. تجمع خبرة أوسع. وعلماً أكبر وأحفل. استمده من تجاربه. واستخرجه من مشاهده. وكان نصيبه منها يربي على أنصبه ثلاثة من الساسة مجتمعين. وكانت معرفته باللغات عجيبة الشأن. فقد كان عليماً بخمسة عشر لغة. كتابة وقراءة. ومن ثم كان حكمه على الرجال والأشياء يمتد به. ويرجع إليه. لقيامه على نظر ثاقب. ونصفه نافذة. وقد لبث في بطانة عبد الحميد السلطان المخلوع أربع سنين. كان في خلالها مستشاره الخصوصي. وقد قضى شباباً له عسراً في أوساط غربية مثل تركيا وفارس والبلقان كسبته فرصاً لم تسنح لأحد وقد فرغ فيها إلى البحث والاستقراء. أما عن الفلسفة الدينية فقد كان يخبر أحسنها ويبحث عن أسماها وكان يتكلم في المذاهب الإسلامية. سواء العربية منها أو الفارسية. عن خبرة واسعة وعلم صميم. فكان فيها موضوع احترام علمائها.

وكثيراً ما كتب عن ترجمة حياة ذلكم العبقري النادرة في المجلات الغربية من حين إلى حين. وسيكتب عنه أكثر مما كتب. على أننا لا نستطيع أن نصدق أن ما كتب أو يكتب عنه سيكشف لنا عن روح ذلكم العالم البحاثة. ويبدي لنا قرارة نفسه ومواهبه السامية في زمان شيخوخته. كما تكشف لنا عبارات خطابه الآني. وكأنى بنا نشهد منه ضوء مشكلة سطع من قلب رجل كان يبحث أبداً ويجد ليهتدي على حقيقة كبيرة. واعتقاد يتنازعه. حتى ظفر أخيراً بطلبته من الحق والخبرة فكان بهما راضياً. وكان اللقاء المأثور الذي جرى بين عبد البهاء والأستاذ فامبيري في بودابست في أبريل الماضي. وقد لقي الزعيم البهائي العظيم من عصبة العلماء والبحاثة المستشرقين والمصلحين الاجتماعيين حفاوة وترحيباً. فلما عاد عبد البهاء إلى مصر كتب إلى فامبيري كتاباً وبعث إليه بهدية. فكان جوابها الخطاب الآني. ولكي يعلم من لم يسبق له علم بالأساليب الكتابية في الشرق أقول أن أسلوب الخطاب لا يكتب به في الإسلام إلا علماء الدين، ولا يستعمل إلا في مراسلة معلم عظيم المكانة أو زعيم جليل القدر. وإلى إلغراء ما كتب فاميري إلى عبد البهاء: أرفع هذا العرض الحقير إلى حضرة عبد البهاء عباس أفندي، وسدته الطاهرة المقدسة إلى قطب العالم الذائع الذكر في الخافقين والمحبوب من الناس جميعاً. أي صديقي الكريم. وهادي الناس إلى سواء السبيل، لو أن حياتي تروح لك فدى، قد وصلا غلي سالمين. فعاودتني ذكرى لقائي بفضيلتك. وتبركي بحضرتك. وأني لأحن إلى لقائك. وأشتاق إلى رؤيتك. وقد جبت كثيراً من ممالك الإسلام وبلدانه، فما رأيت خلفاً سامياً مثل خلقك، ولا شخصية عالية مثل شخصيتك. وإني لأشهد أن ليس من الممكنات أن يقع المرء على نظيرك. وأؤمل أن تكون مبادئك الكمالية وأعمالك قد توجت بالفوز والنصر. وأثرت على أية حال. فإني ألمح من وراء مراميك الكمالية وأفعالك. الخير الأبدي والنعيم المقيم لعالم الإنسانية. إن خادمك أراد أن يجتبي العلم والخبرة من مصدرهما فدخل في أديان كثيرة فصار في مظهره يهودياً ومسيحياً وزرودشتيا. على أني رأيت أن المتمسكين بهذه الأديان لا هم لهم إلا التباغض والتنافر والتباهل والتلاعن. وإن هذه الأديان قد أصبحت آلات للظلم

والطغيان في أيدي الولاة والحكام. وأنها أسباب تعمل على خراب العالم الإنساني وفنائه. وتفادياً من شر هذه النتائج كان حقاً على كل إنسان أن يكتب اسمه في سجل أنصارك. ويرضى مبتهجاً بمقصدك إلى تأسيس قاعدة ينهض عليها دين عام. وكنت أنت واضع أساسه بمجهوداتك وأعمالك. لقد رأيت عن بعد أيا فضيلتك، ثم شهدت كرم نفس ابنه وشجاعته وتضحيته فرحت بكما معجباً. وإني أقدم احترامي الأكبر وإخلاصي الأشد إلى مبادئك ومراميك وإذا مد الله تعالى في عمري وتنفست بي السن استطعت أن أخدمك على كل حال. وإني أدعو الله وأضرع إليه من أعماق فؤادي أن يحقق أمنيتي. خادمك فامبري

ل

ل النبأ العظيم العلم يؤيد الدين في مسألة المسائل لا شيء يخلق نفسه وكل شيء يفنى جوستاف لوبون كان المذهب السائد بين علما الطبيعة حتى في هذه الأيام أن المادة لا تنعدم. وهذا المذهب هو أحد المذاهب العديدة التي أخذها العلم الحديث عن العلم القديم دون تغيير ولا تحوير. ومعنى قولنا أن المادة لا تنعدم، إنه لا يمكن إعدامها بأية وسيلة كانت، وإن شكل المادة وهيأتها ومظهرها وخصائصها من الممكن تغييرها بوسائل مختلفة، ولكنا لا نستطيع بحال من الأحوال أن نفني المادة نفسها، وقد ترى في الظاهر أن المادة تختفي في كثير من الأحوال، ومثل ذلك الماء في حال تبخره، ولكن هذا التلاشي الظاهر لا يدل إلا على تغير في شكل المادة، وليس علينا إذا أردنا أن نردها إلى أصلها إلا أن نبرد بخارها بمختلف الوسائل. ولقد مضى على هذا المذهب العتيق مئات القرون من عهد الشاعر الروماني لوكريس، واضع تلك القصيدة المشهورة في طبيعة الأشياء والمتوفى سنة 51 قبل مولد السيد المسيح، إلى عهد العالم الكيماوي الطائر الذكر لافوزييه واضع الكيمياء الحديثة، وصاحب تلك النظرية القائلة لا شيء يفنى، ولا شيء يخلق نفسه والمتوفى عام 1794 من الميلاد، ولم يفكر أحد في نقد هذا المذهب وتمحيصه، بل أخذوه قضية مسلماً بها. حتى قام في أيامنا الحاضرة العلامة المحقق والفيلسوف النادرة الدكتور جوستاف لوبون، صاحب كتب روح الجماعات وسر تطور الأمم وحضارة العرب وروح الاشتراكية وروح السياسة وغيرها من الأسفار، فوضع كتاباً سماه سر تطور المادة خالف فيه كل العلماء الكيماويين المتقدمين منهم والمتأخرين، ونقض دعائم المذهب القديم وأتي بآرائه الحديثة في المادة ودعمها بالحجج والشواهد والتجارب الكيماوية، ففاق بكتابه هذا العلامة هيكل وإن لم يكن فاق به دارون ولامارك فقد أصبح في مصافهما، وقد أحدثت هذه الآراء الجديدة ثورة علمية بين علماء أوروبا، لأن كل عقيدة جديدة تجتاز ثلاث عقبات، الأولى أن يقوم الناس لمعارضتها محاربتها والتصريح بأنها طائشة فاسدة، والثانية أن يعترفوا بأنها حقيقية ولكن مبهمة،

والثالثة أن يشهدوا بأهميتها العظمى، ويطالب معارضوها وأعداؤها بشرف اكتشاف تلك الأهمية. ولقد جازت آراء جوستاف لوبون هذه الخطوات الثلاث، وكان انتشارها سريعاً جداً، ولم تمكث معارضة العلماء لها زمناً طويلاً، بل أخذها جماعة من مشهوري العلماء الكيماويين وأعادوا عمل التجارب التي عملها جوستاف لوبون، وتوسعوا فيها، ومن بين الجماعة السير ويليم رامزي أشهر مشهوري علماء إنجلترا، ووضع كتاباً له قال فيه أنه وقفه على إعلان الأبحاث التي قام بها لتحقيق التجارب المذكورة في كتاب الدكتور جوستاف، ولم تخالف نتيجة أبحاثه آراء صاحب المذهب الجديد إلا في شدتها وجرأتها. والكتاب منقسم إلى قسمين قصر في القسم الثاني على تفاصيل تجاربه الكيماوية، وفي القسم الأول الكلام عن أبحاثه ونتائجه وآرائه، وبذلك تسهل على سواء القراء مطالعة الكتاب، والقسم الأول مجزأ إلى أبواب فالباب الأول عنوانه الآراء الحديثة في المادة، وهو مقسم أيضاً إلى فصول نريد أن نلم هنا بما يسعنا ذكره منها، وفي الأعداد القادمة نسترسل في بسط جميع أبحاثه للقراء: بدأ الدكتور الكلام في نظرية انحلال المادة فقال إن المادة قابلة للانحلال وإن انحلالها يغيرها إلى أشكال أخرى تفقد فيها كل صفاتها وخصائصها الأصلية. وإن الأدلة على ذلك كثيرة اليوم، ونخص بالذكر جعل ذرات المادة تتفرق وتنبعث بسرعة شديدة تصير الهواء موصلاً للكهرباء، وتحترق كل الموانع التي تقف في سبيلها، ولما لم يكن في القوى التي عرفتها الكيمياء الحديثة ما يستطيع أن يحدث هذا الفعل، ولاسيما الانبعاث الذي تقرب سرعته من سرعة انبعاث الضوء، فقد أخذ العلماء الكيماويون يضعون نظريات عديدة لشرح كيفية ذلك، لفلم تفلح واحدة منها، ولم يقف في وجه كل نقد أو معارضة إلا نظرية تفريق الذرات التي وضعها الدكتور جوستاف لوبون منذ بدأ أبحاث مذهبه الجديد، فهي بذلك قابلة لتصديق الجميع عليها. وقد مضت أعوام كثيرة منذ أثبت الدكتور عملياً أن المفعول الذي يشاهد في الأجسام التي تسمى المحدثة لفعل الراديوم مثل عنصر الأورانيوم ولم يعرف غيره من قبل من الممكن أن يشاهد في جميع الأجسام المادية وليس هناك تفسير لهذا المفعول إلا أنه نتيجة انحلال ذرات هذه الأجسام، وإن الأجسام المحدثة لفعل الراديوم لا تدل إلا على أن لها درجة في

المفعول أكبر من درجة أية مادة أخرى. وليس معنى انحلال المادة انقسامها إلى أجزاء صغيرة تكون بمثابة ذريرات، بل معناه أن المادة تنحل ذراتها وتنتقل إلى أحوال متتابعة تفقدها خصائص المادة حتى تعود في النهاية إلى الأثير الذي يظهر أنها منه خرجت. ثم انتقل الدكتور من ذلك إلى البحث عن تلك القوة الكبرى اللازمة لانبعاث الذرات في القضاء بسرعة الضوء فقال إن المادة ليست شيئاً جامداً عديم الحركة لا يمكنه إلا إظهار القوة الصناعية التي تعطى إليه، بل إن المادة تحتوي كنزاً كبيراً من القوة، القوة الكامنة في الذرات!. ولكن مذهباص مثل هذا يصطدم مع كثير من المبادئ العلمية الأساسية، التي قررت بالإجماع، ولما كان العلماء قد اعتادوا أن يعدوا مبادئ علم الثرمودينامك أي علم العلاقة بين الحرارة والميكانيكا طأنها حقائق مطلقة لا يتسرب الخطأ إليها، ويفهموا أن المادة لا تستطيع أن تملك قوة غير تلك القوة التي تأتي إليها من الخارج، فقد أصر سواد العلماء، ولا يزال بعضهم مصراً، على البحث من الخارد عن مصادر القوة الحادثة من انحلال ذرات المادة، ولن يجدوها بالطبع، لأنها في المادة نفسها وليست خارجة عنها. وهذا النوع الجديد من القوة - القوة الكامنة في الذرات - لا يعتمد في إثباته الدكتور جوستاف لوبون على النظر ولكن على نتائج تجارب له عديدة، ولئن كانت تلك القوة قد جهلت حتى اليوم، فهي أعظم من كل القوى المعترف بها، بل هي مصدر أغلبها، ولئن كان وجودها لم يعترف به في أول الأمر فقد بدأت اليوم تسير في سبيل التصديق. وقد خرج الدكتور من تجاربه الكيماوية بالنتائج الحديثة الآتية: [1] إن المادة التي كان العلماء يتوهمونها لا تفنى، تنعدم ببطء من جراء الانحلال المستمر في الذرات التي تتركب منها. [2] إن نتائج انحلال المادة مواد هي من خصائصها وسط بين المادة والأثير، أي بين عالمين لا يزال العلم حتى اليوم يفصل بينهما. [3] إن المادة التي أجمع العلماء على أنها جامدة عديمة الحركة، ولا تستطيع إلا أن ترد القوة الصناعية التي تعطاها، هي على العكس من ذلك هي كنز قوة هائلة تستطيع أن

تتوزع من نفسها. [4] إن من هذه القوة الكامنة في ذرات المادة، الظاهرة من انحلال هذه الذرات، ينتج أغلب قوات الكون ونخص بالذكر الكهرباء والحرارة الشمسية. [5] القوة والمادة نوعان مختلفان لشيء واحد، فالمادة تمثل نوعاً ثابتاً من القوة الأنتراأتوميك أي الكامنة في الذرات، وأما الحرارة والضوء والكهربائية. . . الخ فتمثل أنواعاً غير ثابتة ولكنها من نفس هذه القوة. [6] تفريق الذرات وبعبارة أخرى انحلال المادة ليس إلا تحويل النوع الثابت من القوة المجتمعة المتجمدة التي نسميها المادة إلى تلك الأنواع غير المتجمدة المعروفة باسم الكهرباء والضوء والحرارة. . . الخ. [7] من الممكن إذن تحويل المادة العلمية إلى أنواع مختلفة من القوة ولا ريب إن طبيعة الأشياء هي التي جعلت القوة متجمدة في شكل مادة. [8] إن توازن القوى الهائلة المتجمدة في الذرات يكسبها صلابة شديدة، ويكفي لتفريق هذه الذرات وانفصالها اضطراب هذا التوازن بواسطة (كاشف) أي مادة تحدث رد فعل يوافقها. [9] إن الضوء والكهرباء وأغلب القوى المعروفة تحدث من انحلال المادة، ويتبع ذلك أن المادة المتشععة تفقد من تشععها جزءاً من جرمها فإذا تشعع كل طاقتها توارت بكليتها في الأثير. [10] إن قانون التطور المسنون للمخلوقات الحية هو أيضاً القانون الذي يجري على الأجسام المادية وإن الأنواع الكيماوية لا تختلف في شيء عن الأنواع الحية. هذه هي النتائج التي استنتجها الدكتور. وقد استطرد بعد هذا الاستنتاج إلى البحث في التغيرات التي تحدثها هذه النتائج في فكرتنا العامة عن حركة الكون، فقال إن مسألة طبيعة المادة وطبيعة القوة هي إحدى المسائل التي استنفذت ذكاء كثير من الفلاسفة والعلماء ولم يظفر أحد بحلها التام، لأن ذلك يتطلب في الحقيقة معرفة السر الأول للمحسوسات وهذه المعرفة لم تجتمع لأحد حتى الآن ولذلك كانت الأبحاث التي يعرضها الدكتور ولا تضمن هذا الحل التام وإنما تؤدي إلى رأي في المادة والقوة مخالف جد الاختلاف للرأي المجمع عليه في هذه الأيام.

وقد استنتج الدكتور من بحثه في تركيب الذرة أنها مختزن هائل لقوة متركبة من عناصر اثيرية متماسكة من التوازن بدورات الأجزاء التي تتألف منها جاذبيتها وضغطاتها ومن تباين هذا التوازن تنشأ الخصائص المادة للأجسام من ثقل وشكل ومظهر. ومن هذا نعتبر أن المادة ليست إلا نوعاً بسيطاً من الطاقة أو القوة، ونضيف إلى تلك القوى المعروفة من حرارة وضوء وغيرها قوة أخرى هي المادة أو القوة الكامنة في الذرات. فإذا أحدثنا تغيراً في هذا التوازن، وكان هذا التغير شديد السرعة سميناه كهرباء أو ضوء. . . الخ وإذا كان هذا التوازن شديد الثبات سميناه مادة، ولنذهب بعيداً فنقول مع كثيرين من العلماء أن الأجسام المتماسك أجزاؤها من توازن قوى ذراتها تتركب من تموجات متكونة في الثير، ولهذه التموجات شخصية توهم العلماء حتى اليوم أنها أبدية، وما هي إلا وقتية، وإن هذه الشخصية تفني، وهذا التموج يقف في الأثير بمجرد وقوف القوات التي تضمن وجوده عن عملها، وإن الحرارة والضوء والكهرباء هي الخطوات الأخيرة التي خطتها المادة في طريق اختفائها في الأثير، وإذا اختلف جسم عن جسم فلا سبب هناك إلا أن يحوي أكثر أو أقل منه في القوة الذرية الكامنة. وقال الدكتور بعد هذا أنه يجوز توهم قوة من غير مادة، لأنه ليس هناك ما يدل على أن القوة يجب أن تستند بالضرورة على عون، ولكن هذه الفكرة لا نستطيع أن نصل إليها، وإنما نحن نفهم الأشياء بإدخالها في الدائرة التي اعتدنا أن تمرح فيها أفكارنا، وإذا كنا نريد أن نبلو كنه القوة المحجوبة عنا فمن اللازم انحلالها حتى يتم لنا ذلك. وقد تخلص الدكتور من ذلك التعاريف الآتية: إن الأثير والمادة يمثلان جوهرين من نوع واحد، وإن الكهرباء والحرارة والضوء والمادة أدلة على ذلك، وأنها إنما تختلف بعضها عن بعض باختلاف طبيعة التوازن الموجود في الأثير وصلابته. وكثيرون من العلماء وفيهم العلامة المشهور (فراداي) كانوا يجتهدون حتى الآن في محو فكرة الثنائية بين المادة واللطاقة، وكذلك اجتهد بعض الفلاسفة فقالوا إن المادة لم نلمسها ونحس بوجودها إلا بتوسط قوى تؤثر على حواسنا، ولكن كل هذه الآراء وشبيهتها

اعتبرت أنها استنتاج نظري، وعارضهم سواد العلماء فقالوا إنه من المستحيل تحويل المادة إلى طاقة وإن من طبيعة الثانية أن تحرك الأولى وتعمل فيها. ثم بدأ الدكتور في فصل آخر يتكلم عن نتائج فناء المادة فأعاد قوله ممهداً أن المادة ليست أبدية وأنها تحوي مجتمعاً هائلاً من القوة، وإنها تختفي متحولة إلى قوة أخرى قبل أن تعود إلى ما نسميه العدم، ثم قال إنه يجوز لنا أنا نقول أنه إذا ظللنا عاجزين عن خلق المادة فإنا عارفون على الأقل كيف نعدمها من غير أن يكون لها عودة: وإن الشعار القديم لا شيء يخلق نفسه، ولا شيء يفنى يجب أن يغير بشعار جديد، هو لا شيء يخلق نفسه، وكل شيء يفني. وقال إن الأهمية النظرية الناشئة من هذه الآراء خطيرة ذات بال فإن آراءه التي يدافع عنها اليوم ويسندها بالحجيج، لم تكن في العصر الذي اهتدى فيه إليها متينة الحجة والدفاع، وقد أمسك كثيرون عن إعلان مبلغ الأساس العلمي الضروري الذي يكفله مذهب بقاء المادة ومن ثم ترى هربرت سبنسر في فصل له عنوانه استحالة انعدام المادة يقول إذا استطعنا أن نتصور أن المادة يمكن أن تصير غير موجودة، كان لزاماً علينا أن نعترف بأن العلم والفلسفة أمران محالان ولا يخفي أن في هذه الجملة شيئاً من المبالغة والمغالاة فإن الفلسفة لم تتكلف يوماً أن تلقي بنفسها في عالم الاختراعات الحديثة، بل إن الفلسفة تتبع هذه الاختراعات، ولكن لا تسبقها. وليس الفلاسفة وحدهم الذين يصرحون باستحالة نفقد فكرة أبدية المادة، بل كتب منذ سنين العالم الكيماوي باكويه وكان أستاذاً في جامعة الطب بباريس ما يأتي. لم نر يوماً أن القابل للوزن يريد المادة يتحول إلى غيرها القابل للوزن أي الأثير بل إن عالم الكيمياء بأسره قائم على قانون عدم وجود مثل هذا التحول، أما إذا كان له وجود، فقل إذن السلام على النسب الجبرية الكيماوية!. ويقول الدكتور رداً عليه أنه مصيب في تخوفه لأنه إذا كان انتقال المادة إلى الأثير شديد السرعة، وجب علينا أن نتخلى لا عن النسب الجبرية للكيمياء وحدها، بل عن النسب الجبرية للميكانيكا معها، ولكن هذه النسب لا تتأثر، لأن فناء المادة يسير ببطء شديد غير محسوس، وإن فقد ما يقل عن واحد من مائة من المليجرام، لا يمكن أن يظهر في كفة

الميزان ولذلك لا يحسب الكيماويون له حساباً. أما الأهمية الحقيقية لمذهب فناء المادة وانتقالها أولاً إلى القوة، فلا تظهر إلا عندما نجد الوسائل التي تساعد على الانحلال السريع، فإذا جاء ذلك اليوم الذي يحصل الإنسان فيه عفواً على مصدر قوة لا نهاية لها، مهيأة لخدمته، فإن العالم ستتغير لاشك معالمه، ولكنا لسنا الآن عند ذلكم اليوم. وفي الحقيقة ليس لهذه الآراء إلا أهمية علمية بحتة، وستظل في الحالة الراهنة مفتقرة إلى استعمالات كثيرة افتقار الكهرباء في عهد فولتا إلى مثلها. ومع ذلك فإن أهميتها العلمية كبيرة لأنها تدل على أن محسوسات الكون التي حكم لها العلم بالبقاء والثبوت، ليست في الحقيقة ثابتة ولا قابلة للبقاء. تعتقد الكيمياء منذ عهد لافوازييه أنها قد أظهرت لنا أنه من الممكن أن نجرد المادة من جميع خصائصها وصفاتها إلا واحدة منها - يعني أبديتها - وأنه من الهين أن نزيل الصلابة والشكل واللون والخصائص. وأن أشد الأجسام صلابة يمكن أن يتحول إلى بخار، ولكن كل هذه التغيرات لا تؤثر على جرم هذه الأجسام، بل يبقى جرمها على ما كان عليه من قبل في الوزن، فكأنه لم يمس. وعدم تغير الأجرام في المادة هو المسألة الوحيدة المقررة الثابتة في عالم النظريات - ذلك العالم المتحرك المتحول - وهو الذي يجعل الكيماوي والعالم معاً يتبعان المادة في كل تحولاتها كأنها شيء متحرك متحول، ولكن مع ذلك غير قابل للانعدام، وبعبارة أخرى أبدي. وقد تحاشى العلماء والفلاسفة البحث عن تعريف دقيق صحيح للمادة، لأن عدم تغير جرمها يقف عقبة دون ذلك، وإذا قطعوا النظر عن هذه النقطة الضرورية. فكل ما يستطيعون قوله هو أن المادة هي ذلك العنصر الغامض المتحول الذي تنشأ منه العوالم والمخلوقات التي تعيش فيها. أما ثبات الجرم أو بقاؤه فراجح الأهمية، لأن عليه ينهض عالماً الكيمياء والميكانيكا. وقد أضافوا إلى ذلك فكرة أخرى وهي انه لما كانت المادة لا تستطيع أن تخرج بنفسها من جمودها فقد استعين على تحريكها بجوهر مجهول عرفوه باسم القوة. ولذلك فصل علم

الطبيعة بينهما حتى اليوم، ولكن العلم الحديث جمع بينهما في اسم واحد هو الطاقة، وهكذا قام على أنقاض المذاهب العتيقة، بعد اجتهاد قرن كامل قوتان كبيرتان، أولاهما المادة وثانيتهما الطاقة لتحريكها. هذه هي الآراء والنظريات الأساسية الذي ينهض عليها العالم الحديث، والتي تؤدي أبحاث سر تطور المادة إلى تقويض أركانها ونقض دعائمها. وقد ختم الدكتور جوستاف لوبون الفصل الأول بقوله إذا كان قانون بقاء المادة سيهدم من هذه الضربات التي تزعزع ركنه، كان حقاً علينا أن نقول أن ليس في العالم شيء أبدى، وسيحكم على العلم بالنظر في تلك الآراء التي تعمل في كل المحسوسات، وهي النشوء والنمو والانحطاط والموت. . . هذا هو العلم يضع يده في يد الدين، ويشهد له في مسألة ذات مكان وخطورة عندهما، وليطمئن علماء الدين، ولتقر أعينهم وليمضوا في دينهم مضي العلماء في علمهم، فإن الدين والعلم دائرتان مشتركتان في المركز، وذلكم المركز المشترك هو الحق.

تاريخ النزاع بين العلم والدين

تاريخ النزاع بين العلم والدين من بين أنصار الإسلام من الفرنجة - وكثيرهم - والشهور العدول على تقدم العرب وسبقهم الغرب في تأسيس بناء المدينة الحديثة واكتشاف أغلب العلوم المصرية، فيلسوف أميركي طائر الذكر بين أمريكا وأوروبا والشرق، وهو الفيلسوف دريبر صاحب ذلك الكتاب الخالد وهو تاريخ النزاع بين العلم والدين الذي طالما استشهد به أستاذنا الإمام محمد عبده رضي الله عنه في دفاعه عن الإسلام وردوده على منكري فضله، وكان لذلكم الكتاب أثر كبير في البلاد الغربية وطبع نحواً من ثلاثين مرة، وقد دافع فيه المؤلف عن الإسلام، وشهد بأسبقية العرب، وفي الكتاب فصول جليلة شائقة في منشأ العلم ومنشأ المسيحية، والنزاع بين العلم والدين في مسائل الروح وعمر الأرض وطبيعة العالم وقانون الكون، والمسيحية وعلاقتها بالتمدين الحديث. وكذلك علاقة العلم به، والأزمة الدينية المتوقع حدوثها في أوروبا وهو آخر مباحث الكتاب. ونحن نقتطف اليوم الفصل الخاص بالعلم وعلاقته بالمدينة الحديثة، وسننقل إلى قراء البيان كل فصول هذا الكتاب القيم، في كل عدد فصل يكون كأنه موضوع مستقل.

العلم وأمريكا

العلم وأمريكا إذا كنا نجد في تاريخ أوروبا في عصر إصلاحها الديني آثار العوامل التي أحدثتها المسيحية الكاثوليكية لرقي المدينة وتقدمها، فإن في تاريخ أمريكا إذا نحن خبرناه اليوم آثاراً كثيرة من آثار العلم. في مدن القرن السابع عشر أقبل شتيت من الفرنجة وشراذم من أهل الغرب يستوطنون الساحل الغربي للمحيط الأطلانطي، فأما الفرنسيون ففتنتهم أسماط نيوفوندلاند وحيتانها فاتخذوا لهم مستعمرة صغيرة شمال نهر سانت لورانس، وأما إخوانهم الإنجليز والهولانديون والسويديون فاحتلوا ساحل القسم المعروف بإنجلترا الجديدة وفي الولايات الوسطى، وأقام قوم من الهوجينوت في ولايات الكارولينا وأهطع جمع من الأسبان إلى شبه جزيرة فلوريدا أثر إشاعة مفادها أن هناك عيناً تكسب الشارب منها الشباب المقيم. وكان وراء تخوم تلك القرى التي بناها أولئكم الجوابون أرض واسعة مجهولة يسكنها قوم من الهنود شأنهم التجواب والتجوال، ولم يكن يزيد عددهم من خليج المكسيك إلى نهر سانت لروانس عن مائة وثمانين ألفاً، ومنهم علم أولئك الأوروبيون أن في تلك الأقاليم النائية بحيرات ذات ماء عذب، ونهراً عظيماً يسمونه الميسيسيبي ومنهم من قال أنه يجري في إقليم فرجينيا إلى المحيط الأطلانطي، وقال آخرون أنه يشق شبه جزيرة فلوريدا، وقال غيرهم أنه يدفع إلى المحيط الهادي، واعتقد البعض أنه يدفع إلى خليج المكسيك. وكأنما هؤلاء المستعمرة إذ خرجوا من بلادهم، وفصلهم المحيط العاصف المزبد، وقطعوا في اختراقه أشهراً عدة، فقد فقدهم العالم، وأضاعتهم معارف الأرض. على أنه لم يكد ينتهي أجل القرن التاسع عشر حتى أصبح نسل أولئكم المستعمرة الضعفاء قوة من أعظم قوى الأرض. أسسوا جمهورية جمع سلطانها بين المحيطين. وهزموا مهاجماً من عصرهم، ومحارباً من أهليهم، بجيش يبلغ عديده أكثر من نصف مليون رجل، لا على الورق، بل ساحة الحرب، وميدان القتال، وأجروا في البحر ما يقرب من سبعمائة من جواري الحرب تحمل خمسة آلاف مدفع منها ما هو أثقل مدافع الأرض وزناً، وتبلغ حمولتها نصف مليون طن، ولقد صرفوا في سبيل الذود عن حياتهم القومية في أقل من خمسة أعوام ما يربي على أربعة ملايين من الريالات، وقد ظهر من تعدادهم أنهم يزيدون بمقدار الضعف في كل خمسة

وعشرين سنة فلا جرم إذا توقعنا أن يصبح عدادهم في نهاية هذا القرن نحو من مائة مليون. لقد استحالت تلكم الأرض الساكنة إلى أرض صناعية كثيرة الجلبة والضوضاء، وأصبحت تدوي بأصوات الآلات وتضج بحركات العمال والرجال، وتبدلت الغاية الكثيفة بمئات المدن، وتحولت الأجمة الملتفة بعشرات البلدان، وكفلت للتجارة المقادير الوافرة من الأقوات والمحصولات مثل القطن والتبغ والمأكولات، وأخرجت الأرض أثقالها من الذهب والفحم والحديد، وجمعوا إلى هذه القوة المادية قوة أخلاقية فأنشئت الكنائس، وأقيمت المعاهد، وفتحت المدارس ومدت السكك الحديدية. وفاقت في طوله أطول خطوط أوروبا جميعاً إذ بلغ في سنة 1873 مجموع طول سكك حديد أوروبا ثلاثاً وستين ألفاً وثلاثمائة وستين ميلاً. على حين أن قد بلغت في أمريكا سبعين ألفاً وستمائة وخمسين من الأميال. ولقد وصلت سكة واحدة منها بين المحيط الأطلانطي والمحيط الهادي. ولا ينبغي أن نقتصر على التنويه بهذه النتائج المادية بل هناك نتائج أخلاقية تلفت الأبصار. فقد أطلقوا سراح أربعة ملايين من الزنوج. وأخرجوهم من أسار الرق والاستعباد وإذا كانت القوانين الأمريكية تجنح إلى خدمة طبقة من الطبقات فهي طبقة الفقراء إذ أرادت أن ترفعهم من فقرهم وتحسن حالهم. ومن ثم تمهدت للنبوغ كل سبيل وذل كل شيء أمام العلم والجهد. ولقد شغل أعظم الوظائف رجال نهضوا بأنفسهم من أحقر مراتب الحياة وأسفل درك العيش. وإذا كانوا قد فقدوا المساواة الاجتماعية. إذ لا تتفق المساواة الاجتماعية للجماعات الغنية. فقد اعتاضوا عنها بالمساواة المدنية. وقد يقول قائل إن هذه السعادة نتجت من أحوال خاصة إذ لم يتوفر مثلها لعشب قبلهم. ونديب لقد كان هناك عالم فسيح ممهد للعمل. وقارة بأسرها ذلول لمن يريد امتلاكها لا تطلب إلا الكد والناس للتغلب على قوى الطبيعة والاستحواذ علي ثمرات هذا التغلب. ولكن أليس من اللازم أن يكون هؤلاء القوم على مبدأ عظيم وهم يحولون المجاهل الساكنة إلى مقام للمدينة، ويمشون في تلك المناكب لا تروعهم مظلمة الغابات ولا الأنهار ولا الصحارى ولا الجبال، ويدفعون على سبيل الفتح في مدى قرن واحد فيصلون بين الأوقيانوسين، ويمتلكون ما بينهما امتلاكاً؟.

دعنا نقارن هذه النتائج بنتائج فتح الأسبان بلاد المكسيك وبلاد بيرو فقد هدم الأسبان في هذين البلدين بناء مدينة عجيبة، كانت في كثير من الوجوه أعلى من مدنيتهم قدراً وأسمى، مدينة اكتملت بغير الحديد، وتمت دون البارود، مدينة نهضت بالزراعة التي لا يعينها جهد الجواد ولا الثور ولا المحراث. لقد دخل الأسبان هذين البلدين من غير حرب ولا قتال، ولم يعقهم دون الفتح عائق، ولكنهم هدموا كل ما شاد أهلوهما، وطاحوا بملايين منهم، وقذفوا في لجة الفوضى بأمتين عاشتا قديماً في ظل الرضى والرخاء وتحت حكومة شهد تاريخهما بأنها ألزم لهم وأوفق حالاً، وروجوا بينهما الأوهام، ونشروا الخرافات، وانتقل ملكهم وأنعمهم وخيراتهم إلى حوزة الكنيسة الرومانية!. هذا مثال من أمثلة تأثير العلم أخذته من تاريخ أميركة، ولم أشأ أن أختار مثله من تاريخ أوروبا، لأن هذا المثال يصور لنا قيمة المبدأ العملي الحر الذي لا تخالجه حال لا ضرورة لها وقبل البحث في تأثير العلم ونتائجه، أريد أن آتي هنا بكلمة مجملة في تاريخ دخول العلم أوروبا.

تاريخ العلم في أوروبا

تاريخ العلم في أوروبا لم تقتصر الحروب الصليبية على جلب طائل الأموال إلى روما، تلك الأموال التي كانت تدفعها كل أمة مسيحية من خوف أو من تقي. بل كانت تزيد في سلطة البابا ونفوذه إلى حد كان شديد الخطر. وقد تغلبت السلطة الروحانية على أختها السياسية في كل مملكة من ممالك الغرب. وانزوت السلطة السياسية وأصبحت خادمة للأولى. وكان يفيض على روما من كل فج ومكان جداول من الذهب. وينابيع من المال. ومن ثم وجد الملوك والأمراء السياسيون إنهم لم يبق لهم من خير ممالكهم إلا الدخل النزر الطفيف. فرأى فيليب الجميل ملك فرنسا في عام 1300 من مولد السيد المسيح أن يمنع خروج هذه الأموال الطائلة من مملكته. وذلك بتحريم تصدير الذهب والفضة من البلاد الفرنسية دون ترخيص منه. ولم يقف اعتزامه عند ذلك بل أجمع على أن يجعل طبقة الكهنوت تدفع إليه الأتاوات والضرائب. فقام من جراء ذلك بينه وبين البابا حرب طاحنة. إذ حكم عليه البابا بالطرد من الكنيسية ولكي يكيل الملك له بكيله اتهم البابا بونيفاس الثامن بالالحاد، وطلب أن يتألف لمحاكمته مجلس عام، وأنفذ عصبة من رجاله الأوفياء إلى إيطاليا، فقبضوا على البابا وهو في قصره بأنا جني، وعسفوه عسفاً شديداً عجل بموته، وخلفه على كرسيه بنديكت الحادي عشر فلم يمض عليه إلا الزمن اليسير حتى مات مسموماً. وعزم الملك فيليب علي أن يتقي الباباوية ويصلح فاسدها حتى لا تصبح بعد ذلك نهباً مقسماً بين بعض الأسرات الطليانية التي كانت في ذلك الحين تصوغ من دين أوروبا وتخرج من عقيدتها ذهباً وهاجاً، وأجمع أمره على أن يكون لفرنسا في هذه السلطة نصيب، ومن ثم صلحت ذات البيت بينه وبين كرادلة الباباوية، وارتقى أسقف من الفرنسيين إلى منصب رئيس الكهنة وغاب عليه اسم كليمنت الخامس، ونقل بلاط البابا من روما إلى أفينيو في فرنسا، ولم تعد روما حاضرة المسيحية. ومضى بعد ذلك سبعون عاماً قبل أن تعود الباباوية إلى روما المدينة الأبدية، وكان ذلك في سنة 1376، وأن تقلص سلطاتها في إيطاليا أفسح المجال لنهضة فكرية مشهودة، ظهرت معالمها في مدن شمال إيطاليا التجارية وحدث في ذلك العهد أحداث أعانت على تقدم هذه النهضة. فإن خاتمة الحروب الصليبية قد أضعفت الإيمان بالمسيحية والركون إليها. إذ كان نتاجها التخلي عن الأرض المقدسة. أي أورشليم وأرباضها وتركها في أيدي العرب. ولقد

رجع من وطيس القتال آلاف المسيحيين فلم يترددوا في الشهادة لأعدائهم العرب. بأنهم ليسوا كما صورتهم الكنيسة ووصفهم أحبارها وكهانها. وإنما هم قوم مساعير حرب كرماء عدول. وانتشرت في جنوب فرنسا ومدنها المشرقة الزاهية. أريحية للأدب. وخفة للقصص الغرامية. أعان عليها أغنية الرحالة. وشجعتها نشائدهم. ولم تكن أغانيهم مقصورة على التشبيب والنسيب والبطولة والمعامع والحروب. بل كثر ما احتوت وصف المنكرات والفظائع التي كان رجال البابا وصنائعه يرتكبونها مثل المذابح الدينية التي وقعت في لانجويدوك. بل كثر ما قصدت إلى تمثيل المحرمات التي كان الكهنة يحتقبونها. من عشق غير مشروع. وصبابة غير مسموحة. وأخذت الفروسية والبطولة عن أسبانيا. وجاء معهما تلكم الفكرة النبيلة والعاطفة المحمودة. ونعني بها كلمة الشرف الذاتي التي قدر لها دهراً أن تستن لنفسها قانوناً في أوروبا. ولم تكن رجعى الباباوية إلى روما ليرد لها سلطانها في شبه جزيرة إيطاليا. بل مضي جيلان على انتقالها ولم تسترجع بعض نفوذها ولو كانت قد عادت إلى حاضرتها الأولى بقوتها الأولى وبأسها السابق لما استطاعت أبداً أن تحارب تلك النهضة الفكرية التي كانت آخذة في التقدم في غيابها ولم ترجع الباباوية إلى روما لتحكم بل لتنقسم على نفسها، وقد خرج من هذه الضائقة وهذا الخلاف باباوان مزاحمان، وخرج إليهما ثالث يريد المنصب لنفسه وطفق كل منهم يطلب حقه ويسال منصته، ويبهل الآخر ويلعنه فأثار ذلك في أوروبا شرقها وغربها سخطاً عاماً وغضبة مسيحية وإجماعاً على إنهاء هذه المآسي المعيبة والمناظر الشائنة وتساءل المسيحيون كيف تصدق فكرة قبول قسيس لله على الأرض بل كيف تصدق فكرة بابا معصوم لا يخطئ ولا يأثم وهذه المضحكات المنديات، ولذلك عزم أشد رجال الدين قوة وبأساً على تأليف مجلس عام يكون هو المجلس الديني القائم على شؤون أوروبا بأجمعها ويكون البابا رئيسه المنفذ لقوانينه وأحكامه ولكن هذا الرأي لم يحقق ولو فعلوا لما كان حتى اليوم نزاع بين العلم والدين ولما نتج الإصلاح الديني ولما كان هناك شيع البروتستانت وشنشنتهم ولكن المجلس الذي عقد في كونستانس من أعمال سويسرا والمجلس الذي قام أيضاً في مدينة بازل لم يفلحا في تقويض سلطات البابا ولم ينجحا في الإتيان بهذه النتيجة المرضية.

وكذلك كانت الكاثوليكية في ضعف وتقهقر، وكلما رفع تأثير ضغطها، وانتزع منها بعض سلطانها، كان النبوغ الفكري في ارتقاء وظهور، وحوال ذلك الحين كان العرب قد اخترعوا طريقة صنع الوق من إطمار النيل وأخلاق القطن. وكان البندقيون أهل فينسيا قد نقلوا إلى أوروبا فن الطباعة من الصين. وكانت ضرورية لاختراع العرب. ومن ثم أصبح بين العالم تبادل فكري عام. لا يقف في سبيله عائق أو رصد. ولقد كان اختراع الطباعة ضربة قاضية على الكاثوليكية. وكانت من قبل تنعم بفائدة كبرى لا تقدير لها. وهي احتكار كل صلة بين الناس وكل تبادل. إذ كانت تنفذ من مقر أمرها في روما كل ما تسن من شريعة وتأمر من أمر إلى رجالاتها وصنائعها. وهؤلاء يدفعون بها إلى الناس من فوق المنابر ولكن جاءت المطبعة فأفقدتها هذا الاحتكار، وهدمت منها كل سلطة، وضاع في هذه العصور الحديثة تأثير المنابر، واستعيضت الصحيفة عن المنبر، ولكن الكاثوليكية لم تشأ أن تدلي بنعمتها القديمة دون حرب ونزاع، ولم ترض أن تنزل عن احتكارها دون مقاومة وقتال، بل لم تكد تكتشف عقبى ذلك الفن الجديد فن الطباعة حتى حاولت أن تضع له حداً، وتنشئ عليه رقابة، فوضعت قانوناً يقول بعدم جواز طبع كتاب دون ترخيصها، ومن ثم كان لزاماً على كل مؤلف أن يقدم كتابه إلى الكهنة فيقرؤه ويختبروه ويروا فيه رأيهم، وكان يجب أن يشهدوا له بأنه كتاب ديني قويم، وأصدر الباب اسكندر السادس سنة 1501 أمراً بحرم أصحاب المطابع الذين يطبعون التعاليم النكراء، وأمر المجس العام في عام 1515 بأن لا يطبع من الكتب إلا ما اختبره النقاد الدينيون، والأعوقب الطابع بالحرم والتغريم وقد وصى النقاد بأن يعنوا العناية الكبرى بأن لا يسمحوا بطبع كتاب يخالف الدين القديم وكذلك كانوا يرهبون كل بحث ديني ويخافون أن يخرج إليهم الحق من معتزله. ولكن ما كانت قوي الجهل ومقاومته للحفق لتظفر بالغلب بعدما كفل الناس بينهم وسيلة للتبادل الفكري وهكذا انتهى الصراع وخرجت للعالم الصحف العصرية ولكنها لم تكن بادئ بدء حرفة قوم كثيرين وإن المجتمع الحاضر يرجع ارتقاءه ومزاياه إلى هذا التغير. هذه هي نتيجة نقل صناعة الورق وفن الطباعة إلى أوروبا وكذلك كان إدخال بيت الإبرة أوروبا إذ تبعه كثير من النتائج المادية والأدبية وهي: كشف أميركا على أثر المنافسة التي قامت بين أهل فينسيا وأهل جنوه على تجارة الهند واجتياز داجاما ساحل الكاب وبلوغه

الهند من طريق ساحل أفريقيا ودوران ماجلان حول الأرض في سفينته فيكتوريا وعلى ذكر هذه النتيجة الأخيرة وهي أعظم عمل في تاريخ الإنسان نقول إن الكاثوليكية كانت تعتقد اعتقاداً لا رجوع عنه ولا رد له إن الأرض مسطحة والسماء مهاد الجنة والجحيم في العالم الأسفل وقام بعض رجالاتها ممن لهم المكان الأسمى فأتى بحجيج فلسفية دينية يرد بها على فكرة كروية الأرض ولكن انتهى النزاع فجأة اليوم ووجدت الكنيسة نفسها على خطأ. ولم تكن هذه وحدها النتيجة الكبرى التي تبعث تلك السياحات الثلاث بل أن روح كولومب وداجاما وماجلات سرت بين رجال الغرب وأبطاله وكانت الجماعة الإنسانية تعيش حتى ذلك العهد على ذلك المبدأ القائل: الإخلاص للملك والطاعة للكنيسة وبذلك كانت تعيش لغيرها لا لنفسها وكان أثر هذا المبدأ قد جر على الجماعات تلكم الحروب الصليبية وطاحت هذه الحروب بآلاف لا عديد لهم من قوم لم تكن لتكسبهم كسباً أو ترد لهم ربحاً بل كانت عقابها الهزيمة الكبرى والخيبة الواضحة وقد دلت التجارب على أن الرابحين منها هم الكرادلة والأحبار والكهان في روما والسفانون في البندقية، ولكن لما رأى الناس خير بلاد المكسيك وثراء أرض بيرو وبركة الهند، وعلموا أن لكل إنسان أوتي حظاً من البطولة والبأس أن يدلي فيها دلاءه ويفوز منها بقسمه، لم تلبث أن تغيرت الدواعي التي تحرك الغريبين وتستنيرهم، إذ وجدت قصة كورتيز وأخيه بزار وأريحية المستمعين في كل مجلس وندوة، وهكذا غلبت الأريحية البحرية الحمية الدينية القديمة. وإذا كنا نريد أن نستخرج المبدأ الذي قامت عليه كل التغيرات التي حدثت في المجتمع بعد ذلك؟ لم يكن ذلك من الصعب علينا، فقد كان كل إنسان يحبو من هو أعلى منه بكل مجهوداته، ولكنه أجمع منذ ذلك الحين على أن يتنعم هو وحده بثمرات عمله، وهكذا نهضت الشخصية، وتوارى الإخلاص للملك ولم يعد بعد إلا عاطفة حسية، أما عن الدين فدعنا ننظر ماذا ألم به. إن الشخصية تنهض على مبدأ أن الإنسان سيد نفسه. وإن له الحرية في تكوين آرائه ومبادئه، والسراح في إنجاز كل ما يريد، ومن ذلك فهو أبداً في منافسة وتسابق مع بني جنسه وما حياته إلا بمظهر من مظاهر القوة.

وإن نقل حياة الغرب من ذلك الركود الذي أسنت فيه زهاء قرون وأجيال وأحياء مواتها وإدخال مبدأ الشخصية عليها هو تحريضها على نزاع يقوم بينها وبين المؤثرات التي كانت تعمل فيها وتظلم لها ولقد مر القرن الرابع شعر وولي على أثره القرن الخامس عشر فقامت فيهما منازعات ومناوشات كانت عنواناً على ما أتت به الأيام ونبوءة لما وقع من الأحداث بعد ذلك حتى إذا كان القرن السادس عشر في أوائله أعنى حوال عام 1517 نشبت الحرب الكبرى وقامت الموقعة المأثورة إذ تجسم مبدأ الشخصية في راهب جرماني صلب العود رابط الجأش وأعلن حقوقه في شكل ديني وكان منحاه هذا ضرورياً في بادئة الأمر وقامت إذ ذاك منازعات في مسألة بيع المغفرة وغيرها من المسائل التافهة ولكن لم يلبث أن وضح الصبح لدي عينين وعرف السبب الجوهري الداعي إلى هذا النزاع وهو أن مارتن لوثر أبى أن يفكر كما أمر رجال الدين ورفض أن يرضى بآراء أحباره وكهانه وأصر على أو له حقاً قائماً لا حول عنه وهو تفسير الإنجيل لنفسه. ولم تر روما في مارتن لوثر إذ ذاك من النظرة الأولى إلا راهباً سوقه ضعيفاً صخاباً، لا خشية منه ولا أذى، ولو استطاعت محكمة التفتيش أن تقبض عليه يومئذ لانتهت منه ومن صخبه، ولكن مضى النزاع واستمر الخلاف، ورأت الكنيسة أن مارتن لوثر ليس واقفاً إزاءها وحده بل أن وراءه آلافاً من الرجال، لهم عزيمته وثباته، كلهم وقف على عونه ونصرته فهو يمضي في القتال بقلمه وكلمه، وهم يؤيديون آراءه وينصرون مبادئه بحد المشرفيات وغرب السيوف. وقد انهال على مارتن لوثر من أفواه رجال الدين صيب من المثالب والشتائم كانت من كثرتها مضحكة. إذ قالوا أن أباه لم يكن زوج أمه بل عفريت مسيخ فسق بها، وإن مارتن مضى في حرب مع ضميره عشرة أعوام صار بعدها زنديقاً كافراً، وأنه ينكر خلود الروح. وإنه نظم في التغني بالسكر والخمر أغنيات وأناشيد، إذ كان بهذه المأثمة مولعاً، وأنه يسب الكتب السماوية. ويفرد كل السباب لموسى وأنه لم يكن يعتقد كلمة واحدة مما كان يخطب به الناس. وفوق ذلك إن الإصلاح الذي ينويه ليس من عمله وإنما من تخرص منجم. ولقد شاع على ألسنة أحبار روما أن أراسماس وضع بيضة الإصلاح ولوثر تقفها. ولقد وهمت روما بادئ بدء في ظنها أن لا شيء في تلك الحركة إلا ضجة عرضية ما

تنشب أن تزول. وغاب عنها أن ترى أنها في الحقيقة خاتمة حركة داخلية كانت تعمل وتسري مدى قرنين في قلب أوروبا وتجمع لها في كل ساعة قوة وظهيراً. ولم تفكن إلى أن وجود ثلاثة باباوات يتبعهم ثلاث شيع يكره الناس على التفكير لأنفسهم. ويعلمهم أن هناك قوة أسمى من قوة البابا وأشد ركناً ومن ثم ما نشب أن قامت حروب ووقائع كان ختامها معاهدة ويستفاليا. ونزعت بذلك الممالك التي في شمال أوروبا ووسطها عنها الاستبداد الفكري الذي كان لروما عليها، وفكت الأسار الذي كانت تتقيد به أذهانها، وتقرر كذلك مبدأ الشخصية، وأسس حق الناس في حرية التفكير. ولكن لم يستطع هذا المبدأ ولا الحق الذي أسسه أن ينفرا عن الكاثوليكية، ولما كان حزب البروتستانت لم يقم إلا بالنزاع والانفصال وجب أن يأخذ دوره منهما، ولذلك خرجت منه شيع وفرق. ورأت هذه الفرق أن لا خوف عليها من عدوها الأزرق يريد روما أن بعبارة أخرى الكاثوليكية فبدأت تضرم نار الخلاف بينها، وكان من ذلك أن جعلت كل طائفة منهم تنهض بالسلطة ثم تتدهور، لتأخذ مكانها طائفة أخرى، حتى حدث من هذا التقاتل مظالم وفظائع كثيرة أدت في خاتمة الأمر إلى التسليم بمبدأ التسامح الديني، ولكن التسامح ليس إلا حالاً وسطاً، وما دامت البروتستانتية سائرة في ذلك الانقسام الفكري فإنها ستصل إلى حال أسمى وأعلى شأناً، إلى ذلك الغرض الذي ترمي به الفلسفة في كل عصر من عصور التاريخ، ونعني به تلك الحالة الاجتماعية التي تتنعم من حرية التفكير بنصيب لا تحويل له ولا انقطاع. والتسامح، إن لم يكن عن رهبة أو خوف، لا يأتي إلا من أولئك الذين يشعرون إنهم قادرون على قبول آراء غيرهم واحترامها. ولذلك كان التسامح نتاج الفلسفة وقد علمنا التاريخ أن التعصب الديني يضرم ناره، ولا يطفئها إلا الفلسفة. ولم يكن غرض الإصلاح الديني إلا أن يذهب عن المسيحية تلك الآراء والأعياد الوثنية التي أدخلها عليها قسطنطين وخلفاؤه، إذ أرادوا أن يصلحوا بينها وبين الدولة الرومانية، وما كان غرض البروتستانت إلا أن يرجعوا بها إلى نقائها الأول، ومن أجل ذلك خلصوا بها من مثل عبادة العذراء وشفاعة القديسين. وأقبل أدب العرب على المسيحية من طريقين، جنوب فرنسا، وصقلية، وجاء على أثره

علومهم، فكان لها من غياب البابا في أفينيون وحركة الإصلاح، فرصة سانحة، جعلتها تستقر في إيطاليا، وجاءت فلسفة أرسطو أو الفلسفة الاستنباطية مرتدية شملة عربية خلعها عليها ابن رشد، فاتخذت لها في السر أعواناً كثيرين، وفي الجهر أتباعاً ليسوا بالفئة القليلين. ووجدت أذهاناً تائقة إلى قبولها ومن بين هؤلاء الأعوان ليناردو دافنشي الذي نادى بذلك المبدأ الأساسي وهو أن التجربة والنظر هما الأساس الثقة في تحليل العلوم، وإن التجربة هي العمدة في تفسير أسرار الطبيعة، وهي ضرورية لتحقيق القوانين العلمية. حتى إذا اطمأن بالعلم القرار في شمال إيطاليا لم يلبث أن بسط نفوذه في جميع أرجائها ونواحيها، وأخذ أعوان العلم وأنصاره يزدادون بازدياد تأليف المجامع العلمية وتكاثرها، ونحواً في إيطاليا نحو المغاربة في إسبانيا فألفوا مجامع لهم تشبه مجامع قرطبة وغرناطة ولتجدن مجمع طولوز الذي قام في سنة 1345 باقياً في فرنسا حتى يومنا هذا، كأنما ليكون دليلاً ناهضاً على السبيل التي جاءت المدينة منها، وكان هذا المجمع يمثل دولة الأدب الزاهية التي كانت قائمة في جنوب فرنسا، وأسس في مدينة نابلى أول مجمع لترقية العلوم الطبيعية، وكان مؤسسة العالم بورتا ولكن انفض هذا المجمع طوعاً لأوامر الكنيسة، وأقام البرنس فردريك ده سيزي في روما جمعية سماها جمعية الفهد، ويدل على غرضها شارتها، وهي فهد رافع عينيه إلى السماء، وهو يفتك بين مخالبه بكلب ذي ثلاثة أرؤس وقام في سنة 1657 مجمع في فلورنسا كان ينتدى أهله في قصر دون فلورنسا نفسه، ولبث عشر سنين فأمرت حكومة البابا بتعطيله فعطل، ولكن رفع أخو الدوق إلى مرتبة الكردينال تعويضاً لأخيه، وكان في هذا المجمع كثيرون من علماء ذلك العصر مثل توريسللي وكاستللي، وشروط الانخراط في سلك المجمع أن ينزع طالب الدخول كل عقيدة أو دين ويعتزم البحث عن الحقيقة، وقد أخرجت كل هذه المجامع كثيرين من العلماء من المعتزل الذي كانوا مخلدين إليه، ووصلت بينهم وقوت رابطتهم وأزكت فيهم هذه الرابطة نار القوة والعزيمة. هاتان كلمتا الفيلسوف دريبر في تأثير العلم في أمريكا وتاريخ دخول العلم بلاد العرب، وسنبسط للقراء كلامه في تأثير العلم من الوجهتين الفكرية والاقتصادية في العدد القادم إن شاء الله.

كشكول البيان

كشكول البيان تفاريق علمية. وأدبية. وفكاهية. وتاريخية: ونظرات في سير مشهوري العلماء. والمخترعين: وشذرات في أخبار العالم وأحداثه الحاضرة. أيها البحر اللورد بيرن أكبر شعراء الإنكليز في القرن التاسع عشر وله قصيدة اسمها (تشايلد هارولد) من أبدع ما جادت به قريحة شاعر وفي هذه القصيدة قطعة رائعة يخاطب بها البحر آثرنا نقلها إلى العربية وهي هذه. أيها الأزرق الرجراج جش كما تشاء، وتدفع في وشى الحباب، فعبثا تعلوك الأساطيل في عددها العديد، إنها لن ترك بك أثراً. إنما على وجه الصعيد يمرح الإنسان، وفوق الثرى يترك الرسوم والأطلال آيات علا مساعيه والمآثر. ودلائل على معاليه والمفاخر. ويترك الأربع الخاوية. والدمن العافية. لا يدري البلا فيها سطور مبينه ... عبارتها أن كل بيت سيهدم ولكن سلطانه عند شاطئك محدود. وعن حرمك المنيع مردود ومصدود. أيها البحر! على قفارك السيالة وبطاحك اللجية جل فعلك التحطيم والأغراق وفي جوفك الرغيب وصدرك الرحيب، جل آثار البشر أنقاض سفين. وأشلاء مسكين، ثم لا يبقى عليك من مطامع الإنسان ومفاتكه ظل ولا شبح إلا خياله، إذ يطفو في لجك الفوار ويرسب برهة ثم يهوى في ظلماتك الحالكة له زفرة تحت أروقة الماء راغية. هنالك يثوى لا جدث ولا صلاة ولا كفن ولا جنازة ولا آية ولا أثر. لا مضطرب للإنسان على ظهرك، ولا متصرف له في مناحيك، ولا حماك بمستباح له ولا مطاك بمذلل، ولا سوحك بمرتع، ولا عرضاتك بمعرح، وليس من ميادينك يستفيد الغنائم ويأخذ الأسلاب. يأبى ذلك أنفك وحميتك وسورة لك كسورة الأقعوان الصل والضيغم الضايرم. يجرأ عليك الإنسان ويبسط القدم في سبلك وتغره من وجهك الطلق ابتسامة وضاءة فيراه في مأمن حتى إذا رنح الزهر عطفيه، ولوى التيه ليتيه، ترث به فنفضته عنك كما ينفض الليث البعوض عن لبده. محتقراً منه تلك السطوة التي يفسد بها الأرض ويسطو بها، على البر كلما أقدم عليك وظن أنه قد استمكن من صهوتك هجت عيه فحذفته

من فوق ظهرك كما يحذف الوتر سهمه تضرب به جبهة السماء وإنه ليرتعد في دفاعك الطماح. ويرعش ويرتجف في آذيك الممراح. ثم يهوى فتتلقاه على أعناق موج كالجبال وترمي به البر جثة هامدة. وجمرة خامدة. إن الأساطيل التي ترمي بالصواعق كل حصن حصين ومعقل منيع فتزلزل بالأمم الطاغية. وتزعزع من الشعوب العاتية. وتطفر أحشاء الملوك على عروشها. وتطير ألباب الصناديد في جيوشها. هذا المدائن الحديدية التي تغر صانعها حتى يسمى نفسه أميراً عليك. ما هذا أيها البحر إلا لعبك تذوب. كأنها أفلاذ الجليد في تيارك المزبد متلف الأرمادا ومبيد الجواري المنشآت في ترافلجار (الطرف الأغر). هذه سواحلك هل كانت إلا دولاً كباراً فزالت وأنت باق لم ت من فوق ظهرك كما يحذف الوتر سهمه تضرب به جبهة السماء وإنه ليرتعد في دفاعك الطماح. ويرعش ويرتجف في آذيك الممراح. ثم يهوى فتتلقاه على أعناق موج كالجبال وترمي به البر جثة هامدة. وجمرة خامدة. إن الأساطيل التي ترمي بالصواعق كل حصن حصين ومعقل منيع فتزلزل بالأمم الطاغية. وتزعزع من الشعوب العاتية. وتطفر أحشاء الملوك على عروشها. وتطير ألباب الصناديد في جيوشها. هذا المدائن الحديدية التي تغر صانعها حتى يسمى نفسه أميراً عليك. ما هذا أيها البحر إلا لعبك تذوب. كأنها أفلاذ الجليد في تيارك المزبد متلف الأرمادا ومبيد الجواري المنشآت في ترافلجار (الطرف الأغر). هذه سواحلك هل كانت إلا دولاً كباراً فزالت وأنت باق لم تزل أيها البحر وهل كانت إلا ممالك فطاح بها الدهر وأنت ثابت، وأودى بها البلي وأنت في أولاك وآخرتك الغض الجديد. وماذا كانت أشوريا ويونان وروما وقرطاجة إلا بعض سواحلك أفدتها المجد والقوة. وأورثتها اليأس والفتوة أيام حريتها. ومنحت فاتحتها السلطة والجبروت أيام أسرها. ورقصت أمواجك طرباً على أعطاف هذه الدلو إبان عزها ونضرتها، وبكت أمواهك على لبانها يوم ذلها ونكبتها. ثم بادت كأنها ورق جف ... ف فأودت به الصبا والدبور وحول فناؤها العمران خراباً. وبدل عقاؤها المخصب العشيب يبايا. ولكن هيهات منك ذلك، ويا بعد ما بينك وبين التحول والتدبل، ولا سبيل عليك للتغير إلا ما يكون من تقلب موجك القلق الرجاف، وتكسر متنك المرج الوجاف. وإن الزمن الذي لا يترك جبيناً حتى بغضه لم يجد تغضين جبينك اللازوردي سبيلاً. فأنت اليوم مثلك يوم بدء الخليقة. أيها البحر. إنك المرآة العظيمة تتجلى فيها قوة الخالق عواصف وزوابع. لانت تمثال الأبدية وصورة الخلود وعرش الله في كل زمان ومكان ساكناً أو ثائراً تحت النسيم العليل، أو الصرصر العاتية، لدى القطبين منجمداً أو عند خط الاستواء فائرا. أنت الفسيح بلا حد الممتد بلا نهاية. تطيعك الأقاليم وتدين لأمرك المناطق. متدفق الأمواه هائم التيار مرهوباً مخوفاً منفرداً وحيداً. أيها البحر لقد أحببتك طفلاً ويافعاً ورجلاً. وإن علي صدرك الحنون كانت ملاهي طفولتي

وملاب صباي. وجل مسراتي من مائك تولد تولد الحبب استدار فانفقاً، واستنار ثم انطفأ. وما زلت منذ طفولتي أعيث بتيارك أيها البحر ويعبث بي فإن طغا منك العباب فأرهب. وكما لجك الزخار فأرعب. فيا طيب ذاك من رعب وحبذا تلك رهبة. وماذا مخافتي إياك أيها البحر وإنما كنت كبعض سلالتك وبنيك أخلد لك وأسكن. وأطمئن إليك وأركن. وأمسح بيدي يا شبيه الأسد الزؤور. والليث الهصور. لبدك المتكاثقة كما أفعل الآن وسلام عليك. اليوجنية للفاضل سلامة موسى علي أثر القنبلة التي قذف بها داروين في كتابه أصل الأنواع سنة 1859 انبعثت مخيلات الفلاسفة والكوبويين (أي طلاب الكمال الإنساني) تمرح في مضاربات شتى عن مستقبل الإنسان. فإن داروين قرر أن الإنسان حيوان تجري عليه نواميس الطبيعة كما تجري على الطلب والفأر والقرد. وإذا كان الناس قد استأنسوا الفرس والثور والكلب ونزعوا عن هذه الحيوانات وغيرها وحشيتها القديمة بعدما أحثدوا فيها كفاءات جديدة فخليق بالحكومات أن تنظر للأمم بالعين التي نظر الناس بها للحيوان فتضع أمام عينيها معياراً للكفاءة الإنسانية فتستحث الأكفاء وتجازيهم على التناسل وتمنع أو تعرقل الزواج بين غير الأكفاء بأية طريقة. إن الإنسان خلق كفاءات جديدة بين الحيوان فإنك ترى بين البقر الآن ما تكفل لصاحبها أكثر من رطل زبد كل يوم على حين أن البقرة الوحشية لا تزيد كمية الزبدة الموجودة في لبانها عن ثلث رطل في اليوم ولم يصل الإنسان لهذه النتيجة في البقر إلا بعد انتخات طويل ومراقبة دائمة بين ذكور البقر وإناثه. فكان كلما لاحت له بقرة كبيرة الضرع كثيرة اللبن استولدها وحفظ نسلها. وبين الخراف الآن ما يكاد يعد معملاً لعمل الأصواف. فلا يكاد يجز صوفه حتى ينبت جثلاً طويلاً. وبينها ما تكبر البته وتتدلى إلى الأرض حتى يستعصي عليه المشي. وبين الخنازير ما يتناههي في السمن حتى ليقع ويلزم مكانه فلا يستطيع حركة ما فيتغذى وهو راقد كأنه نبات. فالإنسان الأول وجد بعض مزايا في الحيوانات التي استأنسها كالصوف في الغنم والزبدة

في البقر والشحم في الخنزير فعمل على استيلاد هذه الحيوانات واستبقاء كل ماله قدر كبير من هذه المزايا وإفناء غيره. حتى أصبحت حيواناتنا الداجنة بعيدة الشبه عن أخوانها المتوحشة، بل بلغ اهتمام الأمر المتمدينة باستيلاد هذه الحيوانات أنها أنشأت أنواعاً جديدة لم تكن موجودة قبلاً. مثال ذلك ما فعله مربو الكلاب الإنجليزية من إنشاء الكلب المعروف بـ بول تربر فإنه نتيجة الانتخاب الصناعي بين الكلب المعروف بـ بول دوج وتربر وقد أصبح الآن نوعاً قائماً بذاته. بل بلغت قدرة مربي الحمام أن أحدهم يراهن على أن يوجد بعد عامين أو ثلاثة نوعاً يكون ريش قوادمه محبراً أو منمتماً على شكل مخصوص فيسعى لذلك باستيلاد ما هو أقرب إلى غرضه ولا يزال مجداً حتى يصل إلى غرضه. فإذا كان مربو الدواجن يفعلون ذلك بالحيوانات يراقبون تلاقحها وينظرون إلى نسلها فينتقون وينفون حسب رغائبهم فما ضرنا أن نستعمل هذا الانتخاب بين الناس؟. كذا يقول اليودجنيون. فاليوجنية هي علم تربية الشعوب وتأصيلها حتى يرقي الإنسان ويخطو نحو الكمال. والرأي قديم تكلم عنه فلاسفة اليونان ومن أقوال أحدهم المسمى ثيوجنس إن الناس يعنون بتأصيل الخيول أكثر مما يعنون بتأصيل أنفسهم فلا يسمحون للهجين من الخيل أن يلقح كراثم الأفراس مع أنهم يسمحون لكل هجين من الناس بالزواج. وقد قام غلتون الإنجليزي بعيد وضع داروين لنظريته وألف كتاباً عن اليوجنية استقرى فيه مدى انتشار العبقرية الإنجليزية مهما كان نوعها فوجد أن الكفاءات العالية تتوارث أباً عن جد على الرغم من نوع الوسط الذي ينشأ فيه الإنسان. وارتأى من ذلك أن العمدة في الكفاءات على الوراثة أي على ما يرثه الإنسان من أبويه لا على نوع التربية التي يربى عليها أو الوسط الذي يعيش فيه. ومع ذلك قال بضرورة ألا تتزاوج العائلات الأصلية إلا من عائلات في مرتبتها نسباً وأصالة حتى يبقى الدم نقياً لا يشوبه أدنى هجنة. وفي العالم المتمدين الآن مجلات يوجنية تستقرى نواميس الوراثة وتحض الحكومات على

الاشتراع اليوجني. إن الإنسان نشأ من الحيوان. وكان أهم عامل في نشوئه وترقيه وفوزه على العالم الحيواني الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي ولعل الأخير أقوى من الأول. فالانتخاب الطبيعي وفي الإنسان إذ أباد منه كل ضعيف لم يقو جسمه على المرض أو لم يقو عقله على الاحتيال للمعاش. والانتخاب الجنسي رقى الإنسان بأن أباد منهم كل دميم أو قليل الحيلة لم يستطع اجتذاب الأنثى إليه فيخلف منها نسلاً. وكان آباؤنا في زمن الهمجية الإنسانية يعيشون من غير ما ذرائع طبية تحفظ صحتهم من الأمراض تجتثهم ولا تبقي منهم غير القوي ذي المناعة الجسمية. وكانوا لا يعرفون رحمة أو إحساناً أو صدقة. فكان يموت منهم أول أول كل من ضعف عن كسب حياته. وكانوا يتقاتلون على حيازة الأنثى ويحتالون عليها لاجتذابها إليهم، فكان يفوز منهم قوى الجسم كبير الحيلة وينهزم منهم النكس الجبان. فارتقى الإنسان بهذا الانتخاب لأن الذين أمكنوا من التناسل كانوا كبار الحيلة والعقل أقوياء الجسم. أما الآن فقد استنت لنا المدينة سننا عرقلت الانتخابيين الطبيعي والجنسي فنحن نحافظ على المريض بكل أصناف العلاجات. ونحافظ على الضعيف بكل أصناف الصدقات والإحسانات. ونحافظ فوق ذلك على نسلهما بسماحنا لهما بالزواج. حتى لقد حقت علينا كلمة نيتشه إننا كلنا مرضى الآن. لهذا السبب لاح للعلماء الأوربيين أن يعتمد الزواج لا على العتاق من الناس كما نفعل في الخيول بل على الأصحاء عقلاً وجسماً. لأن معرفة العتق في الإنسان أو توخيه ليس سهلاً هيناً ظاهراً كما هو في الخيول. فالعتيق من الخيل في نظرنا السريع الرشيق ولكن كيف يكون العتيق من الناس؟. لهذا السبب يقتصر اليوجنيون على توخي الصحة الجسمية والعقلية فيشترطونها على من يريد الزواج.

وترى الولايات المتحدة الآن قد اشترعت مجالسها شرعاً حرمت بواسطتها الزواج على المسلولين والمعتوهين وأمثالهم حتى يأتي النسل سليماً صحيحاً. على أن مما يعرقل تزاوج الأكفاء الآن انحصار الثروة في طبقة من الناس وفقر الطبقات الأخرى بحيث صار الزواج يعقد بقوة المال لا بقوة الكفاءات التي في المتزاوجين. فالشابة الغنية تضطر إلى التزوج من الشيخ الهم المتهدم لمجرد غناه فيذهب جمالها وشبابها سدى على الأمة. أو تضطر لهذا السبب أيضاً إلى التزوج ممن هو أقل منها كفاءة عقلية أو جسمية. ولكن لا يجب أن ننسى مع ذلك أن وجود الكفاءات في الطبقة الغنية أرجح من وجودها في الطبقة الفقيرة بوجه عام مع كل ما في نظامنا الاقتصادي الحاضر من الظلم. ومن هنا أظن أن الإسلام أفاد الأمم التي دانت به بسماحة بالضرار - تعدد الزوجات - لأنه زاد كفاءاتها بذلك. واليوجنيون يتوخون الآن اشتراع شرعة جديدة للزواج يصير فيها الزوجان حرين يعيشان معاً أو ينفصلان بعض من بعض إذا أراد أحدهما ذلك. أي يبقيان معاً ما بقي الحب. لأن الحب أهدى قائد للزواج الصحي الصحيح فانتفاؤه من بين الزوجين يدل على انتفاء الصحة من هذا الزواج أيضاً فيصير مضراً بهما وبالأمة. هذا هو الزواج الحر الذي يتوخون. ولعمري لقد سبقهم الإسلام إليه. فعندنا يجوز للمرأة أن تحفظ عصمتها بيدها فتطلق وقت ما تشاء وتبقي ما بقي الحب لزوجها. ولقد كانت إحدى الأميرات متزوجة من زوجها حافظة بيدها عصمتها على هذا النحو. وإني بإزاء الكلام الذي كثر حديثاً عن ضرورة إنشاء الحكومة المصرية للزواج المدني أرى أن يجعل هذا الزواج الإسلامي قاعدة له على نحو ما فعلت الحكومة أيضاً بقانون المواريث. فإن الطوائف الغير المسلمة تجري عليها راضية به. أعجب المخترعات من بين المخترعات الحديثة التي توالت على العالم بفضل العلم اختراعان مدهشان اهتدى إليهما عالمان من أكبر علماء أمريكا، وعضوان في مؤتمر الجمعيات الأميركية لتحقيق علم الحياة، المخترع الأول فجهاز يخرج الدم من الجسم فينقيه من أكداره ثم يرده على الحركة

الدموية ثانية كما كان. والثاني آلة تدل الإنسان عما إذا كان حقيقة جائعاً أم لا، وقد جرب الأول في كثير من الفيران البيض للتحقق من صحته. وذلك بأن أدخل في جسمها صبغة مخصوصة وتركت بضع دقائق حتى دارت مع الدورة الدموية، فلم يظهر على هذه الحيوانات أدنى ألم، بل تغير من تأثير الصبغة الخضراء ذيل أحدها وصار مخضراً، وبدا على إنسان عينه لون الزمرد وأحمر لون فأر آخر من أثر الصبغة الحمراء. أما الاختراع الثاني فقد جربه صاحبه في نفسه ذلك وذلك أن ابتلع بالوناً صغيراً مستطيل الشكل مصنوعاً من المطاط، وصله بأنابيب مطاطية طويلة، ثم جعل ينفخ في البالون ويكبره وهو في معدته بواسطة هذه الأنابيب وألصق بها ورقاً حساساً ثم قال إن الجوع يجعل عضلات المعدة تقبض على البالون وتضغط عليه فتطرد الهواء إلى الأنابيب، فيظهر في الورق الحساس مبلغ جوعها. فمتى يذيع هذان المخترعان العجيبان؟. روح الاشتراكية لم تعد الاشتراكية اليوم حلماً ولا خرقاً كما كان الناس يتوهمون من قبل، بل هي اليوم سارية في كل بلاد المغرب فلا يكاد يطبع كتاب في فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا حول صلاحية الاشتراكية حتى ينفذ ويعاد طبعه، وقد نقحوا في المذهب وتصرفوا، وأصبح غرض الاشتراكية الحديثة هو كما يأتي: إن غرض الاشتراكية الأكبر هو عدم حرمان العمال من المصادر الطبيعية للحياة ومن التعليم، ومذهب الاشتراكية يرتكز على قاعدة أن سير التطور الاجتماعي كل هذه القرون كان مفضياً بالتدريج إلى فصل طبقات العمال عن امتلاك الأرض ورأس المال، وتأسيس نوع جديد من الرعية وهي رعية العمال الذين لا يملكون من حطام الدنيا ما يعتمدون في الحياة عليه إلا أجوراً زهيدة لا تغنى ولا تجدي، والاشتراكيون اليوم يقولون أن النظام الحاضر (أعني النظام القائم على أن رأس المال والأرض في حوزة أفراد مخصوصين يدأبون في جمع الثرة وادخارها) لابد أن يؤدي إلى فوضى اجتماعية اقتصادية، وإلى شفاء العامل وأسرته، وإلى ذيوع الشرور والبطالة بين طبقات الأغنياء وتابعيهم وإلى فساد العمل وتقهقره، وإلى ذيوع الشرور والبطالة بين طبقات الأغنياء وتابعيهم وإلى فساد العمل وتقهقره، وإلى الدمار والاضطراب والقحط. بل إن النظام الحاضر يفضي إلى تقسيم

المجتمع إلى طبقتين. إلى أصحاب ملايين. يقف وجوههم جمهور من الفقراء المعدمين. وليس لذلك من عاقبة إلا الخراب الاجتماعي أو الاشتراكية. ولتجنب هذه العواقب الوخيمة ولضمان المساواة في توزيع مصادر السعادة ووسائلها يرى الاشتراكيون أن الأرض ورأس المال يجب أن يوضعا تحت حماية المجتمع وفي حوزته. وأهم التغيرات التي حدثت بين صفوف الاشتراكيين هو أن سوادهم لم يعودوا بعد يعترفون بأنهم يستشهدون بنظريات الاقتصاد السياسي ويرتبطون بمسائله. لأن قواعد كارل ماركس أفسحت المجال للأخذ بالمذهب القائل بأن لا توضع القوانين والقواعد إلا بما يلائم الظروف وقد استعاض الاشتراكيون اليوم عن غرضهم من أحداث انقلاب في النظام بالتغلغل في صميمه، وقواد هذه الحركة رجال أوتو النشاط بعد النظر والاستشهاد في سبيل تحقيق مذهب يستعين برحمة الإنسانية وشفقتها. وإليك صورتي زعيمين من زعماء الاشتراكية أولهما المسيو جوريس وهو في طليعة السياسيين، والآخر هو المسيو بردوهون من الفلاسفة. وصايا الموتى وغرائبها الشواهد كثيرة على غرائب الوصايا التي يتركها الناس لتنفذ بعد موتهم، ومن ذلك أن اللورد بورتار لنجتون أمر أن يدرج في قبره وكل خواتمه في أصابعه، ووصي اللورد أوركني أهله أن يشيعوه فوق نعش قديم حتى لا يشهد جنازته أحد، وأن لا يضعوا زهوراً على قبره، وأعلم ابن أخته بأنه سيجد وسامه مرمياً في أحد مخازن القصر. ومن بين الذين قضوا نحبهم في هذه الأيام رجل من أرباب الملايين في ويانة عاصمة النمسا، فأفرد مبلغاً من المال وطلب أن يدفع منه على إنارة ضريحه، بل وصندوقه الموسد فيه. بالأنوار الكهربائية عاماً كاملاً. وطلب رجل من الفرنسيين أن يرموا جثته على مسافة ميل من السواحل الإنجليزية. إذ كان ساخطاً على أمته، حانقاً على الشعب الفرنسي، حتى أنه لم يرض لنفسه أن يدفن تحت ثرى فرنسا، ولا أن يسمح لأحد من أقاربه أو بني جلدته بالانتفاع من موته، بل ترك جميع ماله وثروته إلى فقراء مدينة لندن. حظوظ المخترعين لم تكن أغرب الاختراعات لتجلب دائماً لصاحبها أعظم الثروات. يقولون إن المزالج جلبت

لصاحبها ستمائة ألف جنيه، وأن أول رجل صنع أربطة الأحذية كسب منها نحو نصف مليون من الجنيهات، وإن مخترع الدبابيس الحديثة ربح مليونين من الجنيهات، كل هذا بينما ترى شارل بورسيل الذي اكتشف قانون التلفون عام 1855 ووصفه، مات شيخ الفقراء، وميشو مخترع الدراجة البسكلت قضي دهره في أسوأ حال وأنكد عيش، وفردريك سوفاج الذي ينسب إليه اختراع الدفة البخارية حكم عليه بالسجن ومات مفلساً مجنوناً. هل يشفي البرد من الصلع؟ سؤال يخطر لنا إذا ذكرنا الحقيقة القائلة إن البرد يعمل على نمو الشعر، وقد أكد السير شاكلتون ذلك المكتشف العظيم أن كثيرين من رجال رحلته كانوا قبل سفرهم معه إلى أقاليم القطب المتجمد صلع الرؤوس ولكن لم يكد يمضي عليهم بضعة أسابيع في القطب الجنوبي حتى بدأ شعرهم ينبت ويأخذ في الغزارة والنمو. فلما عادوا من سياحتهم كانوا ذوي شعور جثلة غزيرة كثيفة. وانظر إلى الحيوانات تر أن ليس في بلاد الدنيا بأسرها ما يشبه الأقاليم القطبية في غزارة فرى حيوانها، وقلما تجد في النساء امرأة صلعاء! ولا في الخصيان خصياً أصلع وذلك لرطوبة أمزجة الفريقين. أصحاب ملايين مغمورين لما علم الناس فجأة بأن رجلاً من الإنجليز يدعى المستر هلابي ديلي ابتاع ضيعة دوق بدفورد بنحو من ثلاثة ملايين من الجنيهات. تردد على شفاههم هذا السؤال من هو المستر ديلي؟ فلم يعرفه أحد من الجمهور الإنكليزي. ولم يعلم بأمره إلا القليلون من أرباب المصارف وأمثالهم. وإذا كانت مدينة لندن تفخر بفئة من المتادرين بالملايين مثل المستر ديلي هذا. فإن فيها جماعة من الناس يدفعون في أغراضهم وحاجاتهم مئات الألوف من الجنيهات (بصفة سمسرة) ليس غير. هذا رجل اسمه المستر برش كرسب في لندن يكاد يكون أحمل أهلها أقرض الجمهورية الصينية عشرة ملايين من الجنيهات. ولم يسمع به قبل ذلك الجمهور ولا علم بخبره ولا بوجوده ولكنه وثب إلى النباهة بغتة بقرضه الذي أدى إلى خلاف بينه وبين الحكومة الإنجليزية بل والدول العظمى إذ أرادوا أن يمنعوه من إقراض الصين. ولكنه أبى إلا أن يقرضها قرضاً حسناً.

ولم تكن دهشة الشعب الإنجليزي قليلة يوم مات المستر شارلز مورسن تاركاً أحد عشر مليون جنيه إذ لم يكن مورسن هذا رجلاً معروفاً من الجمهور، وكذلك مضى في حياته يجمع هذه الثروة الطائلة. ولا يدري بشأنه أحد. شهر العسل في قاع البحر لما رأى الكولونيل فلمنج وهو من أرباب الملاين في أمريكا وخطيب ابنة الدكتور ويلسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة أن أرباب الصحف والمجلات ستتهافت على عروسه ويسدون عليهما المنافس أجمع أمره على أن يأخذها يوم الزفاف إلى مركب غواصة له ويقضيا جزءاً من شهر العسل في قاع البحر. وكانت العروس موافقة على اقتراحه ولكن وجدا مانعاً واحداً وهو أن العروس لا تستغني عن وصيفة لها ووجودها من صعائب الأمور. ولكن وجد أخيراً خادمة رضيت أن تأخذ ست جنيهات في الأسبوع وتذهب معهما واشترطت عليهما أن يؤمنا على حياتها بمبلغ وفير. فأخذها معهما تجربة على أنها لم تستقر في الغواصة وهي تمخر العباب تحت أديم الماء. حتى تشنجت وأصابها الإغماء. فلما طفت بهم الغواصة فرت لا تلوى على شيء. أما العروسان فلا يبرحان مصرين على قضاء شهر العسل تحت أديم البحر. ملك الأوز إن في تربية الأوز غنى طائلاً وثروة كبرى لو بدئت برأس مال صالح وصبر كاف على متابعتها. ولعل أكبر مرب للأوز الآن. وإن شئت فقل ملك الأوز، هو رجل من أهل ولاية الأللينوا في الولايات المتحدة. رأى أن تربية هذه الأطيار وتسمينها خير له وأجدى عليه من امتلاك مصرف مالي. وكان من أصحاب المصارف. ومعدل عدد الأوز الذي في مزرعة عشرة آلاف. وقد أعد لها مستشفى خاصاً ومحبساً يحبس فيه ما كان منها شكساً متلافاً. وإذا كسر لواحدة منها جناح أو أصابها أذى أخذت إلى المستشفى لمعالجتها. متفرقات في بضعة أسطر سبع وفيات العالم من داء السل. معدل خطوط الترام في مدينة لندن ميل واحد لكل ثلاثين ألف من السكان أما ثغر مانشستر فميل واحد لكل خمسة آلاف.

يشتغل في لندن بالليل من الشرطة والصحفيين والخبازين ومستخدمي مصلحة البريد وسماسرة الأسواق المالية مائة وعشرون ألف رجل. في زيلاندة الجديدة كل رجل يخلو من مرتزق أو عمل له الحق أن يطلب التوظف في أية خدمة في الحكومة بالأجور الحاضرة. في موكب زفاف في مدينة واشنطن عاصمة الولايات المتحدة زف اللورد داونشير مدير المطافئ عروساً في إحدى مطافئه حتى بلغت الكنيسة. أكبر مزرعة في الدنيا لتصدر اللبن والزبدة هي ضاحية من ضواحي مدينة وينبج من أعمال كندا فيها نحو من ألفين وخمسمائة رأس من الغنم. منها ألف وخمسمائة حلوب ومجموع ما يخرج منها من الزبدة واللبن يبلغ ثلاثة ملايين من الجالونات. قتل فتى في الصين أباه فحكم عليه بالإعدام وكذلك حكم على معلمه لأنه لم يؤدبه أكثر مما أدب. وجد طبيب مذبح في معدة بقرة، مصراعاً من الحديد يبلغ طوله ثلاث بوصات ونصف بوصة وقبل هذه الحادثة بعامين وجد طبيب آخر في معدة حيوان ستاً وثلاثين شلناً. معلومات جديدة عن داء الزهري إن اكتشاف داء الزهري في الأرانب قد فتح باباً جديداً للبحث في استئصال هذا الداء، ومن الجائز استعمال الاكتشاف الذي اهتدى إليه الأستاذ إدوارد جينر لمنع داء الجدري وإتباعه في منع داء الزهري. لأن طفيليات الجدري وجدري البقر والزهري البشري والحيواني يظهر أنها من نوع واحد من المعقول إذن أن نتصور أن الزهري الذي يصيب الأرانب إذا طعم بها المصابون من الناس قد يمنع هذا الداء الوبيل عنهم. ولا شك أن تطعيماً من هذا القبيل قد يأتي بالأمل الكبير في الشفاء. ولكن ما دام اسم الزهري مخجلاً عند الناس إلى هذا الحد. وما داموا يلتزمون فيه السكوت. ويركنون إلى الصمت. ويأخذهم الحياء الكاذب في البحث علناً ويسمع الجمهور. فإن الصعوبات ستكون ولا ريب شديدة.

موضوعات العدد القادم

موضوعات العدد القادم سيظهر العدد القادم (العدد الثاني من السنة الثالثة) مفتتحاً بمقالة ضافية في تاريخ المجالس النيابية في العالم والمجالس النيابية في مصر وتاريخ طائفة كبيرة من أعضاء الجمعية التشريعية المصرية الحالية وهكذا في كل عدد نكتب تاريخ جماعة من أعضاء الجمعية التشريعية مع نشر صورهم. يلي ذلك المقال الأول لمقالات عدة للكاتب المشهور أحمد بك حافظ عوض عن كتاب جليل في تاريخ آداب العرب لمستشرق إنكليزي كبيير. ثم رسالة من كتاب (نصائح للشبان) للكاتب الإنكليزي كوبت عنوانها (إلى الزوج) وفي باب الاقتصاد السياسي كلمة ممتعة عن آدم سميث شيخ الاقتصاديين وثمان صفحات من كتاب أميل القرن الثامن عشر للفيلسوف جان جاك روسو ورواية جميلة للكاتب الأمريكي واشنجطون أرفنج، يلي ذلك كشكول البيان وفيه من النبذ العلمية والأدبية وما إليها ما فيه الغناء ثم باب الأخبار والحوادث وباب النقد والتقريظ. إعلانات البيان سنفرد لإعلانات البيان صفحات عدة علاوة على صفحات البيان المقررة. والذي يخاطب في شأن الإعلانات الفرج شيفر للو بشارع كامل نمرة / 5 / ونمرة التلفون 2935. الصحافة العربية يباع كتاب الصحافة العربية للفيكونت دي طرازي في مكتبة البيان وثمنه (100) وسنكتب عن هذا الكتاب الجليل كلمة وافية في العدد القادم. نصيحة إلى الشبيبة المصرية ومكاتبي الصحف وكتاب المحاكم وما إليها. لسنا بحاجة إلى شرح الفوائد التي تنتج من تعلم اختزال الكتابة العربية، فكل من يشغل بمكاتبة الجرائد وموالاتها بما يدور في المجالس النيابية ومرافعات القضايا ذات الشأن. والحفلات الأدبية الخصوصية، وكذلك كل من مارس وظائف السكرتاريات على اختلاف أنواعها. وبالجملة كل من يحتاج إلى نقل موضوعات يصعب نقلها بأجمعها بطريقة الكتابة العادية - نقول إن هؤلاء جميعاً قد عرفوا أن هناك حاجة شديدة إلى تعلم اختزال الكتابة العربية على آخر طراز وأسهله وأسرعه وأحسنه، تلك هي طريقة الأستاذ راوول بينكردي، فمن أراد أن

ينتهز الفرصة ويتعلم تلك الطريقة النافعة الجليلة الفوائد فليقصد مدرسة برليتز بشارع عماد الدين بالقاهرة وهناك يلقى دروساً عملية في هذا الفن الجليل. يقوم بإلقائها الأستاذ مخترع هذه الطريقة البديعة. الطبيعية أو أميل القرن الثامن عشر يعرف قراء البيان أنا شرعنا مذ السنة الأولى في ترجمة هذا الكتاب الجليل الذي وضعه الفيلسوف الاجتماعي الأكبر جان روسو وبه اشتهر وعلا صيته إذ كان هذا الكتاب من أهم أسباب الثورة الفرنسية الكبرى وأكبر مرشد لعلماء التربية على آثاره بطرسون. وعلى نظرياته يعولون. ومن حسنات الترجمة التي ننشرها في البيان أنا ننقلها لا عن النسخة الفرنسية الأصلية بما فيها من الآراء المنقوضة اليوم وإنما عن الترجمة الإنكليزية لأكبر علماء التربية الحديثة الأستاذ (بين) مع تعاليق المترجم التي صحح بها كثيراً من نظريات روسو ووازن بينها وبين الآراء الحديثة علاوة على ما فيه من خفة روح روسو وظرفه وطلاوته، والكتاب في الواقع كتاب تربية وأخلاق واجتماع وفلسفة وقد كان القائم بترجمته إبراهيم عبد القادر المازني وبلغ ما ترجمه (40) صفحة من طراز البيان، وآخر صفحاته نشر في العدد الرابع من السنة الثانية. ولأمر ما سكت الأستاذ المازني عن إتمام ترجمته. بيد أن البيان يأبى إلا أن يتم عملاً شرع فيه. لذلك كلفنا الأستاذ محمد السباعي بإتمام ترجمته من الموضع الذي وصل إليه الأستاذ المازني وهذا الذي يراه القارئ اليوم منشوراً من هذا الكتاب في هذا العدد إنما هو من ترجمة محمد السباعي. وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه الخير والسداد.

مواد أرجئت إلى العدد القادم

مواد أرجئت إلى العدد القادم إذا كنا نحن في اختيار الموضوعات النفائس إلى الغاية التي ليس بعدها، ونحتفل للإجادة في انتقاء مادة البيان إلى الحد الذي لا نرى للإجادة بعده سبيلاً، فإنا كذلك نعمل على إصداره في مواعيده، وإخراجه في مواقيته، وإن غالبتنا طلبتنا الأولى وكادت في بعض الأحايين تنسينا الثانية. وأنا تقدم الآن إلى قراء البيان العدد الأول من السنة الثالثة مستوفياً حق القراء عليه، مكتملاً الصفحات المطلوبة منه، وقد كنا مسترسلين في الزيادة عليه، وإضافة موضوعات كثيرة إليه. ليس فيها إلا الجيد المستطاب، والجليل المستحسن، مثل باب أخبار وحوادث، وفيه كلمة طيبة في مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأبلغ ما قيل في وصف مولده الكريم، وقصيدة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في يوم المولد، وكلمة مستوفاة في تاريخ الطيران وقصيدة شوقي في ذلك وتأبين فقيد مصر والمصريين المرحوم علي أبي الفتوح باشا، وقصيدتا شوقي وحافظ وتتمة رواية ويليم تل، لشيخ شعراء الألمان جون فردريك شيلر ترجمة الأستاذ أحمد الخازندار، وكثير من المتفرقات الأدبية والعلمية وفصول في الزراعة! يلي ذلك باب النقد وفيه الكلام على رحلة الأمير الجليل البرنس محمد علي باشا، وتاريخ الصحافة العربية وكتاب الواجب، وغير ذلك من جديد التوليف والمعربات. هذا وقد كنا طبعنا الكثير منها وأخذنا في طبع الباقي. إلا أننا فطنا إلى وجوب الاحتفاظ بموعد البيان، فأرجأنا ذلك كله إلى العدد الثاني. وكلاء البيان وكيل البيان العام في القاهرة وضواحيها الشيخ عبد الوهاب القاضي ولا يعتمد في القاهرة غيره أبداً وليس لنا وكلاء الآن في سائر أنحاء القطر - ونرجو حضرات المشتركين عموماً أن لا يعولوا على الشيخ عبد السلام منصور أبو حمزة ومن رآه منهم فحبذا لو تفضل على البيان بأخبار الإدارة. ونحن ننره بأننا شكوناه إلى الجهات المختصة. وكذلك عبد العزيز فهي الجبالي ومحمد محمد جوهر وحسن محمد ومحمود أبو النجا. كل هؤلاء لا يعتمد عليهم في شيء. أما وكيلنا في حلب فهو حضرة الفاضل عبد الودود أفندي الكيالي وفي تونس حضرة الأمثل محمد أفندي المقدم وفي دمشق محمد أفندي سليم لحام وفي

بيروت محمد أفندي جمال. حول أبطال العالم نبشر قراء أبطال العالم - ذلك المشروع الجليل الذي عرف قراء البيان ما هو أنا شرعنا مذ أسبوعين في طبع ثلاثة أبطال لكل بطل سفر خصيص به - أقل سفر منها تبلغ صفحاته مائة وعشرين صفحة وبعضها تبلغ صفحاته مائة وستين - فأول هذه الثلاثة بطل الأبطال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بقلم صاحب مجلة البيان - والثاني الفيلسوف الاجتماعي الكبير فردريك نيتشه بقلم الكاتب المشهور فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة - والثالث شاعر الإنكليز الأكبر نابغة القرن التاسع عشر اللورد بيرون بقلم الكاتب محمد السباعي. هؤلاء هم الأبطال الثلاثة الجاري طبع أسفارهم الآن. أما أول بطل يقدم إلى القراء من هؤلاء الثلاثة ففي الغالب سيكون اللورد بيرون لأنه تم وضعه وكاد زعامة ولولا تزاحم الأشغال لدينا وإلحاح القراء علينا أن نسرع بإظهار أبطال العالم لكان بين الرأي أن نفتح هذا المشروع الجليل بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم ثم بطائفة صالحة من أبطال العرب وكثيرهم وفي اعتقادنا أنهم في مقدمة أبطال العالم شعراء كانوا أو كتاباً أو فلاسفة أو ملوكاً. ومن هنا نقول إن مسألة تقديم بعض الأبطال على بعض ليس لفضل في المتقدم على المتأخر وإنما ذلك لأنه وجد من كتب على المتقدم وليس يصح أن تؤخر المكتوب حتى يتم غيره - أما موعد ظهور أول بطل فليس في استطاعتنا أن نعد القراء وعداً محدوداً باليوم الذي سيظهر فيه لأننا نبذل جهدنا في إتقان الطبع وشكل الكثير من الحروف وشرح الكلمات التي قد يستبهم معناها وذلك كله يحتاج إلى زمن كثير وجهد غير أنه مهما تأخر أول بطل فلن يتأخر عن أوائل أبريل القادم إن شاء الله.

الزوج المنكود

الزوج المنكود واشنجطن ارفنج كاتب أمريكي يعد في مقدمة كتاب الأمريكان، إذ امتاز برشاقة الأسلوب وخفة الروح، وملاحة الفكاهة، وهو من أقدر الكتاب على وصف أخلاق الناس وصورهم وأنماطهم، وهو في طليعة عشاق الطبيعة والمولعين بالسياحة والتجوال، وقد انحدر من العالم الجديد إلى إنكلترا فوصف أروع مناظرها، وصور أخلاق أهلها وتنقل بين أحقر أكواخها وأفخم قصورها، وجمع ذلك كله في كتاب سماه الصور أو الكشكول. وفي كتاب له آخر وصف أخلاق أسرة إنكليزية نزل عندها ضيفاً وصور أخلاق أفرادها حتى الخدم والوصائف فأبدع في ذلك كل الإبداع. وإلى القراء قصة بديعة مستملحة الفكاهة قال أرفنج أنه وجدها بين أوراق مؤرخ هولندي مشهور بصحة تاريخه وشهد بأنها حقيقة لا يمازجها أدنى نصيف من الخيال وفي هذه القصة يرى القارئ الحذق في الوصف، والمهارة في إدخال الفكاهة، ويجد في كل فقرة منه مغزى جميلاً، ونكتة مستعذبة. وكانت وفاة أرفنج في عام 1859، وقد قضى نحبه شيخاً كبيراً تنفس به العمر حتى جاز السابعة والسبعين. كل من ساح على ضفاف الهدسون لابد أن يذكر جبال كاتسكل، حلقة منفرطة من سلسلة جبال الأبلشيان، وأنه ليراها عند العدوة اليسرى من النهر ناهضة شامخة الذرى تناطح أعاليها النجوم تشرف من ارتفاع عظيم على الإقليم السهل المنبسط. كل تغير في فصول العام، أو في حال الجو، بل كل ساعة من ساعة النهار، تحدث تغييراً في ألوان تلك الجبال وأشكالها، حتى لقد عدتها النسوة الصالحات في نواحي الإقليم قاصيها ودانيها، أضبط (بارومتر) يقيس الجو ويرقبه. فإذا صحا الجو وأشرقت السماء رأيت الجبال مكتسية لوناً ناضراً بنفسجياً، طابعة في صفحة الجو عند المساء تأوداتها وتعاريجها، وقد تراها إذا غابت الغمائم عن سماء الإقليم تجمع ذؤابة من الأبخرة فوق ذراها تبدو عند الطفل زاهية قانية كأنها تاج النصر والفخار. وعند سطح هذه الجبال الحسناء يلمح السائح دخاناً مصعداً من قرية هناك تطل سطوحها من خلال الأشجار، حيث ترى زرقة الربى قد بدأت تفني في نضرة السهل وخضراته. قرية صغيرة قديمة العهد، بناها قوم من مستعمرة الهولنديين، أيام كانت الولاية في

حوزتهم، وقد شدوا لهم هناك مساكن من الآجر الهولندي، وجاءوا إليها بالنوافذ والأبواب. في هذه القرية، في بيت من هذه البيوت، كان يعيش منذ سنين، أيام كان الإقليم ملك إنجلترا، رجل ساذج طيب القلب رقيق الحاشية، يدعى باسم رب فنان ونكل. وكان جاراً محمود الجيرة، وزوجاً طيعاً، يمشي عبداً لزوجه، ولعل استعباد زوجه له أورثه ذلك الاستحواذ الذي أكسبه محبة الجيران وعطف أهل القرية، ذلك لأن الأزواج الذين يجدون في الدار زوجات آمرات، عاصفات ناهيات، يروحون خارج الدار مستضعفين خاضعين، ويقبلون على الناس متضامنين محبين، فإن أخلاقهم ولا ريب تخرج من نار النكبة الزوجية مرنة لينة، ولعمري أن عتاب الزوجة زوجه حين يضمهما السرير خير من خطب الدنيا بأجمعها، وأجدى على الرجال من المواعظ التي تعلم الناس الصبر والاضطلاع بالمتاعب، ولا لجاج في أن الزوجة الشكسة المتوحشة قد تعد من بعض الوجوه نعمة طيبة، وإذا صح ذلك فإن رب كل من زوجته في ثلاث نعم. وكان محبوباً من نساء القرية وبمولاتها الصالحات، وكن يجنحن إلى الانتصار له، إذا ثار الخلاف بينه وبين زوجته، ولم يترددن مرة إذا ضمهن حديث الليل وندوة المساء في إلقاء كل اللوم على مدام ونكل، وكان أطفال القرية يهتفون من فرح إذا لمحوه مقبلاً عليهم، وأنهم ليصيحون لمجيئه مغتبطين، وكان يحضر ألعابهم، ويقاسمهم لهوهم، ويصنع اللعب لهم، ويعلمهم عمل الطيارات وتطييرها، ورمي الحصى وتسديد رميته، ويقص عليهم قصص العفاريت، ونوادر الساحرات، وحكايات الهنود، وكلما مر بالقرية منطلقاً، أحاط به جماعات الأولاد، يتشبثون بأذيال ثوبه، ويعلتون ظهره ويتسنمون كاهله، ويمزحون معه ويضحكون منه كما شاؤوا وشاء مراح الأطفال، وإنه ليجوب منافس القرية وسبلها ويمر على دورها ومساكنها، فلا يهر إليه كلب، ولا يزعجه نباح. وأكبر عيب فيه كرهه كل عمل يعود عليه بالكسب، ولا تحسبن كراهيته من عوز فيه إلى الكدح والدأب، فقد تراه معتقداً عند ضفة النهر صخرة ندية رطبة وفي يده قصبة أشبه شيء في طولها وثقلها برمح الترتر، وكذلك يمضي في صيد السمك يومه، لا يمل ولا يسأم وإن لم تشجعه سمكة واحدة. وإنه ليتنكب بندقته الساعات الطوال متنقلاً بين الغاب والإجم، متروحاً بين المستنقعات والأكم، طالعاً الجبل، وهابطاً الوادي، في صيد بضعة حمائم أو

سناجب، ولا يتأخر أبداً عن إعانة جار له حتى في أشقى الكدح وأصعب الأعمال، وهو إذا حان حين اللهو كان السباق إليه، وإذا اجتمع أصحاب القرية للمراح واللعب، كان في طليعة اللاعبين، واعتادت النسوة أن يستقضينه شراء حوائجهن وقضاء مشاويرهن، ويستعن به في إنجاز الأعمال الخفيفة التي لا يرضى أزواجهن إنجازها وجملة القول كان رب معداً لخدمة كلة إنسان إلا خدمة نفسه، أما عمل واجب الدار وتعهد زرعه، والعناية بأمره، فقد وجد ذلك عليه مستحيلاً. وقد صرح يوماً بأن لا جدوى من العمل في مزرعته، والحق يقال إنها كانت أسوأ أرض في كل أرجاء الإقليم. كل شيء فيها سيء فاسد، أسوارها أبداً متهدمة، وبقرته يوماً تهيم ويوماً تخوض في الزرع فتهصره، والعشب أكثر طلوعاً في حقله، والغيث يقع في غيبته. وأما أولاده ففي أطمار بالية وتشريد، كأنما فقدوا عهائلهم، وإن منهم صبياً قزماً له ملامح أبيه، ورث عن والده عاداته كما ورث بالى أثوابه، يمشي دائماً في أثر أمه ظالعاً كالمهر، مرتدياً (بنطلوناً) خلقاً كان لأبيه، يرفعه بيده، كما ترفع السيدة المتأنقة ذيل ثوبها في اليوم الممطر. على أن رب فإن ونكل كان واحداً من أولئك الرجال الناعمي البال ذوي الطبائع القانعة الحمقى، أولئك الذين يرون الحياة أمراً سهلاً، سيان عندهم في الرزق الخبز الأبيض والخبز الأسمر، وكل ما ينال من أقل فكر أو عمل، الذين يؤثرون أن يتبلغوا بفلس على أن يعملوا من أجل دينار، ولو ترك رب لنفسه، وأرخي له لببه، لنفخ الحياة كالصفير في قناعة تامة ورضى، ولكن زوجته كانت أبداً تطن في أذنه، زاجرة له على تجلده واستهتاره، والويل الذي يجره على بيته، والمصيبة التي ينزلها بأسرته، وكان لسانها يلوك صباح مساء الكلم الزواجر دون (انقطاع)، وكل قول يقول أو فعل يفعل لابد أن يرسل بلاغتها وسحر بيانها. ولم يكن له إلا سبيل واحدة في الجواب على محاضرات زوجته وخطبها. وهو أن يهز كتفيه ورأسه ويرفع عينينه ولا يفوه ببنت شفة. ولم يكن ذلك إلا ليبعث زوجته على رشقه بالكلم النبال كرة أخرى. حتى ليود أن يستجمع قواه وينفلت إلى خارج الدار. وما خارج الدار إلا الحمى الوحيد الذي يحتمي فيه التعساء من المتزوجين. بل هو الكنف الذي ينطاق إليه عبيد الزوجات.

وكان خليط رب الوحيد في البيت كلبه وولف وهو شبيه سيده تخاذلاً وخضوعاً. وكانت مدام ونكل تعدهما متحالفين على البلادة. مصطلحين على البطالة. بل تنظر إلى الكلب بالعين الغاضبة الساخطة. كأنه السبب في تبلد سيده وتشرده. والحقيقة أن الكلب من كرام الكلاب روحاً. وأشجعها نفساً. ولكن أية شجاعة تقف إزاء بذاءة امرأة. وأي باس يغني من أذى لسانها ويدها. ولا يكاد يدخل الكلب الدار حتى تنتكس هامته. ويتساقط ذنيه أو يلتيو بين ساقيه. وأنه ليختلس الخطي في فنار الدار كالمجرمين. ويلحظ سيدته شرزاً. فإذ لمح أقل إشارة منها بالمكنسة أو المغرفة جرى إلى الباب نابحاً عاوياً. هذا والزمان يدور على رب ويزيد في نكده وشقائه. كلما تقادمت السنون على حياته الزوجية. فإن الخلق الحاد الذميم لا يعود بمر الدهر ناعماً ليناً. وإن اللسان السليط هو السلاح المشحوذ الذي يزداد من كثرة الاستعمال رهافة ومضاء. ومكث زماناً يعزي نفسه إذا طرد من داره. ويتلهى عهن برحاء همسه. بالتردد على ندوة في القرية تجمع عقلاءها وفلاسفتها وعاطليها. تعقد جلساتها عند مقعد هناك إزاء نزل صغير. تدل عليه صورة حمراء تمثل جورج الثالث. ملك بريطانيا في ذلك العصر. هناك يجلسون في ظلال اليوم الصائف الطويل الشقة البليد. يتحدثون عن القرية وأحوالها. ويتكلمون في شئونها وشؤون أهلها. ويقصون حكايات منومة لا نهاية لها ولا معنى. ولو علم السياسي بأمرهم وهم يتناقشون في المجلس ويتجاذبون أطراف الحديث حول أنباء صحفية قديمة نفحهم إياها سائح مر بتلك الانحاء. لما ضن على هذا المنظر بشيء من ماله. وما أشد وقار المجلس وسكونه إذا انطلق فإن بومل. معلم القرية. يتلو عليهم الصحيفة في رفق وتؤدة. وفان بومل هذا أستاذ تنبال نشيط. لا تخيفه أضخم كلمة في قاموس اللغة. وما أعظم رزانة القوم وهم يتباحثون في شؤون سياسة مضى عليها بضعة أشهر. أما رئيس المجلس وعريفه فرجل منهم يدعى نقولا فيدر وهو كذلك قسيس القرية ورب النزل. يأخذ مجلسه إزاء نزله من مطلع الشمس إلى غسق الليل. لا يبرحه إلا هارباً من حر الهاجرة إلى ظل الدوحة الباسقة. ومن جلساته وحركاته يعرف أهل القرية أوقات النهار. عوضاً من ساعاهم. ولم يكن يتكلم إلا نادراً. ويدخن بغليونه طول يومه. على أن أتباعه وخلطاءه. ولكل عظيم إتباع وخلطاء كانوا أكثر شيء علما بأمره وما يدور في خلده.

فإذا قرئ عليه نبأ. أو قصت عليه حكاية فلم ينشرح لها ولم يبتهج. رأوه قد بدأ ينفخ من غليونه أنفاساً قصيرة متتابعة. فإذا خف للقصة وأعجب بها. تنفس الدخان في دعة وسكون. وبعثها سحائب خفيفة غير معتمة. وحيناً يخرج لغليون من فمه ويدع ذؤابة الدخان تدور حول أنفه. ويطرق في سكون برأسه دليلاً على استحسانه التام. ومن هذا الحمى الأمين كان رب الزوج المنكود عرضة لمطاردة زوجته له ومباغتتها، فقد كانت تنقض عليه وهو في الحفل مطمئن وادع. قاطعة على المجلس هيبته. مرسلة فيهم قحتها. حتى رئيسهم الرجل المهيب الوقور لك يكن لينجو من شر لسان المرأة المسترجلة المتوحشة. إذ كانت تهجم عليه بالتهمة. وترميه بأنه المشجع لزوجها على البطالة والكسل. وبلغ برب المسكين اليأس. وجدية الحزن. فلم يكن يري وسيلة للفرار من بحث مزرعته وتعهدها. وصيحات زوجته وصرخاتها. إلا أن يأخذ بندقيته ي يده وينطلق في الغاب هائماً طائفاً. هناك كان يجلس عند أصل شجرة. يقاسم كلبه ما في جعبته من رزق. وكان يعطف على الكلب ويحدب. كرفيق له في نكد الدنيا. وحليفه في عذاب البيت. وكان يخاطبه فيقول أي وولف المسكين. أن صيدتك لا تطلب لك من الحياة إلا حياة الكلب. ولكن هون عليك يا فتاي ولا تبتئس. فلن يعوزك الصديق الرحيم. ما دام في نفس صاعد. . إذ ذاك يهز وولف ذنبه. وينظر إلى وجه سيده واجماً. وإن صح إن الكلاب تشعر بالرحمة. فإن معتقدي أن وولف كان يبادل سيده عطفه وحنانه. ففي طوفة من طوفانه. في يوم خريف جميل. انتهى برب التجوال إلى ربوة من أعلى ربى تلك الجبال. وكان كعادته يتعزى بصيد السناجب. والسهل والحزن يضجان بقصف بندقيته. حتى إذا جاء الأصيل. حل به التعب واللهاث من أثر التيار والتطواف. فارتمى يرفه عن نفسه على ذروة في الجبل قد كساها العشب الأخضر ثوباً سندسياً يتوج جبين الهاوية. وقد أشرف من فرجة بين السرحات الباسقات على السهل المنخفض الممتد بضعة أميال من باسق أشجار الغاب. ورأى من كثب نهر الهدسون يجري في سكون وجلال. تعلوه غمامة اكتست حمرة الشفق. وتلوح عنده جارية تمخر العباب نائمة فوق صدره الزجاجي. ثم تغيب وراء الجبال الزرقاء.

وعلى الجانب الآخر واد منخفض وحش قفر انتثرت فوق أديمه صخور انحدرت من جواب الجيل وهضابه، تضيئه أشعة الشمس المنعكسة الراحلة، وكذلك جلس رب ساعة يفكر في هذا المنظر ويجلو عينه من روعته، والمساء مقبل متقدم، والجبال تمد ظلها الأزرق المترامى فوق البطاح والوديان. ورأى أن الظلام سيرخي لا ريب سدوله قبل أن يبلغ القرية. وذكر امرأته وهول نقائها فتنهد تهده الموجع الملتاع. ولكنه كاد يهم بهبوط حتى سمع صوتاً من كثب ينادي رب فإن نكل. رب فإن ونكل! فدار بعينه ولكنه لم ير إلا غراباً محلقاً فوق الربى وحيداً. فظن أن مخيلته قد خدعته وأنبعث في سبيله منحدراً هابطاً. ولكنه سمع الصيحة نفسها ترن في سكون ذلك المساء وهدوئه رب فان ونكل! ورأى كلبه وولف راح يهر هريراً منخفضاً. ويقترب من جانبه مذعوراً. وينظر خائفاً إلى ناحية الوادي المنخفض. فاستشعر رب من ذلك رهبة خفية بدأت تستملكه، فنظر إلى جهة الوادي فلمح شبحاً غريباً صاعداً في رفق صخور الجبل. وقد أنقض ظهره شيء يحمله. فأدهشه أن يرى آدمياً في هذا المكان المبعد المتوحش. وظنه رجلاً من أصحاب القرية بحاجة إلى عونه. فأهطع إليه يريد أن يحمل عنه وزره. وكلما اقترب منه ازدادت دهشته لغرابة مظهر الرجل وثوبه. رأي شيخاً قصير القامة ضخماً. يجلل هامته شعر وحف جئل. وتنحدر تحت ذقنه لحية كثة. يلبس لباس أهل هولندة القدماء. صداراً من القماش حول خصره. وسراويل كثيرة أعلاها عريض طويل. تزين حفافيها صفوف من الأزرار. وعند ركبته عدة منها. يحمل فوق كاهله دنا ضخماً. كأنما يحوى شراباً. حتى إذا جاءه أشار إليه الغريب أن يقترب ويرفع عنه حمله. فأطاع رب وهو خجل من صاحبه الجديد مستريب. ثم تعاونا على الدن. وصعدا وادياً ضيقاً. لعله مجرى نبع من الجبل ناضب. وكلما انبعثا مصعدين سمع رب بين حين وحين صيحات داوية كأنها قصف الرعد البعيد. صادرة من واد عميق القاع. بين صخور شاهقة. يفضي إليه طريقهم الصعب. فوقف رب عن السير برهة متردداً. ولكن ظن أنها حنين من الرعد الممطر الكثير الحدوث عند ذروات الجبال الشم. فواصل السير منطلقاً وصاحبه بين عدوتي الوادي حتى أشرفا على أخدود يحف من حوله هاويات أفقية. قد نبتت على حافلها أشجار باسقة

الأفنان. منتشرة الأغصان. حتى لا ترى القبة الزرقاء إلا بين فرجات فروعها. ولا تشهد غمائم المساء إلا من أضعاف أعوادها. هذا وهما يسيران صامتين لا يتخاطبان. وإن كان رب في دهشة بالغة وعجب يذهل القلب. يسأل نفسه ترى أي غرض هناك من حمل دن فيه خمر إلى هذا الجبل الموحش. ولكن شيئاً غريباً غامضاً حول ذلك الرجل المجهول يثير الرعب ويحسم عرق التخاطب والتفاهم. فلما بلغا الأخدود رأى حالاً عجباً. رأى في بقعة سهلة من بهرة الأخدود. جماعة من الرجال في مظاهر منكرة. يلعبون لعبة الدبابيس التسعة. مشتملين في أزياء غريبة منكورة. منهم من اتشح في سترة قصيرة. ومنهم من تسربل بسراويل طويلة. وفي مناطقهم الخناجر. يلبسون سراويل عدة. كلها على نمط سراويل الدليل. أما وجوههم فما شئت من غرابة ونكر. وإن فيهم رجلاً طويل اللحية مرسلها. عريض الصفحة ضخمها. متخازر العين خنزيريها، وفيهم رجل آخر يكاد وجهه لا يحوى غير أنف. تعلوه قلنسوة بيضاء أشبه بقمع السكر. حليتها ذيل ديك حمراوي. وللكل لحى مختلفة ألوانها. متباينة أشكالها. وفيهم رجل عليه مظهر الزعيم. شيخ عبل أسمر الملامح من أثر الجو. مشتمل في سترة مقفلة. ومنطقة عريضة. يتدلى منها سيف قصير. فوق رأسه قلنسوة عالية رائشة. وحول ساقيه جوارب حمراء. ينتعل حذاء عالي الكعب. حلاه نوع من الورد. والذي زاد في عجب رب ودهشته أن القوم يتلهون ويلعبون. وهم متجهمون مكفهرون. في أرهب صمته. وأرعب هدوء. ورأى فيهم جماعة لهو محزنة لم يشهد قبلها شبيهة لها في تاريخ حياته. هذا وسكون المشهد لا يقطعه إلا صوت دحرجة الكرات وهي تدوي في الجبال كأنها زمجرة الرعود. فلما دنا وصاحبه من الجماعة. وقفوا برهة عن لعبهم وحملقوا إليه جميعاً. بنظرات ثاقبة ثابتة ثابتة كنظرات التماثيل. بوجود دميمة ومعارف جهمة. طارت نفسه من هولها شعاعاً. واصطكت ركبتاه من رهبتها فرقاً. وشرع رفيقه يفرغ الدن في قواوير كبيرة. ثم أشار إلى رب أن يطوف على الجماعة بها. فأطاع وهو يرتعد خوفاً ووجلاً. حتى إذا جرعوها صامتين. عادوا إلى الكرات يلعبون. شجعها نفسا وبدأ يذهب عن رب الروع. حتى أنه جسر في خلسة المختلس. ولا عين تراه. أن يتذوق

الشراب. وكان من طبعه ذا روح ظامئة صدياً. حرضته على معاودة اختلاس الجرعة بعد الجرعة. وكلما اشتف رشفة منها طالبته الأخرى. وما زال بالفوارير يعاودها حتى لعبت بحواسه سورة الخمر: وزاغ منه البصر. وتدلى رأسه فوق صدره ولم يلبث أن راح في سبات عميق. فلما صحى من سكره، وجد نفسه عند الربوة الخضراء في البقعة التي رأى فيها شيخ الوادي ففتح عينيه فإذا الصبح مشرق والشمس ساطعة. والأطيار متزية فوق أرائك الشجر وفروع الدوح. وإذا النسر محلق في الجواء، طائر في نسمات الضحى العليلة، فقال في نفسه لا شك إنني لم أثم هنا طول الليلة الماضية وأخذ يذكر ما وقع له قبل سباته. يذكر الشيخ الغريب ودنه. والوادي وصخوره، وجماعة الدبابيس التسع وهو لهم. وقوارير الشراب وحمياها. ودعل يقول ويح هذه القوارير. ولعنة الله عليها. أي عذر أقدم لزوجتي. وأي شفيع يشفع؟. والتفت حوله يلتمس بندقيته. ولكنه وجد بدل البندقية النظيفة الناعمة اللامعة بندقية عتيقة مرمية بجانبه. علتها طبقات من الصدأ. وقد تساقط زنادها: ونخرت الأرضية خشبها. فظن أن جماعة الجبل أرادوا مداعبته ومماجنته. فأسكروه من شرابهم. ثم سرقونه بندفيته. ومالو ولف قد احتفى عنه واحتجب. أم لعله في أثر الستجاب أو طراد الحجل. فجعل يصفر له ويناديه باسمه. ولكن سدى. وردد الصدي صفيره وصريخه. على حين لا كلب ولا هرير. فاستقر رأيه على أن يعود إلى ملعب الأمس فإذا لقى أحداً من الجمع أهاب به أن رد على كلبي وبندقيتي. ثم استوى واقفاً يريد مسيراً. فإذا به يشعر بتوتر في مفصله. وتراخ في قواه، فأخذ يحدث النفس ويقول أن نضاجع هذه الجبال لا تصلح لي ولا أصلح لها: ولئن رجعت من ملهاتي هذه بعلة النقرس. فسيكون لي شان مع مدام ونكل. وأي شأن!. فبعد لأي هبط الوادي فاهتدى إلى الطريق الذي كان بالأمس يركبه في صحبة الشيخ. ولكنه عجب اذرأى غديراً مزبداً فضفاضاً ينبع هناك، طافراً من صخرة إلى صخرة. واثباً من ثنية إلى ثنية. مالئا الوادي خربراً وهدبراً. فتنكبه. وانطلق يسير في طريق غير سوى ويمشي بين دوح الصفصاف والبندق والغار. ويعارض سبيله عروش الأعتاب البرية.

تلوى فروعها وأعراشها. وتمدها من دوحة إلى دوحة. وسرحة إلى سرحة. وتحول بينه وبين طريقه بشباكها وحبائلها. وانتهى به السير حيث الوادي يتفتح عند قرجة بين الصخور مقتضية إلى الأخدود على أنه لم ير لهذه الفرجة أثراً باقياً. بل رأي الصخور متطالة الأعناق قائمة كأنها السور المنيع. يتحدر فوقها النبع متعثراً في صفحة مزبدة من الماء، دافعة إلى حوض غائر القيعة تبسط أشجار الغاب فوقه رواق ظلالها. هناك وقف رب لا متقدم له ولا متأخر، ينادي كلبه صريخاً وصفيراً، فلا يجيبه إلا نعيق سرب من الغربان صافات في الجو حول شجرة يابسة. قائمة فوق هاوية متألقة. كأنها من أمانها تنظر إلى المسكين وتسخر من حيرته. وماذا هو لعمرك صانع؟. . هذا الصبح يتولى مظهراًَ. وهذا الجوع يقتله ألماً أحزنه أن يحتجب عنه كلبه وتتبدل بندقيته غير البندقية. ولئن هاله أن يلقي زوجته. فلا يغني عنه جوعه بين الجبال والربى. فأطرق رأسه حزيناً، وتنكب البندقية الصدئة، وعاج على طريقه إلى الدار حزين الفؤاد مهموماً. فلما اقترب من القرية. لقي جمعاً من الناس. ولكنه لم يعرف فيهم أحداً. فأخذت منه الدهشة مأخذها. فقد كان يظن أنه ما من رجل في هذه النواحي إلا وله به معرفة. ورأى زيهم غير زيه. ولباسهم غير لباسه. وكلما استقرت عليه أبصارهم. وضعوا أيديهم على لحاهم. حتى اضطر أن يفعل فعلهم. ولكن لشد ما كان عجبه إذ بصر بلحينه قد بلغت قدماً!. وهذا هو الآن ملم على أرباض القرية. يمر على ترب من الأطفقال يعدون خلفه ضاحكين. ويشيرون إلى لحيته الشائبة مازحين. والكلاب. وكان عهده بها تعرفه. نهر إليه وتنبح في أثره. رأي القرية نفسها قد تبدلت معالمها وحلت رسومها. وأصبحت أعمر من قبل حالاً. وأكثر نفيراً. ورأى صفوفاً من المنازل لم يرها. وبيوتاً طريقة لم يعرفها. ولم يجد المقام القديم. والدور المعهودة. وقرأ فوق الأبواب أسماء غريبة، ولمح في النوافذ وجوها جديدة وإذا كل شيء في البلد غريب.

فأخذ ذهنه يتيه في شعاب الوهم. ويفقد الرشد. وأخذ يسائل أأصابه مس من الجن أم تغيرت الأرض غير الأرض. ولكن هذه قريته لم يتركها إلا عشية أو ضحاها. هذه جبال كاتسكل ممتدة الأعناق وهذه صفحة الهدسون الفضية تعج هناك. وهذه الأباطح والأودية والربى كما كانت. ذلك ما حيره وأذهل لبه. وجعله يمضي متلدداً متحيراً يقول لنفسه ويحي أن قوارير الأمس قد ذهبت برشدي. وانبعث يطلب السبيل إلى داره. فوجدها بعد عناء وتعب، ودلف إلى داره في خوف ورهب. متوقعاً أن يسمع في كل خطوة صوت زوجته وصياحها. ولكنه رأى عندها رسماً محيلاً وطللاً عافياً، سقوفاً متهدمة؟ ونوافذ متدنية متكسرة. وأبواباً متخلعة متداعية يطوف بها كلب جائع غائر الوجه كأنه كلبه. فناداه باسمه. ولكنه نأم إليه وكشر عن نابه منطلقاً. فكانت منه الطعنة النجلاء. والنكبة النكباء. وتابع رب طريقه متنهداً يقول لنفسه وأهالي. حتى كلبي قد نسيني. . ودخل داره. وكانت مدام ولكل نقوم على تنظيفها وتعهدها. فإذا هي خاوية على عروشها. خالية من أهلها. فغلب خراب الدار على مخاوفه الزوجية. فصرخ بأعلى صوته ينادي زوجته وبنيه. فدوت الحجرات المهجورة بصدى صرخاته. ثم عاد السكون كما كان. فخرج مسرعاً يريد معهده القديم إزاء النزل. فإذا هو قد عفت آثاره. واندرست رسومه. وقام في مكانه بناء خشبي يريد أن ينقض. كثير الشرفات كثير النوافذ. سدت ثلماتها بالقلانس الخلقة. والأوشحة البالية. وقد كتب على الباب فندق الاتحاد لصاحبه جوناثان دولتل ووجد بجل السرحة التي كانت تظل النزل الهادئ القديم بأفيائها. عموداً ممدواً. في رأسه شيء أشبه بقبعة حمراء. يلوح فوقه علم خفاق رسمت عليه نجوم وخطوط. كل ذلك كان غريباً عند رب غير مفهوم. على أنه تبين عند الشارة وجه الملك جورج الثالث القرمزي. وطالما دخن تحت صورته وجلس. ولكنه رأى هذه أيضاً تغيرت وتطورت وتبدلت السترة الحمراء سترة زرقاء. واستحال الصولجان في قبضته سيفاً، وجللت الرأس قبعة هرمية الشكل، وكتب تحت الصورة بحروف كبيرة الجنرال واشنطن!.

وكان حشد من الناس حول الباب. ولكن ليس فيهم من يذكره. حتى لقد تغير خلق القوم وتحول. رآهم في جدال وصخب. وعهده بهم أهل دعة وحلفاء تهويم. وطفق يبحث بينهم غير مهتد عن نقولا فيدر. رب النزل وقسيس القرية. بوجهه العريض. وذقنه المزدوج. وغليونه المستطيل. ينفخ الذوائب من فمه بدلاً من الكلم الفارغة. وفان بومل المعلم والمقرئ يقرأ الصحف ويتلوها. ولكنه رأى بدلهما رجلاً مقضوماً مهزولاً صفراوياً. امتلأت بالإعلانات جيوبه. يصيح بصوت جهوري. متشدقاً بحقوق الوطنيين. والانتخابات. وأعضاء المؤتمر والحرية. وموقعة بانكرزهل. وأبطال عام 76. وأسماء لا تحصى. لم تكن في أذن رب إلا الألسن البابلية. وإن ظهور رب بلحيته المتدلية الشعناء. وبندقيته الصدئة الشوهاء. وأثوابه البالية النكراء. وفي أثره جيش من الأطفال والنساء. لم يلبث أن لفت أنظار ساسة ألحان ورجاله. فأقبلوا عليه يتقصون أنظارهم في الرجل مندهشين. وداناه خطيبهم فأخذه ناحية وجعل يسأله: لأي حزب أنت مصوت؟ فأفلت منه رب ولم يفهم مما قال حرفاً. وعمد إليه رجل من عرض الجمع. قصير القامة. خفيف الروح. فشده من ذراعه. وتطاول إلى أذنه فهمس أأتحادي أنت أم ديمقراطي؟ فازدادت دهشته ووجومه. وإذا برجل شيخ جليل. تخطى الجمع المزدحم إليه. واضعاً إحدى راحتيه في خصره. ومعتمداً بالأخرى على عصاه. حاد النظر ثاقبة فسأله في لهجة العابس الغاضب ماذا جاء بك إلى مكان الانتخاب. متنكباً بندقيتك يسعى في أثرك الغوغاء؟ ألفتتة في القرية أم مقتلة؟. فقال رب وقد توجس منهم خليفة معاذ الله. يا سادتي. ما أنا إلا رجل وديع مسكين. ربيب هذه القرية ووليدها. ورعية مخلص لجلالة الملك. أصلح الله حاله!. وإذ ذاك علا الصياح من كل مكان. وصرخ الجمهور. . ملكي جاسوس؟ طريد - انقضوا عليه. . تألبوا. سيروا به! ولم يستطع ذلك الشيخ الوقور أن يعيد سكون الحفل إلا بعد مشقة كبيرة. فلما تم له ذلك زاد في تقطيب جبينه وتجهيم معارفه. وعاد يسأل الجاني المجهول عن سبب مجيئه إلى القرية. وعمن يريد فطفق رب يؤكد له وهو خاضع متذلل إنه لا يريد بأحد ضراً. وإنما بلغ مكانهم

باحثاً عن فئة من عشيرته وجماعة من جيرته كانوا يختلفون إلى ألحان. ويجلسون إزاء النزل؟. فسأله الشيخ. ومن يكونون؟ سمهم. د فأخذ رب يسترسل في الذكرى برهة. ثم سأل. أين نقولا فيدر؟. فكان صمت. ولكن لم يلبث أن أجاب شيخ كبير. في صوت ضعيف خافت. . نقولا فيدرا عمرك الله لقد قضى نحبه منذ ثمانية عشر عاماً. لقد كان فوق قبره تاريخ حياته. وأين بروم دوتشر؟. ذهب إلى الجيش. في أول العهد بالحرب. فقال قوم إنه استشهد فيب هجمة (ستوني بوينث) وقال آخرون مات من رياح هوج عند سفح جبال (أنفانطنيوس) ولا أعلم من الأمر شيئاً. فإنه لم يعد من بعدها أبداً. وأين فان بومل؟. ذهب إلى الجيش. فكان قائداً. مغواراً. ومسعر حرب. اسلا. وهو اليوم في المؤتمر. فلما سمع رب ذلك. طار لبه حزناً وأسى. على تحول داره وتغير صحابته وكاد يبخع نفسه حسرات على تغير الزمان وتبدل الأحوال. وماذا يريد هؤلاء بقولهم الحرب. . . المؤتمر. . . ستوني بوينت!. لم يعد له من الشجاعة ما يجرئه على السؤال عن أصحاب غير هؤلاء. بل صاح من يأس قائلاً وهل فيكم من يعرف رب فان ونكل؟. فقال اثنان منهم أو ثلاثة وكيف لا نعرفه. هذا رب فان ونكل جالس هناك عند أصل الشجرة. فالتفت رب فرأى عندها فتى يحكيه يوم صعد الجبل بؤسه وتراخيه. فاختلط الأمر عليه وبدأ يشك في نفسه ويستريب بشبيهه. وإنه ليتيه في مهامه الحيرة إذ أقبل الشيخ عليه يسأله من هو وما اسمه. فقال رب من ذهول. . . الله يعلم! لست نفسي. بل ما أنا إلا رجل غيري. ذلك الجالس هناك. كلا. بل هذا رجل تقمصني. . لقد كنت ليلة الأمس رب ولكن ضرب على أذني فنمت. فغيروا بندقيتي. وتغير كل شيء وأين لي أن أعلم من أكون. وما اسمي.

فبدأ الحضور يتناظرون ويتلاحظون ويضعون أصابهم فوق جباههم. وتهامس بعضهم فيما بينهم أن يأخذوا منه بندقيته. لئلا يأتوا أمراً أدا. وعند ذلك أسرع الشيخ الوقور إلى لزوم مكانه الأول. وفي هذه اللحظة الرهيبة دافعت الجمع المتألب امرأة صبوح الوجه حسناء تريد أن تشهد الرجل ذا اللحية الشهباء يعني رب وكانت تحمل بين ذراعيها وليداً غضاً سميناً. أخذ يتشنج ويبكي خائفاً من هيأة الرجل فأهابت به المرأة. . علام البكاء يا رب. ولم التشنج أيها الصغير الأحمق. لا تخف فالشيخ ليس بذي أذى!. وإن اسم الوليد. وسمعت أمه. ونبرات صوتها. وتضاعيف جرسها. كل ذلك أيقظ في ذهن رب نواعس الذكرى. وهواجع الماضي فأنشأ يسأل. ما اسمك أيتها المرأة الرؤوم؟. فكان جوابها. جودت جاردينيار. واسم أبيك؟. قالت. . واحر قلباه على المسكين. لقد كان اسمه رب فان ونكل. وها قد مضي عشرون عاماً على ذلك اليوم الذي خرج فيه من داره متنكباً بندقيته ولم نسمع بخبره أبداً. رجع كلبه وحيداً. ولا يعلم أحد إذا كان قتل نفسه أم اختطفته الهنود. ولم أكن إذ ذاك إلا شابة صغيرة. لم يبق لرب إلا سؤال واحد. فألقاه بصوت مرتجف. . . وأين أمك؟. قالت. . لم تلبث بعده أن قضت. . قطعت شرياناً لما في ساعة غضب. من موجدة على بائع!. فكان في هذا الجواب سلوة له ونعمة عين. ولم يستطع كتمان ما به. وفاضت في قللبه عاطفة الوالد فاخذ ابنته ووليدها بين ذراعيه وصاح باكياً. . هذا أنا أبوك. بالأمس رب فان ونكل الفتى. واليومك رب فان ونكل الشيخ. أوليس منكم رجل يعرف رب فان ونكل القديم؟. فوقف الجمع مندهشين حائرين. حتى خرجت من بينهم عجوز. فجاءت تدلف إليه ووضعت يدها فوق جبينها تستعين على الذكرى. وتتشوفه من تحت يدها. وما نشبت أن صاحت. أجل يا قوم. هذا رب فان ونكل بعينه. مرحباً بمقدمك. وأهلاً بك. أبهذا الجار

العزيز القديم. لقد طال بك وبنا العهد. وبعد الأمد. فأين كنت يا جارنا طول هذه السنين العشرين؟. فقص عليهم قصته. فكان عشرون عاماً لديه ليلة واحدة، فمضى يقص عليهم القصة، فلم تكن عشرون عاماً طوالاً في نظر رب إلا ليلة واحدة، وجعل الجيران يستمعون له. وهم يحدقون فينه الأبصار، وكان جماعة منهم يتغامزون ويتهامزون. وأما الرجل الوقور ذو القلنسوة الهرمية فرجع مطمئن السرب إلى الحفل ونهو يطبق شفتيه ويهز رأسه. وافتدى به الجمع فانطلقوا يهزون الرؤوس ويطرقون الهام. واجتمعوا على أن يأخذوا رأى بطرس فاندروك الشيخ. وقد لاح لهم يمشي الهوينا عائجاً على الطريق، وكان هذا الشيخ من سلالة ذلك المؤرخ الهولندي الكبير المسمى بهذا الاسم. وقد وضع تاريخاً عن الإقليم يعد من أقدم تواريخها. وبطرس هذا أقدم سكان القرية عهداً، وأوفاهم سناً، وأوسعهم علماً بعجائب هذه الانحاء وأساطيرها وموروث أنيابها وأخابيرها. فلما عرضوا القصة عليه وسألوه رأيه، عرف رب وتذكره، وأقر على صدق حكايته. وأكد للقوم أنه الحق ورثه كابرا عن كابر إن جبال كاتسكل كانت أبداً معاج قوم منكورين. ومعاد أشباح غريبة، وقد أثبتوا أن هندريك هدسون أول من كشف النهر واهتدى إلى الناحية. كان يقيم في الجبال عبداً على رأس كل عشرين عاماً، وإن أباه رآهم مرة في أثوابهم الهولندية القديمة يلعبون لعبة الدبابيس التسع في أخدود بين الجبال، وأنه نفسه سمع بأذن ذات أصيل من أصائل الصيف صوت كراتهم يدوي كأنه قصف الرعود. وجملة القول إن الزحام تفرق، والحشد انتثر، وعاد إلى مسائل الأعقاب، وأخذت رب ابنته إلى دارها ليعيش في ظلها ويطمئن في جنابها، وكان لها دار صغيرة دافئة حسنة الرياش، وكان لها زوج من الفلاحين ناعم البال رخى الحال، وقد ذكره رب بين الأطفال الذين كانوا يتشبثون قديماً بأذياله. ويعقلون كاهله، وأما ابن رب، ووريثه وشبيهه، ذلك الذي كان جالساً عند أصل الشجرة، فقد أرادوه على أن يعمل في الأرض ويبحث في المزرعة ولكنه أبى إلا أن يميل إلى ما ورث عن أبيه وأخذ. وراجع رب عيشه الأول، وعاد إلى ملاعبه الأولى، ومعاهده الماضية، وعاداته النائية، ووقع على جماعة من صحابته القدماء. وخلصائه الأولين. فإذا هم قد طحنهم الدهر بكلكله،

وأضعف من مرتهم بحدثاته، وأرهن من بأسهم بضرباته، فآثر أن يصطفي لنفسه أصحاباً من الشباب، وأخداناً من عصر الشباب، ولم يكن إلا حين حتى اكتسب مقتهم، وظفر بحبهم. ورأى أن لا عمل لديه، وعلم أنه قد بلغ تلك السن التي يجوز للمرء أن يبلد بعدها ولا ضرار عليه ولا ذام، فأخذ مجلسه القديم إزاء النزل، وأكبره قومه ونادوا به رأساً من رؤوس القرية، وشيخاً من مشايخها. وعمدة يرجع في التاريخ إليه. ويعتمد في الرواية عليه. ومضى زمان قبل أن يستطيع أن يجاذب المجلس أطراف الحديث المردد. وقبل أن يعلم منهم غرائب الحوادث التي حدثت في غشيته. وكيف نشبت حرب زبون خلعت بها البلاد عنها سلطان إنجلترا عليها. وإنه لم يعد بعد رعية الملك جورج الثالث بل أصبح اليوم وطنياً حراً من الولايات المتحدة الأمريكية. وما كان رب سياسياً وما كان بالسياسة مشغوفاً. وقد تدل الدول. وتدور الممالك. وتستحيل الحكومات. فلا تترك لديه إلا أضعف الأثر. ولكن هناك نوعاً من الحكومة المطلقة. طالما تأوه من نيره. وكثر ما تكبد من سلطانه. وتوجع من سيطرته، وأعني به - حكومة ذات الوشاح. والآن لشد ما كانت سعادته. إذ دالت هذه الدولة. وتقوضت هذه الحكومة. وأنقذت رقبته من ربقة الزوجة. وأعتق من أسار المرأة، وأصبح يدخل الدار كما شاء ويخرج كما يشاء لا يخشي من زوجة عسفاً ولا يرهب من مدام ونكل استبداداً ولا عنفاً. وكلما ذكر اسمها هز راسه. ورفع كاهليه. وحدق البصر، وهذه تحتمل أن تكون دليلاً على نكبته بفقدها أو برهاناً على غبطته بنجاته. واعتاد أن يقص القصة على كل قادم ونزيل، ولاحظ السامعون أنه كان يتغير في بعض مواقع منها. وذلك لا ريب لأنه كان لا يزال إذ ذاك حديث عهد باليقظة وقد استقر به السرد على هذه القصة التي كتبتها. وما من رجل في القرية. ولا امرأة. ولا صبي إلا ويحفظها عن ظهر القلب. وادعى فئة من الجماعة أنهم يشكون في صحتها. وأصروا على أن رب كان ممروراً. وذلك ما جعله يظل في السرد متردداً متغيراً. ولكن الهولنديين من أهل القرية أجمعوا على أن القصة لا يشوبها من الكذب شائبة. وهم حتى اليوم كلما سمعوا في أصائل الصيف صوت المطر الراعد فوق الجبال قالوا هذا فندربك هدسون ورجاله في لعبة

الدبابيس التسع. وكان كل زوج متطامن لزوجته مستعبد. إذا نقل عليه عبء الحياة. وناء بالعيش حملاً يمني النفس برشفة من قوارير رب فان ونكل!. (تمت)

رحلة دولة الأمير الجليل محمد علي باشا

رحلة دولة الأمير الجليل محمد علي باشا شقيق سمو الجناب العالي الخديوي كان شعار الأرستقراطية بالأمس الاحتجاب والاختفاء، وكان المبدأ السائد بين الأرستقراطيين اختفوا واحتجبوا!. تلكم هي العظمة السجينة، وتلكم هي الأرستقراطية المحتجبة، عظمة لا يشهدها إلا خدمها وحرسها كما يشهد السجين سجانه، وأرستقراطية لا يستمد منها التاريخ الاجتماعي، وإن كان يستمد منها التاريخ المالي للأمة فإن من حسنات الرفاهية أن في إسراف الأغنياء مصلحة الفقراء، وفي ملاذ النبلاء معايش للتجار والباعة وإضرابهم ممن تحتاج الرفاهية وأبهة الإمارة إلى متاعهم وسلعهم ومباهجهم ومناعمهم. ولو أصبح نصف الأمة أغنياء مبذرين مسرفين، لأصبح سواد النصف الآخر قصابين وبدالين، ويومذاك لا يكون تاريخ الأمة إلا جداول وكشوفاً بحساب المصروفات والمقبوضات، وحسبك من مغبة ذلك أن الأمة لا تعيش إلا على أيدي المبذرين، وفي جيوب التجار، وأما العقول وأصحابا، والنبوغ وأربابه، والعلم وذووه، والأدب وأنصاره، فسلام عليها وعليهم، فهي وهم ثقال الظل في جناب الأغنياء، وحضرة الكبراء وهي وهم ليسوا من مستلزمات الرفاهية، ولا من متطلبات التبذير والإنفاق!. على أن التطور الاجتماعي لم يدع سبيلاً إلى ذلك، وشاء التاريخ أن يكون كاتباً لا حاسباً، ومقرراً لا طارحاً ولا قاسماً، فأصبح الأمراء والنبلاء وجمع من الأغنياء يعملون لحياة الأمة وغذائها الفكري، مثل ما يعمل ذلك رجال الأمة، فقراؤها وأذكياؤها وعلماؤها وأدباؤها، بل إن في الأمراء الكرام الأماجيد، كثيرين يعملون بعقولهم الخصبة، وأرواحهم الكبيرة ونفوسهم الحارة الأبية، وجيوبهم الفياضة، وعزماتهم الثواقب الماضية، وهممهم البعيدة النائية، على خدمة الأمة أكثر من علمائها، لأن خدمتهم تطرد طردين، وتنساق مساقين، من عقولهم - وما أمتعها - ومن أيديهم - وما أسخاها وأسرعها - ومن ثم كانت عظمتهم عظمتين، ونيلهم نيلين، بل الروج ونبل الدم، وذلك لأنه إذا جرت الروح الديمقراطية في دماء الأرستقراطيين فعملوا على خدمة الأمة واكتساب حبها وثقتها، ومزجوا تاريخهم بتاريخها وخلطوا حياتهم بحياتها، ارتفعت عظمتهم، كمقياس الحرارة،

ترتفع درجاته بتأثير الحرارة الخارجية، ولا تسمو العظمة ولا تزداد إلا أن يكون هناك ارتباط بين العظيم، بل ينبغي أن يجمع إليه حبهم، فإن الاحترام نوع جاف من الحب فإذا ظفر العظيم من الناس بالاحترام والحب، واستقر منهم في أسماعهم وأبصارهم وذاكرتهم وأفئدتهم، فسيطفر ذكره من جيل إلى جيل، ويثب من عصر إلى عصر، ويوصي به القرن الذي يمضي أخاه القرن الذي يقبل، وسيجري اسمه بين العصور المتعاقبة المترادفة حتى ينتهي إلى الأبدية، وهو أقوى ما يكون ساقاً، وأشد ما يكون عصباً، وأطول ما يكون نفساً، وكذلك يكون الخلود. وقد ظفر بجملة ذلك الأمير الجليل محمد علي باشا شقيق الجناب العالي التكريم، فقد رأى من نبوغه ونشبه مادتين عظيمتين، وألقى من علمه وماله قوتين كبيرتين. فوقفها جميعاً على رقي الأمة وتقدمها، ورأى الأمة مفتقرة في كل فروع الحياة وأصولها، فأعانها في كلها، وأخذ بيدها في جميعها. رأى رأي الشاعر تومبسون أن استخدام الجهد في شريف الأعمال ومجيد الأفعال، وحميد الآثار، والنهوض بأهل بلده من مهاوي الجهل إلى مراقي العلم، هو عنصر الحياة، فكان منه الخطيب والكاتب والأديب والبحاثة والمفكر والرحالة، فهو يعيش عيش أهل النبوغ وجبابرة العقول في الأجيال الماضية والأجيال المستقبلة، ينعم من الأولي بالبحث والتنقيب، ومن الأخرى بالعمل للمستقبل وتخليد المآثر والمكرمات. ووجد أن العمل على ترقية الأمة الغريرة، وتزكية الشعب الصغير، يتطلب السفر والتجواب في البلاد العظيمة، والممالك المتحضرة الراقية، ليعلم سر تقدمها وأسباب تأخرنا، فزار بلاد الغرب ثم بلاد اليابان، وجعل يبحث في شؤونها تارة بنظرة الفيلسوف، وطوراً بنظرة البحاثة، وطوراً آخر بنظرة الاجتماعي وحيناً بنظرة الأنثربولوجي ثم عاج بعد ذلك على الولايات المتحدة، ليرى مبلغ مدينة العالم الجديد ويشهد عظمة الأميركان، ويصور لنا أخلاقهم وعاداتهم، وعجائب مدينتهم، وغرائب أمورهم، ويعلم الفروق الاجتماعية والسيكولوجية، التي ترجع إليها عظمتهم وانحطاطنا. وقد كان لنا الشرف الجزل أن زرناه في الشهر الماضي بقصره في الروضة شاكرين له إهداءه إلينا رحلته الجليلة، فوجدنا من لدنه أخلاقاً ديمقراطية عذبة، وشمائل عالية، يمتزج

فيها أدب العثمانيين، بوداعة المصريين، وحديثاً جذاباً رقيقاً، لا أثر فيه للتكلف، بل تتجلى فيه شخصيته، ونفسه وعقله، وخلقه، وتلك مزايا الرجل النابغة، فإن النبوغ يجري في تضاعيف النفس مجراه في أوعية الذهن، وما النفس والذهن إلا ليتغذيا من بعضهما ويستمدا. ولو جئت بانبغ النوابغ، وأذكى الأذكياء، وكان مضطرب النفس، مكدر الروح، مربد العواطف، ثم أردته على أن يظهر نبوغه وذكاءه، لا تطبع اضطراب نفسه، وكدر روحه، في قوله وكتابته. وصفاء وجدانات سمو الأمير الجليل، وحلاوة أخلاقه، دلائل على عظمته، إذ يقول استرابو الشاعر أنك لا ترى عظيم الذهن إلا وهو عظيم النفس، عظيم الخلق، عليم بالنظر إلى قلبه ونفسه، وإلا فكيف يعرف النظر إلى قلوب الناس واستقراء ضمائرهم ووجدانهم، من تكدرت نفسه واحتجبت وراء سحائب من الأكدار والأقذاء؟. وقد قرأنا رحلة الأمير فما رأينا إلا الوصف الدقيق، والنقد المتين، والاستنتاج الراجح، والملاحظة الدقيقة، والفكاهة المستملحة، بل رأينا روحاً شرقية وثابة، قد خلصت من أغلال الجمود، وقيود المحافظة، تعجب بالجليل من مدينة الغرب، وتلفظ السخيف منها، وكم فيها من سخيف، وتستحسن الصالح من عادات الغربيين، وتعيب على الغث منها، وكأين فيها من غث. رأينا رسوخ العقيدة، وصدق البأس، وشدة الإيمان، وشدة العارضة والغيرة على الشؤون المصرية والمصالح الشرقية، والحرص على الشرائع الإسلامية، والقوانين الدينية، والأبحاث البسيكولوجية، والاستنتاجات الأنثربولوجية. وقد أعجبنا من سمو الأمير أن تخير لمقدمته قلم العالم الكبير والقانوني المفكر، سعادة المفضال عثمان مرتضى باشا، فقد أبدع صاحب المقدمة في وصف التطورات المادية والفكرية والاجتماعية التي تقلبت فيها الجماعات البشرية، وعظمة الشرق الماضية، وما ظهر فيه من المدنيات القديمة وأنواعها واستطر إلى الإسلام ومبادئه وأغراضه وتأخر الشرق وتقدم الغرب، ومصر الحديثة وأيادي الأسرة الخديوية الكريمة عليها وختم المقدمة بماهية الرحلة ومزاياها. ونحن فلو أردنا أن تقتطف للقارئ ما جاء في عرض الرحلة من الآراء الناضجة والأبحاث

الجليلة، والملاحظات الجميلة، لاستنفذ ذلك صفحات كثيرة ولكنا نجتزيء هنا بالشيء اليسير منها، ومن مقدمتها الجليلة: يقول دولة الأمير في مسألة أصل الهنود الأمريكيين لما رأيت في منشوريا اليورجوت وقارنتهم بصور الهنود الأمريكيين التي رأيتها في بطاقات البريد (الكارات بوستال) التي اشتريتها في مكدن، علمت وقتئذ أنه لا بد أن تكون هنود أمريكا من هؤلاء اليورجوت، ومن سكان شمال آسيا وليس ببعيد أنهم هاجروا إلى هذه البلاد في الزمن القديم من طريق كامتشتكا، وعلى ذلك يكون الآسيويون هم البادئين في كشف أمريكا قبل كريستوف كولومب، ولكن لما كانت حالتهم وحشية ومعارفهم قاصرة، واختلاطهم بباقي العالم معدوماً. ولا توجد بينهم وبين الأوروبيين مواصلات ولا مكاتبات فإن اكتشافهم لم يعلم به أحد، ومع ذلك لا يمكن تأييد هذا الرأي بإقامة برهان عليه من معلومات هؤلاء الهنود أنفسهم لأنهم لا يعرفون هم أنفسهم أصلهم ولا يدرون تاريخهم فإذن لا يمكن الاتيان ببراهين قاطعة على صحة هذا الرأي الأمثل هذا الاستنتاج الذي وصلت إليه أثناء زياراتي منشوريا ومقارنتي سكانها بأولئك الهنود الأمريكيين، والشيء الغريب الذي لفت نظري في هذه المعروضات وجود (رأس لجام) مكسيكي بد رسم الهلال وحديدته عربية فقلت إن ذلك من مخلفات العرب وآثارهم فإننا نعلم أن الإسبانيين هم الذين أتوا أولاً وحاربوا مكسيكا، وبما أن أسبانيا كانت ملكاً للعرب وبعد نزعها من أيديهم لابد وأن تبقى فيها آثارهم الحربية والاسبانيون الذين حضروا لفتح مكسيكا ربما كان بينهم من أحفاد العرب أو من المعجبين بأدواتهم الحربية من أحضروا معهم هذه المخلفات التاريخية وبعدها انتقلت من مكسيكا إلى هنا على أنها تحف تباع للسائحين والذي أيد فكرتي هذه وجود سروج عربية بكامل أدواتها معروضة أيضاً للببيع وهي بلا شك من مخلفات الأندلسيين المغاربة. ويقول حفظه الله في خطبة بليغة عصماء ألقاها بين أعضاء جماعة الاتحاد السوري في نيويورك: لست ممن يودون المعيشة الهادئة بدون أداء واجبات الأمة، لأني أرى عدم الالتفات إلى هذه الحقوق المقدسة من أكبر الذنوب وأعظم العيوب والنقائص. إن مهمتنا ليست في الحقيقة من الصعوبة بمكان أن اجتمعت كلمتنا وقويت الإرادة في الحصول على المركز

العالي الذي نريد أن نختاره بين الأمم. والطريقة الوحيدة التي أعتقد أنها توصلنا إلى غايتنا هي أن يعتقد كل فرد منا أنه قادر على خدمة بلاده بصدق وأمانة، يتحمل الصعوبات مهما كبرت، والمشقات مهما كثرت. واسمع ما يقوله دولة الأمير غيره على الشرق وغضبه للآداب الشرقية، والأخلاق الإسلامية: إن التهتك والتبرج بلغا أقصى غايتهما، ومما يملأ القلب أسفاً إن ذلك لم يبق مقصوراً على البلاد الغربية فإنه أخذ يتسرب إلى بلادنا وينتشر فيها بسرعة مدهشة، فأين آدابنا الشرقية وأخلاقنا الإسلامية، إني أرى إهمالاً شديداً في المحافظة على عوائدنا القديمة، وقد التبس الأمر على الشرقيين في فهم معنى الحرية وأساؤوا التصرف في الانتفاع بها وتذرعوا بها إلى هتك حرمة الآداب وتقويض دعائم الأخلاق الكريمة، ولو تيقظوا لعلموا أن الحرية حق من حقوق الرشيدين من عباد الله جل شأنه، منحهم إياها ليتسعينوا بها على تنظيم أحوالهم وترقية شؤونهم واستعمال مواهبهم فيما خلقت لأجله والتمتع بما أباحه الله لهم، فليس في معنى الحرية الخروج عن حدود الآداب وخرق سياج الفضائل، فإن ذلك سائق إلى مهاوي الهلاك، إن كلمة حرية كان يقصد بها أولاً تخليص الإنسان من أطوار العبودية والرق يوم كان القوى يتغلب على الضعيف فيأخذه أخذ عزيز مقتدر ويسخره في مصالحه كحيوان أعجم مملوك له يتصرف فيه كيفما شاء، فلما استنارت العقول رأت أن ليس لمخلوق حق السيادة على آخر، وإن كل عبودية من الإنسان للإنسان حطه ودناءة وإن الإنسان سيد نفسه إلا أمام خالقه، ولا تفاضل بين بني آدم إلا بمقدار ما لهم من المدارك وفضائل الأخلاق ومحاسن الآداب. هذا هو معنى الحرية التي جعلها الحق جل شأنه من حقوق عباده، وهي بهاذ المعنى أكبر أركان سعادة الإنسان، فيها يحيا العدل ويموت الظلم، وبها يتخلص الإنسان من قيود الذل إلى بحبوحة العز، بها تكون للحياة قيمة، وبدونها لا معنى للحياة، فإذا خرج الإنسان بالحرية عن هذه الدائرة إلى انتهاك الحرمات والانغماس في الشهوات، وإطلاق العنان للنفس، انقلبت إلى حرية العجماوات السائحة في بواديها، فهام في ظلمات الضلال، وإذا كانت هذه الحرية المطلقة هي غاية المدينة الحديثة فجدير بها أن تسمى همجية. .

ويقول سعادة عثمان مرتضى باشا في مقدمته الجليلة: ظهر في الشرق مدنيات كثيرة ترجع كلها إلى مصدرين: أحدهما رقي تدريجي وراثي في الهيئات الاجتماعية. ثانيهما: رقي منبعث عن الفكرة الدينية. فمن النوع الأول مدنية المصريين القديمة التي من أهم مميزاتها رقي الفكر وتوجيهه إلى إتقان الصناعة واتجاه العقول إلى نور العلم في عصور مطبقة الظلام. ومن الأول كذلك مدنيات اليونانيين المقتبسة من المدينة المصرية ثم مدنيات الآشوريين والفينيقيين والقرطاجنيين. أما مدينة النوع الثاني فقد ظهر في الشرق ثلاثة خضع لمبادئهم الدينية القسم المتمدين في العالم. ظهر أحدهم في مصر وهو موسى عليه السلام، أرسله الله تعالى ليضع للعالم القوانين التي تلائم ذلك العصر هداية من الخالق ونوراً لبني البشر. وظهر الاثنان الأخيران في الشام وبلاد الشام. أحدهما عيسى عليه السلام، أقام للناس قبساً سطع نوره حتى بهر العالم إذ كان سراج هذا القبس مستخرجاً من معدن الآداب العالية والأخلاق الكريمة هداية كذلك من الخالق ونوراً لبني البشر أجمعين. ثم ظهر بعده هذا العربي الهاشمي الذي فاق الأنام في علو المدارك وسمو الأفكار. كما كان أكبر وأقوى من خدم الإنسانية بأسرها بإرشاد الناس بالحكم القويمة والتعاليم الراقية الكريمة التي بعثه الله لنشرها في كل الكون سلاماًَ وبركة ورحمة للعالمين. بزغ نور تعاليمه الإسلامية من سماء بلاد العرب ثم انتشر في أرجاء آسيا، وسرعان ما انتقل إلى أفريقية الشمالية مبتدئاً بمصر ماراً ببلاد المغرب مجتازاً بحر الروم حتى وصل إلى أوروبا من مطالع الأندلس. ففك المقول من أسرها، وأرشدها إلى أن لها حقوقاً وعليها واجبات، وأضاء لها مناهج الحياة العلمية والعملية، وعلمها كيف نتيجتها فخرجت بذلك من الظلمات إلى النور ومن الموت إلى الحياة بتلك الروح الجديدة روح التمدين الإسلامي والزكاء الشرقي.

طافت هذه الروح على البشر منذ ثلاثة عشر قرناً تدعو الناس إلى الإخاء والتعارف بين جميع أفراد المعمور على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم وتباين مذاهبهم ومشاربهم، وتدعوهم إلى التضامن الإنساني في كل أطوار حياتهم. وتدعوهم إلى جعل العدل أساساً لمعاملاتهم الاجتماعية والسياسية كما تدعوهم إلى استعمال الرحمة والحنان. حاثة على مكارم الأخلاق حاضة على التمسك بوسائل العمران، وقد رسمت لهم طريقاً جديداً لم يسبق له مثال في السواء والسهولات وتقريب المسافة في تحقيق وصول الآمال للسعادة الدنيوية والنعيم الأبدي. تنادي تلك الروح الجنس البشري بأعلى صوتها. يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. وتقول لهم: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وتقول: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. كما تقول حاضة على الحركة والعمل: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وإن سعيه سوف يرى. وتقول مهبط تلك الروح صلوات الله عليه واطلبوا العلم ولو بالصين وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. دين كله تعارف وإخاء وعدل وعلم ورحمة وحركة وعمل وفكر وتنبيه كان من شأن انتشاره في أرجاء الدنيا أن تيقظ لحكمة الناس أجمعين المؤمنون به وغير المؤمنين وليس من الغريب إن هذه الحركة الإسلامية كما مدنت الشعوب المتبربرة وأكسبتهم مدنية أقر لهم بها التاريخ كان لها صدى في الغرب الذي كان حينذ تائهاً في ظلمات الجهالة، غارقاً في لجج الهمجية، لا يبصر الضوء إلا من سم الخياط ولا يتنسم الحياة إلا من مطالع الشرق لأن تلك الحركة الإسلامية لم تجيء لتخلص بمزاياها أقوى معينين بل هي جاءت لسعادة الإنسان من حيث هو إنسان.

أفاقت كل هذه الحركات التمدينية الشرقية الغرب من رقدته الطويلة التي كان تائهاً فيها، كما أيقظت عزيمته التي طال عليها الفتور فارتحل النشيطون من أبنائه إلى بلاد المشرق واغترفوا من بحاره العذبة ومناهله الرطبة كل ما كان غريباً منهم مجهولاً لديهم من أنواع المصنوعات والحرف وأخذوا من ذلك الحين يشمرون عن ساعد جسدهم مشتغلين على الأخص في الماديات متنقلين في الصناعة والتجارة والزراعة والملاجة من سيء إلى حسن ومن حسن إلى أحسن ومن كامل إلى أكمل. سار الغرب على هذا النمط المرغوب فيه جداً في جميع مرافق الحياة الضرورية والحالية والكمالية حتى نال من المنعة والقوة والسلطان الدرجة التي هو عليها ألان وسبق الشرق في الماديات بعد أن كان مسبوقاً، وساده بعد ان كان مسوداً وحقق الحكمة الشرقية لكل مجتهد نصيب وعجيب إن الغرب في سيره إلى الحضارة لم يطرق الأنفس الطريق الذي بذل الشرقيون وأجدادهم الكرام مهجهم الغالية في تمهيده وتنسيقه، وهم لوقوف السفكر الشرقي عند الحد الذي وصلت إليه مصنوعاتهم ومتاجرتهم وملاحتهم وعدم تقدمهم فيها إلى الإمام بنفس الخطى السريعة التي خطوها في الأدبيات بوجه أعم، وفي علوم الفلسفة والبلاغة والمنطق وعلم الكلام بوجه أخص، مضافاً إلي ذلك تفريط الخلف في المحافظة على متروكات السلف سيما الماديات منها كانوا قد ضلوا عنه وجعلوا غيرهم من هؤلاء الغربيين الذي كانوا وراءهم فيه بمراحل يسبقونهم إليه واكتفوا بقبول تعويض بسيط تاريخي عما فقدوا بأن نالوا من الغربيين إقراراً لهم بفضل السبق عليهم فيه. كبا الشرق في الماديات أو وقف ساكناً عند حد جهاد أبنائه الأولين. وخصص النفيس من أوقاته الغالية في الاشتغال بتلك الأدبيات مهملاً الماديات التي عليها قوام الحياة، والتي هي موارد الثروة الحقيقة، فبعد أن كان مطلع شمس الفنون وينبوع الصنائع والعلوم، وبعد أن كان أستاذ الغرب فيها من غير مراء انقلب حاله من أحسن إلى حسن ومن حسن إلى سيء على العكس تماماً من الخطة العمرانية الحديثة التي اختطها الغرب لنفسه، بل أصبح الشرق يلتمس نوره من زهراء الغرب. كل ذلك لأن الشرق وجه التفاته للأدبيات دون الماديات التي أهملها كل الإهمال ولأنه خفف سيره إلى الأمام في وارد الرزق والثروة في حين أن الغرب كان ينهب الأرض نهباً طلباً للاتساع في الممتلكات والمقتنيات لا يعرف

للقناعة حداً ولا تحجبه عن نيل غاياته ومطامعه شم الجبال ولا لجج البحار بل حملق إلى السماء يريد استخدامها أيضاً حتى خضعت لمشيئته الأرض وما فيها وما عليها. بعد ذلك كان حقاً على الشرق أن يترك للغرب تراثه القديم تراث العز والسلطان تراث العلم والعرفان والثروة والسعادة في اليوم الذي تخلى فيه عن تلك الصفات والمميزات التي ضمنت له قديماً جمع هذا التراث. نعم نام الشرق نوماً عميقاً واستغرق فيه حتى أيقظه من أوروبا ومن أمريكا حركة قوية تحمل عجائب المصنوعات وغرائب المخترعات براً وبحراً وهواء، وأرهقه مناد يناديه كيف حلا لك النومة وهو مر علقم ولذلك الرقاد وهو السم الزعاف، ثم ذكره بنظرية تنازع البقاء وبقاء الأنفع فلقي هذا الصوت في بلاد اليابان آذاناً صاغية وقلوباً واعية في أمة نشيطة كانت خير مثال بتمنى كل شرقي أن يحذو حذوه وأن يتبع خطاه. رن هذا الصوت في مصر فتداركه هذا الرجل الكبير الجليل القدر المعدود واحداً من اثنين نبغاً في عصره. هو الحاج محمد علي باشا رئيس عائلتنا المصرية الملوكية الكريمة فالتفت للأدبيات والماديات على السواء، ووجه لهما عنايته الفائقة النادرة المثال فانتشل الأمة مما كانت واقعة فيه من المهاوي السحيقة. فالمدارس أنشأها والإرساليات العلمية قررها وتعهدها، والفاويقات من جملة أنواع أسسها وبناها وأنجحها، والترسانات والأرصفة والجسور والترع والقناطر وكل شيء حيوي في البلاد باشره بنفسه واستخدمه لقائده بلاده، والجيش والبحرية قواهما بعد أن رباهما على النسق الحديث المتين، وبأصالة حكمه وحسن درايته وطد الأمن في البلاد وافتتح القسم العظيم من الأقطار السودانية وضمها على بلاده العزيزة. وعليه فإن مصر مدينة بتمدينها الحديث لتلك العائلة الخديوية الكريمة، وتاريخ مدينتها الحديثة مقترن بتاريخ الحكم العلوي من غير مراء ولا نزاع على آخره إلى آخره.

سر عظمة العرب

سر عظمة العرب بقلم الدكتور جوستاف لوبون بينا نحن نقرأ في كتاب حضارة العرب. ذلك الكتاب القيم الذي أخرجه الفيلسوف البحاثة الدكتور جوستاف لبون. والذي يدأب اليوم في نقله إلى العربية الكاتب المشهور محمد أفندي مسعود. إذ عثرنا في أخريات صفحاته بمبحث ضاف يكاد يكون فلسفة الكتاب وزبدة مباحثه تناول في القسم الأول منه البحث في الأسباب التي عملت على عظمة العرب وارجع منها ما أرجع إلى القوانين البسيكو لوحيه وأحال ما أحال منها إلى النواميس الطبيعية والاجتماعية. وأفرد القسم الثاني للكلام على أسباب سقوطهم. فآثرنا أن ننشر في هذا العدد القسم الخاص بسر عظمة العرب وفي العدد الثاني القسم الآخر الخصيص بسر سقوطهم: قال الدكتور تحت العنوان المذكور سر عظمة العرب. نختتم تاريخ حضارة العرب بإلقاء نظرة عامة نجمل بها القول على أسباب عظمة العرب وسر تدهورهم. فأول عامل مهد السبيل لعظمة العرب وسؤددهم، هو الظروف التي فيها نبغوا، والزمن الذي فيه ظهروا، فإن للظروف عاملاً تمهيدياً يجري على الأفراد جريانه على الشعوب، وله في تكوينهما أكبر الأثر. وإن كثيراً من الصفات والمميزات لا تستطيع ظهوراً ولا رقياً إلا في ساعات مناسبة لها، وظروف موافقة لرقيها. ولا مراء في أن نابوليون ما كان ليصبح سيد أوروبا وعظيمها، لو كان ولد تحت لويس الرابع عشر، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم خرج إلى العالم في عصر عظمة الرومان وإقبال دولتهم وضخم قوتهم، لما استطاع العرب آخر الدهر أن يخرجوا من جزيرة العرب، بل ولأنكرهم التاريخ وظلوا في الخمول يضربون. ولد محمد الزمان المقرر، والساعة الموافقة، وقلنا أن بظهوره تداعي العالم القديم، في جميع أرجائه، وجملة نواحيه، وما كان ليعوز عصبة النبي ورجاله إلا أن يلمسوا بنيان هذا العالم، فإذا هو أطلال بالية، ودمن عافية. على أن هدم كيان أمة لا يكفي لتأسيس بناء مدنية، وإن في عجز البرابرة الذين خلفوا على المدنية الرومانية في المغرب، كما خلف عليها العرب في المشرق، الدليلا على صعوبة هذا

الأمر ومشقته، وليس في مكنة الظروف إلا أن تذلل السبيل إلى إنشاء دولة جديدة، وأحداث مدنية طريفة، وينبغي أن يكون من وراء الظروف عوامل أخرى ضرورية نحن الآن آخذون في تقريرها. ففي رأس هذه العوامل تأثير الجنس، وقد أثبتنا أن خير ما يشخص الأمة ويميزها أن يكون لها مقدار معين من العواطف والاستعدادات والأميال المشتركة، تتغلغل في أفرادها، وتسوق سعيهم وجهدهم إلى مطلب واجد، ومعنى فذ. ومجموع هذه العواطف المشتركة، الناشئة من تراكم الصفات المتوارثة، وأعني بها الخلق الأهلي، هو الوراثة عن ماض لكل من آبائنا وأسلافنا يد في إنشائه، ونحن كذلك نعمل على تكوينه لولدنا وأخلافنا، والخلق بالأهلي وإن اختلف في كل أمة، فقليل الاختلاف بين بنى الجلدة والواحدة، وأهل البلد الواحد. ولا مراء في أن على هذه العناصر الأساسية للخلق الأهلي، يبني كل جيل، وينشئ كل عهد، ويشيد كل عصر، ولكن بنسبة هي من الضعف والقلة بحيث تحتاج إلى تصرم القرون والأجيال التي ينتج تكاثر هذه التطورات تغيراً محسوساً، وقد يبدو للناس في بعض الأحايين أن التربية والوسط والظروف تحدث بجملتها تغيرات سريعة، ولكنها في الحقيقة لا تلبث أن تزول، لأنها عرضية. على أن المميزات الأخلاقية والخصائص الفكرية لشعب من الشعوب هي كخصائص الأنواع ومميزاتها الطبيعية ثبوتاً ورسوخاً، ونحن نعرف اليوم أن خصائص الأنواع تنتهي على مر الزمان بالتغير والتحول، ولكن تغيرها نهاية في البطء حتى عدها علماء الطبيعة كأن لا تحويل لها ولا تبديل. وقد حاولت في مؤلف لي أن أثبت أن ليس بقوة الذهن، وإنما بارتباط العواطف وتوحدها، يتألف الخلق، وما الخلق إلا الأساس الذي تبنى عليه الأمة، ومن ثم كان حقاً على من أراد أن يتوصل إلى شرح الأدوار التي يلعبها الأفراد والشعوب على مسرح التاريخ أن يبدأ بفحص خلقهم واستقرائه، فإن الحكم الذي أدلى به قيصر، ووسم به أبناء فرنسا الأولين، وهو حب الثورات، والميل إلى خوض غمرات الحروب، من غير داع ولا سبب، والاستسلام لأحداث الزمان ليشرح الحوادث التي وقعت لها في ماضينا. وإن من السهل الرجوع إلى التاريخ للاستشهاد بأن نتائج الخلق تختلف تبعاً للظروف وإن

المحاسن والمساوئ التي تنسب إليها عظمة أمة من الأمم في عصر من العصور ليصح أن تصبح منشأ سقوطها في عصر آخر. وفي حال العرب مثال لذلك، وإذا حللنا اختلاف النتائج تحليلاً وافياً دقيقاً، لكشف لنا هذا التحليل أن الأسباب واحدة، فقد يبدو لنا من أول وهلة أن بين اليوناني في عهد بريكلين. وبين البيزانطي في أخريات دولة الرومان هوة سحيقة. وبوناً شاسعاً، وذلك هو الواقع لو نظرنا إليهما من الوجهة الاجتماعية. على حين أن أساس الخلق فيهما لم يتحول ولم يتبدل. وإنما هي الظروف وحدها التي عدا عليها التحول والتبدل. فلما انتقلت نعومة اليوناني ورقته ودهاؤه الفلسفي وعذوبة لغته. إلى بيئة غير بيئته. ووسط غير وسطه وزمان غير زمانه. إذا هي قد راحت في البيزانطي غدراً خلاباً. ودهاء دينياً. وثرثرة حمقاء. وإن التفتيشي في القرون الوسطى. في طبائعه الجامدة الصلبة: واليعقوبي الحديث. في الحادة الوحشي. وطبائعه الثورية الهائجة. ليكادان يكونان جد مختلفين. على أننا لو أنعمنا النظر لحظة واحدة. لبدا لنا أن الثاني ليمت إلى الأول بلحمة القرابة والشبه. ولم يتغير فيهما إلا اسم العقيدة. ويرتبط بهذه العناصر الأساسية لخلق الأمة. وهي في رسوخها وثبوتها كالفقار في الحيوانات الفقارية. طائفة من العناصر الثانوية. وهي في تباينها كالقامات والهيئات والألوان في تلك الحيوانات: على أنا لنصيب إذا قلنا أن الآراء والأذواق هي التي تتغير وتتحول. ولكن تغيرها لا يمس العناصر الأساسية لخلق الأمة. فإن هذه أشبه بالصخرة الصماء. تتقاذف فوقها الأمواج،. وتعتلج أبداً عليها اللجج. دون أن تزعزعها عن مكانها المسكين. وما أشبه الآراء والأذواق بأطباق الرمال. ومهيل لسباسب. وركام الخرزات. ومنثور الأعشاب. التي ترمي بها الأمواج فوق هذه الصخرة. لتنهض عليها وترتفع: ومن ثم كان المرجع في الموازنة بين الشعوب هو البحث في العناصر الأساسية لخلقها الأهل. وقد وفينا هذه العناصر في خلق العرب حقها من الوصف فلا حاجة بنا الآن إلى ذكرها. بل نترك الآن ما قلناه عن قوة أذهانهم. . وحمية نفوسهم. وأميالهم الأدبية والفنية. مما لا تقوم المدينة بسواه. ولا تسموا الحضارة بدونه. ونقتصر هنا على ذكر ما يخص عاداتهم القديمة في الحرب. فإن في هذه العادات مثالاً بيناً على ما ذكرناه من قبل. وهو أن الاستعدادات والأميال المتشابهة قد تؤدي تبعاً للظروف إلى نتائج مختلفة بعضها عن بعض

كل الاختلاف. فهذه عادات العرب في الحرب كانت مستمكنة من نفوسهم. متأصلة في أعراقهم. حتى لقد كانت جزيرة العرب قبل النبي ساحة حرب ما يبرد هنا وطيس. ولا ينفض قتال. فلما انضووا تحت دين واحد. وخضعوا لسلطان عقيدة عامة. إذا بهم قد صاروا ألباً واحداً على الأعجمي. فكانت عاداتهم الحربية سبباً من أعظم أسباب انتصاراتهم: حتى إذا دانت لهم الأعداء. وخضعت الرقاب. ولم يبق منهم من يساجلونه الحرب والقتال. عادوا إلى مطاوعة خلقهم الحربي ومتابعته. فشهروا رماحهم في وجوههم، وامتشقوا أسلحتهم على أنفسهم. فكانت طبائعهم التي ضمنت عظمتهم ومجدهم، هي نفسها التي أفضت إلى سقوطهم وتدهورهم. ولا يفي من قولنا أن خلق الأمة قد يحدث تبعاً للظروف نتائج مختلفة جد الاختلاف، إن الظروف وحدها لا ينهض فوقها تطور الأمة بل إن من الظروف عوامل أخرى لها أثر مشهور في هذا التطور. وفي طليعة هذه العوامل التي بقي علينا الآن بحثها، ذلك العامل الذي ألف بين شعوب العرب وقبائلهم وبطونهم، ودمجهم في أمة واحدة، وكانوا من قبل منقسمين متباعدين، وذلكم العامل هو الدين الذي جاب محمد، فقد أتى هذا الدين بالمثل الأعلى إلى قوم كانوا من قبل خلواً منه صفراً. أجل. جاء هذا الدين بمثل أعلى يثير في قلوب عصبة المستمسكين به حمية تدفع بهم أجمعين إلى تضحية نفوسهم في سبيله. ولقد سبق لي أن أعدت القول وكررت أن دين المثل الأعلى من أقوى العوامل على تطور الجماعات الإنسانية، وحسبك من قوته أن ينشئ للأمة عواطف عامة، وأماني مشتركة، وإيماناً حياً، فلقد كان المثل الأعلى في أمة الرومان عظمة روما. وكان عند المسيحيين الأمل في حياة أخرى حافلة بالمناعم والمباهج، وقد صور الإنسان العصري آلة له جديدة، على غرار الآلهة القديمة في عدم عصمتها، وإن كان يقيم لها التماثيل بحق. ويرفع لجلالها الدمى، وإن لهذه الآلهة لتاثيراً صالحاً. يكفيك منه أنه قد يوقف الجماعات الهرمة والشعوب المتدهورة عن الانحطاط والفناء حيناً من الدهر. وما التاريخ إلا رواية الأحداث والأفعال التي قام بها الناس سعياً وراء المثل الأعلى. ولولا

هذا المطلب لظل الإنسان عن بربريته. ولما كان له من المدينة نصيب. وانحطاط الأمة يبتدي يوم لا تملك الآم لنفسها مثلاً أعلى تحترمه بجملتها. يدفع كل فرد منها بنفسه في سبيل حمايته والذود عنه. وقد كان المثل الأعلى الذي أنشأه محمد مثلاً دينياً من كل وجوهه. وامتازت الجولة التي أسسها العرب بهذه الميزة المنفردة. ذلك أنها كانت الدولة العظيمة الفذة التي قامت باسم الدين ومن الدين استخلصت جميع أنظمتها السياسية والاجتماعية. ولكن أيكفي هذا العامل الأكبر. ونعني به المثل الأعلى. وتلك العوامل التي جئنا بها من قبل. لبيان عظمة العرب؟. كلا. فنحن لم نستغرق في كل ما قلنا إلا لحظة واحدة. لقد قلنا تداعى العالم القديم. تاهبت لفتحه أمة حافلة بالصفات الحربية مجتمعة عصبة واحدة برباط دين عام بقي عليها أن تقوم بالفتح المبين. وأن تعمل فوق ذلك على حراسة هذا الفتح وحمايته. ونحن رأينا كيف كانت فتوحات العرب. وكيف كانت غزواتهم. كيف خرجوا من بلاد العرب فانهزموا بادئ بدء إزاء وراث العظمة اليونانية الرومانية. فلم يهن بأسهم ولا تولت شجاعته. بل تعلموا من غالبيهم. وأخذوا عن هازميهم. حتى إذ أصبحوا من الوجهة الحربية أكفاءهم. ومضوا بعد ذلك في الوغى أقرانهم وأضرابهم. لم يعد هناك موضع للشك في فوزهم. ذلك لأن كل جندي في جيش العرب كان على أهبة أن يهب روحه ومهجته في سبيل انتصار الفكرة التي كان يقاتل في الهيجاء ويجاهد تحت درعها. على حين كانت التضحية وبذل المهج والحمية والعقيدة قد أسلمت الروح في جيوش الروم منذ أمد مديد. لقد كان من الجائز أن تطمس الانتصارات الأولى على أبصار العرب وتضرب على أعينهم. فتقودهم إلى التطرف شأن كل غالب. وحال كل منتصر فائز. ويحملهم فوق ذلك على أن يسيئوا معاملة المهزومين. ويكرموهم على اعتناق الدين الجديد الذي نهدوا النشرة في أرجاء العالم وفجاجة التي لم تخضع بعد لحكمهم. ولم تذل لصولتهم. ولكن العرب أصابوا الحزم في تجنب هذا التألب الداهم. وتحامي هذه التهلكة الجلل. التي لم يعرف الصليبيون كيف يتجنبونها ويتفادون من شرها. يوم جاء دورهم فنفذوا إلى الشام.

فإن الخلفاء الراشدين فطنوا ببراعتهم السياسة التي أندر ما توجد بين أشياع دين جديد وصحابة عقيدة حديثة إلى أن الشرائع والأديان لا يتهجم بها على الناس. ولا تدخل عليهم بالعنف والإكراه. وقد شهدنا العرب في كل مكان دخلوه. وكل بلد فتحوه. في الشام وفي مصر وأسبانيا. يعاملون أهلها بالحسنى. ويأخذونهم بالعرف. ويداورونهم بأعظم اللين وأحسن الوداعة. تاركين لهم شرائعهم وقوانينهم ودياناتهم. غير ضاربين عليهم في مقابل السلم. الذي ضمنوه لهم والأمان الذي أحلوهم فيه. إلا أتاوة زهيدة. وحزبة طفيفة. كانت في أغلب الأحوال أقل من تلك الضرائب التي كانوا يرفعونها من قبل. ولم تشهد هذه الأمم فاتحين يوماً بهذا التسامح. ولا غالبين بهذا اللين وذاك الحدب. ولا عرفوا من قبل ديناً بهذه العذوبة وهذا اللطف. وكان هذا التسامح وهذا اللطف. وإن تجاهلهما المؤرخون وبالغوا في إنكارهما، سبباً من أسباب السرعة التي بها امتدت فتوحات العرب. وداعياً من أهم الدواعي التي ذللت في كل مكان نشر دينهم وشرائعهم ولغتهم. ونحن نعلم أنها استقرت واشتدت أصولها بين الأمم التي اعتنقتها وسارت على هديها وأنها وقفت بعد ذلك حيال كل هجوم ونهضت إزاء كل غارة. وقام منارها بعدما ذهبت ريح العرب من مسرح العالم. وأنت لا تجد هذه الحقيقة الرهيبة إلا في حال مصر. فإن الفرس واليونان والرومان الذين تسودوا عليها. وبسطوا فوق أرضها أروقة نفوذهم، لم ينجحوا يوماً في هدم مدينة الفراعنة القديمة. ولم يتوقفوا إلى إسقاطها وإقامة مدنياتهم على آثارها. ثم ننتقل إلى أسباب أخرى غير تسامح العرب. وعذوبة سلطانهم. وحسن ملكتهم. وما رجع إلى ذلك من نجح دينهم وثبات الأنظمة التي استخلصت من هذا الدين. فنقول إن هذه الأنظمة كانت من السهولة بحيث توافق حاجات الطبقات المتوسطة في الأمم التي استكانت للعرب. فإذا حدث أن هذه الأنظمة لم تلائم كل الملائمة هذه الحاج. كانت العرب أعلم بتحويرها وتذليلها كما تقتضيه الضرورات. ولذلك ترى بين الأنظمة الإسلامية في الهند وفارس وبلاد العرب وبلاد المغرب ومصر فروقاً. هي في بعض الأحيان كبيرة. وإن كانت ترجع إلى قرآن واحد. وتائم بهدى كتاب فذ. والآن وقد بلغنا بك حيث انتهى العرب من فتح العالم. فلم ننته بعد من بحثنا الذي أخذناه

على أنفسنا. لأن عصر هذا الفتح لم يكن إلا وجهاً واحداً من وجوه تاريخ عصبة النبي ورجاله. ولم يقف أمر العرب عند فتح أقطار الدنيا وغزو ممالكها. بل لقد أسسوا مدينة جديدة لا دخل فيها للعوامل المتقدم ذكرها. فلا بد أن يكون لها نمت دواع وأسباب. هناك سببان قاطعان جازمان. يؤول إليها أصل هذه المدينة الجديدة. أولهما الوسط الجديد الذي وجد فيه العرب. وثانيهما استعدات فرائحهم وإفهامهم. فأما الوسط فقد ذكرناه لك آنفاً وصفناه. وقلنا ما كاد العرب يخرجون من مهامه جزيرتهم وينسلون من فدافد أرضهم. حتى ألفوا أنفسهم إزاء بدائع المدينة اليونانية الرومانية. وما كان أغربها لعيونهم وأشدها أخذاً بمجامع أفئدتهم فلما تبينوا تفوقها الذهني. كما تبينوا من قبل تفوقها الحربي. جاهدوا في مضاهاتها. ودأبوا في مساواتها ومجاراتها. ولكن مجاراة مدينة مستبقة متفوقة ينبغي لها بادئ بدئ روح قابلة خصبة. إذ حسبك بياناً لصعوبة هذا العمل تلك المجهودات المضيعة الخائبة التي حشدها البرابرة زهاء قرون وأجيال لانتحال آثار المدينة اللاتينية والانتفاع بها. وما كان العرب بحمد الله أمة بربرية. وما كانوا قوماً همجيين. ونحن وإن كنا لم نعلم ما كان من مدينتهم في العصر الذي تقدم عصر محمد، حين إذ كانت بينهم وبين سائر الأمم رابطة المتاجرة. فقد أثبتنا لك إنهم كانوا يوم ظهر النبي فيهم على رقى في الأدب بالغ. ومعلوم أن العالم أو الأديب إذا جهل كثيراً من الأشياء أعانته استعداداته الذهنية على استظهارها ووعيها. وكذلك استعان العرب على فهم العالم الجديد في أعينهم. الطريف لأنظارهم. بنفس الحمية التي جاؤوا بها إلى فتحه. وعين الأريحية التي أقبلوا بها لغزوه. ولم يأت العرب في بحث هذه المدينة التي ألفوا أنفسهم بغتة إزاءها. بشيء من مؤثرات الخرافات التي انقضت ظهور البيزنطيين دهراً طويلاً وأثقلت كواهلهم أمداً مديداً. ولذلك كانت حرية أرواحهم. وخلوصها من قيود الخرافة. وأسار الأوهام سبباً من أسباب ارتقائهم السريع. وكثيراً ما يحدث في حياة الشعوب إن تأثير الماضي قد يفيد الأمة دهراً. ويؤتيها من لدنه خيراً. ثم لا يعدو بعد ذلك أن يستبد بها. ويجعلها تنزل على حكم الخرافات الماضية. ويحول بينها وبين كل تقدم ورقي. وإن الاستقلال الطبيعي الذي نشأت عليه أرواح العرب. وتصورهم وابتكارهم. لتتجلى في

تلك البدائع الجديدة التي أحدثوها. وقد أبنالك أن العرب لم تلبث طويلاً إن وسمت عمارتها وفنونها. وفي نفس الوقت علومها. بذلك الطابع الشخصي الذي يتبين في أعمالها وآثارها من النظرة الأولى. ولما كانت الفلسفة النظرية التي جاء بها اليونان قل ما تلتئم مع طبيعة أرواحهم. لم يأخذوا عنها إلا النزر القليل وكان أحب الأشياء إلى نفوسهم الفنون والعلوم والأدب وقد وصفنا لك الرقي الذي كان على أيديهم في هذه الفروع المختلفة. بما فيه الكفاية والغناء. تلك هي الأسباب الهامة التي تؤول إليها عظمة العرب. فهلم الآن نبحث في سر تدهورهم.

صفحة في الأدب

صفحة في الأدب حدث أبو سعيد الخدري قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله فقال: إني أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها - قال - فقال رجل أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله - قال - فسكت عنه رسول الله ورأينا أنه ينزل عليه فأفاق يمسح عنه الرحضاء وقال أين هذا السائل وكأنه حمده. فقال إنه لا يأتي الخير بالشر. وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا الويلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى المسكين واليتيم وابن السبيل (أو كما قال رسول الله) وإن من يأخذه بغير حقه فهو كالآكل كل الذي لا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة. قال الأزهري: في هذا الحديث مثلان ضرب أحدهما للمفرط في جمع الدنيا مع منع ما جمع من حقه: والمثل الآخر ضربه للمقتصد في جمع المال وبذله في حقه - فأما قوله صلى الله عليه وسلم وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا فهو مثل الحريص والمفرط في الجمع والمنع وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب التي تحلو ليها الماشية فتستكثر معها حتى تنفتخ بطونها وتهلك كذلك الذي يجمع الدنيا ويحرص عليها ويشح على ما جمع حتى يمنع ذا الحق حقه منها - وأما مثل المقتصد المحمود فقوله إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتلأت خاصراتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم وقعت - وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول التي تستكثر منها فتهلكه أكلاً ولكنه من الجبنة التي ترعاها بعد هيج العشب ويبسه - قال - وأكثر ما رأيت العرب يجعلون الخضر ما كان أخضر من الحلى الذي لم يصفر الماشية ترتفع منه شيئاً فشيئاً ولا تستكثر منه. فلا تحبط بطونها عنه - قال - وقد ذكره طرفة فبين أنه من نبات الصيف في قوله: كبنات المخر يمأدن إذا ... أنبت الصيف عساليج الخضر فالخضر من كلأ الصيف في القيظ وليس من أحرار بقول الربيع والنعم لا تسترسله ولا تحبط بطونها عنه - قال - وبنات مخر أيضاً وهي سحائب يأتين قبل الصيف: فضرب النبي آكلة الخضر مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها ولا يسرف في فمها والحرص عليها وأنه ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر إلا تراه قال فإنها إذا أصابت من الخضر استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت وإذا ثلطت حبطها وإنما تحبط الماشية إذا لم تثلط ولم

تبل وأتطمت عليها بطونها. وقوله إلا آكلة الخضر معناه لكن آكلة الخضر وأما قول النبي إن ذها المال خضرة حلوة ههنا الناعمة الغضة. وحث على إعطاء المسكين واليتيم منه مع حلاوته ورغبة الناس فيه ليقيه الله وبال نعمتها في دنياه وآخرته. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين متين فأوغل فيه يرفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. قال صاحب اللسان في مادة وغل وذكر الحديث - يريد سرفيه برفق وأبلغ الغاية القصوى منه بالرفق لا على سبيل التهافت والخرق ولا تحمل على نفسك وتكلفها مالا تطيقه فتعجز وتترك الدين والعمل. وقال في أمثال الميداني وذكر بين أمثاله قول النبي إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى - قال المنبت المنقطع عن أصحابه في السفر والظهر الدابة قال هذا رسول الله لرجل اجتهد في العبادة حتى هجمت عيناه أي غارتا. ومن كلمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل. ولباب هذا القمح. ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع. أو أبيت مبطاناً وحولى بطون غرثي وأكباد حرى. أو أكون كما قال القائل: وحسبك عاراً أن تبيت ببطنه ... وحولك أكباد تحن إلى القد أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها. أو المرسلة شغلها تقممها. تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها. أو أترك سدى. أو أمهل عابثاً. أو أجر حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة. وقال الحسن البصري حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، وأقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة وإنكم أن لا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. قوله حادثوا مثل ومعناه أجلوا واشحذوا نقول العرب حادث فلا سيفه إذا جلاه وشحذه. والدثور الدروس يقال درس الربع إذا انمحى. ومعنى ذلك تعهدوها بالفكر والذكر. وقوله فإنها طلعة يقول كثيرة التشوق والتنزي إلى ما ليس لها. ويقال للجارية إذا كانت تبرز

وجهها لترى حسنها تخفيه لتوهم الحياء خبأة طلعة.

تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية (تمهيد) المجالس النيابية وتطورها ـ 1 ـ من الأغلاط المتداولة التي ورثها العصر الحاضر أن المدينة كلما تقدمت قضت على شخصية الأفراد وعبثت بحريتهم وجعلتهم آلات متحركة تخدم المجموع بالشكل الذي يريده المجموع من غير إرادة لأي فرد منهم في ذلك. وأساس هذا الخطأ راجع إلى ظهور المجاميع على أشكالها المختلفة ظهوراً واضحاً، وإلى شيوع مبدأ الجبر الذي يعد الحرية الفردية خيالاً لا حقيقة له، وإلى فكرة علم الاجتماع الجديدة الذاهبة إلى أن الصفة الأولى والظاهرة لكل أمر اجتماعي هي إكراه الجماعة من يخرج على هذا الأمر ليرجع إليه. والحقيقة التي تنتجها الملاحظة واستقراء الحوادث والرجوع إلى التاريخ هي أن المدينة يتقدمها إنما تعمل لإظهار شخصية الفرد ولتكميل حريته ولتوسيع دائرة العمل أمامه. وتعمل لذلك بوسائل كثرة كنشر التعليم وإكثار الصناعات وتحرير الطوائف الوضيعة من رق ملاك أرزاقها: وتسير في عملها على أسس ثابتة وإلى الأمام وكل أنصارها أمل بأنها ستصل من هذا الطريق لتعميم الحرية والإخاء على الأرض ولتقديم أكبر حظ ممكن من السعادة للإنسانية. وإنما ساعد المدينة على هذه التقدم الذي وصلت إليه - وتؤمل أن تبلغ به غايتها العليا - اطمئنان الناس على حريتهم التي جاهدوا لنيلها طويلاً بعد أن تمكنوا من الانتصار الفكري على الاعتقادات التي كانت راسخة في الأذهان، والتي تولدت على الزمان بمقتضيات الحياة القديمة من وجوب الطاعة لصاحب السلطان، ثم بعد ان انتقل هذا الانتصار الفكري إلى الوجود العام ظهر في العمل فحرك الشعوب وأقام الأمم وبعث فيها جميعاً روج التشبث بالحرية والإخاء والعدالة، واعتبرت هاته الصفات حقوقاً يجب المطالبة بها ويجب الوصول إليها ونيلها ولو بالقوة. وفعلاً لم تكف حركة التنبه الأولى ليتنازل الملوك والمستبدون عن أطماعهم ويسلموا للأمم بحقوقها، بل استلزم الأمر حركات عنيفة وثورات طاحنة سالت فيها دماء وطارت رؤوس وارتكبت فظائع ومظالم حباً في العدل والإخاء

اللذين بقيا دفينين تحت عسف الاستبداد وتحكمه. بعد ذلك كله توجت الحرية الفردية والسياسية القوانين، واطمأن الناس للحياة وللعمل فيها، وقامت في العالم هذه الحركة السلمية المدهشة بعظمتها التي نرى اليوم بأعيننا، وأيقن كل إنسان إن نقص الحرية مؤد لا محالة إلى نقص أهم أجزاء الحياة. والمدهش في كل هذه الحركة نحو الحرية أنها لم تصل لتحد بالمعنى المضبوط الذي نفهمها به اليوم إلا بعد قرون طويلة من الجهاد لها. وكأنما كانت الحركة نحوها حركة فطرية تدفع إليها ظروف الوجود وتريد هذه الظروف أن تخلص بالناس من قيود الوهم الاستبدادي الذي كان أصل شقاتهم إلى الحرية لأنها مصدر سعادتهم الثابتة. وفي كل تطور من هاته التطورات كانت كلمة الحرية تأخذ معنى جديداً أمام أهل الزمان الذي حصل فيه هذا التطور. وليس من الممكن أن نرجع في التاريخ لنصل إلى فكرة أول مجتمع إنساني في الحياة حتى نبدأ من هناك ملاحظاتنا على التغيرات التي طرأت على معنى الحرية وقيمتها ذلك بأن المجتمع الإنساني أقدم بآلاف السنين من التاريخ المعروف لنا. كما أنا لا نستطيع أن نصدق النظريات الخيالية التي وضعت في هذا الباب ونفترض ما يسميه جان جاك روسو بالحالة الطبيعية حال الإنسان المنفرد المستكمل كل الحرية بمعناها المادي. فإن ما نعرفه عن حال الإنسان لا يسمح لنا بتصور وجود لهذا الإنسان المنفرد. لذلك يكفينا أن نلاحظ ما كانت تعتبر به الحرية في الأمم المعروفة في التاريخ القديم والتطورات التي انتابت حكوماتها لنصل من ذلك إلى العصور الأخيرة وظهور وجود الرق. فكان العبيد في كل أمة من أمم تلك الأيام جماعة غير معترف لهم بأي حق من حقوق الحياة الإنسانية. بل كانوا في منزلة الأشياء الجائز التصرف فيها بكل أنواع التصرف إلى درجة استهلاكها. وبما أن هذا النظام كان عاماً قبلته الأذواق واطمأنت إليه النفوس وكان من مستلزمات مدنية ذلك العصر. وكان العبيد يملكون لأرباب العائلات الذين كانوا أصحاب الشأن والتصرف في كل شيء حتى في أفراد العائلة الذين لم يكونوا من طائفة العبيد. ولقد كان آباء العائلات حينئذ معتبرين ملوكاً لعائلتهم يتوارثون الملك ويقومون بحماية كل من كان

تحت رعاياتهم من أصل العائلة أو من العبيد. واجتمع أرباب العائلات من بعد وكونوا المدائن وصاروا يتشاورون فيما بينهم في أمرها. وأدى هذا الاجتماع إلى خروج بعض أفراد من العائلات ممن ثقل عليهم حمل سلطة رب الأسرة وكونوا جماعة الشعب الغير المتمتع بالحماية. ووجودهم وتعدد الأسر استلزم قيام سلطة مركزية للنظر في مصالح الجميع. وكانت هذه السلطة أغلب الأحيان في يد ملك مطلق أو حاكم مستبد، وقيام هذا الملك أو الحاكم من شأنه أن يستعد جماعة الأشراف أرباب العائلات. فيقوم من بينهم الأغنياء وينفقون من أموالهم ويتهددون مدينيهم ويصلون من ذلك للتسلط على الشعب تسلطاً استبدادياً. ويلجأ الملك للشعب فيقوم الشعب ثائراً ويعاونه بعض الأغنياء ممن انفصلوا عن جماعة الأشراف أو ممن جاءتهم ثروتهم من طريق الاتجار. هنالك يجرد الأشراف من حقوقهم ويخذل الملك وتقوم حكومة الشعب اسما وإنما يتمتع بها في الحقيقة جماعة الأغنياء الذين نصروه. فإذا كان الأشراف قد وصلوا إلى حالة الضعف المطلق سارت الأمور إلى ناحية المساواة العامة. أما إن كانوا قد حفظوا شيئاً من القوة سواء بثروتهم أو باستحياء الشعب منهم أو بأي سبب آخر رجعت الخصومات حتى تنتهي أغلب الأمر إلى حكومة استبدادية. لكن هذه الحكومة قصيرة العمر أغلب الأحيان كذلك. ومن بعدها تسير الديمقراطية في تقدمها نحو الارتقاء الاقتصادي والفكري. هذه الملاحظة العامة التي تنقل عن المسيو كروازيه صادقة عند التطبيق على الأمم القديمة وهي صادقة كذلك في قسمها الأخير فيم يتعلق بالأمم الحديثة وسيرى القارئ ذلك حين كلامنا عن ظهور الفكرة النيابية وتطورها في إنكلترا وفي فرنسا. أما عن الزمن القديم فنكتفي بذكر تطور الحكومة في روما وآثار الفكرة النيابية فيها بعد أن تجيء بكلمة عن الحياة السياسية في البلاد العربية. ـ 2 ـ كانت العرب قبل الإسلام قبائل تجمع كل قبيلة منها عصبية العائلة وترجع إلى جد واحد يكون هو أبا العائلة الأول. وكان لكل قبيلة رئيس يرجعون إلى رأيه ويخضعون لحكمه. وكان هذا الرئيس عالي المكانة بينهم عظيم الشأن مسموع الكلمة. فلما جاء الإسلام أخذ يجمع تحت لوائه أشتات هذه القبائل المتفرقة ويضم له ما تآلف منها وما تنافر ويوفق بينهم

باسم الدين الجديد وبعقيدة التوحيد التي امتلكت أفئدتهم. وبقي السيد الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث من أعماله وأقواله إلى الأمة العربية الجديدة ما يزيد انضمامها وتضامنها. وكان الحكم يومئذ لله يجيء عنه بطريق الوحي إلى مختارة والمختار يبلغه للناس ويقوم بتنفيذه بينهم فكان ناقل الشرع إليهم وكان قاضيهم وكان المدبر لسياستهم. لكنه كان لا يستبد بالأمر دونهم، وكان يرجع إلى رأيهم في المسائل الكبيرة وبالأخص في مسائل الحرب والسلم. وكانوا راضين حكمه محبين له، فلما استأثر الله برسوله لم يوص بالخلافة إلى أحد من بعده. واجتمع المسلمون بالسقيفة يتشاورون فيمن يكون له الأمر، وإنما ضم هذا الاجتماع بالطبع عدداً من الرؤساء ومسموعي الكلمة. وبعد خلاف حصل بين المهاجرين والأنصار تمت البيعة لأبي بكر، ولما اجتمع له الأمر خطب الناس وكان من بعض ما قاله: أطيعوني ما أطعت الله. فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. ثم دعا عمر وأعيان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما ترون لي من هذا المال فقال عمر أنا والله أخبرك ما لك منه، أما ما كان لك من ولد قد بان عنك وملك أمره فهمه كرجل من المسلمين. وأما ما كان من عيالك وضعفة أهلك فتقوت منه بالمعروف وقوت أهلك فإنك قد شغلت بهذا الأمر عن أن تكسب لعيالك يراجع الإمامة والسياسة جزء أول صحيفة 28. هكذا كانت الحال أيام الإسلام الأولى فكان الناس يتشاورون وينتخبون خليفة من بينهم. فإذا ما انتهوا من ذلك انتهوا من الأعمال العامة وصاروا يأتمرون بأمر هذا الرئيس وهو مكلف طبعاً بأن يسير على مقتضى أوامر الكتاب والسنة وأن ينفذها. وطبيعي أنه كان يسعى دائماً لكسب عطف الكبراء من الرجال بأن يصغي لمشورتهم لكن الأمر كان بعيداً جداً عن الحالة النيابية التي نتصور اليوم. تلك كانت حال هذه العصور. وسيرى القارئ أن هذه الحال نفسها كانت حال المملكة الرومانية حتى في أعز ما صلت إليه، وسبب ذلك أن الحرية الفردية على ما نتصور اليوم لم تكن ذات وجود ظاهر بل كانت الأكثرية العاملة تعطي حكم القطيع يساق ولا رأي له. ولهذا الاعتبار ولأن مسألة الرئاسة ونفوذ كلمة الرئيس كانت مستأصلة في الأخلاق يومئذ كان رؤوس الناس أنفسهم يرون طبيعياً وجود رئيس صاحب سلطان. ولم يكن هذا الرئيس يستمد سلطته من منتخبيه إلا يوم انتخابه. أما بعد هذا الانتخاب فإن

سلطته يكون مصدرها الإله الذي هدى الناس لاختياره. ولقد كان هذا الاحتقار سائداً آخذاً بقلوب الرئيس والمرؤوسين جميعاً. على أن سيادته لم تكن لتمنع وجود التشاور وخصوصاً في مسألة الحرب والسلم. وسبب التجاء الجمعيات القديمة إلى الشورى في هذه المسألة وجوب رضي العاملين في الحرب عنها حتى تكون طاعتهم لرئيسهم ساعة الحرب طاعة بالغة حد التفاني لأن أساسها الرضى. لما حضرت الوفاة أبا بكر أوصى بالخلافة لعمر ووضع وصيته في غلاف ودفعه لعمر نفسه وقال له: خذ هذا الكتاب واخرج به إلى الناس وأخبرهم أنه عهدي وسلهم عن سمعهم وطاعتهم. فخرج عمر بالكتاب وأعلمهم فقالوا سمعاً وطاعة. فقال له رجل ما في الكتاب يا أبا حفص، قال لا أدري ولكني أول من سمع وأطاع، قال الرجل لكني والله أدري ما فيه. أمرته عام أول وأمرك العام الإمامة والسياسة جزء أول ص 23. وبهذا العهد من أبي بكر تمت البيعة لعمر على غير رضى من كثير من الناس وخصوصاً من أهل الشام. فعمل عمر عشر سنين بعد أبي بكر فو الله ما فارق الدنيا حتى أحب ولايته من كرهها وكان في غضون هذه المدة يؤمر الأمراء ويولى القضاء ويبعث بالفؤاد للفتح والغزو ويعمل كل ما يحتاجه صلاح الأمة والملة راجعاً إلى أحكام الله وسنة نبيه. وما كان لأحد أن يدخل في الأمر بأكثر من المشورة وإبداء الرأي. وقتل عمر رضي الله عنه وخلفه عثمان بعد بعض خلاف. وبعد أن عمر طويلاً في الخلافة سائراً على منهج حسن زين له أصحابه من بني أمية الأثرة فخصهم دون غيرهم بالأمر وأصبحوا حوله حزباً وبلغ من شأنهم أن استضعفوه لكبره فكان لا يولى وال ولا يقام قضاء إلا بأمرهم ورأيهم. وزادوا في ذلك إلى حد خرج عن الذوق المعقول واستفز أبناء أبي بكر وعمر وعلي. وكان ذلك سبب قتل عثمان وذيوع الفوضي في البلاد العربية على الشكل الفظيع الذي يعرفه القارئ. وابتدأت الحروب بين علي ومعاوية وتدرجت الحكومة بذلك من استمداد رأى الشعب كما كان أيام أبي بكر وعمر وأول خلافة عثمان ودخلت العصبيات الحزبية يحيط بكل جماعة غوغاء من الأفراد الذي لا يعرفون الحرية ولا الحق المبنية هي عليه وانتهت بظهور الاستبداد الملكي في زمن معاوية ومن خلفه من أبنائه وأقربائه. وانطفأت بذلك الشعلة

الوقتية التي أوجدها صاحب الشريعة وبقيت من بعده زمناً، ولكنها لم تجد أرضاً مستعدة لتخليدها ولا نفوساًَ تفهمها فتحتفظ بها وتنميها لتصل منها إلى حال نيابة حقيقية، ونشر الاستبداد أعلامه ونما وترعرع ولكنه بقي مختفي الأثر تحت سلطان القوة العظيمة التي كانت مظهر الدولة العربية يومئذ وبقي اسم الخليفة قروناً عظيم الرنين، وامتدت الفتوحات وكبرت الإمبراطورية العربية. هنالك بنأت تظهر عيوب الاستبداد الدخيلة من عدم استطاعة حكم البلاد الواسعة لتمكن خصوم المستبد من القيام في أطراف نائية عنه وجمع أنصار حولهم والتوصل لمغالبته وإرسال الفوضى بذلك إلى قلب المملكة. ونشأ عن ذلك نتائجه من تجزئة السلطة ومن انقطاع سير المدنية التي كانت قائمة ومن التقهقر والاضمحلال. هذه نظرة عامة عن حال الفكرة النيابية في البلاد العربية في أيام الإسلام الأولى ومنها يرى القارئ. أن هذه الفكرة لم تكن موجودة إلا بشكل غير واضح وغير منظم لذلك سرعان ما ذهبت واختفى أثرها تحت سلطان الاستبداد. على أن العرب لم يكونوا منفردين بهذه الحالة فإن مدينة الزمان عموماً كانت بعيدة عن سيادة مثل هذه الفكرة. وذلك ما سيظهر الآن عند بحث تطورها في الأمة الرومانية. ـ 3 ـ تخبرنا الأقاصيص أن روما أنشئت على تل كان قبل إنشائها سوقاً يجتمع إليه الناس من (أترسك) الشمال و (لاتين) الجنوب، وأن الذي أسسها روموليس سنة 753 قبل الميلاد وتولى هو الأمر عليها ثم عقبه جماعة اعتبروا ملوك المدينة ولكنهم لم يكونوا من نسله ولا عقبه بل كان منهم الأترسكي والسابيني وغيرهم وكان الملك يأخذ بمشورة السناتو الذي كان يتألف من آباء العائلات ورؤساء العشائر. وإنما كانت السناتو صاحبة الرأي الغالب فيما يتعلق بمسائل الحرب والسلم فقط. وكانت تتألف من عدد معين من كبار رؤساء العشائر وذوي الأهمية منهم يختارهم الملك ليكونوا أصحاب مشورته. وفي درجة تحت الملك وتحت العائلات المكونة يوجد الشعب وكان الشعب يومئذ هو المجموع المختلط الغير المنظم المكون من جماعة الخارجين عن عائلات الأشراف كالمهاجرين والمغلوبين الذين أتى بهم إلى أرض روما أو صغار التجار الذين اجتلبهم أمل

الكسب. كما يجب أن يضاف إلى هؤلاء جميعاً عدد من الذين كانوا يعيشون أولاً في حماية الأشراف ثم رأوا الانفصال عنهم والعيش الحرفي مدينة أصبحت وافرة العدد. وقد كان عدد هؤلاء يزداد على الزمان باتساع المدينة ويقلل بذلك من شأن عائلات الأشراف فيها. وساعد الملوك هؤلاء الجماعة من الناس مساعدة جدية لأن مصلحة الملك كانت يومئذ متفقة مع مصلحة العدد الأكبر لما كانت في روما من الحاجة للجند لحمايتها من أعدائها الكثيرين الذين كانوا يحيطون بها. وكان من أكبر المساعدات التي نالها الشعب اعتراف الملك بوجود اجتماعي لهم تمكنوا معه من إيجاد جماعة يمثلونهم إلى جانب السناتو. لكن صوت هؤلاء كان بادئ الأمر صوتاً خافتاً غير مسموع. ثم ازداد هؤلاء الممثلون مع الزمان وبتكرار المطالبة في العدد وازدادوا كذلك في السلطة. فابتدأوا ثلاثاً وبلغوا خمساً وثلاثين. وعلا صوتهم حينئذ حتى لم يكن بد من سماعه ومن الإذعان له - غير أن هذه القوة لم يصل إليها الشعب إلا بعد أن أسقط جماعة الأشراف الملك وتربعوا في دست الحكم نحو القرنين وأقاموا من بينهم قنصلين ينتخبان لعام يكونان فيه صاحبي السلطة المطلقة فلا يحد من نفوذهما إلا الضرورات الملجثة التي ترى فيها السناتو لزوم تعيين مستبد (دكتاتر) لمدة ستة أشهر. وكان شأن الشعب في هذين القرنين ضئيلاً تابعاً لأحكام السناتو وسلطة القناصل فلم يكن لجمعياته أن تجتمع إلا بأمر القنصل كما لم تكن قرارات هذه الجمعيات إلا استشارية. أما الأشراف فكانوا يومئذ أصحاب الحول والطول من الجهات السياسية والحربية والدينية فهم الذين اختصوا بتقديم القربانات للآلهة وهم الذين كانوا يقرون الحرب ويقرون بالسلم وهم الذين كانوا يعملون كل شيء. ولقد كان سلطانهم هذا مبنياً على فضائل عندهم أساسها الثقة بالنفس واحترام العقائد المتوارثة. وكانوا يعيشون على جانب عظيم من بساطة العيش وحب العمل فلا يأنفون أن يشتغلوا بأيديهم ولا يرون أن ينفصلوا عن أهلهم بفاصل من الرفاهة والكسل فكان عندهم بوجه عام ما يلزم أن يكون عند الرئيس من الفضيلة. وفي هذا الوقت كان الشعب الذي يحكمون مكيفاً بطبيعة الحياة بحيث يحتمل آثار كل هذه القوى المجتمعة. فلقد كان العامي - كما كان الشريف - غاية في التدين شديد الانتباه إلى كل العلائم التي تظهر إرادة الآلهة لا يتقدم خطوة من غير رضاهم. يملؤه برق السماء أو

بروح الطائر خوفاً وهلعاً، ويعتقد طائعاً في كل هذه الأمور تفسير العارفين بأفكار الآلهة. يمضي حياته في المزرعة أو في الجيش ولا يبقى من بني طائفته في المدينة إلا عدد قليل لم تكن حياتهم التافهة الوضيعة لتبعث إليهم رأياً من الآراء الحرة أو الصريحة، فلاحهم في المزرعة كفلاح كل القرون قوي مجد صابر مهتم للفائدة العاجلة قليل الميل للأحلام والآمال خاضع لما لا بد منه محافظة بفطرته. وجنديهم معتاد النظام مطواع، على العموم لم يكن في حياة ابن الشعب ما يدفع خياله للحركة بل كان عقله عملياً متجهاً لتقدير الوقائع أكثر من اتجاهه للمسائل الفكرية ولهذا لم يكن مستعداً لابتكار نظام حكومي يريد تحقيقه، كما أنه لو أراده كان يجد أمامه خصوماً لا يتنازلون له إلا مرغمين ركروازيه، الديمقراطيات القديمة ص308 لهذا كان سعي الشعب إلى جهة الحرية بطيئاً جداً، لكنه كان موجوداً دائماً لإحساس الشعب بضغط الأشراف عليه، وظهر أخيراً بالمظهر الوحيد الممكن النجاح حيث اضرب الشعب عن الاشتراك في الحرب مقرراً ذلك في اجتماع عقده فوق الجبل المقدس، ولما رأى السناتو ما في الأمر من حقيقة الخطر اضطر للإذعان واعترف بجماعة ممثلي الشعب الذين أعطوا رآسته، والذين كانوا يتكلمون بصوته على أن سلطتهم أول الأمر كانت قليلة حيث كانت ممتدة على الشعب وحده فكانوا يجمعونه ويأخذون رأيه ورأيه لا يكون نافذاً إلا بعد أن يقره السناتو. لكنهم وصلوا أخيراً ليكون لهم من الحق بحيث يستطيعون تعطيل أي قرار تريده السلطة، فلا ينفذ رأيها على الشغب إلا برضاهم، ولما كان ذلك مما يعطل حتماً كل القرارات لجأ هؤلاء الرؤساء إلى استعماله ميل حقوق جديدة لمن يمثلونهم، فكانوا كلما طلبوا للموافقة على أمر جديد عرضوا حقهم في الرفض وطالبوا بحق جديد ليوافقوا على الأمر المعروض عليهم. ومن هذا تدرجوا إلى المساواة بين الأشراف والشعب. وبعد الوصول إلى هاته المساواة السياسية فرغت روما إلى فتوحاتها الخارجية واتسع نطاق ملكها وغلبت قرطاجنة وظهرت بمظهر العظمة الذي يخلده التاريخ لها وتجلت أمام العالم قادرة لم تدنس فيها الأخلاق بعد بالترف، قسمت الأعمال العامة بين أهلها بشكل منتظم، واحترمت القوانين وحفظ الدين الأفراد في دائرة الواجب ودفع شرف الاسم الروماني الناس للعمل الجد والشجاعة الحقيقية وكان نظامها السياسي يومئذ متوازناً بحيث تظهر معه

كل الفضائل وتتلاشى السيئات. فكان القناصل يعملون بكل القوة التي يمكن أن تصدر عن ملك من غير أن يكونوا مستبدين لوجود الرقابة عليهم، وكانت السناتو تدير المالية وترعى السياسة الخارجية وتتمكن بذلك من حد سلطة القناصل كما كانت تنظر في القضايا العامة. ولم يكن دور الشعب بأقل أهمية من ذلك فإنه كان ينتخب القضاة ويقرر مسائل الحرب والسلم. وكانت هذه السلطات كلها مرتبة غير متضاربة ترمى لغرض واحد هو عظمة روما. وهذا الغرض الذي رمت إليه قد بلغته. لكن هذه العظمة نفسها كانت تحمل في ثناياها بذور المرض والفساد. ذلك بأن التوازن في السلطات لم يكن مبنياً على احتفاظ كل منها بحق تعتقده ولكنه كان نتيجة محتومة للمجهودات التي صرفت من جانب الأشراف والشعب للحصول على المساواة السياسية. فلما ترامت أطراف المملكة انهالت إليها الثروة فكان الأشراف أول من يتلقاها بما لهم من تالد العز والثروة، وعلى هذا ابتدأ التوازن يختل وابتدأت المدينة ينخر فيها سوس الترف من جانب الأشراف ويقابله ألم التعس من جانب الشعب، ولم يكن الشعب يقدر لنفسه حقوقاً يريد أن يحتفظ بها حتى يجعلها موضع نظره كما أن اختلاط الأجانب المهزومين بالغزاة الفاتحين جر إلى النتيجة عينها من زيادة فوضي الشعب وضياع نظامه، وبدل ذلك المجموع المرتب الذي كان عضواً عاملاً في عظمة روما أصبح غوغاء أميل إلى التجمهر على غير جدوى من العمل المرتب المنتج وأصبح بذلك ألعوبة في يد كل قوى يغريه بالوعود أو ينثر له المال ويجود عليه بالملذات، وبكلمة أخرى أصبح مستعداً للاستبداد لا ينقصه إلا الحاكم المستبد. ولقد كان قيصر على باب أن ينادي به ملكاً لولا أن عوجل بالقتل، وبعد قيصر بأيام ليست بالطويلة حكمت روما بالاستبداد واستمرت فيه. في تلك العصور دخلت المسيحية بلاد الرومان وابتدأ قانونها يأخذ مكان القانون الروماني أو يأخذه إليه، ومهما كانت هي في أصلها ديانة عبادية صرفة فقد جعلت تمتد وتضم إلى جناحها وتحت سلطاتها المعاملات الدنيوية شيئاً فشيئاً، وحرض رجالها على ذلك ضم السلطة الدينية والسلطة الزمنية في شخص البابا، فكان بما له من السلطان على الملك أكبر مشرع، ومتى أصبح القانون دينياً لم يبق في يد الناس طبعاً أن يشرعوا لأنفسهم، لهذا

يدخل إلى نفوسهم شيء من معنى الاستسلام والتواكل واعتقاد بالجبر غريب، وتطمئن نفوسهم إلى شيء من الذل، فإذا وجد صاحب سلطان قوي وجد منهم خضوعاًَ وطاعة، ولقد كان ذلك شأن الأمم في القرون الوسطى، واختلطت هذه الطاعة للسلطان بالطاعة لأوامر الدين حتى أصبحت تعتبر جزءاً من الدين وأصبح الملك مستمداً سلطته من الله. ولهذا لم تكن برلمانات الزمن القديم وخصوصاً في فرنسا برلمانات تشريعية بل كانت هيئات قضائية تعرض عليها المسائل لتحكم هي فيها على حسب ما تأمر به القوانين التي وضعها ممثل السلطة العليا وهو الملك. وإن مراجعة تاريخ القرن الخامس عشر لتدلنا على أن الأمة لم تكن لتستدعى في شيء إلا في أوقات القحط والإفلاس حين كان يحس الملك من نفسه العجز المطلق عن الإحسان في الحكم. وظل الأمر كذلك إلى سنة 1614 ومن بعدها استبعدت الأمة من المناقشات إلى بزوغ فجر الثورة الفرنساوية. أما إنكلترا فلم يكن الحال فيها على ما كان عليه في القارة ويظهر أن عزلة هذه الجزيرة عن باقي أوروبا كانت ولا تزال سبباً في إعطاء سكانها شخصية ثابتة معينة لا يجدها أهل أوروبا القريبة كل أمة فيها لتتأثر بما يقع في الأمم الأخرى. وهذا هو الذي يجعلنا نفسر إسراع الإنكليز على ما هو معروف عنهم من المحافظة ليهبوا إلى طلب الحرية قبل أن يجول ذلك بنفس أية أمة أخرى. ولكأنهم سرت إليه العدوى من نظامات الرومان القوية بعد أن ارتكست روما في درك الاستبداد وتورطت في حمأة الترف من جانب الأغنياء وفي رجس المذلة من جهة الفقراء فنبهت الإنكليز هذه العدوى ليقوموا مطالبين تحديد تصرف الملك المطلق. ولقد وصلوا فعلاً في عهد إدوارد الأول ليكونوا برلماناً تألف من مجلسين مجلس للنواب وآخر للوردات على نظام السناتو ومجلس الشعب. وكان مجلس اللوردات يومئذ صاحب الحول الأكبر. ثم توالت الأيام بعد ذلك حتى جاء شارل الأول وأراد أن يعبث بالنظام الحاضر ويستبد بالملك وادعى لنفسه الحق الإلهي في الحكم هنالك ثارت إنكلترا ثورتها الكبيرة التي ظهر فيها أوليفر كرومويل بمظهر الرجل المريد والتي انتهت بقطع رأس شارل الأول بعد أن أخذت منه عهدة بحقوق الأمة الإنكليزية. وما كان أشبه هذه الحركة بما حصل في روما. تحزب الأشراف أول إلا مرضد الملك وتمكنوا بما لهم من السلطات على عامة اشعب أن يسثيروه معهم بإظهار مظالمه وإدعاء

الميل للعدل. فلما ثار معهم وأسقطوا سلطة الملك قام من بينهم كرمويل مستبداً بالسلطة ممتهناً حقوق البرلمان ناسياً فضل الشعب. ولما كانت الحرية يومئذ لا تزال في مهدها لم تمتلئ بها النفوس لتكون بذلك على استعداد دائم لدفع كل معتد عليها ولما أن البلاد نالها جهد شديد من أثر هذه الحروب رضخت لسلطة هذا الرجل الذي كانت تعد فيه صديقاً لها. ومهما تكن فترة السكون هذه طبيعية كالتي تعقب كل رجة شديدة فإن ما لاش فيه أن نفوس الأغلبية يومئذ كانت لم تبلغ من التحفز إلى جهة الحرية درجة عليا. بل كانت آثار الحركة الدينية لا تزال ذات أثر مستقر في القلوب غطته حركة الثورة التي استثارها الظلم الشنيع فلما خفض من ذلك الظلم بعض الشيء ظهر ذلك الأثر من جديد وبانت للعالم نتائجه. على أن إنكلترا لها بما نادت به يومئذ من الأفكار أكبر الفخر. فإنها كانت تنادي بالحرية السياسية من رق الملكية المطلقة في حين كانت أوروبا لا تزال تموج بالدماء من جراء الحروب الدينية التي قامت على أثر ما أعلنه لوثر وكلفني وأعوانهما من حركة الإصلاح الديني. وإذا كانت هذه الحركة نفسها وامتدادها إلى إنكلترا عن طرق كسوث وأخذ كرومويل وأعوانه بنصرتها مما ساعد إلى حد كبير على تحرير الأفكار من ربقة الوهم وتقويض ما دعمت به ملكية يومئذ وجودها من أساس الحق المقدس فإن تعدي الإنكليز نطاق الحركة الدينية البحتة وخروجهم بالفكرة إلى دائرة حياة البلاد السياسية أمر يستدعي الإعجاب. ومن ذلك اليوم ظلت إنكلترا تتقدم في طريق الحياة النيابية ويرتقي برلمانها على قواعد أرستقراطية متينة حتى وصل إلى النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وفي هذا النصف ابتدأت المبادئ الديمقراطية تجد إليه مدخلاً. وذلك لأن إحساس الشعب خرج من المحافظة القديمة وهبت عليه من جهة القارة نسمات جديدة بعثت بها المبادئ التي أعلت الثورة الفرنساوية شأنها - مبادئ الحرية والإخاء والمساواة. من هذا التطور الذي أوصل البرلمان الإنكليزي إلى موقفه الحاضر يظهر لنا أن جماعة الإنكليز ساروا على نظام التدرج المتتابع من حكم الفرد إلى حكم الأرستقراطية وهاهم يتقدمون إلى حكم الشعب بخطى واسعة. وكانوا في سيرهم يتأثرون بما يقع في الأمم الأخرى فيأخذونه إليهم ولكنه يدخل إلى جزيرتهم رويداً رويداً ويأخذ دائماً في دخوله الصبغة الإنكليزية. ولهذا كانت حركاتهم في التقدم من أيام كرومويل إلى اليوم دائمة الحياة

ولكنها كذلك كانت دائمة الهدوء مالكة روعها هي أشبه شيء بحركات الرجل القوي العاقل مملوءة نشاطاً ومملوءة رزانة. ولسنا ندري إذا كانت إنكلترا ستقدر على أن تتخطى الأزمات الحاضرة التي هي فيها بمثل ذلك النشاط وتلك الرزانة المتين عرفهما لها التاريخ أو أن شيئاً جديداً دخل إلى جسمها وربما يغير من نظامه. قدمنا أنه بينما كانت إنكلترا ثائرة ضد ظلم الملك كانت أوروبا مخضبة بدماء المجازر الدينية غير ملتفتة إلى سلطة الملك السياسية ولا مهتمة لها. وكان الملك هو كذلك متحزباً مع أهل مذهب علي أهل مذهب آخر. وكأنما فرغت الأمم يومئذ من كل همومها الدنيوية فانصرفت إلى هم الدين تريد أن ترتب ما يضمن لها سعادة الدارين وكأنها كانت دائمة الجزع للمستقبل الغير المعروف فتلهت بالنظر في أمره عن النظر في أمور دنياها. واستفاد الملوك طبعاً من ذلك المركز وتعززت سلطتهم المطلقة ووجد استبدادهم المجال فسيحاً ليظهر بأقسى مظاهره. لذلك كانت الحركة النيابية معدومة أو تكاد ولم تهتم حكومات ذلك الوقت بالالتجاء إلى رأي المجموع الأسني القحط والضنك. وساعد على بقاء هذا الاستبداد الملكي أن جماعة الأشراف كانوا هم الآخرون في مركز ملوط يحكمون اقطاعاتهم الواسعة بمثل الاستبداد الذي يحكم به الملك الأمة. لهذا ولأن الشعوب كانت لا تزال مرتكسة في الجهالة ولأن الإحساس بالحرية لم يكن وجد في النفوس السبيل بقيت الفكرة النيابية غريبة عن أوروبا كل تلك العصور الوسطى. لكن تلك الحال لم يكن من شأنها أن تدوم. فإن سلطة الملك وصلت إلى حد من الاستفحال غير معقول، كما أن الحركات الدينية هدأت بعد القرن السادس عشر وفكر الناس في الحياة المطمئنة. وابتدأت الحركة الاقتصادية تنمو على أثر هذا الهدوء وتزيد في فخامة سلطان الملك. ولقد كان أكبر ملوك القرن السابع عشرة لويس الرابع عشر ملك فرنسا. فلما رأى عظمة سلطانه وامتداد ملكه وأبهة جلاله أفسح لنفسه مجال الترف وضم الأشراف إلى جانبه فتركوا مقاطعاتهم واستحبوا القربى منه وتوسلوا بالزلفى إليه وإلى محظياته لينالوا عطفه ورضاه. تركوا مقاطعاتهم ونزلوا فرساليا حيث قصره الفخيم وتركوا بذلك لمن دونهم من أصحاب الأطماع وعشاق السلطة أن يبث في الناس روح الحزبية ضد هؤلاء الملوك الجزئيين. وتعاون هذا الداء مع الأدواء الأخرى التي تلزم الاستبداد حتى يتسع ملك

سلطانه. كما ابتدأ الاتصال الذي أوجدته ضرورات الوقت الاقتصادية بين القارة وإنكلترا ينقل إلى أمم أوروبا صور الأفكار والنظامات الإنكليزية ويبعث إلى النفوس شيئاً من معنى الاعتداد بذاتها وطلب الاعتراف بوجود شخص لها وبالتالي الملال من هذا الحكم المستبد الجائر. وتعاونت الأسباب الداخلية والخارجية وابتدأت تظهر على النظامات الاستبدادية علائم القلق والاضطراب. وساعد على ظهور نتيجة هذه الأسباب كلها أن الملك العظيم لويس الرابع عشر كان قد أغرق في الاستدانة ليستزيد إلى حد الخيال من ملاذ الترف ويزيد ما أمكن في أبهة ملكه وجلاله. ونتيجة الاستدانة في البلاد المحكومة بالاستبداد زيادة الضرائب إلى حد يجهد أهلها. ومتى كان ذلك أحس هؤلاء الأهالي بالضغط وابتدأوا يضجرون من الحكم وينادون ضده. وذلك هو ما حصل. وهذا الضجر شجع الأسباب الأولى على أن تنتج نتائجها. وكان ذلك كله أساس الثورة الفرنساوية. بعد حكم لويس الرابع عشر وفي مبتدأ ظهور نتائجه ابتدأت عدوى النظامات الإنكليزية تنتقل للقارة بشكل واضح. وكانت هذه النظامات قد بلغت يومئذ في رقبها مقاماً محموداً. استتب النظام النيابي على قواعد أرستقراطية ثابتة وقامت حكومة أبوية تلحظ الشعب بعين الرعاية كما يراقبها الشعب وهو يقظ لما تعمل مستعد للتمسك بحقوقه عند الحاجة. وانتقلت هذه العدوى من طريق المكاتبة الخاصة بين الأفراد أولاً ثم من طريق الملاحظة العامة والنشر. ولقد تشبع بمبادئها جماعة غير قليلين من كتاب فرنسا في القرن الثامن عشر وأكبر هؤلاء مونتيسكيو وبمجموع الملاحظات التي عمل وضع كتابه روح الشرائع، ضمنه نظام الحكومات وقرر فيه قاعدة فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وظهر مع كتابه عدد من الكتب الأخرى أخذت منه بعض الشيء وأظهرت ملاحظات أصحابها كذلك في القسم الأكبر منها. ومن أهم تلك الكتب وأكثرها أثراًَ كتاب العقد الاجتماعي الذي وضعه جان جاك روسو، وإذا كان المقام الآن لا يسع تقرير المبادئ التي وصفوا فإن نتيجة ما كتبوا تهمنا هنا جداً. ذلك بأنها قررت بشكل صريح وواضح معنى الحرية على معنى ما نفهمها به الآن. إطلاق قوى كل فرد في حدود الإضرار بالغير. ولقد كان روسو أظهر أثراً من مونتسكيو لأنه كان من عامة الشعب وكان ذا روح مملوءة

ثورة وخروجاً على قواعد جمعية يومئذ وكان ذا أسلوب في الكتابة مملوء لوناً وقوة. أما مونتسكيو فكان من طائفة الأشراف كما كان ذا أسلوب علمي هادئ. لهذا لقيت كتابات روسو رواجاً وانتشاراً، وزادها رواجاً أنها لقيت من جانب الحكومة معارضة شديدة. كما أن نظام جمعية القرن الثامن عشر الذي قام على أنقاض نظام جمعية لويس الرابع عشر من وجود صالونات العائلات الكبيرة واجتماع الكتاب والعلماء في هذه الصالونات زاد أفكار روسو انتشاراً وجعل خطابه عن عدم المساواة وآرائه في الحرية وثورته ضد الملكية والأشراف مضغة في الأفواه وموضعاً للنقد وللتحبيذ من جانب فولتير ودلمبير وعدد كبير غيرهم. ولقيت هذه الروح الثورية أرضاً مستعدة لاستقبالها لما ترك القرن السابع عشر بعده من الآثار التي قدمنا ذكرها. وما كادت الأسباب تتهيأ حتى قامت الثورة الكبرى في فرنسا طاحنة شنيعة تنادي بأجمل المبادئ فأسقطت الملك والأشراف وأقامت حكومة الشعب بأكمل معانيها. فلم يك شيء يتم إلا بالانتخاب ولم يك مرجع إلا صوت الأمة. ونقشت كلمات الحرية والإخاء والمساواة في كل مكان واحتلت من القلوب حباتها. وازداد حدب الناس على هذه الحقوق إلى حد مخيف وصاروا يخشون عليها كل موضع ظنه. ولا يعرفون إلى إعلائها سبيلاً إلا بالقتل وإراقة الدماء. هذه النفوس الملتهبة الشيقة للعظمة والحرية قضت على حرية أشخاص كثيرين وعلى حياتهم أشبه بسيطة ومقابل ذلك كانت ترفع من تعتقد فيه الإخلاص لها والصدق في العمل إلى مقام الملوك وانتهت بأن رضيت أعظم رجالها ملكاً عليها وأسلمته مفاتيح الحكم،. ذلك الرجل هو نابليون. وقام هو مخوفاً مستبداً دائساً تحت قدمه معاني الحرية طامعاً في الإمبراطورية العظيمة - إمبراطورية العالم أجمع. وأنتج عصره من المبادئ والآراء مالا يزال الأكثر منه خالداً تشخص له الأبصار معجبة مقدسة. ولكن هذه المبادئ جميعاً تلاشت في حكمه وفنيت أمام عظمة سلطانه وهمدت الحرية بعدما أحدثت رجتها الهائلة وبعد أن انتشرت مع الجيوش الفرنسوية في أنحاء أوروبا. لكن هذا الهمود كان وقتياً. ولم تمض بعد نابليون إلا سنين قلائل حتى ثارت فرنسا من جديد محتجة على اغتصاب حقوق نالتها بثمن غال من الدماء والأرواح وكان ذلك في

سنة 1848. وسرت عدوى هذه الثورة إلى أنحاء أوروبا وحركت من نفوس أهلها جميعاً وظهرت بذلك حقوق الأمم واضحة قوية وقامت الديمقراطية تأخذ المكان الأول وأصبحت حقوق الشعب مقدسة لا تمس لا استثارات أصحابها، وإلا ردت الغاصب على عقبه. ـ 5 ـ لما ابتدأت فرنسا فتوحاتها من بعد الثورة الفرنساوية على يد نابليون كانت مصر من بين البلاد التي توجهت إليها أنظار ساسة ذلك العصر. فجاءها نابليون بجيشه وبطائفة من علماء بلاده معه. ولما نزلوها أرادوا أن يقيموا شيئاً من آثار مبادئ الثورة الفرنساوية بين ربوعها فألفوا مجلساً يمثل طوائف الأمة المختلفة وينظر في أمورها الداخلية. ولاشك أن إيجاد هذا المجلس يعد من باب حسن السياسة في الاستعمار فإن حكم الأمم أمر غير يسير لتباين ما بين المستعمر والمغلوب من الأخلاق واللغة والعقائد. فلأجل أن يكون هذا الحكم على شكل غير مشوش يجب أن يستعين الحاكم الغالب بجماعة من بين المغلوبين ليرشدوه إلى طريق السلطة على أهل بلادهم. وتؤلف هذه الجماعة طبعاً على النظام الذي يفهمه ذلك الحاكم في بلاده. لذلك ألف نابليون ومن معه هذا المجلس الجامع لمختلف الطوائف في مصر. ألفوه في حين كانت البلاد أبعد ما يكون عن الإحساس بالحاجة إليه لطول ما توالى عليها من ظلم الأتراك والمماليك. لذلك ما لبثوا أن انجلوا عنها حتى انحل عقد المجلس ورجع الحال إلى نصابه القديم. ولطول ما ألف الناس الخضوع لم يفكر أحد في اغتنام فرصة وجود الفرنساويين وجلائهم ليسعي في إدخال فكرة الاستقلال إلى البلاد. بل لقد استقبل محمد علي ومن معه بصفتهم مبعوثي الباب العالي على الرحب والسعة. وبوصول هذه البعثة العثمانية أبدأ عصر الدسائس فجاهد جماعة المماليك من ناحية ومحمد علي من ناحية ليكسبوا عطف العلماء وبالتالي عطف الأمة. ولم يجل بخاطر أحد من أهل تلك الأمة أن يلقي دلوه في الدلاء وأن يدس مع الدساسين ويرمى بمطمعه إلى ما كان يرمي إليه أحد الفريقين وكأنما صدقت في مصر يومئذ نظرية أفلاطون من أن هناك قوماً خلقوا ليحكموا وجماعة خلقوا ليكونوا محكومين. وانتهت هذه الدسائس بولاية محمد علي برضي العلماء وبمذبحة المماليك وأرسل محمد علي إلى السلطان يخبره أن عبيد الباب العالي قبلوه ملكاً عليهم. ورأت

حكومة تركيا أن لا مناص من الاعتراف برأي جماعة العلماء فأقرته في الملك واستتب له الأمر وحكم على أرقى نظامات الاستبداد فجعل الأرض كلها ملك الحكومة وما على الأرض من بني آدم ونعم يتبعها طبعاً. وتمكن بذكائه المفرط وحسن حظه وبمعونة من استوفدهم من أوروبا ليعينوه بعلمهم في حكم ملكه الجديد من توسيع ذلك الملك وإعلاء شأنه. وعلى الرغم من نظام الاحتكار الذي أوجده فقد تسني له من طريق المجهودات الصناعية التي أدخلها أن يبعث إلى البلاد حياة وحركة اقتصادية لم تكن تعرف من قبل. وعلى العموم كان حكمه حكم المستبد الذكي ولم تكن الأمة تعرف لنفسها أي حق. وولى من بعده إبراهيم وعباس وسعيد ولم تكن ولايتهم ذات شأن إلا فيما يتعلق باتفاق سعيد مع المسيو دلسبس على إنشاء قناة السويبس. ثم جاء إسماعيل بأفكاره الجميلة التي أراد البلاد عليها. فلما لم تتمكن من السير معه تركها وجعل هو يعمل ما يخيل له أنه حسن. وأحاط به جماعة أقاموا أنفسهم مشيرين له. ولقد كانوا أغلب الأمر ذوي أطماع شرهة أكثر من أن يكونوا مخلصين محبين للمصلحة العامة. فزينوا لإسماعيل أن يتوسع في أعماله مكبرين له ثروة البلاد على مقياس لو دقق هو في ملاحظته لعلم أن فيه من الغلو والإغراق مالا مثيل له. وتوسع في الأعمال وتوسع على أثر ذلك في الاستدانة وأثقلت الحكومة الأمة بالضرائب. والشعب المصري هو دائماً ذلك الشعب الهادئ المستسلم الكثير الاحتمال. فلما زاد الدين عن النصاب الممكن لحال البلاد الاقتصادية على ما كانت عليه من الفوضى يومئذ أن تقوم بسداده علت ضجة الدائنين من الأوروبيين في سنة 1875 وطلبوا من أممهم التداخل. هنالك فكر إسماعيل في أن يلجأ إلى أمته هو الآخر وأن يؤلف من بين أهلها مجلساً يعرضه لأورا ويتقى به خطر النقد المر لشخصه. فألف مجلس شورى النواب وجعله يجتمع ليصادق على أعمال المليك المطاع الكلمة. ولم يكن هذا المجلس إلا شورياً بحتاً فقد كان على حسب نص لائحته إلا في الأمور التي ترى الحكومة أنها من خصائصه فيدرسها ويبدي رأيه فيها للحضرة الخديوية فينظر فيه المجلس الخصوصي وتتذاكر فيه الأقلام والقومسيونات ثم يعاد إلى مجلس الشورى ويرجع أخيراً إلى الجناب الخديوي وهو صاحب الأمر فيه، فإذا كان الجناب الخديوي على ثقة من أن هذا المجلس سيوافق دائماً رغباته ويقر أوامره ويرى رأيه فإنه يحفظ لنفسه الحق في أن يكون له الأمر الأخير حتى

إذا صادف من باب الاستثناء أن خرج المجلس على أمره كان خروجه عبثاً غير مطاع. وأدرع إسماعيل بالمجلس ضد تداخل أوروبا وحاربها به زمناً لكن قناصل الدول الأوروبية كانوا يعتدون أن هذا المجلس صورة عملها إسماعيل لخدمته لا تجيب شيئاً من أطماع الأمة التي كانت في نظرهم دائمة الأنين من عمل الخديو ودائمة الطاعة لكل متسلط لذلك استمروا في محاربة إسماعيل حربهم الشعواء والتجأ هو في سنة 1878 لتأليف الوزارة النسئولة التي ضمت بين وزارتها أوروبيين هما المستر ريفرس ولسن والمسيو دبلتير والتي كانت عليه أكثر مما كانت له. ومن الأسف أن الأمة كانت أبعد ما يكون عن أن تفكر في كل هذه الحركات السياسية بل كانت تعتقد بسلطان الخديو المطلق اعتقادها بسلطان القوى السماوية وترى أن أسلم الطرق عاقبة التسليم له بكل ما يطلب وطلب رضاه دائماً. ومهما يكن من جهاد إسماعيل للاستنجاد بها في هذه المدة الأخيرة فإن أخلاق الضعف والخوف لم تكن تسمح لها بنصرته مع أن موقفه كان ادعي ما يكون للنصرة. واستحسن هو ذلك منها فلم يلجأ لمعاكسة أوروبا إلا بمسائل شكلية نظرية صرفة وبمجلس شورى النواب الذي لم يكن ذا حول مطلقاً فلما بلغت معاكسة أوروبا حداً قصياً لجأ إلى الباب العالي بطلب نجدته. فأجاب الباب العالي طلبه بأن عزله وولى مكانه ابنه توفيق. وكان توفيق أميراً مستقيماً حسن المقاصد كامل الأخلاق مقتصداً لكنه كان لا يستطيع أن يتصرف في المركز العسير الذي وجد فيه (ريسنييه، مسألة مصر ص179) لذلك لم تلبث حركات القلق وعدم الرضى عن حال الحكم إن ظهرت بعد أن كانت مستترة خائفة في حكم إسماعيل. وابتدأت الفتنة العسكرية في سنة 1880 وكبرت رويداً رويداً حتى صارت الثورة العرابية. وتحت هذا الاسم طالب رؤساؤها حاكم البلاد بأن يسلم الأمة مفاتيح الحكم ويشرع لها مجلساً نيابياً كامل السلطة، وكبرت هذه الفكرة وامتدت وتألف حولها حزب وطني يناصرها. وأقرها توفيق ووضع لمصر برلماناً نيابياً بالمعنى الكامل وحسب القائمون بالحركة أنهم وصلوا إلى كثير مما يبتغون وانتظروا اجتماع مجلسهم وحياته الطويلة التي أملوا أن تبعث للبلاد إحساساً كاملاً بمعنى الحرية وحباً متناهياً لها يقتضى الاستماتة في الدفاع عنها. لكن آمالهم مع الأسف لم تلبث أن انكسفت أمام حوادث الثورة وهزيمة العرابيين في التل الكبير وبدأ احتلال الإنكليز للبلاد في سنة 1882.

ولما هدأت الثورة أوفد إنكلترا اللورد دفرن سفيرها في الآستانة يومئذ ليدرس أحوال البلاد وليضع لها نظاماً حكومياً. ولم يلبث دفرين أن قدم تقريراً طويلاً حكم فيه بموت مجلس النواب الذي عقد في سنة 1881 وبإحياء النظام الذي انقضى أجله صيف سنة 1913 والذي كان مؤلفاً من مجالس المديريات ومن مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية. ولم يكن رأي أي من هذه المجالس قطعياً في أية مسألة من المسائل. بل وضعت أولاً للغرض الذي وضع له المجلس الذي عقده الفرنساويون سنة 1898 أي لمساعدة الحكام في الحكم وثانياً لتكون صورة تحركها الحكومة على ما تحب وتجد من هذه الحركات ما تلهي به أنظار المتطلعين من أنصار الإنسانية من أهل أوروبا. وفي هذه السنين ابتدأت الصحافة تنتشر في مصر وتذكر الناس بالحرية وتعلمهم معانيها وقام من بين من قصدوا للصحافة أو كتبوا فيها رجال نوابغ هزت كلماتهم البلاد وأدخلت إلى نفوسنا الميتة شيئاً من الإحساس بالحياة وشوقاً وتطلعاً للحرية. وساعدت الحوادث هؤلاء الرجال ونما بذلك هذا الإحساس وطالبت البلاد مطالبة هادئة بأن تشترك مع الحكومة في الحكم وأن تكون ذات رأي قطعي فيه. وأسمع المتكلمون حكومة مصر وحكومات العالم المتمدين صوت هذه الأمة. وعلى أثر كل هذه المجهودات فكرت القوى الحاكمة في أن تجيب هذا النداء وكان أثر هذا التفكير القانون النظامي الحاضر الذي أنشأ الجمعية التشريعية. اهتمت الأمة لهذا القانون قدر ما يستحق وكان كل اهتمامها موجهاً لانتخاب الأكفاء من الرجال. وفعلاً انتخب جماعة ذووا كفاءة عالية وعقل راجح وصوت مسموع ترجو أن يبعثوا إلى أمتنا من روحهم ما تزداد معه شوقاً للحرية وتلهفاً على جهتها وأن يسيروا وإياها إلى الحكم الديمقراطي الكامل. إلى هنا انتهينا من مر النظر سريعاً على تطور النظامات النيابية من جهة تكوين معنى الحرية على مختلف العصور وفي مختلف الأمم بالقدر الذي يسمح ليكون مقدمة لما سيكتبه البيان عن حياة النواب الذين شرفوا كرامى الجمعية التشريعية. // محمد حسين هيكل

صفحة من سيرة عمر

صفحة من سيرة عمر كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثال الإمام العادل. فقد كان تقياً زاهداً ورعاً وقد كان شديد السياسة لا يحابى أحداً ولا يراقب شريفاً مشروفاً. وقد كان يلين في موضع اللين ويقسو في موطن القسوة. وكان جريئاً في التشريع ومن ذا الذي يفهم أسرار الشريعة الإسلامية أكثر من عمر، وهو الذي جعل الطلاق الثلاث في لفظ واحد طلاقاً باتاً بعدما كان كالطلقة الواحدة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر بالصديق وصدر من خلافته. وهو الذي أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله تحتها بيعة الرضوان في عمرة الحديبية لأن المسلمين بعد وفاة النبي كانوا يجيئونها فيصلون فيقيلون تحتها فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها ثم أمر بها فقطعت. وقال المغيرة بن سويد خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ولإ يلاف قريش فلما فرغ رأى الناس يبادرون إلى مسجد هناك فقال ما بالهم قالوا مسجد صلى فيه النبي والناس يبادرون إليه فناداهم فقال هكذا هلك من كان قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل ومن لم تعرض له صلاة فليمض - ونحن ذاكرون هنا طرفاً من نوادر هذا الإمام العظيم لعل فيها عبرة لمن اعتبر. روي الزبير بن بكار قال لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق وصامت فكتب إليه: أما بعد فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك ولا كان لك مال قبل أن استعملك فأني لك هذا فو الله لو لم يهمني في ذات الله إلا من اختان في مال الله لكثر همي وانتثر أمري ولقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك ولكن قلدتك فاكتب إلي من أين لك هذا المال وعجل، فكتب إليه عمرو: أما بعد فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين فأما ما ظهر لي من مال فأنا قدمنا بلاداً رخيصة الأسعار كثيرة الغزو فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها ووالله لو كانت خيانتك حلالاً ما خنتك وقد أئتمنتني فإن لنا إحساباً إذا رجعنا أليها أغنتنا عن خيانتك وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين باباً ولا فتحت له قفلاً فكتب إليه عمر: أما بعد فأني لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شيء ولكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال ولن تعدموا عذراً وإنما تأكلون النار وتتعجلون العسار وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة فسلم إليه شطر مالك

فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاماً ودعاه فلم يأكل وقال هذه تقدمة الشر لو جئتني بطعام الضيف أكلت فتح عني طعامك وأحضر لي مالك فأحضره فأخذ شطره فلما رأي عمر وكثرة ما أخذ منه قال لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزررات الديباج فقال محمد أيها يا عمرو فعمر والله خير منك وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار. ولولا الإسلام لألقيت معتلفا شاة يسرك غزرها ويسوءك بكؤها قال صدقت فاكتم على قال أفعل. قال الربيع بن زياد الحارث كنت عاملاً لأبي موسى الأشعرى على البحرين فكتب إليه عمر بالقدوم عليه هو وعماله وأن يستخلفوا جميعاً فلما قدمنا المدينة أتيت يرفا حاجب عمر فقلت يا يزفا مسترشد وابن سبيل أي الهيأت أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فأومأ إلى بالخشونة فاتخذت خفين. مطرقين ولبست جبة صوف ولنت عمامتي على رأسي ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه فصعد بصره فينا وصوب فلم تأخذ عينه أحداً غيري فدعاني فقال من أنت قلت الربيع بن زياد الحارث قال ما تتولى من أعمالنا قلت البحرين قال كم ترزق قلت ألفا قال كثير فما تصنع به قلت أنفوت منه شيئاً وأعود بباقية على أقارب لي فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين قال لا بأس ارجع إلى موضعك فرجعت إلى موضعي من الصف فصعد فينا وصوب فلم تقع عينه إلا على فدعاني فقال كم سنك قلت خمس وأربعون فقال الآن حيث استحكمت ثم دعا بالطعام وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش وقد تجوعت له فأتى بخبز يابس وإكسار بعير فجعل أصحابي يعانون ذلك وجعلت آكل فأجيد وأنا أنظر إليه وهو يلحظني من بينهم ثم سبقت مني كلمة تمنيت لها أنى سخت في الأرض فقلت يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني ثم قال كيف فقلت يا أمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم ويطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز ليناً وباللحم غريضاً فسكن من غربه فقال أههنا عرب قلت نعم فقال يا ربيع إنا لو نشاء إلانا هذه الرحاب من صلائق وسبايك وصناب ولكن رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ثم أمر أبا موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابيث.

وكان عمر رضي الله عنه يعس بالليل فسمع صوت رجل وامرأة في بيت فارتاب فتسلق الحائط فوجد امرأة ورجلاً وعندهما زق خمر فقال يا عدو الله أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصيته قال يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت فقد أخطأت في ثلاث قال الله تعالى ولا تجسسوا وقد تجسست وقال وأتو البيوت من أبوابها وقد تسورت وقال إذا دخلتم بيوتاً فسلموا وما سلمت. ذكر عمرو بن العاص يوماً عمر فترحم عليه وقال ما رأيت أحداً أتقى منه ولا أعمل بالحق منه لا يبالي على من وقع الحق من ولد أو والد أني لفي منزلي بمصر ضحى إذ أتاني آت فقال قدم عبد الله وعبد الرحمن ابنا عمر غازيين فقلت أين نزلاً قال في موضع كذا لأقصى مصر وقد كان عمر كتب إلى إياك وأن يقدم عليك أحد من أهل بيتي فتجيزه أو تحبوه بأمر لا تصنعه بغيره فافعل بك ما أنت أهله فضقت ذرعاً بقدومهما ولا أستطيع أن أهدى لهما ولا أن آتيهما في منزلهما خوفاً من أبيهما فو الله أني لعلي ما أنا عليه وإذا قائل يقول هذا عبد الرحمن بن عمر بالباب وأبو سروعة يستأذنان عليك فقلت يدخلان فدخلا وهما منكسران فقالا أقم علينا حد الله فأنا أصبنا الليلة شراباً فسكرنا فزبرتهما وطردتهما وقلت ابن أمير المؤمنين وآخر معه من أهل بدر فقال عبد الرحمن إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت عليه أنك لم تفعل فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر وعزلني فنحن على ما نحن عليه إذ دخل عبد الله بن عمر فقمت إليه ورحبت به وأردت أن أجلسه في صدر مجلسي فأبى على وقال أن أبي نهاني أن أدخل عليك إلا أن لا أجد من الدخول بداًَ وإني لم أجد من الدخول عليك بداً أن أخي لا يحلق علي رؤوس الناس أبداً فأما الضرب فاصنع ما بدا لك قال وكانوا يحلقون مع الحد فأخرجتهما إلى صحن الدار وضربتهما الحد ودخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن إلى بيت من الدار فحلق رأسه وحلق أبا سروعة والله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان وإذا كتابه قد ورد من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي عجبت لك يا ابن العاصي ولجراءتك علي ومخالفتك عهدي أما أني خالفت فيك أصحاب بدر ومن هو خير منك واخترتك وأنت الخامل وقدمتك وأنت المؤخر وأخبرني الناس بجراءتك وخلافك وأراك كما أخبروا وما أراني إلا عازلك فمسى عزلك ويحك تضرب عبد الرحمن بن عمر في داخل يفتك وتحلق رأسه في داخل بيتك وقد

عرفت أن في هذا مخالفتي وإنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين ولكن قلت هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عز وجل فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع قال فبعثت به كما قال أبوه وأقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما وكتبت إلى عمر كتاباً اعتذر فيه وأخبرته إني ضربته في صحن الدار وحلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه أنه الموضع الذي أقيم فيه الحدود على المسلم والذمي وبعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر فذكر اسلم مولى عمر قال قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما فدخل عليه في عباءة وهو لا يقدر على المشي من مركبه فقال يا عبد الرحمن فعلت وفعلت السياط السياط فكلمة عبد الرحمن بن عوف وقال يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد مرة فلم يلتفت إليه وزبره فأخذته السياط وجعل يصيح إنا مريض وأنت والله قاتلي فلم يرق له حتى استوفى الحد وحبسه ثم مرض شهراً ومات.

باب تدبير المنزل

باب تدبير المنزل (إلى الزوج) ويليم كويت من كتاب إنجلترا المعدودين، وساستها المشهورين، ونقادها الأشداء، كان معاصراً للشعراء بيرلون وكولوريدج وسكوت وشلى، وتوفي قبل تتويج الملكة فيكتوريا بعامين. وكان ذلك عام 1835، وقد ولد من أبوين فقيرين. فكان فقر الوالد مدعاة له على الكد والسعي، وسلك نفسه في الجندية عام 1780. ثم عاد فخرج من الجندية بعد ثمانية أعوام من دخوله، وأخذ من ذلك الحين يكتب في السياسة فكان من أشد المحافظين في أول الأمر، ثم انقلب من أشد الراديكاليين، وحمل حملة شعواء على مذهب الجمهورية في فرنسا ومذهب الديمقراطية في أميركا، وأنشأ عام 1800 صحيفة سياسية يومية، ولكنها لم تلفح فعطلها، على أن لم ينشب أن أصدر صحيفة أسبوعية سياسية استمرت حتى وفاته، وكانت في بادئ أمرها على مبدأ المحافظة، ثم صارت من أشد أعداء الحكومة وخصومها، وحوكم مرتين على شدة تهكمه ومطاعنه على بعض رجال الحكومة الإنجليزية، ثم حوكم مرة أخرى بدفع غرامة، مقدارها ألف جنيه وسجن عامين. وكذلك مضى يفر من انجلترا ثم يعاودها، ويصدر صحيفة ثم يعطلها، حتى رشح للنيابة في البرلمان ولكن سقط في الانتخاب بادئ بدء، ولكنه عاد فظفر به، على أنه لم يظهر في البرلمان مقدرته، ثم ضعفت صحته حتى لقى ربه في الثالثة والسبعين من عمره. أما أسلوبه فما شئت من بيان ووضوح، وما طلبت من خفة وروح، وكان في النقد والتهكم شديداً جريئاً، وكان المعاصرون من الكتاب لا يجترئون على الحكم في أسلوبه أو التعرض لنقد مقاله، خشية من شدة قلمه وهيبة من حدة كلمه، وكان آخر الدهر ثابتاً على مبدئه، فما أيد رأياً إلا ووقف حياته على تأييده، ولا مدح أمراً إلا ومضى على مديحه، وما هجا خصماً إلا وانطلق آخر الحياة في هجائه، وكان صديقاً للشعب ونصيراً، يطلب للجائعين شبعاً، وللمرأة كساء، وللقواعد ملجأ، ولليتامي عائلاَ، وللمظلومين عدلاً. ونحن نختار لهذا الكاتب الكبير فصلاً جليل الشأن في موضوعه. نقتطفه من كتابه نصائح للشبان وهو الفصل الخاص بنصيحته إلى الزوج، فعسى أن يتدبر شباننا وشوابنا قوله، وينتصحوا بنصيحته، ويعملوا بقواعده، لأن أغلب ما جاء فيه يكاد يكون موقوفاً على

وصف الأدوية الناجعة لدرء المرض الاجتماعي الذي يعمل في جسم الأمة المصرية، وكرب أن يصبح عضالاً، ونعنى به أحجام الشبان عن الزواج. وسوء حال المتزوجين وفساد لأسرة. وإن في هذا المقال لعبرة للمعتبرين. سلوكك في المعيشة الزوجية. هو العامل الأكبر في سعادتك وهناء عيشك. ولكن ذلك يتوقف على كيفية بدنك. فإذا كنت قد أحسنت الاختيار - ولا أظنك إلا قد فعلت - فاعلم أن المرأة الشابة الصالحة تصبح امرأة سوء وأما خبيثة. إذا كان زوجها رجلاً ضعيفاً خواراً. وفظاً غافلاً: ومتلافاً مبذراً. وشريراً فاجراً. لأن ما في الزوجة بعد تربيتها وأميالها الطبيعية يكاد يكون جميعه من عمل زوجها. فأول واجب عليك: مهما كانت حالك من عسر أو رخاء. أن تعرف زوجتك ضرورة القصد في النفقة، وتريها وجوب ارتقاب ذرية ضعفاء. وأفراخ ينبغي لهم الحضانة والكفالة والتربية: وإن لذرارى المستقبل لحقاً عليها في الاشتراك معك على الإدخار لكل هذه التكاليف: ونحن لنا الحق في إنفاق أموالنا وأرزاقنا كما نشاء ونحب، وصرف أنعمنا ومتاعنا كما نريد ونطلب. على أن هذه لا تكون ملك يميننا إلا إذا فضلت على ديوننا، هذا من الوجهة القانونية، أما من الوجهة الأخلاقية فأنا مع زواجنا نعقد قرضاً مع ثمرة هذا الزواج ونتاجه، ومن ثم ينبغي أن يكون إنفاقنا من الاعتدال بحيث يلائم مركز الزوجين في الحياة. والضرر الأكبر أن تبدأ باستخدام خادمة أو خدمات، فإذا كنت في ثراء نضير وعيشة راضية، أو كان عمل البيت شاقاً يحتاج إلى معونة الخادمة، فبحسبك خادمة أو خادمتان، أما إذا كانت خدمة الدار لا تطلب إلا يدين اثنتين، فليت شعري لم تكون أربعة، ولاسيما أنك لا تستطيع أن تستخدم اليد دون الفم، بل وما هو مثل الفم في التكاليف والأذى، وأعني به اللسان. فإذا أصبحت يوماً رب بنين وأطفال فأنت إذ ذاك ملزم أن تطلب ردحاً من الدهر عون الخادمة، أو خدمة الحاضنة، ولكن ما حاجة زوجة العامل أو المزارع أو التاجر (إلا إذا كانت الأسرة كبيرة) إلى عون الخادمة وإذا كانت الزوجة شابة فتية، فلم لا تعمل وتجد مثل زوجها، وأي عدل هناك في طلبها إليك أن يكون في بيتك امرأتان لا واحدة. إنك لم تتزوجهما معاً، ولكنهما إذا تلازما وتشابها فقد تزوجتهما فعلاً، ولو نجوت بنفسك من

جريمة الجمع بين الزوجين، فإنك عرضة لأشد نتائجها خطراً وويلاً. ولعمري لا تستخدم الخادمة إلا بأجور غير تافهة، وهي مع ذلك تجلس إلى الزوج والزوجة. وتسمع كل كلمة تدور بينهما، أو بينهما وبين أصدقائهما وأين أن تكم فاها، أو تسكت لسانها، وإذا كانت الخادمة أجمل من الزوجة وأسحر من السيدة وما أكثر ما يحدث ذلك فإنها ستعرف كيف تجيب على النظرات والرنوات التي لابد أن تلقاها من ذلك الذي تدعوه بسيدها دعابة وهزؤا.، وهذا لعمرك الجمع بين الزوجين في أتم أشكاله ومعانيه، ولكن رتواتك إليها لا تكفيها ولا تغنيها، فهي تطلب دفؤاً وموقداً، وهي تروم فوق جمره وفحمه نوعاًَ آخر من الدفء، وضرباً آخر من النار. . . وإن كانت لا تستغني عن الفحم، ولا تتخلى عن الوقود. وإنها لتنعم ملك بالمأكل والكن، ومع ذلك تمنى النفس بنار الحب، ونحن إلى أجيج العشق. ووجود خادم واحد شر من وجود خادمين أو خدام، فإن من حسن حظ سيدهم ومولاهم أنهم لا يتفقون ولا يتواتون، وأكثر ما يثقل عبء الزواج على أعجز الناس حملاً له، أشباه الكتبة ومن يحاكيهم لأن زوجاتهم يحسبن أنهن خليقات بأن يعشن عيش الأميرات، لأن عمل رجالهن في نظرهن خفيف لا رهق فيه ولا نصب ولكن رحمة الله لهؤلاء المساكين، نعم أن عملهم ليس بالشاق الجاف ولكنه لم يخرج عن كونه عملاً بل وشغل ساعات طوال فيها من الكد والعناء ما فيها، ولا نجد معدل دخلهم يربى على ضعف دخل النجار أو البناء أو الحائك. وفضلاً عن ذلك فإن الزوجين ينفقان على طعامهما وشرابهما أقل مما لو تخدما خادماً، ومهما تكن زوجتك من الاعتدال في النفقة والقصد. فإن اقتصادها لا يجديها كبير نفع لو اتخذت جارية لها، إذ ليس في مكنتكما أن تقتصدا مع بقاء الخادم، وملازمة هذا الحائل، حتى وإن اجتمعتما على ضرورة الاقتصاد. بل لا تستطيعان أن توفرا عليكما شيئاً يكون تعلة لأيام النفقة المقبلة فليت شعري لم أذن تجلب إلى دارك مثل هذه المتعبة. وتجعل زوجتك عليها حارساً ورقيباً. بل لم تقلقها، وتقطع عليها خير مراميها، وصالح مقاصدها وتفسد عليها خلقها، وتمر عليها حلاوة طبعها. أجل ليت شعري لم تأتي هذا الأمر المنكر الطائش؟.

ذلك لأنك تريد أن تجري في عيشك مجري المودة الفاسدة، وتتبع طراز الناس، أو لخجل فيك كاذب وزهو غير محمود، لعلك تقول ليس في وسع الزوجة أن تنهض بخدمة الدار وشأنها، يا سبحان الله!، وكيف يكون ذلك، أتعجز المرأة اشابة العبلة أن تطهو الطعام، وتغسل الثياب، وتحيكها أو ترفوها، وتنظف البيت وتتعهده، وتهيئ مهاد زوجها ومهادها، أصلحك الله، وكيف إذن قدرت على الزواج، إن لم تكن جلبت إليك ثروة كبرى، أو كنت غير ذي ثروة. إذن فاسمع ما أدلى به إليك. . إن الدخل الصغير لا يضع الزوجة المخدمة والزوج المختدم في مستوى واحد. أما إذا عمل البيت أشق في الحقيقة على الزوجة الفتية وأتعب لها وأكثر رهقاً. أو خفت عليها منه، وأشفقت أن يضعف صحتها، أو يذوي حسنها، فلك حينئذ أن تتردد، على أن العمل ليس من المشقة والصعوبة بحيث خفت، بل أنه ليحفظ صحتها، ويكسبها روحاً ونشاطاً، ويصون جمالها. وإنك لتسمع الفتيات يغنين وهن يغسلن الثياب حتى يسأمن الغناء، ولكنك لا تسمع لهن غناء، ولا يبلغ مسمعيك منهن تغريد، وهن آخذات فيما يسمين بشغل الإبرة. وفي نساء الأمريكان أسوة حسنة، ومثال طيب إذ لا يأخذهن ذلك الزهو الكاذب الذي يمنع آلافاً من الزوجات في إنجلترا مما تتطلبه المنفعة الزوجة، وتدعو إليه الحكمة والسداد، وتحث عليه حتى أميالهم الخصوصية، فترى الأميركيات دائبات لا عن حاجة ولا عن إكراه وكيف يكون الإكراه، والأمريكان أعطف أهل الدنيا قلوباً. وأحدب أهل الأرض أفئدة. وأليهم خلقاً، وإنك لتراهن في الريف يقمن بخدمة لدار. فإذا أتممنه عجن على البستان أو الحقل، يزرعن الشجر ويشذبنه ويقطعن الكلأ وينقلنه، ويعملن في الأرض ويحرثن، ويجمعن الأثمار والأعشاب. وكل ذلك في جو لا يخف المرء فيه للعمل خفته له وهو في إنجلترا وهن يجنين من ذلك ويستفدن، إذ يتحفهن أزواجهن مما اقتصدوا لهن ووفروا، وما أندي يد الأمريكي في مثل هذه الحال، وما أخفه إلى تكريم زوجته وإتحافها. ثم يجب أن تعنى بسمتك ومظهرك أمام الزوجة الشابة، فإن العجائز من الأزواج والثيبات قد فلت الأيام من غربهن، وأطفأت من جذوتهن، حتى لا يكسر قلوبهن تقطيب من زوج، ولا يثير شجنهن تجهيم من بعل، أما الشابة الحدثة الغفل فعلى النقيض من ذلك. وأعلم أن

أول تجهيمة منك سيف إلى قلبها، وسهم إلى جوانحها، وكذلك أرادت الطبيعة أن يصبح الرجال أقل شغفاً وصبابة بعد ليلة العرس، وأن تكون النساء على العكس يزداد حبهن ويتعاظم وجدهن، وأعجب ما فيهن أنهن حديدات البصر، مستطلعات دخائل القلوب، نافذات إلى أعشار الأفئدة، فإذا وضعن أول طفل. انقسم هذا الوجد قسمين فقسم للأب وقسم للابن، وأنت قبل هذا موضوع هذا الحب بحذافيره، فإذا طمحت إلى السعادة فنشدتك الله إلا ما بادلتها هذا الحب، وتجنبت كل ما يغضبك من الناس، ويسلبك بشرك وطلاقتك. ودع كل ما يغضبك منها أو يحبسك عن السرور والتهلل واجعل عباراتك وألفاظك ونظراتك كما كانت قبل أن تسميها زوجتك. وأظهر لها في كل حين حبك وإعجابك، لا بالتودد الفارغ ولا بالتحبب المتكلف، كأن ترفع عن الأرض منديلها أو قفارتها، أو كأن تحمل عنها مروحتها أو مظلتها، ولا بأن تنوط بعنقها القلائد، وتحبوها بالعقود والقلب والحلي، ولا بأن تكلف البلاهة والحمق فترنو وعليك سمة السرور إلى هنأتها وهفواتها ومناقصها، ولكن عليك أن تبدي دلائل الحب في أفعالك، وسمات الحنان في طيب معاملتك، وأظهر لها في أفعالك مبلغ اهتمامك لصحتها وحياتها وراحتها وهنائها، واجعل مديحك إياها يشمل جميع فضائلها، والتزم الصدق في المديح والتأثير حتى تعتقد أن لا إطراء فيه فإن الرجل الذي شأنه أطلق لزوجته إنما يعد أذنيها الاستماع ملق الناس وخداعهم ونفاقهم، واجعل أفعالك وأقوالك تحمل لها في كل ساعة وحين ضماناً على أنك تقدر صحتها وحياتها وسعادتها قبل كل شيء، وأظهر لها ذلك في أبين مظهر، ولاسيما في أزمنة الشدة، وساعات البلاء. كانت داري أول عهدي بالزواج بمدينة فلادلفيا، وإن شئت فقل على مقربة منها ففي يوم من هاتيك الأيام، في صميم شهر يوليو القائظ، أصاب زوجتي بعد نفاسها أرق طويل، فما أخذت جفنيها إغفاءه، ولاران على عينيها الكرى مدة يومين كاملين. وأنت تعلم أن المدن الكبرى في البلدان الحارة والأقطار المصيفة أكثر ما تكون مملوءة بالكلاب، فإذا اشتد القيظ في الليل سمعت لكلاب المدينة عواء منكراً، ونباحاً طويلاً، وعراً كالجبا ففي تلك الليلة التي أنا بصددها، اشتد عواء الكلاب، حتى ليشق على امرئ صحيح الجسم غير موجع ولا عان، أن يظفر بالإغفاء لحظة وجيزة، وإني لجالس في فراشي، وكانت الساعة التاسعة، إذ

قالت زوجتي إني لأستطيع الآن نوماً، لو لم يكن عواء هذه الكلاب، فما كان مني إلا أن نزلت مسرعاً درج السلم وانطلقت في الشارع، في قميص وسراويل، عاري القدمين، لا نعل ولا جوارب، وانحرفت إلى ناحية من الطريق عند ركام من الأحجار، وجعلت أقذف بها هذه الكلاب، وأعدو في أثرها، حتى أبعدتها عن الدار بمسافة طويلة وكذل قضيت تلك الليلة بجملتها عاري القدمين، خشية أن يبلغ أذنيها صوت وقع نعلى، وكان اجر الطريق من وديقة الحر لذاعاً موجعاً، ولكن مجهدتي هذه أحدثت الغرض المبتغى، والمقصد المطلوب، إذ هنأ النوم زوجتي ساعات طوالاً، فلما كان الصباح انبعثت إلى عملي، وما كنت أعود منه إلا إذا أذنت الساعة السادسة من المساء. وما كنت يوماً بالذي يتبع ظل امرأته، ويمشي في أثر زوجته وقلما تنزهت معها، ولو فعلت لما كان لمجرد المماشاة والمتابعة، بل لمقصد غير المشي وطلبة غير المتابعة، بل لمقصد غير المشي وطلبة غير المتابعة، وأنا فوق ذلك رجل ضرب لا أحتمل الهوينا ولا أحب المشي الوئيد وهيهات لها أن تجاريني في مشيتي، ولم نمش معاً في الأربعين عاماً من زواجنا إلا مرات معدودات، ولعمري أنني رجل أبغض الزوج التابع لزوجته المماشي لها، إذ أغده خادماً أكثر منه زوجاً. واعلم أن أكبر دليل على أنك تحبها هو أن تهب لها فراغ وقتك وخلوات ساعاتك فليت شعري ماذا عسى يقال في زوج اعتاد أن يترك داره ويغادر أهله وموقده، طالباً صحابة له في الحان أو القهوة. وقد نبئت أنك فلما تلتقي في فرانة طولها وعرضها، شرقها والمغرب، بزوج لا يصرف المساء في القهوة أو الحن، وإني ليحزنني أن أقول أن كثيراً من الأزواج في هذا البلد ينضجون في هذه المنقصة على منوال الفرنسيين، فترى لهم أندية الشراب، وأندية التدخين وأندية المغنين، وأندية الميسر وأندية المزاح والهزل، والحال لا مبرر هناك لهذه ولا موجب. وهي سخف وحماقة وسفه في الأغراب. فكيف بالأزواج. وماذا هم قائلون لنسائهم وأبنائهم في هذا النجافي عن مراقدهم، وهذا الهجر لبيوتهم، وهذا الخفر لعهد الزوجات. وهذا المثل السيئ للأبناء. إن في هذا لمستجمع النكبات ومستجم البلايا، وأول هذه النكبات الرزء في المال وفاتحتها

السرف في النفقة، وإن ما يضيع في هذه السبيل من دخل الرجل لكاف - لو اجتمع لإدخار ثروة طيبة لولد من ولده، ثم يأتي من بعد ذلك تلف الصحة من جراء ملاهي الليل وطوفانه، ثم المشاجرات والمشاحنات، فاعتياد خبيث الكلام ومستر ذله فالسعاية بين الناس، فاستحسان النكتة الفاحشة، والمزحة المستبردة. فاستخفاف بكل رزين. وسخرية من كل وقور. وهل ترى الزوج المتجافي عن زوجته وأولاده يحسب أنها لا تحذو حذوه في قليل ولا كثير، إنه لو فعل لكان مخدوعاً في أمره. واهماً في حسبانه. إذ لو قلدته مثلاً في الشراب لما كان له عذر في الشكوى ولا شفاعة. وهنا يكون التبذير مزدوجاً. والإنفاق مضاعفاً. وإذا كان في الدار خدم. فهم أعلم ذ ذاك بموعد غيابه. وأوان حضوره. وهم بين الموعدين ومطلقو السراح. يمرحون ويلعبون. وذلك أمر أن لم يكن عدلاً كان طبيعياً. وما أصدق المثل القديم القائل كما يكون السيد يكون خادمه وليس من العدل في شيء أن يخدم السكير الفاجر كما يخدم العزوف المتيقظ المنتبه. ولا عذر إذا رأيت الخدم في غياب المولى آخذين في السمر ولعب الورق والميسر. ولم لا يكون ذلك والسيد قد اختط لهم الخطة وضرب ذلك المثل. وهذه أصلحك الله تجيء بالفسقة من الزوار والفجرة من الأضياف وتعقب الخسائر الفوادح. والتكاليف البواهظ، وتجر فساد أخلاق البنين وعاداتهم. وليس فوق ذلك الأسوء معاملة الزوجة. والناس تؤثر صحبة من تحب وترضى، وتستحب مخالطة من ترى في مخالطته أكبر السرور وأعظم البهجة ولكاني بمن يصرف فراغ وقته وغفلات عيشه. في صحبة غير زوجته ومجالسه غير بنيه. يقول لهم إنه يرى الغبطة في مجالسة الناس ولا يراها في مجالستهم. وترى الأبناء يبادلون آباءهم على ذلك استهتاراً واستصغاراً. أما الزوجة الخفيفة الرقيقة الفؤاد فإما أن تكون هذه الفعال سيفاً في حشاها. وسهماً في كبدها. وأما غضبه الانتقام، أو فترة لاقتصاص. وحسبك أنه ضرب من الانتقام لا يعز على المرأة الشابة ولا يطول. وما على الذين استهدفوا لنشر هذه العادة واستناموا لها إلا أن يذكروا ما جاء في كتاب فاركيهار - خدع العاشقين - إذ قالت السيدة (صالن) لخادم اتخذته عاشقاً لها وخليلاً. إن زوجي يأتي الدار بعد منتصف الليل مترنحاً منثنياً فيرتمي فوق السرير بجانبي كالسمكة العظيمة في شبكة الصائد. يهدم نظام فراشي ويزفر أبخرة الشراب في وجهي ثم

يلتوي في أضعاف اللحاف. ويتركني بين ملتحفة وغير ملتحفة. ويسمعني حتى الصباح صوت ذلك البلبل المغرد. . . منخاره! ولئن كان هذا الضرب من الانتقام شديداً غليظاً. فإنية لو قعدت مقاعد القضاء لما كان حكمي على السيدة إلا رقيقاً خفيفاً. إذ بأية سنة أم بأي حق يرتقب زوج هذه حاله أخلاصاً من زوجته ووفاء من بعله. يعد ما خفر ذمة قضاها. ونكث عهوداً أبرمها. وفك آخية عقدها. أم بأية شرعة ترتبط هي بعهدها وتستمسك منه بموقفها، لقد كانت تظن أنها قد بنت بإنسان. فإذا به قد تكشف لها عن إحدى العجماوات. بلى. لم يأت أمراً بخدش قانون البلاد. أو يهتك حرمان الشرائع. ولكنه نقض العهد الذي به امتلكها. واليمين التي بها تزوجها. ومن ثم فإن العقد الذي بينهما في نظر العهد مفسوخ. والرباط مفكوك.

كشكول البيان

كشكول البيان (تفاريق علمية - وأدبية - وتاريخية - وفلسفية - وأخلاقية - وفكاهية - ونظرات في سير مشهوري العالم - وشذرات في أخبار العالم وأحداثه الحاضرة). آدم سميث (شيخ الاقتصاديين) ولد آدم سميث في الخامس من يونيه سنة 1723 بمدينة كركلدي من أعمال اسكوتلندا. ومات أبوه - وكان مديراً للجمارك في هذه المدينة - قبل ولادته ببضعة أشهر فكلفته أمه وحدها وقامت على تربيته. ولما كان ضعيف البنية وهو في سن الطفولة ازدادت أمه عناية به. ودأبت في السهر على راحته. والقيام بكل ما يحتاج إليه. وما كان سميت ليجحد نعمة أمه عليه بل قابلها بالشكر والحنان والرأفة والطاعة وكل ما يمكن للابن عمله إزاء أمه مدة ستين سنة طويلة. ويروى أنه خطف في سن الثالثة من عمره إذ كان ذاهباً لزيارة خال له في بلدة استراشنري في صحبة أمه إلا أن الله لم يشأ أن يحرم العالم من شيخ الاقتصاد السياسي وواضعة فسرعاه ما افتقد واقتفى أثر الجانبين فرد إلى أهله. تلقى سميت دروسه الأولية بمدرسة كركادي وكان يمنعه ضعف صحته من الاشتراك مع إخوانه في ألعابهم يومذاك. وكان محبوباً لديهم مشهوراً بشغفه بالكتب وركونه إلى الهدوء والسكون ومخاطبته نفسه منفرداً وكثرة تفكيره حتى لقد كثر ما كان يذهب فكره عن الجماعة وهو بينهم جالس. ولبث بكركادي حتى سنة 1737 ثم ألحق بجامعة جلاسكو ومكث بها ثلاث سنوات وانتقل منها إلى أكسفورد حيث درس على أساتذة جامعتها سبع سنوات متوالية. وكان شديد التعلق بالرياضيات والفلسفة الطبيعية مدة وجوده بجلاسكو إلا أن أمياله تغيرت عن انتقاله لأكسفورد فتحول ميله إلى الأديان والعلوم الأخلاقية والسياسية وكثيراً ما كان يشغل نفسه بالترجمة من اللغة الفرنسية قصد تحسين عبارته وإجادة أسلوبه. وحدث وهو بأكسفورد ما أظهر أمياله الشخصية فإن رؤساء الجامعة دخلوا حجرته ذات يوم على غير علم منه فوجدوا لسوء حظه على مكتبه رسالة في الطبيعة البشرية لهيوم فحرموه من الكتاب بعد أن أوسعوه تأنيباً على قراءته مثل ذلك الكتاب الذي تكلم فيه

صاحبه عن الأديان بطريقة توافق واجب احترامها والحرية التامة في الكلام عليها وبحثها. ولما عاد من أكسفورد سنة 1747 وقد كان ذهب إليها ليهيء نفسه للاندماج في سلك القسس مكث بكر كادي مسقط رأسه مع أمه سنتين. ثم استوطن أدنبره بعد أن غير قصده فعدل عن دخول الكنيسة لاحتوائه البحث في الديانات وكرهه بيئة القساوسة وشغف بدرس الآداب ودفعه بعض أخوانه وخلصائه في أخريات سنة 1748 إلى إلقاء محاضرات في البلاغة والأدب ففعل وكان يحضرها جم غفير من طلبة الحقوق والدين وإنه وإن عز الآن وجود شيء من هذه المحاضرات إلا أن شهادة معاصريه من الأساتذة ومن قرأوا عليه تدلنا على أنها كانت غاية في الجودة والمتانة وكثير منهم رجع إليها في حياة سميث ولا ننسى أن نذكر أنها كانت الأولى من نوعها في اسكتلندا (أيفوسيا) حتى أن الجامعة لما رأت ميل الناس لسماع أشباه هذه الموضوعات عينت أستاذاً لها سنة 1760. وقد كسب من وراء هذه المحاضرات طيب الأحدوثة وساعده ذلك ووساطة بعض أصحابه في نيله رتبة أستاذ للمنطق بجامعة جلاسجو سنة 1751 ثم رقي في السنة التالية إلى مركز أستاذ الفلسفة الأخلاقية وكانت هذه الوظيفة أوفق لأميال آدم سميت واستعداده الطبيعي. وقد ساعدته الأبحاث التي استدعتها هذه الوظيفة إلى إنضاج معلوماته وأفكاره الخاصة هذا وقد كان سميت يعد الأيام التي قضاها في دراسة الفلسفة الأخلاقية من ارغد أيام حياته وأهنأ زمان عيشه. لأنه كان يقضي أغلبها في درس موضوعات كانت بطبيعته مشغوفاً بها وقسم دروسه هذه إلى أربعة أقسام الأول منها يبحث في الدين الفطري وأدلة وجود الآلة وصفاته. والثاني درس فيه الأخلاق وتكلم فيها عن آرائه التي ضمنها كتابه نظرية الأميال الخلقية والثالث درس فيه بتوسع الجزء الخاص بالعدل والفضاء وعلاقة الخلق متبعاً في ذلك طريقة منتسكيو التاريخية والرابع درس فيه الأنظمة السياسية التي لم يراع العدل عند سنها بل روعي فيها من وجهة ثروة الحكومة وقوتها مثل الأنظمة الدينية والعسكرية التي كانت من أهم موضوعات كتابه ثروة الأمم. وبدأ سميث حياة التأليف بمقالين أرسلهما نقلاً إلى مجلة أدنبرة ضمن الأول نظره في قاموس الدكتور جونسون وهو من أشهر كتَّاب الإنجليز والثاني خطاباً لمدير المجلة فيه

بعض ملحوظات على أدب الأمم الأوروبية المختلفة وهذا يدلنا على سعة إطلاع سميث في وقت كان درس أدب اللغات الأجنبية فيه مطرحاً. وفي سنة 1759 أخرج للناس كتابه (نظرية العواطف الأخلاقية) وكان قضى وقتاً طويلاً في تأليفه والعناية به. وعلى الرغم من أن أكثر نظرياته التي ذكرها في كتابه هذا دحضها بعده كثير من الفلاسفة كروسو وغيره فإن ذلك لا يحط من قيمة الكتاب من وجهة الآراء وتعدد الأمثلة والشواهد ورقة التعبير وجزالة الأسلوب ولا يزال معدوداً من أعظم كتب الفلسفة والأخلاق في الأدب الإنجليزي. وقد أكسبه هذا الكتاب شهرة عظيمة ورفع مكانه في أعين المشتغلين بالموضوعات الأخلاقية والفلسفية. وعدوه من أعظم علماء الأخلاق وأبلغ الكتَّاب حتى أن فولتير كان ينفذ إليه بعض الطلبة ليقرؤا عليه دروسه. ثم أن سميت بعد طبع كتابه توسع في الكلام على الجزئين الثالث والرابع من محاضراته الخاصين بالمسائل القانونية والاقتصادية والمالية فأجمع مجلس إدارة جلاسكو على منحه لقب دكتور في الحقوق اعترافاً بفضله وشكره له على الموضوعات المفيدة والأبحاث الجليلة التي يلقيها في الجامعة. وقد أفاده كتابه السابق الذكر فائدة أكبر مما سبق وذلك أنه لما عم ذكر اسمه بالمدح والثناء وذاع صيته دعته الكنتيس أوف دلكيث سنة 1763 لمصاحبة ابنها الدوق في سياحته إلى القارة الأوروبية مانحة إياه في الوقت نفسه شروطاً حسنة جعلته لا يتردد في إجابة طلبها والاستقالة من جامعة جلاسكو وابتدأ رحلته ميمما فرنسا يصحبه تلميذه سنة 1764 فقصدا باريس وبرحاها بعد أربعة أيام وذهبا إلى طولوز مقر البرلمان يومئذ ومكثا بها ثمانية عشر شهراً درس سميث في خلالها آداب فرنسا وحالتها السياسية والاقتصادية وتركاها إلى جنيف حيث مكثا لمدة شهر هناك التقى في غضونه بفلتير إذ كان يقطن فرثي في ذلك العهد ثم قصدا باريس ومكثا بها زهاء عام تمكن سميث في خلاله من الاجتماع بكبراء الفرنسيين أصحاب العقول الراجحة والآراء السديدة التي كان لها الأثر الأكبر في كتاباته ونعني بهم ده كسنى وترجو عزاء الفيزوقراطيين أصحاب المبادئ الحرة.

وقد كان لهم عنده منزلة عظيمة حتى أنه كان يوده أن يهدي كتابه ثروة الأمم إلى ده كسني لو لم يحل موت الأخير دون ذلك. وفي سنة 1766 رجع سميث إلى لندن في رفقته تلميذه دوق بيكلك وانتقل منها إلى عهوده الأولى بكر كلدي حيث أقام عشر سنوات يحوطه السكون وترفرف حوله الدعة والراحة عشر سنوات خالية من المشاغل والمتاعب قضاها في الدرس والتحصيل وتأليف كتابه الكبير (ثروة الأمم) ولم يكن عمله هذا شاقاً بل دفعه إليه حبه لهذا الموضوع فكان عملاً لذيذاً يدلنا على ذلك كتاب بعث به إلى صديقه دافيد هيوم سنة 1767 جاء فيه يشغلني هنا الدرس في موضوع توفرت عليه منذ شهر وليس لي من سلوة إلا النزهة منفرداً والمشي طويلاً على ضفاف البحر ومن ذلك يمكنك أن تحكم كيف أقضي أوقاتي على أني أشعر بالسعادة واللذة وصفاء الذهن وما أظنني نعمت بأيام أسعد من هذه وإنك لتحسن إلى لو كتبت من آن لآخر تنبئني عما يفعله إخواني في لندن أليس في هذا دليل كاف على أن المؤلف يدفعه إلى عمله لذة خاصة ومحرك آخر غير عامل المال والشهرة؟. ولبث سميت على تلك الحال إلى سنة 1776 إذ بدء عصر جديد في تاريخ الاقتصاد السياسي والعلوم المالية والاجتماعية والسياسية ـ. عام ظهور كتاب ثروة الأمم ظهر الكتاب فلم ينشب أن انتشر وسرعان ما ترجم إلى جميع اللغات الأجنبية في مؤلفه والسبب في ظهور كتاب سميث على غيره من الكتب وانتشاره راجع إلى: [1] القيمة الأدبية الكبرى التي كانت لكتابات سميث كما مر ذكره. [2] أن آدم سميث اقتبس أفضل آراء من سبقه من العلماء ومما استفاده بالخبرة أو وصل إليه بالدرس ومن معاشرته للفيزوقراطيين أثناء إقامته بباريس سنة 1765. وليس لنا أن نفحص كتاب سميث ونأتي على كل ما ذكره فيه بل نكتفي بذكر أهم المسائل التي تؤثر عنه وما قبل فيها. تكلم على تقسيم العمل فقال يلزم أن يقسم كل عمل من الأعمال إلى أجزاء صغيرة يختص كل عامل بجزء منها وبذلك تحصل على الفوائد الآتية: [1] مهارة العامل في حرفته وسهولة العمل عليه لاختصاصه بشيء قليل يمكن إجادته بسرعة.

[2] مهارة العامل تؤدي إلى سرعته في عمله وبذلك تقتصد كثيراً من الوقت. [3] إن كثيرين ممن يختصون بعمل من الأعمال يهتدون إلى اختراعات تسهل عليهم مشاق العمل وبذا تكثر الاختراعات المفيدة واستشهد لذلك بصناعة الدبابيس فقال إن عمل الدبابيس قبل تقسيم العمل كان شاقاً وما كان العامل يصنع أكثر من عشرين دبوساً في اليوم مهما كان مقدار مهارته وحذقه - أما الآن فبفضل تقسيم العمل أصبح صنع الدبابيس من أيسر الأمور ولا بصير السلك دبوساً قبل أن يمر بأيدي عشرة من العمال على الأقل فعامل بعد السلك وآخر يقومه وثالث يقطعه إلى أجزائه الصغيرة ورابع يحدد (أو يجدد) طرفه وخامس بعد الطرف الآخر ليضع الرأس عليه ولا توضع الرأس قبل أن يعمل فيها ثلاثة من العملة على الأقل وعلى ذلك يقول إنه رأى مصنعاً صغيراً به عشر رجال أمكنهم أن ينجزوا بالتضامن صنع نحو 48000 دبوس أي أن معدل عمل الواحد منهم 4800 مع أنه لو اشتغل منفرداً لا يستطيع إنجاز عمل أكثر من 20 كما قدمنا. ولم يخف على سميث المضار التي تنشأ من تقسيم العمل فذكر مضاره مثل: [1] جهل العامل المختص بشيء واحد بسيط بكثير من الأمور الاجتماعية الخاصة بحياته وصعوبة وجده عملاً يعيش من روائه لو أمكن الاستغناء عنه أو كثر أمثاله. [2] بلادة العامل وانتقاله من الإنسانية إلى الوحشية لا نكافه على عمل خاص ولكنه رأى أن الفوائد تربى على المضار فحكم بوجوب اتباع المبدأ ووصف علاجاً لبعض المضار التي ذكرناها وهو التعليم الأولى المجاني الإجباري حتى يصير عند العامل المعلومات الكافية لفهمه ما يدور حوله وما يجب عليه فعله بعد عمله اليومي. وكان سميت أول من خطأ الفيزوقراطيين في مبدئهم الأول وهو أن الأرض المنتجة الوحيدة للثروة فقال إن أحداث الثروة يعتمد على العمل ورأس المال اعتماده على الأرض وخيراتها ولو أنه ترك للأرض المكان الأول وقد زاد الأستاذ مارشال هذه العوامل الثلاثة عاملاً رابعاً هو التنظيم فللمنظم أو المدبر دور مهم غير دور العملة ورأس المال والأرض. وخصص سميث جزءاً كبيراً من كتابه للكلام عن السياسة التجارية الحرة قد حض فيها رأى المركانتايلست وهم القائلون بعدم ضرورة النجارة الدولية وأنها تقلل من ثورة المملكة فبين أن التجارة يلزم أن تكون حرة لا تعوقها عوائد جمركية ولا خلافها وبني ذلك على

نظرية تقسيم العمل السباقة الذكر قائلاً إننا إذا ما اتبعنا السياسة الحرة إنما بإكراه كل مملكة على الاشتغال بالعمل الذي وضعتها الطبيعة له أي التي تحسنه أما بمنح الطبيعة ميزة فيها على غيرها أو بعادة قديمة موروثة. . . فالمملكة التي يكثر فيها الحديد والفحم تكون صناعية والتي هي غنية التربة كمصر لا تحترف بغير الزراعة وهنا يلزمنا أن نذكر شيئاً عما أثر في سميث حتى أخذ بالتجارة الحرة ونشرها فنقول أنه عاش في جلاسجو البلد الصناعية الكبرى معاشراً كثيراً من رؤساء المصانع فيها دارساً النظامات المقيدة للصناعة من جماعات عمال وقوانين تخرج (أوتمرن) وضرائب على الصادرات والواردات فأثر كل ذلك فيه تأثير دعاه لأن يكون شديد الحملة على التقييد ثم أنه ذهب إلى فرنسا وبه ذلك البغض للنظامات الصناعية والتجارية الموجودة فاجتمع مع الفيزوقراطيين وأدى ذلك إلى زيادة رسوخ المبدأ عنده فقال أنه ما دام الإنسان لا يخرق قوانين العدل فينبغي أن يترك وشأنه باحثاً عن منفعته التي وجدها ومزاحماً للناس بماله وحذقه وبعبارة أخرى أنه ينصح بعدم تداخل الحكومة في المسائل الاقتصادية. ويظهر لنا أن الأيام تعمل على تحقيق مبدئه هذا فقد قرأنا في الجرائد أخيراً أن الطيارات ابتدئ في استعمالها لتهريب البضائع الممنوع دخولها بين بلجيكا وفرنسا. وأنه ليصعب بل ليستحيل على الحكومات مراقبتها. وسيأتي يوم تضطر فيه الحكومات إلى رفع الأعمال الجمركية من اختصاصها. وخصص سميث الجزء الخامس من كتابه لدخل الملك والحكومة وهو ما يدخل في بحث علم المالية الحديث وله فيه أربعة قوانين في موضوع الضرائب لا يخلو منها كتاب مالي: [1] كل فرد يلزمه أن يمد الحكومة على قدر ما يمكنه وبنسبة دخله الذي يحصل عليه تحت ظل الحكومة ورعايتها. [2] يجب دفع الضريبة في الوقت المناسب ففي مصر تدفع ضرائب الأرض بعد جمع محصول القطن مثلاً. [3] يلزم أن يعرف دافع الضريبة مقدارها ويوم دفعها وطريقة ذلك. [4] يجب تقليل مصاريف الجباية جهد الاستطاعة حتى لا يزيد المال المجموع عما دخل في خزينة الحكومة (بعد مصاريف الجباية) قليلاً جداً. وقد مات دافيد هيوم صديق سميث بعد ظهور ثروة الأمم ببضعة أشهر فكتب سميث وهو

في لندن مقالة وصف فيها خلق صاحبه ومدحه مدحاً دعى كثيراً من أعدائه إلى الطعن فيه والشك في عقيدته لكنه لم يعرهم التفاتاً بل تركهم غير مصغ لما يقولون. وفي سنة 1778 عين سميث بمساعدة تلميذه دوق بيكلك مديراً للجمارك في اسكتلندا فعاد ليعيش في جلاسكو متمتعاً باجتماعات أصدقائه الأول وبصحبة أمه وابنة عمه. ويقال أنه كان يصرف أغلب دخله في ذلك الوقت على أعمال خيرية سرية يأتيها بدون أن يعلم به أحد. وفي سنة 1787 عين رئيساً لجامعة جلاسكو فقبل المنصب بالشكر وسر قلبه لذلك الفخر العظيم. وابتدأت صحته في الاضمحلال من ذلك الحين ومما عجل به أسفه على موت أمه سنة 1784 ولها من العمر تسعون سنة وموت ابنة عمه 1788 فمات عقب مرض أنهكه بعد ذلك بسنتين أي سنة 1790 ويقال أنه تحمل مرضه بصبر عجيب أدهش جميع أخوانه وأحزنهم. قلنا في مبدأ الكلام على سميث أنه كان شديد الولوع بالكتب وقراءتها وقد ازداد معه هذا الشغف يكبر سنة وكانت نتيجة ذلك أنه أخلف بعد موته مكتبة هائلة تحوي ما لا يقل عن خمسة آلاف مجلد من الكتب النفيسة القيمة. ومن الغريب أن سميت أوصى قبل موته بأن تحرق كل أوراقه إلا ما أراد بقاءه منها لذلك لا نجد الآن محاضراته التي كان يلقبها بايدنبرغ ولا الخاصة بالخلق والمنطق التي كان يلقبها بجلاسكو. علينا الآن أن نذكر كلمة بشأن ما يقال عن سميث من أنه موحد علم الاقتصاد السياسي وخالفه كما يدعى ذلك بعض الاقتصاديين الإنجليز: إننا لا نجحد أن العلم كان قبل سميث بعض آراء مبعثرة ما جمعت ولا رتبت إلا في كتاب ترجو المسمي التأملات فأخذ سميث عنه بعض الشيء وأضاف عليه أشياء كثيرة من معلوماته وآرائه الخاصة إلا أن الكتاب كما يقول جان بيست ساي الاقتصادي الفرنسي غير منظم به كثير من الحشو. فسميث في الحقيقة ليس خالق الاقتصاد وإنما جامع متفرقه وأول من وضعه في شكل علمي منظم. ألبانيا وأميرها الجديد

إذا كان في طول أوربا وعرضها، مجاهل ومفاوز، فتلك لعمري ألبانيا أجمل مقاطعة في جميع أرجاء القارة الغربية، ولو أنه قد تصرم ما ينيف على مائة عام منذ وصفها المؤرخ الإنجليزي الأوحد إدوارد جيبون بأنها مملكة تشرف على إيطاليا تكاد تكون مجهولة كصميم أمريكا فلم تزدد معلومات الناس عن هذا البلد العجيب ولا عن أهله، وإن طبيعة المملكة الوحشية، وهمجية سكانها وبربريتهم، والفوضى البادية في أنظمتهم الاجتماعية، والصعوبات التي تمنع من تعلم لسانهم، وعجز الولاة العثمانيين عن مساعدة السياح على التغلغل في صميم تلك البلاد، كل هذه الأسباب كانت الحائل دون معرفة هذه المجاهل الغريبة. ولعل لفظة ألبانيا هذه، وتلك التي في بلاد القوقاز، وأرمينيا، والباني في بريطانيا / وأرفينيا في فرنسا. مأخوذة جميعها من مادة ألب ومعناها الهضاب البيضاء. وعدد سكان البابا يقدر بما يربي على مليون ونصف مليون من النسم، ومن هذا المدد نحو من مليون ومائتي ألف من الألبان، والباقي من الصرب والبلغار، والأتراك واليونان، فالصرب يحتلون الجهات الشمالية من البلاد والأتراك يقطنون النواحي الجنوبية الشرقية، وللبلغار مستعمرة كبيرة على مقربة من مدينة دبرة وأخر بدة وفي جنوب هذه المستمرة يسكن قوم في الجبال يسمونهم ولاك وفي أبروس عدد من اليونانيين ليس بالقلييل، ويبلغ عدد سكان ولاية أشقودرة. / 257000 / نفس وولاية يانينا / 000ر552 /. ولعل الألبان هم أقدم أهل الجنوب الشرقي من أوروبا، وليس في التاريخ ولا في الأساطير، ولا في موروث الأنباء ما ينبئ عن كيفية وصولهم إلى أوروبا، ولعلهم سلالة المهاجرين الأقدمين من الآريين وإن العدد الأكبر من الأسماء السلافية الموجودة في ألبانيا حتى في المقاطعات التي لا يوجد بها أدنى أثر للسلافين يدل على كثرة مهاجرة أقوام الصرب والبلغار إلى ألبانيا في أوائل العهد بالقرون الوسطى، ولكن السكان الأصليين طردوا هؤلاء المهاجرين من أرضهم، وبينا ترى شجاعة الجبلين - أهل الجبل الأسود - قد نوه بها كتاب الأرض جميعاً. ترى الألبانيين لا يذكرون بمديح ولا يشهد لهم بثناء ما عدا مديح الشاعر بيرون. على أنه مما يستأهل الذكر والتنويه أن المهاجرين من الألبانيين والشراذم المنثورة في بقاع الأرض، ولا سيما في اليونان وإيطاليا ومصر، لا يزالون

محتفظين بشخصياتهم ومميزاتهم ولغتهم وعاداتهم وأساطيرهم، وترى الألبانيين المستوطنين البلاد الإيطالية واليونانية قائمين كالصخرة الثابتة لا يزعزعهم تيار المدينة الإيطالية ولا يذهب بهم سبلها، على حين مضي على بقائهم بها نحو من ستمائة عام، والألبانيون يسمون أنفسهم شكبنار وأرضهم شكبيريا وقد اختلف المؤرخون في ترجمتها فالمؤرخ هان يقول إنها مأخوذة من شكيبوج ومعناها أنا أعلم وهي إذن تؤدي معنى الذي يعلم وبعضهم يذهب إلى أن مؤداها ساكن الصخر من لفظة شكب ومعناها في الألبانية الصخر. طبائع أهلها ومميزاتهم - من السكان الأولين لشبه جزيرة البلقان من دخل في الجنس اللاتيني فكان لاتينياً، ومنهم من فني في الجنس اليوناني فكان يونانياً، ومنهم من امتزج بالعنصر السلافي فأضحى سلافياً، إلا أن الألبان وقفوا أمام كل جنس من هذه الأجناس، فلم تستطع أن تؤثر على شخصيتهم ولا على جنسيتهم وطبائعهم، ومن ثم فهم مختلفون جد الاختلاف عن سائر سكان شبه الجزيرة، وهم ينقسمون إلى نوعين، النوع الأول يسمى الحج والثاني يدعى النوسك فأما الحج فرغماً من وحشيتهم وهمجيتهم وشيوع الخرافات بينهم وتفشي الجهل فيهم، على صفات بالإعجاب خليقة بالاستحان، بل يندر أن توجد في أهل أوروبا الشرقية، وجملة هذه الخصال السذاجة وطيب القلب والبسالة والأمانة والتضحية وهم في الحرب خير الجنود وأبسل المغاوير، وكثيراً ما استخدمهم سلاطين آل عثمان حراساً لسدتهم وحفاظاً، وكثيراً ما يكونون للسفارات في الشرق حجاباً. وقد كان من تزاوجهم باليونان وامتزاجهم ما أصلح من حالهم وقوي من عنصرهم وكفاآتهم. وهم هؤلاء الفتك والسلب والنهب والرعي. وأما النوسك فهمهم التجارة والزراعة والصناعة. وصفات الأولين العبوسة والكسل والكبر والغطرسة. وصفات التوسك الوداعة والثرة والابتسام. وواجب الانتقام للثأر والأخذ للثرة يتوارثونه كابراً عن كابر ووالداً عن والد. وهو كذلك ورائه في أهل الأسرة الواحدة. وسكان الضيعة الواحدة. وعشائر القبيلة الواحدة. وإن حادثة واحدة لتجر في أغلب الآحايين إلى أحداث كثر وجرائم متعددة وحروب طاحنة بين أهل الأسر المتجاورة، وترى القائل يأوى عادة إلى الجبال مخافة من المنتقم، أو يضرب في داره لا يبرحها الأعوام الطوال. وقد بلغ من هذه الحروب والخصومات والأحن أن عدد من

يموتون موتاً طبيعياً لا يكاد يبلغ 75 في المائة كل عام. وقد يقيمون صلحاً بين القبيلتين المتخاصمتين. وقد يقيمون هدنة أيام. والمفوضون في مثل ذلك هم أهل الدين. وهم يرعون حق الضيف على المضيف إلى الحد الأبعد والغاية القصوى. ولا يجرأ سائح أفاق على التغول في داخلية البلاد إلا بذمة أحد السكان ووساطته. فإذا ضمن من الباني عهداً فهو المرحب به المكرم. وفي بعض الولايات يجعلون حداً مقرراً لثمن الدماء والديات فمثلاً في بلدة أرجيرو كسترو لا تزيد الدية عن (1200) قرش وفي خيماره (2000) قرش. فإذا دفعت الديات وأخذها أهل القتيل عاد الوئام بين الأسرتين واستتب السلام. والألبانيون يوقرون نساءهم وينظرون إليهن بالتبجيل والإكرام حتى ليستعينون بهن في قضاء الصلح بين المتخاصمين وإنفاذ المهادنة بين المتكاشحين. وإن المرأة منهم لتجوب الولاية كلها لا خوف يأخذها ولا خشية. وإن عهداً منها ليحمي السائح. ويرد أمان الخائف. ويسكن سرب الغريب. وهن يرافقن رجالهن إلى ميادين القتال. ليواسين الجرحى ويغمدن جراح المرتشين ويحملن جثث الموتى. ولباس التوسك جد مخالف للباس الحج وأشهر أثوابهم الفستان الأبيض وقد اتخذه اليونانيون حديثاً. والحج يلبسون سراويل حمراء مزركشة بأربطة سوداء وسترة قصيرة ضيقة والأغنياء منهم يزينون السترة بأشرطة من الذهب وكلهم يلبس الطربوش وأهل الشمال يتمنطقون (بالطبنجة) والمسدسات. ديانتهم وشؤون التعليم عندهم - السواد الأعظم من الألبان وهو يبلغ ثلاثة أخماس مجموع السكان يدينون بالشريعة الإسلامية. وأكثر من نصف سكان ولاية أشقودرة من المسلمين. والبانيا الوسطى تكاد تكون بجملتها بلداً إسلامياً وفي الجنوب عدد غير قليل من المسيحيين. أما شؤون التعليم فتكاد تكون مطرحة مهملة وسواد السكان أميون سواء في ذلك المسيحيون والمسلمون وكانت الحكومة العثمانية تمتع الأهلين من التعلم باللغة الألبانية وبذلك لأسباب سياسية. وفي بعض البلدان مدارس ابتدائية وثانونية عثمانية. وفي الجوامع يدرس القرآن. والأسر الكبيرة من الألبان ترسل بنيها للتعلم في مدارس القسطنطينية أو ويانة (فينيا). وفي أشفودرة كلية للجزويت تحت رعاية الحكومة النمسوية. وللفرنسسكان عدة مدارس ابتدائية.

والحكومة الطليانية ترعى شؤون ثلاث مدارس عمومية والتعليم فيها بالطليانية وفي جنوب البانيا عدة مدارس لليونان. وفي يانينا مدرسة للألعاب الرياضية، وأسرات النجار في هذه المدينة على جانب من العلم والتربية. واللغة التي يتكلمون بها في يانيا اليونانية المحرفة. . جئنا بهذه الكلمة مجملة لتستطرد بها إلى وصف أمير الألبانيين الجديد وكيف كان دخوله مقر الإمارة. وحاضرة الملك. بعد ما انسلخت هذه الولاية عن الدولة. في أوائل شهر مارس المنصرم ركب البرنس ولهلم ده ويد - وإن شئت ففل غليوم الأول أمير ألبانيا الجديد - الباخرة طورس من ثغر تريسته يريد دورازو وحاضرة أمارته وفي حاشيته أسطول دولي، يتألف من الباخرة الفرنسية (بروي) والطليانية كوارتو والإنجليزية جلوستر وبذلك بدأ عهداً جديداً تحفه الأخطار، عهد الإمارة، ورعاية شؤون أمة أولية تستحب الفوضى على النظام. وكان قد استقبل قبل ذلك باسبوع في قصره بتويد الوفد الذي جامعن ألبانيا لتقديم التاج إليه، والبرنس كما ترى من صورته في لباس جديد على الزي التركي الألباني، أما الأميرة صوفيا زوجته فقد أعدت لنفسها قبل دخولهما دورازو أثواباً إسلامية. سراويل من الحرير واسعة. وجعلت تستقبل المرحبين والمهنئين وهي جالسة جلسة الأتراك على أنها احتفظت بالزي الغربي وكانت تلبسه تحت برنسها الفروي، وكانت تزين شعرها الفاحم بدرة من الماس وكانت صفراء اللون بهاريته. ولما مثل أسعد مثل رئيس الوفد في حضرة الأمير. كان يدعوه بلفظة موريت ومعناها الأمير والملك معاً ولئن كان الناس لا يزالون في حيرة لا يدرون أي لقب يطلقون على البرنس دمويد اليوم فلعل لفظة موريت تصلح له كما يقولون على فردنياند ملك البلغار تزار وهي لغة في قيصر. وألقى أسعد باشا بين يديه خطبة موجزة أجاب عليها الأمير بمثلها فلما فرغ من خطبته تصافح الخطيبان وشد كل يد الآخر وهما يتناظران. وإذ ذاك هتف الحضور هتافاً عالياً. وقد بالغت حاشية البرنس وبلاطه في إظهار التودد والانعطاف نحو نواب الشعب الأرناؤودي إذ سمحوا لهم يتفقد قصر الأمير وزيارة ضياعه ودعوهم إلى رؤية الصور المتحركة حتى إذا رافقوا الأمير وزوجة من قصرهما بنويد إلى مدينة والدتبرج مثلوا في

حضرة والدي الأميرة ومن هناك انحدروا إلى ويانة ومنها إلى تريستة حيث ارتقبوا وصول الأمير. ولن تمضي بضعة أيام حتى ترى ألبانيا في نظام جديد وستنزل الدول أعلامها الخفاقة فوق أشقودرة. ولم يبق إلا لجنة المراقبة الدولية والجندرمة التي نظمت لحفظ النظام والأمن. ولم يخف البرنس دويدر في خطابته التي رد بها على أسعد باشا أنه لم يقبل التاج فرحاً مبتهج القلب. إشفاقاً من الصعوبات التي تتور مركزه السياسي. وقد كتب كاتب مقالاً طويلاً يصف فيه ألبانيا نجتزئ منه بهذه السطور الآتية إنك لا تلقى في كل ألبانيا كيلو متراً واحداً لا بل ولا متراً واحداً من الطرق الصالحة أو ما يصح أن يقال له كذلك. فليس بها إلا شقوق في الجبال ودروب. وبقاع مستنقعة، وليس في داخلية البلاد إلا بلدان كبيران لهما قنطرتان، وأهل البلاد مشتتون منتشرون ومن الشاق في أغلب الأحيان أخذ معلومات عن الأماكن المأهولة. والنواحي المطروقة وليس فيها حوانيت ولا حانات ولا فنادق بالمعنى الغربي. وإنما ترى هنا وهناك خاناً أو أكثر من خان. ثم انتقل إلى وصف قرى الألبان قال: ودار الفلاح الألباني تشبه أكواخ الزنوج. وفي ألبانيا مثلت القرى كلها مؤلفة من الأكواخ. وهذه الأكواخ يشيدونها من فروع الشجر وأحراش القش. وفي الجهات الجبلية يبنون بيوتاً من الحجارة تشبه من جميع أجزائها القلاع والحصون. وهم يجعلون الطابق الأسفل مرابط لخيولهم ومحابس لشائهم وإهراء لغلاتهم ويفردون الطابق الأعلى لمسكنهم ومنامهم. ويصعد إلى الطابق الأعلى بدرج عمودية. وتري فتحات النوافذ صغيرة جداً. وليس لها زجاج. وهم يحتمون من أشعة الشمس والمطر والريح بقفلها بألواح من الخشب وللمنازل المبنية من الحجارة سقوف خشبية. وأما سقوف الأكواخ فمن الآجر ولا يعرفون المقاعد ولا الكراسي ولا السرر ولا غيرها من الرياش. بل يأكلون وينامون على الأرض. الطيارات والطيارون ليس في عديد أمهات المسائل في هذا العصر العملي مسألة ذات خطر وبال مثل مسألة السياحة في الهواء. وهي من قديم العصور وغابر الأجيال أمنية الإنسان ومطمح نظره على أنها من الصعوبات بمكان. أوليس معنى ذلك أنا نمشي على الهواء وندوس بأقدامنا

فوق الفضاء ونتخطى نافذين في صميم الجواء. وينقسم فن الطيران إلى قسمين. يسمى الأول منها أي فن تطيير الآلات التي حجمها أخف من الهواء. مثل البالونات. ويسمى الثاني أي فن الطيران الصناعي بواسطة الطيارات الآلية وهي التي أثقل حجماً من الهواء مثل الأروبلانات ويتضمن هذا القسم المجهودات التي احتال بها الناس من قديم الزمان لتطيير جثمانهم. والنوع الثاني أقدم تاريخاً من الأول فقد دل عليه علم الميثولوجيا وذكرته الخرافات القديمة. وهناك حكايات كثيرة تنبئ عن أناس حاولوا الطيران بجسومهم. فقد ثبت أن أول رجل فكر في تطيير جثمانه أبو القاسم عباس بن فرناس إذ كسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة ولكنه لم ينشب أن سقط فتأذى في مؤخره لأنه لم يعمل له ذنباً. على أن مؤرخي الإفرنج والمصادر الإفرنجية لم تذكر أبا القاسم لا بالأولية ولا بغيرها. بل تقول أن أولهم جون ويلكنز. المتوفى عام 1672. إذ بحث في عام 1640 عن إمكان الوصول إلى القمر طائراً. وقد كتب في مذكراته أن قسيساً إنجليزياً يسمى الماراس في عهد الملك إدوارد الملقب بالمعترف طار من بلد في اسبانيا إلى مسافة جزء من ثمانية من الميل ويقال أن جيوفاني باتستا دانتي من مقاطعة بيرون في فرنسا طار فوق بحيرة ترازمين في إيطاليا عدة مرات. وفي أول العهد بالقرن السادس عشر أخذ طلياني من الكيماويين على عاتقه الطيران من سواحل إنجلترا إلى سماء فرنسا وفعلاً أنجز ما وعد ولكنه لم يكد يطير حتى سقط وتهشم فخذه. وحوال ذلك العهد بحث المسألة العالم ليناردو دافنشي وأخذ يطبق عليها القواعد العلمية وترى في مذكراته كثيراً من الصور التي تمثل أجنحة صناعية تلصق بالسوق والسواعد على نحو الخوافي والقوادم. وفي كتاب للفيلسوف الإنجليزي المعاصر لشكسبير فرنسيس باكون نبذتان تدوران حول الطيران وإمكانه. ولعل اليمامة الطائرة التي صنعها أرشيتاس من أهل ترانتام هي أقدم أثر لفكرة الطيران وكانت هذه الآلة على شكل يمامة أو حمامة من الخشب مصنوعة على قواعد علمية وتحوي كمية من الهواء في جوفها ولعل هذا الهواء هو الهيدروجين أو الهواء الساخن اللذان استعملا بعد ذلك بقرون وأجيال.

على أن أول اختراع للبالون يرجع إلى ميشيل مونتجولفييه المولود عام 1740 والمتوفى عام 1810 وإلى جاك أيتين مونتجولفييه أخيه المولود عام 1745 والمتوفى عام 1799 وهما ولجا بيير. ونتجولفييه وكان وراقاً مشهوراً بين أهل مدينة أنوناي على بعد أربعين ميلاً من مدينة ليون وكان الأخوان قد لاحظا تعلق الغمائم في الفضاء فاهتديا إلى أنهما لو استطاعا أن يخزنا هواء ساخناً يشبه بطبيعته أبخرة الغمائم والسحب في كيس كبير خفيف الحجم لارتفع بالكيس في الجو ففي أخريات عام 1782 خزنا مقداراً من الهواء الساخن في عدة أكياس فلما تم لهما ذلك وجدا أن الأكياس بدأت تصعد في الهواء حتى إذا تأكد لهما نجاح تجربتهما هذه أزمعا عمل بالون كبير وتطييره على مشهد من الجمهور ففي الخامس من شهر يونيه عام 1783 بحضور جم غفير من المتفرجين ملأ كيساً من التيل يبلغ محيطه نحواًَ من 105 أقدام بالهواء الساخن فلما ترك ارتفع ارتفاعاً عظيماً ثم هبط بعد عشر دقائق على مسافة ميل ونصف وبذلك كان اختراع البالون. على أن الأخوين مونتجولفييه توهما أن الكيس صعد لخفة حجم الهواء الساخن وفي البالون لم يكن شيء من الحرارة ولذلك لم يلبث أن ابترد الهواء الساخن المختزن وتبع ذلك هبوط البالون. وأثارت هذه التجربة أهمية كبرى في باريس حتى أن بارتلميه فوجاس ده سانت فويد المولود سنة 1741 والمتوفى سنة 1819 أستاذ الجيولوجيا بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس فتح باب الاكتتاب لإعادة عمل التجربة ومن ثم صنع الأخوان وبرت بالوناً جديداً تحت مراقبة العالم الطبيعي شارل وارتأوا في بادئ الأمر إعادة تجربة مونتجولفييه بحذافيرها. ولكن العالم الطبيعي شارل ارتأى استعمال غاز الهيدروجين وصعد به إلى نحو 3000 قدم حتى إذا مكث محلقاً في الجو ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة سقط في حقل قريب من بلدة جونس على مسافة خمسة عشر ميلاً من مكان صعوده وقد ذعر الفلاحون منه فمزقوه إرباً. وعاد مونتجولفييه فعمل في سبتمبر عام 1783 تجربة في فرساليا بحضور الملك والملكة ورجال البلاط ونسائه وجمع عظيم من المتفرجين وعلق بالبالون قفصاً ووضع به شاة وديكاً وبطة فكانت هذه الحيوانات أول السياح في الهواء. وارتفع بها البالون إلى علو

1500 قدم ثم سقط على مسافة ميلين من مكان الحفلة فتهشم ركابه وكانت الضحايا الأولى لهذا الاختراع العظيم. وأول رجل ركب البالوان جان فرانسوا المتوفى عام 1787 وكان من أهل مدينة ميتز. وقد ركب مع رفيق له يدعى جيرون ده فيللت في بالوان أسير. وهو نوع من البالونات يشد بالحبال. ومن ثم تقدم عمل البالون. وكذلك هذابوا هذا الاختراع وتصرفوا فيه حتى استعملوه في الحروب. ولم تكد تبدأ الثورة الفرنسية الكبرى حتى أسسوا مدرسة في مدينة ميدون من أعمال فرنسا لتعليم فن البالونات ولم يلبثوا أن بنوا أربع بالونات فرقوها على الحدود الفرنسية وفي يونيه عام 1794 صعد القائد كوتل في واحد منها الاستكشاف مواقع العدو وقبل واقعة فليرس وقد أجمع المؤرخون على أن انتصار الفرنسيين على الأعداء في غلوا الثورة الفرنسية كان راجعاً إلى فضل هذه البالونات، وفي الحرب التي نشبت بين فرنسا وإيطاليا عام 1859 عاد الفرنسيون إلى استعمال البالون في استكشاف مرابض الطليان ومرابط جيشهم ولاسيما في واقعة سالفارينو. وفي الحرب الداخلية الأمريكية التي نشبت في سنة 1861 كان الاتحاديون يستعينون بالبالونات ولكن لم تنجل قيمتها في الحرب إلا في حصار باريس (1870) إذ كانت هي الوسيلة الوحيدة بين أهل باريس والولايات الفرنسية وكانوا يحبسون فيها الحمائم لتأتي بأخبار المقاطعات وقد بلغ عددها في أيام المحاصرة نحواً من (64) بالوناً وكان فرار غميتا من باريس في أحد هذه البالونات. على أن البالون لم يقرر كأداة لازمة في الحروب إلا حوالي عام 1884 إذ اتفق أغلب الدول على استعمالها. وقد استعان بها الإنجليز والفرنسيون في فتوحهم وحروبهم في أفريقيا والشرق الأقصى. وكان البحث السائد بين الطيارين منذ بدئ الطيران هو هل في الممكنات تدبير حركات البالونات بصنع دفة لها تديرها كما يشاء الطيار. ومن ثم أخذوا يعدون لذلك العدد ويحاولون الحيل ويقيمون التجاريب وأول هؤلاء هنرى جيفرد في عام 1852 إذ طار في بالون تدير حركاته في الجو آلة بخارية. واقتفى آثاره كثيرون فمنهم ديبوى ده لوم في سنة

1872 وتيساندييه في عام 1884 وشوارتز في عام 1897 ومن تلك السنة بدأ الكونت فرديناندفون زبلن من رؤساء الجيش الألماني ينشيء بالوناً ضخماً وإن شئت فمركباً هوائياً عظيماً يحمل على الأقل خمسة رجال وعمل تجربة في شهر يوليه عام 1900 فكانت سرعته في الساعة 18 ميلاً وفي سنة 1905 بنى زبلن مركباً ثانياً ولكنه لم يلبث أن تهشم في ريح هوجاء. فكان ثالث طار فوق بحيرة كونستانس من أعمال سويسرا وكانت سرعته ستة وثلاثين ميلاً في الساعة يحمل أحد عشر رجلاً. فلما كانت سنة 1908 صنع مركباً رابعاً سار في أطباق الجو نحواً من مائتين وخمسين ميلاً في إحدى عشرة ساعة ولكنه تكسر واحترق فرجع الألمان إلى الاكتتاب وعلى رأسهم الإمبراطور فأنشؤوا مركباً خامساً. ومن ذلك الحين بدأت الدول تلقي الأهمية الكبرى على إنشاء المراكب الهوائية الحربية وبلغ اهتمامهم اليوم الغاية القصوى فإن لألمانيا من المراكب الهوائية اليوم نحواً من ستين طيارة ولإنجلترا مائة وخمسين ولفرنسا خمسمائة وللولايات المتحدة مائة وعشرين وإيطاليا خمسة وثلاثين ولروسيا أربعة عشر ومائة وللنمسا عشرين. أما فكرة الطيران بالأجنحة فقد طبقوا القواعد العلمية عليها وبحثوا توازن الطير حتى كان منها اختراع الطيارات الهوائية وهي التي تطير بمحرك يدير أجنحتها ويرف بها ويجري هذا المحرك أما بالكهرباء وأما بغاز البترول أو البنزين. وقد تقدموا في هذه الطيارات فاخترعوا الطيارات المونوبولان أي الموحدة الجناح والطيارات البيبلان وهي المزدوجة الجناح والطيارات التريبلان وهي المثلثة الجناح. ولم تتجل للعالم عجائب الطيران ومدهشاته ولم تبد شجاعة الطيارين وصدق بأسهم ورباطة جأشهم إلا في هذه السنين الأخيرة والفرنسيون سادة هذا الفن ومرقوه. وإن منهم من حاز قصب السبق في مبلغ الارتفاع. ومنهم من ظفر بالأولية في سرعة الطيران. ومن الفريق الأول لاثام إذ بلغ في سنة 1909، هو العام الذي أخذ فيه العالم يهتم أكثر من قبل بفن الطيران إلى ارتفاع 1000 متر وممن استبقوا في السرعة الكونت دي لامبير وقد طار في نفس ذلك العام فوق برج إيفل بباريس. وجرت في عام 1909 مسابقة ورهان بين بلريو ولاثام على تعدية مضيق المانش محلقين فنجح الأول. وعثر حظ الثاني إذ سقط فوق أديم الماء ولكنه لم يصب بأذى وأما بلريو

فاستغرق في اجتياز المانش من بولونيا في فرنسا إلى ثغر دوفر في الأرض الإنكليزية نحواً من ثمانية وعشرون دقيقة وقد بلغ بيريون رفيق بليريو في الحادي عشر من شهر مارس من العام الماضي إلى ارتفاع 5850 متراً في مسافة تقرب من ساعة وهذه هي المرة الأولى التي بلغ بها الطيار إلى مثل هذا الارتفاع الشاهق على أن لوكانيو تقوى عليه وبرز في ديسمبر من العام الماضي إذا ارتفع بطيارته إلى علو 6150 متراً. وقد كان في العام الذي قبله ارتفع إلى 5810 أمتار. وجاز الطيار الفرنسي دوكور ما بين مدينتي باريس وبرلين في ثماني ساعات إلا قليلاً بينما القطار السريع يجوزها في ثلاث وعشرين ساعة إذ تبلغ مسافة ما بين الحاضرتين نحواً من 900 كيلو متراً. فإذا حسبنا ذلك استنتجنا أن دوكور كان يطير في الساعة ما يربي على مائة كيلو متر وأغرب من ذلك وأدعي إلى العجب أن الطيار برنديجون استغرق في طيرانه من باريس إلى مدينة فرسوفيا في بولونيا من أعمال الروسيا يوماً واحداً لم يرفه عن نفسه فيها إلا سبع ساعات. وبعد كتابة ما تقدم وقعت إلينا رسالة صغيرة باللغة الفرنسية بقلم سعادة الأستاذ المحقق أحمد زكي باشا الكاتب الأول لمجلس النظار. أثبت فيها خطبته التي ألقاها في حفلة إقامة التمثال تخليداً لذكرى الطيار الفرنسي المشهور مويار في مدينة الشمس (هليو بوليس) وأضاف إلى الخطبة المكاتبة التي بعث بها إلى مجلس المعارف الأعلى ووسمها بعنوان (الطيران عند المسلمين) وفيها حقق الكلام على طائري العرب ابن فرناس والجوهري ورجع في ذلك إلى كتب العرب وأسفارهم ونحن نقتطف منها نبذا صالحة لمقالنا هذا: ندع جانباً السير المصرية المعروفة. والأقاصيص اليونانية الشائعة. ونكتفي بأن نذكر مع الأبحار تلك الأقاصيص التي جاءت في تاريخ العرب. ألم يستعمل النمرود لحرب الله أربعة من النسور أزمع بها صعوداً. تحف به الأخطار وتحدق به التهلكة فوق سطح جهزه بقطع من اللحم الغريض. لكي يحرض هذه الطيور الجوارح على متابعة الصمود والارتفاع. أولم يكن لسليمان في رحلاته وطوفانه ونقلاته، بساط تسيره الأرواح مسخرة لمشيئته. يطوف فوقه على آسيا وأرجائها؟.

وفضلاً عن ذلك ألم يتخيل الروائيون. في جميع الملل والنحل. قديمها وحديثها اختراعات هي أبعد ما يكون من الاحتمال والتصديق. أولم نشهد بعد كل ذلك أن ما كان بالأمس حلم حالم وخيال متخيل. قد أصبح اليوم وهو الحقيقة الملموسة؟. إن مؤلفي القصص العربية ومن بينها قصص ألف ليلة وليلة. قد وجدوا لهم. حتى في عصرنا هذا. جماعة من المتممين المنفذين. ولو شئنا أن نسرد لك أسماءهم لطال بنا السرد. وإنما نكتفي بذكر جول فرن. فقد أتيحت له السعادة الكبرى فشهد تحقيق بعض أحلامه وخيالاته. وإليك ما قال سعادة المحقق في الجوهري: هو أبو نصر إسماعيل بن حماد المعروف بالجوهري. ولد بقري فاراب من بلاد تركستان وهي تسمى اليوم أطرار. وقد كان أبو نصر في شبيبته وروق صباه. مولعاً بالسفر والتجواب. تواقاً إلى الارتحال والاغتراب اخترق أواسط بلاد العرب، وتنقل بين أفصح قبائلها. وأبلغ بطونها، في طلب الأدب وإتقان لغة العرب وجاء جافل الجعبة بالشروح القيمة. والدقائق الغالية. وساعده ذلك على وضع أثر كبير في اللغة. لا يبلى ولا ينسى - ويعني بذلك كتاب الصحاح. حتى إذا استوسق له ذلك اندفع مع ولعه إلى زيارة أعمر الحواضر. وأزهر البلدان في الشام وفارس والعراق. واكتسب قربة العلماء. وأخذ عن الأئمة منهم والمتبحرين وتعلم الخط حتى حذقه وأبدع فيه. واقترن فيه اسمه بابن مقلة. ومهلهل واليزيدي. ولم يقصر سعيه على ذلك. بل ضرب بسهام في الأدب والفقه والفلسفة الدينية. وأقام حتى وفاته بمدينة نيسابور. وتقاطرت عليه الطلاب من كل مكان. يأخذون عنه في حلقات الجامع الكبير بنيسابور اللغة والخط. وفرغ إذ ذاك إلى تنسيق صحاحه وترتيب تآليفه في النثر والنحو وغيرهما. وكان ينسخها بخطه المونق: إلى أن قال سعادة المحقق. وصعد يوماً سطح الجامع الكبير في نيسابور فأهاب بالقوم أيها الناس. لقد استنبطت اليوم للعالم عملاً لا مثيل له ولا قرين. وأنا محدث للخلف أمراً ما تقدمني إلى اختراعه أحد قط. ثم أخذ دفتين فشدهما إلى جثمانه بالحبال. بدل الأجنحة. وقال للناس إنه طائر في أطباق الفضاء. وإذ ذاك رف بجثمانه في الجو. ولكنه لم ينشب أن سقط سقطة قاتلة طاحت

بحياته. وكان ذلك عام 393 من الهجرة الموافق عام اثنين بعد الألف من مولد السيد المسيح. وبعض المؤرخين يجعل ذلك بعد هذا العهد بخمسة أحوال أو سبعة. ولكن جهلاء القوم الذين حضروا مقتل أول شهداء الطيران وضحاياه ألقي في روعهم أن الرجل مجنون مختلط العقل. ثم قال: ومضي بعد ذلك ستون عاماً فقام يومئذ مقلد للجوهري في إنجلترا. إذ جاء في جريدة الطان الفرنسية مقال نقلته عنها جريدة الريفورم التي تصدر في الإسكندرية في 18 يوليه عام 1901 وهذا ما جاء فيه: إن المذكرة التي ألقاها الموسيو مونجيز في مجمع ليون في الحادي عشر من شهر مايو سنة 1875 تدلنا على أول تجربة عملها الكاهن الإنجليزي أولفييه ده مالمسبوري إذ بدأ بتطيير جسمه بواسطة أجنحة صناعية ألصقها بساقيه وساعديه. ولكنه سقط فتهشم ساقاه ومات من جراحة عام 1060. وعملت بعد ذلك تجربتان. لم يكن حظهما من النجاح بأكثر من حظ أولفيبيه هذا أقام بالأولى في هد لويس الرابع عشر اللار إذ تعهد أن يطير من سانت جرمان غابة فيزينه. ولكنه سقط على مسافة أمتار من مكان طيرانه. وأصابته من ذلك جراح بالغة. وقام بالتجربة الثانية بزنييه. كما جاء في مقال مسهب نشرته جريدة العلماء في 18 ديسمبر عام 1875. ثم انتقل سعادة المحقق إلى الكلام عن ابن فرناس فقال إنه أول طيار. وأنه أسبق من الجوهري. ففي النصف الأول من القرن الثالث الهجري نبغ في قرطبة حاضرة الأندلس: رجل خليق باهتمامنا، حرى با كبارنا، يستأهل اسمه أن يكون في سجل الطيران، وقد ورد ذكر أبي القاسم عباس بن فرناس في أربعة مصادر؟ في يتيمة الثعالبي ولم يذكر له فيها الايتين باسم بن فرناس؟ وفي العقد الفريد لابن عبد ربه. وأثبت له شعراً فخماً مؤثراً قاله في انتصار أميره عبد الرحمن بوادي سليط. وفي البيان المغرب لابن عذاري المؤرخ المراكشي المشهور جاء بنفس القصيدة التي في العقد. باسم ابن مرداس. وقد كتب عنه المقري في نفح الطيب وهو المصدر الذي رجع إليه زكي باشا في الكلام عن أبي القاسم. وبعدما أسهب سعادته وأطال في تحقيق التحريف الذي وقع في الاسم واختلاف هذه

المراجع في فرناس ومرداس ومرناس وقرناس. انتقل إلى ما كان من مؤمن بن سعيد من شعراء قرطبة. وسخريته من أبي القاسم يوم قال للأمير محمد من أبيات: رأيت أمير المؤمنين محمدا ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر فقال له مؤمن قبحاً لما ارتكبت. جعلت وجه الخليفة محرثاً يثمر فيه البذر فخجل وسبه، وكان ابن فرناس من قبل ذلك نحوياًَ وأثبت ذلك السيوطي واعتمد على المؤرخ الأندلسي أبي بكر الزبيدي. وكان أول من فك بقرطبة كتاب العروض للخليل. وأول من فك الموسيقى وأول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة. وصنع الآلة المعروفة بالثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ولا مثيل. وصنع في بيته هيئة السماء. وخبل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود فلم يسلم أبو القاسم من سخرية مؤمن بن سعيد. ولا نجا من بذاءة لسانه. واحتال في تطيير جثمانه فكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافات بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره. وقال المقري إنه لم يدر أن الطائر يقع على زمكه. ولم يعمل له ذنباً، وفيه قال مؤمن بن سعيد: يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا نفسه ريح قشعم وفي هذا البيت شهادة لأبي القاسم لا تدفع ولا ترد. إذ جاءت من عدو حانق مهتاج ومن ذلك نستخلص أن أبا القاسم في القرن التاسع من التاريخ المسيحي لم ينجح فقط في تطيير جثمانه في القضاء بل استطاع كذلك أن يقوم بسياحة هوائية. فليسمع الغربيون. ولتطب نفساً أبناء العرب!. وأعجب ما كان في هذه الأيام من الرحلات الجوية. رحلات الطيارين الفرنسيين دوكور، وفدرين، وبونييه، من باريس إلى القاهرة عن سماء الشآم. ورحلة الطائر الإنجليزي ما كان عن سماء البحر المتوسط. وكلتا الرحلتين تعد من المهارة الفائقة كل حد. والآن اسمع ما كتب الطيار دوكوريصف ما عاناه في جبال طوروس قال: بدأت أسير بضعة أمتار محاذياً هذا الطود الأشم. كما تحوم البعوضة حول ثغرة في السقف. ولكن لم ألبث أن وجدت صدعاً في الصخور قد اختفى عاليه في السحاب المركوم والغيم المتكاثف فلما عرفت أني في الوادي الذي يحاذي الخط الحديد الذي يجري الألمان

اليوم عمله. اندفعت إليه ولكني ما كدت أدفع في هذا الصدع الضيق حتى هبت ريح هوجاء جعلتني أهتز وأترنح وأميد وأنا أنساق مع الريح إلى الأمام. وكانت طيارتي تسير بسرعة شديدة تقرب من 110 كيلو مترات في الساعة ولكن قوة الريح جعلتها تقطع ضعف هذه السرعة ولم أنشب أن فقدت كل تدبير وصرت أميل مع الريح كالورقة في الرياح المعصرات. فآونة أعمد إلى هذا الجناح. وأونه إلى ذاك وكنت أرى الأرض تحتى تطوي طي السجل للكتب وكانت المراكز التي في طريقي حيث ينام العمال الذين يعملون في النفق والخط الحديد. ترسل إلى بعضها الأبناء البرقية تنبيهاً لها بمقدمي وممري، وقد علمت أني كنت أقطع 350 كيلو متراً في الساعة. وكنت أنسل في طباق السماء كالبرق الخاطف مصطدماً في كل حين بطبقات الغيم وركام السحائب هذا والصدع يأخذ في الارتفاع والتطاول، حتى صرت كأني في درب مسدود يشق عنده الهبوط ويستحيل لدنه الارتفاع والتحليق فتبينت أن ختام الرحلة قد آن، وإن قد أزفت الأزفة. ليس لها من دون الله كاشفة. وإن الموت مني قاب قوسين أو أدنى. ولكني حمدت الله إن لم أصحب معي رفيقي. بل جعلته يجتاز دروب الجبل وإذا بثغرة في السحاب قد انشقت وفرجة في الغيم قد انجلت. فانبعثت أطير فيها حتى بلغت مكاناً أشبه في شكله (بالقمع) متوجاً أعاليه بالسحب وانفتح في الجهة اليمنى صدع جديد. آتياً من صوب البحر الأبيض تلتقي عنده ريحان متناوحتان قد نشأ من تناوحهما. دوامة هوائية جعلت منها اهتز وأميل. ومضت بضع دقائق. وأنا لا أعرف ماذا أصنع والطيارة منطلقة بسرعة 250 كيلو متراً. ولمحت أخيراً على جوانب الجبل. وقد اكتست ثوباً سندسياً من العشب. مكاناً فضاء منكشفاً، فيممته مواجهاًَ الريح وأنا أؤمل أن سرعة الزوبعة وسرعة الطيارة سيتوازنان ويتعادلان وذلك ما حدث ولكن ريحاً أخرى هبت من تلقاء البحر الأبيض انحرفت بي وانعطفت. وجعلت أهبط بسرعة 100 كيلو متر في الساعة. وارتميت على جانب الجبل على مقربة من الموضع الذي اخترت لهبوطي واصطدمت بشجرة هناك فحطمتها تحطيماً وسقطت بطيارتي على خمسين متراً من الموضع. حتى إذا أفقت من غشيتي. وجدتني لا أزال في مكاني. قابضاً على سيور طيارتي وازائي

جذع الشجرة المحطمة وما بي من خدش ولا جرح! ولكن شاء القدر لطيارة دوكور بعد أن جازت هذه القحم وتخطت هذه العقاب واحتملت هذه اللأواء إلا أن تحترق بعد ذلك بساعات. وأما فدرين ورفيقه بونيبه فقد تعلما من صاحبهما دوكور. وعاينا ما عاين من هول وعرفا ما نال من عذاب. فتحاميا أن يلقيا بنفسهما وطيارتيهما إلى مضايق الجبل وصعابه ومن ثم كان النجاح حليفهما والتوفيق نصيبهما. فأما بونييه وميكانيكيه بارنبيه. فوصلا المقدس بين هتاف. واكيهم الفرنسيين. وابتهاج السوريين وخفقات الأعلام وازدحام الجماهير. وتألب الناس من جميع الطبقات والأجناس. وبلغ فدرين يافا ولكنه لم يلج على المقدس. بل انطلق في طريقه. لا يلوى على شيء حتى بلغ القاهرة واحتفل به المصريون أيما احتفال. وهنا يجمل بنا أن نتحف القراء بما جادت به قريحة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في استقبال هؤلاء الطيارين - وإذا كان للعلوم الطبيعية أن تفخر بالطيارات وهؤلاء الطيارين، فإن خليقاً بالآداب الرفيقة أن تفخر الفخر كله بأميرها المفدى - وإذا كانت الماديات قد أزعجت النسور في الجواء. فقد رحبت بشعر أمير الأدب ملائكة السماء - قال شوقي: يا فرنسا نلت أسباب السماء ... وتملكت مقاليد الحواء غلب النسر على دولته ... وتنحى لك عن عرش الهواء وأتك الريح تمشي أمة ... لك يا بلقيس من أوفي الإماء روضت بعد جماح وجرت ... طوع سلطانين علم وذكاء لك خيل بجناح أشبهت ... خيل جبريل لنصر الأنبياء وبريد يسحب الذي على ... برد في البر والبحر بطاء تطلع الشمس فيجرى دونها ... فوق عنق الريح أو متن العماء رحلة المشرق والمغرب ما ... لبثت غير صباح ومساء بسلاء الأنس والجن فدى ... لفريق من بنيك البسلاء ضاقت الأرض بهم فاتخذوا ... في السموات قبور الشهداء فيه يمون جيران البها ... سمراء النجم في أوج الغلاء حوما فوق جبال لم تكن ... للرياح الهوج يوماً بوطاء

لسليمان بساط واحد ... ولهم ألف بساط في الفضاء يركبون الشهب والسحب إلى ... رفة الذكر وعلياء الثناء يا نسوراً هبطوا الوادي على ... سالف الحب ومأثور الولاء داركم مصر وفيها قومكم ... مرحباً بالأفريين الكرماء طرتموا فيها فطارت فرحاً ... بأعز الضيف خير النزلاء هل شجاكم في ثرى أهرامها ... ما أرقتم من دموع ودماء أين (نسر) قد تلقى قبلكم ... عظة الأجيال من أعلى بناء لو شهدتم عصره أضحى له ... عالم الأفلاك معقود اللواء جرح الأهرام في عزتها ... فمشى لقبر مجروح الإباء أخذت تاجاً بتاج ثارها ... وجزت عن صلف بالكبرياء وتمنت لو حوت أعظمه ... بين أبناء الشموس العظماء جل شأن الله هادى خلقه ... يهدي العلم ونور العلماء زف من آياته الكبرى بنا ... طلبة طال بها عهد الرجاء مركب لو سلف الدهر به ... كان إحدى معجزات القدماء نصفه طير ونصف بشر ... يا لها إحدى أعاجيب القضاء رائعاً مرتفعاً أو واقعاً ... أنفس الشجعان قبل الجبناء مسرج في كل حين ملجم ... كامل العدة مرموق الرواء كبساط الرياح في القدرة أو ... هدهد السيرة في صدق البلاء أو كحوت يرتمي الموج به ... سابح بين ظهور وخفاء راكب ما شاء من أطرافه ... لا يرى من مركب ذي عدواء ملأ الجو فعالاً وغدا ... عجب الغربان فيه والحداء وترى السحب به راعدة ... من حديد جمعت لا من رواء حمل الفولاذ ريشا وجرى ... في عنانين له نار وماء وجناح غير ذي قادمة ... كجناح النحل مصقول سواء وذنبي كل ريح مسها ... مسه صاعقة من كهرباء

يتراءى كوكباً ذا ذنب ... فإذا جد فسهما ذا مضاء فإذا جاز الثريا للثرى ... جر كالطاووس ذيل الخيلاء يملأ الآفاق صوتاً وصدى ... كعزيف الجن في الأرض العراء أرسلته الأرض عنها خبراً ... طن في آذان سكان السماء يا شباب الغد وأبنائي الفدى ... لكموا أكرم وأعزز بالفداء هل يمد الله لي العيش عسى ... أن أراكم في الفريق السعداء وأرى تاجكمو فوق السهى ... وأرى عرشكمو فوق ذكاء من رآكم قال مصر استرجعت ... عزها في عهدها خوفو ومناء أمة للخلد ما تبنى إذا ... ماني الناس جميعاً للعفاء تعصم الأجسام من عادي البلى ... وتقى الآثار من عادي الفناء إن أسأنا لكم أو لم نسيء ... نحن هلكي فلكم طول البقاء إنما مصر إليكم وبكم ... وحقوق لابر أولى بالقضاء عصركم حر ومستقبلكم ... في يمين الله خير الأمناء لا تقولوا حطنا الدهر فما ... هو إلا من خيال الشعراء هل علمتم امة في جهلها ... ظهرت في المجد حسناء الرداء باطن الأمة من ظاهرها ... إنما السائل من لون الإناء فخذوا العلم على أعلامه ... واطلبوا الحكمة عند الحكماء وافرأوا تاريخكم واحتفظوا ... بفصيح جاءكم من فصحاء أنزل الله على ألسنهم ... وحيه أعصو الوحي الوضاء واحكموا الدنيا بسلطان فما ... خلقت نضرتها للضعفاء واطلبوا المجد على الأرض فإن ... هي ضاقت فاطلبوه في السماء ولما رأى سكان المقدس طياراً فرنسياً يهبط لأول مرة مدينتهم، أخذتهم الغيرة القومية، ونهضت في نفوسهم الحمية، فاجتمعوا على تقديم طيارتين إلى الجيش العثماني، ليطير بهما ضابطان فوق سماء البوسفور نافذين إلى سماء الأرض المقدسة، فقرر القائد أنور باشا ناظر الحربية العثمانية أن ينفذ طيارة من الآستانة إلى مصر حتى لا يكون العثمانيون

متخلفين عن الفرنسيين في مسألة المسائل في هذه الأيام. فلما كان يوم الأحد لثمان خلون من فبراير الماضي، برحت طيارتان من نوع المونوبولان الفرنسي، أي الطيارة المنفردة الجناح، تقل الأولى الطيار فتحي بك وسواقه الميكانيكي الملازم صادق بك رفيق أنور باشافي بني غازي وتقل الأخرى الملازم نوري بقك ورفيقه إسماعيل حقي بك، وأقيمت لهم قبل رحلتهم حفلة شائقة في الآستانة، حضرتها ابنة السلطان مراد، وقد قدمت بيدها باقة من الزهر إلى القائد فتحي بك، وانبعث الطيارتان في ذلك اليوم شاخصة إلى القاهرة. وحدث في الطريق لنوري بك ما عطله كثيراً، ولكن الطيار فتحي بك انطلق محلقاً لم يسف ولم يتأخر، فوصل إلى قونية في اليوم العاشر من فبراير، ثم بلغ طرسوس في الحادي عشر منه وجاز جبال طوروس على ارتفاع 3500 متر واستراح يومين كاملين ليملأ طيارته بحلب، فلما كان اليوم الخامس عشر من ذلك الشهر، حلق في سماء بيروت في هتاف البيروتيين وتهليلهم، وقد احتفلوا به وبرفيقه احتفالاً عظيماً. وحدث له في 19 فبراير حادث، لعله كان سبب الفاجعة الكبرى التي نزلت به في السابع عشر منه، إذ سقط الطيار في أحد الغدران التي تجري في أرباض بيروت واختلت طيارته اختلالاً كبيراً فاستغرق في إصلاحها خمسة أيام سوياً. وعاود الطيران في الرابع والعشرين فبلغ دمشق بعد ساعة وعشر دقائق. بعد ما جاز جبال لبنان كرة أخرى، في احتفال كبير، وعيد أكبر، ولم يسلم أحد عنهما بعد ذلك أمراً. بل لم يلبث الناس أن رأوا إطلال الطيارة وبقاياها، وأشلاء الطيارين الشهمين على مقربة من بحيرة كبريا نضج أول مصابهما العالم الإسلامي وتقطعت عليهما الأكباد، وشقت الجيوب، وفاضت الشؤون، وسحت العبرات، على أن المصاب وأن يكن عظيماً فقد كان فخراً للعثمانيين وكيف لا يكون الفخر، والشهيدان راحا ضحية للعلم، وأكثر الضحايا من أبطال الدولة العثمانية ورجالاتها راحوا ضحايا للحروب ومدمراتها. وقد دفن الفقيدان في حظيرة ضريح صلاح الدين الأيوبي. ونعم هذا الجوار. أما الطيار نوري بك ورفيقه إسماعيل حقي بك، فقد سقطت الطيارة فوق أديم البحر، فغرق الطيار نوري بك، وقار الله النجاة لإسماعيل حقي بك، وقد دفن الشهيد الثالث جانب رفيقيه

الشهيدين الأولين - قال شوقي يرثي: انظر إلى الأقمار كيف تزول ... وإلى وجوه السعد كيف تحول وإلى الجبال الشم كيف يميلها ... عادي الردي باشارة فتميل وإلى الفراقد كيف تنثر في الثرى ... أشلاؤهن حجارة ونصيل وإلى الزياج تخر دون قرارها ... صرعى عليهن التراب مهيل وإلى النسور تقاصرت أعمارها ... والعهد في عمر النسور يطول في كل منزلة وكل سمية ... قمر من الغر السماة قتيل يهوي القضاء بها فما من عاصم ... هيهات ليس من القضاء مقيل (فخ السماء) و (نورها) سكنا الثرى ... فالأرض ولهى والسماء ثكول سر في الهواء ولذ بناصية السهى ... الموت لا يخفى عليه سبيل واركب جناح النسر لا يعصمك من ... نسر يرفرف فيه عزرائيل ولكل نفس ساعة من لم يمت ... فيها عزيزاً مات وهو ذليل ما الميت من همل الأنام كهالك ... زالت به دنيا وباد قبيل فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ... فالذكر عمر لو علمت طويل لا تذهب الحسنات في أثر الفتى ... إن الزمان بنشرهن كفيل أإلى الحياة سكنت وهي مصارع ... وإلى الأماني يسكن المسلول لا تجفلن ببؤسها ونعيمها ... نعمى الحياة وبؤسها تضليل ما بين نضرتها وبين ذبولها ... عمر الورود وأنه لقليل هذا بشير الأمس أصبح ناعياً ... كالحلم جاء بضده التأويل يجري من العبرات حول حديثه ... ما كان من فرح عليه يسيل ولرب أعراس خبأن مآتما ... كالرقط في ظل الرياض تقيل يا أيها الشهداء لن ينسى لكم ... فتح أغر على السماء جميل والمجد في الدنيا لأول مبتن ... ولمن يشيد بعده فيطيل لولا نفوس زلن في سبل العلي ... لم يهد فيها السالكين دليل والناس باذل روحه أو ماله ... أو علمه والآخرون فضول

والنصر غرته الطلائع في الوغى ... والتابعون من الخميس حجول كم ألف ميل نحو مصر قطعتمو ... فيم الوقوف ودون مصر ميل طوروس تحتكمو ضئيل طرفه ... لمت طلعتم في السحاب كليل ترخون للريح العنان وإنها ... لكمو على طغيانها لذلول اثنين أثر اثنين لم يخطر لكم ... إن المنية ثالث وزميل ومن العجائب في زمانك أن يفي ... لك في الحياة وفي الممامات خليل لو كان يفدى هالك لفداكمو ... في الجو نسر بالحياة بخيل أي الغزاة أولى الشهادة قبلكم ... عرض السماء ضريحهم والطول يغدو عليكم بالتحية أهلها ... ويرفرف التسبيح والتهليل إدريس فوق يمينه ريحانة ... ويسوع فوق يمينه إكليل في عالم سكانه أنفاسهم ... طيب وهمس حديثهم انجبل إني أخاف على السماء من الأذى ... في يوم يفسد السماء الجيل كانت مطهرة الأديم نقية ... لا آدم فيهخا ولا قابيل يتوجه العاني إلى رحمانها ... ويرى بها برق الرجاء عليل ويشير بالرأس المكلل نحوها ... شيخ وباللحظ البريء بتول واليوم للشهوات فيها والهوى ... سبل وللدم والدموع مسيل أضحت ومن سفن الجواء طوائف ... فيها ومن خيل الهواء رعيل وأذيل هيكلها المصون وسره ... والدهر للسر المصون مذيل هلعت (دمشق) وأقبلت في أهلها ... ملهوفة لم تدر كيف تقول مشت الشجون بها وعم غياطها ... بين الجداول والعيون ذبول في كل سهل أنة ومناحة ... وبكل حزن رنة وعويل وكأنما نعيت أمية كلها ... للمسجد الأموي فهو طلول خضعت لكم فيه الصفوف وأزلفت ... لكم الصلاة وقرب الترتيل من كل نعش كالثريا مجده ... في الأرض عال والسماء أصيل فيه شهيد بالكتاب مكفن ... بمدامع الروح الأمين غسيل

أعواده بين الرجال وأصله ... بين السهى والمشتري محمول يمشي الجنود به ولولا أنهم ... أولى بذاك مشى به جبريل حتى نزلتم بقعة فيها الهدي ... من قبل تاو والسماح نزيل عظمت وجل ضريح (يوسف) فوقها ... حتى كأن الميت فيه رسول شعري إذا جبت البحار ثلاثة ... وحواك ظل في فروق ظليل وتداولتك عصابة عربية ... بين المآذن والقلاع نزول وبلغت من باب الخلافة سدة ... لستورها التمسيح والتقبيل قل للإمام محمد ولآله ... صبر العظام على العظيم جميل تلك الخطوب وقد حملتم شطرها ... ناء الفرات بشطرها والنيلد أن تفقدوا الآسادا أو أشبالها ... فالغاب من أمثالها مأهول صبراً فأجر المسلمين وأجركم ... عند الإله وإنه لجزيل يا من خلافته الرضية عصمة=للخلق أنت بأن يحق كفيل والله يعلم أن في خلفائه ... عدلاً يقيم الملك حين يميل والعدل يرفع للممالك حائطاً ... لا الجيش يرفعه ولا الأسطول هذا مقام أنت فيه محمد ... والرفق عند محمد مأمول بالله بالإسلام بالجرح الذي ... ما أنفك في جنب الهلال يسيل ألا حللت عن السجين وثاقه ... إن الوثاق على الأسود ثقيل أيقول واش أو يردد شامت ... صنديد (برقة). وثق مكبول هو من سيوفك أغمدوه لريبة ... ما كان يغمد سيفك المسلول فاذكر أمير المؤمنين بلاءه ... واستبقه أن السيوف قليل وصف مصر للفاضل أحمد أفندي الألفي لعمرو بن العاص القائد العربي الشهير، وفاتح مصر، وأميرها في صدر الإسلام، كتاب في وصفها والإشارة إلى السياسة الصالحة لعمادها وحكم أهلها أرسله إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين. ويعد هذا الكتاب من أفضل المأثور عن سلفنا الصالح

فصاحة وحصانة، وقد وفقت إلى تفسير ما تمس الحاجة إلى تفسيره من ألفاظه ومعانيه تفسيراً يستشف منه القارئ على إيجازه ما فيه من بلاغه الوصف وسمو المبدأ قال: اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء وشجرة خضراء طولها شهر وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان تظهر به عيون الأرض وينابيعها فيدر حلابه ويكثر عجاجه وتعظم أمواجه، فيفيض على الجانبين فلا يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب وخفاف القوارب وزوارق كأنهن المخايل ورق الأصايل فإذا تكاملت زيادته نكص على عقبه كأول ما بدا في جريته وكما في حدته فعند ذلك تخرج ملة محقورة. وذمة مخفورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، ويرجون النماء من الرب فإذا احقل الزرع ورف سقاه من فوقه الندى، وغذاه من تحته الثرى. فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء إذ هي عنبرة سوداء فزمردة خضراء فديباجة زرقاء فتبارك الفعال لما يشاء. والذي يصلح هذه البلاد ويميرها ويقر قاطنها فيها، أن لا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وأن لا يستأدي خراج الثمرة إلا في أوانها وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا جرى العمل على هذا المنوال تضاعف ارتفاع المال والله تعالى الموفق في الحال. والمآل. سر تطور اليابان إن للمرء وطنين. وطنه واليابان تلك هي الكلمة الجديدة التي يجب أن توضع بجانب الكلمة المأثورة عن رديارد كبلنج. أكبر شعراء إنجلترا في هذا العصر وهي (إن للمرء وطنين. وطنه وفرنسا). ذلك لأن كل من ساح في بلاد اليابان وزار أرض الشمس المشرقة افتتن بحسن تلك البلاد وأعجب بأدب أهلها وحسن أخلاقهم وتربيتهم. وقد كتب أحد كتاب فرنسا المشهورين عدة مقالات شائقة يصف بها اليابان وأخلاق اليابانيين. وقد آثرنا أن نأتي بنبذ منها. قال الكاتب: أن جميع من شاهدوا بلاد اليابان قد صرحوا بأنهم غادروها والحزن يغالبهم

لفراقها. كأنهم قد فارقوا وطناً لهم محبوباً. والحقيقة المقررة أن الياباني بوجه عام أكثر حضارة ومدنية من أي أوروبي يشابهه في طبقته وبيئته. وهذه الحقيقة تتجلى لعين السائح من أول خطوة يخطوها في الطرق. والأدب عام في اليابان في أحقر الناس. فإن السائل منهم ليسأل أحدهم ولا يخطر في باله أن مخاطبه سيرفض الإجابة عما طلب. واليابانيون يجيبون على تحيات الخدم كما يجيبون على تحية أكفائهم وصحابتهم وأقرانهم. وفي المتاحف يلقون التحية إلى الحارس. وترى الرجال الذين يتساوون في مركزهم الاجتماعي مع سائقي المركبات في فرنسا والبلاد الغربية على جانب عظيم من الأدب والتهذيب وقد نبئت أن اللغة اليابانية لا تتسع لألفاظ الشتائم والسباب. ومن يريد أن يكون منهم خشناً في القول جافاً في الكلام لا يستطيع لذلك سبيلاً. ولقد قضيت شهرين في تلك البلاد صرفت أكثرها في طرقها وشوارعها فلم أر أحداً مغضباً صاخباً. ولا سمعت يوماً صوتاً ارتفع بسباب. والحارس يقف إذا داناه الزائر. وأنت تستطيع أن تجاذبه أطراف الحديث. لأنه على جانب عظيم من التربية بل والعلم. وربما كان من الملمين بفروع العلوم. نحن نعيش في قرافة تحت الجمهورية. ولكن اليابانيين يعيشون في ظل المساواة الاجتماعية. وفي فرنسا ولاسيما في المدن الكبرى ينظر إليك من هو دونك كأنك خصم له وعدو كأنما أنت سبب فقره وانحطاطه. ويتقبل منك العطايا وعليه سيما الذلة أمارات الاستهانة والاستهتار. أما في اليابان فإن خادمة الحان لتؤثر أن تنفحها بحلوان زهيد. ملفوف في غلاف. مصحوب بتحية. على أن ترمي البها بعطاء كبير تتبعه غلظة ويصحبه جفاء وفي أغلب الأحيان ترى الحلوان المعطي بجفاء مرفوضاً أدباً وحياء. وقد كانوا قبل اليوم بقليل لا يضعون حداً لأجور المقام في فنادق الريف بدل يدعون ذلك إلى كرم النظيل وأدب المقيم. فإذا حان وقت الرحيل دفع صاحب الفندق إلى السائح مروحة بمثابة تبادل للضريبة التي يسمونها ثمن الشاي. ولا تزال هذه العادة موجودة إلى الآن. ولكنها بدأت تزول لكثرة السياح والنزال. وفي أوروبا تجد فروقاً بين الطبقات المختلفة ونفوراً بين العامة والخاصة. وكلاهما يرجع إلى زهو الأغنياء من جهة. وخشونة الفقراء من جهة أخرى. والاختلاف في التربية أكثر

في التنفير من الاختلاف في الثروة. ولكني لم أر بلداً قلت فيه الفروق وندر فيه النفور بين الناس غير اليابان. فكلهم مهذب. وكلهم مؤدب. ولا حاجة هناك إلى مركبات تعد لركوب السيدات خاصة. حتى يكن في نجوة من أية خشونة محتملة الوقوع من الرجال. بل ترى في السفر السيد الياباني والسيدة اليابانية يتخاطبان دون تكلف لعبارات التأدب المصطنعة. بل يتكلمان كأنهما من أسرة واحدة. من غير غلظة أو قحة. حتى إذا افترقنا تبادلا التحية وسار كل في سبيله. واليابانيون بأسرهم يعرفون القراءة والكتابة. وهم بقرضون الشعر جميعاً. وقد قامت في أثناء الحرب الأخيرة جمعية أخذت توزع على الجند والمجاهدين في سوح القتال غلفاً محتوية بعض جوارب ورسائل و (فرش) للأسنان وتبغ وحلوى. وكانوا يكتبون على كل غلاف اسم المهدي. فكان الجندي المتقبل للعطية يشكر مهديها ببضعة أبيات من الشعر. والياباني في نظر الغربي الذي لم تسبق له به صحبة يظن غليظ الطباع غضوباً ولكنه لو تعرف له وصاحبه رأى منه رجلاً محبباً بشوشاً كريماً ومثال ذلك أنه في محط من محاط السكة الحديد وقفت قاطرة بجانب الأخرى وكانت حجرات الدرجة الأولى للقاطرة الأولى بإزاء حجرات الدرجة الثالثة للقاطرة الأخرى. وكان في الأولى سفر من الغربيين وكان في الثانية ركب من عامة اليابانيين. وكان الفريقان ينظرون إلى بعضهما شذراً متجهمين. ولكن لم يلبث أن لوح بغتة أحد الغربيين بيده إلى طفل ياباني بين المسافرين في القاطرة الأخرى وابتسم له وعلا وجهه علائم البشر. وإذا بوابل من التحيات قد اندفع من اليابانيين. وما لبثوا أن تبادلوا باقات الزهور وطاقات الرياحين. الأرمادللو لعمري أن أمريكا لعجيبة في كل شيء حتى في حيوانها. هذا هو الأرمادللو كما يسميه الأسبان، حيوان عجيب، له غطاء عظمي فوق ظهره يتألف من أطواق تختلف في عددها وكثافتها باختلاف أنواع الأرمادللو، وهذا الحيوان يتغذى من الجذور والحشرات والديدان والأفاعي والعظام والنمل والرمم، وأغلبها وإن لم يكن كلها من الحيوانات الليلية، وهي لا تؤذي ولا تضر ولا تحاول أدنى مغالبة إن مسكت أو صيدت، وأهم الوسائل التي تتخذها للهرب سرعتها الغريبة في حفر الحفر في الأرض وصبرها على الاستكنان في الحجر

الذي تأوى إليه وهي رغماً من صغر أطرافها وقصر سوقها، سريعة الجري والعدو، ويستطيب أكل لحمها أهل البلاد التي تكثر بها، وهي تسكن السهول الشاسعة والغابات المترامية في النواحي الحارة والمعتدلة من جنوب أمريكا، على أن في ولاية تكساس شمال خليج المكسيك، نوعاً منها وأكبر أنواعها النوع المسمى الأرمادللو المارد إذ يبلغ طوله نحواً من ياردة. ويوجد في غابات سورينام والبرازيل. ومنها نوع يسمى الببا لها أطواق متحركة في غطائها. وهذا النوع الذي ترى أمامك صورته يتألف غطاؤه من سبعة أطواق وأرجله وأذناه نهاية في القصر.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة تاريخ آداب العرب صدر المجلد الثاني من هذا الكتاب النفيس الذي يضعه أديبنا النابغة مصطفى صادق أفندي الرافعي، وليس من أدباء العربية كتاباً وشعراء، ولا من قرائها متعلمين ومتأدبين، إلا من عرف (تاريخ آداب العرب) وما كان له من الشأن عند ظهور المجلد الأول منه، وكيف طار صيته وكيف عده العلماء فتحاً جديداً في تاريخ الأدب العربي حتى إننا لا نزال نذكر فيه كلمة الأستاذ البحاثة الكبير أحمد زكي باشا من مقالته التي نشرها عنه يومئذ وهي قوله ولو كان كتابه مخطوطاً من أعلاق الدفائن، وقد ضربت عليه أغلاق الخزائن، أو كان في بلد يعسف دونه الباحث الأديب أتباج القفار، ويخوض إليه أمواج البحار، لكان من شعائره أن يسعى إلى مكانه، ويطاف بأركانه، ولكان فتح خزائنه من الفتوح في جهاد العالم المجتهد بيقينه، أما إذا نحصل عليه فذلك عنده من الظفر كأنما أوتي كتابه بيمينه. . فما نحن الآن بمحدثين عن الرافعي ولا عن كتابه ولكنا نوجز الكلام فنذكر للقراء أن هذا الجزء الذين بين أيدينا يقع في زهاء 370 من قطع البيان وهو مقصور على البحث في إعجاز القرآن وصفه بلاغة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك مسألة المسائل العربية في الدين والأدب والتاريخ وقد كان يلم بها علماء الكلام قديماً ويتكلم في بعض جهاتها طائفة من علماء البلاغة بسط الرافعي تاريخ كل ذلك في كتابه، ولكنهم جميعاً إنما يتناولونها من ناحية التسليم لا من ناحية البحث، ومن جهة ضرب الأمثلة لا من جهة تقرير القواعد وقد أغفلوا المعاني الاجتماعية وفلسفة البلاغة من كلامهم وهما طرفا المحور الذي تدور عليه هذه الرحي. أما أدباء هذا العصر فما منهم إلا من يتحاشى جهده أن يتكلم في هذه المضلة وهم في الجملة يخرجونها من تاريخ الآداب إلا كلمات قليلة لا خير فيها وما هي من قدر الموضوع في شيء يستحق أن يسمي شيئاً. وما كان ذلك عن تهاون منهم ولا عن إنكار لإعجاز القرآن ولا عن جهل بأن هذا الباب أصل الأصول في تاريخ الأدب الإسلامي كله وأن كل كتاب في تاريخ الأدبيات يخلو منه فإنما هو يخلو من جمال التأليف ومن فلسفة الأدب ومن سر تاريخه - لم يكن إهمالهم عن شيء من ذلك، ولكن المعنى في نفسه دقيق جداً محرج

للغاية وهو لا يخرج نقلاً وتلفيقاً من كتب التراجم ودواوين الأدب ولكنه يخرج من الرأس المحيط والعقل الجبار والقلم الهائل فما القرآن بشعر شاعر ولا كتابة كاتب ولا خطابة خطيب ولا تأليف مؤلف ولكنه كلام إلهي بائن بنفسه متميز بإعجاز نظمه وأسرار تركيبه، فمن كتب عنه لا يكتب إلا مبتكراً وهذا الابتكار ليس علماً ولا صنعة ولا حفظاً ولا إحاطة ولكنه حظوظ ومواهب ورب ألف عالم مجتهد يحملهم عالم واحد قد رزقه هذه الموهبة. ولا يفوتنك عناء الصبر الطويل الذي لابد منه لمن يقتحم هذه العقبة في الآداب العربية حتى يأكل الفكر أكلاً وحتى كأنما يحترم العمر فلا توفق إليه إلا موفق ولا يصبر عليه الصبور إلا بعون من الله. ولولا هذه العلة - علة الصبر الطويل والوقت الممدود - لكان أحق الناس بتحقيق هذا البحث أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله فقد خرج من الدنيا وليس له في إعجاز القرآن إلا الفصل الذي كتبه في (رسالة التوحيد) أما في تفسيره فقد مر عليه مراً غير ملم ولا متوقف. وهو رحمه الله لم يكن يشكو من أمر شكاته من ضيق وقته وتزاحم أعماله وأنه لا يستطيع أن يتفرغ لشيء من أصناف التأليف كما يحب وبمقدار ما يقتضيه تجويد العمل. وهذا الأستاذ المفكر الكواكبي رحمه الله قد أشار إلى إعجاز القرآن إشارة مقتضبة في كتابيه (أم القرى) و (طبائع الاستبداد) لم يثبت بها عجزاً ولم يحقق إعجازاً وكان رحمه الله دائم الفكر طويل النظر واسع الوقت متوفراً على أعماله، وما نظن أن شيئاً صرفه عن هذا الحث إلا معضلة البلاغة. ولو شئنا لعددنا كثيراً ولكننا نقول في الجملة أن أديبنا الرافعي لا ينقصه شيء من الصفات التي لا بد منها في أحكام هذا الوضع، فهو بحيث يعرفه قراء العربية من بعد النظر وتوقد لذكاء وموهبة الابتكار وشدة النفس وصرامة العزيمة وسعة الإطلاع وقوة البلاغة والوقوف على أسرار البيان، وقد لبث يعمل في هذا الجزء سنتين من لدن أصدر الجزء الأول إلى الآن فلا يدع أن جاء كتابه من وراء الغاية، وخرج من الدقة والأحكام كما تخرج الآية.

الجمال والجلال

الجمال والجلال قد رأينا أن نتحف قراء البيان بنبذ وشذورات مختارة من أنفس كتاب تناول هذا الموضوع الجليل الذي جرت في مضماره حلبة الأقلام فانثنت عنه حسرى، ولم يسبق إلى الغاية سوى قلم الفيلسوف الكبير والخطيب المصقع أدمند برك واضع هذا الكتاب الذي نحن بصدده. وكان الفيلسوف المذكور قد أوتي نفاذ البصيرة ودقة التفكير، مع سحر البيان وخلابة التعبير، فجاء كتابه آية الآيات، ومعجزة المعجزات، وأصبح على قلة حجمه قد لا تساويه الخزائن المشحونة، وسيرى القارئ مصداق هذا القول إذا ذاق ما نحن مقدموه بين يديه من محاسن ألوان هذا الخوان البديع. أو تنسم ما نحن مهدوه إليه من أطايب أفانين هذا الروض المريع. وقبل أن نطرق هذا الباب يجدر بنا أن نذكر كلمة موجزة عن المؤلف ليعلم القارئ من هو أدمند برك فنقول: أدمند برك هو خطيب الإنكليز المفوه وحكيمهم الجليل، كان إيرلندياً ولد في دبلن عام 1728 ونال شهادة أستاذ في الآداب عام 1751 وأبدى في سنى دراسته ميلاً شديداً لقراءة أنواع العلوم وصنوف الفنون وأبدى كذلك سرعة بديهة وقوة ذاكرة وولوعاً بالشعر وما وراء المادة. وبعد نيل شهادة أستاذ في الآداب درس القانون ولكنه لم يحترف به بل انصرف للتعمق في الآداب والفلسفة وكان يستظهر كل ما راقه من ملح الكتاب وطرف الشعراء وحكم الفلاسفة، ثم شرع يفكر في ترشيح نفسه للخدمة العامة أعني خدمة الوطن من الوجهتين السياسية والاجتماعية. وفي ذلك يقول ولما وجدت أن دستورنا وتجارتنا هما منبع مجدنا وسعادتنا لم آل جهداً في تفهم هذين الركنين وتوطيدهما فكان سفر القانون لكثرة ما قلب أوراقه وطول ما نظر في سطوره رث الغلاف خلق الصحائف. وفي عام 1757 تزوج ابنة الأستاذ نيوجنت فكانت ريحانة قلبه وسلوة همومه طول عمره. ويحسن بنا في هذا الموضع أن نسأل ذوي الحرص على الشهرة والمجد والمنصب من الفتيان أن يردوا من مطامعهم، ويكفوا من حدة حرصهم، وأن يؤثروا الصبر والقناعة والزهد أسوة بهذا الرجل العظيم (برك) الذي كان مع بلوغه الثلاثين من عمره ومع ما كان قد أوتى إذا ذاك من جليل المواهب الآلهية والعلوم الاكتسابية عاثر الجد أسود الحظ يعول زوجة وهو لا منصب له ولا عمل وليس في سعة من الرزق ولا في ذروة من المجد ولا جاه له ولا ذكر. ففي ذلك يقول في كتاب له لبعض أصدقائه إنما منعني من الرد عليك

صروف الدهر ودول الأيام واضطرابي بين هذا البلد وذاك بينا تراني في لندن إذ أنا بالريف، ثم لا تلبث أن تراني في بلاد الفرنس وكأنك بي بعد أيام أطأ تربة أمريكا: يوماً بحزوى ويوماً بالعقي ... ق وبالعذيب يوماً ويوماً بالخليضاء ولكن الله أراد بالأمة الإنكليزية خيراً فلم يقدر لفيلسوفها العظيم مناخاً في غير أرضها، ولم يبشنف بأنغام مزهر بيانه إلا مسامع بني أوطانه. وفي عام 1758 اقترح على أحد الساسة دودزلي كتابة تاريخ سنوي لإنكلترا يستوعب أهم حوادث الحياة الاجتماعية والسياسية والأمور الأخلاقية، فوافق الاقتراح هوى في نفس ذلك السياسي، وظهر التاريخ السنوي واستمر برك يكتب القسم السياسي أو الخلاصة حتى عام 1788 بأجر سنوي قدره مائة جنيه. وفي عام 1761 ذهب السياسي هاملتون إلى إيرلنده ليشغل بها وظيفة كاتب أسرار الحاكم العام وهو اللورد هاليفاكس إذ ذاك واستصحب معه بيرك كاتباً له وهنالك انتفع هاملتون أشد الانتفاع بمواهب بيرك ومعارفه وأجرى عليه رزقاً قدره ثلاثمائة جنيه في العام، ثم حدث خلاف بينهما فاستقال بيرك وعاد إلى إنكلترا وقد بلغ السابعة والثلاثين من عمره، وأصبح ذا ذرية وأنه لصفر من المال والوظيفة، بعيد من مناطق الحرف وميادين العمل. ولكن أعاظم الرجال لابد لهم من عصور محنة وأيام شدة وأوقات فراغ وعزلة تنضج فيها قرائحهم وتجم فيها بدائههم وتحتفل اثناءها خواطرهم ويتهيأون في خلالها لملاقاة الخطوب الجسيمة وإمضاء الأمور العظيمة. فيخرج أحدهم من غيابة العزلة والخمول والمحنة وقد سله الله للخطوب من الغمد كسل المهند المغمود. فلما كان عام 1765 رأس الوزارة اللورد روكنجهام رئيس الأحرار إذ ذاك فاتخذ بيرك كاتب أسراره، فكان هذا العمل الجديد مدعاة لظهور فضل بيرك فعرف القوم قيمته وأحبوه حباً جماً حتى إذا كان انتخاب أعضاء البرلمان في عام 1765 انتخب بيرك عضواً من حزب الأحرار، ومن ذلك الحين فصاعداً بزغ نجمه وأزهرت دولته وهبط على مجلس البرلمان من فيه ذلك الوحي الجليل السنين الطوال، وتساقط عليهم ذلك الدر البهي الذي لا معدن له إلا بحر علمه الفياض، ولج خاطره الزاخر. وكم له في مجلس البرلمان من موقف كان يأخذ فيه بمجامع القلوب وأزمة النفوس إذ يرسل القول متدفقاً عذباً حتى تظل الألباب

عليه حائمة، والأرواح عاكفة، ترف عليه رفيف النور والأقحوان على صافي النطاف سلسال، وإذ أوتار القلوب في يديه يعزف عليها أنغام السرور، وآونة ألحان الترح يحزن ويفرح ويبكي ويضحك. ولكتابات بيرك وخطبه المكان الأعلى لدى طالب العلوم السياسية والاجتماعية. فأما كتابات شبابه وأوائل خطبه فتمتاز بدقة التفكير والتعبير مع الإيجاز المعجز، وأما كتاباته وخطبه المتأهرة فتمتاز بكثرة المحسنات اللفظية وشدة الاحتفال والتأنق، وتنفرد بما يشبه حذاقة يد المصور وإشراق ألوانه وتنوع صبغه. وإن كتاباته وخطبه الأخيرة هي التي شبت أنكى الحروب وأفظعها حين أثار الرأي العام الإنكليزي ضد الثورة الفرنسية وبعث إنكلترا على مقاتلة فرنسا قمعاً لها وردعاً واستئصالاً لما نشرت من تلك المبادئ الخبيثة والمذاهب الممقوتة، ولئلا تنتقل منها العدوى إلى إنكلترا ويسري إليها الداء، ففي هذا يقول حذار مما نحن هاجمون عليه من الخطر العظيم - خطر إعجاب الشعب الإنكليزي بما قد أتته حكومة فرنسا من الجرائم والآثام فيقلد فظائع ديمقراطية نهابة سلابة فتاكة مفترسة سفاحة مغتصبة حمقاء هوجاء مجنونة لا مبدأ لها وليس فيها ذرة من المروءة والإنسانية ونحن مع شدة احترامنا آراء بيرك فلا يسعنا إلا مخالفته في رأيه هذا واستهجان هذا الحكم الجائر الذي أصدره على حكومة فرنسا إذ ذاك وعلى معظم الفرنسيين. وفي 1790 نشر بيرك سفره المسمى خواطر عن الثورة الفرنسية وهو الذي أثار الشعب الإنكليزي ضد الثورة الفرنسية وحدا به إلى ما لم تحمد عقباه من تلك الحرب العوان الحطمة. ولو ترك الفرنس وشأنهم لأسسوا حكومة نظامية ثابتة لا تقل جودة ونظاماً عن حكومة الولايات المتحدة أو حكومة الإنكليز. وكان رئيس حزب الأحرار في إنكلترا فوكس لا يرى هو وحزبه في الثورة الفرنسية إلا نزعة إلى الانتصاف، ونهضة إلى الإصلاح، ولكن بيرك خالف رأي الأحرار على أنه منهم وأبى أن يقعد معهم في المجلس وأن يضمه صفهم فانتقل إلى ناحية الحزب المضاد وجلس إلى جانب الوزراء المحافظين متحملاً مسؤولية عمله هذا. وجعل يحث الوزارة على قتال فرنسا قائلاً إذا اجترأت إحدى الحكومات على قلب كيان الشرائع والأديان عامة وسلكت من الضلال سبيلاً يخشى معها حدوث الفتنة والفوضى في ممالك أخرى وجب على الشعوب والأمم أن تحارب هذه الأمة.

فهذه هي حال فرنسا. وماذا يقي بلادنا سريان هذا الداء إليها وانتقال هذه العدوى؟ الحرب لا غيرها. فرأى اللورد جرانفيل المسالمة في مبدأ الأمر ورآها كذلك بيت. والواقع إن المسألة كانت تكون إذ ذاك خير خطة وكان عليها ضمان ازدياد ثروة البلاد وقوتها. وكانت شواهد الحال كلها تغري الساسة باتباع خطة المسالمة. بل كانت المسالمة غاية كبار الساسة الفرنسيين والغرض الذي كانوا يرمون إليه حتى جعلوا يحاولون توثيق عرى الوداد بين فرنسا وإنكلترا وتوكيد أسباب السلام بين الإنكليز وبينهم فجاهر باتباع السلام ميرابو وتايواند وبيسيون حتى روبسبير نفسه الملقب بالسفاح وشارب الدماء. ولكن تشنيعات بيرك ومطاعنه قامت عقبة في سبيل المحافظة على السلم، وقد ذكر ميرابو في تقرير رسمي كتبه في ذلك الصدد أسباب إيثاره خطة السلم وقد أعدبنا أحد هذه الأسباب لقوة حجته وهو قوله: إن أقل آفات الحرب على فرش أن للفرنسيين الفوز والظفر هو أن جماعة القواد تأخذ من رؤوسهم نشوة النصر وتزهوهم أبهة الحياة الحربية فإذا وضعت الحرب أوزارها أنفوا أن يتركوا عظمة الجندية إلى تواضع العيشة الملكية فيطلبوا سن القوانين لإبقاء الجيوش وهذه طلائع أسوأ الحكومة أعني الحكومات الحربية. وأخيراً تمكن بيرك عام 1793 من حمل إنكلترا على التداخل في شؤون فرنسا وساعده على ذلك ما ارتكبه الفرنس من إعدام ملكهم لويز السادس عشر. فذكر الإنكليز مقتل مليكهم شارل الأول فثاروا وأقسموا ليوقعن أقصى العقوبة على الفرنسيين وليرغمهم على إعادة العرش إلى أسرة البوربون وأعقب ذلك حرب استمرت اثنين وعشرين عاماً كابدت إنكلترا أثناءها من الكرب والبلاء والمحنة والشقاء ما يعني به الوصف ويعجز عنه البيان. وطالما حاول فوكس إيقاع الصلح واستجلاب السلم ولكن بيرك كان يكتب ضده بقلم من نار ويرد عليه بلسان شيطان. وعلى هذه الحال أمضى بيرك السبع السنين التي تبقت من عمره ثم قضى نحبه في الثامن من شهر يوليه 1797. وكتابات بيرك وخطبه مملوءة من الحكم والأحكام والمبادئ بما يجدر أن يسترشد به السياسي في التشريع العملي وتأسيس الحكومة الصالحة. وإذا اضطر إلى تعضيد حزب الأقلية وتوريج الآراء الكاسدة والمذاهب المكروهة قدرة على ذلك اقتداؤه بذلك الخطيب

المفوه والمنطقي البليغ الذي استطاع أن يدحض حجة الخصوم ويعلي كلمته مدة ثلاثاً وعشرين حجة. أما كتابه قواعد الجلال والجمال هذا الذي نريد أن نتحف القراء بأطايبه فهو من مؤلفات صباه ولكنه كهل الحكمة مشحون بالفلسفة يهدي القارئ إلى أسرار الجلال والجمال بعيدها وقريبها فيصبح له في أنحاء الوجود وأرجاء الطبيعة الجامدة والناطقة نظرة الفيلسوف النقاد والحكيم البصير. ذلك إلى ما يمتاز به موضوع الكتاب من دواعي الإمتاع واللذة، وأي شيء أروع في الفؤاد وأعذب في النفس من الجمال والجلال. الفصل الأول الجدة أول وأبسط ما يبدو لنا من حركات النفس الإنسانية هو الوجدان المسمى التطلع وأعنى بالتطلع الميل إلى استكشاف الجديد والتلذذ به. ونحن لا نزال نرى الصبيان يعدون من مكان إلى مكان لتصيد الشيء الجديد يتهافتون على كل ما يصادفونه لا يتخيرون ولا ينتقون فكل شيء يجذب أبصارهم لأن كل شيء جديد في عصر الطفولة، ولكل جديد لذة تستميل وتستهوي ولكن لما كانت هذه الأشياء التي لا سبيل لها إلى النفوس البشرية إلا مزية الجدة لا تلبث أن تزول بالتكرار جدتها لذلك كان التطلع أسرع الوجدانات النفسانية زوالاً وأكثرها انتقالاً وأقلها من النفس استمكاناً. فهو ذو شهوة حادة ولكنها سريعة الاكتفاء. سهلة الاشتفاء. وهو أبداً مشفوع بخلتي القلق والشوق. والتطلع بطبيعته حركة دائبة. سريع المر على ما يصادف من الأشياء فما هو إلا زمن قصير حتى يستوعب صنوف الموجودات التي يلقاها المرء في هذا الكون. ثم يكثر تردد هذه الموجودات على الحواس وكلما كثر خواص ممتعة وصفات معجبة خلاف صفة الجدة لأصبح الإنسان بعد مضي عصر الطفولة لا يبصر في هذه الدنيا إلا ما يكره ولا يرى إلا ما يمل ويسأم. بيد أن هذه الأشياء المؤثرة في النفوس بقوى خلاف عامل الجدة نرى أن الحكمة الإلهية لا تخليها بتاتاً من نوع ما من الجدة فإنه لا يخلو البتة من الجدة إلا ما أخلقه الابتذال وأبلاه الامتهان وسلبه طول الصحبة والمزاولة كل بهجة وطلاوة. الفصل الثاني

الألم واللذة فمن ذلك نرى أن تحريك الوجدانات في نفوس الكبار يستلزم أن تكون الأشياء المراد منها ذلك التحريك تحتوي - فضلاً عن شيء ما من الجدة - عوامل أخرى محدثة أما ألماً ولذة. والألم واللذة هما وجدنان سبطان لا يمكن تعريفهما والإنسان لا يخطئ قط معنى ما يعتريه من الوجدانات ولكنه كثيراً ما يخطئ في تسميتها وفي الكلام عن أسبابها ونتائجها فيذهب البعض إلى أن مصدر الألم إنما هو زوال لذة ما، كما أن منشأ اللذة إنما هو انقطاع أو تخفيف ألم ما. فأما الذي أذهب إليه أنا فهو أن كلا الألم واللذة القوى منعهما والضعيف هو أمر حادث ووجدان إيجابي لا سلبي وليس أحدهما متوقفاً وجوده على زوال الآخر. ورأيي أن النفس الإنسانية تكون في معظم أوقاتها بحال ليست هي بالألم ولا باللذة أسميها حالة فتور فإذا انتقلت من هذه الحال إلى حالة لذة واقعية فما أحسب أن ذلك يستلزم أني أعاني أولا شيئاً من الألم. فإذا كنت في مثل هذه الحالة من الفتور أو الراحة أو السكون أو كما شئت أن تسميها ففوجئت بالغناء المطرب أو المنظر المونق ذي اللون المشرق والشكل المعجب أو صافح أنفك شذى المسك ونفح الطيب. أو تشرب لذيذ الراح على غير ظمأ إليها، أو تذوق الحلوى على غير سغب، فإنك لاشك تجد في كل من هذه الأحوال لذة مع أنك لم تكن قبل الاستمتاع بهذه المناعم في شيء من الألم. وهل إذا أمتعت حواسك بهذه المناعم المختلفة ثم زالت عنك لنسها تستطيع أن تقول أن زوال هذه اللذة قد أعقبك ألماً. ومن جهة أخرى إذا كنت في حالة فتور فأصابتك لطمة شديدة أو تجرعت شراباً مراً أو خدش سمعك صوت منكر أفتقدر أن تقول إنك لم تجد لهذه الأشياء ألما محتجاً على ذلك بأنها لم تكن نتيجة زوال لذة. فإذا قيل أن الألم في هذه الأحوال إنما نشأ من زوال لذة ولكن هذه اللذة كانت من شدة الخفاء بحيث أنه لم يكن ليظهرها إلا زوالها، قلت أن هذا القول تكلف ليس له أساس من الحق فإنه لا شيء قط يدعوني إلى التسليم بوجود مالا أجد ولا أحس فإن اللذة لا تكون لذة إلا إذ شعر بها لذلك لا أستطيع حمل نفسي على الاعتقاد بأن الألم واللذة هما أمران متعلق أحدهما بالآخر وأ، هما لا يوجدان إلا بمضادة أحدهما للآخر. ولكني اذهب إلى أن هناك آلاماً وملاذ إيجابية لا يتوقف بعضها على بعض. وهذا ما يدلني عليه الشعور الصادق والإحساس الصحيح. ولا أكاد أميز بين ثلاثة أشياء متباينة مستقلة

تمييزي بين أحول النفس الثلاث: الفتور والألم واللذة. فإني أبصر كل واحدة منها بأنها من الأخريين منفصلة عنهما ليس لها بهما أدنى صلة أو علاقة. هب أن أمراً أصيب بمغص فلا شك أنه يكون في ألم. فإذا طرحته على آلة التعذيب أحس ولا ريب ألماً أشد، فهل ترى ألم التعذيب كان منشؤه زوال لذة؟ وهل نوبة المغص تعد لذة أو ألماً حسبما نشاء أن نعدها؟. الفصل الثالث فرق ما بين زوال الألم واللذة الإيجابية إن الأمر في الألم واللذة ليس مقصوراً على أن وجود أحدهما غير متوقف على زوال الآخر كله أو بعضه. بل أن زوال اللذة كلها أو بعضها لا يشبه الألم الإيجابي، وإن زوال الألم كله أو بعضه قليل الشبه (من حيث تأثيره) باللذة الإيجابية. ولعل الشطر الأول من هذه القضية أقرب أن يسلم به الناس من شطرها الآخر إذ أن من الواضح أن اللذة إذا جرت بنا شوطها تركتنا حيث كنا قبل مباشرتها أعني في حالة سكينة ممزوجة بأثر حميد مما كنا فيه من تلك اللذة. واعلم أن المرء لا يستطيع أن يدرك لأول نظرة أن زوال الألم الشديد لا يشبه اللذة الإيجابية. فليذكر المرء في أي حالة يجد نفسه عقب الإفلات من خطر شديد أو الخلاص من سورة ألم حادة فإنه إن فعل ذلك تذكر أنه يجد نفسه بحال جد مخالفة لما يعتري النفس من شهود اللذة الإيجابية. إذ أنه يجد نفسه بحالة انتباه ويقظة مشفوعة بشيء من الخوف - بحالة سكينة يعلوها الروع. فإن هيئة الوجه حينذاك وحركة الجسد تنم عن ذلك، فلو أن جاهلاً بالأمر أبصر هيئة وجوهنا وحركة أجسادنا حينئذ ما شك أننا بحال من الروع الدهش وما مر بباله قط أن بنا أدنى شيء من اللذة. ولا أرى في مصداق ذلك أحسن مما قاله شيخ الشعراء هو ميروس في بعض أبواب الألياذة. وهو قوله يصف هيئة رجل رفع عنه الألم: إن مثله كمثل رجل أجرم وخاف السلطان ففر هارباً: كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل يؤتي إليه إن كل ثنية ... تميمها ترمي إليه بقاتل فما زال بهذه الحال من الرعب والفرق حتى خرج من دار الخوف وأفضى إلى مأمن هنالك

كنت تراه أصفر الوجه مبهوتاً شاخص البصر مبهوراً. وتلك لعمرك هيئة كل من كان بمثل حالة ذلك الناجي من الخطر المفلت من التلف أفضى به الفرار إلى مأمن فراح دهشاً فرقاً مبهوتا. وبيان ذلك أنه إذا اعترى أحدنا شديد الجزع لسبب ما فزال هذا السبب لم يزل معه الجزتع للتو واللحظة بل بقي حيناً بعد زوال سببه. فمثل ذلك كالزوبعة تهيج بالبحر فلا يسكن بسكونها البحر ولا يفتر بفتورها العباب بل تبصر الماء بعدركدة الريح في القطام. والموج في اصطدام. وكذلك تقرع الطبول وتنبض الأوتار فيبقى لها صدى في الأسماع وفترة في العظام فإذا زال من نفس نقيذ الألم تلك البقية وذهبت من روحه هذه الفضلة عاد إلى حاله المعتادة من الهدوء والسكينة. وقصارى القول أن اللذة وجدان إيجابي مستقل لا يكون قط منشؤها زوال ألم أو خطر. الفصل الرابع الكلام على السرو واللذة من حيث تضادهما ولكن أيجوز لنا بناء على ذلك أن نقول أن زوال الألم أو تخفيضه يترك دائماً ألماً محضاً، أو أن انقطاع اللذة أو نقصانها لا يزال مشفوعاً بنوع من اللذة، كلا لا يجوز لنا أن نقول ذلك. بل الذي أقول هو هذا: أولاً إن هناك ملاذ مستقلة إيجابية وآلاماً مستقلة إيجابية، ثانياً إن الشبه الكائن بين الشعور الناشئ من انقطاع الألم أو تخفيضه وبين اللذة الإيجابية المستقلة أبعد وأضعف من أن يسوغ لنا أن نلحق الأول بالثاني أو نسميه باسمه. ثالثاً إن زوال اللذة أو نقصانها لا يشبه الألم الإيجابي المستقل. ولاشك أن في الشعور الأول (أعنى ما يعقب زوال الألم أو نقصانه) لشيئاً بعيداً من الكراهية والإيذاء. وهذا الشعور الذي هو في كثير من الأحوال محمود والذي هو في جميع الأحوال مخالف للذة الإيجابية لا أعرف له اسماًَ. ولكن ذلك لا يمنع كونه شعوراً حقيقياً جد مغاير لسائر الوجدانات. ومما لا ريب فيه إن كل نوع من الرضى أو اللذة مهما كانت صفة تأثيره هو ذو وجود مستقل في نفس الشاعرية. أجل أن كل شعور هو لاشك إيجابي مستقل وإن كان السبب كما هو الواقع في هذه الحالة - ربما كان نوعاً من الفقدان والسلب. وأنه ليجدر بنا ويجب علينا أن نميز بالتسمية بين شيئين مختلفين مثل هذا الخلاف في ماهيتهما وهما اللذة الإيجابية المستقلة المجردة من كل علاقة وتلك اللذة التي لا تكون قط بلا علاقة - وهذه العلاقة علاقة بالألم.

وأنه لمن أفحش العيب والخطأ أن يخلط بين شعورين متغايرين هذه المغايرة علة وأثراً حتى تقع الشبهة بينهما ويلتبس أحدهما بالآخر وما ذلك إلا لأن العامة لم يفرقوا في التسمية بينهما بل أدرجوهما معاً تحت اسم واحد عام. ولكني سأطلق على تلك اللذة النسبية المتعلقة بالألم اسم السرور وسأبذل الجهد في أن لا أستعمل هذا اللفظ لغير هذا المعنى بل أجعله وقفاً عليه رهناً به. ولقد آثرت اتخاذ كلمة مألوفة معروفة أقصر مدلولها واخصص مفهومها على إدخال كلمة جديدة ربما تعذر حسن إدماجها في سلك اللغة وانتظامها في سمط الألفاظ وخلاصة القول إني سأستعمل كلمة السرور في التعبير عن الوجدان الناشئ من زوال الألم أو تخفيفه وكلمة اللذة في التعبير عن اللذة الإيجابية المستقلة التي لا علاقة لها بالألم. الفصل الخامس الفرح والحزن اعلم أن انقطاع اللذة يؤثر في النفس على ثلاثة أشكال. فإذا كانت لم تنقطع إلا بعد استمرارها زمناً كافياً كان كل ما يحدثه انقطاعها هو حالة السكون الاعتيادية. وإذا كان انقطاعها بغتة نشأ عن ذلك قلق في النفس يسمى حسرة فإذا فقد سبب اللذة حتى أيس من استرجاعه نشأ بالنفس وجدان يسمى الحزن وليس شيء من هذه الثلاث كلا ولا الحزن نفسه ولو بلغ أقصاه بمشبه وجدان الألم. وذلك أن الحزين يترك الحزن يشيع في نفسه ويتفشى في روحه ويسترسل هو فيه ويتمادى وكأنه يحب الحزن ويألفه ويستريح إليه. ولكن هذا خلاف ما يحدث من الألم الواقعي الذي ما علمنا أن امرأ احتمله طائعاً مختاراً لبرهة طويلة من الزمن، وليس بالأمر العسير أن يفهم الناس أن صاحب الحزن ربما حمله مختاراً راضياً مرتاحاً إلى حمله وإن لم يكن بالأمر اللذيذ على الإطلاق، الممتع بوجه عام، وتفسير ذلك أن من شأن الحزن أن لا يزال بمثل المفقود لقلب الفاقد الحزين فيقلبه لناظر وهمه في أعجب أشكاله وأبهج ألوانه وأخلب صوره وأن يجد ذكرى كل ما كان قد اتصل بهذا المفقود من الحوادث ولحقه من الأحوال والشؤون لا يغادر من ذلك صغيرة ولا كبيرة إلا أوردها وساقها إلى مخيلة الحزين الواجد. والسليب الفاقد. كذلك من شأن الحزن أن يرجع بصاحبه إلى العصر الماضي فيشهده في عالم الخيال كل نعمة كان في سالف الأيام باشر، وكل مسرة لابس. وكل لذة عاقر. وكل حسنة خالس. ويطيل به الوقوف على

خيالات تلك الملاذ والمطايب. ويكثر به التلوم على أشباح هاتيك المباهج والمطارب. مبدياً بها من جديد المحاسن الآلاف المؤلفة مما كان قد خفى على المرء أيام يباشر حقيقة هذه النعيم واللذائذ. وكذلك الذكرى تذيع - بعد افتقاد الشيء - للوهم. غوامض أسرار كانت أيام وجدانه تغيب عن الفهم. فلا تدركها المعرفة ولا يحيط بها العلم. فمن ذلك ترى أن الحزن تخيم من فوقه اللذة. وإن البلاء الذي تحتمله إذ ذاك لا شبه له بالألم المطلق الذي لا يكون قط إلا بغيضاً مشكراً، والذي ما أن نزال نبتغي الخلاص من ربقته. ويحمل بي هنا أن أستشهد على صدق هذه القضية بأبيات لشيخ الشعراء صناجة العالم القديم والزمان الأول هو ميروس وهي أبيات من ملحمته المسماة الأوديسيا ينعت بها بطل القصة مصاب خلانه وأخدانه، ويندب فيها بلواه وبلواهم. ويبكي شجوه وشجوهم. قال هو ميروس في تلك القصيدة الكبرى على لسن ذلك البطل إني لا أحب إدامة الإطراق والتفكير والهم ولا الاسترسال مع الخواطر المحزنة والهواجس المبرحة ولكن من شأني أن لا أزال فرق بين الخاطر المحزن وأخيه بالفكرة السارة والذكرى المفرحة بيد أن هذه الخواطر الحزينة على ما طويت عليه من حزن ولويت عليه من شجن لتكسبني لذة وتورثني متاعاً. إني ربما صبوت للحزن وتقت إلى الأسى فسرحت خاطري في أودية الذكرى أحضر مخيلتي صور من مضى من الأصحاب. وعهود من تولى من الأحباب. رعياً مني لحرمتهم وقضاء لحقهم. ما في اد كارك ساعة من باس ... تقضي حقوق الأزمن الأدرا وهشت نفسي للوجد وارتاحت عيني للبكاء وخفت جوانحي للزفير وإن من الحنين ما يستحب، وإن من الدموع ما يستعذب وما بلت حرقة الجوى بمثل ماء الشؤون. ولا أطفئت جمرة الغليل بمثل مقلة هتون. الفصل السادس الوجدانات الخاصة بوقاية النفس معظم الأمور الجديرة بأن تحدث في النفس تأثيراً من ألم محض أو لذة محضة أو مزيج من هذا أو ذاك لا تكاد تخرج عن أحد هذين البابين وقاية النفس العمران، فإن إليهما مرجع كل وجدان نفساني. وإني أرى الوجدان الخاصة بوقاية النفس تدور حول الألم أو الخطر.

فترى أن ذكر الألم والمرض والموت يملأ النفس بوجدانات الخوف والرهبة. ولكن الحياة والصحة وإن هما مكنا المرء من التمتع بالملاذ فإنهما لا يستطيعان وحدهما أن يحدثا من عنيف الوجدانات وشديدها مثلما يحدث ذكر والمرض والموت. وخلاصة القول إن الوجدانات الخاصة بوقاية النفس تدور غالباً حول الألم والخطر وهي أشد الوجدانات وأقواها وأعنفها.

الإنسان الأول

الإنسان الأول المسيوريتو أوجي من مشهوري علماء البلجيك، وبحاثة أثري في طليعة البحاثين. إلى ندوة العلوم بمجمع بلجيكا. هو من أعضائه. عشر قطع من أوثق المصادر. تمثل صور الإنسان الأول في أدوار همجيته الأولى. وقد اعتمد المسيو ريتو عل المصادر العلمية. وثوق بصحتها، وصنع قوالب صغيرة الحجم، ودقيقة المعالم، تمثل نصف الإنسان الأعلى، في هيآته المختلفة التي تتابعت وراء بعضها وتلاحقت، والتطورات التي حدثت لها في العصور المظلمة التي لم يصل إلى التاريخ الإنسان علمها. وقد أفرغها في قوالبها، وصنع قواعدها. النحات البلجيكي المشهور لويز ماسكرية. ولكي يصل المسيو ريتو ومساعده إلى أبعد غاية من الحقيقة المقبولة. أو الاحتمال المناسب، بدأ رسم الجماجم التي اتفق العلماء المحققون على شكلها ونسبوها إلى الإنسان في العصور المجهولة من التاريخ، ثم صورا بعد ذلك عضلات الوجه والسواعد والصدر. على حسب قوانين التناسب التشريحي. فلما تم لهما تصوير الهيكل العظمي. شرعا يكسوانه اللحم والشعر. وبعد ذلك صورا النظرات الملائمة لحال كل جنس وحياته والظروف التي يعيش فيها. ورسما الأسلحة التي كان كل يستعملها في العمل والقتل والذبح. ولاء ما بين ملامحهم ونظراتهم. وبين الأعمال التي كانوا يعملونها، وأثبت المسيو ريتو مع دمية من هذه الدمى شرحاً لها دقيقاً. وإليك صور هذه التماثيل. وما كتب المسيو ريتو من الشروح عليها: إن القطعة الأولى: وهي التي تمثل الإنسان وهو في الطبقة الثالثة الجيولوجية. وصورة جمجمة الإنسان القردي ونصف وجهه، وهي الصورة التي رسمها العالمة الفرنسي الدكتور مانوفرييه للجمعية الأنثروبولوجية في باريس، وأردفها بنظام متججرة تدل على العصر الذي كان يعيش فيه هذا النوع. وكلاهما مثل الإنسان منذ عشرة آلاف من القرون. حين بدأ ينتقل من آكل العشب إلى أكل الثمر، أيام كان وسطاً بين القرد والإنسان. ومسيطراً على كل ما حوله من حيوان. دون أن يكون له من القوة العقلية ما يجعله يتسلط عليه ذهنياً، وكانت سيطرته لا جفاء فيها ولا إيذاء. ولئن كان في حركاته لا يزال بعض الخصائص التي كانت لأجداده ذوات الأربع. فقد كان يمشي مستقيماً، إذ شاهد نفس من ذوات، وكان يقتبس من تورية الأحجار. وكان يصنع

أسلحة من الحجارة إلا فانظر إليه، ودع منخارية الواسعين، وفمه الرغيب، وحسبك النظر، عينيه. فإنك ترى الرضا بالرزق المقسوم له بادياً فيهما، ولا فكر يتجلى على وجهه المسيخ ولا هم. والقطعة الثانية لا تدل على تطور كبير. صنعت صورتها على غرار التي عثر بها العالم موير في هيدلبرج، وهذه الصورة تمثل الإنسان في الطبعة الرابعة الجيولوجية. وقد انتقل من آكل الثمر فأضحى آكل اللحم تريك أنه قفل راجعاً من الصيد يحمل جثة خنزير جبلي، قابضاً بيده على أداة الموت، وهي كالمناخس أو المعاول الحجرية. وانظر إلى عارضة. تجسد أنه لم يرتفع أكثر من عارض الإنسان الذي تقدمه إلا يسيراً. وهيأة ملامحه تنبئك أنه قد أحس بقوته. وشعر بفوزه على الحيوان وسلطانه. وتبدلك أنه قد لاقى العناء والوصب في محاربة الخنزير واصطياده. ولكن بين هذه الصورة. والصورة التي بعد فرق كبير. هذا هو الإنسان الذي كان يسكن جبال جالية من أعمال كنت إحدى مقاطعات إنجلترا وقد رسمت صورته على مثال الهيكل العظمي وصورة أسلحته وأدواته من الآلات التي عثر بها مع الهيكل العظمي. في تلك النواحي منذ خمسة وعشرين عاماً. وأخذ شكلها كذلك عن آثار تمثل ذلك العصر الجيولوجي نفسه اهتدى إليها على ضفاف السين. وفي بلجيكا بين بلدتي مونز وبلنش وفي تسمانيا وغيرها. هذه هي صورة من صور الإنسان الأول العاقل وقد بدأت الغريزة فيه تقوى وتتطور إلى مبادئ التصور والتفكير. هذا هو مخترع الصناعة الحجرية الأولى. كان يجوب الصخر فيجعل منه أسلحة أمتن من أسلحة أسلافه. وآلات أدق من آلات آبائه. إن جبينه لا يزال ضيقاً منخفضاً. ولكن وراء هذا الجبين قد نهضت فكرة الحق للقوي. على أنه لم يفكر في مهاجمة الفيلة العظيمة في احراشها. وإنما كان يعسف ويظلم من هو دونه من نوعه أي الإنسان المرسوم في الصورة الثانية المأخوذة عن العامة موير ويجور عليه. ويناله بالأذى. ومن ذلك العهد بدأ الرق والاستعباد. وترى من صورته أنه يحمل في يده اليسرى سلاحاً مستديراً مشدوداً إلى رقبته بقلادة من أعواد الشجر. وقد قال العلامة ريتو إن هذا السلاح الحجري الذي كان يستعمله الإنسان

الأول لأمة للقتال وعدة للذبح. لهو مبدأ الزينة وأصل الحلي. ولننتقل إلى القطعة الرابعة وهي التي تمثل الإنسان القصير الجمجمة الذي كان يسكن أنحاء جرينل، وهي قرية من قرى نهر السين، وهو النوع الثاني من العصر الجيولوجي الرابع، وهو في نظر المسيو ريتو نتاج تمازج بين الإنسان الشمالي والأجناس التي جاءت بعده، إذ يقول المسيو ريتو إن ظهور جنس جديد كهذا قد جر إلى استئصال الأجناس الأخرى التي تقدمته على أن هناك كثيراً من الشروح والأبحاث والاستنتاجات، وكلها تدور على أنه قد جرى في عروق طبقات كثيرة من الجنس البشري دماء ثلاثة أجناس أخرى من البشر، كل منها أكثر تطوراً في التقدم الذهني من سابقه. ودليل ذلك إن قد حدث تحسين في صنع الآلات وعمل أسلحة جديدة كالرمح والمزراق ليساعد على المحاربة والمناجزة على مسافات بعيدة، إذ بدأ الأفراد والقبائل يتنازعون على ملكية الأرض، في ذلك العصر الذي تدل صناعة قطع الصخور وجوب الحجارة فيه على تقدم كبير. كما ترى من هيأة هذا الإنسان، ساكن أنحاء جرينل، وهو يصنع قطعة من الحجر بدقة وحذق وبعد نظر واهتمام. والقطعة الخامسة تمثل الإنسان الذي كان يسكن كومب كابل وقد أخذت صورته من الهيكل العظمي الذي اكتشف هناك، ومن عصر ذلك الإنسان يبدأ استعمال المنقاش والآلات التي يستعملها اليوم صنَّاع الدنان. وصناع الرقوق والبسباكون، ووجد الهيكل العظمي الذي اكتشفوه في كومب كابل متوجاً بتاج من الصدف، وذلك ولا ريب لحماية شعورهم وجدائلهم من شدة الريح وعصف الهواء. وإن استنتاج المسيو ريتو أن منشأ القلائد والأطواق والحلي والجواهر وأنواع الزينة الحديثة، هو ذلك السلام الحجري المشدود إلى عنق ساكن جبال جالية كما مر بك، ليصح أن يقال أيضاً في هذا التاج الصدفي، وهل نستطيع أن نتصور أن هذا المشبك الذي كان يعقص به الإنسان القديم شعره وفروعه أو لعله كان الشارة الفارقة بين أهل السيادة منهم وأهل الخدمة والعبودية، هو أصل التيجان ومنشؤها؟. ولكن هكذا يرى المسيو ريتو، ولعله على صواب. والذي حدا بالمسيو ريتو إلى الباس هذه الصورة ناراً من الفر وهوا أن هذا الإنسان كحان يعيش في عصر جليدي. ومن ثم مسته الحاجة إلى الدفء فاشتمل في فراء الحيوانات.

وكل من يرى أن الإنسانية كانت أبداً في تقدم وتطور لتأخذه الدهشة والحيرة لمنظر القطعة السادسة وهي صورة الإنسان الذي كان يسكن وادي نياندرثال وقد أخذت عن آثار كثيرة عثر بها في كهوف فرنسا وبلجيكا، فإن هذا الجنس الآدمي كما يرى المسيو ريتو ويوافقه المسيو لويز ما سكريه مساعده أقرب إلى الحيوانية منه إلى الإنسانية. والرأي الذي يذهب إليه المسيو ريتو هو أن هذا الإنسان من بقايا الإنسان الأول المرسومة صوته في القطعة الأولى، وجد في وسط جنس أرقى منه فخضع لسلطانه واستكان له، وإن انحطاط قوته الذهنية عنه جعله تحت رحمته ومن ثم أوى من سلطته إلى الكهوف واحتمى بالأحجار. هذا العمر ك كلب الإنسان العاقل، يكتسى بقطع من الفراء يقذف بها إليه سيده ومولاه. ولذلك ترى على ملامحه وفي وجهه سيما الذلة والمسكنة. وليست الحيرة والدهشة بأقل إذا نظرنا إلى القطعتين السابعة والثامنة اللتين تصوران زنوج جريمالدي أسرة أثرية قديمة في مدينة جنوه من أعمال إيطاليا ينسب إليها حتى عام 1715 من الميلاد أمراء موناكو وتدلان على الجنس الذي ظهرت آثاره من الحفائر التي اكتشفت برعاية أمير موناكو عند ساحل اللازورد، وكذلك في نواحي عسقوينا وفي دسلدورف ولكن كيف اختلطت سلالات سام بسلالات يافث وتعلموا منهم صناعة النحت؟. لقد أحال العلم هذه الظاهرة إلى الانقلابات المتتابعة التي حدثت لهذا الكوكب الأرضي. كانت صقلية في العصر الرابع الجيولوجي قطعة متصلة بإيطاليا، وكان مضيق جبل طارق مقفلاً، وعلى ذلك كان من السهل العبور من أفريقيا سعياً على الأقدام إلى الأرض التي ندعوها اليوم أوروبا، وهكذا اختلط هذا الجنس الأيتوبي إلى حين بسكان هذه المنطقة ولكن هؤلاء ردوهم بعد ذلك إلى أوطانهم الأولى. ومن هيأة هذه الهياكل العظمية الزنجية المستخرجة من أرض الغرب لم يستنتج أحد من العلماء أن هذا الجنس الآدمي كان يعرف صناعة النحت ولكن هذا الاستنتاج جر إلى مناقشات علمية، نخص بالذكر تلك المناقشات التي ثارت حول الرموز التي وجدت فوق ذراعي تمثال عطارد ميلو ويذهب للدكتور ريتو إلى أن سلالات سام الذين زاروا أرض يافث وامتزجوا بالجنس الأبيض قد حملوا إليهم سر صناعة النحت إذ وجد في الأحجار المدرجة فيها عظامهم أشياء منحوتة بعضها منحوت من حجر الصابون وبعضها من

الحجارة منها ما هو قائم، ومنها مالا يعلو عن الأرض، وأغلب هذه المناحيت كاملة الصنع تامة القالب، ونخص منها تمثال عطارد ولندورف، وهو مفرغ في قالب من حجر الجير، وأما العصابة الصدفية التي ازدان بها هذا النحات الأول فمأخوذة عن العصابة التي وجدت موضوعة فوق جمجمة هيكل عظمي عثر به في كهف الأطفال بمدينة منتون، وأما صورة المرأة الزنجية الأولى المرسومة في القطعة الثامنة فقد اهتد المسيو ماسكريه بين منابش لوسل على نهر الدردون إلى شكل منحوت، والصورة التي تحملها في يدها فمقطوعة من قرون العجل، والأساور الصدفية المحلى بها زندها ومعصمها فمأخوذة عن حلى عثر بها في مدينة منتون. وانظر إلى الصورة التاسعة والصورة العاشرة فنحن الآن قد بلغنا بهما حدود التاريخ المجهول وأشرفنا على تخوم التاريخ المعلوم. هذه القطعة التاسعة تمثل لك صورة الإنسان المعاصر لدخول الزنوج أرض الغرب، وإن تناسب معالم وجهه وجمجمته يدل على شيء من العقل والتمييز، والآثار التي تركها هذا الجنس في كهوف بيريجو لتدل على حذق كبير في صناعة النقش والرسم، ومهارة فائقة في رسم الحيوانات، على حين أن الزنوج الذين جاءوا قبله تخصصوا في رسم الإنسان، وخناجر ذلك العصر كما جاء وصفها في كتاب الآثار القديمة مقطوعة من قرون الأيل الشمالي، أما الأسلحة الأخرى فكانت عديدة. ولعل ذلك لأنهم كانوا يعملون على مقالة الزنوج الأجانب عن أرضهم والدخلاء فيهم. وهذا الإنسان الذي صوره لنا المسيو ريتو دائباً في عمل منقوشاته غارقاً في إفراغ مناحيته، يدل على خطوة جديدة في تاريخ تطور الزينة، فهو كما ترى متجمل في فراء مرتوقة محوكة إلى بعضها، إذ عثر بين الآثار والمنابش بالإبرة الأولى وخيوطها، والمرتقة المستعملة في شد الجلود وحياكتها. والقطعة العاشرة وهي الأخيرة تظهر لك صورة الإنسان النحات وهو في عصر صقل المنحوتات وجلاء المقطوعات الحربية والصناعية إذ كان يشتغل بعمل مصنوعات من قرون الأيل وبدأ به عهد الحفر، وقد استخرج العامة ستيفنز في سنة 1911 من مدينة سيبين من أعمال بلجيكا هيكلاً عظمياً يمثل ذلك العصر، وقد حصل عليه الدكتور ريتو فرسمه والفأس مرفوع بيده إلى رأسه، وفي اليد الأخرى بعض

المزاريق وعليه سيمياء العزيمة والجد، وحب القتال والحرب. هذا هو الإنسان العاقل المتميز قد جاء يفتح الطريق لكل شيء!. إن رأسه مجلل بقبعة من الألياف. كي يرد بها ضربات عدوه، يزينها جناحاً طائر، تشبه القبعات التي كانت تصنع في أول العهد بعصر المعادن وكان يستعملها أهل الإسكندناوه الأولون وقد أظهرها واجنر على مسرح التمثيل في بعض ما ألف من رواياته. وبعد فلا بد لنا من أن نقول إن هذه التحقيقات ستثير الحذر وتقابل بالتكذيب من فريق المؤمنين وقد لا تصادف إجماعاً من العلماء على صحتها. بلى. أولم تؤخذ من ظلمات لا حد لها. في ماض لا غاية له تعرف ولا تاريخ بها يعترف؟. هذا المسيو ريتو نفسه صاحب التحقيق يذهب في طليعة نقاده وجماعة المعارضين، راضياً بكل مناظرة، متطلباً كل نقد ومناقشة، على شريطة أن يكون المناقش من العلماء المعدودين، سواء كان جيولوجياً أو أنثروبولوجياً أو حيوانياً، فلينتظر القراء رداً أو نقداً أنا معهم من المنتظرين.

إعجاز القرآن

إعجاز القرآن ننشر هنا فصلاً من فصول الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب للرافعي. وكل فصول الكتاب كالحلق المفرغة لا يدري أين طرفاها حسناً واتقاناً، وبودنا أن ننشر هذا الكتاب كله في البيان ولكن ماذا يفيد صاحبه من وراء ذلك، وماذا نبقى له ولكتابه إذن - قال الرافعي تحت عنوان: التحدي والمعارضة. كان العرب قد بلغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة ومن كمال الفطرة ومن دقة الحس البياني حتى أوشكوا أن يصيروا في هذا المعنى قبيلاً واحداً باجتماعهم على بلاغة الكلمة وفصاحة المنطق، وأنهم لأول دعوة من بلغائهم وفصائحهم مع تباعد ديارهم بعضهم عن بعض وتعاديهم واختلافهم في غير هذا الحس باختلاف قبائلهم ومعايشهم، لأن الكلام هو يدفعهم إلى المنافرة ويبعثهم على المفاخرة، وما كان الكلام صناعة قوم إلا أصبتهم معه كالجمل المؤلفة يرد بعضها بعضاً ويدور بعضها على بعض فيكون كل فرد منهم كأنه لفظ حي وكأن معنى حياته في الألفاظ. وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء ولم يظهر في أمة ظهوره في جاهلية العرب الأولى قبل الإسلام وفي جاهليتهم الثانية مع بعده حين استفحل أمر الفرق الإسلامية واستحر الجدال بينهم فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلا خواص، واقتحموا تلك الخصومات حتى يبس ما بين بعضهم إلى بعض وإن كان ليس بينهم إلا الدين والعقل. فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغه لفظاً وأسلوباً ومعنى ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها وأن يحدث منها وكانت رأس أمره وقوام تدبيره إذ هي الأمة بصبغتها العقلية ومعناها النفسي وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها فيما هي قوية به بحيث يشعر أهلها بالعجز والضعف والاضطراب شعوراً لا حيلة فيه للخديعة والتلبيس على النفس والتضريب بين الشك واليقين ومن طباع النفس التي جبلت عليها أنها متى خذلت وكان خذلانها من قبل ما تعده أكبر فخرها وأجمل صنعها وأعظم همها وأصابها الوهم في ذلك وضربها الخذلان باليأس فقلما تنفعها نافة بعد ذلك أو تجزئها قوة أخرى، وقلما تصنع شيئاً دون التراجع والاسترسال فيما انحدرت إليه. فمن ثم لم تقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآن من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم ومن جهة الكلام الذي هو سيد

عملهم بل تصدعوا عنه وهم أهل البسالة والبأس وهم مساعير الحروب ومغاويرها. وهم كالحصى عدداً وكثرة وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفسه وإلا نفر قليل معه لم يستجيبوا له ولم يبذلوا مقادتهم ونصرهم إلا بعد أن سمعوا القرآن ورأوا منه ما استهواهم وكاثرهم وغلبهم على أنفسهم، فكانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة باجمعها، ولهذا قام كل فرد منهم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه في نفسه قبيلة في مقدار حميتها وحفاظها ونجدتها وهذا هو نفس الشعور الذي كان يشعر به كل مسلم في الجيوش التي انصبت على الأمم أول عهدهم بالفتوح حتى نصروا بالرعب وكأنما كانت أنفسهم تحارب قبل أجسامهم وتعد المراصد لعدوهم من نفسه وتسلبه مالا يسلبه إلا الموت وحده، فالعرب يريدون أن يموتوا فيحيوا ويريد أعداؤهم لآأ، يحيوا فيموتوا. وإلا فأين تقع تلك الشراذم العربية القليلة من جيوش الروم والفرس وهي فيها كالشامة في جلد البعير لو وقعت عليها ذبابة لكانت عسى أن تخفيها؟. على أن من أعجب ما في أمر العرب أنهم كانوا يتخاذلون عن قتال النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته على كثرة ما استنفرتهم قريش لحربه وما اعترضتهم في حجهم ومواسمهم، وعلى ما كانوا يعرفون من مغبة هذا الأمر وأنه ذاهب بطريقتهم لا محالة فلم يجمعوا كيدهم ولم يصدمونه بل استأنوا به ولبسوه على مره وسرحوا فرصة كانت لهم ممكنة وتركوا أسباباً كانت منهم قريبة. وليس في ذلك سبب وراء القرآن فإن كل آية يسمعونها كانت تصيبهم بالشلل الاجتماعي وتخذلهم في أنفسهم فلا يحسون منها إلا تراجع الطبع وفتور العزيمة، ويكسر ذلك عليهم أمرهم فتقع الحرب في أنفسهم بديئاً بين الوهم واليقين، فإن نصبوها له بعد ذلك أقدموا عليها بنفوس مخذولة وعزائم واهية وأمور منتشرة وخواطر متقسمة وقاموا فيها وهم يعرفون آخرة النزوة وعاقبة الجولة، وتلك حرب سبيلها في القتال سبيل المكابرة الواهنة في الجدال من أقدم عليها مرة كان آية لنفسه وكان عبرة لغيره حتى ما يعتزم لهولها كرة أخرى فمن سكن بعدها فقد سكن. نزل القرآن على الوجه الذي بيناه فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أملوا أن يطلعوا عليه في آياته البينات كما يعتري

الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علواً ونزولاً على حسب مالا بد منه من اختلاف المعاني وتباين الأحوال النفسية المجتمعة عليها والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها مما ينقسم إليه الخطاب ويتصرف القول فيه ومروا ينتظرون وهم معدون له التكذيب متربصون به حالة من تلك الأحوال فإذا هو قبيل غير قبيل الكلام، وطبع غير طبع الأجسام وديباجة كالسماء في استوائها لا وهي ولا صدع، وإذا عصمة قوية وجمرة متوقدة وأمر فوق الأمر وكلام يحارون فيه بدءاً وعاقبة. وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضاً في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب ثقة منهم بقوة الطبع ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلو الكلمة وهم مجبولون عليه فطرة ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم. فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه وسلك إلى ذلك طريقاً كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي. فإن حكمة هذا التحدي وذكره فيه إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد والفصحاء اللسن وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها - حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن مولد أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله وأنه غير معجز وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا الضعيف، ويا لله من سمو هذه الحكمة وبراعة هذه السياسة التاريخية. أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك فهي أن التحدي كان مقصوراً على طلب المعارضة بمثل القرآن ثم بعشر سور مثله مغتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة وليس إلا النظم والأسلوب وهم أهل اللغة ولا تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور. . . ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع ثم استفزهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفخ الرماد الهامد فقال وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين فقطع لهم أنهم لن يفعلوا وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله ولا يقولها عربي

في العرب أبداً، وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة وعرفوا أنها تنفي عنهم الدهر نفياً وتعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلما رأوا همهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه وقد انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة بذلوا له السيف كما يبذل المحرج آخر وسعة وأخطروا بأنفسهم وأموالهم وانصرفوا عن توهين حجته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام فقالوا ساحر وشاعر ومجنون ورجل يكتب أساطير الأولين وإنما يعلمه بشر وأمثال ذلك مما أخذت به الحجة عليهم وكان إقراراً منهم بالعجز إذ جنحوا فيه إلى سياسة الطباع والعادات تلميحاً كما تقدم وتصريحاً كقولهم أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون وقولهم ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وأمر العادة مما تخدع به النفس عن الحق لأنها أعراق ضاربة في القلوب ملتفة بالطبائع وخاصة في قوم كالعرب كان أمر الماضي عندهم على ما رأيت في موضع سلف وكانت العادة عندهم ديناً حين لم يكن الدين الإعادة. قال الجاحظ: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف وننصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحاً ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذباً بسورة واحدة أو بآيات يسيرة فكلما ازداد تحدياً لهم بها وتقريعاً لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستوراً وظهر منه ما كان خفياً، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له أنت تعرف من أخبار الأمم مالا نعرف فلذلك يمكنك مالا يمكننا قال فهاتوها مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض. فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستجابة لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق

الأموال وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفي على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات. ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة. ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ثم تحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع والتوقيف على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة؟ وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثاً وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه. على أن التاريخ لا يخلو من أسماء قوم زعموا أنهم عارضوا القرآن فمنهم من ادعي النبوة وجعل ما يلقيه من ذلك قرآناً كيلا تكون صنعته بلا أداة. . . على أنه لا أتباع له من غير قومه ولا بشايعه من قومه إلا طائفة يستنقرون لأمره ويعطفون عليه جنبات الناس حتى يجمعوا له أخلاطاً وضروباً، وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصبية وحدبا من الطباع على الطباع فهم في غني عن نبوته وقرآنه وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة مقاربة لمن قارب صاحبهم ومباعدة لمن باعد وعسى أن يرد عليهم ذلك مغنماً أو ينقلهم من غيرهم أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة أو يكون لهم سبيل منه إلى التوئب إن صادفوا غرة وأصابوا مضطرباً إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة ويغر به الغرور ويقصد إليه بالسبب الواهي وبالحادث الضئيل وبكل طائفة من الرأي وبغية من الوهم وتستوي فيه الشمال واليمين وتتقدم فيه الرؤوس والأرجل مبادرة لا يدري أيهما حامل وأيهما محمول. . . ومنهم من تعاطى معارضة القرآن صناعة ظن أنه قادر عليها بضع لسانه منها حيث شاء، وهؤلاء وأولئك لا يتجاوزون في كل أرض دخلها الإسلام من بلاد العرب والعجم إلى اليوم عدد ما تراه من عانة ضئيلة تعرض لك من حمر الوحش فقي جانب البر الواسع ثم تغيب وتسقي الريح على آثارها. وسنعدهم لك عدا لتصدر في هذه الدعوى على روية وتحكم في تاريخ المعارضة عن بينة وتعلم القدر الذي بلغوه أو قيل أنهم يلغوه فإن حصر ذلك وبيانه

على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به أو قيل أنهم بلغوه فإن حصر ذلك وبيانه على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به التاريخ من إعجاز القرآن، والحق يجمع عليه الناس كافة ثم يكابر فيه الواحد والاثنان والنفر والرهط فتكون مكابرتهم فيه وجهاً من الوجوه التي يثبت بها. [1] فمن أولئك مسيلمة بن حبيب الكذاب تنبأ باليمامة في بني حنيفة علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وفد عليه وأسلم وكان يصانع كب إنسان ويتألفه ولا يبالي أن يطلع أحد منه على قبيح لأنه إنما يتخذ النبوة سبباً إلى الملك حتى عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشركه في الأمر أو يجعله له من بعده وكتب إليه في سنة عشر للهجرة. أما بعد فإني قد شوركت في الأرض معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها. ولكن قريشاً قوم يعتدون، وكان من المسلمين رجل يقال له نهار الرجال قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة وليشد من أمر المسلمين فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة إذ شهد أنه سمع محمداً صلى الله عليه وسلم يقول إن مسيلمة قد أشرك معه فصدقوه واستجابوا له وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوه أن هو لم يقبل أن يعينون عليه، فكان الرجال لا يقول شيئاً إلا تابعه مسيلمة وكان ينتهي إلى أمره ويستعين به على تعرف أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته في العرب ليحكيه ويتشبه به وما قط عارضه في شيء إلا انقلبت الآية معه وأخزاه الله وفي تاريخ الطبري من ذلك أشياء لا حاجة لنا بها صحت أو لم تصح. وقد زعم مسيلمة أن له قرآناً ينزل عليه من السماء ويأتيه به ملك يسمى رحمن. . . بيد أن قرآنه إنما كان فصولاً وجملاً بعضها مما يرسله وبعضها مما يترسل به في أمر أن عرض له وحادثة أن اتفقت ورأى إذا سئل فيه وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان لأنه كان يحسب النبوة ضرباً من الكهانة فيسجع كما يسجعون، وقد مضى العرب على أن يسمعوا للكهان ويطيعوا ووقر ذلك في أنفسهم واستناموا إليه ولم يجدوا كلام الكهان إلا سجعاً فكانت هذه بعض ما استدرجهم به مسيلمة وتأتي إلى أنفسهم منها.

ومن قرآنه الذي زعم قوله أخزاه الله: والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، أهالة وسمناً. . . لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه والباغي فناوؤره. وقوله: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المتذق فما لكم لا تمجعون. . . وقولنه: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل. . . وقال الجاحظ في الحيوان عند الفوز في الضفدع: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمتعين. . . وكل كلامه على هذا النمط وأه سخيف لا ينهض ولا يتماسك بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه وما كان الرجل من السخف بحثث ترى ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البصر بمواضعه ولكن لذلك سبباً نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إلى موضعه الذي هو أملك به. [2] ومنهم عبهلة بن كعب الذي يقال له الأسود العنسي يلقب ذو الخمار لأنه كان يقول يا تيني ذو خمار، وكان رجلاً فصيحاً معروفاً بالكهانة والسجع والخطابة والشعر والنسب وقد تنبأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخرج باليمن ولا يذكرون له قرآناً كان يزعم أن الوحي ينزل عليه وكان إذا ذهب مذهب التنبؤ كب ثم رفع رأسه وقال: يقول لي كيت وكيت يعني شيطانه، وهذا الأسود كان جباراً وقتل قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة. [3] وطليحة بن خويلد الأسدي وكان من أشجع العرب يعد بألف فارس، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ثم لما رجعوا تنبأ طليحة وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يزعم أن ذا النون يأتيه بالوحي (وقيل بل جبريل) ولكنه لم يدع لنفسه قرآناً لأن قومه من الفصحاء ولم يتابعوه إلا عصبية وطلباً لأمر يحسبونه كائناً في العرب من غلبة بعضهم على جماعتهم وإنما كانت له كلمات يزعم أنها أنزلت عليه ولم نظفر منها بغير هذه الكلمة رأيناها في معجم البلدان

لياقوت وهي قوله: إن الله لا يصنع بتعفير وجوكم وقيح أدباركم شيئاً فاذكروا الله قياماً فإن الرغوة فوق الصريح. . . وقد بعث أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد لقتاله وكان مع طليحة عيينه بن حصن في سبعمائة من بني فزازة فلما التقى الجمعان تزمل طليحة في كساء له ينتظر بزعمه الوحي وطال ذلك منه وألح المسلمون على أصحابه بالسيف فقاله له عيينة هل أتاك بعد؟ قال طليحة من تحت الكساء لا والله ما جاء بعد فأعاد إليه مرتين كل ذلك يقول لا. فقال عيينة: لقد تركت أحوج ما كنت إليه. فقال طليحة قاتلوا عن أحسابكم فأما دين قلادين ثم انهزم ولحق بنواحي الشام وأسلم بعد ذلك وكان له في واقعة القادسية بلاء حسن. [4] وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية لو كانت في بني تغلب (وهم أخوالها) راسخة في النصرانية قد علمت من علمهم وتنبأت فيهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر فاستجاب لها بعضهم وترك التنصر ومالأها جماعة من رؤساء القبائل وكانت تقول لهم: إنما أنا امرأة من بني يربوع وإن كان ملك فالملك ملككم. قد خرجت بهم تريد غزو أبي بكر رضي الله عنه ومرت تقاتل بعض القبائل وتوادع بعضها وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدت شوكة أهل اليمامة فتهدت له يجمعها وخافها مسيلمة ثم اجتمعا وعرض أهلها أن يتزوجها ليأكل بقومه وقومها العرب فأجابت وانصرفت إلى قومها فقالوا ما عندك؟ قالت كل على الحق فاتبعته فتزوجته. . . ولم تدع قرآناً وإنما كانت تزعم أنه يوحى إليها بما تأمر وتسجع في ذلك سجعاً كقولها حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، وداقوا دفيف الحمامة، فإنها عزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة وفي رواية صاحب الأغاني أنه كان فيما أدعت أنه أنزل عليها: يا أيها المؤمنون المتقون لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشاً قوم يبغون. وهي كلمة مسيلمة وقد مرت آنفاً. ثم أسلمت هذه المرأة بعد وحسن إسلامها وما كانت نبوتها إلا زفافاً على مسيلمة. . [5] والنضر بن الحارث، وهذا ومن يجيء بعده لم يدعوا النبوة ولا الوحي ولكنهم زعموا أنهم يعارضون القرآن فلفق النضر هذا شيئاً من أخبار الفرس وملوك العجم ومخرق بذلك لأنه جاء بأخيار يجهلها العرب. . . ولم يحفل أحد من المؤرخين ولا الأدباء بهذا الرجل لحماقته فيما زعم وإنما ذكرناه نحن إذ كنا لا نرى الباقين أعقل منه. . .

[6] وابن المقفع الكاتب البليغ المشهور وزعموا أنه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره وهذا عندنا إنما هو تصحيح من بعض العلماء لما تزعمه الملحدة من أن كتاب الدرة اليتيمة لابن المقفع هو في معارضة القرآن فكأن الكذب لا يدفع إلا بالكذب وإذا قال هؤلاء أن الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوته وفصاحته وأنه في ذلك من وزن القرآن وطبقته وابن المقفع هو ما هو في هذا الأمر. قال أولئك بل عارض ومزق واستحيا لنفسه. . . أما نحن فنقول إن الروايتين مكذوبتان جميعاً وإن ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة لا لشيء من الأشياء إلا أنه من أبلغ الناس، وإذا قيل لك أن فلاناً يزعم إمكان المعارضة ويحتج لذلك وينازع فيه فاعلم أن فلاناً هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين إما جاهل يصدق في نفسه وإما عالم يكذب على الناس ولن يكون فلان ثالث ثلاثة. وإنما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت بعده وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه. ثم كان ابن المقفع متهماً عند الناس في دينه فدفع بعض ذلك إلى بعض وتهيأت النسبة من الجملة. ولو كانت الزندقة فاشية أيام عبد الحميد الكاتب وكان متهماً بها لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة لا لأنه زنديق ولكن لأنه بليغ يصلح دليلاً للزنادقة. وزعم هؤلاء الملحدة أيضاً أن حكم قاموس وشمكير وقصصه هي من بعض المعارضة للقرآن فكأنهم يحسبون أن كل ما فيه أدب وحكمة وتاريخ وأخبار فتلك سبيله، وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا ومثل قولهم إن القصائد السبع المسماة بالمعلقات هي عندهم معارضة للقرآن بفصاحتها. .؟. [7] وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي وكان رجلاً غلبت عليه شقوة الكلام فبسط لسانه في مناقضة الشريعة وذهب يزعم ويفتري، وليس أدل على جهله وفساد قياسه وأنه يمضي في قضية لا برهان له بها - من قوله في كتاب (الفريد): أن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم تقدر العرب على معارضته فيقال لهم أخبرونا لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة. . . مثل دعواكم في

القرآن فقال: الدليل عل صدق بطليموس أواقليدس أن اقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبوته تثبت؟ فأعجب لهذا الجهل الذي يكون قياساً من أقيسة العلم. . . وأعجب (للكلام) الذي يقال فيه: إن هذا كتاب وذلك كتاب فكلاهما كتاب، ولما كانا كذلك فأحدهما مثل الآخر، ولما كان أحدهما معجزاً لا محالة وما يثبت لصاحب الأول يثبت بالطبع لصاحب الثاني وما دمنا نعرف أن صاحب الكتاب الثاني لم تثبت له نبوة فنبوة صاحب الأول لا تثبت. . . لعمري أن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلاً من الحجة وباباً من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الأطباء قط. وإلا فأين كتاب من كتاب وأين وضع من وضع وأين قوم من قوم وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولا طرد ذلك القياس كله على ما وصفه كما يطرد القياس عينه في قولنا أن كل حمار يتنفس وابن الراوندي يتنفس فأين الراوندي يكون ماذا. . .؟. ولو أن مثل هذه السخافة تسمي علماً تقوم به الحجة فيما يحتج له ويبطل به البرهان فيما يحتج عليه لما بقيت في الأرض حقيقة صريحة ولا حق معروف ولا شيء يسمى، ولكان هذا اللسان المتكلم قد عبدته أمم كثيرة لأن فيه قوة من قوى الخلق ولأنك لا تجد سخيفاً من سخفاء المتكلمين الذين يعتدون مثل ذلك علماً كابن الراوندي مثلاً إلا وجدته قد أمعن في سخفه فلا تدري أجعل آلهة هواه أم جعل آلهة في فمه. وقد قيل إن هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سماه (التاج) ولم تقف على شيء منه في كتاب من الكتب مع أن أبا الفداء نقل في تاريخه أن العلماء. قد أجابوا عن كل ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من (كفرياته) وبينوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة. والذي نظنه أن كتاب ابن الراوندي إنما هو في الاعتراض على القرآن ومعارضته. متعثراً يسقط بعضه في جهة وينهض بعضه في جهة ويستقيم من ناحية ويلتوى من ناحية وأنه عسى أن لا يكون في اضطراب النسق وتوعر اللفظ واستهلاك المعنى وفساد المذهب الكتابي وضعف الطريقة البيانية شر من هذا كله وما أسلوب الرجل إلا من هذا كله. على أن المعري رحمه الله قد أثبت إعجاز القرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراوندي فقال: وأجمع ملحد ومهتدي، وناكب عن الحجة ومقتدي، إن هذا الكتاب الذي جاء به محمد

صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالأرجاز، ما حذى على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ماهو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل وحزون، ولا كل خطابة العرب، ولأسجع الكهنة ذوي الأرب، وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق. ولا يعقل أن يكون الرجل قد أسر في نفسه غير ما أبدى من هذا القول ولم يضطره شيء إليه ولا أعجله أمر عن نفسه ولا كان خلو رسالته منه تضييعاً ولا ضعفاً، وما نشك في أنه كان يستسر بهنات مما يضعف اعتقاده ولكن أمر القرآن أمر على حدة فما هو عند البرهان عليه وراء القبر ولا وراء الطبيعة. (وبعد) فهذا الذي وقفناك عليه هو كل ما صدقوا وكذبوا فيه من خبر المعارضة، أما إن القرآن الكريم لا يعارض بمثل فصاحته وبمثل ما احتواه ولو اجتمعت الأنس بما يعرفونه وأمدهم الجن بمالا يعرفون وكان بعضهم لبعض ظهيراً فهو ما نبسطه فيما يلي، وذلك هو الحق الذي لا جمجمة فيه ولا يستعجم على كل بليغ له بصر بمذاهب العرب في لغتها وحكمة مذاهبها في أساليب هذه اللغة وقد تفقه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه وكان يجري من هذه اللغة وقد تفقه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه وكان يجري من هذه الصناعة البيانية على أصل ويرجع فيها إلى طبع. وإن شعور أبلغ الناس بضعفه عن أسلوب القرآن ليكون على مقدار شعوره من نفسه بقوة الطبع واستقاضة المادة وتمكنه من فنون القول وتقدمه في مذاهب البيان فكلما تناهى في علمه تناهي كذلك في علمه بالعجز، وما أهل الأرض جميعاً في ذلك إلا كنفس واحدة ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم.

تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية تمهيد آخر الأقلام مزامير التاريخ يترنم فيها بذكر الحوادث العظام. والمفاخر الجسام. ولعله ليس في حوادث الدهر وشؤون العالم شيء هو أجل وأخطر من ظهور رجل عظيم لذلك كان ظهور هذا هو أحق الحوادث وأجدرها يترنم اليراع. في حسن تنغيم وإيقاع وقدما رأينا الروض يزهر ويثمر، فيسجع البلبل الصداح. والفجر يلوح ويسفر، فيصيح غريد الصباح. ولقد ظهر بهذا البلد الأمين في هذا العصر. عصر البعث والنهضة رجال عظام. وقادة أعلام. وكان يراع مجلة البيان بجيش في صدره الغناء. طرباً بذكر سيرهم الغراء. فيهم أن ينطلق. ويريد أن ينطلق فتعتاقه مخافة التقصير. وترده خشية الرجوع بخيبة النضو الحسير. حتى إذا مد في صدره بحر المديح واحتفل واديه. وعب عبابه وزخر طاميه. جاز السواحل وسال. وعدا الحواجز وانثال. وأرسل العبارة تلو العبارة، والمقال أثر المقال، بما قد طال صمته وأحجامه، وانقباضه عن طروق هذا الباب واحتشامه. نعم قد قاض لنا الله بعد طول سكوت أن نتناول سير صفوة رجال هذا العصر ونخبة أبنائه من أهل هذا العصر. وقد رأينا أن نبدأ بأعضاء الجمعية التشريعية إذ كانوا هم ألسنة الأوطان وقولبها. وزبدة الأمة ولبابها. بمقولها ينطقون. وبفؤادها يشعرون وبعينها ينظرون، وبرأيها يرون. وقد خصصنا بهذا العدد خمسة من الأعضاء كلهم سيد نبيل وبطل جليل، والخمسة في موازين الفضل والرجحان متعادلون كالحلقة المفرغة لا يعلم أين طرفاها. ونحن الآن آخذون في الكلام عن الوزير الخطير وكيل الجمعية آنفاً عطوفة عدلي باشا يكن إذ وصل إلينا تاريخه قبل تاريخ سائر الأعضاء. عدلي باشا يكن الوكيل المعين للجمعية التشريعية عدلي باشا يكن أحد سلالة الأسرة اليكنية، رجل كريم البيت شريف المحتد أغر النسب عنيد الحسب، له في المجد كاهل وسنام، ومن العزة القعساء دولة خفافة البنود والأعلام، وما بالكم بمن كان جد مولى (ابن عم) مليك مصر ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير،

وبيته صنو ذاك البيت الأرفع الخطير. حقاً لهذه أعلى مراتب المجد وأسمى منازل السؤدد. هذا الرجل الحسيب النسيب سليل صنو الأسرة الخديوية، ونتيج شعبة الأيكة المحمدية، كان المظنون من مثله أن يجري على عادة الأمراء المترفين من الخفض والدعة وينهج من اللهو والبطالة منهج ذوي النعيم والسعة، يفترش مهاد الراحة والرخاء، ويتنكب سبل النصب والعناء، أبيى له ذلك نفس قلقة طموح، وهمه شرود جموح وبصيرة نافذة تشق عن لباب الحقيقة قشور الشبهات، وتهتك عن سر الصواب حجب الأباطيل والترهات، فعلم بفضل البصر والذكاء أن المروءة هي الكد والعمل، وأن القعود والنوم من شيمة الطفل الربيب، والشيخ ذي الدبيب، والحق يقال أن العمل أشرف أمور الحياة وأنفسها وأجل مسائل الوجود وأقدسها، والمرء مهما عصي أوامر الخالق وتجانف عن سبيل الدين فله الأمل الوطيد في الهداية متى كان صادق العمل مخلص السعي، ولكن في الكسل وحده الحرمان واليأس، وحسب العمل نبلاً أنه متصل بنواميس الوجود وشرائع الطبيعة. والرغبة في إتمام العمل إذا كانت صادقة مليئة وحدها أن تقرب المرء من الحقيقة، وبالعمل يستكمل الإنسان فضائل النفس ومكارم الأخلاق فيه تقتلع الأصول الخبيثة، وتصطلم الجراثيم اللئيمة، وتزرع مكانها الأغراس الطيبة، والأشجار الكريمة، وتشاد القرى العامرة والمدن العظيمة، بل بالعمل يصبح المرء نفسه بنياناً محكماً وبستاناً نضيراً بعد إذ هو شطره قفرة مجدبة. وشطره دمة معشبة. ألم تر إلى العمل حتى الأحقر الأخس من أنواعه كيف أنه ير شوارد الضمير ويؤل نوافر النفس ساعة يشرع فيه. أنت تعلم أن العامل الحقير ليس من بلايا الهم والأسف والخوف والرجاء والشك والندم والحق والغضب حتى اليأس. شأنه في ذلك شأن سائر البشر. غير أنه لا يكاد ينكمش في عمله حتى تنقمع شرور هذه الآفات فترتد مقهورة إلى زواياها. وتلوذ مخسورة بمكامنها وخفاياها. ويخلص العامل المسكين من أسارها وترى الرجل قد عاد رجلاً. وتراه تتوهج في صحيفة وجهه وفي سائره نار العمل المباركة مصفية سبيكته من شوب كل عاب وخبث كل منقصة، فطوبى لمن وفق من العمل إلى ما أعدله. فلقد ظفر والله بنهاية الأرب وغاية المنى. وأي نعمة أجزل من أن يكون للمرء عمل في الكون ومقصد في الحياة يسمو إليه ويؤمه. وما أجل العمل أنه لكا النهر المتدفق الحر الانطلاق يحترق أو حال الحياة ومستنقعاتها بقوة الجد

والإخلاص والهمة والمثابرة ويزداد على قطع المسافات غزارة وكظة. أجل وبمتري الماء الملح من أصول أقصي الأعشاب محولاً وخيم المرائع وموبي المنابت روضة خضراء مخصبة. والعمل لو تعلمون هو الحياة. ترى العامل إذ جد خرج من أعماق قلبه وسويداء لبه هبة الله من القوة - أعني جوهر الحياة السماوي المقدس المنفوخ فيه من روح الله عز شأنه. فإذا خرج من لب الفؤاد ذلك السر ملأ نفسه مروءة ونبلاً. وصدره عرفاناً وعلماً. بل أفعم صدره بالعلم الصادق الحق. فإن أصدق العلم ما كان نتيجة العمل إلا ترى أن بصحة هذا العلم تشهد الطبيعة ذاتها؟ والحقيقة أنك لست جديراً أن تعتد من العلم إلا بما كان ثمرة عملك. فأما ما عدا ذلك فما هو إلا نظريات علمية - أمور تدور عليها مجادلات الطلبة في المعاهد وأشياء تجول على حواشي السحاب في هيئة دوامات جدلية فما تزال تدور حتى نختبرها فنثبتها. وقديماً قبل لا يزيل الشكوك إلا العمل. أدرك عطوفة الوزير الخطير هذه الحقيقة الكبرى، ومثل الوزير خليق أن يدرك كبير الأمر وصغيره ودقيقه وجليله وباديه وكمينه. أحاط علماً بكل خافية ... كأنما الأرض في يديه كره لذلك وقف نفسه على خدمة الأوطان فجعل الجد شعاره والمواظبة دثاره. وتنقل في مناصب الحكومة بعد أن أتم الدراسة في مدارسها فكان أول تعيينه في نظارة الداخلية مترجماً وذلك عام 1880 وهو إذ ذاك يناهز السابعة عشرة بمرتب شهري قدره اثنتا عشرة ليرة. وفي عام 1883 نعم عليه بالرتبة الثانية وهو لا يزال في نظارة الداخلية. وفي أول أغسطس 1885 عين سكرتيراً لدولة ناظر الخارجية المصرية بمرتب شهري 22 ليرة ثم ما زال يرتقي في درج المناصب حتى تقلد إدارة مديرية الفيوم فالمنيا فالشرقية فالدقهلية فالغربية فمحافظة مصر فديوان عموم الأوقاف. واستقال صيانة لصحته عام 1907 ولكنه عين في 1913 وكيلاً للجمعية التشريعية من قبل الحكومة مع منحه امتياز النظار في أمر الحفلات العمومية والمقابلات الخديوية. وفي 1914 عين ناظراً للخارجية. وبعد فليس أكبارنا شأن عطوفة المترجم به هو أنه تقلد تلك المناصب الكبار، ولا كان أعظامنا قدره من أجل رتبة أو وسام، فنحن نعلم أنه ليس على حسب الأقدار تعطى المناصب. ولا على قدر الأخطار توهب الألقاب والمراتب. بل تعلم أنه قد يرزق العاجز

الجهول وليس هناك إلا عجزه وجهله. ويحرم الكيس الفاضل ولا ذنب له إلا كياسته وفضله. ولكنا تزن الرجال لا الأسماء ونقدر الأعمال لا الأوسمة ونعلم أن العظمة والبطولة تأبى إلا ظهوراً ولو في أحط الطبقات وأدنى المنازل، وكذلك الخسة والضؤولة تأبى إلا وضوحاً ولو في أرقى الطبقات وأرفع المنازل. فلو أن الأمر في عطوفة الوزير كان قاصراً على تقلده الوزارة أو ولايته من قبل ذلك ما قد ذكرنا من الأعمال والمناصب لما بعثنا له القلم من رقاده. ولا كحلنا في سبيه مقلة اليراع بأيمد مداده. ولكن الأمر هو شيء خلاف الألقاب والأسماء والمرتبات والمراتب - هو الشيم والمحامد والمكارم والمناقب، هو الرجولة والفحولة والعظمة والبطولة، تلك هي الأغاني التي بها يشد ويراع البيان. والآيتت التي يرددها كل برهة وآن. والوزير الخطير له من هذه المناقب الحظ الأوفر والمقام الأسمى، وكيف وهو المأثور عنه رأس الفضائل، وأم المزايا، أعني ما نسميه الشخصية المسيطرة، أو السلطان النفسي، أو القوة الروحية. ومعنى ذلك مغناطيسية الشخصية وتأثير روح العظيم على أرواح الخلق بما يشبه تأثير الكهرباء وهذه القوة هي أهم وسائل رقي النوع، إذ كانت جماهير الناس إنما تنقاد لرأي المفكر العظيم، وتذعن لفكرة الرجل الكبير بتأثير هذه الشخصية - قوة هذه الجاذبية. ولقد رأينا الرجل الكبير يقود الأمة الكثيفة بجاذبيته، ويجر عسكر الخليفة بتلك الكهرباء إلى غزوة عوالم المجهول حيث تسبى عقائل العلم وتقتض أبكار الفنون والمعارف، ولو أن بين الكائنات الطبيعية وبين عقل الإنسان صلة إذن والله لسارت الطبيعة وراء الإنسان حيثما توجه خاشعة منقادة ذلولاً، ولعل في جاذبيات بعض البشر ما هو أشبه شيء بالغناء الذي كان يزعم أنه كان يجذب الأنهار والجبال والبحار والآكام والقفار. والهواء والنار. ولسنا نعني بهذه الجاذبية والشخصية المسيطرة وسلطان الروح مرارة الجد وظلمة الوقار، ولا الغلظة والعجرفية، ولا الكبرياء والغطرسة، فإن هذه ضد الجاذبية هذه سبب الصدود والاشمئزاز والنفرة. فأما الجاذبية فمنشؤها البشر والطلاقة وحلاوة اللقاء وعذوبة الشمائل، وهذه كلها هي ترجمة صفاء النفس وائتلاف أجزاء الروح مسطورة في صحيفة الوجه مقروءة في لوح الحيا. وأن يكون الضمير موطن السرور ومهبط الفرح. وهذا الوصف منطبق على عطوفة الوزير كمال الانطباق، بين فيه في أجلى المظاهر. فهو أعزه الله عذب اللقاء معشوق الشمائل، يصطاد

شارد القلوب بحبائل شره، وبروض شمس النفوس باعته انبساطه وأنسه. يغنيه تودد وجهه عن تودد لسانه. وتكفيه خلابة نظراته خلابة بيانه. تفيض ابتسامته على أعطاف المجلس رونقاً كرونق الربيع الجديد. وتبعث في ساحة الروح نسيماً كأنفاس الخمائل. وكأني بالوزير الخطير، لو قد مشى بالصلح بين بكر وتغلب في حرب البسوس. بعد أن عم بين المتحاربين الويل وطفح الكيل. وخاب كل سفير، وأخفقت كل واسطة، لأصلح بين الفريقين قبل أن يفوه ببنت شفة أو ينطق بأدنى كلمة. وكأني به يشفي بعذوبة روحه وسحر شيمته من المس والخيال، والهم والغم، والكرب واليأس، وكأني به لو عرض للسيل الجارف لوقف. أو للبركان القاذف لكف. أو للزوبعة الثائرة لهدأت. أو للهاجرة المستعرة لروحت. وإني لأذكر به بطل الأبطال خالب النفوس وجاذب الأرواح نابليون الأول ذلك الذي كان يرد الجيش المرموم بنظرة. ويقتاد الجماهير المجمهرة بشعرة. ذلك الذي بلغ من ثباته وقوته أن خسر دولة الأرض ومملكة الدنيا فلم يك إلا كلاعب الشطرنج خسر دوراً. قد علمنا أن الرجولة أو كما يسميها البعض البطولة والعظمة قد بنيت على قاعدتين وهما الرأي والعزيمة أعني الرأس المفكر واليد الفعالة، وذلك أن يؤتي المرء نفاذ البصيرة وتنفيذ الإرادة. فباجتماعها تكمل الرجولة وبإعوازهما يكون الرجل تمثالاً متحركاً وصنماً أخرس وآلة صماء. وبإعواز أحدهما يكون المرء ناقصاً أبتر. فإذا كان ثاقب البصر بغير عزم لم ينفعه بصره ولم تغن عنه قريحته وكان كالمرأة تريك عديد الصور ولا تنيلك مما تحتويه شيئاً. وكالمسن يسحذ ولا يقطع. وإذا كان ماضي العزيمة بلا رأي فربما كان مضاء عزمه بلاء عليه من حيث أنه يركب به متن الضلال ويتعسف به مجاهل الغي. فأما اجتماع الخلتين فذاك كما قلنا هو عين الرجولة والبطولة. وعدلي باشا هو الرجل الذي اجتمعت فيه الخلتان والتقت لديه الفضيلتان. عرفناه نافذاً البصيرة مسدد الآراء. لاو ذعيا كأنما بين جنب ... يه مصابيح كل ليل بهيم فكم جلى ظلمة الشك بنور اليقين. وكم فض بمفتاح الرأي المشاكل. وكم له من فكرة عالية سديدة. وخطة واضحة رشيدة. ثم يعقب ذلك تنفيذ الآراء بعزيمة أمضى من النجم. وإرادة أصلب من الحديد. وقد جنى أهل الأقاليم التي كان عطوفة الوزير يليها ثمار هذا الفضل المبين. حلوة المذاق عذبة المساغ مباركة الفائدة. وكان عطوفته يرى آثار كده فيحمد جهاده

وسعيه. وعند الصباح يحمد القوم السرى. فلا غرو أن كان الوزير بعد كل هذا شديد الحرص على استقلاله بالرأي وانفراده بالإدارة. وما ذلك بمستغرب من الكفؤ الشديد الثقة بنفسه. الجليل الروح. الكبير العقل. فلما كان في عهد ولايته بعض الأقاليم تسلط على المدير بين مفتشي الداخلية من الإنكليز فلم يبق من المديرين إلا من رضخ لهذه السلطة الجديدة إلا عدلي باشا فإنه عرف به عن ذلك سمو همته وعلو روحه. واحترامه نفسه. فنفي عن ساحتيه كل سلطة طارئة وتداخل أجنبي وانفرد بالحكم تفرد القمر البدر في مملكة السماء. وتوحد الأسد الغضنفر في العربة العصماء والأجدل الطموح في رأس القمة الشماء. كل ذلك فعله عطوفة الوزير في سكينة وصمت. وكذلك قضي الله أن أعظم الأمور وأجل الشؤون إنما تبلغ بالسكون. وإن قصوى الغايات وعليا الدرجات إنما تنال في هدوء وصمت. ومصداق ذلك أنك إذا نظرت في التاريخ وجدت أن أبرك العصور وأدر الأزمان هي التي تمر في أمن وسلام وتنقضي في سكون وصمت. هذه هي الأزمان التي نجم في غضونها ثروة البلاد وتتوفر الخبرات والبركات وتبني فيها القوة الكامنة. وتشاد فيها أركان الدولة. أما أوقات الثورات والحروب تلك الصائحة بأفواه المدافع. الضاجة بزماجر الملاحم والوقائع. فهذه أوقات هدم وتقويض. وأزمان تخريب وتبديد. لذلك قال أحد ظرفاء الفلاسفة وبالغ في قول مونتسكيو طوبى لأمة سجلات تاريخها مملة فقال الفيلسو الفكه طوبى لأمة سجلات تاريخها خالية قوله مملة أي ليس فيها أوصاف حروف ووقائع وقصص وفتن وثورات مما يلذ القراء وبلى السامعين. بل فيها من الحوادث والمسائل ما يجري عادة في غير أوقات الحروب والفتن. ثم بالغ الآخر فقال طوبى لأمة لا تؤثر عنها حوادث قط فصحف تاريخها خالية بيضاء. ألم تر إلى الدوحة العادية كيف أنها تحيا وتنمو في الغابة ألف عام لا يسمع لها حس ولا جرس. أجل إنه لا يسمع صوتها إلا مرة واحدة. أتعلم متى؟ حينما يجيئها الخطاب بفأسه. حينئذ تعلن الدوحة حياتها ومماتها مما يصرخه تدوى لها أرجاء الغاب. وانظر إلى بذرة الشجرة العظيمة تلقيها الطبيعة من حجر الريح الفضفاضة في بطن الثرى! من كان حاضر ساعة الغرس ومن كان حاضر ساعة الإيراق وساعة الأزهار والأثمار، ومن حينما ليست الشجرة حلي نورها وفاكهتها قام بدق البشائر وهتاف الفرح والسرور لا أحد. كلا، ولا

أثقب الناس نظراً وأدقهم ملاحظة. هذه الحوادث المفرحة لم تحدث بغتة حدوث الفتن والحروب ولكنما نمت تدريجاً وأحكمت شيئاً فشيئاً لا في ساعة بل في أشهر وأعوام. كذلك تأثير الرجل العظيم مثل الوزير عدلي باشا يكون صامتاً شاملاً كتأثير الهواء والشمس تلك التي تجمع بين المنظر الفتان والأثر الفعال - بين الجمال والمنفعة - بين حب الناس إياها وحاجتهم إليها. وبالاثنين تكمل الفضيلة. فإن الشخص المحبوب لحسنه ورونقه وهو قليل المنفعة ناقص نقص ذي المنفعة ليس بذي رونق يستميل وخلابة تسبى وإنما كريه بغيض تجتويه الأعين وتنبو عنه النفوس. فأما الوزير فهو الذي جمع الخلتين فاستكمل بفضل ذلك الفضيلة. فلقد بلغ من فرط محبة الناس إياه مع اعترافهم بجزيل هباته وبيض أياديه أن كثر فيهم من سمي بنيه باسمة فكلما نودي بالاسم الجليل في شوارع المدن وطرقاتها وفي دورها ومنازلها صباح مساء. وحينما يضرب الليل خيامه. ويحدر الصباح لثامه. كان ذلك النداء ثناء ذائعاً وشكراً سياراً لما أولى هذا الرجل العظيم من سابغ آلائه وجزيل نعمائه. وكذلك الرجل العظيم كلما حل أرضاً فرحل عنها ترك بها من محاسن الآثار الخالدة مالا يزال يذكر بها ما اصطحب الفرقدان. واختلف الملوان. ولسان حال البلاد وأهلها يناديه: فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار ميشيل بك لطف الله أحد النواب في الجمعية التشريعية عن المصريين السوريين لا أظن أن في أقطار العالم وممالكه بلدين يكادان يكونان لولا التقسيم السياسي بلداً واحداً. لا تفصلهما حدود الاجتماع. ولا تميز بينهما الفروق الطبيعية، ولا تحدهما التخوم السياسية، غير مصر والشام. فهما قطعتان من الشرق متداخلتان متمازجتان تجوز الأولى إلى أختها الأخرى. فما تبرح ترى السماء الصاحية. والشمس الزاهية. وما تنفك تشم الهواء العليل، وتستاف النسيم البليل. وتشارف الجو الجميل. وترتع في الروض العشيب، وتمرح في المنظر الخصيب، فإذا نزل المصري أرضاً سورية. فكأنه لا يزال في مصر، بين أصحابه وإخوانه، وأحبابه وجيرانه. وإذا هبط الوسري وادي النيل، رأى رحباً وسعة. وألقي خصباً ودعة. واطمأن به المقام، ورأى بدائع ضروب الترحيب، وشهد محاسن صنوف الأكرام،

وما منشأ ذلك الود الاجتماعي بين الأمتين إلا أن الأمة السورية قد تنزهت نفسها من شوائب تلك النقيصة الاجتماعية التي تراها شائعة بين أكثر أمم الدنيا وأغلب شعوب الأرض. ونعني بها ذلك الزهو الأهلي الكاذب الذي يوشك أن يقطع بين الأمم ما تصله الروابط الاجتماعية الأخرى. إذ ترى كل أمة تياهة بنفسها مزهوة على غيرها. تجنح إلى تفضيل نفسها على ما سواها من الأمم الأخرى، وتعد آدابها وعاداتها وأخلاقها هي المقياس الصحيح الذي يجب أن يقاس به آداب العالم وعاداته وأخلاقه، وتعتقد أن الله لو جعل الناس أمة واحدة. لاختارها لتكون تلك الأمة!. وهناك رابطة أخلاقية تربط قلب السوري بقلب أخيه المصري. وتذلل بينهما أسباب التعارف والامتزاج، وهي أن السوري سريع الاختلاط بأهل البلد الذي يستوطنه والوسط الذي يعيش بين ظهرانيه، وهذه لعمرك مزية إنسانية. لا تحدها حدود الوطنية، وإنما تحدها حدود الآدمية كلها. وما أعرف فضيلة هي خير مقاماً من حب الاختلاط بالناس، فلو لم يخلق الله الهواء خليطاً من الأكسجين والنتروجين، لاحترق العالم. والتهب عنصر الوجود، وكذلك لو لم يختلط فكر الإنسان ومزاجه بفكر غيره ومزاجه. لاحترق وأحرق معه جهازه الجثماني. والعالم من أقصاه إلى أقصاه يسير على مبدأ الاتصال. وإلا فلو قامت كل أمة بنفسها. ولم تعمل على مواصلة غيرها لما عدت الدنيا أن تكون غابات كثيفة. يسكن كل غابة منها نوع غريب من أنواع الحيوانات الإنسانية. وقد ذلل للسوري اختلاطه ببني الأمم الأخرى الشرقية منها والغربية ما أودعه الله في مزاجه الهادي من محاسن الآداب. وما محاسن الآداب إلا الجواز الذي يبيح لصاحبه الدخول إلى باحات القلوب والاستقرار في حبات الأفئدة. إذ كانت القلوب البشرية لا تفتح موصد أبوابها إلا لذي الصفحة المشرقة. والوجه البش المبتسم والقول اللين الكريم. والخلق السهل الذلول. وقد أوتي السوري من هذه جميعها القسط الأوفر والحظ الأجمل الأكمل. والأمة السورية اقبل الأمم الشرقية للرقي الغربي. وأكبرها استعداداً للتطور المدني. وهي تجري مع روح العصر نازعة قيود الماضي. خالصة من سلاسل المبدأ الشرقي القديم، بل هي الأمة الشرقية الوحيدة التي امتازت بقوة الدأب وروح المثابرة. وإنك لترى السوري عند خط الاستواء في ذلك الجو الملتهب والحر الأبدي والقيظ الصامت أو عند مناطق

الجليد الشديدة الزمهرير. يجد ويعمل لا مستشعراً فتوراً ولا كلالاً. ولا واجداً نصباً ولا رهقاً، لأنه يستعين على المكاره، ويستنصر على المشاق بروح قوية جعلت شعارها ذلك المبدأ العظيم الذي سنه بونابرت بقوله: لا شيء في الحرب يعجزني فإن عز على صانع البارود صنعته وإذا أعوزني صانع المدافع والبنادق كنته، وأنا كما تعلم مدبر الأمر مصرف الملك. وبين أيدينا الآن ترجمة رجل من أفاضل السوريين وكبير من أكابرهم، وعظيم من خلاصة عظمائهم، توفر على حبه مصر والمصريين وحبس عصارة الحياة من علم وأدب وفضل ومال على كل مشروع مصري. وعمل خيري ومبرة عظيمة كبيرة، مع أنك ترى كثيراً من أغنيائنا وأصحاب الألوف المؤلفة فينا يسيرون على مبدأ الحياد!. فلا يقوم في الأمة مشروع إلا خذلوه بصمتهم. ولا تنهض لنا نهضة حيوية إلا أماتوها بجمود أكفهم، فالأمة بهم فقيرة وإن كانوا سراتها، والأمة بهم معدمة وهم علم الله عدمها، وماذا لعمرك ترتقب منهم من نفع، وماذا ترتجي من فائدة. والعقول ناضبة، والأكف جعدة، والجيوب ممسكة، والأيدي إلى الأعناق مغلولة، وهل كانت الأمة لتقوم إلا بحبيب الموسر وعقل المفكر. وما يقوم العقل في خدمة المجموع دون الحبيب، ولا أثر له ولا فائدة بحتة إذا لم يعضد بالمال، ويعان بجود الجواد. وصفد الصافد، وعطاء السرى، ورفد الغني، وإلا فلو أصبحت الأمة وكلها عقول تفكر، وأذهان تدير. وآراء تفيض وتسح، وخواطر تتابع وتسنح، ولم يفض من جيوب الأمة جيب، ولم يهتز للندى غنى، ولم يقبل على تعضيدها موسر، إذن لضاع فيض هذه العقول وتكلبها سدى وهقاء، كما يضيع الجدول الفضفاض في رمال الصحراء، وإذن لوقفت الأمة عن سيرها، ولزمت مكانها لا ترى لها محركاً، ولا تجد لأمرها ملاكاً، ولا تبصر لنفسها قواماً، وإذ ذاك تنحط ورح الأمة وتضعف عزيمتها من جراء هذه الخيبة المتواصلة التي تصدم بها كلما قام مشروع، أو تأسست للخير جمعية، أو أنشئت لتعميم التربية والتعليم جامعة أو كلية، ويكفيك من عاقبة هذا الانحطاط النفساني إنه مقدمة للانحطاط الفكري، فإن العقول من هذا الفشل المتتابع تهرم وهي في حدثاتها. وتضعف وهي لا تزال في عنفوانها، ولا تلبث إلا ذهان الخصيبة أن يصيبها الجدب لقلقهما تجد من رى، وتشهد من عناية ورعى، إذ كانت الفكرة الواحدة في عقل المفكر مثتاثا تلمذية كثاراًُ

من قويم الأفكار، وتنتج ترباً كبيراً من رشيد الآراء. فلا غرو إذا قلنا أن ميشيل بك لطف الله أكثر من المصريين مصرية. وأشد من الوطنيين السراة وطنية. بعدما رأينا من جمود أكثرهم، وضنهم بحق الأمة عليهم، وبذلهم فيما لا ينفع الأمة ويضرهم. وإسرافهم حيث لا ينبغي الإسراف. وشحهم حيث لا يخمد الشح، وبعدما رأت الأمة المصرية جمعاء، من صاحب الترجمة الجواد الفياض، والكريم اليد والخلق، والشريف الروح والوجدان، والرجل العامل في سكون واطمئنان، لا يبقي كغيره من الموسرين بمكارمه المظاهر الكاذبة! ولا يروم بمآثره العامة الأبهة الجوفاء، ولا يسأل على ميراثه من الشهرة أجراً ولا جزاء. وعنده أن اللذة الروحانية بتعضيد الأمة وشد أزرها خير من لذة الجثمان باقتناء السيارات، وابتياع فخم المركبات، وشراء الجياج الصافنات، والجلوس إلى غرير الجواري وحسان القينات والتمتع بأطايب النعم وأفانين الملذات، علم أن الإنسان إن لم يرتفع إلى صف الملائكة انخفض إلى صف الشياطين، فأبت طبيعته إلا الارتفاع لا الانخفاض، وشاءت سجيته إلا الروحانية لا الحيوانية، فكان منه الإنسان الروحاني الكريم العواطف العظيم المشاعر والوجدانات، ولعمري هل انتقلت الإنسانية من همجيتها الأولى إلى حالها اليوم من حضارة وعمران، إلا بأولئك الروحانيين كبار النفوس المتجردين عن الحيوانية الذين ازدان بهم كل عصر من عصور التاريخ، وازدهى كل جيل من أجيال البشر والذين لولاهم لكنا اليوم ساكني الكهوف والأجحار، ورواد الغاب والجبال، ومعاشري الأوابد والأوعال، ثم دعك من ذكر الجماهير فإن من الخطأ لبين أن تقدر الأمة بتعدادها وتوزن بأحصائها وتقاس بآلاف الأميال المربعة من طولها وعرضها، وإنما ينبغي أن تعتبر بأهميتها في الجيل الذي هي فيه والقرن الذي تقطعه، ولا تكون هذه الأهمية إلا بأولئك الأفراد القلائل الذين إذا ظهروا في الأمة فكأنهم سكان الأمة وكان تعدادها تعدادهم وليت شعري لو كان الثلمائة الأسبارطيون وقفوا يوم ثرمو بوليه إزاء مثلهم من الفرس لا إزاء مليونين أو يزيدون. فاستكانوا لهم. وأخذوا بكثرتهم. فهل كان الأمر يكون في الحالين سواء في تاريخ الإغريق. وإن شئت فقل في تاريخ الإنسان ولقد أصاب رجال نابوليون العظيم إذا كانوا يدعونه (بالمائة ألف) ولو كان بونابارت رجلاً أميناً لما عتموا أن دعوه (بالمائة مليون).

ولد صاحب الترجمة في القاهرة قبل الثورة العرابية ببضع سنين، فلا جرم أن ينشأ على حب مصر، ولا عجب أن يشب على مودتها. ويغتذى من محبتها، ولا بدع أن تراه بالمصريين مشغوفاً، وبخدمتهم صبا، وبالانتساب إلى مصر فخوراً، إذ كان منشأ الحب الائتلاف، وباب المودة الاختلاط، وقد يفضل المولد على الموطن، وقد يؤثر الصديق على القريب، ويستحب على ابن الجلدة الغريب، وذلك تبعاً لكثرة المخالطة وقلتها، وطول الملازمة وقصرها، ولعل صاحب الترجمة ورث حب مصر عن أبيه، وأخذه عن والده، فإن أباه حبيب باشا لطف الله جاء من بيروت مولده إلى مصر حوال عام 1852 فتخذها عن حب موطناً، ونزل بأسرته الكريمة عليها ضيفاً عزيزاً حتى إذا استتب به المقام اشتغل في تجارة الصادرات والواردات بين إنجلترا والهند والسودان في سن الفيل والعاج والصمغ والأقمشة. فلما استمكن من فؤاده حب هذه البلاد ونعم بجناب أهلها. رأى أن ينقطع إلى سكناها. ويبقى على قربها، فاشترى له منذ ثلاثين عاما أملاكاً بها وضياعاً، ثم اعتزل التجارة بعد ذلك العهد بعشرة أحوال. ولما ترعرع المترجم به دفعه والده إلى مدرسة اليسوعيين. ثم انتقل منها إلى مدرسة الفرير ثم رحل عنها إلى المدرسة التوفيقية وتوجه بعد ذلك إلى بيروت ليتم الدراسة بكليتها وعاد بعد حين إلى مصر فدخل مدرسة الحقوق الفرنسية. فلما شعر والده بالحاجة إليه دعاه قبل أن يتم دروسه في الحقوق إلى مشاركته في إدارة أعماله المالية. ولا أظن أن والده أساء صنعاً أو أخطأ شاكلة الصواب. فإن الشهادات المدرسية لا تزيد في شخصية الرجل. ولا ترفع من قدره. بل قد تفسد في بعض الأحايين شخصية حاملها وأخلاقه. بما قد تدخل عليها من زهو وعجب وغرور وخيلاء. فكم رأينا من طالب كان قبل أن يحرز شهادته على نصيب وافر من طيب الأخلاق. وعذوبة المحضر. ولين الجانب. فلما سقطت عليه الشهادة الدراسية إذ به انقلب صلفاً مزهواً فاسد الروح. شموس العطف. مصمر الخد حتى لكأنما قد فاز عند الله بالشهادتين!!. وليست شهادات الليسانس والدكتوراه والدبلوم وغيرها بالمقادير التي تقدر بها أنصبة محرزيها من العلم، وأقساطهم من الإطلاع والأدب. ومواهبهم من العبقرية والذكاء وهؤلاء

حملة الليسانس وأخوانها من عليا الشهادات يعدون في هذا البلد بالعشرات والمئات لا نسمع لهم صوتاً. ولا تشهد لهم آراء. ولا تجد لهم فضلاً. اللهم إلا أفراداً نوابغ. نضجوا خارج المدرسة وذكوا خارج الدرس ونبغوا دون الشهادة وتوفروا على العلم للعلم لا لوظائف الحكومة. وأخلدوا إلى الإطلاع والآداب. لا للشارات والألقاب. بهم تنتفع الأمة وبهم تسود. ولم ينشب المترجم به إن دخل في الحياة العمومية لأن العظمة الشخصية لا ترضي العزلة. ولا تسكن للانفراد. ولا تطمئن للوحدة. فإنك أن تضع القطعة المغناطيسية جانباً ولم تقر بها من قطع الحديد وسبائك المعدن. لا تجدها تمتاز عن سائر أنواع الحديد والرصاص، ولا تعرف عن بقية المعادن بامتياز واختصاص فمن ثم انتظم المترجم به في سلك عدة جمعيات سورية أنشئت للخير وأسست للغوث والبر. على أنه لم يلبث أن أقال نفسه. ونفض منها يده. إثر خلاف قام بينه وبين أعضائها على وجوه هذا الخير الذي اجتمعوا له. وطرق البر الذي نصبوا أنفسهم للانفاق منه. وكان رأيه أن تصرف أموالها على الفقراء من جائع عان. وظمآن هيمان. وعار لهفان. ومريض أسوان. ومنكوب مهان. وكان غرضهم أن ينشؤا الكنائس ويبتنوا البيع والمعابد وما كان رأيه إلا الرأي الحصيف. وما كان مقصده إلا المقصد الشريف، لأن الفقراء والمحرومين هم الفتوق التي تشوه ثوب الإنسانيه. بل هم في جثمانها الجراح الدامية وما خلق الله عظماء الرجال إلا لرتق هذه الفتوق. وتضميد هذه الجروح. وما برأهم ألا ليكونوا للناس محسنين وأساة. فلا تستمع بعد للفلاسفة المختلطين القساة. ولا يغرنك صيحاتهم أن اقتلوا الضعفاء. وأبقوا على الأصلح. واتركوا العالم للأقوياء فهؤلاء نظروا إلى الدنيا من خلال زجاجة سوداء، فبدت لأعينهم كذلك مظلمة، ولو صدع بأمرهم. واتبع رأيهم. لكانوا عمرك الله أول ضحاي هذا الرأي. وأول ذبائح هذا المذهب الدموي. ثم أين تلك القوة المطلقة التي لا يشوبها شيء من الضعف. بل أين ذاك الضعيف الذي لا يعتريه شيء من القوة. وليت شعري ما أعانه الملهوفين وإغاثة المكروبين. وإعالة المنكوبين. إلا أحسن صنوف العبادة. وأصلح ضروب التسبيح والتكبير، وماذا يعني الإكثار من المعابد والكنائس والمحاريب والله قد خلق هذه الأرض جميعاً لتكو مسجده وكنيسته ومحرابه، ولقد أصاب دكنز القصى الكبير إذ وصف الإنسان بمعبد الله.

ولم يخرج المترجم به من هذه الجمعية إلا ليدخل جمعية أعظم خيراً وأوفر بها. وأكبر قدراً. وأعلم أثراً. جمعية الهلال الأحمر، تلك الحسنة الكبرى التي جاءت بها المدنية الحاضرة فجعل على خزائنها واختير أمين صندوقها، فكم من جراح برأها وكم من طعنات نجلاء لمها، وكم من نفوس كانت على شفا الموت فأنقذها، وكم من أرواح أوشكت أن تفيض فأمسكها، وما يشق المشرفي جرحاً الأسد بدينار من ماله. ولا تجري دماء جريح إلا أوقف جريانها بضماد من عطائه، ذلك هو العمل المبرور والسعي المشكور ومن أحيا نفساً فقد أحيا الناس جميعاً. ولا تنس حفلة الطيران واحتفاءه وأسرته بمقدم الطيارين العثمانيين وإكرام مثواهما وإحسان وفادتهما وكان في جمعية الاحتفال أمين صندوقها فأعانها بماله وعضدها بحسن إدارته، وهو اليوم يشتعل في نقابة زارعي الأقطان المصرية للدفاع عن مصالحهم. وهناك حسنة كبرى لا تحد بحدود ولا تقاس بمقياس ولا توزن بميزان، تلك أن الحكومة كانت بادئ بدء لا تقدر على اعتبار إخواننا السوريين عنصراً من العناصر المصرية وكان قانونها النظامي لا يبيح تعيين أحد منهم نائباً في الجمعية التشريعية، فكان من سعى المترجم به واجتهاده أن أقرت الحكومة على اعتبارهم عنصراص متمماً للأمة، وبذلك ألف بين القلوب وربطها برباط من الأربطة السياسية الوثقى بعدما وصل بينها وأخي الحب الأهلي وأواصر الصداقة وأسباب الألفة والود، وناهيك بذلك من عمل سياسي مجيد. وهذه الأسرة اللطفية الكريمة تتألف اليوم من والد المترجم به سعادة المفضال حبيب باشا لطف الله، والمترجم به وإخوته. وقد أنعم عليه الجناب العالي بالرتبة الثانية وكذاك أنعم عليه الشاه الحالي بوسام السير خورشيد. فترى أنت من هذه الفذلكة المجملة أن صاحب الترجمة يعيش للأمة ويحيا لحياتها ويعمل لا لنفسه وإنما لرقبها مؤثراً رخاءها على رخائه مفضلاً مصلحتها على مصلحته علم أن للأمة حقوقاً على الفرد. فأبى الآن يقوم بواجبات ألوف الأفراد. ونحن فلو أردنا أن نبسط لك جملة من سديد آرائه وطائفة من جليل خواطره لما وسعها إلا كتاب كبير، فحسب القارئ منها أن نذكر أن أكبر أماني المترجم أن يثبت على الزمن فساد تلك الكلمة المتداولة اتفق الشرقيون على أن لا يتفقوا ويرى أن خليقاً بالشرقيين أن يجتمعوا

ويتفقوا ويتناصروا إزاء هذا الغربي الجارف دون ملاحظة الفروق الدينية والجنسية حتى لا يكون ثم موضع للمشاحنات الباطلة لتي لا ترد ولا تجدي. وإنما تجلب الضرر الكبير. وربما عدنا إلى تفصيل أرائه وخواطره. وتوفيتها قسطها من الشرح والبيان والتعليق.

تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية سعد زغلول باشا نحن الآن إزاء تاريخ مصر الحديثة كله مجتمعاً في تاريخ رجل. بل نحن الآن حيال ترجمة الأمة مجتمعة في ترجمة واحد. وكأني بالقوة الأزلية تراعي وجوه الاقتصاد في خلق الناس وتوزيع ثروة العقول عليهم. فهي إذا شاءت أن تخلق عظيماً. أو أرادت أن تجود بعقل جبار. جمعت إليها آلافاً من العقول الإنسانية فدمجتها في عقل جبار عظيم. ولقد يمر الجيل فيعدو إلى القرن. والأقدار لا تزال تهيئ للأمة عقلاً مفرداً هائلاً يغنيها عن نصف عقولها. ويكون بمثابة الغذاء التاريخي لها. هذا ونساء الأمة في كل ساعة يحملن. وحبالاها في كل يوم يلدن. ومرضعاتها في كل لحظة يرضعن. وإنك لتقرأ إحصائية المواليد في الأسبوع الواحد. فترى العشرات والمئات قد خرجوا للعالم من منابت مختلفة. وأصلاب وترائب متباينة. فما يخطر ببالك أن سيكون من هذه الأدمغة الصغيرة عقل للأمة كبير. ثم انثن فاطلع إلى إحصائية الوفيات تجدها لا تزيد ولا تنقص عن تلك إلا شيئاً يسيراً. فمن ذلك تعلم أن الطبيعة تزيد على عدد الأمة في صبحها ما تنقصه منها في مغربها. لكي يطرد بها بقاء التوازن الحيوي في الأمة. ثم هن جاءك نبأ أمة الصين. وهل سمعت بتعدادها. وهل علمت أن قد مضي ما يربي على ألفي عام. والأقدار لم تصغ بعد من هذه الملايين العديدة رجلاً آخر على مثال كونفوشيوس. فكأنها لم تطبع من كونفوشيوس إلا نسخة واحدة. فإذا ما أخرجت الأمة عظيماً. فكأنما لم تتسع في عهده إلا له وحده. وكأن روحه وعقله وأخلاقه ومميزاته عدسات تبصر منها أمته عقلها وأخلاقها ومميزاتها. وكأنه يجلو بصر كل منا، ويزيل عن عينيه حجاب الأنانية فلا ننظر إلا له ولعظائم فعاله. ولا تكون الأمة منه إلا كما يكون من الصبية إزاء معلمهم، إذ كانت الحياة تجري على قاعدة مدرسية بحتة. والناس يحترمون عظيمهم لأنه أبدع قالب يحاولون أن يصوغوا أنفسهم على نحوه ومثاله. ونحن بني الدنيا نعيش ونتغذى من العظمة. ونحس في وجود العظيم بيننا أنا جميعاً عظماء. ونشعر في حضرة العقل الكبير أنا بجملتنا جمع عقلاء. لأنه ينبه منا خامد عقولنا. ويثير في قلوبنا هاجع حميتنا. ويوقد بين أضالعنا فاتر أرواحنا. ويكرهنا على أن نتناول

كل عمل بعمله بحثاً وتفكيراً. ويريدنا على أن نتداول كل كلمة يقولها شرحاً وتفسيراً. ويطالبنا بأن ننهض لحسناته تحبيذاً وتفكيراً. لأن الناس يستحبون الحمية، وإن لم يكونوا هم مادتها. ويتطلبون الحرارة النفسية، وإن لم يكونوا هم أنفسهم نشأتها. ولا تقوى أعصاب الأمة إلا بالمصل الذي يحقنها به قادتها. ولا تشتد عضلاتها إلا بالحركات الرياضية التي يمرنها عليها رجالاتها، وكان خليقاً بقادة الشعوب أن يكونوا أعلم بطب النفوس، وأخبر بالأدوية النواجع التي توافق أمزجة شعوبهم. هذا ولو لم تكن الجمعية التشريعية تضم بين أعضاءها صفوة رجال الأمة، وخلاصة مجموعها. لما رأيت من عرض الأمة فرداً واحداً متنبهاً متيقظاً. ولأسدل السبات ستره على الأمة والجمعية معاً. فلا تكون محاضر الجمعية إلا مواعيد نوم تبتدئ وتنتهي بدقات أجراس أول من ينام وأول من يصحو من أعضائها، وإذن لما سمعت في النوادي والمجتمعات والأسمار هذه الشروح القيمة. والتأويلات الجليلة. والاستنباطات الدقيقة والاستنتاجات الثمينة. والاقتراحات السديدة. والآراء الوجيهة. التي يلقاك بها القوم على اختلاف طبقاتهم. وتباين أقدارهم. وتعدد أوساطهم. ولما رأيت نبض السياسة على ما شهدت من قوة. وعاينت من ضربان وانتظام. وهذه الروح السياسية القويمة: وهذا التطور الفلسفي الذي وثبت إليه الأمة: هما فيض من روح رجل عظيم: كان أكبر ثمرة جادت بها الأقدار على هذا البلد المجدب رجالاً: الخصيب زرعاً، المريع نباتاً: بل هو المادة الواسعة التي يتغذى منها تاريخ مصر الحديث: وهو الكوكب الإنساني الذي في كل قلب مصري منه وميض: وفي كل عقل مصري من سناه قبس وضياء. وفي كل نفس مصرية من وهجه شعاع ولألاء. ولا أحسب القارئ يعوزه بعد ذلك التفهيم. ولا ظنه بحاجة إلى زيادة الإيضاح والتبيين: - بلى: هو سعد زغلول باشا قائد الأمة اليوم: ووزيرها بالأمس: وقاضيها من قبل ذلك ومحاميها، بل هو أول محام راح في الأمة قاضياً: وأول قاض كان وزيراً: وأول وزير أضحى في هذا الجيل نائبا!. وأنت فستقرأ في الصفحات الآتية تاريخه الحافل بالعظائم: وتعي ترجمته المترعة بالمحاسن والمكارم: فتتبين لنفسك كيف يكون العظيم في قوة الإرادة: وما قوة الإرادة إلا

انتصار للقوة الإلهية الكامنة في الإنسان: وما القوى في إرادته إلا من يكون لنفسه قانوناً وشرعة ونظاماً: يعلم علم اليقين أنه إذا نزل على رأيك وحكمك: وعمل بأمرتك وإرادتك: وخضع لسيطرتك وسلطتك: عطل فيه الإرادة التي تحركه: وأفسد على الله الميكانيكية التي ركبها فيه لتسيره: وكأني بقوة الإرادة من النباتات التي قل ما تنمو في هذا الجو المصري، وندر ما تطلب في تربته: وإنك أن تظفر من القوم برجل قوى الإرادة. فكأنك ظفرت منه بمادة هذه القوة وعنصرها: ومن ذا الذي ينكر على صاحب هذا التاريخ أنه في طليعة من ذكت قوة إرادتهم: واشتد في نفوسهم الاستقلال في الرأي: وقليل هم. ولا يغيب عنك قوة منطقة وسحر بيانه، وشدة عارضته: فكأنما يكسب قضيته في ذاكرته. قبل أن يقف لها في ساحة المحاجة والجدال: كما كان نابوليون العظيم يهزم عدوه فوق خريطته الحربية: قبل أن تضمه وإياهم سوح الحرب: وتجمعه بهم ميادين القتال. ولد سعادة سعد زغلول باشا بناحية أبيانا من اعمال مركز فوه عام 1860: فهو اليوم في الحول الرابع والخمسين، ولكنك لو أشرفت عليه لرأيت ثم شيخاً أشيب يسند في حدود السبعين، وكذلك عظماء الرجال تذيب جسومهم تلك الحرارة المتأججة في أجوافهم وجنوبهم وكلما ازداد ضرام تلك الحرارة الروحانية. استمد وقوده من اللحم والدم. وأنت فلا ترى رجلاً نابغة إلا وجدته أبداً أكبر من عمره الحقيقي. حتى أنك لتلقى الشاعر العبقري - والشاعر أحر خلق الله روحاً، وأكثر علباد الله توهجاً - يبدو لك في مظهر الشيخ الوقور. وهو لا يعدو أن يكون شاباً في مقتبل العمر وحداثة الشباب. ولشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الرجل العظيم كما يقدرون أعمار سائر البشر. كأنهم لم يعلموا أن دقيقة العظيم تعدل يوم غيره. فلما حبا إلى السابعة من عمره دخل مكتب القرية وظل به حوال خمسة أعوام. ثم شخص إلى دسوق لتجويد القرآن فجوده علي الشيخ عبد الله عبد العظيم. وكان أخوه الرجل الطيب الشناوي أفندي زغلول يومذاك رئيس مجلس مركز دسوق. ولم يلبث المترجم به في دسوق طويلاًَ بل جاء إلى القاهرة موطن عظمته ومهد شهرته ومعهد نباهته ودخل الأزهر ولبث يتلقي فيه العلوم خمس سنوات، وكان السيد جمال الدين الأفغاني حينذاك بالقاهرة، فلم يكد يستقر بصاحب الترجمة المقام في القاهرة حتى تعرف إليه وإلى تلاميذه أمثال المرحوم

الأستاذ محمد عبده والهلباوي والباجوري والشيخ عبد الكريم سلمان فتلقي على الأستاذ محمد عبده القطب على الشمسية وبعض كتب في التوحيد وكان الأستاذ إذ ذاك من علماء الأزهر، ثم تعين بعد ذلك صاحب الترجمة محرراً في الوقائع المصرية وكان يرأس تحريرها الشيخ عبده وكان من بين كتابها ومحرريها الشيخ سلمان والسيد وفا زغلول شقيق نصر بك زغلول المحامي، وأقام في تحرير الوقائع سنة وبضعة أشهر يكتب بتوقيعه مقالات في الاستبداد والشورى والأخلاق وكان قبل تعيينه في الوقائع المصرية قد لخص كتاب ابن مسكويه وطبع منه أغلبه، وكان يكتب مقالات في جريدة مصر وكان يديرها ذلك الكاتب الحمي الأنف الألبي القلم أديب بك إسحق وكان بين الذين يتابعون تلك الجريدة من الكتاب سليم نقاش وكذلك كان يوافي بكتاباته صحف البرهان والمحروسة والتجارة وكلها كانت للمأسوف عليه سليم نقاش وكان الشيخ حمزة فتح الله يكتب إذ ذاك في صحيفة البرهان. والقارئ يرى من ذلك أن المترجم به بدأ حياته العظيمة بشباه القلم وسنان اليراع يستنفد في جميع ما يكتب عصارة ذلك الذهن القوي بطبيعته الذي لا عون له إلا روح الزمن. ولا خلابة له إلا من روح صاحبه، وماذا أنت متصور من مبلغ سحر كاتب يكتب ليستمع لرنات براعته وتوقيعات قلمه أمثال أديب إسحاق ومحمد عبده وسليم نقاش ومن علمت من الفحولة الأعلام، ولعمري ما كانت الصحف وقتذاك كما ترى منها اليوم يتهجم على ميدانها التلميذ والسوقة والكاتب الفج والدعي والغبي والركيك حتى لا تكاد تقرأ في كثير منها بعد أحداث اليوم وأنبائه إلا موضوعات إنشائية لعلها نماذج المعلمين في المدارس. ولا تأخذ عينك بين أعمدتها وأنهارها إلا قصائد نسيب يصف فيها بعض هؤلاء الرصاصين وجه حبائب ولدن لهم في مخيلاتهم يشيبون بوجوه لهن سافرات - وإلى جانب هذه القصائد السافرة مقال مطول في وجوب الحجاب! - إلى آخر ما يقرع سمعك من كل مضحك مبكي. ولا تعجب بعد ذلك إذ تعلم أن مقالات صاحب الترجمة في الوقائع والبرهان كانت من مهيئات الثورة ومضرماتها. فكأنما ألقت إليه الأقدار ذلك القلم الذي وضعته من قبل بين أنامل جان جاك روسو. فأقام به العالم وأقعده.

وعين المترجم به بعد تحرير الوقائع معاوناً في الداخلية ثم ناظراً لقلم قضايا الجيزة على أنه لم يلبث بذلك القلم إلا بضعة أسابيع حتى إذا فصلت الثورة العرابية. فصل من وظيفته. وكان انفصاله بتهمة أنه من تلاميذ الشيخ محمد عبده وأنه من المنتمين إلى المرحوم البارودي واكتفوا من عقابه بفصله. ويجمل بنا أن لا ننسى تلك الحسنة الكبرى التي أسداها المترجم به إلى اللغة إذ كان يصحح ركيك المقالات. وقاسد الأساليب وعاثر العبارات، التي كانت تنتهي إلى الوقائع أيام كان من محرريها. فكان ذلك درساً عملياً لنشر اللغة، واتساع نطاقها. وإبرائها من ذلك الاضطراب العامي الذي يأبى أشباه العامة إلا أن تصاب اللغة منه بعدواهم. وكانت طريقته في ذلك أن ينشر الرسائل بنصها. ثم يجيء بعدها بما هو أصح منها لغة وأفصح سياقاً. حتى يتبين الصحيح من المعتل. وينكشف السليم من المختل. وحتى يعلم الذين في ألسنتهم مرض - لا زادهم الله مرضاً. إن بضاعتهم قد بان فسادها، وإن تجارتهم اللغوية قد وضح وكسها وكسادها - ونحن أن تعجب فعجب لهؤلاء الذين يأبى العرف اليوم إلا أن نسميهم من باب المجاز كتاباً وإنك لتشفق عليهم أن يبدو للناس عوارهم فتفتح لهم عبارة قد فسدت أو جملة ركت أو اصطلاحات أخلقت أو تراكيب ابتذلت على أنهم ما يزالون يريدونك على تهريب هذه المواد المحظورة ونشرها على حساب اللغة وحساب ضميرك ثم هم بعد ذلك ساخطون غاضبون لأساليبهم العصرية في حسبانهم وهي أن انتسبت إلى أي عصر لبرأ إلى الزمن كله من الانتساب إليها، وإذا أنت جئتهم من جانب النصخ والاستدارك تشفع بعضهم لك أنهم إنما يكتبون موضوعات علمية، فكأنما قد كتب على أبواب الموضوعات العلمية ممنوع دخول اللغة الصحيحة. . . وما كان من تلك الطريقة المثلى التي سنها المترجم به إلا أن صحت لغة الدواوين من علتها وقامت نهضة مدهشة في مصالح الحكومة بلغ منها أن سواد الموظفين كانوا يهرعون إلى المدارس الليلية لتعلم اللغة العربية الفصحى. ثم دخل في سلك المحاماة مع المرحوم حسين أفندي صقر وكان هذا رئيس قلم في نظارة الداخلية ثم فصل بسبب الثورة فانتقل صاحب الترجمة معه في المحاماة أمام المجالس الملغاة ولم تكن المحاماة في ذلك الحين شفوية بل كانت بتقارير تتبادل بين طرفي الخصوم

أو وكلائهما، ثم إنهم بالاشتراك في جمعية سرية كان قد ألفها شخص فرنسي جاء من الجزائر واجتمع ببعض القوم في مصر فأقاموا منهم جمعية سرية سموها جمعية الانتقام، على أن هذه التهمة التي قرفوه بها والظنة التي أخذوه بأسبابها لم تكن لتروعه ولم تكن لترهبه لأن الرجل الكبير كالكرة المطاطية تقذف بها إلى الأرض وتأبى هي إلا سمواً وارتفاعاً ولا ترى النهم تروج إلا حيث يروج الكذب ولا يروج الكذب إلا حيث تذل النفوس وتفسد الطبائع والناس كما علمت يحبون التهم الحب كله ويخفون للظنون ويبتهجون. وهم لا يريدون فيها قضاة ولا يسألون عليها دفاعاً ولا يطلبون لها شهوداً ولا محلفين لأنهم يخافون أن يفسد التحقيق عليهم تلك اللذة النفسانية التي أحدثتها التهمة فيهم. فإذا ما برأ القضاة متهماً فاعلم أن في الناس الوفا لا يزالون يعتقدون بإدانة ذلك المتهم البرئ. ولا جرم أن تكون التهمة التي تجنوها على صاحب الترجمة أفك أفاك وقرية مفتر وانتقام حقود. وهل كانت الطبيعة القوية الوثابة التي فطره الله عليها. لنستطيع أن تعمل ساعة واحدة في ظل المكامن والمخابئ. هذا ولم يكن لصاحب الترجمة معرفة بأحد من رجال هذه الجمعية ولا من أعضائها ولكن لما اكتشفت الحكومة أمر هذه الجمعية وقبضت على بعض زعمائها سنحت لبعض رجال الحكومة الفرصة لمطاوعة فعمدوا إلى الانتقام من أعدائهم فكأنهم لم يكتشفوا جمعية الانتقام إلا ليقيموا لأنفسهم مثلها!. وكان من الذين استهدفوا لشره هذا الانتقام صاحب الترجمة وشريكه المرحوم حسين أفندي صقر. وتألفت لجنة لمحاكمتهما مع زعماء هذه الجمعية من بعض القضاة الأجانب الذين جيء بهم من بلجيكا للاشتراك في تشكيل المحاكم الأهلية تحت رئاسة قاض منهم يسمي فلمنكس وعضوية مسيو دهولس الذي كان مستشاراً في محكمة الاستئناف وانفصل عنها منذ زمن قريب. وحسين بك واصف - حسين باشا واصف الآن - والمرحوم حامد بك محمود ومحمود بك سالم. فلما تناولت اللجنة القضية وبحثتها تبين لها براءة صاحب الترجمة وشريكه وعجبت لإدخالهما في هذه التهمة النكراء. وأقرت بأن لا وجه تمت لإقامة الدعوى عليهما ولامت الحكومة على أنها مهما ظلما وعدواناً وأمرت بإخلاء سبيلهما للتو واللحظة، وقد لبثا في السجن سبعة أيام. على أن الحكومة لم تنفذ هذا الأمر بل أبقتهما 98

يوماً وحاولت نفيهما إلى السودان وأعد عثمان باشا ماهر المعروف بالسنيورة محافظ مصر وقت ذلك مشروعاً بذلك تقدم إلى مجلس النظار ولكن المجلس لم يقر عليه إذ لاحظ المرحوم فخري باشا ناظر الحقاقية إذ ذاك أن النفي المطلوب يعد ضربة للقضاة الأجانب الذين التجأت مصر إلى عونهم على توزيع وجوه العدل في هذا البلد ولاسيما أن القرار الذي أصدروه بأن لا وجه لإقامة الدعوى كان باكورة أعمالهم. ولكن على الرغم من هذه المعارضة ظل المترجم به رهن المحابس حتى رفعت ظلامته إلى المستر مكسويل وكان نائباً عمومياً أمام المحاكم الأهلية فأخذه العجب لذلك وأمر على الفور بإطلاق سراحهما فكان ما أمر. وعاد المترجم به بعد أن ردت إليه حريته الشخصية إلى الاشتغال بالمحاماة مع شريكه وكان ذلك إبان افتتاح المحاكم الأهلية وكان أول من تقيد اسمه في محكمة مصر محامياً وكان ذلك عام 1884. وانفسخ إذ ذاك المجال في قضايا الجنايات للقوة الخطابية وبدأ المحامي يدلي بدفاعه أما منصة القضاء ويبسط حججه بلسانه ويستنصر ببلاغه مذوده، وهنا تجلي للناس صاحب الترجمة يحمل تحت لسانه وفي تضاعيف صوته موهبة عظيمة الشأن جليلة القدر كانت حرارتها من قبل ذائبة في مداد قلمه، وإذا به ذلك الخطيب المفوه العظيم الذي إذا خطب الناس قاد آراءهم وقاد مع آرائهم إرادتهم، وإذا تكلم رفعهم فوق أنفسهم وأحدث فيهم قوة جديدة لم تكن تجري في شرايينهم وإذا أراد أن يهزم أفكار سامعيه، ويفتح أذهانهم نثر فيهم روحه فكلهم إذ ذاك قطعة منه لا تزال تنجذب إليه بقوة المغناطيسية المنطقية. وكانت صناعة المحاماة في ذلك العهد على أسوأ حال وأحقر مكان وأحط قدر لا يلقي بنفيه في تيارها الكدر إلا الذين استهدفوا لسوء القالة وشين السمعة وخسران الكرامة وقد كان من ضعف ثقة القوم بأهل هذه الصناعة وخشية شرهم ورهبة ضميرهم وإذاهم أن لقبوهم بالمزورين ودعوهم بالأشرار أو ما هو في اصطلاحهم العامي المرازين ولكن المترجم به كان العامل على تطهير سمعة هذه الصناعة الإنسانية الكبرى وإعلاء كلمتها والنهوض بها من عثرتها والسمو بها من كبوتها ورد كرامتها عليها، ولم يكن ليخشى على مكانته الشخصية أن يصيبها شيء من سوء تلك السمعة إذ لا يضير الفيل العظيم أن يكون مركباً

للملوك والعظماء وما كان في ذلك إلا كالشمس تنفذ بضيئها إلى الأماكن الوخمة والقيعان الوبيئة والمراتع المظلمة فتبدو رخمها وتقتل جراثيمها وتهتك حجاب ظلماتها وترسل في جوها مادة الحياة وتنشر في منافسها مادة الصحة. ولبث يرفع من شأنها يرفعة شأنه ويطهر ذكرها بطهارة ذكره حتى عام 1891 إذ سمعت مكانتها واستوسق لها أمرها وشرفت سمعتها وما كاد هذا العام ينصرم ويقبل العام التالي حتى اختارته محكمة الاستئناف نائب قاض بها وبذلك كان أول محام في مصر رفع قاضياً، وقد كان لهذا التعيين نشوة ابتهاج وهزة جذل بين لدانة المحامين فلما كان اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام 1892 أقام له جلة المحامين وخبرتهم مأدبة كبرى في نزل حديقة الأزبكية. واشترك معهم في تلك الحفلة الكبرى رئيس محكمة الاستئناف في ذلك العهد أحمد بليغ باشا وإسماعيل بك صبري - إسماعيل صبري باشا - وكيلها، وأحمد حشمت بك - حشمت باشا - الأفوكاتو العمومي للمحاكم الأهلية. فلما انتظم عقد الحفل انبرى رأس شعراء هذا الجيل سعادة إسماعيل بك صبري - باشا - فقال: إن تعيين حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول عضواً في محكمة الاستئناف لدليل على أن المحاماة والقضاء إخوان رضيعا لبان، وغصتان صنوان، حتى لقد راقني أن أنمثل بقول أبي الطيب المتنبي: هذي منازلك الأخرى نهنيها ... فمن يمر على الأولى يعزيها ثم تلاه إسماعيل بك عاصم المحامي وإليك ما قال إما يعرف صلاح الأمة بصلاح الحكومة وإنما يعرف صلاح الحكومة بحزمها والحزم هو أن يوضع كل شيء في مكانه ويصرف في وجوهه وبابه أن تعطى الوظائف للخليقين بها انحطت وأية حكومة اتخذت ذلك الحزم قانوناً لها تقدمت وقد شاهدتا حكومتنا اليوم تعطي الوظائف في المحاكم الأهلية لمن هم أجدر بها وأصلح لها ولما كانت صناعتنا المحاماة مشتبكة مرتبطة بالقضاء فقد كان لنا جزيل السرور أن رأينا في محكمة الاستئناف الأهلية مثل سعادة رئيسها وحضرة وكيلها الفاضلين وبينا نحن منشرحو الصدر مثلجو الأفئدة لظهور هذا التطور والارتقاء في إصلاح خطة القضاء بانتخاب الأكفاء لها إذ رأينا الحكومة قد نشطت لحظة جديدة مثلى فانتقت من صناعة المحاماة أصولياً نابغة وهو حضرة سعد أفندي زغلول فعينته في محكمة

الاستئناف ولم يكن قبل في صناعة دنيا فنقول اليوم أنه ارتقى ونهنئه على ارتقائه بل كان في مهنة شريفة سامية وكانت تفخر به وتزهى بجانبه فما كان من القضاء إلا أن نفسه علينا فضمه إليه من بين أظهرنا وكن ذلك دليلاً على انتهاج سبيل الإصلاح إذ كان سعد أفندي زغلول يصلح في الحقيقة لمنصب أرقى مما انتخب له وأسمى مكاناً. وقد اجتمعنا نحن عصبة المحامين الليلة لنهنئ أنفسنا بانتخاب الحكومة لحضرة الفاضل في سلك القضاء ولنهنئ حضرته لأنه سيوجد مع رئيس اشتهر بصفات الكمال ومكارم الأخلاق وطهارة الذمة وحب الاستقلال وسعة العلم واعتذر إليكم أيها السادة لعجزي عن إبداء كل ما يختلج ضميري من الفرح والسرور الحقيقيين. ثم وقف بعده المرحوم إبراهيم أفندي اللفاني فقال يا سعد وفي هذا اللفظ من معنى الإجلال والتعظيم ما يكفيني مؤونة المبال، فيا سعد قد عز علي القول في هذا المقام مع مالي من الأثرة والاختصاص بك والاحتفاظ بجليل فضلك إلى حد يحتبس معه لساني ويعجز عن الإفصاح والبيان، واقتصر الآن على أن أهنئك من قلب يخالطه الأسف عن انفصالك من بيننا، وقد كنت واسطة عقدنا وعلى قدر هذا الأسف تكون تهنئتنا على دخولك في سلك القضاء ولكن علام هل انتقلت إلى مقام تكون فيه أكثر ثراء وأوسع ديناً مما كنت فيه. كلا بل إلى مقام يحبس فيه رزقك على راتب زهيد فعلام إذن نهنئك - أم هل انتقلت إلى مقام تزاول فيه علماً لم تزاول أو تزداد سعة منه ووفراً وكنت فيه قصير الباع - كلا. . فعلام إذن نهنئك؟. بلى. نهنئك لأنك كنت تناضل عن الحق، وتحارب للإنصاف. وتجاهد للعدل. ولم يكن بيدك. فأصبحت والعدل اليوم بيدك يطالبك بحقه. إلا فلنشرب على سر استلامك زمام الحق ونصرته. ثم وقف أحمد حشمت بك. حشمت باشا - النائب العمومي فقال: إخواني قد علمتم أن النيابة العمومية والمحاماة خصمان مختلفان. ولكن كل منهما يناضل عن الحق والإنصاف. ويجد لمحو عوامل الاستبداد والاعتساف. وقد كان حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول من أشد أولئك الخصماء وأقواهم حجة ودفاعاً عن الحق وذوداً عن العدل. فأصبح اليوم في صف الحاكمين بين الخصوم. فحق للنيابة العمومية أن ترحب به فيصلاً يقضي بالحق كما عهدته

في دور خصومه نصيراً له. وانبرى في أثره عدة خطباء يزيدون عن العشرة. يعددون جميعاً حسنات المترجم به في المحاماة ومناقبه ومميزاته. حتى جاء دور ذلك الخطيب المصقع البليغ. والمحامي النابغة المنطبق. الأستاذ إبراهيم بك الهلباوي فوقف يقول إذا التمست من حضراتكم المعاذير وطلبت الصفح عن التقصير. فلي شفيع قائم بين أيديكم ألا وهو كوني أخطب الآن أثر ثلاثة عشر خطيباً. كلهم قد خلب الألباب. وأخذ بمجامع القلوب. ولكن لا أسألكم عذراً لأن موضوع خطب شخص كله فضائل ومهما قال الخطباء فبحر الفضل واسع لا تنفد مادته، ولست أقصد بمقالي إلى الأسف على فراق سعد أفندي زغلول لطائفة المحامين فأنا ما اجتمعنا هنا لتوديعه منها. بل لنهنئ هذه الطائفة التي يحق لها أن نفخر أعجاباً بما نالته بتعيينه من الشرف وعلو الشأن. تقولون إن حرفة المحاماة شريفة وفضلها مقرر. وأقول كان ذلك لها ولكن على القرطاس. وفي القواعد الفلسفية. أما المشاهد فليس كذلك ما كان. فمنذ تسع سنوات كانت أبعد عن اسم الشرف والفضل. وتعلمون أنتم أن المحاكم الأهلية حلت محل المجالس الملغاة التي كان أمامها محامون يسمون بوكلاء الدعاوي ليس صاحب السمعة فيهم الأمن كان أخبر بأغراض القضاة وأعرف بحاجاتهم. فكان ولا ريب هذا الفن ضائع الاعتبار بين أيدي طبقة مضيعة لشرفه خافضة لمكانته فلما تألفت المحاكم الأهلية لم يجسر أحد أن يسوق بنفسه ضحية لهذا الفن وذبحا إلا رفيقنا سعد أفندي زغلول فظل يعالج مرضه ويرتق فتقه ويقيم أوده. ويجاهد في سبيل إعلاء كلمته حتى أسدل الستار على كثير من فضائحه ومعايبه فأقدم إذ ذاك أرباب الشرف على الاحتراف به ولهذا كان سعي رفيقنا بادئ بدء جهاداً مستمراً. ولولاه ما استطاع أحد منا الاشتغال بهذا الفن الذي أصبحنا نعده اليوم فناً شريفاً ومهنة سامية عالية. فالفضل كل الفضل في سمو مكانتها لحضرة سعد أفندي زغلول فلذلك وجب علينا أن نهنئ المحاماة بانتقاله منها وارتقائه إلى منصة القضاء. فهو هو الذي صيرها أهلاً لأن يرتقي منها مثله إلى محكمة الاستئناف. ومن الغريب أنه لما عرض تعيين حضرة صديقنا المفضال سعد أفندي زغلول عضواً في محكمة الاستئناف قال قائل إن حضرته على الرغم مما أحرزه من الفضل وسعة الإطلاع

في القوانين لم تكن لديه شهادة ليسانسيه فلما بلغ هذا القول سعادة الفاضل رئيس محكمة الاستئناف أجاب بأنه إذا كان معترفاً بفضله وسعة إطلاعه في القانون أفلا يكون اضطلاعه بدراسة الشريعة الإسلامية الغراء شفيعاً له وقائماً مقام شهادة الليسانس. وهذه حجة دامغة ومقال رشيد. وهل من ينكر بعد هذا فضل حضرة سعد أفندي زغلول وقد عرف فضله كل مصري حتى أصبح الفلاح في زوايا القرى يعتمد على اسمه في مقاضاة خصمه إن كان محقاً. وتخور قواه وتهن عزيمته عند ذكر اسمه إذا كان مبطلاً. فهل مثل هذا الفاضل تكبر عليه وظيفة مندوب في قلم قضايا الحكومة وقد أكبرتها من قبل ذلك الأغراض. ثم كادت أن تكبر عليه وظيفة نائب قاض في محكمة الاستئناف وهي الوظيفة التي تحتفل اليوم لها. وأنتم يا حضرات الأخوان تعترفون في سركم وعلانيتكم بأنه أفضلنا وأجدرنا بالرقي واستلام زمام الحكم في أكبر مصالح الحكومة. فالمحاماة التي رفعها إلى ذروة الشرف لا تزال تطالبه بأن يتسم بها أعلى سنام الرعاية والاعتبار. وأن يمحو عنها ما بقي من رسوم الزراية والاحتقار حتى إذا طلب أحدنا فيما بعد إلى منصب أرقى مما نال اليوم لا يجد دونه معترضاً. كلكم تعرفون يا حضرات المحامين أن القضايا كانت ترفع إلى المحاكم وفي كل مائة منها سبعون أو ما يزيد ترفع فيها المسائل الفرعية فتقبل لخطأ في الشكل وجهل بالطرق القانونية. فأصبحت وليس في المئة خمس قضايا مما تقبل فيها الفرعيات. ومرجع الفضل في ذلك كله إلى سعد أفندي إذ كان قدوة وأستاذاً للمشتغلين بصناعة المحاماة بل كان أستاذاً لكثيرين من القضاة. وهذه تقاريره الشرعية والعقلية محفوظة لدينا يرجع إليها كل من استبهم عليه أمر قانوني. فلم يعد بعد من حاجة إلى بقائه بيننا. فقد أتم دروسه علينا سواء من حيث الصدق والاستقامة وطهارة الذمة أو من حيث البلاغة والفصاحة أو من حيث المسائل القانونية الدقيقة المعضلة. فليت شعري لأي شيء نتأسف من فراقه. وليس بنا من حاجة إليه إلا ما يطلب منه في دوره الجديد. أي مشكل قانوني أو أية حادثة قانونية أخذت بطبيعتها شكلاً من الأشكال والالتباس - وللحوادث طبائع تختلف حتى مع وحدة القانون - ولم نر مرجع الفضل في حله إلى حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول؟. بل في أي وقت تنازعا في مبدأ قانوني وكان الحكم

بين الفريقين غيره. أولم يكن الرجوع إلى آرائه في الأحكام السابقة إليه بسبيل هذا المبدأ. وانتقاله اليوم إلى سلك القضاء لا يحزننا بل يملأ صدورنا فرحاً واغتباطاً. إذ به تزول عنا بقية الوصمة التي لم تبرأ حرفتنا من عابها حتى الآن. فلو قال لنا قاض من القضاة بعد اليوم إن فيكم من لا يصلح لشيء أجبناه. بل إن فينا من شرف منصب القضاء. فلما انتهى الأستاذ من هذه الخطبة البليغة. وانتهى الحضور من التصفيق والهتاف ودلائل الاستحسان والإعجاب. قام في أثره صاحب الترجمة يرسل بينهم ذلك الصوت العذب السحري وينثر فيهم ذلك البيان الجزل السحباني. يشكر لهم احتفالهم به وشهادتهم بفضله وإقرارهم بنبوغه وعبقريته بل إن شئت قل قطعة من اعترافاته وناهيك باعتراف العظماء، قال: إخواني وسادتي - قد عهدتموني وليس من شيمتي الحسد، إذ ليس الحسد بنافع أحداً مطلقاً، كما أنه لم يكن من طبعي الافتخار، فأنا آمن بما عهدت فيكم من أن ترموني به. ولكني أرى نفسي اليوم على غير ما طبعت عليه، أراني حاسداً نفسي فخوراً بما أنا اليوم فيه. إذ كنت موضوع اهتمامكم ورهين عنايتكم. وكنت أود لو أني بينكن أهنئ غيري من بين صفوفكم، بما يناله عن جدارة واستحقاق. إخواني وسادتي - قد كنت أعرف من نفسي القدرة على البيان. وتقرير الحقائق، بل كنت أعتقد - ولو كنت مخطئاً في اعتقادي - أني على شيء من البلاغة والفصاحة واللسن، وما عهدت نفسي كالآن عيباً محصراً محتبساً عاجزاً عن القيام بما يجب لحضراتكم في بيان مقام الشكر لكم. وأراكم اختلفتم في الوجهة وتباينتم في الأسلوب وقد اتحدتم في المعنى واجتمعتم فماذا يسعني من أساليب البيان لأداء ما يحق لكل منكم، بماذا أشكركم وقد هجرت الكلام شهراً، ولولا أن مظاهر السرور على وجوهكم تدفعني للمقال - وإن لساني محض معبر عما يليه إحساسي الخالص ما استطعت الكلام الآن بعد أن اقتنعت من نفسي بأني عاجز عن مجاراة كل منكم في حلبة الفصاحة والبيان. إخواني - أراني لا أزال واحداً منكم. وإن نهاية الشرف عندي أن تقبلوني كذلك لأنكم أنتم الذين تخدمون الحقيقة ولا زلتم تجدون في طلبها. ولم يكن من أمري إلا أن ضعفت عن مجاراتكم واجتثاث السير معكم في هذا الطريق المحمود فجلست وسرتم.

هذا ما دعاني لأن أكون قاضياً. بعد أن كنت معكم محامياً. استرحت بعد العناء. لا زراية يشرف المحاماة، لأنها حرفة إظهار الحق لمن تولى أمر القضاء بين الناس، وأرى أن أفخر حلي الشرف أني كنت بينكم زمناً طويلاً أسعى معكم في إظهار الحقائق، والله يعمل إني ما سعيت إلا لهذا المقصد الشريف. ولكني أشهد أنكم أشد مني عزيمة إذ قعدت وأنتم نهوض. إخواني. إنني ما سبقت إلى اتخاذ فن المحاماة شعاراً إلا لأنها الحرفة التي تستلزم بسط آراء المشتغل بها على حضرات القضاة الفضلاء والأقران وجماهير العامة، فهي من ثم الحرفة الوحيدة التي تظهر فيها قيمة المرء في وسطه. والحق أقول ما كنت بمستطيع أن أخالط من كانوا مشتغلين بهذا الفن يوم لبست شعاره. كما قال أحد إخواني أثناء كلامه وإني محدثكم الحديث. أول ما هممت بالاشتغال بفن المحاماة وحدثتني نفسي بشأنها. نظرت فإذا من رزئت به من الذين كانوا عنوان سمعتها وذكرها. كأنهم الشوك يؤذي الناس ويعذبهم وذلك أنهم كانوا يسيئون إلى عباد الله بخيانتهم وزيغهم عن طريق الحق والهدى، ولذلك ترددت بادئ بدء ثم قلت في نفسي ما ضرك لو كنت وردة بين هاتيك الأشواك، ولو كنت الآن ما حدثتها هذا الحديث فمن حسن حظي أني أجبل البصر في هذا المحفل الحافل فلا أجد أثراً لذلك الشوك فلما استقر بخاطري أن القيام بالواجب خير للمرء حتى وإن كان يحرفه هي بأهلها من سقط المتاع أقدمت مستحصد العزم على الاشتغال بهذه الحرفة بين أولئك الذين عددتهم شوكا، والحمد لله إذ قد لفظهم الزمان لفظ النواة، وطهر الله مواضع نظرنا أن تقتحمهم في هذه الليلة. إخواني لا أحب أن أخوض في حديث أولئك القوم ولكني أقول كما قال أحد إخواني إنه كان من أقصى واجبات تلك الشرذمة إرضاء خواطر أولئك القضاة الذين بحقهم الحق، وذهب بهم العدل. ذلك ما أقول بصفتي محامياً بالأمس واليوم قاضياً لا يليق بي في الحالتين أن أكذب على نفسي وعلى غيري. والذي حبب إلى الاشتغال بهذه الصناعة إني كنت مشتغلاً من قبلها بوظيفة من شأنها الإطلاع على أحكام المحاكم الملغاة التي كانت تنشر في الجريدة الرسمية يوم كنت عضواً

في هيئة تحريرها، وكان من حظي أن عهد إلى أمر نقد تلك الأحكام، وتلخيص معانيها، ثم انتقلت من هذه الوظيفة إلى وظيفة ناظر قلم قضايا مديرية الجيزة. وهي كما تعلمون أشبه بوظيفة القاضي، إذ كان من خصائصه أن تصدر الأحكام في كثير من المواد الجزئية. فلما انفصلت من هذه الخدمة كما تعلمون وصفاً الجو من الأحداث لم يرق عيني أن أطرق باب أحد التماساً للرجوع في وظيفتي أو وظيفة غير هاوان كنت ممن يحب التواضع استغفر الله، بل إني رجوت من توسمت فيه الخير أن يساعدني لنيل وظيفة، فاعرض جهلاً منه غني ونأي بجانبه، فكبر عندي الأمر وازددت ميلاً إلى الأشغال بحرفة المحاماة وقلت لنفسي علام تحتمل يا سعد منه جهول، وما ضرك أن تكون مستقيماً بين مفسدين، بل ما ضرك أن تكون وردة بين الأشواك، فهان علي إذ ذاك أن احترف حرفة لم يكن فيها مناضل عن حق لوجه الحق. هذا ما كان يحيط به حديث نفسي يوم أردت الاشتغال بحرفة المحاماة وأن في العالم الكوني وجوداً يحب صاحبه أن يشعر به، ذلك هو الوجود الإنساني. فكأن يخيل لي أن استقامتي في حرفة منيت بالفساد والضلال لابد من أن يعرف قدرها الوجود فأجتني ثمارها، وكنت لذلك أتوسم أن تأتي ظروف أحبها وتحبني. إخواني - إنني اشتغلت بالمحاماة متنكراً عن أهلي وأصحابي وكلما سألني سأئل هل صرت محامياً أقول معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين. وجملة القول إني كنت أجتهد أن لا يعرفني إلا أرباب القضايا وإن كنت أجهل ماذا تكون العاقبة وقدر لي أني حبست في أول اشتغالي بهذه الحرفة ظلماً وعدواناً فنفعني مشروعي فيها وقد كنت أدافع عن الخصوم بالكتابة عن التقارير التي كانت تقدم إلى للإجابة على ما فيها من المسائل فانظروا إخواني في أمر محام كان يناضل عن الحق وهو منه سليب، وبعد أن انقضت مدة سحبني عدت إلى مزاولة هذه الصناعة لا أبقي بها غير الحقائق مطلباً - وكنت أحب أبدأ أن يحترمني القاضي فأحذر كل ما يؤدي إلى غير ذلك - ولعل سعادة الرئيس يذكر أنه لما كان بين أعضاء لجنة الامتحان التي طلبتني أمامها وسألتني ما هي واجبات المحامي. كان جوابي درس القضية جيداً - والمدافعة عن الحق واحترام القضاء. سادتي تعلمون أن الحق صعب الاكتشاف وإن الحقيقة إذ تكون ضالة تتشعب طرق نشدانها

علي الباحث ويعلم الله كم من ليال مضت ما كان أمرها عندي لا لأني كنت في عيش ضنك. ولا لأني قليل الميسرة. ولكن لأن الحقيقة ضائعة لا أجدها في طريق تشداني لها بين أناس عهدت إليهم أمانة ولا من يؤديها منهم لأهلها - كنت أرى القانون يكرهني على احترام القضاة وضميري يأبى الامتثال لاحترام كثير منهم فكنت أجمع بين الاحترام والتحقير ولا أستطيع التوفيق بين الظاهر والباطن - فأعجبوا أيها الأفاضل من مطبع غير مطيع - ولا جناح على لأن القوانين لا حكم لها على السرائر والضمائر - أقول الحق إني كنت أسأل من القاضي حقاً ومن النيابة واجباً فلا أجد هذا ولا ذاك - أما الآن فكلنا يعترف في سره وعلنه بأن القضاء ارتقى - والحق عنه مسؤول. ومازلت إخواتي أعد نفسي محامياً عن الحقيقة التي أردنا المحاماة عنها جميعاً. وإني شاكر فضلكم منشرح الصدر من كونكم عددتموني جوهراً شفافاً سطعت عليه أشعة العدل وأنوار الحق - فادعوا الله معي أن يؤيد روح الحق في بلادنا ويزيد في نشر الفضيلة والعدل. هذا ما وسعه هذا العدد من تاريخ سعادة المترجم به. ولما كان هذا التاريخ قد يربى على مائة صفحة اضطرنا إلى نشره تباعاً في البيان. فتح الله بك بركات عضو الجمعية التشريعية عن دائرتي فوه ودسوق والقسم البحري من كفر الزيات التابعة لمديرية الغربية إذا كان الدهر قد عصف بالأمة العربية بعد ذلك السؤدد والفخار. وذهب بظلها بعد أن بسطته على قرص الشمس وأشعة الأقمار. فقد أبى إلا أن ينثر أخلاف أهلها مع الريح، ويذرو بقية رجالها في مشارق الأرض ومغاربها، فلم يخسر العالم منهم إلا صفة الأمة، ولم يفقد إلا شخصية المجموع، وشاء التاريخ إلا أن يحشر من الشراذم القليلة من العرب، أو ممن ينتمون إلى العرب، أفراداً وأسرات، في كل بلد كان للعرب فيه أثر، وقطر كان لتلك الأمة فيه شأن وخبر، ليكونوا دلائل وبراهين على قديم ملكهم، وعناوين وفهارس لمجلدات تاريخهم، وهم وإن اندمجوا في أهل البلد الذي نزلوه، وامتزجوا بالقوم الذين نشؤوا فيهم، وخلف لهم من تزاوجهم ذراري وحفدة وسلالات، وأصبحت لهم مميزات الموطن الذي

عاشوا فيه وعاداته، إلا أنك لتظفر بالعربي منهم، فلا تقرأ في صفحة وجهه إلا صفحات تاريخ العرب كله، ولا تطالع في أساريره إلا سلاسل مآثرهم ومدوناتهم، ولا تقع فيه إلا على شيمهم وخلاتهم، ولا تسقط منهم إلا على قوة إفهامهم، ورجاحة ألبابهم، وهو بعد متميز عن أهل وطنه، متفرد دون الوسط الذي يحوطه، متفوق على أفراد أمته، لأنه وإن فقد الروح الاجتماعية التي هز بها آباؤه عروش العالم، وفتحوا بتأثيرها بلدانه وأقطاره إلا أن فيه لا تزال الروح الطبيعية التي تجعل العربي أبداً إنساناً قوياً في كل شيء، ولا تزال سلالات العرب في كل بل يقوون كفاآت أهله بتزواجهم، ويدخلون عليهم من دمائهم، حتى ليدور الفلك مداره، وتنصرم القرون، وتنفرط الأجيال، وينتهي اليوم الأخير من عمر الدنيا، ولا يزال في العالم رجل يقول ها أنا ذا عربي. نقول ذلك ونحن بصدد نابغة مصري الموطن والمولد، عربي الأرومة والمحتد، وإذا كانت كل أمة من الأمم إنما طرأت على الأرض التي انتحلتها واستوطنتها، وكانت السلالات البشرية قاطبة لا تكاد تعرف لها موطناً أصلياً تقول هذا موطني على الحقيقة لا على المجاز، فليس بعاب على المصريين أن يكون عظيمهم يرجع بنسبة إلى أصل غير مصري. فلا يندهش الناس بعد إذ رأوا من فتح الله بك بركات ما رأوا من شدة الذكاء، وقوة العارضة، وحمية الأنف، والنضح عن الحقوق، والدأب في خدمة المجموع. إن نقول إن هذا النابغة المصري ينتمي نسبه إلى أبي بكر الصديق، فمن دمائه تجري روح ثلاثة عشر قرناً كاملاً، بل تكاد تكون روحه قطعة من روح الإسلام كله، تفيض جميع مميزاته النفسية وخلاله ووجداناته وأفعاله من طبيعة الدم الذي يسري في عروقه، فكل ما ترى من وجداناته أثر من آثار ذلك الفيض الذي نبع منه، بل هي صورة مصغرة من صورة روح الصديق رضي الله عنه، ولتجدن ماء الغدير الفياض في حلاوة مساغه وعذوبة مذاقه لا يختلف عن ماء النهر العظيم الذي فاض منه واستمد، وكل ما نرى من غيرته وحميته طليعة من طبائع مزاجه، يمدها قلب كبير، وروح حارة، وليس كأولئك الذين لا تكون الحمية فيهم والغيرة إلا نتيجة الظروف، حتى لا تكاد تفرق بين غيرتهم وبين انفعالاتهم، ومثلهم في ذلك مثل الجياد غير الصافنات إذا عرضت في السوق للبيع، وجرى بها سمارها شوطاً صغيراً، أظهرت

نشاطاً وخفة، وأبدت عتقاً وكرماً، فإذا ابتاعها مبتاع، وانطلق بها: لم يجد أثراً لذلك النشاط الوقتي الذي شاهده. ولد صاحب الترجمة في اليوم الخامس عشر من شهر شعبان عام 1282 بمنية المرشد. وكانت يومذاك تابعة لمركز دسوق، وهي الآن تتبع مركز فوه من أعمال مديرية الغربية، وأبوه عبد الله أفندي بركات، وكان إذ ذاك عمدة لمنية المرشد، ثم رفع بعدها إلى وظيفة مأمور مركز دسوق، وجده الشيخ عبد بركات، وكان من ذوي الثراء الطائل، والغني العريض، وكان موظفاً في عهد محمد علي الكبير، رأس الأسرة الخديوية، يشغل وظيفة كانت تسمى حينذاك ناظر قسم أو ما هو في معنى ذلك، وبدأ مقام هذه الأسرة بمنية المرشد منذ ثلاثمائة سنة، وقد نزحت إليها من البرلس، وتنمي إلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فلما درج إلى الحول السابع، دفعه والده إلى كتاب البلد، شأن كل مصري حتى اليوم، فلبث في هذا المعهد الصغير حتى كان عام 1293 فأرسله والده إلى مدرسة رشيد الأميرية، وظل بها حتى أتم التعليم الابتدائي، ثم انتقل حوالي عام 1297 إلى مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالإسكندرية. وكان ناظرها إذ ذاك عبد الله نديم. وبقي بها عاملاً كاملاً. وفي سنة 1298 دخل المدرسة التجهيزية يدرب الجماميز بالقاهرة ومكث بها حتى السنة الثالثة، وإذ ذاك ثارت الثورة العرابية، وقد تقدمت بوالده السن، وألفي الحاجة ماسة إلى المترجم به. ليقوم بإدارة مزارعه، ورعي شؤونه وتدبير ثروته، إذ كان أكبر أولاده، فانقطع عن الدراسة والمدرسة، وما كانت المدرسة يوماً معهداً للعظمة. ولا متخرجاً للنبوغ، وهل كانت روح النابغة لتذكو وهل كانت نفس العظيم لتنضج بين برامج المدارس وقيودها، وجدرها وحيطانها. ومحفوظاتها وقشور علمها. وما نفس النابغة إلا قبس من قبس الله. يريد مضطرباً واسعاً. ومكاناً طلقاً فضاء، وإلا عاد دخاناً يخنق الأنفاس. ويعمي الأبصار. بل كم أفسدت المدرسة من روح خصبة، وعقل قابل للنضوج. واستعدادات كبيرة، وما روح العظيم من المدرسة إلا في محبس. وأقام صاحب الترجمة بعد ذلك ببلدة. وكانت المشاحنات والفتن والضغائن فاشية بين أهل البلد. سارية بين أسراته وعشائره، حتى كان بالبلد على صغره سبعة عشر محامياً يشتغلون

بقضايا الخصومات الثائرة بين أهليها أمام المحاكم التي أنشئت إذ ذاك للفصل في أمثال هذه الخصومات والمشاحنات. وكانت أراضي أهل البلد في ذلك الحين مرهونة للمصارف البنوك للحكومة، واندفعوا في الفتن والمشاحنات وأمعنوا في المدابرة والمنازعة. حتى ضجت المديرية والمركز في أخريات عام 1886 ميلادية من هذا البلد وحال أهلية ففزعت الأهالي والحكومة إلى صاحب الترجمة يريدونه على أن يكون عمدة للبلد، وكان إذ ذاك في ريعان الشباب، لم يجز بعد الربيع الأول بعد العشرين. على حين أن القانون لم يكن ليبيح وقتئذ تعيين من هو في مثل سنه في منصب العمدة. وكان المترجم به لا يميل إلى إسناده إليه. لما كان يراه في ذلك الحين من عسف الحكام وبلوغهم من الإرهاف والاستبداد إلى الحد الذي لا يلتئم مع رجل يشعر بكرامة نفسه وشخصيته. ولكنه اضطر إلى قبوله. إذ رأى إلحاح الأهالي وإلحافهم. ووعود الحكام إياه بأنهم سيأخذون بالحسنى. ويجنحون إلى اللين والعرف. وكذلك ترى الرجل النابعة النابه. تبدأ شهرته حيث تبدأ مواهبه تظهر لقومه وأهل بلده. ولا تزال شهرته تنتقل من بلده إلى جوار بلده. ومن جوار بلده إلى البلدان القريبة منه وكذلك تروح في البلاد وتغدو حتى تعم الأمة جميعها. ومضى في منصبه ذاك حتى سلخ عام 1907. يصلح ذات بين القوم. ويرد الحزازات والضغائن ائتلافاً ومودة. حتى كان من أثر ذلك أن انفرط خمسة عشر عاماً لم ترفع فيها قضية واحدة لأحد من الأهالي إلى محكمة من المحاكم. لا بينه وبين آخر من أهل البلد نفسه. ولا بينه وبين الغير. وأخذ ينشر الأمن في بلده والتحاب والتواصل بين أهليه. وكان من ذلك أن ديون الأهالي سددت. واستخلصت أراضيهم من قيود الرهون. وحسنت حالهم. ونمت ثروتهم. وابتاعوا من أرض البلدان الأخرى المجاورة. وبلغت الثقة بينهم إلى حد أن الرجل منهم إذا احتاج إلى مال قليل أو كثير. افترضه من أخوانه. دون سند أو سفتجة أو شهود. وكذلك مضي يبت بين إخوانه العمد روح التضامن والائتلاف والتضافر حتى أضحوا جميعاً يداً واحدة مجتمعين فيما ينفعهم. متوانين على ما يوجب احترامهم وتوقيرهم. وعند إنشاء لجان الشياخات وتأديب العمد والمشايخ منذ نيف وعشرين عاماً انتخب صاحب الترجمة عضواً نائباً عن مركز فوه في لجنة الشياخات بإجماع الآراء. وإن كان أحدث العمد سناً. فكان له في هذه اللجنة كثير من المواقف المشهودة حيان مديري هذه المديرية.

وكانوا هم أصحاب النفوذ والسيطرة على هذه اللجنة التي كانوا بطبيعة الحال يرأسونها. وكان هو الرجل الفذ الذي كان يخالف أميال المديرين وأهواءهم ونزعاتهم. غير مبال بسخطهم. ولا حافل يغضبهم. ولا مكترث بما يجلب عليه غضب أمثالهم. وبقي بهذه اللحنة حتى نهاية سنة 1901. وكان يعاد انتخابه في كل عام. بإجماع الآراء. وانتخب في سنة 1899 في لجنة تعديل الضرائب بمركز فوه ونهض في ذلك بواجبه. حتى أن الضرائب المقررة على مركز فوه كانت أخف بكثير من سائر الضرائب المقررة على بلاد القطر. ولا يغيب عنك ما لاقى من المشاق. وعاني من الصعوبات في سبيل المحافظة على الصدق والأمانة في هذا التعديل. وفي سنة 1902 انتخب عضواً لمجلس مديرية الغربية. فلم يستطع أن يظهر مواهبه وكفاءته. إذ كانت مجالس المديريات ضيقة الدائرة. لا تنعقد إلا مرة واحدة في كل عام. للتصديق بما تقرره نظارة الأشغال. وبقي عمدة إلى أوائل سنة 1908 إذ انتخب عضواً لمجلس شورى القوانين. وإذ ذاك جالت مواهبه العالية جولاتها. وتجلت كفايته الشخصية في أبهى مظاهرها. لأن الرجل العظيم لا يبدو عظيماً إلا في المواطن التي تجد عظمته فيها مجالاً واسعاً. ومنتدحاً براحاً. وأنت فلو جئت بديمو ستنيز اليوناني رب الفصاحة وملك الخطابة. ورأس البيان. فجعلته معلم صبية. إذن لما وجدت منه إلا رجلاً بسيطاً. ولا ألفيت لبلاغته أثراً. وما كان ليستطيع أن يظهر لا كل بيانه ولا بعضه. فلا جرم أن تكون كفاءة صاحب الترجمة في مجلس الشورى غيرها في مجلس المديرية. فليس من يقف مدافعاً عن حق فئة قليلة كمن يقف في جماعة ناضحاً عن حقوق الأمة جمعاء. ولعل الناس لم ينسوا بعد ما كان له من مواقف مشهورة. ومواطن مأثورة. مما لا يتسع المقام لذكره الآن. وظل في مجلس الشورى حتى انفض في سنة 1911 وجاءت على آثاره الجمعية التشريعية فانتخب عضواً فيها عن مركزي فوه ودسوق وبعض بلدان من مركز كفر الزيات. ولا يفوتنا أن نصف لك في بضع كلمات هيئة المترجم به وأخلاقه ومبادئه. إذ كانت الطبيعة تنم في الإنسان عن روحه، وتخرج للناس منها صورة دقيقة الحجم تطبعها فوق

ملامح وجهه وهيأته ومعارفه وجميع أجزاء تركيبه الإنساني. وما آداب المرء إلا نتيجة ائتلاف إرادته النفسية ونظامه الجثماني، بل إن هي إلا آراؤه نفذت إلى يديه وقدميه ووجهه وجميع أجزاء جسمه. فقام بهذه الحركات التي اصطلحنا على تسميتها بالآداب. فلو أنت طالعت المترجم به، لألفيت رجلاً خفيف اللحم، ربعة القوام، أسمر اللون، بشوشاً. وقد خط الشيب مفرقيه وشاربيه. ولو جدت إزاءك رجلاً نشيطاً حلو الحديث. طيب المحاضرة. ثم إذا أنت خالطته ومازجته وأنست إليه. رأيت منه أخلاقاً سامية. وصفات حرية بإعجابك خليقة بمديحك واستحسانك. وجملة هذه الأخلاق ثقته بنفسه. والثقة بالنفس من أخلاق العبقريين. لأن الرجل العبقري كوكب في نفسه لا يستمد من نور غيره. ويأتي بعد ذلك ميله إلى الجد. وصدوفه عن اللهو. فهو رجل عمل لا يجد اللذة إلا في قضاء عمله. وما عرفناه يوماً من جلساء القهاوي وروادها. أولئك الذين تزدحم بهم قارعات الطريق وأفاريزها. وأبهاء القهاوي وقاعاتها. حتى ليخال لك وهم مرصوصون بعد المغيب مصفوفون أنهم جاءوا يسمعون محاضرة أخلاقية. وكأن في كل قهوة خطيباً يخطب زبائنها. وأنه ليجول بخاطرك ساعة تشهد ذلك المحفل الحافل إن نصف بيوت المدينة قد خلت من رجالها وشبابها. والمترجم به من أشد الناس حرصاً على الفروض الدينية وأدائها في حينها. لا تفوته فريضة، ولا يشغله عن صلاته شاغل. والمبدأ الذي يسير عليه في جميع أعماله هو الانتصار للحق وتأييده أنى كان، والإخلاص للأمة، والعمل على تحقيق مطالبها في ظل السكون بعيداً عن لغط اللاغطين، بنجوة من هذا الاضطراب العصبي الذي تحدثه السياسة في أبعد الناس عنها. والذي يفسد على قادة الأمة أمرهم. قليني باشا فهمي أحد النواب عن المصريين الأقباط في الجمعية التشريعية في كل أمة طوائف، وفي كل شعب نحل وعناصر، ولكل من هذه العناصر شخصية لا تظهر إلا إذا قام بمفرده، ولكنه يفقد في غمار العناصر الأخرى للأمة هذه الشخصية، ويكتسب بدلها شخصية المجموع الممتزج، كما يكون من المركبات الكيماوية ومخاليطها،

فإنك ترى الماء مركباً كيماوياً من الهيدروجين والأكسجين، ولكل من هذين العنصرين مميزات وصفات شخصية، على أن ليس للماء المؤلف من اختلاطهما أدنى نصيب من تلك المميزات الفردية، فإذا انتقضت هذه الرابطة بين العناصر المتممة للأمة وانتكث السبب الذي يمسكها، وانحلت الآصرة التي تشدها أصبح أمر الأمة فرطاً، وأضحى فيها بدل مجموع واحد مجاميع كثيرة، وعوض أمة واحدة أمم متعددة. كلها يطالب بالامتياز في الحقوق الاجتماعية والمدنية، وكلها لا يتوخى فائدة المجموع الأمي. وإنما يتوخى فائدة عنصره. وإذ ذاك تصطدم المصالح وإذا اصطدمت المصالح ثار الخلاف، ولا يكون من مصير الخلاف، إلا تعطيل التطور الاجتماعي الذي تنشده كل جماعة إنسانية. هذا وإن العنصرين المؤلفين لمجموع الأمة المصرية. هما العنصر الإسلامي وله الأغلبية. والعنصر القبطي وله الأقلية. ولا غنى لتركيب الأمة عن أحدهما. ولا يقوم المسلمون في الاعتبار المصري دون إخوانهم الأقباط. ولا قائمة للأقباط دون إخوانهم المسلمين. فمن ثم ينبغي أن يتوارى الاختلاف الديني أمام الوحدة المصرية، وينظر الفريقان إلى مصلحة مصر بنظرة المصري لا بنظرة المسلم ولا القبطي. لأن الوطن ليس بالمسجد ولا بالمعبد حتى تعتبر فيه الفروق الدينية. وقد كان الفريقان والعهد ليس ببعيد يتقاطعان ويتجادلان، ويقيمان الجمعيات والمؤتمرات. ليقرر كل منهما حقوقه، ويعلن مطالبه، ويذيع رغائبه، وكأن حق المصري لابد أن يختلف باختلاف نحلته. ولكن أمد هذا التقاطع لم يطل. وكان من مساعي عقلاء العنصرين وكبار رجالهما، أن تبدل ذلك التقاطع وحده ووثاماً، وعاد ذلك التناكر تعارفاً وسلاماً. وأصبح المسلمون والأقباط اليوم على محض التحاب والصفاء. نذكر ذلك ونحن بسبيل ترجمة نابغة من نوابغ المصريين الأقباط. ونابه من كبارنا بينهم هو أول من مشى بالسلام بين العنصرين. وأول من أصلح منهما ذات البين. ووفق بين القلوب، وهدأ من ثائرة الأقلام، حتى لا يدع أن يلقب فينا برجل السلام. ولقد عطوفة صاحب الترجمة لستين عاماً خلون بعد الألف والثمانمائة، فهو الآن في العقد السادس من عمره، فبدأ علومه في مدارس الأقباط والفرنسيس، ثم دخل في خدمة الحكومة سنة 1875 فما زال يثب من منصب إلى منصب، حتى أخريات عام 1893 إذ أصبح

مديراً لعموم الدخوليات - المكوس - ومراقباً عاماً لإدارة الأموال الغير المقررة في نظارة المالية، وكانت تشتمل إذ ذاك الدخوليات، في جميع أنحاء القطر والملاحة والأسماك والمعادن والكباري ودمغة المصوغات والضر بخانة ومصلحة الملح والإدارة العمومية لنظارة المالية ومجالس التأديب في جميع القطر، ثم اعتزل بعد ذلك خدمة الحكومة، ونحن فلا نريد أن نفيض في تفاصيل خدماته الرسمية فذلكم مشهور متداول. فليست هذه الدقائق ميزان شخصيته ونباهة ذكره، بل إن له من جلائل الأعمال ما يجعله خليقاً بالاحترام التاريخي. وحسبك مسعاه في الثورة العرابية فقد قام في تلك الظروف في أمنع حصن من الحزم والتبصر، ورأى السجون قد أقفلت أبوابها على أبرياء أخذوا بالظنة، فنهض بحركة جليلة، وبذل جهده لدى المغفور له سلطان باشا رئيس الحكومة في ذلك الحين. حتى أطلق المئات من الوجهاء والأعيان من ظلمات السجون. ونذكر لعطوفته مساعيه في جمعية الهلال الأحمر إذ بذل لها من ماله ووقته ووقف نفسه لهذا العمل الإنساني الجليل. ومثوله الأخير بين يدي جلالة السلطان. وموقفه في المشروع الاقتصادي الذي قامت به لجنة زراعة الدخان، إذ اقترح عليهم العمل تحت إشراف لجان مسؤولة فكان قوله القول الفصل. ولما توترت العلاقات بين الأقباط والإكليروس واشتد بينهما الخلاف في مسألة المجلس المالي، وشق على كبار الأقباط وأعيانهم حل هذه المشكلة المعضلة، قام عطوفته منفرداً وأعانه اللورد كتشنر في وضع لائحة جديدة لإعادة المجلس الملي موفقاً في بنوده وفقره بين الأقباط وغبطة البطريرك، وكان من نتيجة ذلك أن أعيد افتتاح المجلس بعد أن كان منفضاً سنين عدة، ونظر في الأعمال المرجأة المتأخرة ونشر السلام لواءه على الأكليروس والأقباط. وهو من حائزي رتبة روملى كلربك، ولا تعطي هذه الرتبة عادة إلا إلى رؤساء النظار، ولا يحملها في مصر إلا القليون، ومن الأوسمة التي حازها من الحكومة المصرية لما عاناه في خدمتها من كد وأنفق من مجهودات، الوسام المجيدي الأول، وهو أكبر وسام يعطي في هذه الديار، وقد نال عدة أوسمة من الحكومات الأجنبية. وقليني باشا فهمي رجل ديموقراطي الملبس والمعيشة، يقيم في مصر سبعة أشهر وفي

أوروبا خمسة، ومشتاه في حلوان. وهو ذو ثروة متوسطة. وهو من أكبر الأسرات في مديرية المنيا. وجده الماسوف عليه يوسف عبد الشهيد بك. وكان من أقران المرحوم سلطان باشا وشريعي بك. وبه فرط ولوع بالأسفار. وشدة شغف بالسياحات. ساح في فرنسا وإنجلترا. وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وسويسرا وروسيا وزار تركيا واليونان وبلغاريا ورومانيا وهو من المصريين الأفذاذ الفذين قاموا بالسياحة في الجزائر وتونس وإليك صورته وهو في زي المغاربة. وأنت لو رأيت صاحب الترجمة إذن لرأيت رجلاً حاضر الذهن. قوي الفكر، رقيق الشعور، يخيل إليك أنك تقرأ في أسارير وجهه مكنون سريرته. وأنك لتجد منه استئناساً وتعاين بشراً ورقة وخلابة. فإذا ما سا أوروبا خمسة، ومشتاه في حلوان. وهو ذو ثروة متوسطة. وهو من أكبر الأسرات في مديرية المنيا. وجده الماسوف عليه يوسف عبد الشهيد بك. وكان من أقران المرحوم سلطان باشا وشريعي بك. وبه فرط ولوع بالأسفار. وشدة شغف بالسياحات. ساح في فرنسا وإنجلترا. وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وسويسرا وروسيا وزار تركيا واليونان وبلغاريا ورومانيا وهو من المصريين الأفذاذ الفذين قاموا بالسياحة في الجزائر وتونس وإليك صورته وهو في زي المغاربة. وأنت لو رأيت صاحب الترجمة إذن لرأيت رجلاً حاضر الذهن. قوي الفكر، رقيق الشعور، يخيل إليك أنك تقرأ في أسارير وجهه مكنون سريرته. وأنك لتجد منه استئناساً وتعاين بشراً ورقة وخلابة. فإذا ما سايرته وبادلته الرأي وقارضته الحديث يقنت ساعتذاك أنك في حضرة عظيم يضطرك إلى احترام رأيه والتسليم به. وإن تذهب معه المذهب الذي يريد. وقد يبدهك بالحجة. ويبغتك بالبرهان فلا ترى وجهاً لمنازعته القول ولا تفارقه إلا وأنت مطمئن الرأي موفور الإقناع. قوي الفكر. ذلك لأن للقوة عدوى سريعة الظهور. فكل ما يجعلنا أقوياء في الرأي والروح والوجدان يزيد في قوتنا، ويفتح أمامنا أبواب العمل، ويبسط قبالتنا ميدان الفعل. ونحن بني الناس مدينون لكل قلب كبير. وعقل عبقري. ولسان عذب. وروح متقدة. ونحن لا نستمد شيئاً من المجتمعات. وإنما من تلك الأرواح الرقيقة والقلوب الشريفة التي تخرجها لنا القوة الألهية بين عديد ما تخرج في كل يوم من تلك القوالب الإنسانية المعتادة التي لا يفترق بعضها عن بعض إلا في أحجامها وأشكالها واختلاف تركيبها. وإنه ليتبادر إليك في لغة حديثه إذا أنت جلست إليه معان جمة ما شئت من أدب وعلم وفضل واستمكان وإن من الناس من يحاجك كأنك خصمه فلا يزال يعطيك من صخبه وشدة جدله. حتى تقوم من حضرته وأنت لحديثه كاره ولكن الأناة والتؤدة والقول العذب اللين من شأن الرجل العظيم. وهذا ما نشعر به في حديث صاحب الترجمة وإنك لتصغي إلى قوله وهو يتدفق متدبراً متئداً فيخيل إليك أنه يتناول من ذاكرة حافلة مترعة وليس بمرسل القول للعفو والساعة. وهذه خلة كانت ولا تزال نصيب راجحي العقول موفوري

الحجي. أما عن مبادئه وخطته في الجمعية التشريعية فإن عطوفته يذهب إلى وجوب العمل المطمئن الهادئ والتفاهم المبني على حسن الثقة فالتشريع لا يكون بالمخاصمة والتحمس والمنابذة. ويرى أن حسن التفاهم بين الأمة والحكومة سيأتي بالفائدة العامة للبلاد وأهليها لأننا إذا ظننا بالحكومة سواء واعتقدت فينا سوء النية ظللنا متنافرين. كل يعمل على معاكسة الآخر ولا يخفى ما في ذلك من الضرر الذي يعود على الأمة ونحن نقول إن عطوفته ممن يهمهم أن يخرجوا من المسائل التشريعية بنتيجة تجري المنفعة والربح للأمة.

أخبار وحوادث

أخبار وحوادث الفقيد العظيم ليس هناك خسارة أشد على الأمة وأفدح. ولا نكبة أدمى لقلبها وأجرح من موت الرجل النابغة العظيم. وناهيك بمصاب قد يعوق الأمة عن سير رقيها الاجتماعي. ويرجع بها خطوات كبرى تقدمتها. وبسلبها فوائد عظمى اكتسبتها. وبفقدها رجلاً مكتملاً بين ملايين ليس سوادهم كذلك - ويحرمها من عقل كبيرين عديد عقول عادية. ويسرقها صنفاً من رجالها عزيز الضريب. منقطع النظير لا أوان لظهوره يعرف، ولا حين له يرتقب. وإذا أنت علمت ذلك فلا جرم أن ترى الأمة المصرية اليوم في حزن عام واسى شامل. لوفاة رجل من أنبغ نوابغها. فقدت بفقده عقلاً ناضجاً. على حين ترى أكثر عقول الأمة لا تزال نيئة فجة، وقلما مبدعاً وأين في الأمة الأقلام المبدعة، ورأياً ثاقباً ساطعاً وأين الآراء الثاقبة الساطعة. وكيف لا تشهد العيون بالعبرات شارقة واكفة. وكيف لا تكون القلوب من لوعة الأسى واجفة راجفة. وفقيدنا نابغة القضاء. ونابغة الكتاب. ونابغة المعربين. المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا. وكيل نظارة الحقانية بالأمس. والبيان وصاحبه من فقده في حزنين بالغين. ورعن شجنين عظيمين. نبكيه لأننا من أفراد هذه الأمة الباكية عليه. ونأسى عليه لأنه كان لنا الصديق الحميم. والعون العظيم. والنصير الذي لا تخيب نصرته. والعضد الذي لا نقدر مساعدته. وقد كان رحمه الله قبل مرضه بأيام يتأهب لافتتاح مشروعنا أبطال العالم بالكتاب عن فيلسوف من فلاسفة الفرنسيين. وقد بلغ من عنايته بهذا المشروع أن تباحث كثيراً مع الأستاذ لطفي السيد بك في الخطة التي سينهجها في الكتابة على البطل الذي وقع عليه اختياره. ولكن حم القضاء. ولا مرد لقضاء الله. أما وقد جمد القلم الآن في أيدينا كما جمد الجمع في مآقينا. فإنا تاركون للأستاذ لطفي السيد بك التعبير عن شعورنا بكلمته التاريخية الآتية. إذ كانت أجمع كلمة في تقدير ذلك لفقيد العظيم: قال الأستاذ: أيها السادة: إن أحمد فتحي باشا زغلول هو أصغر أمجال المرحوم الشيخ إبراهيم زغلول من أعيان إبيانا ولد في تلك القرية في 4 ربيع الأول سنة 1279 هجرية. مات أبوه رحمه الله إذ كان

رضيعاً وكان شقيقه سعد زغلول باشا فطيماً، خلفهما أبوهما في حضانة والدتهما التي هي إحدى عقائل عائلة بركات الشهرية بالغربية، وكانت وقت وفاة زوجها لا يتجاوز عمرها العشرين. فقامت على ولديها ووقفت نفسها على تربيتهما تحت إشراف أخيهما الكبير لأبيهما المرحوم الشناوي أفندي زغلول الذي عني بتعليمهما على أحسن ما تعلم به أبناء الأعيان. تعلم فتح الله الصغير في كتاب البلد ثم في مدرس رشيد ثم المدرسة التجهيزية ثم في مدرسة الألسن فاتفق أن زاره المرحوم أحمد خيري باشا ناظر المعارف العمومية فأعجب بذكاء الشاب فتح الله صبري وأعطاه اسمه (أحمد) ونحت من (فتح الله) فتحي وأصدر أمراً رسمياً إلى المدرسة بتسميته أحمد فتحي وبأن يرد إليه ما دفع من المصارف وباعتباره طالباً مجانياً. فلما كانت 1884 أرسلته نظارة المعارف إلى فرنسا لدرس الحقوق فحصل على شهادة الليسانس ورجع سنة 1887 ووظف بقلم قضايا الحكومة ثم رئيساً لنيابة أسيوط ثم رئيساً لنيابة اسكندرية ثم مفتشاً بلجنة المراقبة فرئيساً لمحكمة الزقازيق ثم رئيساً لمحكمة مصر ثم وكيلاً لنظارة الحقانية وظيفته الأخيرة التي مات وهو قائم بها. كان فتحي باشا كما سمعتم اليوم وقبل اليوم وكما قرأتم في التقارير الرسمية مثال الموظف الفاني في الاشتغال بأداء واجباته القائم بعمله وعمل غيره أحياناً ولم يمنعه ذلك من أن يكون معرباً ممتعاً أميناً ومؤلفاً كبيراً. عن هذا الصوف ومن هذه الجهة وقفت أمامكم أؤبن فقيد العلم والعلماء. أيها السادة: إن شدة الذكاء وقوة النفس وحسن الإخلاص. تلك الصفات التي ظهرت آثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض راجع معظمها إلى التأثير الورائي من أبويه وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل على الفرع، وبما تعهدت أمره في التربية وما غرست من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه. لا يأخذكم العجب في قولي فإن من أمهاتنا نحن القرويين من هن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن العلوم والمعارفة على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق وعزة النفس وذوق سليم في الحكم وطيبة وتقوى في المعاملات. ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم قانون الانتقال الوراثي فتكون لهم مال في الحياة العملية. ولولا هذه الصفات

لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل. ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارك زمناً طويلاً ولا يزال الاتكال عليها وحدها يؤدي إلى الآن نتائجه المتواضعة في بلادنا. فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعاً لقوة الاستعداد أي لقوة تلك الصفات الوراثية فللأمهات القرويات أن يقبلن أيضاً شكر الجيل الحاضر. وعلينا أن نعترف علناً ومن غير تردد بما للأمهات من الأهمية العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى. وأمامنا المثل الحسي أن والدة فتحي باشا ينسب إليها الفضل الأكبر في أن أخرجت لمصر نابغتين: نابغة نرجو له العمر الطويل. ونابغة فقدناه آسفين. فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعاً. إن الصفات الأولية لفتحي من شدة الذكاء وقوة النفس وحدة المشاعر هن أساس نبوغه. كان يحمل نفساً على قوتها الهائلة رقيقة المشاعر قلقة لا تستقر أو تبلغ من خدمة العلم مناها. وهيهات أن تبقى طويلاً أمثال هذه النفس في البيئات التي لا تلائم بقاءها ونجاحها. وهيهات أن تبلغ مني. كلما تقدمت اتسع أمامها أفق الأغراض وكلما انقضى سبب جاءها سبب جديد. تعلم فتحي فصادقت القواعد العلمية من عقله مقاماً رحباً وقرت فيه أصولها ووجدت منه نفساً طلعة قوية في مركزها ميالة للانتشار في مظاهرها الخارجية يناديه صوتها الخفي: إن وف حق العلم. وآت زكاة النبوغ فأقدم منذ حداثة سنه على نشر العلم إجابة لداعي الضمير. أقدم على هذا المركب الخشن وكان الواجب عليه أن يقدم لأنه استكمل عدة الأقدام: زكاة مضيء وعقل عاصم وعلم هاد ولسان عضب ذلق غواص على موضع الحجة وقلم سيال ومركز نبيل. كيف لا يكون مقداماً من جمع بين كل هذه الأسباب. لا أكاد أبريء فتحي من الوقوع في حيرة اختيار الطريقة التي يجب عليه اتباعها لخدمة العلم في مصر: التأليف أو التعريب وأيهما أنفع. وإذا كان التعريب فعلي أي نوع يقع الاختيار. حيرة لا بد منها لشاب خارج من المدرسة تضطرم بين ضلوعه نار الشوق إلى مجد الوطن العلمي خلو من التجارب لا يملك إلا كفاءته العلمية.

نظر فتحي نظرة صادقة إلى حال الأمة المصرية وحكومتها فرأى أننا أحوج ما نكون إلى معرفة المثل الأعلى الذي نبغي الوصول إليه من نظاماتنا السياسية والاجتماعية حتى تتحد أطماعنا الوطنية على طريقة عامة واضحة. ورأى فوق ذلك أن أول خطوة يخطوها المصلحون العلميون هي نقل العلم إلى أوطانهم بالتعريب. إن هذه الطريقة كانت هي ألف باء النهضة العلمية في كل أمة وفي كل زمان. هذا النظر المزدوج كان رائد فتحي باشا في تعريبه منذ خرج من المدرسة إلى أن مات. فإنه بدأ في سنة 1888 يعرب (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو فلم يتمه ولكنه عرب بعد ذلك (أصول الشرائع) لبنتام. و (خواطر وسوانح في الإسلام) للكونت هانري دي كاستري و (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) لأدمون ديمولان و (روح الاجتماع) و (سر تطور الأمم) لجوستاف لوبون. و (خطاب مصطفى فاضل باشا) نشر ذلك مع معرباته. وله فوق ذلك (جوامع الكلم) لجوستاف لوبون وكتاب بورجار في الاقتصاد السياسي. و (حضارة العرب) لجوستاف لوبون. و (جمهورية أفلاطون) و (الفرد ضد المملكة) لسبنسر. وكلها لم يتم تعريبها وأما مؤلفاته المنشورة فهي كتاب المحاماة ورسالة في التزوير وشرح للقانون المدني وقد ألف أخيراً كتاب (في التربية العامة) كنت أعلم أنه قد تم ولكنه لم يطبع. قرأت معرباته المنشورة. وتفحصت من غير المنشورة. وأستطيع بعد ذلك أن أقول من غير تردد إن فتحي كما كان نابغة في الفقه كذلك كان نابغة في التعريب يمسك الكتاب يقرؤه أولاً ثم يدخل بنظره الحاد في طيات نفس الكاتب فيظهر أسرارها بقلمه العربي المبين. ومن التعاريب ما يترجم الألفاظ تحمل معانيها خالية من روح الكاتب وحرارته فلا يكون لها التأثير المطلوب إلا معربات فتحي فإنك تقرأ فيها المعاني والأغراض كأنك تقرأ كاتبها من غير فرق. لفتحي باشا تعريبه شخصية تامة ممتازة في طريقته وفي أسلوبه البياني. أما نحوه في التعريب فليس هو الالتزام الحرفي للأصل ولا مجافاة الأصل. ولكن نحوه بين ذلك وسط مرضي. أما أسلوبه فهو عربي خالص لا يعني فيه بفضله الزخرف والمحسنات اللفظية ولكنه مع

ذلك متين الرصف ظاهر الرشاقة جذاب جداً. لم يكن فتحي باشا يعرب ليعرب. ولا طلباً للشهرة أو المال من وراء التعريب. فإنه ليس سبيلهما في بلادنا العلم والكتابة وكان حسبه شهرة مناصبه العالية وكفايته التي ما كانت يوماً واحداً موضعاً للشك من أحد سواه في ذلك أصدقاءه وحساده عارفوه وغير عارفيه. ولكننا إذا جمعنا معرباته دلنا مجموعها على أن فتحي كان له غرض ثابت يرمي إليه من وراء نشر هذه الكتب. غرضه نشر مبادئ الحرية. حرية الفرد. وحرية الأمة. وتنبيه أطماع الأفراد والأمة جميعاً إلى اتخاذ مثل أعلى قبله لهم في أطماعهم الوطنية. أنه منذ سنة 1888 كان يرى الأمة تتقلب في أغراض أحياناً متعاكسة ودائماً مبهمة فكان يسيئه هذا المنظر ويود لو أن الشعور الوطني - الذي كان وقتئذ في خدر مستمر - يولى وجهة قبل الاستقلال على نحو منتج. كان يود لو أنهم يدركون أن إبهام الغرض وعدم إدراكه بوضوح يجعله مستحيل المنال. لذلك أراد أن يقدم للجمهور (عقد الاجتماع) لروسو حتى يتبين الجمهور حق الفرد وحق الأمة وما يجب أن يكون لها من السلطان. وللأسف لم يظهر هذا الكتاب مع أنه بلغ من تعريبه مبلغاً كبيراً، ولكنه أصدر بعد ذلك تعريب بنتام في أصول الحقوق والواجبات. حتى جاء الزمن الأخير وظهر الشعور الوطني بمظهر جميل ولكن لا يزال في مقاصده بعض اللبس حتى فيما هو مكتوب من المبادئ في الصحف وما للصحف إلا ترجمان الرأي العام. ولعل فتحي باشا أمام هذه المشاهد أشفق على حرية الأفراد وتربية الأمة من الميل الظاهر إلى ما يشبه الاشتراكية فإن الناس لم يقصروا في طلبتهم على حقوق الأفراد من الحرية وحق الشعب من السلطة بل أخذوا مع ذلك كله يطالبون الحكومة أن تقوم لهم بكل شيء. ومهما كان في أساليب هذه المطالب من الانتقاد الضمني إلا أن مثل هذه الحركة من شأنها أن تجعل الحكومة هي كل شيء والفرد لا شيء. الاشتراكية قد تكون معقولة إذا كان للأفراد شأن في تنصيب الحكومة. وإلا فإنما نهي اشتراكية معكوسة النتائج. فأخذ فتحي باشا عن بعد يهدي الأفراد إلى وجوب الاستمساك بشخصيتهم ويبين لهم أن تربية الشخصية هي التي كانت (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) يطلب إلى المصريين أن يتشبهوا بهؤلاء وأن لا يفنوا شخصيتهم فيفني وجودهم. واستطراداً في هذا النظر تصدى إلى

تعريب (الفرد ضد المملكة) وتعريب روح الاجتماع وسر تطور الأمم. كل ذلك ليبقي في الجمهور الأسس العلمية للرقي حتى يطبق الناس حالهم على هذه الأصول فينتفعوا بتجارب الأمم. أيها السادة: إن التوفيق بين منتخبات فتحي باشا للتعريب ينتج فوق ما قدمنا أنه كان يعتنق مذهب الحربين سواء كان ذلك في التربية والتعليم أو في الأصول الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية أيضاً لأنه لو كان اشتراكياً في الاقتصاد لما عمد إلى ترجمة بورجار بل لكان عمد إلى ترجمة أحد الاقتصاديين الاشتراكيين الظاهرين بالاشتراكية. ولو شئنا أن نبين عقائد فتحي باشا من منتخباته ومن أحاديثه لضاق بنا المقام ولكني أكتفي الآن بالإشارة إلى أن بين اختيار فتحي لتلك المؤلفات وبين مذهبه الحري في محاولة الإصلاح الاجتماعي والسياسي نسباً متصلاً جد الاتصال. حسبي الإشارة إلى ذلك وإلى أن فتحي باشا كان ذا مبادئ ثابتة وطرائق معينة في كل شيء. فكما أنه ابتداء في خدمة العلم بالابتداء الطبيعي وهو نقل العلم إلى البلاد كذلك كان يرى أن البدء في الارتقاء الاجتماعي والسياسي لا يكون بأخذ ثمرات آخر تطور للمبادئ الاجتماعية والسياسية في الأمم التي تمدنت من قبلنا. ولاشك في أن إدخال المبادئ الاشتراكية في آخر تطورها الحاضر على أمة ناهضة من عقال الاستبداد نتيجته اضطراب خطر قد يكون ضرره أكثر من نفعه. من ذلك نأخذ أن فتحي باشا كان رجل ارتقاء لا رجل ثورة. إنه كان يكره الثورة - بعد سن الرجولة بالضرورة - يكرهها بكل مظاهرها حتى الفكرية منها فكما أنه كان يرى أن خير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه. كذلك كان يرى أن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية هو ما كان لبينه وبين طبائعه وعاداته نسب تكمل ما فيها من نقص وتقوم ما بها من اعوجاج. كان فتحي يستسر بهذه الآراء الحرة العريقة في الحرية: فإذا لم يكن نشرها ليتفق مع مركزه في الحكومة فلقد نشرها بالتعريب والعقل ليرضي دواعي ضميره وليثابر على تربية قومه تربية صالحة على قواعد ثابتة من معرفة الحقوق والواجبات. فليس فقيدنا رحمه الله من أرباب المناصب. بل هو على ذلك من أرباب المذاهب ومن هو كذلك من

شأنه أن يكون شقياً بفرضين معذباً ضعفين. يكاد لا يكون له من وقته شيء. فهو مقسم بين الأعمال الرسمية الشاقة وبين خدمة العلم يعمل لها بالتأليف والتعريب شطر الليل وأحياناً طوال الليل ومدة العطلة فإذا لامه في ذلك أصدقاؤه هز كتفه هزة فيلسوف لا يبالي مات اليوم أو مات غداً، نعم كان المؤلف فتحي يعتقد أن الحياة تقدر بما يتم فيها من العمل الصالح لا بعدد السنين. يكاد كلامي يلقى في الأذهان من فتحي باشا صورة عالم استغرقته أغراضه وشغلته همومه فزهد في الجمعية وفرط في القيام بالاصطلاحات المدنية. كلا إن فتحي باشا على ذلك كان مترفاً في عيشته متأنقاً في مظاهرها المختلفة. كثير الاختلاط لا تفوته عيادة مريض من أصدقائه ولا رد لزيارة ولا مواساة معارفه في أحزانهم. كذلك لا ينقبض عزمه عن شهود حفلة أنس. ولا تلوى به همومه ومشاغله عن الاعتناء باقتناء التحف والطرف وتعرف أوضاع الجمال حيث كان رحمه الله كان على علمه العميق ومنزلته العالية رجلاً غاية في الوداعة والظرف. من ذلك يظهر لي أن فتحي باشا كان يعتقد الحياة الفردية كلا واحداً من حقه أن يكون متعادلاً في جميع مظاهره. وأن اعتدال السلوك لا يتم إلا بهذا التعادل فكما يجب على المرء أن يخدم عقله كذلك يجب عليه أن يخدم مشاعره. حتى لا تعطل ملكة من الملكات تضحية لملكة أخرى. ولا شك في أن خير قاعدة تنتج المثل الأعلى للرجل الكامل بمعنى الكلمة هي قاعدة تنمية ملكات الإنسان وقواه بنسبة واحدة. كذلك كان فتحي باشا. وعلى هذا كنا نراه في شؤونه. غير أن الاستثناء كان يلحق لديه هذه القاعدة أيضاً. فإنه يظهر لنا من جهة أخرى أنه كان يضحي قواه الجثمانية في سبيل شهوته العلمية. وهذا المثال مع الأسف هو وقلة الحرص على المال كأنهما أمران عامان في كثير من أبطال العلم وخدمة الأوطان. عفواً. أيها السادة. ليس فتحي في عداد الموتى الذين يؤبنون بقولة واحدة تردد لكل منهم على السواء: كان وكان. . . وعليه الرحمة والرضوان. إن فتحي ليس ملكاً لأهله وأصدقائه بل هو ملك التاريخ. وبهذا العنوان يدب علينا دراسته إنه صورة كبرى من أكبر صور النبوغ المصري بروزاً وأولاهم بالعناية والدرس. إنه رجل كبير. كبير في عقله

وفي عواطفه بل في أطماعه أيضاً. وما كان يبين عليه أن اقتناء المال داخل في برنامج أطماعه. أقول وليس هو في هذا المعنى استثناء من عظماء الرجال أمثاله. أولئك الذين ماتوا ولا أصفر ولا أبيض كأنهم الأنبياء لا يورثون. فإن لم يتركوا تراثاً فقد تركوا مجداً خالداً. نعم إن أطماع فتحي باشا كانت كبيرة متناسبة مع كفاءته وثقته بنفسه. ولكنها لم تكن من الأطماع الشخصية في شيء، إنه كان يألم لما نحن فيه ويرجو أن يكون له من السلطة ما يسهل لقومه سبيل التقدم إلى الأمام - قد تكون هذه العلة هي العذر العام الذي ينتحله كل المغرمين بالمناصبة العالية. ولكن فتحي ليس من هؤلاء لأنه كان ينفذ الخطة التي رسمها لمشاغله العمومية فأخذ يسهل التقدم بقلمه ومن الطبيعي أن يرجو أن يسهله بعمله أيضاً فيكون بذلك قد جمع بين سبي النفع لا كصديقه روسو الذي قال لو كنت شارعاً أو أميراً لا اعتضت عن الكتابة في السياسة بتحقيق ما أقرر من المبادئ. على أنه يجب عليَّ في هذا الموقف أن أسارع إلى التصريح بأن فتحي لم يقدم بين يدي أطماعه إلا كفاءته. أما شخصيته واستقلاله في الرأي فلا دخل لهما في هذه الصفقة. بل ربما كان حجر عثرة في سبيل ارتقائه. على أن فتحي باشا مهما كان محسود القدرة فإنه كان دائماً عمدة الحكومة في كثير من المشروعات الدقيقة التي تحتاج إلى مفاوضات بين جهات مختلفة. وموضع الاستشارة من نظارته وغير نظارته في وضع القوانين. كما تشهد به الألسن الرسمية والتقارير الرسمية. أيها السادة - كنا نكرم فتحي باشا في نحو هذا الأوان من العام الماضي ونتوج مؤلفاته. وها نحن أولاء جئنا اليوم نؤبنه ونتأسف على وفاته. فما أقل هذا الوجود حرصاً على الرجال النابغين!. أيها السادة - إن صورة فتحي باشا الذي اشترك في رسمها جميع خطباء هذه الحفلة الممثلين للمعاني والطبقات المتباينة صورة ندخرها عند الزمان على أنها طليعة النهضة العلمية وأثر من آثار المجد المصري الفخيم ولنكون قدوة للنابغين من أبنائنا على مر الزمان، فاللهم لعبدك الأمين في خدمة العلم رحمة ولبلاده عزاء أنك، أنت السميع المجيب. وقال أمير الشعراء أحمد بك شوقي يرثي الفقيد العظيم:

أكذا تقر البيض في الأغماد ... أكذا تحين مصارع الآساد خطوا المضاجع في التراب لفارش ... جنبيه مضطجع من الأطواد مالت بقسطاس الحقوق نوازل ... ومشت على ركن القضاء عواد ورمى فحط البدر عن عليائه ... رام يصيب الشمس في الارآد قل للمنية نلت ركن حكومة ... وهدمت حائط أمة وبلاد ووقفت بين الحاسدين وبينه ... يا راحة المحسود والحساد كل له يوم وأنت بمرصد ... لتصيد الأحباب والأضداد ما كل يوم تظفرين بمثله ... إن النجوم عزيزة البلاد يا ساكن الصحراء منفرداً بها ... كالنجم أو كالسيل أو كالصاد كم عن يمينك أو يسارك لو ترى ... من فيلق متتابع الإمداد ألقى السلاح ونام عن راياته ... متبدد الأمراء والأجناد ومصفداً ما داينوه وطالما ... دان الرجال فبتن في الأصفاد ومطيع أحكام المنون وطالما ... سبقت لطاعته يد الجلاد ومعانق الأكفان في جوف الثرى ... بعد الطراز الفخم في الأعياد مرت عليك الأربعون صبيحة ... مر القرون على ثمود وعاد في منزل ضربت عليه يد البلي ... بحوالك الظلمات والأسداد تلقي الضباع الليل في عرضاته ... واليوم في الأطناب والأوتاد يا أحمد القانون بعدك غامض ... قلق البنود مجلل بسواد والأمر أعوج والشؤون سقيمة ... مختلة الأصدار والإيراد والقول مختلط الفصيح بضده ... تبكي جواهره على النقاد وأتت علي الأقلام بعدك فترة ... فصحت وكانت مدمنات مداد عجبي لنفسك لم تدع لك هيكلاً ... إن النفوس لآفة الأجساد ولرأسك العالي تناثر لبه ... ونزا وصار نسيجه لفساد لو كان ماساً ذابت أو ياقوتة ... لتحركت بذكائك الوقاد حملته في ليله ونهاره ... هم الفؤد وهمة الإرشاد

فقتلته ورزحت مقتولاً به ... رب اجتهاد قاتل كجهاد جد الطبيب فكان غاية طبه ... تقليب كفيه إلى العواد والموت حق في البرية قاهر ... عجبي لحق قام باستبداد لا جد إلا الموت والإنسان في ... لعب الحياة ولهوها متماد وليت في أثر الشباب ومن يعش ... بعد الشباب يعش بغير عماد من ذم من ورد الشبيبة شوكه ... حمل المشيب إليه شوك قتاد حرص الرجال على حياة بعدها ... حرص الشحيح على فضول الزاد يا ابن القرى نالت بمولدك القرى ... ما لم تنله حواضر وبواد غذتك من حسن المغبة سائغ ... وسقتك من جاري المياه براد وتعاهدتك أشعة في شمسها ... ينفذن عاقية إلى الإيراد ونشأت بين الطاهرين سرائراً ... والطاهرات الصالحات العاد رضوان عيش في صلاح عشيرة ... في طهر سقف في عفاف وساد فجمعت بخير نباتها ومضت به ... ريح المنية قبل حين حصاد أمسي ذووك طويلة حسراتهم ... وأخوك ينشد أوثق الأعضاد في ذمة الشبان ما استودعتهم ... من خاطر وقريحة وفؤاد ورسائل لك لا تمل كأنها ... كتب الصبابة أو حديث وداد وخطابة في كل ناد حافل ... ينصب آذاناً إليها النادي ومعربات كالمنار وإنها ... لزيادة في رأس مال الضاد وإذا المعرب نال أسرار اللغي ... روى عباداً من أناء عباد العلم عندك والبيان مواهب ... حليتها بشمائل الأمجاد ومن المهانة للنبوغ وأهله ... شبه النبوغ تراه في الأوغاد (فتحي) رثيتك للبلاد وأهلها ... ولرائح فوق التراب وغاد وسبقت فك القائلين لمنبر ... عال عليهم خالد الأعواد ما زلت تسمع منه كل بديهة ... حتى سمعت يتيمة الإنشاد وحياة مثلك للرجال نموذج ... ومماتك المثل القويم الهادي

ورثاؤك الإرشاد والعظة التي ... تلقي على العظماء والأفراد مكسوب جاهك فوق كل مقلد ... وطريف مجدك فوق كل تلاد فخر الولاية والمناصب عارة ... كالفخر بالآباء والأجداد ولربما عقدا نجاداً للعصا ... والصارم الماضي بغير نجاد فافخر بفضلك فهو لا أنسابه ... تبلى ولا سلطانه الفاد رحلة سمو الجناب العالي راق سمو الجناب العالي الخديوي حفظه الله أن يتفقد في طريقه إلى مصطافه بالإسكندرية شؤون رعيته: ويتبين بنفسه الرقي الذي خطت إليه البلاد في عهده النضير وعصره الزاهر. ويشهد بعينه حال الأهلين الزراعية والاقتصادية. فتفضل أبقاه الله ورعاه بالوقوف بالبلاد التي في طريقه وزيادة السراة والأغنياء في السراداقات التي أقاموها احتفالاً بأميرهم وابتهاجاً بسمو مليكهم وقد كان الوجه البحري لا بل القطر أجمعه في عيد عام وفرح عظيم وابتهاج لا يقدر بهذه الرحلة المباركة التي قام بها سمو العزيز أيده الله. وقد انتدب سعادة رصيفنا الكاتب المفضال أحمد حافظ بك عوض مدير سياسة المؤيد الأغر لوضع سفر جليل يتناول كل ما اتصل بهذه الرحلة فنرجو له التوفيق حتى يتم هذا الكتاب على النحو الذي يبتغي صاحبه إن شاء الله. الوزارة الرشدية سقطت فجأة في الشهر الماضي الوزارة السعيدية. وكان من المزمع اختيار عطوفة مصطفى فهمي باشا لمنصب رئاستها، ولكن لم يتم ذلك. فأسندت إلى رجل يصلح لها وتصلح له وأكبر وزير عامل اشتهر بالصراحة والنزاهة والاستقلال وبعد الهمة وعلو النفس، هو عطوفة حسين رشدي باشا ناظر الحقانية في الوزارة المستقلة. وتألفت الوزارة الجديدة على هذا النحو عطوفة حسين رشدي باشا رئيس الوزارة وناظر الداخلية، عبد الخالق ثروت باشا ناظر الحقانية. أحمد حلمي باشا ناظر المعارف. يوسف وهبه باشا ناظر المالية، إسماعيل سري باشا ناظر الأشغال والحربية. عدلي يكن باشا ناظر الخارجية. إسماعيل صدقي باشا ناظر الزراعة. محمد محب باشا ناظر الأوقاف.

وقد اعتزم البيان أن يكتب تراجم أعضاء هذه الوزارة العاملة في الأعداد القادمة أسوة بأعضاء الجمعية التشريعية ونوابها الكرام. الطياران العثمانيان قدم مصر منذ أيام الطياران العثمانيان سالم بك وكمال بك فكان لقدومهما رنة فرح وابتهاج عظيمين لطول ما ارتقب المصريون وفود الطيارين العثمانيين وانتظروا حضورهما. وقد احتفلت جمعية الطيران بهما وأقيمت لهما الولائم. وأدبت لا كرامهما المآدب هذا وقد ورد على الطيارين تلغراف من الآستانة يطلب عودتهما. فتقرر أن يسافرا على الباخرة الرومانية في الثاني والعشرين من هذا الشهر (مايو). فصل التمثيل العربي في الأوبرا الخديوية مثلت جوقة الأستاذ النابعة جورج أفندي أبيض أربع روايات منتقاة من أبدع حسنات الدراما الإفرنجية. وهي الشرف الياباني تعريب فؤاد أفندي سليم. ورؤى بلاس لفيكتور هوجو تعريب نقولا أفندي رزق الله. وقيصر وكليوباترة لموليير القرن العشرين برنارد شو تعريب إبراهيم أفندي رمزي. والإيما لبريو تعريب صالح بك جودت، والمؤلفون من أعيان مؤلفي الدراما الغربية. والمعربون من خيرة كتَّاب مصر وصفوة المعربين وقد أجادت الجوقة أحسن الإجادة. وأبدعوا غاية الإبداع مما يدل على مقدرة الأستاذ جورج أبيض ومهارته في انتقاء القديرين من الممثلين وكان بودنا أن نعقد فصلاً مطولاً نتناول فيه نقد كل من هذه الروايات من جميع وجوهها ونبدي الملاحظات التي تراءت لنا في التمثيل ولكن ضاق نطاق هذا العدد عن احتوائه فأرجأناه إلى العدد التالي. وقد فاتنا أن نذكر أن جوقة الممثل المتفنن عبد الله عكاشة وأخوته مثلت في الأوبرا الخديوية قبل الجوقة الأولى ثلاث روايات مؤلفة: وهي نعيم بن حازم للكاتب المجيد والمطلع المجتهد عبد الحليم أفندي دولاور. والقضاء والقدر للشاعر الفحل خليل مطران وطارق بن زياد لكاتب غير معروف. وسنقصر كلامنا في العدد القادم على رواية نعيم بن حازم لأننا لم نشهد من هذه الروايات الثلاث غيرها.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة تاريخ الصحافة العربية انتدب جناب البحاثة الفاضل الفيكونت فيليب دي طرازي أحد علماء بيروت إلى وضع سفر واف فضفاض في تاريخ الصحافة العربية بعد أن نظر فلم يجد من تصدى إلى هذا العمل الشاق النافع على الرغم من الحاجة الماسة إليه. قال جنابه فأقدمت على تحقيق هذه الأمنية تعزيزاً لمقام صحافتنا الشريفة وإعلاء لمنارها أمام الغربيين الذين برزوا في هذا الفن الجليل وجاهدوا في جادته الجهاد الحسن. وهكذا تيسر لي بعد العناء الشديد أن أسد هذه الثلمة في لغتنا العربية وأزف عملي لكل ناطق بالضاد وهو يحتوي على أخبار الصحف أفراداً وإجمالاً مع أميال أصحابها وأسماء محرريها وتراجم المشاهير منهم بعبارة يفهمها الخاص والعام. وتخليداً لذكرهم زينت الكتاب برسوم الصحافيين الذين توفقت إلى الحصول عليها بعد بذل النفس والنفيس آسفاً لعدم الفوز برسومهم قاطبة فجاء سفراً جزيل المنافع لا يستغني عنه السياسي والصحافي والمؤرخ والشاعر والأديب والمصور والتاجر والأستاذ والتلميذ والحاكم والمحكوم. إذ يجد فيه كل واحد منهم ما يتوق إليه من ضروب السياسة أو كنوز الصحافة أو آثار التاريخ أو أساليب النظم أو بدائع الرسوم أو أطايب الأخبار والفكاهات مالا يلاقيه في كتاب سواه. فإنه أشبه شيء بدائرة معارفه عصرية لا تقتصر موادها على الصحافة فقط بل تتضمن أيضاً أكثر مطالب العلوم والآداب. والفنون المفيدة. وقد انتقدت كل جريدة أو مجلة أو نشرة أو رسالة موثوقة بما تستحقه من المدح والذم بقطع النظر عن مذاهب أربابها وأحوالهم الشخصية وذلك بنية صادقة وقصد سليم. واستندت في ما رويته إلى أوثق المصادر حرصاً على الحقيقة وعملاً بحرفة التاريخ وقسمت الكتاب أربعة أقسام أو حقب بحيث تتناول كل حقبة قسماً من أخبار الصحافة. ثم صدرته بتوطئة ذات ثمانية فصول في تعريف الصحافة وآدابها وأسماء مؤرخيها وغير ذلك مما تهم معرفته إتماماً للفائدة. وختمته بجدول عام يشتمل على أسماء الصحف بلا استثناء شيء منها على قدر ما يستطيعه باحث محقق في بلاد الشرق. وقد رتبتها بحسب البلدان والممالك التي ظهرت فيها متبعاً لفي تاريخ صدورها نظام الأقدم فالأقدم. وجعلت بجانب كل منها اسم

صاحبها وبيان خطتها ويوم نشأتها ليكون العمل وافياًَ بكل أطرافه. وكذلك جاء كتابه وافياً بكل ما وعد. وقد أهدى إليها جنابه الجزأين الأول والثاني من هذا السفر النفيس وهما واقعان في نحو من خمسمائة صفحة من طراز أطول وأعرض من طراز البيان وحرف أدل وأجمل. ونحن فلا نأخذ على الفيكونت دي طرازي إلا تساهله في لغة الكتاب وإنا لنود لو يحتفل جنابه بأسلوب كتابته. ويتوخى الصواب في لغته جهد استطاعته. وإنه لو فعل لما أخل بشر بطته من التسهيل والتقريب. نقول ذلك وليس من غرضنا أن ننتقص الفيكونت أو نطعن على كفايته فيما يقصد إليه من كتابه فمثل الفيكونت خليق بالإجلال والإكبار، وبحسبه أنه استقل بعمل محفوف بالمكاره فهو وحده ذلل صعابه، ومهد عقابه، وراض عصيه حتى واتاه وأم صاغراً رحابه، نعم وأنه لجدير بكل قارئ أن يقتني لذلك كتابه. وقد جاء في الفصل الثاني الذي ضمنه جنابه أقوال مشهوري الملوك والكتاب والصحفيين في الصحافة مما يصح أن يكون تعريفاً للصحافة هذه الكلمات التي هي من جوامع الكلم. يقول روزفلت ليس المجرم الحقيقي هو من يتعمد القتل أو ارتكاب أعظم المعاصي بل هو الذي يملك شيئاً لا يكون من أهله بالغش والخداع كالصحافي المقلد أو السياسي المنافق لأن الواجبات الأولية في الصحافي أو السياسي هو أن يكونا حاصلين على ثقة الشعب بمجرد القدوة الصالحة في الأعمال والأقوال. ويقول اللورد روزبري يجب أن تكون قاعدة الصحف كن صادقاً ولا تخف. وقال تولستوى الجرائد نصير السلام وصوت الأمة وسيف الحق القاطع ومجيرة المظلومين وشكيمة الظالم فهي تهز عروش القياصرة وتدك معالم الظالمين. وقال اللورد ملنر أحد كبار السياسة الإنكليز إن الصحافة أجل وأعظم حرفة في العالم وربما استثنى من ذلك منصب الوزارة. وقال فولتير الصحافة هي آلة يستحيل كسرها. وستعمل على هدم العالم القديم حتى يتسنى لها أن تنشيء عالماً جديداً. . . الخ. والكتاب يباع في مكتبة البيان وثمنه مائة قرش وأجرة البريد أربعة قروش. الإيمان

قال الدكتور جوستاف لوبون في كتابه حقائق الزمن الحاضر ضعف الإنسان عن الحياة بلا يقين ففضل المعتقدات وإن ضعف أساسها عن الزندقة وإن وضح برهانها ذلك ما تجلى للكاتب الفرنسي المشهور أوجين بريو العضو بالأكاديمية الفرنساوية المولود سنة 1858 إذ كان ذات يوم في معبد من المعابد فألفي المصلين قائمين يضرعون لتمثال معبودهم يلتمسون منه قضاء الحاجات وكان من بينهم مرضى وذووا عاهات وبائسون تعلقت آمالهم بربهم تعلقاً اتصلت به سعادتهم، فتأثرت نفسه وجال في خاطره أنه لو استطاع أن يرشد هذا الجمع إلى كذب ما يعتقد، وإلى أن معبوده لا يسمع ولا يعي لما فعل حرصاً على هذا الأمل أن يزول. وهذا الخيال الكريم أن يتبدد ومن ثم خطر له أن يضع رواية في هذا الموضوع فاختار له مصر الفرعونية لما اشتهر به ساكنوها قديماً من التمسك بمعتقداتهم وتقديس معبوداتهم وتعليق آمالهم على حياة أخرى بها ثواب وعقاب فقدم مصر واستعان بمسيو لجران رئيس مهندس معبد الكرنك على وضع روايته الإيمان - قالت جريدة الطان لما ظهرت هذه الرواية واحتفلت بها الصحف الفرنسية الاحتفال اللائق بها وإنها رواية تصدت لمسألة اجتماعية كبرى كانت من القدم مثار الأفكار ومحل الخلاف بين الناس وهي مسألة الإيمان. ولقد مثل لنا فيها كاتبها صورة العذراء الطاهرة (يوما) وهي تسعى إلى الموت فرحة سكرى برحيق الإيمان وصورة الحكيم المصلح (سانتي) وهو يحاول تطهير النفوس من الخرافات وإرشادها إلى الفضيلة المجردة وصورة الشعب الغشوم وقد استسلم لإيمانه الأعمي وصورة الكاهن الماكر وقد تولى قيادة تلك القوة العمياء إلى حيث تخدم مطامعه وأمانيه - وصورة الإيمان البصير في نفس (مييريس العمياء) التي لا تؤمن بآلهة باسمهم يقتلون الناس وهي الكلمة التي ختم بها المؤلف روايته. وقد قام بنقل هذه الرواية إلى العربية سعادة الكاتب الفاضل صالح جودت بك لما رأى أن التمثيل العربي وبالحرى الشعب المصري بحاجة إلى أمثال هذه الروايات القيمة ونحن فنقول أن لغة الترجمة جاءت كما يظن بسعادة المترجم جزالة ومتانة وأمانة في النقل وقد قام بتمثيل هذه الرواية الجليلة التي يحق لعشاق العربية أن يزهو بترجمتها جناب الممثل النابغة جورج أبيض وجوقته في الأوبرا الخديوية فأجادت الجوقة كيف شاء الإتقان والنبوغ.

وقد طبعت مكتبة المعارف هذه الرواية ذلك الطبع النظيف المتقن وثمنها ثمانية قروش عدا اجرة البريد وتطلب من مكتبتي المعارف والبيان. أعيان البيان كان تاريخ الحركة الأدبية في القرن الثالث عشر الحلقة المفقودة في سلسلة تاريخ الأدب العربي. حتى ما تكاد ترى من أبناء هذا الجيل من يعرف تاريخ فارس الجوائب (مثلاً) أو يحفظ له من آثار قلمه اللهم إلا نفراً قليلاً هم الذين تشبثوا بأهداب الإطلاع وشغفوا بحب البحث والتنقيب. وهؤلاء لا يجوزون حد العشرات. إذ يظهر أن الإطلاع ثقيل الدم على روح المصري؟ وإن البحث لديه من المغلظات وإن الاطمئنان إلى قراءة سفر جديد، كتكلف مشاق سفر بعيد، على أنك ترى تاريخ آداب العرب في القرون المنصرمة قبل القرن الثالث عشر أوفر نصيباً من الانتشار، وأسعد حظاً من الإيثار والاستظهار، وقد رأى الأديب حسن أفندي السندوبي مساس هذه الحاجة ووجوب سد هذه الثلمة، ورد هذه الحلقة إلى أخواتها من سلسلة التاريخ العام. فشمر لهذا العمل، وحبس نفسه لإنجازه، وأسماه أعيان البيان، وصدر الجزء الأول منه بمقدمة جميلة في تأريخ الانقلابات والأدوار التي تقلب فيها الأدب العربي، وجاء بتاريخ اثنى عشر عيناً من أعياننا بدأهم بالشيخ حسن قويدر، وختمهم بالشيخ عبد الهادي نجا الأبياري، وطريقته في ذلك أن يبدأ بترجمة العين ثم بكلمة في مميزاته. فأخرى في مؤلفاته ثم بماله من الآثار نظماً كان أو نثراً، أو هماً معاً هذا والكتاب جليل الفائدة. كبير القدر. لا يسعنا معه إلا أن نسدي شكرنا للسندوبي أفندي على ما أسدى هو للغة من خدمة كبرى، والكتاب يباع بمكتبة البيان وثمنه عشرة قروش. مختارات الزهور جمعت مجلة الزهور مختار ما نشرته في سنيها الأربع من القصائد التي نظمها كبار الشعراء المصريين والسوريين والعراقيين. فجاءت مجموعة شعر طيبة. تستأهل الاقتناء إذ هي الروضة الأنف تجمع أصناف الأزهار وأطيب الأثمار، وهي أحسن مروح للنفس من عناء الأعمال فنلفت إليها اهتمام القراء. الواجب إننا لو استطعنا أن ننسي الموت فلن نستطيع أن نفر من الفلسفة بل نذكرها حتماً في أعمال

الحياة والذي يذكرنا بها هو الواجب عندما نبدأ عملاً ذا خطر نسمع من أنفسنا صوتين أحدهما صوت المنفعة يقول لنا: هذا هو ما يفيدك الراحة والأمن والثروة والمجد والسلطان. وثانيهما وهو ما يسميه الناس صوت الواجب يقول لنا: أنس نفسك خاطر بها ضحها. ليصغ الملحدون إلى صوت المنفعة، ولكن الذي يؤثر الواجب هو صاحب اليقين الفلسفي عرف ذلك أم لم يعرفه. فإنه لا يمكن الإيمان بالواجب بدون إيمان بالله والحرية والخلود. وإن في حياة منصف وموته لدليلاً لا ينقض على وجود الله، هذه هي الأفكار التي ملكتني عندما صممت على تأليف سفر مختصر في الأخلاق لعامة الناس ولاسيما ذوي العقول المستنيرة الذين يشعرون بميل إلى الفلسفة من غير أن يكونوا قد درسوها. تلك كلمة كبيرة جاءت في مقدمة كتاب الواجب للأستاذ جول سيمون الفيلسوف الفرنسي الكبير والسياسي المشهور، المعاصر لفيكتور هوجو ولويس بونابرت المعروف بنابليون الثالث، ومن هذه الكلمة يعرف القارئ روح المؤلف ويتبين مذهبه ويتوسم فائدة الكتاب، ويستشف قيمته الكبرى، ومنفعته الشديدة، وكتاب الواجب من خير ما كتب للناس في موضوعه، وقد كنا عربنا في بعض أعداد السنة الأولى من البيان جزءاً يسيراً منه ولكنا أمسكنا عن متابعة التعريف لأمر ما. وقد سرنا وملأ قلوبنا غبطة وفرحاً أن تناوله كاتبان فاضلان من كتَّاب مصر العاملين على خدمتها، ونعني بهما الأستاذ طه حسين ومحمد بك رمضان، وقد ظهر الجزء الأول منه مصدراً بكلمة جليلة للمعربين الفاضلين، يشرحان بها غرض جول سيمون في كتابه والدواعي التي استحثته على وضعه. وجاء بكلمة طيبة في تاريخ حياة المؤلف والألقاب العلمية التي نالها. والوظائف السياسية التي تقلب فيها. أما عبارة الترجمة فتدل على عناية الأستاذين واستمساكهما بالأساليب السهلة الممتنعة. واللغة الجزلة الفصحى وهذا ما كنا نرتقبه من قلم الأستاذ طه حسين معرباً، بعدما عرفنا فضله كاتباً ومفكراً ويزداد جذلنا به إذ نراه مقبلاً على دراسة اللغة الفرنسية. ونتوقع أن يكون منه بعد قريب شيخ من مشايخ المعربين، ورأس من رؤوس المترجمين، ونحن في شغف وارتقاب لصدور الجزء الثاني وتواليه، حتى تنعم بفائدة هذا الكتاب، ونستطيبه بجملته. ونود لو يجعلا ثمن الجزء أرخص

مما جعلا. لكي يستطيع القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت أرزاقهم الاشتراك في الانتفاع بهذه الأسفار المفيدة. فذلك خير لكتاب الواجب وبه أحرى. هذا والجزء الأول يباع بمكتبة البيان وثمنه الآن ثمانية قروش عدا أجرة البريد. بعد طبع ما تقدم أهدى إلينا الأستاذان الجزء الثاني من هذا الكتاب وهو كأخيه السابق مفعم بالمباحث الفلسفية الأخلاقية التي تعوز كثيراً من قراء العربية وثمنه كذلك ثمانية قروش عدا أجرة البريد. كتاب سفن الأسطول الإسلامي عبد الفتاح أفندي عبادة شاب مصري ذكي الفؤاد شديد العناية بدراسة فروع التمدن العربي، وآية ذلك أنه بعد أن أتم دروسه في المدارس الابتدائية والثانوية لم يكتف بذلك ولم يجعل همه قاصراً على الانتظام في سلك عمال الحكومة وتطليق العلم والدرس والكتب شأن الكثيرين من خريجي المدارس وبالحرى فابريقات التوظف في الحكومة. بل انصرفت نفسه عن هذه السفاسف وتوفر على البحث والقراءة والإطلاع وكان من ذلك أن فزع أولاً إلى الجامعة المصرية وتلقي فيها كثيراً من محاضراتها المختلفة وساعده على ذلك أن فزع أولاً إلى الجامعة المصرية وتلقي فيها كثيراً من محاضراتها المختلفة وساعده على ذلك ثروة خلفها له والده ثم أخذ بعد ذلك يظهر للناس من حين إلى آخر ثمار أبحاثه ونتاج درسه. وهذا كتاب سفن الأسطول الإسلامي أحد ما أخرجه إلى قراء العربية الذين هم أحوج ما يكونون إلى الوقوف على مبلغ ما وصلت إليه مدينة سلفهم الصالح. فنحث القراء على اقتناء هذا السفر المفيد الذي قلما يجد القارئ ما جمعه في هذا الموضوع إلا مبعثراً هنا وهناك. وقد طبع الكتاب في مطبعة الهلال وثمنه ثلاثة قروش ويطلب من مكتبتي الهلال والبيان. جوامع الكلم قال الدكتور لوبون في مقدمة هذا الكتاب الغرض من هذا الكتاب تلخيص بعض الأفكار المنثورة في مؤلفاتي على اختلاف أنواعها وإبرازها في صورة قضايا جامعة. لأن الصيغ المختصرة تأخذ باللب. وتبقى في الذاكرة، ولذلك شاعت جوامع الكلم في عالم الأدب. . . الخ إلى أن قال ما معناه وهذه القضايا الجامعة مبسوطة في مؤلفاتي وهذا المختصر

جامعها! ومن هنا يعلم القارئ أن هذا جوامع الكلم هو تلخيص كل مؤلفات لوبون في الاجتماع والأخلاق والفلسفة فمن قرأه فكأنما قرأ كل تواليف لوبون ما عرب منها وما لم يعرب. وقد ترجم هذا الكتاب فقيد مصر العظيم بل فقيد العرب والعربية أحمد فتحي زغلول باشا في أيامه الأخيرة وقام بنشره الأستاذ صالح جودت بك وطبعه نجيب أفندي متري صاحب مكتب المعارف فنشكر لسعادة الناشر هذا الصنع الجميل ونحث القراء على اقتناء هذا السفر الجليل وثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتب المعارف والبيان. المنتخب في تاريخ آداب العرب للفاضل م عطايا الدمشقي أهدى إلينا من ناحية مكتب الهلال كتاب يسمى المنتخب في تاريخ آداب العرب. امام. . عطايا الدمشقي فليس لنا به علم ولكنا سألنا عنه فعلمنا أنه أحد أفاضل السوريين الموظفين في معارف الحكومة الروسية وأنه ليسرنا السرور كله أن تكثر الكتابة في تاريخ آداب العرب لأن هذا العلم على الرغم من كثرة ما كتب فيه لعهدنا هذا لا يزال بحاجة إلى القول. فإن آداب العرب متشعبة الطرق كثيرة الفرع وهو لهذا أشبه بالمطاط مهما مد منه الكاتب امتد أما هذا كتاب المنتخب فقد ألم فيه صاحبه الفاضل بكل الأبواب العامة لتاريخ الأدب العربي وهو كتاب جامع مفيد يجمل بكل من يهمه الوقوف على تسلسل آداب العرب وعلومهم أن يقرأه وقد وقف على طبعه الفاضلان عبد الفتاح عبادة وألبير عطايا وطبعته مطبعة الهلال وثمنه عشرة قروش ويطلب من مكتبتي الهلال والبيان. كتاب الحساب التجاري والمالي أجل كتاب ظهر باللغة العربية في هذا الموضوع بل هو الكتاب الفذ في بابه فبارك الله في الأستاذين سليم أمين حداد المدرس بمدرستي المحاسبة والتجارة العليا والمتوسطة ومحمد سعيد القطان المدرس بمدرسة المحاسبة والتجارة المتوسطة إذ سدا بهذا الكتاب النافع ثلمة في العربية كان يجب أن تسد من أزمان والكتاب يعوز العوز كله جميع المشتغلين بالشؤون المالية والتجارية وهذا الجزء الأول منه يقع في 320 صفحة مطبوع طبعاً جميلاً على ورق جيد وثمنه 15 قرش ويطلب من مكتبتي المعارف والبيان. السعادة الأبدية

اسم اختاره الشيخ علي عبد الرحمن الحسيني لصحيفة أسبوعية وعظية على طراز المجلات الشهرية، والشيخ الحسيني رجل مخلص تقي شديد السخط على أهل هذا العصر فهو يبذل ماله وجهده في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمثال الأستاذ لعمري هم المفلحون، سدد الله خطاه وجزاه الجزاء الذي يستأهله وجعل لصحيفته الإقبال الذي تستحقه. المستقبل نعرف من الفاضل سلامة موسى شاباً متعلماً دارساً وهو مع ذلك يمتاز عن كثيرين من أمثاله بالتفكير وصدع قيود التقليد، وهذا معنى يحمل بكل عاقل أن يبتهج به ويتطلب المزيد منه وفي رأينا أن مجتهداً واحداً مخلصاً وإن كان مخطئاً خير من ألف مقلد على صواب. وقد رأى سلامة أفندي أن هناك حاجة إلى صحيفة تنهج بالكتابة والبحث منهجاً جديداً يعود الناس النظر ويتمشي بالحاضر نحو المستقبل ويدخل على المبادئ الشرقية عناصر جديدة من ضروب الإصلاح الغربي - فأنشأ مجلة أسبوعية أسماها المستقبل ظهر منها إلى الآن ثلاثة أعداد. ونحن فإنا نأخذ على صاحب المستقبل أمرين عدم احتفاله بلغة الكتابة حتى لا يبالي على أية عبارة يقع ولعل هذا من أركان الإصلاح في نظر المستقبل؟. . وثاني الأمرين عدم تقديره للبيئة الشرقية التي يكتب لها كما يجب وكما هو خليق بالمصلح الحكيم. وإذا كان الشرق بحاجة إلى الإصلاح على النحو الذي يتطلب المستقبل فإن أول واجبات المصلح أن يتدرج في الإصلاح ويسير الهوينا كي يظفر آخر الأمر بالفلج والنجاح والله يسدد خطانا أجمعين.

الزباء

الزباء كان جذيمة الأبرش من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغاراً، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزماً. وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق وضم إليه العرب وغزا بالجيوش - وكان به برص فكنت العرب عنه وهابت العرب أن تسميه به وتنسبه إليه إعظاماً له فقالوا جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش - وكانت منازلة فيما بين الحبرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها وعين التمر وأطراف البر إلى الغمير والقطقطانة وخفية وما والاها - وتجبي إليه الأموال وتفد إليه الوفود. وكان غزا طسما وجدياً في منازلهم من جو وما حولهم - وكانت طسم وجديس يتكلمون بالعربية فأصاب حسان بن تبع أسعد أبي كرب قد أغار على طسم وجديس باليمامة فانكفأ جذيمة راجعاً بمن معه - وكان قد اتخذ صنمين يقال لهما الضيزنان: قالوا - ومكان الضيزنين بالحيرة معروف - وكان يستشقى بهما ويستنصر بهما على العدو وكانت إياد بعين أباغ وأباغ رجل من العماليق نزل بتلك العين فكان يغازيهم فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من إياد يقال له عدي بن نضر له جمال وظرف فعزاهم جذيمة فبعثت إياد قوماً فسقوا سدنة الصنمين الخمر وسرقوا الصنمين فأصبحا في إياد، فبعثت إلى جذيمة أن صنميك أصبحا فينا زهداً فيك ورغبة فينا فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا رددناهما إليك، قال وعدي بن نصر تدفعونه إلى، فدفعوه إليه مع الصنمين فانصرف عنهم وضم عدياً إلى نفسه وولاه شرابه فأبصرته رقاش بنة مالك أخت جذيمة فعشقته وراسلته وقالت يا عدي أخطبني إلى الملك فإن لك حسباً وموضعاً فقال لا اجترئ على كلامه في ذلك ولا أطمع في أن يزوجنيك، قالت إذا جلس على شرابه وحضره ندماؤه فاسقه صرفاً واسق القوم مزاجاً فإذا أخذت الخمرة منه فاخطبني إليه فإنه لن يردك ولن يمتنع عليك فإذا زوجك فأشهد القوم، ففعل الفتى ما أمرته به، فلما أخذت المرة مأخذها خطبها إليه فأملكه إياها فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح مضرجاً بالخلوق. فقال له جذيمة - وأنكر ما رأى به - ما هذه الآثار يا عدي، قال آثار العرس، قال أي عرس، قال عرس رقاش، قال من زوجكها ويحك، قال زوجنيها الملك، فضرب جذيمة بيده على جبهته وأكب على الأرض ندامة وتلهفاً، وخرج عدي على وجهه هارباً فلم ير له أثر ولنم يسمع له بذكر. وأرسل إليها جذيمة قال: حدثيني وأنت لا تكذبيني ... أبحر بنيت أم بهجين

أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون فقالت لا بل أنت زوجتي أمراً عربياً معروفاً حسيباً ولم تستأمرني في نفسي ولم أكن مالكة لأمرئ فكف عنها وعرف عذرها، ورجع عدي بن نصر إلى إياد فكان فيهم، فخرج ذات يوم مع فتية متصيدين فرمي به فتى منهم من لهب فيما بين جبلين فتنكس فمات، واشتملت رقاش على حمل فولدت غلاماً فسمته عمراً ورشحته حتى إذا ترعرع عطرته وألبسته وحلته وأزارته خاله جذيمة فلما رآه أعجب به وألقيت عليه منه مقة ومحبة فكان يختلف مع ولده ويكون معهم، فخرج جذيمة متبدياً بأهله وولده في سنة خصبة مكلئة فضربت له أبنية في روضة ذات زهر وغدر وخرج ولده وعمرو مغهم يجتنون الكمأة فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها وإذا أصابها عمرو خبأها في حجرته فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون وعمرو يقول: هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه فضمه إليه جذيمة والتزمه وسر بقوله وفعله وأمر فجعل له حلى من فضة وطوق فكان أول عربي ألبس طوقاً فكان يسمى عمرو ذا الطوق فبينما هو جالس على أحسن حاله إذ استطارته الجن فاستهوته فضرب له جذيمة في البلدان والآفاق زماناً لا يقدر عليه - قالوا - وأقبل رجلان أخوان يقال لهما مالك وعقيل من الشام يريدان جذيمة قد أهديا له طرفاً وأمتعة، فلما كانا ببعض الطريق نزلاً منزلاً ومعهما قينة لهما يقال لها أم عمرو فقدمت إليهما طعاماً فبيناهما يأكلان إذ أقبل فتى عريان شاحب قد تلبد شعره وطالت أظفاره وساءت حاله فجاء حتى جلس ناحية منهما فمد يده يريد الطعام فناولته القينة كراعاً فأكلها ثم مد يده إليها فقالت تعطي العبد الكراع فيطمع في الذراع فذهبت مثلاً، ثم ناولت الرجلين من شراب كان معها وأوكت زقها فقال عمرو بن عدي: صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا فقال مالك وعقيل من أنت يا فتى فقال: أن تنكراني أو تنكرا نسبي ... فإني أنا عمرو بن عدي ابن تنوخية اللخمي ... وغدا ما ترياني في نمارة غير معصى

فنهضا إليه فضماه وغسلا رأسه وقلما أظفاره وأخذا من شعره وألبساه مما كان معهما من الثياب وقالا ما كنا لنهدي لجذيمة هدية أنفس عنده ولا أحب إليه من ابن أخته، قد رده الله عليه بناء فخرجا به حتى دفعا إلى باب جذيمة بالحيرة فبشراه فسر بذلك سروراً شديداً وأنكره لحال ما كان فيه فقالا أبيت اللعن إن من كان في مثل حاله يتغير فأرسل به إلى أمه فمكث عندها أياماً ثم أعادته إليه فقال لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق فما ذهب عن عيني ولا قلبي إلى الساعة فأعادوا عليه الطوق فلما نظر إليه إليه قال شب عمرو عن الطوق فأرسلها مثلاً، وقال لمالك وعقيل حكمكما قالا حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت، فهما ندماناً جذيمة اللذان ضربا مثلاً في أشعار العرب. وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشأم عمرو بن ظرب العمليقي من العماليق، فجمع جذيمة جموعاً من العرب فسار إليه يريد غزاته وأقبل عمرو بن ظرب بجموعة من الشام فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل عمرو ابن ظرب وانفضت جموعه وانصرف جذيمة بمن معه سالمين غانمين - ثم ملكت من بعد عمرو ابنته الزباء ومان جنودها بقايا من العماليق والعاربة الأولي وقبائل فضاعة - وكان للزباء أخت يقال لها زبيبة فبنت لها قصراً حصينا على شاطئ الفرات الغربي وكانت تشتو عند أختها وتربع ببطن النجار وتصير إلى تدمر - فلما أن استجمع لها أمرها واستحكم لها ملكها أجمعت لغزو جذيمة تطلب بثار أبيها فقالت لها أختها زبيبة وكانت ذا رأي ودهاء وإرب يا زباء إنك إن عزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده أن ظفرت أصبت ثارك وإن قتلت ذهب ملكك والحرب سجال وعثراتها لا تستقال وإن كعبك لم يزال سامياً على من ناواك وساماك ولم تري بؤساً ولا غيراً ولا تدرين لمن تكون العاقبة وعلى من تكون الدائرة - فقالت لها الزباء قد أديت النصيحة وأحسنت الروية وإن الرأي السديد ما رأيت والقول ما قلت فانصرفت عما كانت أجمعت عليه من غزو جذيمة ورفضت ذلك وأتت أمرها من وجوه الختل والخدع والمكر فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها وأن يصل بلاده ببلادها وكان فيما كتبت به: إنها لم تجد ملك النساء إلا إلى قبيح في السماع وضعف في السلطان وقلة ضبط المملكة وأنها لم تجد لملكها موضعاً ولا لنفسها كفؤاً غيرك. فأقبل إلى فاجمع ملكي إلى ملكك وصل بلادي ببلادك وتقلد أمري مع أمرك. فلما انتهى كتاب الزباء إلى جذيمة وقدم عليه رسلها استخفه

ما دعته إليه ورغب فيما أطعمته فيه وجمع إليه أهل الحجي والنهي من ثقات أصحابه وهو ببقة من شاطئ الفرات فعرض عليهم ما دعته إليه الزباء واستشارهم في أمره فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ويستولي على ملكها - وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعدو كان سعد تزوج أمه لجذيمة فولدت له قصيراً وكان أريباً حازماً أثيراً عند جذيمة ناصحاً فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال رأى فاتر وغدر حاضر فذهبت مثلاً - وقال لجذيمة أكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا لم تمكنها من نفسك ولم تقع في حبالها وقد وترتها وقتلت أباها فلم يوافق جزيمة ما أشار به عليه قصير فقال قصير: إني امرؤ لا يميل العجز ترويتي ... إذا أتت دون شيء مرة الوذم فقال جذيمة لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح فذهبت مثلاً، فدعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره فشجعه على المسير وقال إن نمارة قومي مع الزباء ولو قدروا لصاروا معك فأطاعه وعصى قصيراً فقال قصير لا يطاع لقصير أمر - واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه وجعل عمرو بن عبد الجن الجري معه على خيوله وسار في وجوه أصحابه فأخذ على الفرات من الجانب الغربي فلما نزل الروضة دعا قصيراً فقال ما الرأي فقال ببقة خلفت الرأي فذهبت مثلاً واستقبلته رسل الزباء بالهدايا والألطاف فقال يا قصير كيف ترى قال خطر يسير في خطب كبير فذهبت مثلاً وستلقاك الخيول فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك من خلفك فإن القوم غادرون فاركب العصا - وكانت فرساً لجذيمة لا تجاري - فإني راكبها ومسايرك عليها فلقيته الخيول والكتائب فحالت بينه وبين العصا فركبها قصير ونظر إليه جذيمة مولياً على متنها فقال ويل أمة حزماً على ظهر العصا فذهبت مثلاً فقال يا ضل ما تجري به العصا وجرت به إلى غروب الشمس ثم نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا - وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزباء فلما رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الأسب فقالت يا جذيمة أدأب عروس ترى فذهبت مثلاً فقال بلغ المدى وجف الثرى وأمر غدر أرى فقالت أما وإلهي ما بنا من عدم مواس ولا قلة أواس ولكنه شيمة من أناس فذهبت مثلاً. وقالت إني أنبئت إن دماء الملوك شفاء من الكلب ثم أجلسته على نطع وأمرت بطست من ذهب فأعدته له وسقته من الخمر حتى أخذت مأخذها

منه وأمرت براهشيه فقطعا وقدمت إليه الطست وقد قيل لها أن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه. وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في قتال تكرمة للملك فلما ضعفت يداه سقطتا فقطر من دمه في غير الطست فقالت لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة دعوا دما ضيعه أهله فذهبت مثلاً فهلك جذيمة واستنشقت الزباء دمه فجعلته في برس قطن في ربعة لها وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصابين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة فقال له قصير أداء أم ثائر قال لا ثائر سائر فذهبت مثلاً وافق قصير الناس وقد اختلفوا فصارت طائعة منه مع عمرو بن عبد الجن الجرمي وجماعة منهم مع عمر بن عدي فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي ومال إليه الناس فقال قصير لعمرو ابن عدي تهيأ واستعد ولا تطل دم خالك قال وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو (فذهبت مثلاً) وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن أمرها وملكها فقالت أرى هلالك بسبب غلام مهين غير أمين وهو عمرو بن عدي ولن تموتي بيده ولكن حتفك بيدك ومن قبله ما يكون ذلك فحذرت عمر أو اتخذت تفقاً من مجلسها الذي كانت تدلس فيه إلى حصن لها داخل مدينتها وقالت إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني ودعت رجلاً مصوراً أجود أهل بلادها تصوير أو أحسنهم عملاً لذلك فجهزته وأحسنت إليه وقالت له سرحتي تقدم على عمرو بن عدي متنكراً فتخلو بحشمة وتنضم إليهم وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالتصوير والثقافة له ثم أثبت عمرو بن عدي معرفة وصوره جالساً وقائماً وراكباً ومنفصلاً ومتسلحاً بهيئته ولبسته وثيابه ولونه فإذا أحكمت ذلك فأقبل إلى فانطلق المصور حتى قدم على عمرو وصنع الذي أمرته به الزباء وبلغ ما أوصته به ثم رجع إليها بعلم ما وجهته له من اصور على ما وصفت له وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته وعلمت علمه فقال قصير لعمرو بن عدي أجدع أنفي وأضرب ظهري ودعني وإياها فقال عمرو ما أنا بفاعل وما أنت لذلك بمستحق مني، فقال قصير خل عني إذا وخلاك ذم فذهبت مثلاً، قال ابن الكلبي كان أبو الزباء اتخذ النفق لها ولأختها وكان الحصن لأختها في داخل مدينتها، قال فقال له عمرو فأنت أبصر فجدع قصير أنفه وأثر بظهره ثم خرج كأنه هارب وأظهر أن عمراً فعل به ذلك وأنه يزعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء فسار قصير حتى قدم

على الزباء فقيل لها أن قصيراً بالباب فأمرت به فدخل عليها فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب فقالت ما الذي أرى يا قصير فقال زعم عمرو بن عدي أني غررت خاله وزينت له السير إليك وغششته وما لأنك عليه ففعل ما ترين فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك فألطفته وأكرمته وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملوك فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به قال لها أن لي بالعراق أموالاً كثيرة وبها طرائف وتياب وعطر فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزوزها وطرائف ثيابها وصنوف ما يكون بها من الأمتعة والطيب والتجارات فتصيبين في ذلك أرباحاً عظاماً وبعض مالا غنى بالملوك عنه فإنه لا طرائف كطرائف العراق فلم يزل يزين لها ذلك حتى سرحته ودفعت معه عيراً فقالت انطلق إلى العراق فبع بها ما جهزناك به واتبع لنا من طرائف ما يكون بها من الثياب وغيرها فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق وأتي الحيرة متنكراً فدخل على عمرو بن عدي فأخبره وقال جهزني بالبز والطرف والأمتعة لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك فأعطاه حاجته وجهزه بصنوف الثياب وغيرها فرجع بذلك كله إلى الزباء فعرضه عليها فأعجبها ما رأت وسرها ما أتاها به وازدادت به ثقة وإليه طمأنينة ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته في المرة الأولى فسار حتى قدم العراق ولقي عمرو بن عدي وحمل من عنده ما ظن أنه موافق للزباء ولم يترك جهداً ولم يدع طرفة ولا متاعاً قدر عليه إلا حمله إليها ثم عاد الثالثة في العراق فأخبر عمراً وقال اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيء لهم الغرائر والمسوح - قال ابن الكلبي وقصير أول من عمل الغرائر واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين واجعل معقد رؤوس الغرائر من باطنها فإذا دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقتها وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قتلوه وإن أقبلت الزباء تريد النلق جللتها بالسيف ففعل عمرو بن عدي وحمل الرجال في الغرائر على ما وصف له قصير ثم وجه الإبل إلى الزباء عليها الرجال وأسلحتها فلما كانوا قريباً من مدينتها تقدم قصير إليها فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب والطرائف وسألها أن تخرج فتنظر على قطرات تلك الإبل وما عليها من الأحمال فإني جئت بما صاء وصمت فذهبت مثلاً. وقال ابن الكلبي وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل وهو أول من

كمن النهار وسار الليل - فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها فقالت يا قصير: ما للحمال مشيها وئيداً ... أجندلا يحملن أم حديداً أم صرفانا بارداً شديدا فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها بعير أمر على بواب المدينة وهو نبطي بيده منخسة فنخس بها الغرائر التي تليه فأصابت خاصرة الرجل الذي فيها فند منه شيء فقال البواب بالنبطية بشتا بسقا يعني بقوله بشتا بسقا في الجوالق شر وأرعب قلباً فذهبت مثلاً فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت ودل قصير عمراً على باب النفق قبل ذلك وأراه إياه وخرجت الرجال من الغرائر وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح وقام عمرو بن عدي على باب النفق وأقبلت الزباء مولية مبادرة تريد النفق لتدخله وأبصرت عمراً قائماً فعرفته بالصورة التي كان صورها لها المصور فمصت خاتمها وكان فيها سم وقالت بيدي لا بيدك يا عمرو فذهبت مثلاً وتلقاها عمرو بن عدي فجللها بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من أهل المدينة وانكفأ راجعاً إلى العراق.

القلب الكسير

القلب الكسير للكاتب الأميركي واشنطن لوفنج حذق في الصوف، ومهارة في التأثير وخبرة عريضة بمواضع الضعف من القلوب البشرية، وعلم جم بعواطف الناس وآلامهم ووجدناتهم، فهو يودع كل ما يكتب عقله وقلبه، حتى لتقرأ له أجف مقالاته وأخشن رسالاته، فلا ترى بين أثناء كلماتها، وأضعاف فقرها، إلا كلمة حكيمة، أو دمعة مستهلة، أو ضحكة مفترة، أو فكاهة عذبة. وليس أرفنج بعد بالروائي الصنع الذي يجيد حبك الرواية، ويملؤها بالأسرار المشوقة، والحوادث الغريبة، والألغاز العجيبة، ويدخل عليها من سرقات اللصوص، وتجسسات الشرط، وفضائح العشق، وغير ذلك مما ترى في الروايات الفرنسية والإنجليزية الموضوعة لتفكهة العامة، وكما تشاهد في أغلب الروايات التي تقذف بها المطابع في كل يوم مع صحف الغرب ومجلاته فلا ينتظرن القارئ من أرفنج روائياً على نحو كونان دويل وهول كاين وديماس، فإن الرجل يخاف على القارئ الملل والسآمة، فيصوغ خواطره وآراءه في أسلوب روائي، على قدر الطاقة، يحشد له فيها من فلسفته وحكمته وبدائع آرائه على مثال ما يكتب فطاحل الروائيين الغربيين في هذا العصر. وإلى القراء قصة له صغيرة سماها القلب الكسير، وصف فيها قلب المرأة إذا كسرته الخيبة في الحب، وأرسل فيها العنان لخواطره، وأفاض في فلسفة الحب ومواقعه من قلوب الرجال والنساء. وجاء في آخر آرائه بقصة مؤثرة مبكية مستثيرة، وهي معدودة من أول حسنات أرفنج، وأبدع ما خط قامه. . قال أرفنج. جرت العادة عند أولئك الذين جاز بهم العمر حد الشباب وحرارته، والذين نشؤا في بهجة الحياة المبددة، وفرحة العيشة اللاهية، لا قلوب لهم تنبض وتحقق، ولا أفئدة تحسن وتشعر، أن يضحكوا من قصص الحب ورواياته، ويسخروا من حادثات الهوى وحكاياته، ويقولوا تلك أساطير خيالي، وتلك تلفيقات روائي، وتلك أغاليط شاعر، أما أنا فقد علمتني مشاهداتي لطبائع الناس وملاحظاتي أن أرى غير رأيهم، وأذهب غير مذهبهم وأعتقد أنه مهما برد أديم الخلق من هموم الدنيا، وجلد من أمور المعاش، ومتاعب الحياة، وتلقن الابتسامات والضحكات من تكاليف الناس، ومصطلحات الجماعة، فما يزال في أعماق ذلك القلب الجليد نيران هاجعة خافية، لا تكاد تشعل حتى تستمر وتضطرم وقد يكون من

ضرامها الويل والعذاب. أجل إني لأصدق الناس إيماناً بذلك الآلة الأعمى وإني لأمضي في إيماني به إلى أقصى غاياته، وأسترسل في تصديقي بتعاليمه إلى أبعد درجاته فهل تريدون أن أسوق إليكم اعترافي يا معاشر القراء - بلى إني لا أومن بوجود قلوب كسيرة، وأفئدة جرحى، وأكباد حرى، وأصدق باحتمال حدوث الموت من الحب الخائب، والحتف في الغرام الضائع، على حين لا أظنه في كل حال داء في الرجال قتالاً، وإن كنت على يقين أن الحب كم ذوي من غادة فتانه، وكم هبط بشابه حسناء إلى ما جون الجنادل والصفائح. وتعلم أنت أن الرجل منا مخلوق اللذة والطمع. تدفعه طبيعته إلى معترك العالم وضوضائه وجلبته. فليس الحب منه إلا زين شبابه وحليته. بل إن هو إلا مثل أنشودة تعزف. وأغنية بها يصدح ويهتف. بين فترات الفصول وفسحاته. يطمح بعينيه إلى طيب الذكر. ويمد طرفه إلى حسن القالة. ويجد للثراء والنضراء. ويطلب له مكاناً في عقل العالم وذاكرته. ويربغ سياد \ ة على الناس ورفعة شأن. وأما جميع حياة المرأة فتاريخ عواطفها ووجداناتها. عالمها. قلبها. ودنياها. كبدها. طماعيتها أن تنشيء على هذا العالم دولة. وتقيم على عرش هذه الدنيا مملكة ومطمحها أن تفتش في ثناياه عن خبأ الكنوز. وتثير منه هاجع الدفائن فهي لهذا تبعث بعواطفها مخاطرة ومجازفة. وتنفذ جميع روحها إلى متجر الحب وسوقه. فإذا غرقت تجارتها. واحتوى الماء بضاعتها فأكبر ببلواها من بلوى. وأسوئ بعقباها من عقبي، وحسبك أنه إفلاس القلب. وخراب الفؤاد. وخيبة الرجل في الحب قد تحدث له آلاماً مرة، ومواجع محرقة، وقد تجرح منه أماكن الرقة، وتدمي منه بعض مواقع البشاشة والوداعة، وتذبل بعض مشام السعادة ووجوهها. ولكنه بعد ما أن يزال مخلوقاً قوياً نشيطاً، يستطيع أن يقذف بأفكاره في زوبعة العمل والجهد، أو يتوارى تحت لج اللهو، وينغمس في مد الملذة والقصف، فإذا برح به الألم لرؤية المكان الذي خاب فيه حبه، واشتدت به اللواعة لمشارفة الموضع الذي فقد فيه قلبه، فليغادر إذا ما شاء مقامه، وليخف من بيته محمله ويستعير كما يقولون أجنحة الصبح، طائراً إلى أنأى أطراف الأرض، مخلداً حيث أقام إلى الراحة والسكون.

وحياة المرأة أن تدبرتها وقارنت بينها وبين حياة الرجل، وجدتها حياة سكون واحتجاب واعتزال وتفكير، وهي أكثر من الرجل متابعة لأفكارها، ومسايرة لمشاعرها، ومصاحبة لعواطفها. فإذا انقلبت رسل حزن، وحلفاء شجن، فليت شعري أين تجد المرأة عزامها، وأين تطلب سلواها؟. لقد كان نصيبها أن تغازل فتكسب، وتداعب فتطلب، فإذا طاش سهمها في حبها، ولقيت من الغرام نكبة، وعانت من الهوى برحا فعمرك الله، ما أشبه حالها بحصن أغير عليه، فسلب ونهب. ثم ترك مكاناً خالياً، وهجر قاعاً صفصفاً. كم من عيون مشرقة زاهية انطفأت، وكم من خدود ناعمة أثيلة أصفرت وكم من حسان ذوت، وكم من قدود هيفاء قضب، لا يعلم إلا الله ما سبب ذبول حسنهن، وانطفاء بهائهن، وكما تضم الورقاء جناحيها إليها، فتخفي السهم الذي يبري في عظامها، ويتغلغل في جوانحها. فكذلك كانت طبيعة المرأة أن تخفي عن العالم آلام حبها المجروح، وغرامها الدامي، وما حب المرأة إلا حليف الحياء ظهير الصمت والسكون، فهي وإن نعمت به وسعدت، لا تكاد تصعد به أنفاسها وترفع به إلى أحد زفراتها، وإن هي يئست به وابتأست حملته في زوايا صدرها، وتركته هناك منزوياً مختفياً بين أطلال سعادتها ودوارس هنائها. لقد خابت بخيبتها أمنية القلب، ومشتهى النفس، وضاعت بهجة الحياة، وانقضت مسرة الوجود تتجنب الملاهي البهيجة، وتترك الملاعب الموجدة للروح المقوية لخفقات القلب، الباعثة مد الحياة في مجاري الأعصاب والأعراق. تلقاء المضجع، نابية المرقد، مضطربة السرب، مشتتة الراحة، امتزج نومها الحلو الهنيء بسم الأحلام المحزنة، والخيالات المبكية، يمتص دمها حزنها الجاف، حتى يهوى جسمها الضعيف الواهي تحت أخف الطوارق والعوارض، ثم انظر بعد ذلك إليها، تجد الصداقة مرسلة عيونها فوق قبرها، ساكبة مدرار عبراتها فوق ضريحها، مولهة حيرى تعجب للتي كانت بالأمس مشرقة بكل ضياء فوق ضريحها، مولهة حيرى تعجب للتي كانت بالأمس مشرقة بكل ضياء الصحة، متألقة بكل سنا الجمال، أن تشيع بهذه السرعة إلى موطن الظلمات والديدان!. وعسيت تسمع منهم أنها قضت أثر برد شديد، وهوت من توعك عارض، ولكنهم لا

يعلمون بذلك الداء الروحاني الدفين، الذي كان من قبل العارض يشرب من صحتها، ويحسو من دمها، حتى جعلها غنيمة ذلولاً لمناسر الموت ومخالبه. ليت شعري، أن مثلها كمثل شجرة فينانة يانعة، كانت زينة الأجمة، وفخر الحرش، وبهاء الغابة، حسناء المنظر، بهيجة الورق، ممددة الفنن ولكن في جوفها يسرح الدود، ويأكل الأرض، وإذ ذاك لا تلبت أن تجدها قد ذبلت فجاءة وتداعت، وكنا نترقب أن تصبح أينع ما تكون مظهراً، وأنضر ما تكون فرعاً، وأبهى ما تكون غصناً، ولا ننشب أن نرى منها أفناناً مهصورة. وورقاً منتثراً، وعناء مبدداً متساقطاً، حتى إذا اضمحلت وتآكلت، رأيناها ساقطة في سكون الغاب وهدوئه، وإنا لنقف بأطلالها البالية، ونروح على شرف من بقاياها الهاوية، نحاول عبثاً أن نذكر أية صاعقة انقضت عليها، وأية ريح بارح عصفت بها فجعلتها كما أرى أثراً عافياً. ولقد رأيت من النساء كثيرات، يأخذن في الضعف، ويسترسلن في الفتور والإهمال، حتى يختفين من هذا العالم، ويرتحلن عن هذه الأرض، وكأني بهن أنفاس مرتفعة إلى السماء، أو دخان متصاعد إلى القبة الزرقاء، وكنت أعود كل حين فأتصور أني قادر على اقتفاء سبب موتهن، بين عديد الأمراض والمهالك من سل، أوبرد، أو نحول، أو سوداء، حتى أهتدى خر ذلك إلى أول عوارض الحب الخائب، وأمارات العشق الضائع. وقد نبئت في هذه الأيام بحادثة من هذا القبيل، انتشر أمرها في البلد الذي وقعت فيه وذاع، وها أنا أقص عليكم تفاصيلها، وأتلو عليكم من نبئها كما قد نليت على، لا زيادة عندي ولا نقصان. كلكم لابد يذكر قصة الفتى أ. . . . ذلك الإيرلندي الوطني الأشم، إذ هي من التأثير بحيث لا تنسى ولا تبلى. في خلال الفتن والهزاهز التي كانت قائمة في إيرلندا على ساقها وقدمها، رفعوه إلى القضاة يحكمون في أمره وقد اتهم بالانشقاق على الحكومة، والخروج على جلالة الملك، فما كان من قضائه إلا أن حكموا عليه بالموت، ودفعوا به إلى المقصلة. وكان لمقتله أثر كبير في النفوس، وأسى بليغ في الأفئدة، إذ كان فتى في طراءة الشباب، وكان جواداً في عنفوان الجود، وكان ذكياً في غلواء الذكاء، وكان نجداً في ريعان النجدة وكان على كل الصفات

والخلال التي تستحب في الفتيان، وتحمد من الأحداث من الرجال. وكان أيام المحاكمة أربط ما يكون جأشاً، وأثبت ما يكون جناناً، وأحمى ما يكون آنفاً، وإن الحدة الشريفة التي خلع بها عنه أمام القضاء تهمة الخيانة، والعزة التي نطق بها اسمه، والاسترحام الذي جهر به إلى الأجيال المقبلة في تلك الساعة العصيبة، كل هذه نفذت إلى صميم كل قلب كريم، وتغلغلت في أثناء كل صدر رحيم، حتى لقد بكاه أعداؤه، ولهف عليه أخصامه، وأشفقوا من تلك السياسة المتجهمة العابسة التي أملت الحكم بإعدامه. ولكن هناك قلباً واحداً، أين لأبلغ الأقلام أن يصف ما كان يكابد من حرقة وألم، ويعالج من تفتيت وتعذيب. كان في أيام رخائه الأولى، وعهود نعمته الماضية، قد وقع حبه من فؤاد فتاة حسناء عذبة المحضر، كان أبوها محامياً في قومه مسموع الاسم، نايه الذكر، أحبته ذلك الحب الحار الخالص أول حب المرأة في شبابها، ولشد ما كان حبها، وأحر ما كان وجدها، وأعظم ما كانت لآلامه آلامها يوم حفت به التهلكة، وسددت إليه عبر الدنيا، ووجهت إليه سهام الأقاويل، وأدبر من زمانه ما كان مقبلاً، وهوي من نجوم سعده ما كان متألقاً مسفراً وأحدق باسمه العار والخطر، وإذا كان مصابه قد أثار هاجع الرحمة في قلوب الأعداء، فليت شعري ماذا يكون مبل عذاب تلك التي كانت جميع روحها متوجهة قبل صورته. ألا فليقل لك أولئك الذين حالت أبواب القبر وصفائحه. بينهم وبين أعز الناس في الدنيا عليهم. وأحب الخلق إلى نفوسهم. أولئك الذين جلسوا على وصيد المقبرة وعتبتها. كمن ترك في العالم وحيداً، قد تولى عنه أحبابه، وارتحل عنه أصحابه. وأي عزاء تري يشفع لأهوال ذلك القبر. وفضيحة ذلك الموت، وعار ذلك الرحيل، ولم يصيح في الذكرى ما يختلف من لوعة الفراق، أو يذيب الحزن عبرات، ويبعث الأسى دموعاً، كقطرات الندى من جفون السماء تحيي به القلب الكسير والفؤاد الموجع، في ساعة الرحيل المحرقة المؤلمة؟. ولقد زاد عذابها، وأكبر مصلبها، أن حبها لم يكن عن رضى من أبيها ولا عن مسرة، ولذاك لفظها أبوها من رحمته، ونفاها من حظيرته. وطردها من سقفه وكنفه. ولو استطاعت رحمة الأصحاب، وإعانات الأحباب. وعطايا الأصدقاء، أن تغني عن هذه الروح المنكوبة

المبتلاة، إذن لما أعوزتها بلوى ولا عز عليها عزاء، لأن الإيرلنديين قوم بر ورحمة، وأهل عطف وحنان. وكذلك وجدت من مسير الأسر الغنية. والعشائر الكريمة، أرقى صنوف الإكرام، وأعذب ضروب الرحمة، ساقوها إلى ندواتهم ومجتمعاتهم واحتالوا بكل أنواع الملاهي والمناعم أن يبددوا عنها حزنها، ويبعدوها عن قصة حبها، وذكرى نكبتها. فما أجدى كل ذلك نفعاً. فإن من المصائب ما يسحق القلب، ويحرق الروح، وينفذ إلى منبت السعادة فيهشمه، حتى ما يخرج من بعدها زهراً ولا كمأ، وهي لم تكن تمانع في غشيان أماكن اللهو، ومواطن السرور، ولكنها كانت فيها كأوحد ما تكون في أغوار العزلة والانفراد، تمشي وتخطر بينهم تائهة في حلم محزن. كأنها لا تشعر بما حولها لا تعلم. تحمل معها شجناً، يسخر من كل مداعبات الصداقة وملقها وعذب كلماتها، ولا يحفل بأنشودة المنشد، وإن لم يصدح من قبل بأحسن مما صدح وأطرب. وقد رآها من قص على قصتها في حفلة راقصة، وأنت فلو التقيت بمظهر بؤس، ورهين شقاه، في حفل كهذا لا ترى فيه إلا راقصين وماجنين ولاعبين، إذن لكان منظره أبلغ في قلبك أثراً. وأمضي لموضع الرحمة منك حسرة ولهفاً. هناك إذ تجده طائفاً هائماً كالروح الشاردة، وحيداً لا فرح يملك لنفسه، وإن كان كل ما حوله في فرح. إذ تراه مشتملاً في حلل اللهو متجملاً في ثياب الطرب والمراح، وإن كان يلوح ضعيفاً شاحباً حزيناً. كأنما قد حاول عبثاً أن يخدع قلبه الكسير في لحظة نسيان، وبرهة تناس لأشجان. خطرت في الحجرات الفخمة الأنيقة، ومشت بين الجمع المزد هي المتماوج وعليها تبدو أمارات الذهول، ثم جاءت فجلست عند درج الموسيقى. ودارت بعينها مبهوتة: انها لا تشعر بما حولها من زينة ومبهجة. وأخذها ما يأخذ كل قلب مريض من التحول والانقلاب. فأنشأت تغني نعمة شجية محزنة. وكانت ذات صوت عذب رخيم، ولكن كان في تلك الساعة سهلاً مؤثراً. كأنما كانت تصعد مع أنفاسها روح البؤس. وأنفاس الشفاء. والنف الجمع حولها صامتين. يسفحون الدموع ويسكبون العبرات. وقصة فتاة كهذه صادقة الحب. رقيقاً القلب. تثير الاهتمام والعناية في بلد اشتهر بالحمية. وعرف بالحماسة والغيرة، فما عتمت أن وقعت من قلب ضابط شجاع. جعل يظهر لها

دلائل الحب وجعل يرى أن من كانت مثلها وفيه للميت. لابد أن تروح ودوداً للحي، ولكنها رفضت سؤاله، إذ كانت جميع أفكارها سابحة في ذكرى حبيبها الأول. على أنه أصر على رجائه وألحف في سؤاله. واستشفع إليها من ناحية مكانتها. لا من ناحية فؤادها ورقتها. وأعانه على سؤله اعتقادها بفضله. وشعورها بسوء حالها. وضيق ذات يدها. إذ كانت تعيش من عطف الأصدقاء، وحدب الخلصاء. وجملة القول إنه فاز أخيراً بيدها وإن علم أن قلبها نصيب غيره. لا تحويل لذل ولا تبديل. ورحل بها إلى صقلية. وهو يعلل النفس بأن تغيير المناظر والمعاهد قد يمحو من فؤادها ذكرى أحزانها الأولى. وكانت له زوجة محبوبة وكانت معه قدوة للزوجات. وقد حاولت فما استطاعت أن تكون ناعمة البال. رخية العيش. وأي دواء يداوي ذلك الحزن الصامت القاتل. الذي بلغ صميم الروح. واستقر في أعماق النفس، وبدأت تهزل وتضمحل وتفتر فتوراً ضعيفاً بطيئاً. حتى هبطت إلى القبر ضحية قلب كسير. وقد بكاها الشاعر الإيرلندي مور بهذه الأسطر الآتية: لقد أصبحت بعيدة عن الأرض التي يهجع عندها حبيبها الفتى يرسل حولها العشاق حار الزفرات. وساخن التنهدات. وهي تغضى عنهم نظرها وتسترسل في البكاء والنحيب. لأن قبر حبيبها يرقد فؤادها. وإنها لتغني أناشيد بلادها وتصدح بأغاني قومها. وتذكر كل نغمة كان يحب وكل لحن كان يؤثر. فواها لها. إنهم ليتهيجون بأغاريدها ويطربون لنشائدها ولا يعلمون أن قلب المغنية جريح. وفؤاد المنشدة كسير. عاش لحبه. ومات لبلده. وما أدرجوه إلا في أكفان الحياة فلن تجف عليه دموع قومه. ولن يطل مكث حبيبته بعده. إلا فاجعلوا قبرها عند مطلع الشمس. ومشرق الضياء. ومبعث النور ليسطع في الصبح البهي فوق مضجعها. يحييها بابتسامة من جزيرة حزنها. . .

نوادر وملح وفكاهات

نوادر وملح وفكاهات سأل رجل عمر بن فنن عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الإنسان في ثوبه أو خفه أو جبهته قال له إرم بها فقال الرجل زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد قال دعها تصيح حتى ينشق حلقها قال الرجل أو لها حلق قال فمن أين تصيح - أنت جارية أبا ضمضم فقالت إن هذا قبلني فقال قبليه فإن الله يقول والجروح قصاص - حدث السندي بن شاهك قال بعث إلي المأمون بريداً وأنا بخراسان فطويت المراحل حتى أتيت باب أمير المؤمنين وقد هاج بي الدم فوجدته نائماً فأعلمت الحاجب بقصتي وقدمت إليه عذري وما هاج بي من الدم فانصرفت إلى منزلي فقلت أحضروا لي الحجام قالوا هو محموم قلت هاتوا حجاماً غيره ولا يكن فضولياً فأتوني به فما هو إلا اندارت يده على وجهي حتى قال جعلت فداك هذا وجه لا أعرفه فمن أنت قلت السندي بن شاهك قال ومن أين قدمت فإني أرى أثر السفر عليك قلت من خراسان قال وأي شيء أقدمتك قلت وجه إلى أمير المؤمنين بريداً ولكن إذا فرغت سأخبرك بالقصة على وجهها قال وتعرفني بالمنازل والسكك التي جئت عليها قلت نعم قال فما هو إلا أن فرغ حتى دخل رسول أمير المؤمنين ومعه كركي فقال إن أمير المؤمنين يقرئك السلام وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم وقد أمرك بالتخلف في منزلك إلى أن تغدو عليه إن شاء الله ويقول ما أهدى إلينا اليوم غير هذا الكركي فشأنك به قال فالتفت السندي إلى جلسائه فقال ما يصنع بهذا الكركي فقال الحجام يطبخ سكباجا قال السندي يصنع كما قال وحلف على الحجام أن لا يبرح فحضر الغداء فتغدينا قال ثم قلت يعلق الحجام من العقبين ثم قلت جعلت فداك سألتني عن المنازل والسكك التي قدمت عليها وأنا مشغول في ذلك الوقت وأنا أقصها عليك فاستمع خرجت من خراسان وقت كهذا فنزلت كذا يا غلام أوجع فضربه عشرة أسواط ثم قلت وخرجت منه إلى مكان كذا يا غلام أوجع فضربه عشرة أسواط ثم قلت وخرجت منه إلى مكان كذا يا غلام أوجع فضربه عشرة أخرى ولم يزل يضربه لكل سكة عشرة حتى انتهى إلى سبعين سوطاً فالتفت إلى الحجام وقال يا سيدي سألتك بالله إلى أين تريد أن تبلغ قلت إلى بغداد قال لست تبلغ حتى تقتلني قلت فأتركك إلى أن لا تعود قال والله لا أعود أبداً قال فتركته وأمرت له بسبعين درهماً فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر قال وددت أنك بلغت به إلى أن تأتي على نفسه.

حدث الأصمعي قال ولي رجل قضاء الأهواز فأبطأت عليه أرزاقه وليس عنده ما يضحي به ولا ما ينفق فشكا ذلك إلى امرأته وأخبرها ما هو فيه من الضيق وأنه لا يقدر على أضحية فقالت له لا تغنم فإن عندي ديكا عظيماً قد سمنته فإذا كان يوم الأضحى ذبحناه فبلغ جيرانه الخبر فأهدوا له ثلاثين كبشاً وهو في المصلى لا يعلم فلما صار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي قال لامرأته من أين هذا قالت أهدى لنا فلان وفلان وفلان حتى سمعت له جماعة فقال لها يا هذه تحفظي بديكنا هذا فلهو أكرم على الله من إسحق بن إبراهيم إنه فدى ذلك بكبش واحد وفدي ديكنا هذا بثلاثين كبشاً. سأل رجل أشعب أن يسلفه ويؤخره فقال هاتان حاجتان فإذا قضيت لك إحداهما فقد أنصفت قال الرجل رضيت قال فأنا أؤخرك ولا أسلفك. قيل لأشعب لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك قال قد فعلت قالوا له فما حفظت من الحديث قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً قالوا إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان قال نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.

الجلال والجمال

الجلال والجمال الفصل السابع الكلام على الجليل كل ما من شأنه أن يهيج في النفس وجدانات الألم والخوف، أو بعبارة أخرى كل ما كان رهيباً بصورة ما، أو كان له ارتباط بأشياء رهيبة، أو كان يؤثر في النفس مثل تأثير الرعب، فهذا مصدر من مصادر الجليل، أعنى أنه محدث في النفس أشد الوجدانات وأقواها، أقول أشد الوجدانات وأقواها لأني أوقن إن وجدانات الألم أشد وأقوى من التي يكون منشؤها اللذة. لاشك أن الآلام أشد تأثيراً على الجسم والنفس من أمتع الملاذ وأنعم المسار. وما أحسب إني واجد ذاك الرجل الذي يرضى أن يختم عمراً يمد له في نعم متواترة، وحياة تطال له في آلاء متصلة بيوم من الموت الزؤام، والحمام الأحمر. ولا يدع فبقدر زيادة الألم على اللذة في مبلغ التأثير تكون زيادة صورة الموت على وددان الألم في مقدار الإزعاج والأذى. وقل في آلام الحياة البدنية والنفسية ما يؤثر عليه الموت. ألا ترى أن الذي يزيد الألم ألماً علمنا أنه يريد الأجل ورسول ملك الموت. والخطر أو الألم إذا رفرف أحدهما فوق رؤوسكم كان غير ملئ بإفادتنا أدنى لذة. على أنهما قد يفيدان اللذة إذا أقاما منا على مسافات معلومات وبأشكال خاصة. وسآتي ببيان ذلك فيما بعد. الفصل الثامن الكلام على الوجدانات الخاصة بالاجتماع الفريق الثاني من وجدانات البشر هو ذلك المتعلق بالاجتماع، والاجتماع نوعان: الأول هو اجتماع الذكران والإناث للتناسل. والثاني - وذلك أعم - هو اجتماعنا بالناس وغيرهم من أصناف الحيوان، والذي هو كائن بوجه ما بيننا وبين عالم الجماد. فالوجدانات الخاصة بالمحافظة على النفس محورها الألم والخطر. وألصق اللذات بهذا الغرض هي لذة حادة حارة توارة مجنونة عاتية وهي بلا شك أعلى الملاذ الحسية. ومع ذلك فإن انقطاع هذه اللذة العظيمة لا يبلغ أن يكون قلقاً أو كدراً. وما أحسب أنه محدث أقل تأثير إلا في بعض أحوال خاصة. والناس إذا أخذوا في وصف ما يجدون من الآلام والأخطار لا تراهم يصفون أولاً ما كانوا فيه من صحة وأمن ثم يندبون ضياع هذه النعمة. ولكن كل أمرهم

يدور حول ما هم فيه من واقع الألم والروع. ولكن الأمر خلاف ذلك في صلة الذكر بالأنثى فإنك إن أصغيت إلى شكوى العاشق المهجور ألفيته يقيض في ذكر ما كان يجده أو يرجوه من ملاذ الوصال وفي محاسن معشوقه. ففقدان النعيم هو أكبر ما يشغل باله ويبعث مقاله. وليس يشذ عن هذه القاعدة أشد حالات الهيام وأقصى غايات الوله تلك التي تذهب بعقل ربها وتفضي به إلى المس والخبال وإلى الجنون. فإن المرء إذا استحوذ على روحه فكرة ما. وتسلطت عليه حالة بعينها فإنها تتملكه وتجتازه حتى تحول بينه وبين كل ما عداها، وتهدم من أسوار العقل وحواجزه كل ما يحاول أن يحتويها ويحسبها، وانهدام أحد أسوار العقل هو الجنون. ولا يشترط في ذلك أن تكون الفكرة أو الحالة النفسية هي الحب. بل أي فكرة أو حالة أخرى مليئة أن تسبب هذه النتيجة كما يرى من كثيرة أسباب الجنون وشتى علله. وهذا القول يثبت إن وجد أن الحب خليق أن يحدث نتائج خارقة للعادة لا أن هذه النتائج الخارقة لها أدنى صلة بالألم الإيجابي. الفصل التاسع سبب الفرق بين الوجدانات الخاصة يخلة المحافظة على النفس والوجدانات المرتبطة باجتماع الذكر والأنثى: لما كان أداء فرائضنا على اختلاف أنواعها متوقفاً على الحياة. وكان أداء هذه الفرائض بجد وجدوا حسان وإتقان متوقفاً على الصحة فلا غرو إن كنا نتأثر أشد التأثر بكل ما يتهدد سلامة هذه أو تلك ولما كانت مطامع الإنسان وآماله لا تنتهي عند إحراز الحياة والصحة أصبح وجدان هاتين النعمتين غير مشفوع بلذة محسة لئلا تقنع بهذه اللذة فنكسل وتفتر همتنا ونجنح إلى القعود والتواني. بل إن الله سبحانه وتعالى جعل التناسل غرضاً عظيماً سامياً فحدا إليه البشر بأقوى البواعث فأصبح لذلك مقروناً بأكبر اللذات وأحد الشهوات. ومن جهة أخرى لما كان هذا الأمر (التناسل) لم يرد منه أن يكون شغلنا الشاغل المستنفد جميع قوانا وأوقاتنا فمن الحكمة أن لا يكون فقد اللذة المقرونة به مشفوعاً بشديد الألم. والفرق بين البشر والحيوان في هذا الصدد جدير بالنظر. فالناس مستعدون في جميع الأوقات على السواء لمباشرة لذات العشق لأن عقلهم في ذلك دليلهم من حيث وقت قضاء هذه اللذات والصورة التي يقضونها عليها. فلو أن عدم هذه الملاذ كان مشفوعاً بشديد الألم

إذن لوجد العقل صعوبة كبيرة في أداء وظيفته. أما البهائم تلك التي تتبع في هذا الشأن قوانين قلما يكون لقوة اختيارها دخل فيها - هذه البهائم لها أوقات مضروبة. ولا يبعد أن عدم قضاء الشهوة في هذه الأوقات يكون مؤلماً جداً إذ كان مانعاً لأمر لابد منه وليس يتم في غير هذا الأوان. الفصل العاشر الكلام على الجمال إن الوجدان المرتبط بأمر التناسل من حيث كونه تناسلاً لا غير إنما هو الغلمة أو الشبق. وهذا واضح في شأن البهائم التي ترى الوجدانات فيها أبسط كياناً منها في الآدميين وأقل اختلاطاً. والتي تراها أقصد طريقاً منا إلى أغراضها وأقرب سبيلاً. فهي لا تراعي في أمر تزاوجها إلا مسالة التذكير والتأنيث على أنا لا ننكر انحياز كل فرد إلى قبيلة وجنسه مؤثراًَ ذلك على سائر الأجناس والقبائل. ولكن هذا الايثار لا يرجع فيما أحسب إلى جمال يراه الحيوان خاصاً بفصيلته ونوعه كما زعم الكاتب أديسون بل إلى قانون طبيعي تخضع له البهائم. وهذا ظاهر مما هو مشاهد فيها من قلة اختيارها وتمييزها بين أفراد قبيلتها التي قصرتها عليها حدود الجنسية. أما الإنسان ذلك الذي ركب في غريزته الاستعداد لتنوع العلاقات وتعدد الصلات فقد أبى إلا أن يضيف إلى شبق البهائم رغبة في بعض الصفات الاجتماعية التي من شأنها أن تشحذ الشهوة المشترك فيها مع الحيوان. ولما كان ليس كالحيوان يغشي أية أنثى صادف وجب أن يكون هناك شيء يدعوه إلى التخير والانتخاب، وأن يكون هذا الشيء صفة محسة إذ ليس غير هذه له مثل كفايتها وسرعتها وقوتها في إحداث باعث التخير. هذه الصفة المحسة هي جمال الأنثى. فالذكران مسوقون إلى الإناث بوجه عام لمجرد كونهن إناثاً وبقوة قانون الطبيعة المشترك. ولكنهم بوجه خاص متعلقون بالأفراد بتأثير الجمال الشخصي. وإني اسمي الجمال صفة اجتماعية وذلك لأن من كان من النساء والرجال بل من الحيوان (وكثيرهن) يلذنا ويفرحنا بمنظره فذلك لاشك يبعث في قلوبنا الحنان والحب لشخصه. حتى ترانا نهوى قربه ونرتاح إلى الاتصال به إلا أن يكون تمت مانع. وإني بعد لا أدري ما الحكمة في حدوث ذلك بين الإنسان وجميل الحيوان ولا ما القصد والغاية. لأني لا أرى لاتصال المرء بالحيوان المليح الأنيق الوشي والحلة من

العلة مالا أراه لاتصاله بخلاف ذلك من الحيوانات غير ذات الحسن والبهجة. على أنه ربما كان لله في ذلك حكمة وشأن وغاية تقصر دونها إفهامنا إذ كان تدبيره سبحانه وتعالى غير تدبيرنا وأسلوبه خلاف أسلوبنا. الفصل الحادي عشر الكلام على الاجتماع والعزلة أما الفريق الآخر من الوجدانات الاجتماعية فهو ذاك الحاث على الاجتماع بوجه عام. وإني أقول في هذا الصدد إن الاجتماع من حيث هو مجرد اجتماع خال من المميزات الخاصة ليس فيه لذة إيجابية وبيد أن العزلة التامة المطلقة أعني الانقطاع الكامل الدائم عن سائر المجتمع هو من أشد وأقسى الآلام الإيجابية. هذا وإن في أنس المجالس وحلاوة الأحاديث، ومحاسن التآلف والتواد ما يملأ النفس لذة ونعيماً. ومن وجهة أخرى فإن ما يتخلل مناعم التعاشر من فترات العزلة لا يخلو من مسيرة خاصة. وهذا دليل على أنا خلقنا للحلوة والتأمل وكذلك للعمل والسعي. إذ كل لكل من العزلة والاجتماع لديه. وكانت حياة العزلة المطلقة تنافي أغراض الوجود بدليل أن الموت نفسه أقل بشاعة من ذلك وأخف روعة. الفصل الثاني عشر الكلام على العطف والتقليد والطمع الوجدانات الاجتماعية من وجهة هذا التقسيم ذات اختلاط. وتمازج تتشعب شعباً متنوعة وتخرج أشكالاً مختلفة تطابق شتى الأغراض التي لتحقيقها وجدت، وضروب الغايات التي ما خلقت هذه الوجدانات إلا لتخدمها في سلسلة الاجتماع الكبرى. والحلقات الثلاث الرئيسية في هذه السلسلة هي العطف والتقليد والطمع. الفصل الثالث عشر العطف إنما بفضل الأول من هذه الوجدانات أعني العطف يمكننا الاتصال بنفوس الغير والافضاء إلى مواضع همومهم وشؤونهم. حتى نشعر بشعورهم فلا يكون موقفنا منهم موقف المتفرج لا يعنيه ما يكايدون ولا يجفل بما يأخذون ويدعون. أجل إنما ينبغي عليك أن تعد هذا

الوجدان - العطف - كنوع من البدل والعوض به يستطيع المرء أن يضع نفسه موضع الغير فيرى برأيه ويحس بقلبه في كثير من المواطن. فهذا الوجدان ذو وجهين. فتارة يكون من قبيل تلك الوجدانات الخاصة بالمحافظة على النفس فمحوره الألم ولذلك يعد مصدراً من مصادر الجليل. هذا من جهة وتارة تكون اللذة محور هذا الوجدان فينطبق عليه كل ما قيل في الوجدانات الاجتماعية سواء كانت خاصة بالمجتمع على وجه عام أو ببعض أشكالها وهيئاتها. وإنه بهذه الوسيلة - أي بفضل وجدان العطف - يستطيع الشاعر والمصور والموسيقار بقوة القصيد والنقش والأنغام أن ينقلوا وجداناتهم من صدورهم إلى صدرو الناس، وان ينفضوا لذة ومسرة على الشقاء والبؤس بل على الموت ذاته. وذلك أن هذه المصائب آلم الأشياء في الحقيقة ولكنها في الفنون الجميلة مصدر لذة عظيمة. وقد كانت هذه القضية موضع كثير من الجدل والمناقشة. فقالوا إن سبب تلك اللذة هو اعتقادنا أن هذه القصة المحزنة ما هي إلا حديث خرافة، ثم سرورنا بالنجاة مما تصفه هذه الفنون من الآفات والبلايا. والذي أراه أن من الخطأ في مثل هذه المباحث أن يسند سبب الإحساسات تلك التي إنما منشأها بنية الجسد أو تركيب النفس وكيانها الخاص إلى النتائج المنطقية التي هي نمرة في البحث في شأن الأشياء المثيرة لتلك الإحساسات المذكورة. إذ الحقيقة أن تأثير القوة الاستدلالية في تهييج الوجدانات هو أقل بكثير مما يحسب العالم. الفصل الرابع عشر الكلام على تأثير وجدان العطف على المنكوبين في نفس صاحب الوجدان قبل البحث في موضوع تأثير المأساة على نفوس البشر يلزمنا أن ننظر كيف نتأثر بالمصائب الحقيقية التي تصيب الغير من بني جنسنا. ولا يسعني في هذا الصدد إلا القول بأن المرء يجد ولاشك شيئاً من السرور ليس بالقليل لما يصيب غيره من فجائع الدهر. فإن مصيبة الغير إذا لم تكن من البشاعة بحيث تنفرنا من المصاب فلا نستطيع الدنو منه بل كانت بحيث تغرينا بالاقتراب من صاحب البلوى. ومصاحبته والعطف عليه، إذن فلا بد من أن يكون لنا في ذلك نوع ما من المسرة وإلا فما كنا نستطيع إقبالاً على صاحب البلية. الست ترانا نجد في قراءة حقائق تواريخ أمثال هذه الفجائع من اللذة مثل ما نجد في قراءة

الخرافات من ذلك إشعاراً وقصصاً. وما كان قارئ الحوادث السارة من أنباء الفتوحات وعز الدول وأبهة الملوك ليجد من اللذة عشر معشار ما يجد قارئ الفاجعات والفوادح من خراب الممالك وذل الملوك وبؤس أرباب الرفه والنعيم وحرق العشاق والمغرمين ومصارع الفرسان والأبطال وما إلى ذلك من جليل الخطوب وكارثات المحن. ومما يزيد استمتاعنا بقراءة أمثال هذه البلايا أن يكون المصاب الناشب في مخالب الفاجعة إنساناً محمود الشيمة ميمون النقيبة. خذ مثلاً على ذلك نبأى كاتو وسيبيو. فكلاهما ماجد كريم فاضل. غير أن مصرع الأول وضياع الأمر الجليل الذي كان يحاول أشد روعة في نفوسنا من ظفر الثاني وتواتر النعم عليه وترافد الخيرات والفواضل. وما ذاك إلا أن الرعب وجدان باعث للسرور ما لم يقاربك جداً. والرحمة وجدان مشفوع بالمسرة إذ كان منبعها الحب والانعطاف. والمرء إذا كان قد أعد بالفطرة لإنجاز أمر من الأمور فإن الوجدان الذي يوقظ همتنا إلى محاولة هذا الأمر لابد أن يكون مصحوباً بنوع ما من السرور أو اللذة مهما كانت ماهية هذا الأمر. ولما قضت إرادة الله أن تربطنا جميعاً آصرة العطف فقد أكد أسباب هذه الآصرة بمزاج مناسب المقدار من اللذة. وأكثر ما يكون مقداره أشد ما تكون الحاجة إليه أعني في مصائب الغير. ولو كان وجدان العطف ألما كله لكنا نتقي جهدنا جميع بواعثه من الأشخاص والأماكن كما يفعل قليلو المروءة ساقطو الهمة من المغرقين في الكسل المتغالين في الفتور والتواني. ولكن الأمر بخلاف ذلك في السواد الأعظم من الناس. فأنا لسنا إلى شيء أسرع منا إلى مكان الحادث الأليم والخطب الجلل. وكذلك ترى مشهد الفجيعة أبداً يولد فينا ضرباً من اللذة سواء كان أمام أعيننا أو كان معروضاً على ناظر الوهم في صفحات الأسفار. على أن هذه اللذة ليست صافية بل ممزوجة بجانب عظيم من الإشفاق والكرب. فاللذة هي الحادي لنا على مواطن المصيبة. والكرب هو داعينا إلى إنقاذ أنفسنا من الألم بإنقاذ ذوي البلية. كل هذا يصدر منا بلا سابق تأمل وتدبر بل بغريزة تزجينا إلى غايتها دون اختيارنا. الفصل الخامس عشر الكلام على تأثير المأساة الذي ذكرناه في الفصل السالف هو الواقع في أمر الأحزان الحقيقية. أما من جهة الأحزان

المحكية. فالفرق الوحيد هو الشرور الناشئ من تأثير التقليد والحكاية. فإنه مهما بلغ من أحكام التقليد ودقة الحكاية فليس يخفى علينا أنه تقليد لا حقيقة وهذا محدث لنا شيئاً من اللذة. وفي بعض الأحايين قد توازي اللذة المولدة من تأثير التقليد تلك المستفادة من الشيء نفسه. بيد أني أخطئ من يزعم أن جانباً عظيماً من سرورنا بالمأساة ناشئ من علمنا بأنها خداع وليست بحقيقة وأقول أنه كلما دنت المأساة من الحقيقة وبعدت من الخرافة كانت أشد تأثيراً وأعظم وقعاً. على أنه مهما يكن وقعها وتأثيرها فلن تبلغ في ذلك مرتبة الحقيقة التي تمثلها. وسأضرب لذلك مثلاً فأقول أعمد ذات يوم إلى أكبر المراسح وأفخمها وأعمل على أن تمثل به أجل مأساة وأعظمها. وأندب لذلك صفوة طائفة الممثلين ونخبتها. واستكمل لدار التمثيل زخرفها وزينتها. واستعن على ذلك بأقصى قدرة الفنون الثلاثة الشعر والتصوير والموسيقى ومنتهى سحرها وفتنتها. حتى إذا احتشدت جموع المشاهدين. والتف محافل المفترجين واشرأبت للمشهد المرقوب أجيادهم. وامتدت للمنظر المنتظر أبصارهم. فأذع بين جمهورهم أن مجرماً كبيراً سياسياً يساق إلى المشنقة في الميدان المجاور. ثم انظر ماذا يكون. لاشك أنك ستبصر بيت التمثيل قد أقفرت في الحال عرصاته وصغرت من ذلك الجمع الكثيف ساحاته. وإن جمهور النظار قد هرعوا سراعاً إلى ميدان المشنقة. دليل لعمرك قاطع على ضعف تأثير الفنون التقليدية إزاء سلطان الحقيقة. وقوة الوجدانات الحقيقية. ويخطئ البعض فيقولون إن رؤية المصائب الوقعية مشفوعة بالألم المحض. وخطأهم هذا راجع إلى عدم تمييزهم بين الشيء الذي يأبى أحدنا البتة أن يفعله والشيء الذي لو وقع لتاقت أنفسنا إلى رؤيته. فنحن يسرنا أن نبصر من الأشياء ما نود من صميم الفؤاد إصلاحه وتعويضه فمن باب أولى لا نود أن نفعله بأيدينا. انظر إلى لندن هذه المدينة الفاخرة أفتحسب أن إنساناً قد بلغ من خبثه وشره أن يحب أنه يرى هذا البلد الأمين فخر إنكلترا وأوروبا قد خرب بسبب زلزال أو حريق ولو أنه بموئل من بادرة هذا المصاب ومعتصم. ولكن هب أن هذا المصاب قد حدث بالفعل إذن فأي جموع وجماهير يأتون من مهاب الرياح الأربع لينظروا الآثار الخربة والأنقاض وبينهم من كل لا يعنيه أن يبصر المدينة في رونق بشاشتها وبهجة جمالها. وليس خلاصنا من المصاب - حقيقياً كان أو خيالياً - هو سبب سرورنا. أنا لا أرى ذلك مطلقاً: وأظن أن منشأ هذه الغلطة هو عدم

تمييزنا بين الشرط الذي عليه يتوقف فعلنا أو إحساسنا شيئاً ما وبين السبب الداعي إلى هذا الشيء. فإذا قتلني رجل بسيف فإن من الشروط اللازمة لذلك كون كل منا حياً قبل وقوع هذا الحادث. ومع ذلك فإن من السخف أن يقال إن كون كل منا حياً كان السبب في جريمته وموتي. وكذلك فإن خلاص نفسي من كل خطر مهدد هو شرط لازم لاستعدادها للسرور بمصاب الغير حقيقياً أو خيالياً بل للسرور بأي شيء مهما كان سببه ثم من السفسطة أن يقال إن خلاص نفسي من الخطر المهدد هو سبب سروري بمصاب الغير أو خلافه. وما أحسب أن أحداً من الناس يحس في نفسه ذلك بل إنك لتجد الرجل المصاب (ما لم يشتد به ألم أو يرنق فوقه خطر) ليتوجع لمصاب الغير. وإن أشد الناس تأثراً بمصاب غيره من رققت كبده المصيبة وألات عريكته البلية. بل ربما رحمنا غيرنا من بلاء نود من صميم قلوبنا لو أنه كان من مصابنا بدلاً.

سر تدهور العرب

سر تدهور العرب بقلم الدكتور جوستاف لوبون إن كثيراً من تلك العوامل التي ذكرناها آنفاً ونحن بسبيل بيان أسباب عظمة العرب ليصح أن نجيء به الآن توضيحاً لأسباب تدهورهم، ويكفينا أن ندخل ذلك العامل الأكبر، والسبب الأعظم، الذي دعوناه فيما مر بك بالظروف، حتى نشهد أوفر الصفات نفعاً، وأكبر المميزات فائدة، تحدث أسوأ النتائج، وأفدح العواقب، وأشأم المغبات، وذلك أمر مشهود في حياة الأفراد كما هو جار في حياة الشعوب، إذ لا ريب في أن الاستعدادات الأخلاقية، والأميال الذهنية، قد تؤيد النجح في وقت معين ثم هي بعد ذلك قد تؤوب في وقت آخر بالخيبة والفشل، وقد أبنت لك فيما تقدم كيف أن الغرائز الحربية. والنزعات العدائية الخلافية، التي ركبها الله في أرواح العرب، أسدل إليهم في عصر الفتح وزمان الغزو، الخدمة الجلى، واليد الطولى، فلما سكنت ثائرة تلك الفتوحات، وهدأت الوقائع، وانتهت الغارات والغزوات، ولم يجد العرب إزاءهم عدواً يساجلونه الحرب، ويطارحونه القتال، إذا هي قد عادت عليهم وبالا، وساءت بهم منهجاً وسبيلاً، وبلغت الفرقة منهم الغاية القصوى، ووصل الانقسام والانشقاق إلى أبعد حدودهما، وما كان الانشقاق إلا من عاداتهم الثابتة المتأصلة، فبدؤا إذ ذاك في تجزئة تلك الدولة وتبديد نظام عقدها، وكان من حق تلك العادات أن تفضي إلى سقوطهم، وما فقدوا اسبانيا وصقلية ألا على الأخص أثر خلافاتهم الأهلية، ومشاحناتهم الداخلية، ولم يتسن للمسيحيين أن يقهروهم على أمرهم، ويخرجوهم من أرضهم، إلا من جراء هذه المنافسات الدائمة، والمنازعات المستمرة. أما عن أنظمتهم السياسية والاجتماعية فقد أثبتناهما بين الأسباب التي دعت إلى نجحهم السريع، ويصح لنا الآن أن نقول إنها كذلك أحد العوامل التي عملت على سقوطهم، إذ لم يصب العرب رائد النجاح، ولم يفلج الله لهم سهام النصر، ولم يفتحوا أقطار العالم وفجاجه، إلا عند ذلك اليوم الذي عرفوا فيه بفضل ذلك الدين الجديد الذي جاء به محمد، كيف يذعنون إلى حكم قانون ثابت، وينزلون على نير شرع مقرر، وكان ذلك القانون وحده قادراً على جمع ما تبدد من قواهم، وتوطيد ما افترق من أمرهم، وكان نير هذا القانون الصلب الثابت على أحسن حال وأنصف حكم، عندما كانت أنظمة النبي وفاق حاجات

قومه، ومطالب أمته، ولكن لما خطت مدنيتهم خطواتهم، وبلغت حضارتهم بعد شأوها، وجب أن تنقح هذه الأنظمة وتهذب، إذ أصبح نير تلك القوانين القديمة من الثقل بحيث كان من الجائز لهم أن يرفعوه عن كواهلهم، ويضعوا وزره عن ظهورهم، وإن الأنظمة التي اشترعها القرآن، والتي كانت المعبرة عن حاجات العرب في عصر النبي، لم تصبح كذلك بعد تصرم عدة قرون، ولما كان هذا الكتاب في آن واحد مجموع شرائع دينية، وأنظمة مدنية سياسية، وكان من أصله لا يقبل تحويراً ولا تبديلاً، فقد كان من الأمور غير الممكنات أن تنقح أجزاؤه الأساسية، ولم تبد نتائج انشقاق العرب، ولم ينكشف للعيان عواقب انقسامهم، ألا يوم أن بدأت قوة العرب في الارتجاف والاضطراب، إذ أحدث انشقاقهم انتكاسات دينية، كان يراد بها على زعمهم تجديد شباب الإسلام، وإعادة زهوه، وإرجاع غضارته وريعانه، وما كان يقصد بها ألا إلى رده إلى نص القرآن وفصه، فلما كانت تلك العصور الزاهرة المشرقة، عصور خلافتي بغداد وقرطبة، عرف المسلمون جد المعرفة كيف يدخلون تحت رقابتهم وتصرفاتهم الإصلاحات التي أوجبتها حاجات الأمم التي رضيتها. ولم تظهر صعوبة سن الإصلاح بأجلى مظهرها إلا في أنظمة العرب السياسية فإن هذه الأنظمة التي جعلت على رأس هذه الدولة حاكماً يصرف في يده جميع السلطات الحربية والدينية والمدنية. كانت هي وحدها المذللة تأسيس دولة عظمى، ورفع بنيان مملكة مترامية النواحي والأطراف، على أنها كانت مع ذلك أقل العوامل ملاءمة لتاكيد بقائها، فإن لتلك الملكيات المطلقة التي تجتمع كل سلطانها في يد واحدة قوة عتيدة في الفتح لا تغلب ولا تقهر، ولكنها لا تستطيع أن تنجح إلا على شريطة أن يكون على رأسها في كل حين رجال آية في العظمة والمراس والتفوق، فإذا أقبل ذلك اليوم الذي يعز فيه عليها رجل من هؤلاء الرجال، فاعلم أنها لا تلبث إلا عشية أو ضحاها حتى يتداعى بنيانها حجرة حجرة وتتساقط قواعدها لبنة لبنة. وكان في مقدمة النتائج التي نشأت من النظام السياسي الفاسد الذي كانت عليه أمة العرب، تجزئة مجموع دولتهم، وتمزيق شملها، وتفريق أجزائها، إذ كان الولاة ينوبون في الولايات عن الخلفاء، قابضين مثلهم على كل السلطات الحربية والدينية والمدنية، ومن ثم لم يلبثوا

أن امتدت أعينهم إلى الحكم كما يشهون، وتطلعت نفوسهم إلى سياسة ولا يلتهم، وتدبير أمرها كما يرغبون ويحبون، حتى إذا لم يجدوا لقوتهم قوة تعادلها وتكافئها، هان عليهم أن يدعوا السيادة لأنفسهم، ويجاهروا بأنهم سادة الولايات وأمراؤها، فلم يفز بها منهم نفر. إلا كان فوزه تحريضاً للآخرين، ولم يسب التوفيق فريق، ألا كان توفيقه إغراء لزملائه الباقين، فلم تنشب خير ولايات الدولة العربية وأوفرها ثراء. وأعظمها قدراً. أن أضحت ممالك مفترقة عنها منفصلة. وكان لهذا الانفصال نتائج سيئة، وأخرى حسنة. فالأولى لأن تجزئة الدولة أوهنت قوتهم الحربية. والأخرى لأن هذه التجزئة نفسها سهلت تقدم المدنية العربية وارتقاءها. فلا ريب أنه لو لم تنفصل مصر والأندلس عن الدولة العربية. إذن لما بلغتا درجة التقدم التي شهدتاها. وقد كانت الولايات في أيدي عمال هم في كل حين عرضة للعزل والفصل. لا يجدون أية فائدة في أن يروا ولاياتهم في رغد ورخاء، ولا يحك في صدورهم ألا التمول والإثراء. ولا يتلجلج في نفوسهم ألا الإكثار والاغتناء. ولذلك أضحت كما كان حالها بعد ذلك تحت أولئك الحكام الذين كانت تبعث بهم حكومة القسطنطينية. وأصبحت طائفة من هذه الممالك الصغرى المستقلة على تقدم بليغ، ورقي كبير. ولكنها كانت جميعاً مفضية إلى الخاتمة التي أفضت إليها الدول القديمة. حيث أضحت القوة الحربية. بدلاً من أن تعتمد في بعض أمرها كما هي الحال اليوم - على الاستعدادات الحربية الخطيرة الشأن: لا تستطيع أن ترتكز ألا على عدد جندها وبأسهم في الحرب وصدق لقائهم: وقوة كهذه لا تلبث أن تندحر إزاء الغارة الأولى: وأنت تعلم أن المدنية ترقق الطباع. وتهذب النفوس: ولكنها لا ترقى الصفات الحربية. بل تعد للدولة محتوم التدهور: ومقضى السقوط: وإن الشعوب التي يملك كل فرد من أفرادها قسطاً من رغد العيش: وحظاً من الرخاء والرفاهية: لا تنشب أن تجد نفسها مهددة من تلك الشعوب التي عضت الحاجة بنيها: فرغبوا في تبديل حالهم: وتغيير رزقهم: وكذلك كان فناء أكثر المدنيات القديمة الكبرى: وكذلك كان مآل الرومان. وكذلك كان عقبى العرب. إذ لأمراء في أن الفاتحين على اختلاف أجناسهم من ترك ومغول وغيرهم. أولئك الذين هدموا كيان العرب: ونقضوا بنيان ملكهم: يوم بلغوا درجة من المدنية عالية. لو كانوا جاؤوهم في ذلك

العصر الذي كان فيه عصبة النبي قد أتموا تأسيس دولتهم. وألفوا منهم شعباً صلب العود مريراً. لا يقدح في ساقه التعب ولا النصب. يألف الشظف والعسر. ويعتاد كل ضروب الفاقة والحرمان لم تلن بعد من جنبه الخشن نعمة. ولم تهذب من طبيعته المتبدية رفاهية. إذن لكانت الخيبة نصيبهم. وكانت الهزيمة مآبهم. وينبغي لنا أن نذكر من بين أسباب سقوط العرب، اختلاف الأمم والنحل التي خضعت لملكهم، واستكانت لصولتهم. ويتجلي أثر هذا السبب الأخير في وجهين مختلفين، كل منهما سيئ مشئوم، فالوجه الأول أن وجود أجناس مختلفة في الأمة يبعث على الاحتكاك والاختلاط، وهذا يؤدي إلى المنازعات والمنافسات بين هذه الاجناس المتباينة. والوجه الآخر إن ذلك يحدث الامتزاج والتزاوج، ولا يلبث التزاوج أن يغير دم الفاتحين الغالبين. وكان امتزاج الأجناس المختلفة في الأمة داعياً أبداً إلى انحلالها السريع وقد شهد التاريخ أنه ليس من الممكنات أن تجتمع الأجناس المتباينة المتشاكلة في يد واحدة، إلا بمراعاة شرطين واجبين، أولهما أن قوة الفاتح قوة يجب أن تكون من التماسك والثبات والصلابة بحيث يوقن كل فرد من الأمة أن كل مقاومة يطلب أو تمرد يروم ليست إلا عرضة سريعة الزوال، وثانيهما أن الغالب ينبغي أن لا يتزوج من المغلوب، حتى لا يؤدي ذلك إلى أن يفنى العنصر الأول في العنصر الآخر، وأنت ترى أن العرب لم تحسب للشرط الثاني حساباً، ولم تتدبره يوماً، على أن الرومان أنفسهم لم يجعلوه دائماً نصب أعينهم ولم يتدهوروا إلا يوم أن تركوه جملة واحدة. ومن بين الأسباب العديدة التي جرت إلى انحلال العالم الروماني القديم، سبب هو أعظم شأناً، وأفحل خطراً، هو تلك السهولة التي جنح إليها سادة الدنيا الأولون فأباحوا كل حقوق الوطنيين للبرابرة فأصبحت روما منذ ذلك الحين موطن أجناس مختلفة ولم تعد السلطة فيهم للرومان. وانطفأت على أثر ذلك جذوة تلك المشاعر التي ضمنت من قبل عظمة روما ومجدها. إذ كان ابن المدينة الأتربة أي روما حتى ذلك العهد لا يحجم عن بذل مهجته في سبيل مدينته لأن عظمتها كانت لديه مثلاً أعلى شديد الأثر في نفسه قوى السلطان عليه. ولكن أية قيمة. وأي أثر. وأي وزن لهذا المثل الأعلى في نفس المتبربر المتأبد. وإن من صعاب الأمور وشدائدها أن تعيش الشعوب المتألقة من أجناس ونحل مختلفة

ومصالح ورغائب وعواطف متباينة متضادة تحت شرع واحد وقانون مفرد، ولا يكون ذلك من الممكنات في أغلب الأحيان إلا بواسطة ضغط من الشدة بمكان، وفي النظام المسنون اليوم للأيرلنديين والهنود دليل على ذلك وبرهان. على أن العرب لم تأخذ بهذا الضغط تلك الأجناس المختلفة التي خضعت لها وأذعنت لحكمها، لأن الدين والأنظمة التي جاؤوهم بها صادفت منهم القبول والرضى ولأنهم كانوا يعاملون جميع النحل والشعوب التي آثرت الإسلام على دينها واختارته لنفسها، مهما كان أصلها، على قسطاس من المساواة التامة الكاملة، وكذلك كان شرع القرآن وسنته، وما كان الفاتحون ليميلوا يوماً إلى تجنب هذا الشرع والانحراف عن سننه والزيغ عن جادته فكان من ذلك بادئ بدء أن الغالبين والمغلوبين ألفوا منهم شعباً واحداً ذا اعتقادات ومشاعر ومصالح مشتركة، وظل الائتلاف ضارباً بجرانه في جميع أجزاء الدولة العربية ما بقيت قوة العرب من العظمة بحيث كانت تجد من الجميع توقيراً لها واعتداداً بشأنها. على أن المنازعات بين هذه الأجناس والعناصر المتباينة وإن قمع شرها إلا أن نارها لم تخب ولم تخمد. فلما بلغت عادات العرب من الخروج والانشقاق أشدها. وانتهت إلى مستفحل أمرها. إذا بتلك المنازعات قد عادت من مكمنها وبانت من مخبئها وظهرت بأجلى مظهرها. ولم تنشب الممالك الخاضعة لصولة الإسلام أن أضحت ميدان أحزاب لا تفتأ أبداً في تكاشح وتدابر وقتال. ومنذ حاصر المسيحيون آخر موطن للعظمة الإسلامية في الأندلس وهذه الأحزاب والفرق على حالها من التقاتل والشحناء. وإن لوجود هذه الأجناس المختلفة في كل بلدان الإسلام وخاضع أقطاره نتيجة أخرى أشرنا فيما مربك إلى شرها. ونبهنا إلى خطرها وويلها. وهي اختلاط العرب بجميع الأمم التي عاشت بين ظهرانيها. وذلك أن العرب بامتزاجهم بتلك الأمم التي ليست دونهم وليست بأقل مدينة منهم كمسيحي أسبانيا مثلاً قد كان من الجائز أن يكتسبوا منهم بعض الميال والاستعدادات ولكن اختلاطهم بالشعوب المنحطة عن مستواهم كبعض الشعوب الآسيوية وأهل المغرب لا يجلب عليهم إلا الخسارة والوكس. وليس من شأن هذا الامتزاج في كلتا الحالين إلا أن ينتهي بإفناء أخلاقهم التي يتركب من مجموعها عنصرهم. والحقيقة المشهودة أنه لما ضاعت عظمة العرب السياسية على أثر فقدهم اسبانيا ومصر لم تكن

الممالك التي دانت لهم تحتوي الأشر ذمة قليلة من العرب الأقحاح. وأنت فدع جانبا الغارات وغيرها من الأسباب العديدة التي أدت إلى سقوط العرب واعلم أن مجرد تزاوجهم بالأمم كما بيناه لك كان كافياً وحده لتقرير هذا السقوط. وأمامنا مثال لذلك نستمده من حال مراكش فإن الغارات هي التي أبقت على حياتها ولكن هذه الدولة على الرغم من ذلك قد هوت اليوم إلى ما يشبه نصف بربرية. بعد أن نعمت من قبل برقي ومدنية كانت من العظمة بحيث تنافس مدنية أسبانيا ورقيها. وإن سيادة المغاربة. وفوق ذلك تزاوجهم المستمر بالعنصر الزنجي هما اللذان هبطا بمستوى تلك المدينة جد الهبوط. وقد زعم الناس أن المستقبل كان لنتاج هذا التزاوج. وذلك أمر محتمل جائز. ولكني لا أرضاه للأمم التي تريد أن تحتفظ بمكانتها في العالم وتحرص على مستواها بين أترابها من الأمم والشعوب.

تاريخ النزاع بين العلم والدين

تاريخ النزاع بين العلم والدين النهضة العلمية عند العرب نعود اليوم فنلخص للقارئ في السطور الآتية فصلاً جليل الشأن مستفيضاً من فصول ذلك الكتاب القيم تاريخ النزاع بين العلم والدين للدكتور البحاثة جون ويليم دريبر. وهو الفصل الذي يحتوي الكلام على الروح العلمية عند العرب وأسبقيتهم الغرب في وضع أساس العلوم وقواعدها. وهو يكاد يكون من الكتاب واسطة عقده. يقول الدكتور ويليم دريبر: إن الصداقة التي جرت بين عمرو بن العاص فاتح مصر وبين حنا النحوي. لندل على مبلغ استعداد الذهن العربي لقبول الآراء الحرة. والأفكار المطلقة. وإن وثبة ذلك الذهن من عبادة الأوثان إلى دين الوحدانية الذي جاء به محمد قد هيأت له من العلم كل سبب. وأفسحت له ميادين الفلسفة والأدب. وكان أكبر معين على ذلك عقيدة القضاء والقدر التي نزل بها القرآن. ومؤادها أن ليس في مقدرة أحد من البشر أن يعجل أو يؤخر يومه المحتوم. وإن الموت يدركنا وإن كنا في بروج مشيدة. ولا تدري نفس بأي أرض تموت. لا يعلم ذلك إلا الله فالمسلمون هم الخاضعون لإرادة الله المذعنون لقضائه. وهم يجمعون بين مذهبي التسيير والتخيير بقولهم انا أعطينا صورة الحياة فعلينا أن نلومها كما نشاء. ويقولون أننا إذا تغلبنا على القوانين الطبيعية فلا ينبغي لنا أن نقاومها. وإنما يجب أن نوازن بينها ونكافئ. فكان من هذه العقيدة المظلمة أن أعدت أربابها والمستمسكين بها إلى النهوض بأعمال كبار وإنجاز مآثر عظام. وقد شهدت ما كان من العرب وكبرى فعالهم إذ ردت اليأس فيهم اعتزاماً واستماتة. وعلمتهم احتقار الأمل. والسخرية من باطل الأماني. ومن هذا يتبين لك الفروق بين الأمم المسيحية والإسلامية فقد كان المسيحي مقتنعاً بوجود تداخل مستمر في قضاء الله. وكان يعتقد أن ليس هناك ما يسمى بقوانين طبيعية يسير عليها الكون. بل قد يستطيع بصلواته ودعواته وتضرعاته أن يجعل الله بغير له نظام الأمور. فإذا لم تفلح دعواته عند الله ولم تتقبل صلواته وتسبيحاته. فقد تفلح عند المسيح أو العذراء أو القديسين. أو بتأثير المخلفات. وبركة الرفات وعظام الصالحين. فإذا لم تغن عنه أبتها لأنه. فقد يفوز بقضاء أربته بتوهط القسيس أو غيره من رجال الدين. ولاسيما

إذا استعان على ذلك ببدر المال وبالتحف والطرف والنفحات. وكانت المسيحية تعتقد أن في ميسورها أن تغير الأمور عن مجراها الطبيعي. ولكن أساس الإسلام الرضي بسنة الله. ولن تجد لسنته تبديلاً. ولم تكن صلاة المسيحي إلا دعوات لأماني يطلبها. وعلالات يرجوها. وما كانت صلاة المسلم إلا إخلاصاً لله وشكراً على سالف أنعمه وفارط هباته. وكانت تطورات العالم في نظر المسيحي إن هي إلا عوارض فجائية لا تتبع قانوناً ولا تسير على سنة. أما في نظر المسلم فعلى النقيض من ذلك. فكل حركة مادية في رأيه نتيجة حركة سبقتها. وكل فكرة وليدة فكرة تقدمتها. وكل حادث تاريخي نتاج حادث تاريخي انفرط قبله. وكل عمل إنساني منشأ عمل إنساني آخر. ولم يحدث في تاريخ البشر حوادث فجائية مطلقاً. بل كان هناك تتابع بين الحوادث وتلاحق لا مرد لهما ولا متأخر. لأن القضاء سلسلة حديدية. حلقاتها الحقائق. كلها يلزم مكانه الذي وضع فيه. ولم تضطرب منها يوماً خلقه. ولم تنتقل عن مكانها المسكين. وإن كل إنسان خرج إلى العالم دون علمه. وسيرحل عنها دون رغتبه. فليستسلم إذن ولينظر ما يكنه له الغيب في عالمه. ثم انتقل الفيلسوف دريبر إلى التطور الذي حدث للعرب فقال وما كان أسرع انتقال عصبية العرب ونعرتهم الدينية إلى حب الأعمال الذهنية. فإنه لم يكد ينفرط بعد وفاة النبي عشرون عاماً حتى ظهر هذا الميل الأدبي بأجلى أشكاله في الشام والفرس وآسيا الصغرى ومصر وقد كان علي بن أبي طالب في ذلك العهد خليفة المسلمين فحث الناس على طلب العلوم والآداب بجملة أصولها وفروعها. وجاء على أثره معاوية رأس الدولة الأموية عام 661 من الميلاد فقلب نظام الحكومة وجعلها ورانية وكانت من قبل انتخابية في الغرب. وعاش ثم عيشة الأبهة والرفاهية والنعمة وكسر قيود التعصب، ونصب نفسه نصيراً للأدب وراعياً، وهذا الانقلاب العجيب. والتطور المدهش الغريب وليداً ثلاثين عاماً. وما كان أشد الفرق بين حال عمر بن الخطاب يوم وجد نائماً على سلم جامع المدينة وبين معاوية. والوفود تدخل عليه في قصر منيف. ازدان بالحلي والنقوش. وحف بالبساتين والجنات. وتجمل بنوافير الماء وعذب البركات. وما كان يمضي زهاء قرن من يوم وفاة النبي حتى كثرت المعربات من تآليف أشهر كتاب اليونان الأقدمين. ولما كانت قصيدة الألياذة والأوذيسيا تعدان زيغاً في الدين وخرافة. لما

جاء بها من أوهام الأغريق القديمة وخرافاتهم وخزعبلاتهم. فقد اكتفى العرب بترجمتها إلى السوريانية لينفقوا غلة الباحثين منهم والمستطلعين. ونقل المنصور (753 - 775م) مقر حكومته إلى بغداد. وقد جعلها حاضرة زاهية زاهرة وصرف كثيراً من زمانه في دراسة علم الفلك والدأب في تقدمه وتهذيبه. وأسس مدارس للطلب ومعاهد للشريعة. واحتذى حفيده الرشيد (786م) حذوه. واقتفى أثره. فأمر أن يلحق بكل مسجد مدرسة. ولكن العهد الأوغسطي في بلاد العرب لم يكن إلا عهد الخليفة المأمون (813 - 832م) إذ جعل بغداد مقراً للعلم ومهبطاً. وجمع المكاتب الكبرى وقرب إليه البحاثة وأدنى من جانبه العلماء. هذا وقد استمر الارتقاء العلمي حتى انقسام الدولة العربية إثر الخلافات الداخلية إلى ثلاثة أجزاء. الدولة العباسية في آسيا والفاطمية في مصر. والأموية في اسبانيا. وأصبحت هذه الدول الثلاث تتنافس في الآداب والعلوم تنافسها في السياسة والملك. أما في الأدب فإن العرب طرقوا من أبوابه كل ما يهذب الذهن ويبهج الروح. وقد كان فخرهم في عهودهم الأخيرة إنهم أخرجوا من الشعراء ما لم تخرجه أمم العالم مجتمعة. وأما في العلم فكل مقدرتهم تنحصر في أنهم هذبوه على مثال اليونانيين الإسكندريين. لا على مثال اليونانيين الأوروبيين. إذ رأوا أن العلم لا يتقدم آخر الدهر بمجرد النظريات بل بالبحث العملي في قوي الطبيعة وأسرارها. وأكبر مميزات طريقتهم العلمية التجربة والاستقراء. فأما الهندسة والعلوم الرياضية فقد عدوها وسائل لاتساع الذهن وتقوية التصور والتعقل. وإنك لتشهد في عديد مؤلفاتهم في الميكانيكا وعلم الهيدر وستاتك أي علم نواميس التوازن في السوائل وعلم الضوء إن حل مسألة أو مشكلة تختص بعلم من هذه العلوم لم يكن إلا بإقامة تجربة أو باستقراء آلي. ومن ذلك كان العرب واضعي علم الكيمياء. وتوصلوا به إلى اختراع كل أنواع المعدات لمسائل التقطير والإذابة والتصعيد وغيرها. وقد أدى كل ذلك إلى أن استعانوا في علوم الفلك بالآلات الدقيقة المتحللة كالأسطرلاب ومقياس الزوايا وإلى استعمال الميزان وكانوا أعلم بنظرياته وأخبر. وإلى إنشائهم مراصد للفلك مثل التي كانت في بغداد واسبانيا وسمرقند. وانتهى بهم ذلك إلى تقدمهم في الهندسة وحساب المثلثات وإلى اختراع علم الجبر واتخاذ الأرقام الهندية في الحساب - تلك هي النتائج التي نشأت من اختيارهم الطريقة الاستنباطية التي سنها أرسطو واجتنابهم أحلام

أفلاطون نظرو. ولكي تكثر خزائن الأسفار. وتحفل المكاتب بالتواليف الكبار. دأبوا في جمع الكتب واقتنائها. وقد روى عن الخليفة المأمون أنه جاء إلى بغداد بمئات من النوق تحمل الكتب الخطية المأثورة. ولما عقد الصلح بينه وبين ميشيل الثالث كان من شروطه أن تدفع إليه خزانة من خزائن القسطنطينية. فكان من بين الأسفار التي نالها رسالة بطليموس في الرياضة السماوية. فدفعه إلى المعربين فعرب باسم المجسطي وقد بلغ عدد الكتب المدخرة في المكاتب مبلغاً عظيماً. إذ كانت مكتبة القاهرة تحتوي مائة ألف مجلد. منها ستة آلاف وخمسمائة في الطب والفلك وحدهما. وكانت قوانين هذه المكاتب تبيح للمتعلمين والدارسين من أهل القاهرة استعارة الكتب وتجيزهم قراءتها. وقد حوت هذه المكتبة كذلك كرتين الأولى من فضة والأخرى من نحاس. وقد قيل أن النحاسية منهما هي الكرة التي صنعها بطليموس. وأما مكتبة خلفاء الأندلس فقد بلغت مجلداتها ستمائة ألف حتى أن فهارسها استنفدت أربعة وأربعين كتاباً. وقد كان في الأندلس فوق ذلك سبعون مكتبة عمومية. وبلغت المجاميع والكتب التي في حوزة الأفراد العدد الكبير والمقدار الطائل. وقد روى أن طبيباً رفض دعوة سيلطان بخاري لأن حمل أسفاره يتطلب أربعمائة من الإبل: وقد أعد في كل مكتبة مكان للنسخ والتعريب والتأليف. وقد كان لحونيان الطبيب مكان خاص بالترجمة في بغداد (850م) وقد أصدر منها مترجمات عدة لأرسطو وأفلاطون وأبقراط وجالينوس وأضرابهم. أما التواليف فقد كانت العادة أن يسأل طلبة الجوامع أساتذتهم أن يضعوا لهم رسائل في الموضوعات والعلوم التي كانوا بحاجة إليها. وكان لكل خلفة مؤرخ مخصوص. وإن كتب العشق والقصص أشباه ألف ليلة وليلة خير شهيد بما كان للعربي من قوة الخيال. وقد وضعوا أسفاراً كبرى في التاريخ والفقه والسياسة والفلسفة والتراجم. ولم تكن هذه الأخيرة مقصورة على تراجم المشهورين منهم بل ومشهور الخيل والإبل والنوق. ولم يضعوا فوق التآليف رقيباً. وإن كانوا عمدوا في العهود الأخيرة إلى مراقبة الكتب الدينية فلم يأذنوا بنشرها إلا بعد ترخيص. وكثرت ندبهم المراجع الجغرافية والتاريخية والإحصائية والطبية. وكثرت المعاجم ومختصراتها كمعجم العلوم لمحمد بن عبد

الله. وكانوا يعنون بصقل ورق الكتب وجودته ونصاعة بياضه. ويؤثرون تخلل أنواع المداد في سطور الكتاب وسلالة. وتذهب العناوين ورؤوس الأبواب والفصول وتحليتها بالرسوم والنقوش. وكانت الدولة العربية من أقصاها إلى أقصاها حافلة بالمدارس والجامعات. في المغول والتتر والفرس والعراق والشام ومصر وأفريقية ومراكش وفاس وأسبانيا. ففي أقصى حدود هذه الدولة العظيمة التي فاقت الدولة الرومانية في اتساع ملكها وترابى نواحها قامت جامعة سمرقند وفي الحدود الأخرى جامعة جيرالدة في اسبانيا وقد قاتل جيبون في عرض كلامه على رعاية الخلفاء للعلم وأخذهم بناصر الأدب كان أمراء الأقاليم والولايات المستقلون في حق الرعاية كالخلفاء. وكان من مباراتهم بعضهم بعضاً ن انتشرت روح العلم بين سمرقند وبخارى وبين فارس وقرطبة، وكان من ذلك أن وزيراً من الوزراء (هو نظام الملك) أفرد من ماله مائتي ألف دينار لتأسيس جامعة في بغداد. يهبها في كل عام خمسة عشر ألف دينار. وكان الذين يتلقون فيها العلم ستة آلاف طالب. وكانت يجرى على فقراء الطلاب ومحاويجهم الصلات والأعطيات الكافية. وكانت الأساتذة تتناول أجوراً وفيرة. وكان الداعي إلى جمع الأسفار ونسخها في كل مدينة حب الاستطلاع من فريق المتعلمين والمجتهدين. والزهور والمحمدة من فريق السراة والأغنياء. وكانت تفوض رعاية هذه المدارس والجامعات في بعض الأحايين إلى النسطوريين وفي أحيان أخر إلى اليهود، وكانوا يجزونهم الجزاء الأوفر، ويرفدونهم الرفد الأكبر، ولم يعتدوا بأي البلاد فيها ولد الطالب، ولا في أية عشيرة نشأ، ولا أي دين يعتنق. وأية آراء دينية يرى، ما دام العلم طلبته، والرغبة في التعلم حاجته. وسارت الجامعات على مثال الجامعة الطبية التي كانت في القاهرة فكانت لا تخرج الطالب إلا بعد تأدية امتحان شديد دقيق. فإذا جازه الطالب أبيح له الاحتراف بصناعة. وأول مدرسة طبية أنشئت في أوروبا هي المدرسة التي أسسها العرب في ساليرن (سالرنو) من بلاد إيطاليا. وأول مرصد فلكي مرصدهم الذي أقاموه في اشبيلية من بلاد إسبانيا. ولو شئنا أن نبين للقارئ نتائج هذه النهضة العلمية المدهشة لما اتسع نطاق هذا الكتاب، بل نقول إن العلوم القديمة تقدمت على أيدي العرب وتهذبت. وأخرجوا كذلك علوماً حديثة

طريفة. اخترعوا علم الجبر ووضعوا أساسه وقواعده بعدد يوفنتوس. واخترع محمد بن موسى حل المعادلات التي من الدرجة الثانية، واخترع عمر ابن إبراهيم حل المعادلات التي من الدرجة الثالثة. والعرب هم الذين ابتدعوا حساب المثلثات وجعلوه على ما ترى منه اليوم. وتركوه علماً منفصلاً مستقلاً. ووضع ابن موسى المذكور رسالة في حساب المثلثات الدائرية وألف البغدادي رسالة أخرى في مساحة الأرض كانت على نصيب وافر من المتانة والسداد والافتنان حتى قال قوم إنها نسخة منقولة عن كتاب أوقليدس في هذا الموضوع. ولم يقتصروا في علم الفلك على تأليف الفهارس وإنما وضعوا كذلك مصورات للكواكب والنجوم. وسموا الكبرى منها بالأسامي العربية التي نراها حتى اليوم في كراتنا السماوية. وحققوا حجم الأرض، وحددوا طول السنة وعدد أيامها. وقد عنى الفلكي الكبير لابلاس برسالة لفلكي منهم سماها علم الكواكب. وحلها من الاعتداد محلها. وكذلك لفت لابلاس الأنظار واسترعى اهتمام علماء الفلك إلى الرسالة الخطيرة التي ألفها ابن يونس المصري في عهد الحاكم بأمر الله (سنة 1000م) لأنها احتوت كثيراً من دقائق الملاحظات منذ عهد المنصور في الكسوف والخسوف والاعتدال الربيعي والخريفي ومخانس النجوم والبروج والمنازل. وقد توفر الفلكيون من العرب على عمل الآلات الفلكية العديدة. وتركيبها وقياس الزمن بواسطة الساعات المختلفة الأنواع والأشكال. وكانوا كذلك أول من اخترع البندول. وأما في العلوم العملية فهم أول من وضع مبادئ الكيمياء الحديثة وأول من اخترع حمض النيتريك وحمض السلفيوريك (الكبريت) والكحول. وأول من استعانوا بالكيمياء على تركيب الأدوية. وأول من استعملوا الصيدليات. وأعدوا بها المعدات الكيماوية. وبعد أن أفاض الدكتور دريبر في بيان نتائج هذه النهضة العلمية والإصلاحلات والاختراعات التي أحدثتها العرب في جميع العلوم ووضعوها اختتم بحثه بهذه الفقرة: قال: وكذلك كانت تلقن في مدارسهم مذاهبنا الحديثة في النشوء والتطور والارتقاء. بل إنهم ذهبوا بها إلى أبعد ما نذهب نحن فأجروها أيضاً على الأجسام المعدنية والأجسام غير العضوية. واسمع الآن ما يقول الخازني في القرن الثاني عشر من الميلاد. عندما يسمع العامة من الفلاسفة الطبيعيين إن الذهب جسم بلغ حد الكمال والارتقاء.

يعتقدون جد الاعتقاد أن الذهب لم يصل إلى حالته تلك إلا بتنقله بين أنواع الأجسام المعدنية كلها أي كانت طبيعته الذهبية من قبل رصاصاً. ثم صارت بعد ذلك قصديراً فنحاساً ففضة حتى بلغت درجة الذهب. وكأني بهم لا يعلمون إن الفلاسفة الطبيعيين يريدون بقولهم ذاك ما يريدون بقولهم إن الإنسان بلغ حد الكمال والتوازن في طبيعته وتركيبه. فليس معنى ذلك أن الإنسان كان يوماً عجلاً. فصار حماراً. فغدا حصاناً. فأضحى بعده قرداً. حتى صار في النهاية إنساناً.

شذرات من فلسفة نيتشه

شذرات من فلسفة نيتشه لعل القراء يذكرون الفصل الذي جاء في العدد الثاني والثالث من السنة الثانية يتضمن الكلام على فلسفة نيتشه وإلا طافة بشيء من ترجمته. وبعض شذرات اقتطفت من فجره. واليوم جئنا نعاود الاقتطاف من هذه الفلسفة الحارة المتأججة. والآراء المضطرمة المستعرة. ثمرات هي وإن مجت مرارة وعلقماً وصبراً، خير من تلك الآراء الهادئة الحلوة التي يسترطها المتناول. فلا تكاد تستقر في جوفه حتى ينمي حلاوتها. وليست الآراء المريرة إلا أملاحاً تزيل من جوف متناولها عتيق آراءه. وجامد أفكاره. وهي وإن لم تصادف الرضى والقبول، لا تستحق الكره ولا تستأهل الجفوة والأعراض. النساء ـ: كل ما في المرأة لغز. لا يطلب إلا حلاً واحداً. ذلك ما يسمونه بالحمل الرجل للمرأة واسطة. غايتها الطفل. ولكن ما مكان المرأة من الرجل؟ كل رجل صادق الرجولة حقيقيها. يروم مطلبين مختلفين. الخطر واللهو - فلذلك يطلب المرأة كأشد اللعبات خطراً. ليدرب الرجل على القتال ويمرن. ولتعلم المرأة على أن تكون ملهاة للرجل ومنعمة فكل ما عدا ذلك سخف وحماقة وجنون. لا يستطيب الرجل المقاتل الثمار الشديدة الحلاوة ولا يستعذ بها. فلذلك يحب المرأة. لأن أحلى النساء مذاقاً. وأعذبهن مساغاً. لا تبرح مرة المطعم. المرأة أعلم من الرجل بالأطفال. ولكن الرجل أشد طفولة من المرأة. إن في الرجل لطفلاً مختبئاً يريد أن يلعب فأقبلن أيتها النساء واكتشفن لي الطفل الكامن في الرجل. إلا فلتكن المرأة لعبة للرجل نقية. صافية. دقيقة كالجوهرة. تألق بسنا فضائل عالم لم يحن بعد حينه. ولم يأن أوانه. ليسطع في حبكن. يا جماعة النساء. أشعة هذا النجم الزاهي. دعن أملكن يقول ليتني ألد الإنسان الأعلى!. ولتجعلن الشجاعة رفيقة حبكن. وليكن في حبكن شرفكن. فإن المرأة قل ما تفهم الشرف في غير الحب. ولكن ليكن شرفكن في أن تحبين أكثر من أن تحبين ولا تكن في الحب إلا السابقات. ليخش الرجل المرأة إن هي حبت. فإنها إذ ذاك تضحي كل شيء. وتعد كل شيء غيره

تافهاً لا قيمة له ولا قدر. وليخف الرجل المرأة إن هي أبغضت. فالرجل شرير في صميم نفسه. ودخيلة روحه. ولكن المرأة بجملتها شريرة فاجرة سافلة. من هو أكره للآخر وأبغض؟ - إلا فاسمع ما يقول الحديد للمغناطيس أنا الذي أكره لك وأبغض. لأنك أنت الذي تجتذب. وإن كنت أضعف من أن تشدني إليك وتجر. . إن سعادة الرجل في أن يقول أنا الذي أريد وسعادة المرأة هو الذي يريد. إلا فانظروا. الآن أصبح العالم كاملا! كذلك تظن كل امرأة يوم تذعن بكل حبها وتستسلم. يجب على المرأة أن تطع. بل يجب عليها أن تجد لملئها غوراً. لأن روح المرأة اديم متحرك متنقل. غشاء مظلم معتم. فوق ماء قريب الغور دانية. ولكن روح الرجل عميقة غائرة يفيض آذيها من منابع وأجحار ومغاور ضنية تتخيل المرأة قوتها. ولكنها لا تستطيع لها فهماً. الزواج والنسل - لي سؤال أريد أن ألقيه عليك وحدك. أريد أن ألقي بسؤالي أنا في أعماق نفسك. مسبار أاسبر به غور روحك. أنت اليوم فتى في ميعة الشباب. وعفرة الصبا. وتريد طفلاً. وتروم زوجاً. لكني أسألك هل أنت بالرجل الحري بالزواج. الخليق بالذراري والأطفال؟. أنت الرجل القوي المنتصر الهازم نفسه. القاهر فوق شهواته. المهيمن على عواطفه. المتغلب على فضائله - ذلك سؤالي إليك ومستفسري. أم هو الحيوان ينفث في رغبتك. أم هي الضرورة. أم العزلة. . أم النزاع؟. إنك ستبني فوقك وتشيد. ولكن قبل أن تبني يجب أن تبني أنت جثماناً وروحاً. إنك ستزيد في نفسك وتنميتها وتكبرها. لا إلى الإمام فقط. ولكن إلى فوق. حيث جنة الزواج تعينك على بنياتك. وليتها تساعدك في تشييدك. ستخلق جسماً أرفع من جثمانك وأسمى. وأشهق من بنياتك وأعلى. ستخلق طوقاً خالفاً. وما الزواج عندي إلا رغبة الزوجين في خلق وليد هو أكبر وأسمى من خالقيهما. أما الزواج إلا الاحترام المتبادل بين الزوجين لتحقيق هذه الرغبة. فليكن هذا معنى الزواج وحقيقته. ولكن ماذا أسمي ما يدعوه أولئك الكل زواجاً؟.

بلى أسميه أجداب الروح في الزوجين. بل اسميه قذارة الروح في الاثنين، اسميه لذة يرثي لها في البعلين. كلهم يسمون هذا زواجاً. وكلهم يقولون إن زواجهم يقضي في السموات. ولكني أحب سماء هؤلاء الحيوانات المشتبكة في مسائل السموات. لا تضحكوا لهذا الزواج. فأي طفل لا يحق البكاء على والديه؟. إن في هذا الرجل لسعت خير وعنوان فضل. وإنه لناضج لمعنى الأرض. على أني ما كدت أرى زوجته حتى تبدت لي الأرض كأنها دار المتهوسين المجانين. بلى. إني لأوثر أن تهز الأرض رجفة. أو تأخذ الأرض صيحة. إذ أرى الرجل القديس لأوزة بعلاً!. هذا مضى يطلب الحق وينشده. فرجع آخر نجعته يحمل كذبة مزخرفة. يسميها زواجاً. وهذا راح يطلب فتاة لها صفات الملائكة. فلم يصبح إلا وهو وصيف لامرأة. ولا يزال يريد أن يصير هو ملكاً. كم من حماقات قصيرة تسمونها أنتم حباً. فيأتي الزواج فيرد هذه الحماقات القصيرة جنوناً واحداً مستطيلاً. حاجة الحق إلى القوة، ليس الحق بقوة في ذاته. وإن قال لك أولئك الجدليون الثرثارون المالقون نقيض ذلك. ينبغي للحق أن يجتذب القوة إلى جانبه. وأما إن يركن هو إلى جانبها. وإلا كان نصيبه الموت والفناء. وقد شوهد صدق ذلك بما هو أكثر من الكفاية والغناء. الصدق - كثيرون من الناس صادقون، ليس لأنهم يخجلون من إظهار عواطف النفاق والافتراء وإنما لأنهم لا يستطيعون أن ينجحوا في تحريض غيرهم على التصديق بفاقهم ولما كانوا قليلي الثقة بمقدرتهم التمثيلية آثروا سهولة تمثيل الصدق.

ابن الرومي

ابن الرومي (تابع الكلام على حياته) ومن قوله أيضاً: يا ابن حرب كسوتني طيلساناً ... يزرع الرفو فيه وهو سباخ عد ملياً قد ناطح الدهر حتى ... كل أركانه بهن انفاخ مات نساجه ومات بنوهم ... وبدا الشيب في بنيهم وشاخوا طيلسان إذا تداعت خروق ... بين أتنائه لهن صراخ سرني صوته وقلت لصحبي ... لم يصوت إلا وفيه طباخ تستمر الصدوع طولاً وعرضاً ... فيه حتى كأنهن رخاخ ومنه أيضاً يستهدي كساء: يا من عكفنا عليه لاذين به ... فما عكفنا على بدر ولا وثن أعاذك الله من حال تماطلني ... لضيقها بكساء تافه الثمن أنظر إلى هذه الدنيا وزينتها ... تر المكارم فيها زينة الزين فاكس ابن شكرك ما يبلى على ثقة ... أن سوف يكسوك ما يبقى على الزمن فهذا وما سبق من مثله خليق أن يريك مبلغ فاقته ورقة حاله وخصاصته، وإذا ذكرت أنه ربما لزم كسر بيته أياماً لا يخرج فيها ولا يتصرف، وحوله صبية غرائي قد أخذتهم أموة الجوع، يشربون على ريقه النفس وما غلوا شرابهم بشيء وهو يخشى أن يبرح بيته مخافة أن يفجأه مالا يطيق احتماله. والناس لا يرحمون ضعفه ولا يرفقون به. ولا يكفون عن التضاحك منه والعبث به. فمن هازل يتداعب به ويعيبه بمشيته. ومن لئيم يزعم أنه عنين ويرميه بأنه مخنث. ومن حاسد يعيب شعره ليهيجه وهو ينفشه عليه. وإنه ربما رق له جيرانه وحنوا عليه فبعثوا له بشبعة من طعام وشربة من ماء. وإنه كان يمدح أهل الثراء فلا يفيد سوى الرد. ويستصرخ بذوي الغنى واليسار فلا يغنون عنه قلامة ظفر. إذا ذكرت ذلك لم تستغرب قولنا في مفتح هذا الفصل إننا لا نعرف رجلاً أصابه ما أصابه ولا عظيماً تهاون به الناس حياً وميتاً ألا هو. على أنه لو لم يكن عظيماً وكان من أجلاف عصره وهمجهم لعجبنا كيف يجوع ويظمأ. ولاستغربنا كيف يخلو عصر من أهل المروءة

والأريحية. فكيف وهو أشعر أهل زمانه. والموفي على أقرانه؟. روى أبو إسحق الحصري في زهر الآداب قال قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي كنت جالساً بداري فإذا حجارة سقطت بالقرب مني فبادرت هارباً وأمرت الغلام بالصمود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا الحجارة فقال امرأة من دار ابن الرومي الشاعر قد تشوفت وقالت اتقوا الله فينا واسقونا جرة من ماء وإلا هلكنا فقد مات من عندنا عطشا. فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة أن تصعد إليها وتخاطبها ففعلت وبادرت بالجرة وأتبعتها شيئاً من المأكول ثم عادت إلى فقالت: ذكرت المرأة (التي في دار ابن الرومي) أن البيت مقفل عليها من ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي فتعجبت من حديثها. على أن شعره حافل بالشكوى مما لقيه في حياته من أذى الناس وصرف الأيام وعنت الليالي ولو نحن أردنا استقصاء ذلك لاحتجنا أن تنقل أكثر ديوانه ولكنا تجترئ باليسير من ذلك فمنه قوله: ويح القوافي ما لها سفسفت ... حظي كأني كنت سفسفها ألم تكن هوجا فسددتها ... ألم تكن عوجاً فتقفها كم كلمات حكت أبرادها ... وسطها المن وطرفتها ما أحسنت إن كنت حسنتها ... ما ظرفت إن كنت ظرفتها أنحت على حظي بمبراتها=شكراً لأني كنت أرهفتها فرفقته حين وقفتها ... وهفهفته حين هفهفتها وكتفت دون الغنى سدها ... حتى كأني كنت كنفتها أحلف بالله لقد أصبحت ... في الرزق أفتني وما إفتها لم أشكها قط بتقصيره ... فيها ولا من حيفة حفتها حرمت في سني وفي ميمتي ... قراى من دنيا تضيفتها لهفي على الدنيا وهل لهفة ... تتصف منها أن تلهفتها كم آهة لي قد تأوهتها ... فيها ومن أف تأففتها أغدو ولا حال تسنمتها ... فيها ولا حال تردفتها أوسعتها صبراً على لؤمها ... إذا تقصته تطرقتها

وقوله يذم الزمان وأهله: ذهب الذين تهزهم مداحهسم ... هز الكماة عوالي المران كانوا إذا امتدحوا رأوا ما فيهم ... فالأريحية منهم بمكان والمدح يقرع قلب من هو أهله ... قرع المواعظ قلب ذي إيمان كم قائل لي منهم ومدحته ... بمدائح مثل الرياض حسان أحسنت ويحك ليس في وإنما ... استحسن الحسنات في ميزاني وقوله من قصيدة يمدح بها إسماعيل بن بلبل الشيباني: أمثل شعري يلوى حقه وله ... عليك من شيمك المحمود وأعوان مالي لديك كأني قد زرعت حصي ... في عام جدب وظهر الأرض صفوان أعايذ بك يستسقى بمعطشة ... وفي يمينك سبحان وجيحان وبي صدا وبحلفي غصة برح ... فاعجل بغوثك إن الريث خذلان إلى قوله: إن لا يعني على دهري أخو ثقة ... من العباد فإن الله معوان أو يبطل الحق بين الناس كلهم ... فليس للحق عند الله بطلان وقوله: عجبت لقوم يقبلون مدائحي ... ويأبون تنويبي وفي ذاك معجب أشعري سفساف فلم يجتنبونه ... وإلا تكن هاتي قلم لا أثوب وقوله: أبا الصقر لست أرى مهديا ... لك المدح غيري إلا متابا ولو وقف الأمر عند حد الفقر والخصاصة لقلنا فقير معدم أمثاله في الأرض كثير لا يحيط بهم حساب في كل زمان ومكان. وما زالت تلك حال الأديب. يقبل على الأدب فتعرض عنه الدنيا ويدبر عنه المال والنشب. ولكن الأمر لسوء طالعه قد جاوز الأملاق والفاقة إلى ما هو شر من ذلك وأصعب. وفي الفصل الآتي بيان ذلك وشرحه. فصل في طيرة ابن الرومي وتعليلها تذكر في هذا الباب جملة من أخبار ابن الرومي وطرفاً مما اتصل بنا عن طيرته ثم تقفى

عليها بعد سردها برأينا في الطيرة وتعليلها: قالوا كان ابن الرومي مفرط الطيرة شديد الغلو فيها. وكان من عادته أن يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ. ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه فيضع عينه على ثقب في خشب الباب فتقع عينه على دار له كان نازلاً بإزائه وكان (أي جاره) أحدب يقعد كل يوم على بابه فإذا نظر إليه ورجع وخلع ثيابه وقال لا يفتح أحد الباب. وفي هذا الأحدب يقول: قصرت أخادعه وطال قذاله ... فكأنه متربص أن يصفعا وكأنما صعقت قفاه مسرة ... وأحس ثانية لها فتجمعا وقال علي بن عبد الله بن المسيب: كان ابن الرومي يحتج للطيرة ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة. افتراه كل يتفاءل بالشيء ولا يتطير من ضده ويقول إن النبي مر برجل وهو يرحل ناقة ويقول يا ملعونة فقال لا يصحبنا ملعون. وإن علياً رضي الله عنه كان لا يغزو غزاة والقمر في العقرب. ويزعم أن الطيرة موجودة في الطباع قائمة فيها. وإن بعض الناس هي في طباعهم أظهر منها في بعض. وإن الأكثر في الناس إذا لقي ما يكرهه قال على وجه من أصبحت اليوم. فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين (ومائتين) وقد أهدى إلىَّ عدة من جواري الفيان وكانت فيهن صبية حولاء وعجوز في إحدى عينيها نكتة. فتطير من ذلك ولم يظهر لي أمره. وأقام باقي يومه فلما كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لي من بعض السطوح فماتت وجفاه القاسم بن عبيد الله (وزير المعتضد) فجعل سبب ذلك المغنيتين وكتب إلى: أيها المحتفى بحول وعور ... أين كانت عنك الوجوه الحسان قد لعمري ركب أمراً مهينا ... ساءني فيك أيها الخلصان فتحك المهرجان بالحول والعو ... رأرانا ما أعقب المهرجان كان من ذاك فقدك ابنتك الحر (م) ... ة مصبوغة بها الأجفان وتجافي مؤمل لي خليل ... لج فيه الجفاء والهجران وعزيز علي تقريع خل ... لا يدانيه عندي الخلان غير أني رأيت أذكاره الحزم ... وإشعاره شعاراً يصان لا تهاون بطيرة أيها النظيا ... ر واعلم بأنها عنوان

قف إذا طيرة تلقتك وانظر ... واستمع ثم ما يقول الزمان فلما غاب من أمورك عنوان (م) ... مبين وللزمان لسان لا تصدق عن النبيين إلا ... بحديث يلوح فيه البيان خبر الله أن مشأمة كانت (م) ... لقوم وخبر القرآن أفزور الحديث تقبل أم ما ... قاله ذو الجلال والفرقان أترى من يرى البشير بشيراً ... يمتري في النذير ياوسنان وكان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في عصر ابن الرومي شاباً مترفاً ومليحاً مستظرفاً وكان يعبث به فيأتيه بسحر فيقرع الباب فيقال له من فيقول قولوا لأبي الحسن (يعنى ابن الرومي) مرة بن حنظلة فيتطير لقوله ويقيم الأيام لا يخرج من داره وذلك كان سبب هجائه إياه فمن أول ما عاتبه به قوله: قولوا لنحوينا أبي حسن ... إن حسامي إذا ضربت مضي أعرف بالأشقياء بي رجلاً ... لا ينتهي أو يصير لي غرضا يليح لي بالسلامة والسلم (م) ... ويخفي في قلبه مرضا قال فقلنا ثم استقال فأع ... فيناه ثم استحال فانتفضا وليس تجدي عليه موعظتي ... إن قدر الله حينه وقضي كأنني بالشقي معتذراً ... إذا القوافي أذقنه المضضا لا يأمنن السفيه بادرتي ... فإنني عارض لمن عرضا عندي له السوط أن تلوم في السير=وعندي اللجام إن ركفنا فاعتذر إليه وتشفع عنده بجماعة من أهل بغداد فقبل عذره ومدحه بقصيدته التي يقول فيها: ذكر الأخفش القديم فقلنا ... إن للأخفش الحديث لفضلا وإذا ما حكمت والروم قومي ... في كلام معرب كنت عدلا ثم عاد إلى أذاه واتصل به أن رجلاً عرض عليه قصيدة من شعره قطعن عليها فقال قصيدته التي يقول فيها: لا يلمني جارم سطوت به ... من زرع الشر عامداً حصده جعلت عدل القصاص ملتحدي ... فليكن البغي ثم ملتحده

كذلك إني خلقت ذا لدد=حتى أرى الخصم تاركاً لدده لاسيما من عفوت عنه قاطع ... ته أتاني وهيجت صيده سأسمع الناس ذمه أبداً=ما سمع الله حمد من حمده ولابن الرومي في الأخفش أفخاش كثيرة مثبتة في ديوانه. وكان أصحابه غير الأخفش يعبثون به أيضاً فيرسلون إليه من يتطير من اسمه فلا يخرج من بيته أصلاً ويمتنع من التصرف سائر يومه - وأرسل إليه بعض أصحابه يوماً بغلام حسن الصورة اسمه حسن فطرق الباب عليه فقال من قال حسن فتفاءل به وخرج وإذا على باب داره حانوت خياط قد صلب عليها ورقتين كهيئة اللام ألف ورأى تحتها نوى تمر فتطير وقال هذا يشير بأن لا تمر ورجع ولم يذهب معه. وروى بعضهم قال: بعثت بخادم لي يعرفه وأمرته يجلس بإزائه وكانت العين تميل إليه وتقدمت إلى بعض أعواني أن يدعو الجار الأحدب فلما حضر عندي أرسلت وراء غلامي لينهض إلى ابن الرومي ويستدعيه الحضور فإني لجالس ومعي الأحدب إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسي ومعه برذعة الموسوس صاحب المعتضد ودخل ابن الرومي فلما تخطى باب الصحن عثر فانقطع شع نعله فدخل مذعوراً وكان إذا فاجأه الناظر رأي منه منظراً يدل على تغير حال فدخل وهو لا يري جاره المتطير منه فقلت له يا أبا الحسن أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل فقال قد لحفني ما رأيت من العترة لأني فكرت أن به عاهة وهي قطع اثييه قال برذعة شيخنا يتطير قلت نعم وبفرط قال ومن هو قلت على بن العباس قال الشاعر قلت نعم أقبل عليه وأنشده أبياتاً منها: ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب فخذ خلسة من كل يوم تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح ... تطير جاز أو تفاؤل صاحب ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه فحلف ابن الرومي لا يتطير من هذا ولا من غيره وأومأ إلى جاره! ومن شدة حذره وعظيم تطيره قوله لأبي العباس بن ثوابة وقد ندبه إلى الخروج معه وركوب دجلة من قصيدة طويلة: ومن يلق ما لاقيت في كل مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب

أذاقتني الأسفار ماكره الغني ... إلى وأغراني يرفض المطالب ومن نكبة لاقيتها بعد نكبة ... وهبت اعتساف الأرض ذات المناكب فصبري على الأقتار أيسر مطلبا ... على من التغرير بعد التجارب لقيت من البر التباريح بعدما ... لقيت من البحر ابيضاض الذوائب سقيت على ربي به ألف مطرة ... شغفت لبغضيها بحب المجادب ولم أبغها بل ساقها لمكيدتي ... تلاعب دهر جد بي كالملاعب أبي أن بغيت الأرض حتى إذا رمت ... برحلى أتاها بالغيوث النواكب سقي الأرض من أجلي فأضحت مدلة ... تمايل صاحبها تمايل شارب فملت إلى خان ورت بناؤه ... مميل غريق النوب لهفان لاغب فما زلت في جوع وخوف ووحشة ... وفي سهر يستغرق الليل واصب يؤرقني سقف كأني تحته ... من الوكف تحت المزجيات الهواضب يظل إذا ما الطين أثقل متنه ... تضر نواحيه صرير الجنادب وكم خان سفر خان فانقض فوقهم ... كما نقض صقر الدجن فوق الأرانب وما زال ضاحي البر يضرب أهله ... بسوطي عذاب جامد بعد ذائب فإن فاته قطر وثلج فإنه ... رهين بساف ثارة ويحاصب فذاك بلاء البر عندي شاتيا ... وكم لي من صيف به ذي مثالب ألا رب نار بالقضاء اصطليتها ... من الضح بودي لفحها بالحواجب فدع عنك ذكر البر أني رأيته ... لمن خاف هول البحر شر المهارب ومازال يبغيني الخوف موارباً ... يحوم عل قتلي وغير موارب فطوراً يناديني بلص مصلت ... وطوراً يسميني بورد الشوارب وأما بلاء البحر عندي فإنه ... طواني على روع من الروح واقب ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بغضه ... ولكنه من هوله غير تائب ولم لا ولو ألقيت فيه وصخرة ... لوافيت منه النعر أول راسب ولم أتعلم قط من ذي سباحة ... سوى الغوص والمصفوف غير مغالب فأيشذ إشفاقي من الماء أنني ... أمر به في الكوز مر المجانب

وأينشي الردى منه على كل شارب ... فكيف بأمنيه على نفس راكب أخل إذا هزته ريح ولألأت ... له الشمس أفواجاً طوال الغرائب كأني أرى فيهن فرسان بهمة ... يليحون تحوى بالسيوف الغواضب فإن قلت لي قد يركب اليم طامياً ... ودجلة عند اليم بعد المذانب فلا عذر فيها لامرئ هاب مثلها ... وفي اللجة الخضراء عذر لهائب لطامن حتى تطرقن قلوبنا ... وتغضب من مزح الرياح اللواعب ولليتم أعذار بعرض متونه ... وما فيه من آذية المتراكب إبراهيم عبد القادر المازني

نوادر وملح وفكاهات

نوادر وملح وفكاهات كان الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر سيد كتاب العربية قصيراً دميماً جاحظ العينين مشوه الخلقة حبهم المنظر حتى قال فيه بعض الشعراء: لو بمسخ الخنزير مسخاً ثانياً ... ما كان دون قبح وجه الجاحظ حكي عن نفسه قال: ما أخجلني قط إلا امرأتان رأيت إحداهما في المعسكر وكانت طويلة القامة وكنت على طعام فأردت أن أمازحها فقلت انزلي كلي معنا فقالت اصعد أنت حتى ترى الدنيا معرضة بقصره - وجاءت إلى الأخرى وأنا على باب داري فقالت لي إليك حاجة وأنا أريد أن تمشي معي فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي فقالت له مثل هذا وانصرفت فسألت الصائغ عن قولها فقال إنها أتت إلي بفص وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان فقلت يا سيدتي ما رأيت الشيطان فأتت بك. وأتاه يوماً رجل فقال سمعت أن لك ألف جواب مسكت فعلمني منها فقلت نعم فقال إذا قال لي إنسان يا زوج الفاعلة يا ثقيل الروح أي شيء أقول له قال قل له صدقت: وطلب إليه شخص كتاباً إلي بعض أصحابه يوصيه به فكتب له رقعة وختمها فلما خرج الرجل من عنده فضها فإذا فيها: كتابي إليك مع من لا أعرف ولا أوجب حقه. فإن قضيت حاجته لم أحمدك وإن رددته لم اذمك: فرجع إليه الرجل فقال الجاحظ كأنك فضفضفت الورقة قال نعم قال لا يضرك ما فيها فإنه علامة لي إذا أردت أن أشكر شخصاً. حدث أبو العباس المبرد قال حدثنا محمد بن عامر الحنفي وكان من سادات بكر بن وائل وأدركته شيخاً كبيراً مملقاً وكان إذا أفاد على إملاقه شيئاً جاد به وقد كان قديماً ولي شرطة البصرة فحدثني هذا الحديث الذي ذكره ووقع إلى من غير ناحيته ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان لأن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك. ذكر أن فتياناً كانوا مجتمعين في نظام واحد كلهم ابن نعمة وكلهم قد شرد عن أهله وقنع بأصحابه فذكر ذاكر منهم قال كنا أكترينا داراً شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس وكنا نفلس أحياناً ونوسر أحياناً على مقدار ما يمكن الواحد من أهله وكنا لا ننكر أن تقع مؤنتنا على واحد منا إذا أمكنه ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه ودعونا الملهين والمهلبات وكان جلوسنا في أسفل الدار فإذا عدمنا الطرب جلسنا في غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس وكنا لا نخل بالنبيذ في عسر ولا

يسر فإنا لكذلك يوماً إذا يفنى يستأذن علينا فقلنا له أصعد فإذا رجل نظيف حلو الوجه سري الهيئة ينبئ رواؤه على أنه من أبناء النعم فأقبل علينا فقال إني سمعت مجتمعكم وحسن منادمتكم وصحة إلفتكم حتى كأنكم أدرجتم في قالب واحد فأحببت أن أكون واحداً منكم فلا تحتشموني قال وصادف ذلك منا أقتاراً من الفوت وكثرة من النبيذ وقد كان قال لغلام له أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم هات ما عندك فغاب الغلام عنا غير كثير ثم أتانا بسلة خيزران فيها طعام المطبخ من جدي ودجاج وفراخ ورقاق وأشنان ومحلب وأخلة فأصبنا من ذلك ثم أفضنا في شرابنا وانبسط الرجل فإذا أحلى خلق الله إذا حدث وأحسنهم استماعاً إذا حدث وأمسكهم عن ملامة إذا خولف ثم أفضينا منه إلى أكرم محالفة وأجمل مساعدة وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه فيزهر لنا أنه لا يحب غيره ويرى ذلك في إشراق وجهه فكنا نعني به عن حسن الفناء ونتدارس أخباره وآدابه فشغلنا ذلك عن تعرف اسمه ونسبه فلم يكن منا إلا تعرف الكنية فإنا سألناه عنها فقال أبو الفضل فقال لنا يوماً بعد اتصال الأنس إلا أخبركم بم عرفتكم قلنا إنا لنحب ذلك قال أحببت جارية في جواركم وكانت سيدتها ذات حبائب فكنت أجلس لها في الطريق التمس اجتيازها فأراها حتى أخلقني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه فسألت عن خبرها فخبرت عن ائتلافكم وثمالئكم ومساعدة بعضكم بعضاً فسكان الدخول فيما أنتم فيه أسر عندي من الجارية فسألناه عنها فخبرنا فقلنا له نحن تختدعها حتى نظفرك بها فقال يا إخواني إني والله على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها ما قدرت فيها حراماً قط ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فاشتريها فأقام معنا شهرين ونحن في غاية الاعتباط بقربه والسرور بصحبته إلى أن اختلس منا فنالنا بفراقه ثكل ممض ولوعة مؤلمة ولم نعرف له منزلاً نلتمسه فيه فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به وقبح عندنا ما كان حسن بقربه وجعلنا لا نرى سروراً ولا غما إلا ذكرناه لافضال السرور بصحبته وحضوره والغم بمفارقته فكنا فيه كما قال الشاعر: يذكر نبهم كل خير رأيته ... وشر فما أنفك منهم على ذكر فغاب عنا زهاء العشرين يوماً فبينما نحن محتازون يوماً من الرصافة إذا به قد طلع في موكب نبيل وزي جليل فلما بصر بنا انحط عن دابته وانحط غلمانه ثم قال يا إخواني والله

ما هنا إلى عيش بعدكم ولست أما طلبكم بخبري حتى آتي المنزل. لكن ميلوا بنا إلى المنزل فحملنا معه فقال أعرفكم أولاً بنفسي أنا العباس ابن الاحنف وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم فإذا المسودة محيطة بي فمضى بي إلى دار أمير المؤمنين فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي ويحك يا عباس إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك وحسن تأتيك وإن الذي ندبتك من شأنك وقد عرفت خطرات الحلقاء وإني أخبرك أن ما ردة هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم وأنه جرى بينهما عتب فهي بذلة المعشوق تأبى أن تعتذر وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك وقد رمت الأمر من قبلهما فأعياني وهو أحرى أن تستعبده الصبابة فقل شعراً يسهل عليه هذه السبيل فقضي كلامه ثم دعاني إلى أمير المؤمنين فصرت إليه وأعطيت قرطاساً ودواة فاعتراني الزمع واذهب عني ما أريد للاستحثاث فتعذرت على كل عروض ونفرت عني كل قافية ثم انفتح لي شيء والرسل تعتبني فجاءتني أربعة أبيات رضيتها وقعت صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طلب مني فقلت لأحد الرسل أبلغ الوزير إني قد قلت أربعة أبيات فإن كان بها مقنع وجهت بها فرجع إلى الرسول بأن هلتها ففي أقل منها مقنع وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير ذلك الروى فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فقلت: العاشقان كلاهما متغضب ... وكلاهما متوجد متعتب صدت مغاضبة وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب راجع أحبتك الذي هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب إن التجنبان تطاول منكما ... دب السلولة وعز المطالب ثم كتبت تحت ذلك لابد للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد فدفعه إلى الرشيد فقال والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا والله لكاني قصدت به فقال له يحيى وأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به هذا بقوله العباس في هذه القصة فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله.

راجع من يهوى على رغم. استغرب ضحكاً حتى سمعت ضحكة ثم قال أي والله أراجع على رغم يا غلام هات نعلى فنهض وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء فدعاني يحيى وقال إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء قلت لعل هذا الخبر ما وقع مني بغاية الموافقة ثم جاء غلام فساره فنهض وثبت مكانه فنهضت بنهوضه ثم قال لي يا عباس أمسيت أنبل الناس أتدري ما ساروني به هذا الرسول قلت لا قال ذكر لي أن ماردة تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه ثم قالت له يا أمير المؤمنين كيف كان هذا فناولها الشعر وقال هذا أتي بي إليك قالت فمن يقوله قال عباس بن الأحنف قالت فيم كوفي قال ما فعلت شيئاً بعد قالت إذا والله لا أجلس حتى يكافأ قال فأمير المؤمنين قائم لقيام ماردة وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين وهما يتناظران في صلتك فهذا كله لك قلت مالي من هذا إلا الصلة ثم قال هذا أحسن من شعرك قال فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير. وأمرت لي ماردة بمال دونه وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به وحملت على ما ترون من الظهر ثم قال الوزير من تمام اليد عندك أن لا تخرج من الدار حتى يؤهل لك هذا المال ضياعاً فاشترى لي ضياعاً بعشرين ألف درهم ودفع لي بقية المال فهذا الخبر الذي عاقني عنكم فهلموا حتى أقاسمكم الضياع وأفرق فيكم المال قلنا له هناك الله فكل منا يرجع إلى نعمة من أبيه فأقسم وأقسمنا فقال أسوتي فيه فقلنا أما هذه فنعم قال فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها فمشينا إلى صاحبتها وكانت جارية جميلة حلوة لا تحسن شيئاً أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة فأجبناه بالعجب فحط مائة ثم حط مائة ثم قال العباس يا فتيان إني والله أحتشم أن أقول بعد ما قلتم ولكنها حاجة في نفسي فأكره أن تنظر إلى بعين من قد ماكس في ثمنها دعوني أعطه بها خمسمائة دينار كما سأل قلنا له وإنه قد حط مائتين قال وإن فعل قال فصادفت من مولاها رجلاً حراً فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين فما زال إلينا محسناً حتى فرق الموت بيننا.

تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية سعد زغلول باشا ـ 2 ـ بلغنا بالقارئ من ترجمة رجل مصر العظيم، سعد زغلول باشا، منطبق الأمة ومقولها، والمحامي عنها ومذودها إلي تلك الحفلة الكبرى التي أقامها المحامون لتكريمه على أثر انتخابه نائب قاض بمحكمة الاستئناف، وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام 1892 أي منذ اثنين وعشرين حولاً، وجئنا بالخطبة المؤثرة الرقيقة التي ألقاها المترجم به بين جماعة المحتفلين وفيها تلك الاعترافات البليغة التي فاض بها قلب من تلك القلوب الخفاقة النابضة وجاشت بها نفس من تلك النفوس العبقرية الفياضة، وإن للنفوس لعبقرية هي في أغلب الأحيان، أشد من عبقرية الأذهان، وما عبقرية النفوس إلا قوة الشعور بالواجب، والإيمان بالحق، ومنابذة الباطل، وهي الوحي الإلهي الذي يتنزل على النفوس الخصيبة، فيملؤها روحانية، ويرسل في نواحيها مادة الإحساس الشفاف، وإذا كانت القوة الإلهية لا تكثر في الإنسانية من عداد العبقريين عقولاً وأذهاناً، فما أقل خلقها للعبقريين نفوساً ووجداناً لأن القوة الإلهية تدأب في عملها، وتجد في إخراج قوالبها، على أنك لتهز إليك جذع الشجرة المثمرة، فلا تستطيب من متساقط ثمارها، ولا تستعذب من متناثر بواكرها إلا ثمرة أو ثمرتين، وأنت فتجد أنواع الزهر الذي لا رائحة له ولا عرف، أكثر بأضعاف من أنواع الأزاهر ذات الشذى والأريج إذ كانت لذة الجميل أن لا يكون شائعاً، ولا يروح فاشياً ذائعاً، ولعل أكبر الدلائل على العظمة الإلهية أن تخلق عظيماً واحداً، بين ألوف كلهم صغار، وإن تصور امرأة حسناء وسيمة، في أسرة كل نسائها قباح دميمات، وما أجمل مظهر الخير، وما أروع موقفه، إذا أكتنفه الشر من كل مكان. كذاك كان نصيب سعد زغلول باشا من عبقرية الذهن، وكذلك كان قسطه من عبقرية النفس، وهما لم يجتمعا في قالب إنساني إلا أحدثا توازناً في جميع عواطفه، فإنك ترى أكثر العبقريين أذهاناً، أقرب إلى الحيوانية من غيرهم، وأشد إسفافاً إلى البهيمية من سواهم، ولو كان أمثال الفردده موسيه وبيرون ونابوليون، عبقريي النفوس، لما هام الأول بحب البغايا، ووصل الفاجرات، وما استرسل الثاني في هوى الغادات الفاتنات، ولا ركب الثالث رأسه،

فطاح بملايين النفوس والمهجات. ونحن اليوم عائدون فآخذون في ذلك التاريخ العظيم ونحن له أشد روحاً وأخف نشاطاً، لأنا نرى في خلاله دروس الحكمة تلقى من فم التاريخ، ونشهد في تضاعيفه مزايا العظمة تطل من الماضي إلى الحاضر، واثبة إلى المستقبل، فدافعة إلى الأبدية. دخل المترجم به في سلك القضاء، بتلك الشخصية القوية التي ما أسند إليها عمل عظيم، إلا استكان لها، وتشكل بشكلها، واصطبغ بصبغتها، وتضاءل إزاء قوتها، وما كان أكبر الأعمال، وأرفع المناصب، إلا ليضيق بصاحب الشخصية القوية، وإن اتسع لألوف الناس، ورحب بعديد ضعاف النفوس واحترام النفس من أسمى العظمة النفسية، ونحن لشد ما نروح معجبين مكبرين، إذا وقفنا على رجل من عرض العامة، في قهوة أو منتدى، يستمسك برأيه، ويستند إلى حجته، لا ينزل عنهما ولا ينكص، وقد اجتمع الجلوس كلهم على نقيض رأيه، واتفقوا جميعاً على دحض حجته. بل إنك لتمتلئ إعجاباً وإكباراً لشأن الرجل العامي الحقير، يجيئك بكيس نقود فقدته، ويأبى أن يقبل منك على ما أحسن أجراً ولا عطاء، ويرفض أن ينال منك على ما صنع مكافأة ولا جزاء. وما أروع الشخصية القوية في منصة القضاء، وما أشد جلال القاضي المهيب، إذا اجتمع جلاله بجلال مقعده، والتقت روعة شخصيته، بروعة سدته. وعلى قدر قوة الشخصية في القضاة، تكون قوة الإنكار في المجرمين والجناة، حتى أنك لتلقى المتهم إزاء القاضي القوي الشخصية، مضطرباً مذهولاً حائراً مذعوراً، إذ يخيل إليه أمام تلك القوة الخفية - قوة الجاذبية بين القوي والضعيف إن قد انفتحت مغاليق نفسه، وانكشفت حيالها مجاهل ضميره وبدت أعماق سريرته، وأنه قد أصبح بين يدي القاضي، وكله ثغور تطل منها ذنوبه، وتشرف من خلالها جرائمه، حتى إذا بلغ منه تأثير تلك القوة السحرية كما يبلغ من المنوم تأثير مغناطيسية المنوم، أدلى إلى القاضي باعترافه وهو هادئ ساكن، وأشهده على جريمته، ليتخلص من ذلك التأثير الشخصي الذي يصدمه به القاضي ويهدم فيه كل عزيمة للإنكار، وكل إصرار على التنصل والتكذيب. وكم من جرائم ما كان ليجدي في اكتشاف جناتها دقة التحقيق، وما كانت لتغني في الاهتداء إلى مرتكبيها شدة التحري والاستقصاء، وقوة البحث والاستهداء، ولا ذكاء الشرطة وحيلهم،

ولا مهارة المحققين وخدعاتهم لو لم تقع في يد قاض قوي الشخصية، اهتدت قوة شخصيته إلى المجرم من الجلسة الأولى. وبعد فإن صاحب الترجمة، كما قالت صحيفة إلا يجيب عنه منذ ثمانية أعوام، من فريق القضاة المصريين، الذين يعتقدون أن القانون لا يعاقب رغبة في الانتقام، ويرون أن من الواجب الأخذ بالرفق في تنفيذ القانون وذلك لأن العقاب لا يطهر المجرم، ولا يزيل عنه أقذار الجريمة، ولكنه على نقيض ذلك أشد إفساداً للمجرم من الجريمة نفسها ولا تظن أنت أن المجرم يصبح بعد العقاب نفس مرتكب الجرم، بل كأن غيره الذي احتمل العقاب على فعلته، وقاسي تبعة جريمته، وليس الانتقام إلا عدلاً وحشياً، وما كان القانون إلا عدلاً إنسانياً، ومن ثم فلا ينبغي أن يشوب العقاب القانوني شائبة من وحشية الانتقام، وإنما يجب أن تمازجه إنسانية العدل، ولا أظن القانون يعاقب اللصوص والقتلة، وغيرهم من الآثمين والجناة لينزع من قلوبهم تلك الأنانية الشديدة التي دفعتهم إلى الاعتداء على حقوق غيرهم ونفوسهم وأموالهم. وإيست جرائم السرقة والقتل وغيرهما. هي التي نفسها جعلت بين الناس قتلة ولصوصاً ومعتلين. ولعل صرامة العقاب القضائي وشوائب الانتقام التي تشوبه وإمارات الترة البادية عليه هي التي تجعل من الأمور المستحيلات أن نصبح في مجتمع إنساني يعلن المجرم فيها عن جريمته. ويذيعها على أفراد جنسه. ويملي هو الجكم بعقابه وهو معتز متفاخر بأنه بذلك يوقر القانون الذي سنه بيده وأنه بعقاب نفسه ينقذ القوة المخولة له ونعني بها قوة المشرع. وسلطة واضع القانون. ولا يكون من ذلك العقاب الاختياري إلا أن المجرم يرفع نفسه ويعلو بها فوق جريمته ويمحو آثارها بصراحته وعظمته وسكوته. ذلك هو المجرم الذي يطلبه صالح الجمعية البشرية. وتريده القوانين الإنسانية شعاره لا أخضع في عظيم الأمور وحقيرها إلا إلى القانون الذي وضعته أنا بيدي. والمترجم به كذلك في طليعة المصريين الحربيين. كما شهدت له بذلك صحيفة الغازات الفرنسية منذ ثمان سنين أيضاً. يرى أن المحافظة لا تلائم سنن التطور، ولا تسير بالجماعات في طريق الرقي، وإنما تقف بها في مكان واحد على حين أن الحياة تجري كل يوم إلى طور جديد، ولا ترى عقيدة المحافظة على القديم إلا ضعيفة الحجة، حقيرة الرأي،

لأنها تقبض بيدها على حقيقة واحدة. ولا تريد أن تفتح عينها لترى حقيقة أخرى خيراً منها وأفضل أثراً. ولذلك تجد عقيدة المحافظة أبداً معتذرة. محتجة بالظروف والضرورات. وعندها أن التغيير معناه الإفساد. وإن التجديد مرادفه التبديد. ولكنك ترى مذهب الحرية أبداً على الحق. منتصراً فائزاً. يقاتل وهو موقن بالنصر والفوز. ومذهب المحافظة يستند إلى أن للإنسان حدوداً مقررة. ويحج مذهب التجديد إلى أن ليس هناك أثر لحدود الإنسان. والمذهب الأول يقوم على الظروف ولكنك تجد المذهب الثاني يقوم على القوة. ذاك يطلب الراحة والسكون وهذا لا يريد إلا العمل والحركة. ذاك سلبي وهذا إيجابي. والمذهب الأول يعتمد في جميع حياته على ذاكرته وماضيه. وأما المذهب الثاني فيركن إلى عقله وحاضره. وإليك ما قالته عن صاحب الترجمة جريدة النيمس الكبرى في عام 1906 هو من شيعة المرحوم محمد عبد الذين امتازوا بالارتقاء والتهذيب وهم الذين سمام اللورد كرومر فريق الجيروند في النهضة الوطنية المصرية وهو مصري عريق في وطنيته. أجمع الناس على إكرامه والإعجاب به. لما اشتهر عنه من الاستقامة والاستقلال. ونحن نقول إن شيعة المرحوم الأستاذ محمد عبده ما نبغت من الأزهر، وذكت في ربوعه. إلا لأنها كانت من أصحاب العقول القوية بفطرتها. والأرواح الخصيبة بطبيعتها. ولا تجد من طلاب الأزهر نابغة ولا عبقرياً. إلا وكان أول أمره ذا عقل قابل. وذكاء فطري. وروح وثابة ناهضة. لأن الأنبات الإنسانية الضعيفة. والعقول المظلمة. والأدمغة المعتمة. لا تدكو ولا تطيب في تلك التربة الأزهرية القوية. ولا تتفق مع جوها. ولا تنمو تحت قبها. بل إنها لتزداد كلما بقيت ضعفاً وتأوداً. وكلما سقيت من سقى ذلك المعهد. ورويت من ريه، أسرعت إلى لاذبول والاضمحلال. أما الذين يعيشون في جو الأزهر من الأقوياء طبائع وأذهاناً وأرواحاً. فلا ينون في ذلك المعهد يزدادون قوة على قوتهم. وذكاء على ذكاءهم. لأن الأزهر يخدم النبوغ وإن لم يكن فيه من هذا النبوغ مادته. وينضج الذكاء الفطري. حتى يكون منه العقل الجبار. والذهن العبقري. وإن لم يكن يعمل إيجاد هذا الذكاء والأزهر لا يفيد إلا أهل الاستعداد. ولا يصلح إلا للقابلين للنبوغ والرقي. فلا عجب بعد ذلك أن ترى الأزهر مقلاً من إخراج الثمار الطيبة الصالحة: على كثرة عديد

طلابه: وألوف الدارسين فيه. وإذا ما أخرج الأزهر يوماً عبقرياً واحداً: فلا تظن أن المدارس كلها مستطيعة أن تخرج آخر على شكله وغراره. وهل كانت مدارسنا وغير مدارسنا قادرة على أن تخرج رجلاً على نحو الأستاذ الإمام ومثاله. وأنت إذا رجعت إلى الأزهر وأطلعت إلى إحصائيات طلابه لألقيت عدد ما يذبل بين جدرانه. ويذوي بين حيطانه يربي على الفئات. ويسمو على الألوف. ثم إذا أنت نظرت إلى عدد النوابغ من خريجيه والعبقريين من طلبته: لما وجدتهم إلا نفراً قليلاً. هذا ولا غرو أن يسمى اللورد كرومر شيعة الأستاذ الإمام بفريق الجير وندفي النهضة المصرية إذ كان الجير وندهم حزب طلاب الإصلاح في إبان الثورة الفرنسية. وهم المعتدلون الذين كانوا يريدون إصلاحاً لا يلطخه دم: ولا يشوبه قتل ولا جرم، وهم العقلاء من دعاة الملكية الدستورية. لم يطلبوا أن يطاح برأس ذلك الملك المخلص الضعيف: ولا أن تدق عنق تلك الملكة الغر الطائشة. وإنما يريدون حق كل فرد عند الحكومة. دون أن يستغدوا عليها قوة ذلك الفرد. ولولا الجبليون المتطرفون، ولولا المجازر التي أقاموها: والدماء التي سفحوها. والنفوس التي أسالوها: لما كان للثورة الفرنسية ذلك الاسم المرعب: والتاريخ المخوف الرهيب. ولا تجد الثورة إلا لتشبه الداعي إليها في كل أطواره وحالاته. فليست الثورة الفرنسية إلا لتحكي جان جاك روسو في كل أحواله الطبيعية. ومزاجه الثوري: وعواطفه الحارة المضطرمة: والداعون إلى الثورة يبدأون بطلب حق مهضوم. وينتهون بأن يصبحوا لحقوق غير حقهم هاضمين. وهل ترى روبسبير ومورات ودانتون كانوا يقتلون ويذبحون إلا لأنهم يريدون أن يستخلصوا حق الشعب من الأرسقتراطية والكهنوت. لا ليردوه للشعب ويعيدوه. بل ليستفردوا هم به وحدهم، ولعل الشعب في الثورة وتحت الجمهورية الأولى. كان أسوأ حالاً منه تحت الملكية. فلما جن روبسبير بالسلطان. وأذهلت لبه مشاهد الدماء. وذهبت بعقله روعة الجلوتين أراد الشعب على دين جديد ينسخ به الدين القديم. وأسمى دينه ذاك عبادة المخلوق الأعلى وما كان المخلوق الأعلى في هذه العبادة إلا روبسبير نفسه، فهل كان هذا من حقوق الشعب المهضومة؟. ولذلك لا تجد طلاب الثورة في أكثر الأحايين إلا طلاب المآرب وإذا لم يكونوا بادئ بدء طلاب مآرب. فإن الثورة جادلتهم. ولا ريب كذلك.

والمترجم به في صف أولئك العبقريين كبار النفوس المنضوين تحت ذلك اللواء الذي حمله في طليعتهم جون ملتون. الشاعر الإنجليزي الخالد. وهو أعطني حرية القول. وحرية التفكير. وحرية الضمير. ولا تعطني قبل ذلك شيئاً وإنك لتسمع من كل فم. وتلقي علي كل شفة. اسم صاحب الترجمة مقروناً بتلك الصفة العظمى. والسجية الكبرى ونعني بها حرية الرأي. وصراحة القول والمبدأ. يرى الطبيعة التي فطره الله عليها شرعاً إلهياً مقدساً ينبغي أن لا يغير فيه الناس ويبدلوا. ولا يمحوا فيه ويثبتوا. وما كان الرجل العظيم إلا ليدلي برأيه أمام العالم كله: وإن اجتمعت أمته وأمم الأرض جميعاً على مخالفته في ذلك الرأي. وأنت فلا تسمع لأولئك الذين يقولون إن صوت الشعب هو من صوت الله فعله في أكثر الأحايين من صوت الشيطان وضرورة الحكومة الخارجية للإنسان لا تكون إلا على نقيض نسبة القوة التي يستعين بها الإنسان على حكومة نفسه فإذا استكملت الثانية واستجمعت، قلت الحاجة إلى الأولى ونقصت. ونمن ثم كلما ازدادت الفضيلة بضروبها وفروعها. ازدادت الحرية وعمت. والرجل الذي يقذف بأغراض الناس وآرائهم ويعمل بإرادته لا بإراداتهم. ويفكر بذهنه لا بأذهانهم. ليس إلا رجلاً تنزلت الآلهة على قلبه وصفت مشاعره من شوائب الحيوانية، وتنزهت عواطفه عن نقائص البشرية، وترى الرجل العظيم يجهر عالي الصوت برأيه في يومه، فإذا جاء عليه الغد، أعلن رأى غده في مثل جهارة صوته، ورفعة روحه، حتى وإن نقض رأى الغد رأي أخيه الأمس. لا يحفل بأن لا يفهم الناس من أمره شيئاً، وهل فهمت الإنسانية كلها في جميع أجيالها فيثاغورس وسقراط ولوثر، وغاليليه ونيوتون، وكل من على شاكلتهم من كل ذي روح نقية حكيمة ركبها الله في جسم ودم. والعظمة أخلق بأن لا تطلب الوضوح للناس. وأحرى بأن تدق على أنظار صغار الناس. وتغيب عن إفهام عاديي الرجال. وكل ما ترى من عظمة العظماء. ونبل أرواحهم. وصراحة أفكارهم. وحرية ضمائرهم. ربيب العزلة. ووليد الابتعاد عن غمار الجماعات. إذ كان المجتمع في كل مكان يعمل على قتل رجولة كل فرد من أفراده. وما المجتمع إلا شركة مساهمة يدفع لها كل عضو من أعضائها حريته وفكره ثمناً لسهمه. ولا ينال من أرباح هذا السهم إلا خبزه وطعامه وأمانه. ولذلك كان عظماء العالم ومفكروه وقادته وعبقريوه هم الذين نشؤوا بعيدين عن المجتمع.

خارجين على قوانين هذه الشركة الغابنة رافضين أرباحها وسهامها. عاملين على إفلاسها. وإصلاح موادها وبنودها. وإن أكبر مزايا المفكرين والعظماء. أمثال سقراط وأفلاطون وسبنسر، إنهم لم يعتدوا بالجماهير ولا أكثر الآراء الناس. ولا بالعادات والقوانين التي يعيش عليها الجماعات. وإنما جاؤوا بآرائهم على نقيضها. وأتوا بأفكارهم هادمة لأفكارها. (للكلام بقية). أحمد محمود باشا عضو الجمعية التشريعية عن دائرة شبرا خيت نأخذ الآن في عرض ترجمة رجل ذكي الفؤاد، شديد العارضة. كان لفعل الوراثة في تكوين ذكائه. وتغذية نبوغه. أكبر الأثر وأعظم الأسباب فهو يحيا بيننا بتلك الفطرة القوية. التي انطبعت فوق أديم روحه من اثر فطرة أبيه. فتجلت في صورته المصغرة كل محاسن الصورة المكبرة. وكل دلائلهما وكل تقاطيعهما وما كان الذكاء الموروث إلا أشد في طبيعته من الذكاء البكر وأقوى في نوعه من الذكاء المحدث والمكتسب. لأنه يزداد قوة من جراء التلقيح. ويسمو في حسنه، ويصفو في جوهره، ويشتد في نضوجه، من فعل الانتقال. والذكاء الفطري الموروث هو أكبر أنواع الثروة، وأصلح ضروب المواريث، لأنه الأساس المتين المتماسك، الذي ينهض عليه نبوغ صاحبه، وتفوقه، وشخصيته. هذا لأن المترجم به غصن من أغصان تلك الدوحة الفينانة اليانعة، التي أخرجت لهذا البلد أحسن ثماره وأنتجت للقطر أذكى بنيه، وأنبغ أهليه، فهو ابن المرحوم أحمد محمود الكبير، رجل كان كله ذكاء يتوقد، وبديهة تستعل وروحاً عظيمة تحترق، لا تستعين بذخيرة العلوم، ووفرة الفنون على إطفاء جذوتها، وإخماد نارها. ولا يزال عارفو ذلك الرجل الكبير من الأحياء يشهدون بقوة ذكائه، وفي الموتى ألوف يعترفون بحدة عارضته، وناهيكم بشهادة الأستاذ المرحوم محمد عبده فقد قال يوماً، وكنا نعوده، بعد أن ذكر أحمد محمود وأسف لوفاته (لقد كان أذكى رجل مصري رأيته من غير الدارسين). والمترجم به يستمد كل طبائعه ومزاياه، من تلك العصارة القوية، التي اغتذى منها سعد وفتحي، والتي لا تخرج من فروع تلك الدوحة المباركة، إلا الذكي والألمعي والقوي ذهناً

وروحاً، إذ كانت والدة أحمد محمود الكبير، أخت والدة سعد باشا وأخيه الفقيد العظيم، وللاختان ثلاث أخوات كلهن منجبات، يتخلل دماءهن عنصر ذلك الذكاء الفطري الخالص، الذي لم تشبه أدني شائبة من الضعف الشائع في نسل أهل المدن، ذاك لأن الذكاء القروي هو ذكاء الطبيعة النقي، يعيش في أحضانها، ويدرج في حجرها، ومن ثم ترى له جلالها، وتشهد فيه قوتها، يأخذ من نقاء هوائها نقاءها ومن رقة نسائمها رقته. ولد صاحب الترجمة عام 1870 في الرحمانية وتوفي والده المرحوم أحمد محمود عام 1904 وهو ابن علي محمود بن الحاج علي محمود الملقب بسلطان ترك. أعطاه هذا اللقب نابوليون الأول، يوم جاء إلى مصر بخيله ورجله، وتنتمي هذه الأسرة العظيمة إلى قبيلة اللحامدة، المقيمة في صفرة والجديدة. فلما شب المترجم به عن الطوق، دفع إلى مكتب البلد فلبث فيه أياماً. يقرأ القرآن. ويتعلم مبادئ الكتابة والقراءة. ثم دخل مدرسة للفرير. برمل الإسكندرية. فقضى بها أربع سنين. انتقل بعدها إلى مدرسة الفرير الأخرى. وكانت في نفس الإسكندرية. وجاء القاهرة بعد ذلك فالتق بمدرسة المعلمين التوفيقية. ومكث يتلقى العلم بها حتى السنة الثالثة التجهيزية. وبذلك أخذ قسطاً غير صغير من برامج المدارس. ونال حظاً غير قليل من مختلف العلوم. إذا اجتمع إلى ذكائه القوي بطبيعته. كان منه ثروة كبرى للذهن. لأن الذكاء يستطيع أن يجعل من مبادئ العلوم كل أجزائها وأصولها وفروعها، ولا تجد العلم يستطيع. وأن زادا أو كبر - أن يخلق من الذكاء شيئاً. ولم يلبث أن خرج إلى الحياة العملية، وذلك شأن الأذكياء منذ نشأتهم، فاختير في حياة والده، عضواً في مجلس المديرية تسع سنين، ثم انتخب عضواً كذلك في لجان الشياخات وتأديب العمد تسع سنين مثلها، ثم جعل عمدة على بلده، ولما كانت سنة 1901 أنعم عليه سمو الجناب العالي بالرتبة الثالثة مع لقب بك، ثم أنعم عليه بعد سنتين بالرتبة الثانية، وفي سنة 1904 برتبة المتمايز، وقد نال في العام المنصرم من سمو أمير البلاد رتبة المير ميران، وظفر في الانتخاب لعضوية الجمعية التشريعية عن دائرة شبرا خيت. والمترجم به فوق ذلك من نوابغ الزراعيين، فقد زاد ثروة أبيه الطائلة نيفاً وسبعمائة فدان، وتلك لعمري أسوة حسنة، يجب أن يضعها المصريون قبالة أعينهم، لأن للزراعة في هذا

البلد الخصيب أكبر قسط من حياتنا، تقوم عليها كل مصادر الثروة، ويتوقف عليها مجموع كيان الأمة، ولذلك كان العامل على تنميتها وتحسينها، وحمايتها من أيدي الأجانب، أفرادهم وشركاتهم هو العامل على بقائنا، وتقوية مكانتنا وتحسين أحوالنا. هذا وإن الزراعة مهنة طبيعية، نشأت مع الإنسان الأول، وتطورت بتطوره، وتقدمت بتقدمه، بدأت قبل الصناعة والتجارة، والسياسة والفلسفة والكتابة والعلوم والآداب، بل إن هذه جميعاً تنهض فوق الزراعة وعليها تعتمد، ومنها تغتذي، وبها تستقيم. بل للزراع أن يفخر على التاجر، ويطول على الصانع، والعامل والمخترع، لأنه يأخذ من تقسيم العمل أكبر الأقسام، إذ هو المثمر والناس بعد مستغلون، وإن من عمل يده، وجهد قواه، تنال الإنسانية طعامها، وكساءها، وكنها، والناس وإن كانوا لا يحبون الشاق من الأعمال، ويكرهون منها المرهق المعنت، إلا أنهم يشعرون من صميم أفئدتهم باحترام الحرث والغرس. وحب الزرع والحصيد. ويعدونها المهنة الطبيعية والحرفة الفطرية لنوعهم. ويعتقدون أن الذين لا يشتغلون منهم بالزراعة، إنما أعفتهم الظروف منها: فجعلتهم ينيبون عنهم في القيام بسهمهم منها أيدي غيرهم. وقوى طبقة منهم. وحسب الفلاح إن الجيولوجيا منذ شباب العالم، في خدمته، وإن الكيمياء الطبيعية، منذ أول الخليقة في معونته، خدامه النهر والجدول. والحشرات النافعة تأكل الحشرات القاتلة. ومواليه الجو وتغيراته. والسماء وأمطارها. والأرض وأسمادها. والتربة وأملاحها. والفلاح محسن خالد، يحفر على الطريق بئراً، ويشيد بجانبه سقفاً، ويزرع الشجر وارفة ظلاله، ويقيم عرشاًَ من ورق الأعناب، ومظلات ناضرة من الريحان واللبلاب، فإن لم يستطع، وضع على الثنية حجراً، يعتقده الضال، ويجلس عنده المتعب والكال، ينشئ بذلك ثروة كبرى، يذهب وهي باقية، جليلة النفع نقريته. عظيمة الفائدة لبني بلدته. ولأخلاق الفلاح وآدابه، بساطة مظهره وثيابه، تنبوبه باحات القصور، ولا تنبوبه باحات الطبيعة، والفلاح أروع أيكون في ساحة حقله، دائباً وراء محراثه، مقتلعاً ضعيف أعواده. والطبيعة لا تميل إلى الزخارف، ولا تعرف الزينات، ولذلك تشرق في كوخ الفلاح، وتتزاور عن قصر الأمير، لأنها لاتجد في الثاني إلا تقاليد لعملها، وقوالب صناعية على مثال قوالبها، ولا ترى في الأول إلا مصنوعاتها، كيوم خرجت من يدها.

والمترجم به روح رقراقة شفافة، تبدو رقته في حديثه إذا حدث، وفوق معارفه إذا تبسم وفي تضاعيف تحيته إذا حيا، كل شيء في آدابه، وأخلاقه يجري مع طبيعته، يضع في كل أفعاله وحركاته وأقواله قطعة من روحه، ولذلك تجد فيها تلك الحرارة النفسية، التي تشعل روح مخاطبه وتبعثها، تجري على لسانه، وفي قوله، وإذا جلست إليه، لم تلبث أن تترك كل الآداب المصطنعة. والتكاليف المحلولة، لأنك تشعر بأنك غير مستطيع بها أن تظهر على الرقة الطبيعية، والوداعة الخالصة السحرية التي يهجم عليك بهما. وصاحب الترجمة مفراح يلقاك بوجه مستبشر، وابتسامة لطيفة. ودعابة جميلة. يتخلل أحاديثه مزحة حلوة. وفكاهة عذبة. يحوطها بلمعة من ذكائه. والدعابة الجميلة هي أبداً من خصائص الأذكياء. لأنهم لا يستطيعون أن يلقوا القول خلوا من آثارهم توقدهم. ويريدونك على أن لا تسمع منهم إلا صوت ذكائهم.

كشكول البيان

كشكول البيان السفور في الآستانة بينما نحن نتجادل اليوم ونتشائم في مسالة الحجاب والسفور. وبينما يشتد فريق الأحرار من كتابنا في نقد الحجاب وتسفيه آراء أنصاره. وبينما يرد فريق المحافظين على الأولين تسفيههم. ويرمونهم بالمروق. ويقرفونهم بفقدان النخوة والرجولة. حتى أصبحت مسألة الحجاب والسفور مسألة كلامية، سبابية، ولا يراد بها الاهتداء إلى الصواب - نقول بينما كل ذلك يجري في هذه البلاد. ويقع في أنهار صحفها: ومجلاتها. إذ بنا نشهد الآستانة. دار الخلافة الإسلامية، قد بدأت تنفذ مبادئ السفور وتعمل على تحقيقها. وإذ بنا نرى أنصاره يتكاثرون في كل يوم ويزدادون. ونسمع أن السيدات التركيات والفتيات شرعن يرفعن الحجاب. ويسفرن للرجال. ويشتغلن بالأعمال العمومية. وقد كان من همة وزراء الدولة الإنشاء المتعلمين. وخلوص نفوسهم من قيود الجمود الشرقي. وسلاسل البقاء على القديم. إن بدأت تركيا تظهر في مظهر تطور اجتماعي جديد. وإصلاح داخلي طريف. فالمصطافون اليوم النازلون بالآستانة يرونها في شكل لم يعهد من قبل. يرون النظافة سائدة في الطرق. ويبصرون خطوط الترام تخترقها. من طرف إلى طرف. ويشيدون المدينة بعد الغروب مضاءة بالمصابيح الكهربائية. وقد مدوا حديثاً أسلاك التليفون واشتغلت جماعة الفتيات والسيدات التركيات بإدارته. سافرات غير منتقبات. وعاملات التليفون اللاتي انتخبن يعرفن ثلاث لغات ضرورية. التركية والفرنسية واليونانية. وترأسهن سيدة إنكليزية. وقد رأست منذ أيام السيدة الفضلى زوجة جمال باشا وزير البحرية. معرضاً للشفقة في الآستانة. قامت به بعض السيدات التركيات. ودهون لمشاهدته جمعاً من الأتراك والأوروبيين وهذه هي المرة الأولى التي وقع فيها حادث مثل هذا في تركيا. وإليك ما كتب المسيو جورج ريمون وهو كاتب صحفي مشهور يراسل مجلة (اللاستراسيون) الفرنسية من الآستانة. وكان بين الذين دعوا لمشاهدة معرض الشفقة. لقد صادف معرض الشفقة إعجاب الكثيرين من رجال تركيا وارتياحهم. وأصاب سخط الأكثرين ونعرتهم. ولكنه على أية حال خطوة جديدة في سبيبل المستقبل. وقد أصبح في

تركيا الآن فريقان. كل منهما أحر من الآخر استمساكاً برأيه وأشد منه تعصباًَ لمذهبه. ففريق يدعو إلى وجوب إحداث تغيير تام في حال المجتمع التركي. ولاسيما في مسألة الحجاب. والفريق الثاني هو فريق المستمسكين الجامدين على الآداب القديمة. وهم رجال العهد القديم. وإذا كانت أمثال هذه المسألة لا تجد إلا قليل أهمية في نظر الفرنسيين. فإن لها لأهمية كبرى في تركيا. لأن الحجاب لم تسنه العادة وحدها بل الدين معها. وللدين قوة هائلة في تلك البلاد. بل الدين هو وحدة الذي تقوم عليه في تركيا القوة الاجتماعية. وإن التغييرات التي أدخلها أنور باشا في تراقيه على لباس الجنود والسماح للسيدات التركيات بالظهور سافرات. أهم كثيراً في حياة الشعب التركي من كل الحوادث السياسية الكبرى. وليس ثم أمة قوية أو على الأقل قابلة للحياة. دون أن يكون لها حياة اجتماعية. ولا تتفق الحياة الاجتماعية لبلد يعيش نساؤه محتجبات مختمرات. وإن الآراء التي يراها الأتراك في مركز المرأة عندهم قد جعلتهم في معزل عن بقية العالم. وكانت هي السبب الأكبر في تلك الظنون والأحكام المتسرعة التي يحكم بها الغربيون على الأتراك. والتي لا يزال الأتراك أنفسهم يشكون منها ويتألمون. ولكن بدأ بعض أهل النظر الثاقب يفهمون سر سوء التفاهم الواقع بين التركي والغربي. وهو حالة المجتمع التركي. لأن المجتمع وحالة المرأة والأخلاق والآراء العامة. قبل السياسة والجرائد والتجارة وغيرها. عليها تنهض المخالفات. وتشتد الروابط والصلات. وبها يزول سوء التفاهم. على أن الحجاب في تركيا مقصور على النساء في المدن. أما في بلاد الريف وفي القرى فلا تحتجب المسلمات عن الرجال. إلا قليلاً أو لا تحتجب بنة. وقد رأيت بعيني النساء المسلمات يحاربن جنباً لجنب مع أزواجهن وأخواتهن ورجال قبيلتهن يحملن الماء على خط النار يشجعن الجند. ويسقين المقاتلين. وهن ممتشقات السيف. متنكبات البندقية. غير خاشيات ظهور وجوههن. ولا يزال أنصار الحجاب يحتجون بالأخطار التي تهدد الأخلاق من جراء رفع الحجاب. وتسئ إلى عاطفة قوية. تعتمد في مظاهرها على أنانية الذكر. وغيرته على حق امتلاكه. ورغبته في أن لا يعدو أحد على هذا الحق.

كل ذلك لا ريب فيه. ولكن كل تقدم لا يشتري إلا بثمن مجهودات كبار. ويعوزه شيء من التضحية. حتى تجتني منه الفائدة المطلوبة. وليس يكفي تركيا البحارة المهرة. والجند الأنجاد الشجعان. بل يجب أن يكون لها كذلك. مجتمع يستطيع أن يسير في نهج واحد مع مجتمعات الأمم الأخرى، وبدون ذلك لا تستطيع تركيا آخر الدهر. أن ترفع ذلك الحاجز الذي يحول بينها وبين أمم الغرب. ولنعد إلى معرض الشفقة. فقد كانت سيداته على جمال رائع وتودد جذاب. وقد قال لي يوماً القائد عزيز بك بهاته النساء يعرف الإنسان الأمة. وبهن يستطيع الحكم عليها ونحن برؤيتنا النساء التركيات. لا نستطيع إلا أن نقدر تركيا حق قدرها - انتهى تعليق الكاتب. مأساة أخرى في البحر غرق إمبراطورة أيرلندا لا تزال قصيدة الشارع بيرون في روعة الأوقيانوس وعظمته وأخطاره. حقيقة إلى يومنا هذا. وإن كثرت المخترعات وتعددت المبتدعات. وأنشئت السفن الضخمة. وجاءت التيتانك وتولت. واهتمت غرف التجارة في إنجلترا وغيرها بحوادث الغرق. واخترعت أحزمة الحياة. وأنطقة النجاة. وسنت البنود الشديدة لمعاقبة قواد السفن الغريقة وملاحيها. وأدخلت المواعد الصارمة على قوانين الملاحة ومعاهداتها. فلا يزال للأوقيانوس. كما يقول بيرون سلطانه، وإذا اصطلحت أمواجه. وأجيال ثلوجه على سفينة وإن كبرت. فلا عاصم لها منه ولا نجاة لها من شره. ذهبت التيتانك. وهي في أول عهدها بالبحر. فراغ العالم غرقها. واستشهد فيها خلق كثير من ملوك المال. وملكات الجمال. وأرباب القلم. وغيرهم من مختلف الطبقات. فضاعت في اليم ثروة عظيمة. وغرقت أرواح كثيرة. ثم قامت على أثر تلك الكارثة العظمى ضجة كبرى يراد بها تحذير القوم بناء السفن العظيمة. ولكن لم يجد التحذير نفعاً. فإن هناك اليوم آلات سفن أضخم من تلك وأعظم. حمولة كل منها خمسون ألف طن. ولا يزالون ينشئون غيرها وهم يؤملون الآن أن تحسب غرفة التجارة حساباً للصعوبات التي لاقتها سفينة الإمبراطور والمشقات التي عانتها سفينة فوترلاند حتى كادت تروح مطعماً للحيتان في طريقها إلى نيويورك وعودها منها. وهما من السفن الثلاث الكبرى الموجودة اليوم. وهم

ينصحون بالإمساك عن تشييد غيرهما من ضخم السفائن. لأن راحة المسافرين لا تزداد بالسفر على ظهورها ولا يجد المسافرون في ركوبها إلا قسطاً من الرفاهية لا حاجة بهم إليه. ولا يرونه من الضرورة في شيء بينا الخطر يتفاقم كلما كبر حجم السفينة وازداد. وقد حدث في الأوقيانوس الأطلانطي مأساة أخرى. هي في هولها وجلالها لا تقل عن كارثة التيتانك ولا فولترنو أو غيرهما. وكيف وقد ذهبت فيها نفوس لا تقل عددها عن عدد غرقى التيتانيك. وذلك أنه في ليلة الثامن والعشرين من مايو المنصرم. عند قم نهر سانت لورانس. أعظم أنهار كندا. خرجت سفينة من أجمل سفن شركة الكنديان باسبيك وهي تلك المسماة إمبراطورة أيرلندا. من ثغر كويبك من الثغور الشرقية لكندا. تريد العودة إلى إنجلترا. فأراد القدر إلا أن تصدم بقارب فحم من قوارب النرويج يسمى (ستورستاد) وذلك حوال الساعة الثانية إلا ربعاً بعد منتصف الليل. وعلى أثر اصطدامها هوت إلى قاع البحر بأصحابها. فغرق منهم أكثر من ألف نسمة. وقعت هذه المأساة على مسافة قريبة من الشاطئ على بعد خمسة أميال أو ستة. إزاء قرية هناك تدعى (رموسكي) لا يزيد عدد سكانها عن 3900 نفس. واقعة على الشاطئ الجنوبي لمدخل نهر سانت لورانس. فلما بلغ نبأ كارثتها السفن المجاورة. هرعت سفينتان إلى نجدتها فلم تجد للإمبراطورة أثراً. وإذا بأمبراطورة أيرلندا الجميلة قد ابتلعها الأقيانوس في بضع دقائق فهوت إلى أعماقه بأكثر أهلها. ولم تستطيع السفينتان أن تنقذ في أثناء ذاك الموقف الجليل. إلا أولئك الذين قدر لهم أن يسرعوا إلى النزول في قوارب وزوارق كانت في رفقة الإمبراطورة. وأولئك الذين سبحوا فوق أديم الماء. وكان البحر لحسن حظهم هادئاًَ ساعتئذ ساكناً. ولكن كان الماء صقيعاً متجمداً. فكان مجموع من أنقذتا ثلاثة وأربعمائة شخص. كلهم في حال رهيبة مخزنة. قد فقدوا متاعهم وسلبوا كل شيء كان في حوزتهم فيهم الجريح والمرضوض. والمخلوط من الرعب والممرور. أما ستورسناد القارب النرويجي المشؤوم فبعد أن بقر بمقدمة بطين الإمبراطورة استطاع النجاة والفرار من الغرق. فأنزل إلى اليمن زوارقه فنجى من نجى من غرقى الإمبراطورة ومن ثم نفذ في البحر سرباً يريد ثغر مونتريال. وأن تفاصيل الكارثة التي قصها القبطان (كاندال) ربان إمبراطورة أيرلندا. وقد كان بين

الذين كتبت لهم السلامة. وتلك التي ألقاها القبطان (أندرسن) ربان قارب ستورستاد. يختلف بعضها عن بعضصثر جد الخلاف. ولكن التحيق وحده كفيل بمعرفة أيهما الجاني الأثيم. وقد جر غرق هذه السفينة العظيمة على شركة سفن الكانديان سايفيك خسارة فادحة. إذ كان يبلغ طولها 165 متراً. تحمل 14191 طناً. جمعت إلى حسن الرواء. وفخامة الأثاث. سرعة المسير. وصلابة التركيب. وكانت تقطع المسافة بين ليفربول وبين كويبك في ستة أيام. وقد قدرت الشركة قيمتها بنحو عشرة ملايين من الفرنكات. وكانت فوق ذلك تحمل خمسة ملايين من الجنيهات. ولكثرة هذه المآسي منذ كارثة التيتانك عرضت على شركات السفن وغرف التجارة مئات من الاقتراحات والابتكارات وكلها تدور حول العمل على إنقاص أخطار البحار وأهواله. ولعل أحسن هذه الاختراعات. اختراع يتألف من حزام الحياة. وسترة من الخيش الذي لا ينفذ منه الماء. تعم البدن كله. ولهذه السترة أكما تنتهي بقفازتين. وفي رأسها فرجة تقفل إذا كان الجو رديئاً مربداً. فإذا أقفلت نفذ الهواء من أنبوبة فوق الرأس صنعت بحيث لا يستطيع الماء أن ينفذ إليها. وقد يستطيع المسافران يسبح في البحر أياماً ويأخذ معه زاده. حتى تلتقطه إحدى السفن السيارة. ويستطيع أن يحمل من الطعام والشراب ما يكفيه أسبوعاً. وكيفية الاشتمال في هذه السترة أن يقف الغريق في شكل دلو هو بمثابة قاع للسترة. وهذا الدلو يأخذ مقداراً من الماء حتى يستطيع الغريق في سترته أن يحفظ توازن. للسترة كذلك مصباح متحرك. يدعو على نوره السفن إلى نجدته. ليلاً ونهاراً. ويتصل بالسترة عدة حال. ليعوم عليه رجلان أو ثلاثة رجال. إن لم يقدر لهم أن يظفروا بالسترة. وهذه السترة من اختراع رجل ألماني يدعى جسناف هنريك وهو يعلن للملأ اختراعه وأنه سيمنع كل أهوال الغرق وأخطاره. مقتل ولي عهد النمسا راع العالم نبأ فاجعة كبرى. رمى بها الغدر شيخاً مرزواً كريماً،. جد ملوك أوروبا بأسرها

وعميدهم. فرانسوا جوزيف. إمبراطور النمسا. وملك المجر. إذ أصيب في ولي عهجه ووارثه الأرشيدوق فرانسو فرديناند. بن أخيه الأرشيدوق شارل لويس. وحفيد الملك فرديناند الثاني من والدته. وقد سلبه الموت من قبل ولي عهده الأول. الأرشيدوق رودلف. وذلك عام 1889. وكان هذا شهوانياً يميل إلى ملذاته. ويجنح إلى مسارته امتصت الشهوات عصاة قوته حتى لم تكن تصدق الأمة النمساوية أنه سيلبث حياً حتى يخلف والده على عرش الإمبراطورية. والإمبراطور فرانسوا جوزيف اليوم في الحول الرابع والثمانين. ولد في اليوم الثامن عشر من شهر أغسطس. عام 1830. قضي هذا العمر الطويل في نصب ورهق. وفواجع وأشجان. جلس على عرش الإمبراطورية النمسوية. منذ اعتزله الإمبراطور فرديناند الثاني في ديسمبر عام 1848. وكذلك مضى على تبوئه أريكة العرش ست وستون سنة. وكان قبل هذه الفاجعة مريضاً. وكانت أوربا تضرع إلى الله أن يتم عليه نعمة الشفاء. أصيب بنزلات صدرية مزمنة. وكان في مرضه أغرب المرضى حالاً. وأعجبهم أمراً. لم يرض أن يلزم فراشه إلا أياماً معدودات. لم يشأ أن يهجر جلساته. أو يترك إلى حين عمله. وقد كان جوابه مازحاً مبتسماً لابنته الأرشيدوقة ماري فاليري. وكانت نصحت له أن يتخلى عن حضور جلساته. (لئن كنت أجش الضوت أبحه. فلست بالأصم) ولم يحدث مرضه أدنى تغيير في شهوته للطعام. ولا في تودده للناس وتلطفه. والمطلع على التقارير التي تجيء من ويانة منبئة عن النظام الذي يتبعه الشيخ المريض في تقضية ساعات نهاره. يري أن الإمبراطورة يأوى عادة إلى فراشه الساعة الثامنة من المساء وينهض منه الساعة الرابعة صبحاً. فإذا استيقظ استحم بماء فاتر. ثم تزين. وحلق لحيته. حتى إذا أقبلت الساعة الخامسة جلس إلى مكتب عمله. وفي الساعة السادسة يتناول فطوره الأول. حساء وقطعة من الشواء البارد. فمقداراً من اللبن أو الكاكاو. وقد استبدل اللبن والكاكاو منذ مرضه بالشاي الروسي. وإذا جاءت الساعة السابعة استقبل طبيبه الخصيص به. وفي خلال ضحوة النهار يتناول لبناً مغلياً. مع شيء من الخبز الأسود. وفي منتصف الساعة الثانية عشرة يجلس إلى طعام الغداء. وهو يتألف من الحساء واللحم والخضر. ثم

يستريح بعد الظهيرة. وفي الساعة السادسة من المساء يقدم له طعام خفيف. مقدار من السمك. مع مقدار من النقل. وتفصيل الفاجعة الكبرى هو أن الأرشيدوق كان يرأس بعض الاستعراضات العسكرية في ضواحي (الديزيه) من بلاد البوسنة بصفته من كبار القواد والمفتش العام للجيش النمسوي. وكان في رفقته في تلك الرحلة زوجته الدوقة هو هنبرج. وقد انتهت الاستعراضات يوم الأحد الثامن والعشرين من شهر يونيو الماضي. فأراد الأمير أن يختم رحلته في البوسنة والهرسك بزيارة سراجيفو عاصمة الأولى في ذلك اليوم. وأنه وزوجته في طريقهما إلى دار المحافظة في سراجيفو إذ اعترض السيارة التي نقلهما عامل من صفافي الحروف يدعى كابرينوفتش. وقذف عليهما قنبلة من الديناميت. أنفاها ولي العهد بأحد ذراعيه فسقطت على الأرض. وانفجرت فأصابت شظاياها السيارة التي كانت في أثر سيارة الأرشيدوق فأصيب الكولونيل موريزي ياور المحافز بجراح غير بالغة. وأصيب كذلك ستة من السابلة. وواصلت مركبة الأرشيدوق وزوجه مسيرها إلى دار المحافظة حيث استقبلا بالحفاوة والإجلال. وقد حاولوا عبثاً أن ينصحوا للأرشيدوق بتغيير الطريق في عودته. وكان قد أجمع أمره على الذهاب إلى زيارة المستشفى الحربي. لعيادة الجرحى الذين أصابتهم القنبلة. وكذلك كانت تدفعه الأقدار المحتومة إلى موضع الكارثة. فلما دنت السيارة التي تقله وزوجه من ملتقي شارع فرانسوا جوزف بشارع رودلف. على مسافة غير بعيدة من دار المحافظة. انبرى من أول صف من صفوف الجمهور لمحتشد. فتى ناشئ يكاد يظن غلاماً صغيراً. وتقدم إلى الأمام فصوب نحو الأمير وقرينته. رصاصتين من مسدس (برونيتج) فأصابت الأولى بطن الأرشيدوقة. من ناحية جنبها الأيمن. وأصابت الثانية الأرشيدوق في عنقه فقطعت وريده، فأسرعت السيارة بها إلى دار المحافظ. وحاولوا إسعافهما فلم يجد الإسعاف نفعاً. بل لم يلبثا أن لفظا أنفاسهما الأخيرة. والقاتل مثل الأثيم الأول كابرينوفتش من الصرب يدعى جاريللو برنزيب أحد طلبة المدارس. لا تتجاوز سنة الحول التاسع عشر. وقد أثارت هذه الحادثة على الصربيين - إذ كان الأثيمان منهم - حنقاً شدايداً. ومظاهرة

أشد. وقامت الفلاقل. وارتفعت الهزاهز والفتن. في كثير من القرى الصربية في بوسنة والهرسك وقتل من الصرب وجرح خلق كثير في سراجيفو وموسطار وغيرهما وسطا المتظاهرون على الحوانيت التي يملكها التجار الصربيون على أن الحكومة الصربية نفسها احتجت احتجاجاً رسمياً على هذه المظاهرات وأعلنت استياءها وانكارها لجناية كابرينوفتش وجريمة برنزيب. والذي يزيد الأسى على الأرشيدوق القتيل هو أنه مات في الحول الخمسين من عمره دون أن يتولى العرش. ويعتلي الأريكة. وقد نضج في العشر السنين الأخيرة. وتجلت مواهبه وظهرت كفاءته وذكاءه. ونحن. وإن كنا لا نستطيع أن نعرف ماذا كانت تكون خططه. لو كان وثب إلى العرش. نتابع آراء أهل السياسة والنظر ونرى فيه كما رأوا رجلاً ذا شخصية قوية وإرادة. وفكرة عالية في حكم إمبراطوريته. ولم يكن يعرف أحد من الناس خطة الأرشيدوق السياسية. إذا كان الأرشيدوق سراً مغلقاً ولغزاً معمي كان يفكر في صمت ويعيش في سكون ويمضي في خفاء. وكان ذهنه يسير إلى الرقي والتطور. سيراً حثيثاً في كل يوم. ولما نعي النعاة للإمبراطور فرانسوا جوزيف ولي عهده. وهو في أحد بلاد الريف يصطاف معتزلاً ضوضاء العاصمة وجوها المعتكر كعادته في صيف كل عام. وقع منه النعي كما تقع الصاعقة واندفع في بكاه ودموعه. وهو يصيح: يا للهول. يا للهول. لم يتركوا لي شيئاً بعد في هذا العالم!. وغادر الإمبراطور المحزون. مصطافه في صباح اليوم التالي عائداً إلى العاصمة. وكان ينتظره في المحطة فتاه ولي العهد الجديد. وكا هذا موجعاً لوفاة الأرشيدوق حزيناً لمصاب الإمبراطور يري الناظر إلى وجهه ساعة استقبال الإمبراطور. بقية دمع في محجريه فلما نزل من القطار. اعتد على ذراع الفتى. ومشى حتى بلغ المركبة. وكانت الجماهير تهتف له في الطريق وتضج بالتحية وإظهار عواطفهم نحوه وإخلاصهم إليه. وأعجب ما في أمر هذا الشيخ. أنه ينعم الآن. وكان من قبل على حافة القبر. بصحة جيدة وحال طيبة. وتلك لعمري من معجزات القدر. وعجائبها القضاء. قيمة الإعلانات

منذ تقدمت الصحافة في ممالك العالم المتحضر. ارتفع قدر الإعلانات. واستمدت من الصحافة منها كذلك قوام أمرها. ومصدر ثروتها. وقد تمت قيمتها اليوم نمواً عظيماً وعلت أجورها في الغرب علواً كبيراً. حتى لنكاد نظنها نحو الشرقيين باهظة فادحة ونحن موردون للقرء. ما يتقاضاه بعض صحف الغرب ومجلاته الكبرى. من الأجور حتى يعلموا إلى أي حد ارتقى الغرب. وإل أي حد نحن في الرقي نمت إليهم. ذلك أن أجرة نشرة واحدة للإعلان الذي يستغرق صحيفة واحدة من الصحف والمجلات الآتية أسماؤها هي كما يأتي بحساب الجنيهات الإنكليزية. 350 في صحيفة الديلي ميل وبين 75 و100 في صحيفة البانش الهزلية و40 في مجلة ستراند و15 في مجلة المجلات الأسبوعية الذائعة في أمريكا تصدران من فيلادلفيا. وعدد النسخ التي تطبع منهما مليونان في كل أسبوع و100 في مجلة ما نساي الأمريكية و50 في مجلة المجلات الأميركية و8 شلنات ونصف شلن للسطر الواحد في البتي بارزيان و150 في مجلة الاستراسيون الفرنسية الأسبوعية. وهذا الاختلاف في قيمة الأجور يتبع الاختلاف في مقدار ذيوع هذه الصحف. وشيوع هذه المجلات. ومقدار السرعة التي تصل بها نسخها إلى مختلف أنواع الأرض. وقد عرضت إحدى المجلات الإنكليزية المشهورة على جماعة من كبار السياسيين والاقتصاديين والدينيين والفلاسفة والمفكرين والصحفيين والحكوميين هذه الأسئلة الثلاثة الآتية: [1] ما هو أهم عيوب الطريقة المتبعة في نشر الإعلانات؟. [2] هل لديكم أي اقتراح لتحسينها. [3] ما رأيكم العام في قيمة الإعلانات؟. فرد عليها جمع عظيم منهم فكان أحسن جواب على هذه الأسئلة مارد به ماكس نوردو وقد شهدت بذلك المجلة نفسها واضعة الأسئلة. قال ذلك الفيلسوف الناضج: إنه ليدهشنا الذين يستطيعون إخراج الاستنتاجات المنطقية من بين ثنايا الحقائق البينة الجلية قليلون جداً. كلنا يسلم بأن تطور المدنية يفضي بنا إلى الديمقراطية وفي كل مكان تحد الحكم للجماهير.

وفي كل مكان ترجح الجماهير بالطبقات. فكيف لا تصدم كل فرد من تلك الحقيقة التي تدل على أن الإعلان وليد الديمقراطية. ونتيجتها المحتمة. وعاقبتها الإجبارية؟. وأنت لا تحتاج في المجتمع الأوتوقراطي. أو الشعب الأرستقراطي إلا إلى أن تلقت إليك أنظار الفرد أو تلك الفئة القليلة التي ينبسط سلطانها. وتجري قوانينها على المجتمع كله. كما قال ذلك الفرنسي المتملق إن عين لويس الرابع عشر. هي التي أخرجت كل حسنات الصناعة. وبدائع الفنون وفي مجتمع كهذا. لا يغني الإعلان ولا يفيد. بل حسبه أن يسر الملك ويرضيه. ورعاية الملك لكل شيء تذهب برعاية الشعب ولكنك في المجتمع الديمقراطي. لا تستمد من رعاية أي فرد. مهما كان عظيماً. ولا من أي بيئة من البيئات. إلا الفائدة النزرة التافهة. ومن ثم وجب عليك أن تسترعي أنظار الملايين ولا سبيل إلى ذلك إلا الإعلان. ولاشك في أن أولئك الذين يذهبون إلى نظرية السبرمان. تلك النظرية الطائشة الحمقاء يرون الإعلان من أخلاق العامة وشؤون الغوغاء والسوقة. ولكن أخلق بهم أن يكونوا في النقد عادلين ثابتين. ليعيبوا إذن على الكنائس صخب أجراسها. وضوضاء نواقيسها. لأنها إعلان عن الفرائض الدينية. ولينكروا قاعات المتاحف الباريسية ومعارض الفنون الجميلة لأنها إعلان عن أهل الفنون. وبدائع أعمالهم. وقد يكون أدل على الأرستقراطية وأتم على النبل أن لا تدق للكنائس والبيع أجراس. بل ينتظروا حتى يجيء المؤمنون المتقون إلى الكنيسة من أنفسهم. وإن لا تعرض حسنات العبقرية على الجمهور. بل تترك في حجرة المصور حتى يجيء فيشهدها نقادة جهبذ. ولكن من ذا الذي يجرأ على أن يمتدح هذه الطريقة المبتكرة اليوم؟. من المستطاع أن تنشر الإعلانات بطريقة ثقيلة. منحطة. سوقية، ومن الهين أن تكتب بأسلوب جميل صادق مهذب، تستطيع الإعلانات أن تسترعي الغرائز السافلة، وتستدعي الغش والمين، كما تستطيع أن تلفت الذهن، والعقل، والعواطف. وللإعلان بالطريقة الصائبة الجميلة يجب أن تكون ملماً بروح الفرد. وروح الجماعات ينبغي أن تكون رجلاً مهذباً أميناً. طيباً. صادقاً. ويجب أن تكون على شيء من الفن فهل يتيسر هذا كله!.

وصفوة القول. إن كل من يرضي بالديمقراطية يجب أن يرضي بالإعلان. ولا يسأل إلا أن يراعي في الإعلانات الطريقة المحمودة. وإليك جواب برناردشو. الفيلسوف الإنجليزي العظيم على هذه الأسئلة: [1] إن الإعلان يطالب برخصة للكذب. لا نبررها اللياقة. ولا تتشفع لها الأخلاق. [2] استئصال شأفة النظام التجاري الحاضرة بجملة أصوله وفروعه. [3] الإعلانات هي كل ما في التجارة. شراب الجعة في ميونيخ ميونيخ هي أكبر مركز في العالم لصناعة الجعة. منها يستمد شراب الجعة في كل أنحاء الدنيا وأطراف الأرض. من الجعة حاجاتهم. وفي شهر مايو من كل عام يظهر في ميونيخ نوع جديد من الجعة يسمونه جعة البوك وهي ألذ مطعماً من النوع العادي. وأعذب مساغاً. فإذا أقبل شهر مايو الجميل. أقبل أهل ميونيخ على هذه الجعة مسرعين مخفين. وقد قرأنا في إحدى الإحصائيات أن عدد الذين زاروا حدائق الجعة. وهي من أعظم حدائق العالم العربي في شهر مايو الماضي على 12000 زائر في اليوم. وقد تناولوا ما يزيد عن 6600 جالون من الجعة. نصف هذا المقدار من جعة البوك والنصف الباقي من الجعة السوداء. أما معدل المأكولات التي تتناول على الجعة كل يوم في تلك الحدائق. فعشرون عجلاً. وأربعة خنازير. و36000 قطعة من قطع اللحم البقري. وكثير من القول التي تقدم مع الجعة - ولما كانت هذه الحدائق واحدة من بين كثيرات أمثالها في ميونيخ. فمن المحتمل أن يكون معدل الجعة في ميونيخ كلها. عشرين ألف طن كل يوم. ومن أعجب العجب بعد هذا أن يقال أن البفاريين والمونيخيين قد أقلوا من شراب الجعة. في صيف هذا العام. معيشة المقاصير والحرم في تركيا كتب القائد عزت فؤاد باشا في إحدى المجلات الألمانية مقالاً في حياة الحريم. جاء فيها بملحوظات قيمة عن أسباب عدول أغنياء الأتراك وأكابرهم عن المعيشة التي كانوا عليها منذ عدة سنين. وهي تعدد الحرم. وهي تلك المقاصير التي يفرد فيها التركي زوجاته.

وسرياته. وجواريه. فقال إن الحريم لم يعد بعد موجوداً. وإن تعدد الزوجات في تناقص وهبوط. وإن كان الشرع يبيح من الزوجات رباع. ومن الجواري والسريات ما شاء الرجل. وشاءت ثروته. ذلك لأن اتخاذ هذه الحرم يستلزم تكاليف كثيرة. ويتطلب نفقات كبيرة. وفي كثير من الأحوال يضيع دخل الرجل كله في مصاريف حريمه. وقد جاء الكاتب بمثال لذلك استخلصه من حال حميه. وكان له أربع أزواج. وخمسمائة من الجواري والحظيات في حريمه. فقال إنه عند وفاته. في سن الأربعين لم يترك شيئاً. وقد كان ورث ثروة لا تقل عن مليونين من الجنيهات. ومنشأ كل هذه التكاليف أن كل زوجة وكل حظية لابد لها من خدم وخول. ومنذ انقطع الاتجار بالرقيق في تركيا قل معه اتخاذ الحظيات والزوجات المتعددات. وقد كانت حياة المقاصير. ومعيشة الحرم. أحد الأسباب التي عطلت رقي تركيا. لأنها كانت تمتص جزءاً كبيراً من المال. كان أحق به أن يصرف في سبيل رقي التجارة. التي تركت لليونانيين والأرمن والسوريين. عبادة الديكة الديكة من معبودات اليابانيين. وقد كان من تقديسهم لها أن احتفظوا بتأريخ نوعها منذ ألف عام قبل مولد المسيح. ويزين الديكة في اليابان أذناب وريش نهاية في الطول. حتى ليظن من يقع عليها أنها إحدى الشواذ. فقد يبلغ طول الريش نحواً من عشرة أقدام. وفي متحف طوكيو ثلاثة أنواع من الريش تتراوح في طولها بين ثلاثة عشر وخمسة عشر قدماً.

صفحة من التاريخ

صفحة من التاريخ النساء في الأندلس إن الناظر في تاريخ المسلمين في الأندلس ليقضي عجباً إذ يرى ضروب الحضارة جمعاء من علم وأدب وصناعة وتجارة وفلسفة وطب وزراعة واختراع وجيش بري وبحري وأسطول ودولة وما إلى ذلك قد أربت على الغاية حتى ليصح للناظر أن يقول إن مدينة الأندلس كانت بحيث لا يتعلق بأذيالها مدينة أمة أخرى في هاتيك الأزمان، بل يرفع عقيرته قائلاً إن هذه المدينة جاءت سابقة أوانها، لا بل كانت حلماً في الكرى أو خلسة المختلس. ولسنا نقصد بهذه الرسالة إلى التعرض لجميع أنواع الحضارة العربية في الأندلس فإن ذلك قد أتينا عليه مفصلاً في كتابنا حضارة العرب في الأندلس الذي نسأل الله أن يعين على تمامه وإنما النية بهذه الرسالة أن تذكر طرفاً مما كان عليه نساء الأندلس من علم وأدب عسى أن يكون لنا من ذلك عبرة إن شاء الله. فأول ذلك أن كان في أحد أرباض (ضواحي) قرطبة أيام عبد الرحمن الناصر مائة وسبعون امرأة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي: وكان لبعض قضاة لوشة إحدى مدائن الأندلس زوجة بزت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل وكان قبل أن يتزوجها وصفت له فتزوجها فكان يجلس في منصة القضاء فترفع إليه الخصومات وتنزل النوازل فيلجأ إليها فتشير عليه بما يحكم به: وقد كتب إليه بعض أصحابه يداعبه. بلوشة قاض له زوجة ... وأحكامها في الورى قاضية فيا ليته لم يكن قاضياً ... ويا ليتها كانت القاضية فأطلع زوجته على هذه المداعبة فقالت ناولني القلم فناولها فكتبت بديهة: هو شيخ سوء مزدري ... له شيوب عاصية كلا لئن لم ينته ... لتسفعاً بالناصية ومن مشهورات نساء الأندلس حمدة ويقال حمدونة بنت زياد المؤدب الوادي آشي من وادي آش إحدى مدائن الأندلس واحتها زينب. قال المقري وحمدونة هي خنساء المغرب وشاعرة الأندلس وممن روى عنها أبو القاسم بن

البراق ومن قولها: ولما أبى الواشون ألا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقل حماتي عند ذاك وأنصاري غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل والنار وقالت وقد خرجت مع نسائها إلى واد نهره منقسم الجداول بين الرياض فنضون ثيابهن وسبحن في الماء وتلاعبن. أباح الدمع أسراري بوادي ... له للحسن آثار بواد فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يرف بكل واد ومن بين الظباء مهاة أنس ... سبت لبي وقد ملكت فؤادي لها لحظ ترقده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في أفق السواد كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالحداد وقد أجمع مؤرخو الأندلس على أن حمدونة هذه هي صاحبة الأبيات المشهورة المنسوبة إلى المنازي الشاعر: وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم نزلنا دوخة فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظملأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم يصد الشمس إني واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم قال الرعيني وهو ممن وفد من الأندلس إلى المشرق ونزلت بحلب وكانت حمدونة من ذوي الألباب. وفحول أهل الآداب. حتى أن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب. وادعى نظم هذه الأبيات: يعني ولما أبي الواشون إلى آخره: لما فيها من المعاني والألفاظ العذاب. وما غره في ذلك إلا بعد دارها. وخلو هذه البلاد المشرقية من أخبارها. وقد تلبس بعضهم بشعارها. وادعى غير هذا من أشعارها. وهو قوله وقانا لفحة الرمضاء واد الخ وإن هذه الأبيات نسبها أهل البلاد للمنازي من شعرائهم. وركبوا التعصب في جادة ادعائهم. وهي

أبيات لم يجلبها غير لسانها. ولا رقم برذيها غير إحسانها ولقد رأيت المؤرخين من أهل بلادنا وهي الأندلس أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود، ويتصف بلفظة الموجود. ومن أديبات الأندلس نزهون الغرناطية من أهل المائة الخامسة وصفها صاحب المسهب بخفة الروح والانطباع الزائد والحلاوة وحفظ الشعر والمعرفة بضرب الامثال مع الجمال الفائق والحسن الرائق حكى أنها كانت تقرأ علي أبن بكر المخزومي الأعمى فدخل عليهما أبو بكر الكتندي فقال يخاطب المخزومي. لو كنت تبصر من تجالسه فأفحم وأطال الفطر فما وجد شيئاً فقالت نزهون: لندوت أخرس من خلاخله: البدر يطلع من أزرته ... والغصن يمرح في غلائله ومن شعرها: لله در الليالي ما أحيسنها ... وما احيسن منها ليلة الأحد لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت ... عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر ... بل ريم خازمة في ساعدي أسد ولها نوادر مع كثير من أدباء الأندلس لا يتسع لها هذا المقال. ومنهن عائشة بنت أحمد القرطبية، قال ابن حيان: لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعد لها علماً وفهماً وأدباً وشعراً وفصاحة تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاج وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف، وماتت عذراء لم يمسها أحد سنة أربعمائة: وقال ابن سعيد في المغرب إنها من عجائب زمانها، وغرائب أوانها، وأبو عبد الله الطبيب عمها ولو قيل أنها أشعر منه لجاز، دخلت على المظفر بن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولد فارتجلت: أراك الله فيه ما تريد ... ولا برحت معاليه تزيد فقد دلت مخايله على ما ... تؤمله وطالعه السعيد تشوقت الجياد له وهز الحس ... ام هوى وأشرفت البنود

وكيف يخيب شبل قد نمته ... إلى العليا ضراغمة أسود فسوف تراه بدراً في سماء ... من العليا كواكبه الجنود فأنتم آل عامر خير آل ... زكا الأنباء عنكم والجدود وليدكم لدي رأي كشيخ ... وشيخكم لدى حرب وليد ومنهن الرميكية جارية المعتمدين عباد أحد ملوك الطوائف وأم أولاده وقال في المغرب ركب المعتمد في النهر ومعه ابن عمار ووزيره وقد زردت الريح النهر فقال ابن عباد لابن عمار أجز. صنع الريح من الماء زرد. فأطال ابن عمار الفكرة فقالت امرأة من الغسالات. . . أي درع لقتال لو جمد. فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به مع عجز ابن غمار ونظر إليها فإذا هي من أجمل ما خلق الله فأعجبته فسألها أذات زوج هي فقالت لا فتزوجها وولدت له أولاده واشتهرت بالرميكية واسمها اعتماد. ومن غريب الأمر أن ذلك لم يقف عند المسلمات بل جاوزهن إلى اليهوديات فكان منهن أديبات كما كان من اليهود أدباء فحول وبحسب اليهود في الأندلس إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الشاعر الغزل صاحب الموشحة التي عارضها لسان الدين بن الخطيب بموشحته المشهورة ولا بأس أن نورد هنا موشحة الإسرائيلي ونعقبها بموشحة ابن الخطيب والشيء يذكر بالشيء والحديث شجون قال إبراهيم بن سهل: هل دري ظبي الحمي أن قد حمي ... قلب صب حله عن مكنس فهو في حر وخفق مثل ما ... لعبت ريح الصبا بالقبس يا بدورا أطلعت يوم النوى ... غررا تسلك في نهج الغرر ما لقلبي في الهوى ذنب سوى ... منكم الحسن ومن عيني النظر أجتني اللذات مكلوم الجوي ... والتذاذي من حبيبي بالفكر كلما أشكوه وجدا بسما ... كالربى بالعارض المنبجس إذ يقيم القطر فيها مأتما ... وهي من بهجتها في عرس غالب لي غالب بالتؤده ... بأبي أفديه من جاف رقيق ما رأينا مثل ثغر نضدة ... أقحوانا عمرت منه رحيق

أخذت عيناه منه العربدة ... وفؤادي سكره ما أن يفيق فاحم الجمة معسول اللمى ... أكحل اللحظ شهي اللمس وجهه يبتلو الضحى مبتسماً ... وهو من أعراضه في عبس أيها السائل عن ذلي لديه ... لي يجني الذنب وهو المذنب أخذت شمس الضحى من وجنتيه ... مشرقاً للصب فيه مغرب ذهبت أدمع أجفاني عليه ... وله خد بلحظي مذهب يطلع البدر عليه كلما ... لاحظته مقلتي في الخلس ليت شعري أي شيء حرما ... ذلك الورد على المفترس كلما أشكو إليه حرقي ... غادرتني مقلتاه دنفا تركت الحاظة من رمقي ... أثر النمل على صم الصفا وأنا أشكره. فيما بقى ... لست الحاه على ما أتلفا فهو عندي عادل إن ظلما ... وعذولي نطقه كالخرس ليس لي في الحب حكم بعدما ... حل من نفسي محل النفس منه للنار بأحشائي اضطرام ... يلتظى في كل حين ما يشا وهي في خديه برد وسلام ... وهي ضر وحريق في الحشا اتقى منه على حكم الغرام ... أسد الغاب وأهواه رشا قلت لما أن تبدي معلما ... وهو من الحاظه في حرس أيها الآخذ قلبي مغنما ... اجعل الوصل مكان الخمس وهذه موشحة لسان الدين بن الخطيب: جادك الغيت إذا الغيث هما ... يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس إذ يقود الدهر أشتات المنى ... ينقل الخطو على ما يرسم زمراً بين فرادة وثنا ... مثل ما يدعو الوفود الموسم والحيا قد جلل الروض سنى ... فثغور الزهر منه تبسم وروى النعمان عن ماء السما ... كيف يروي مالك عن أنس

فكساه الحسن ثوباً معلما ... يزدهي منه بأبهى ملبس في ليال كتمت سر الهوى ... بالدجى لولا شموس الغرر مال نجم الكاس فيها وهوى ... مستقيم السير سعد الأثر وطر ما فيه من عيب سوى ... انه مر كلمح بالبصر حين لذ النوم منا أو كما ... هجم الصبح هجوم الحرس غارت الشهب بناء أو ربما ... أثرت فينا عيون النرجس أي شيء لامرئ قد خلصا ... فيكون الروض قد مكن فيه تنهب الأزهار منه الفرصا ... أمنت من مكره ما تنقيه فإذا الماء تناجي والحصا ... وخلا كل خليل بأخيه تبصر الورد غيوراً برما ... يكتسي من غيظه ما يكتسي وترى الآس لبيباً فهما ... يسرق السمع بادني فرس يا اهيل الحي من وادي الغضى ... وبقلبي سكن أنتم به ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ... لا أبالي شرقه من غربه فأعيدوا عهد أنس قد مضى ... تعتقوا عانيكم من كربه واتقوا الله وأحيوا مغرماً ... يتلاشى نفساً في نفس حبس القلب عليكم كرماً ... أفترضون عفاء الحبس وبقلبي منكم مقترب ... بأحاديث المنى وهو بعيد قمر أطلع منه المغرب ... شقوة المغرى به وهو سعيد قد تساوى محسن أو مذنب ... في هواه بين وعد ووعيد ساحر المقلة معسول اللمي ... جال في النفس مجال النفس سدد السهم وسمي ورمي ... بفؤادي نهبة المفترس إن يكن جار وخاب الأمل ... وفؤاد الصب بالشوق يذوب فهو للنفس حبيب أول ... ليس في الحب لمحبوب ذنوب أمره معتمل ممتثل ... في ضلوع قد براها وقلوب حكم اللحظ بها فاحتكما ... لم يراقب في ضعاف الأنفس

ينصف المظلوم ممن ظلما ... ويجازي البر منها والمسي ما لقلبي كلما هبت صبا ... عادة عيد من الشوق جديد كان في اللوح له مكتتباً ... قوله إن عذابي لشديد جلب الهم له والوصبا ... فهو للأشجان في جهد جهيد لاعج في أضلعي قد أضرما ... فهي نار في هشيم اليبس لم يدع في مهجتي إلا الذما ... كبقاء الصبح بعد الغلس سلمى يا نفس في حكم القضا ... واعمري الوقت برجعي ومتاب دعك من ذكرى زمان قد مضى ... بين عتبي قد نقضت وعتاب وأصر في القول إلى المولى الرضا ... ملهم التوفيق في أم الكتاب الكريم المنتهي والمنتمي ... أسد السرج وبدر المجلس ينزل النصر عليه مثل ما ... ينزل الوحي بروح القدس نرجع الآن إلى ما نحن بصدده، قلنا إن الأدب العربي لم يكن قاصراً في الأندلس على المسلمات بل كان كذلك من اليهود أديبات. وذاك لعمري دليل آخر على استبحار الحضارة العربية وخاصة الأدب في تلك العصر حتى غمرت جميع الأندلسيين مسلميهم ومسيحيهم واليهود، رجالاتهم والنساء، فمن أديبات اليهود في الأندلس قسمونة بنت إسماعيل اليهودي وكان أبوها شاعراً وعنى بتأديبها. قال المقري وربما صنع من الموشحة قسماً فأتمتها هي بقسم آخر قال لها أبوها يوماً أجيزي: لي صاحب ذو بهجة قد قابلت ... منها يظهر واستحلت جرمها ففكرت غير كثير وقالت: كالشمس منها البدر يقبس نوره ... أبداً ويكسف بعد ذلك جرمها فقام كالمختبل وضمها إليه وجعل يقبل رأسها ويقول أنت والعشر كلمات أشعر مني ونظرت في المرآة فرأت جمالها وقد بلغت أوان التزوج ولم تتزوج فقالت: أرى روضة قد حان منها قطافها ... ولست أري جان يمد لها يدا فواسفا يمصى الشباب مضيعاً ... ويبقي الذي ما أن اسميه مفردا ومن قولها في ظبية كانت عندها:

يا ظبية ترعي بروض دائماً ... إني حكيتك في التوحش والحور أمسى كلانا مفرداً عن صاحب ... فلنصطبر أبداً على حكم القدر ومن أديبات الأندلس اللواتي ملأن الدنيا أدباً وفضلاً ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر قال ابن بشكوال صاحب كتاب الصلة كانت ولادة أديبة شاعرة جزلة القول حسنة الشعر وكانت تناضل الشعراء وتساجل الأدباء وعمرت عمراً طويلاً ولم تتزوج قط. ماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانية وأربعمائة وكان أبوها المستكفي قد بايعه أهل قرطبة لما خلعوا المستظهر وكان خاملاً ساقطاً وخرجت هي في نهاية من الأدب والظرف حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتَّاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب، وطهارة أثواب. مرت يوماً بالوزير ابن أبي عامر بن عبدوس وأمام داره بركة تتولد عن كثرة الأمطار وربما استمدت بشيء مما هنالك من الأقذار وقد نشر أبو عامر كمية، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه، فقالت له: أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلا كما بحر فتركته لا يحير حرفاً، ولا يرد طرفاً. وقال ابن سعيد في المغرب بعد أن ذكر أنها بالمغرب كعلية في المشرق. إلا أن هذه تزيد بمزية الحسن الفائق، وأما الأدب والشعر والنادرة وخفة الروح فلم تكن تقصر عنها، وكان لها صنعة في الغناء، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها. فيمر فيه من النادر وإنشاد الشعر كثير لما اقتضاه عصرها من مثل ذلك. قال المقري: وفيها خلع ابن زيدون عذاره وقال فيها القصائد الطنانة والمقطعات وفيها يقول: بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم وما جفت مآقينا نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا إلى آخر القصيدة وهي مشهورة متداولة. وبسببها خاطب ابن عبدوس برسالته المشهورة، ومن قوله يخاطب ابن عبدوس: أثرت هزبر الثري إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض

وما زلت نبسط مسترسلاً ... إليه يد البغى لما انقبض حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خسفا أبي فامتعض وإن سكون الشجاع النهو ... ش ليس يمانعه أن يعض عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض اضاقت أساليب هذا القري ... ض أم قد عفى رسمه فانقرض لعمري فوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبحت الغرض إلى أن قال: وغرك من عهد ولادة ... سراب ترآءى وبرق ومض هي الما يعز على قابض ... ويمنع زبدته من مخض وقالت وقد زارت ابن زيدون فأرادت الانصراف وودعته بهذه الأبيات: ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك يقرع السن على إن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك يا أخا البدر سناء وسنى ... حفظ الله زمانا أطلعك أن يطل بعدك ليلى فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك وأرسل إليها ابن زيدون مرة هذه الأبيات: ألا هل لنا بعد هذا التفرق ... سبيل فيشكو كل صب بما لقى وقد كنت أوقات التزاور في الشتا ... أبيت على جمر من الشوق محرق فكيف وقد أمسيت في حال قطعه ... لقد عجل المقدور ما كنت أتقي تمر الليالي فلا البين ينقضي ... ولا الصبر من رق التشوق معتقي سقي الله أرضاً قد غدت لك منزلاً ... بكل سكوب هاطل الوبل مغدق فأجابته بقولها: لحى الله يوماً لست فيه بملتقي ... محياك من أجل النوى والتفرق وكيف يطيب العيش دون مسرة ... وأي سرور للكئيب المؤرق وكتبت أثناء الكلام بعد البيتين: وكنت ربما حثتني على أن أنبهك على ما أجدك فيه عليك نقداً وإني انتقدت عليك قولك:

سقي الله أرضاً قد غدت لك منزلاً فإن ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة: ألا يا سلمى يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر إذ هو أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له وأما المستحسن فقول الآخر: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي وأخبار ولادة كثيرة رحمها الله - وبعد فإن أدبيات الأندلس يخطئهن العد والإحصاء، فنجتزئ الآن بمن ذكرنا وفيهن إن شاء الله الغناء.

النجاح

النجاح ماكس نوردو اسم عرفه قراء هذه المجلة بما نشرته لهم ملخصاً عن كتابه الأكاذيب المقررة في المدينة الحاضرة ولهذه النقادة غير كتاب الأكاذيب كتب عدة نبحث في موضوعات شتى، فمنها كتاب الانحطاط والاضمحلال ومنها كتاب الفنون وأهل الفنون ومنها كتاب الغرائب وهو الذي نلخص عنه هذا الفصل في موضوع النجاح. والنجاح على كونه طلبة العامل والعاطل، ومنية الكبير والصغير، فقليلاً ما كتب فيه الكاتبون، وقل في هذا القليل من أصاب وأفاد، لأن للنجاح صناعة يموت أكثر الناجحين على سرها. أو يبوحون ببعض السر ويكتمون بعضه خجلاً أو استئثاراً. إلا أن نورد وسلك في هذا الفصل مسلك التعريض بأسباب النجاح في عصرنا هذا، فجر وسائله ولم يأت في جده وهزله بكلمة لا يؤيدها الواقع أو يقوم عليها الشاهد من العيان. ولكنها حقائق لا يقبلها ولا يثق بها إلا رجل أفلح أو رجل أخفق. فأما المفلح فيعلم بم نجح، وأما المخفق فيعلم لمَ لمْ ينجح، وأما الذين هموا بالنجاح ولم يمارسوه، وعشوا إلى ضوء ناره ولم يواقعوه، وحلموا بإدراكه ولم يحققوه، فأولئك يثقون بأحلامهم وأمانيهم أكثر من ثقتهم بهذه الحقائق المؤيدة وإن كانت غير شريفة، والتجارب الصعبة على كونها أسهل من الشرف في إحراز النجاح. وقد أفرغه في قالب الدعابة والسخر ولكن فيه من روح التذمر والنقمة ما يحسده عليه شوبنهور أمام الساخطين. مع أنه استهل هذا الكتاب بفصل مسهب في التيمن والتطير، فكان زبدة كلامه أن التيمن أعمق في الطباع من التطير، وأن النفوس أسكن إلى حسن الظن بالناس والحياة منها إلى سوء الظن بهم. ولما ظهر هذا الفصل حسبه بعض الجهلاء جادوا في قوله، وفهموا أنه يجيز استخدام هذه الوسائل ولم يفهموا أنه ينكرها ويشهر بها، فقرعوه أقبح التقريع وسبوه في أخلاقه ومبادئه، فذيل الفصل في الكتاب بكلمة قال فيها إنه كان يود لو أتيح له نشر صور هؤلاء الكتاب لأنهم ولا ريب من عجائب المخلوقات في هذا القرن العشرين. وكأنهم استغربوا من الرجل مجاهزته بأن النجاح يغتنم أحياناً بالخداع والتلبيس - استغربوا منه ذلك جرياً على مذهب المتشددين في تربية الناس وهم أحوج الناس إلى من يتشدد في تربيتهم، والقائلين بتجاهل مثالب المجتمع وهم من حسور النظر بحيث لا يعلمون مثالب المجتمع أو محامده، وطالما سمعناهم يحتمون على الكاتب إذا كتب في النجاح أن ينبه

القراء إلى التعويل على أنفسهم وإلى تمحل أسباب النجاح وابتغاء الوسائل إليه. قلنا إن كان هذا واجباً فأوجب منه أن ننبه الأمة إلى أن المعول في نجاح تلك الوسائل إنما هو عليها. فإن زمناً من الأزمان لم يخل من وسائل للنجاح كائنة ما كانت. وإنما على الأمة أن تحذر لئلا تكون تلك الوسائل مما لا يحذقه إلا أرزالها، ومن لو نجحوا الأضر نجاحهم بها، وكان تقدمهم وبالاً عليها، ولئن كان من واجب الفرد أن يسعى ليستحق النجاح فلا نزاع في أن واجب الأمة أن تسعى لينال النجاح من يستحقه، إذ ليس كل من ينال النجاح ويستحقه، ولا كل من يستحق النجاح يناله. ولو كان العامل وحده هو المؤثر في عمله للزمته وحده تبعة النجاح أو الخيبة، ولكن للنجاح أركاناً هي العمل والعامل ووقت العمل ومكانه. فربما كان العامل واحداً في البلدين فينجح هنا ويحبط هناك وربما كان العامل بعينه والبلد بعينه ولكنه ينجح في وقت ويحبط في وقت آخر. وقد تكون البيئة واحدة والعمل هو هو فيقدم عليه اثنان يظفر أحدهما ويفشل الآخر. فلا يجوز أن يتجه اللوم كله إلى العامل. فربما كان الفشل في بعض البيئات أشرف للرجل وأصون لمروءته وأدل على قدرته الصحيحة من نجاحه. وهؤلاء النشوئيون واضعو قاعدة بقاء الأنسب لا يتخذون النجاح معياراً للأفضلية، ولا يقولون أن بقاء الأنسب معناه بقاء الأرقى والأحسن. بل قد يكون الأمر على نقيض ذلك. قال سبنسر: ليس المراد بقانون بقاء الأحسن أو الأقوى هذا المعنى الذي تنطوي عليه حروف هذه الكلمات في عرفنا. ولكن المراد به بقاء أولئك الذين هم أصلح بتركيب أجسامهم للحياة في البيئة والأحوال التي وضعوا فيها. وكثيراً ما يتفق أن ما هو أحط وأصغر في التقدير الإنساني يسبب البقاء. ونحن بادئون بتلخيص ذلك الفصل. سأل نوردو: ـ أي غاية نتوخاها من هذا التعليم المدرسي ومن عامة أصول التربية والتهذيب؟؟ قال لا لبس في جواب هذا السؤال. إذ لا ينبغي أن تكون الغاية القصوى من ذلك إلا أن نجعل الحياة أوفق لنا بتعميقها، ومضاعفة خيراتها، وتزيين ظاهرها وباطنها. وإذا التمسنا الإيجار فأن تزيدنا وتزيد المجتمع الذي نحن فيه رغداً ورفاهة. وليس لهذه الحقيقة إلا وجه واحد فأما من يخالف في ذلك من علماء التربية فهم يقعون دون المرمى. وربما قال أحدهم أن

غاية المدرسة هي تكوين الشخصية. فلعمري ما معنى هذا الكلام إذا نحن أنعمنا في تحليله؟؟ ما كانت الشخصية لتصب في قالبها لجمال محياها أو لتروق نظر الناظرين إليها كما يصب التمثال. ولكنها خلق يرام به شيء من النفع. وما المثابرة على الغرض، والثبات في الأعمال، والإصرار على الرأي والصدق في الرغبة، والإقدام إذا أعوز الأمر إلى الخصام، إلا درع يستلئمها الرجل وسلاح يتقلده في كفاح الحياة وتنازع البقاء. وهم يسلمون بأنها أخلاق تمهد لصاحبها الغلب على أعدائه ومنافسيه. يقولون وإذا شاء الله مرة أن يظهر الذي هو أدنى على الذي هو أعلى ففي هذه الأخلاق سلوة وشفاء لا لم الفشل وعون على الرضى عن النفس، بل وعلى المباهاة بتلك الخصال التي نجم عنها اندحار المهزوم وخيبته. وربما قالوا أيضاً أن الغرض من المدرسة إنماء العقل، وتقوية العزيمة، وتهذيب المشاعر لتحس الطيب والجميل من الأشياء. فقل لي ما هو فحوى كلامهم هذا؟؟ إن العقل ينمو ليتفهم به الرجل أسرار الطبيعة وأمزجة الناس، فيتمتع بما في معرفة طبائع الأشياء وعناصرها من اللذة والغبطة - ذلك إلى حد تنتهي عنده لذة المعرفة وغبطتها. ثم يتذرع بها إلى ذود الضرر عنه وجلب المنفعة إليه، وأما العزيمة أو الإرادة فإنما يستحب أن تقوى ليدرأ بها ما يؤذيه ويثبطه، ولا يقصد بتهذيب الأذواق وإعدادها للإحساس بالجمال والخير إلا أن تكون باباً يلج منه إلى النفس مشاعر لاذة لها، سارة لوجداناتها، فهل لهذا الكلام فحوى إلا أن تصير الحياة أوفق للإنسان؟؟. قال نوردو فإذا نظرنا إلى مدرسة اليوم بأساليبها وبرامجها أترانا نجدها كافلة بهذه الغاية، مفضية إلى هذه الجهة؟؟ قال كلا فإنها لا تخرج إلا تلاميذ يطرحون سلاحهم للصدمة الأولى، وكأن الذين سنوا طرائق التربية طغمة من دهاة الساسة أرادوا أن يستحوذوا على عروض الحياة ويحرموا منها الناس أجمعهم، فاجتمعموا على ابتكار هذه الطرائق يعلمون الناس كيف يعجزون عن تحصيل تلك العروض، وكيف يقنعون من الغنيمة بالإياب. ثم تطرق من هذا إلى دعابة مفعمة بالجسد والحقيقة الدنيوية، قال: بين النظام المدرسي الآن فجوة لا يحسن أن تظل بعد اليوم فارغة. ولقد لهوت حيناً بأحلام كنت أرددها وكنت أمني النفس بإنشاء مدرسة تعلن للملأ جهرة أنها لا تنوي أن تشتغل بغير آلات النجاح وتجهيز

تلاميذها له، ولا تأبه للخيالات المجردة أو تعيرها جانباً من همها. وكنت أعلم أن أناساً من عصريينا صعدوا سلم النجاح واقتعدوا كاهله، وما حضروا في مدرسة النجاح درساً ولا فتحوا بين يدي أساتذتها كتاباً، ولكن هذا لا يقدح في سداد الفكرة فقدما نشأ في أزمان الهمجية، وفي أصقاع لا أثر لمعاهد العلم فيها، رجال بذوا قرناءهم بالحذق والمعرفة، معرفة حصلوها بفطنتهم وجمعوها بطول الجد والمراقبة، ولكنها طريقة في التعليم ما أشقها على الرجل المستقل بأبحاثه ودروسه. قال ولو التفت العصامي الذي اخترق في الزحام سمته إلى النجاح بسائق لدنى من نفسه لآسفه أن ينظر إلى ذلك السمت فيرى كم زاوية فيه سلكها ثم تنكبها، وكم عقبة تسنمها ثم انحدر عنها، وفيفاء مرحلة جاس خلالها وكانت له ندحة عنها لو وفق إلى دليل خبير، أو وقف على مداخل تلك الأنحاء ومخارجها. قال ولكني أحجب النساء عن باب مدرستي لأنهن غوان عن نصائحها إذ ليس نجاح المرأة إلا أن تكون حظية في عين الرجل والنساء مدلولات بالفطرة على ما يحبب فيهن الرجال. وما ظلمهن إلا من يعلمهن الرسم والتاريخ وذبح اللغات الغريبة باللحن في نطفها وما شاكل ذلك مما يرعب الرجال منهن. قال: وأن المشارقة بما هدتهم إليه البديهة الموروثة، والحكمة الأصيلة قد تعودوا النظر إلى المسائل بعين أسد وقريحة أصوب من أهل الغرب، فما رأيناهم يعلمون البنت إلا الغناء والرقص والبراعة في الضرب على أداة من أدوات الطرب، ويعلموهن قص القصص، وخضب الأنامل بالحناء، وكحل الدفون بالأئمد، وما يلحق بهذه الصناعة التي تتصبى إليهن الرجال وترغبهم فيهن بما تزخرف من محاسنهن وتزين لشركائهن في الحياة فيتعلقون بهن. هذا وبناتنا المسكينات يعوقهن التعليم المدرسي عن مجاراة غرائز المرأة وإن كانت مجاراة هذه الغرائز أنفع لهن وأجدى من جميع ما يلقنه أولئك الأساتذة سيان من يلبس النظارات منهم ومن لا يلبسها. وسرعان ما تستدير إحداهن المدرسة بمصاعبها وتكاليفها حتى تنطلق مع أميالها وتربي نفسها التربية التي خلقت لها ثم تتعلم بوحي من غرائزها كيف تنقش وجهها بالطلاء الأحمر وتدممه بدقيق الأرز ولا تبالي أن تلبس أوقح الحلل وأبعدها عن الحشمة وأن تمشي وتقوم وتجلس على هيئة تكشف لك سر ما أسخطك لأول وهلة من تفصيل ملابسها، وإن تقلب مروحتها برشاقة ذات معان وألغاز، وتعرف كيف تسبل أهدابها وتشيع أجفانها بغمزات تستهوي

النفوس إليها، وتغري الأهواء بها. وكيف تتخذ لوجهها أملح الحركات وألطف الإشارات، وتتصنع سذاجة الطفولة في نبرات صوتها، وعبث الشبيبة في غراراتها، إلى أن قال: وماذا يعنيها من نقد الناقدين؟؟. فأما أترابها من النساء فهي لا تؤمل عندهن عطفاً ولا مودة، وهبهن قد عطفن عليها وأزلفن إليها بالمودة فأي ربح لها في ذلك؟؟ وأما الرجال فماذا عليها من أن يعرض عنها أحد العلماء أعراض الإنكار والاستياء إذا كان فتيان النوادي وظرفاء الشبان يرصدونها بمجاهرهم ويلحظونها بعين الإعجاب والاستحسان. وكما استثنى نورد النساء من مدرسته كذلك استثنى منها أشباههن من الرجال أصحاب القامة المديدة، والسبال المفتولة، والطلعة الوسيمة، والهياكل الجسيمة، وهم شبيهون بالنساء في أن نجاحهم عند غير جنسهم. فكما أن المرأة لا تعول على رأي النساء فيها كذلك لا حاجة لخلب النساء إلى التفاهم مع أبناء جنسه أو التعويل على رأيهم فيه. نجاح تلك الوسائل إنما هو عليها. وإلى تمحل أسباب النجاح وابتغاء الوسائ وكذلك استثنى من مدرسته رجال العبقرية لأنهم شواذ الناس وإنما تشاد المعاهد للأوساط والأنداد. وإن رجلاً - كما يقول - مثل بيتهوفن كان يبلغ ما بلغه في فن الألحان حضر مدرسة الموسيقى أو لم يحضر. فأما الذين حرموا من المزايا ولم يحرموا نفساً تواقة إلى الامتياز على الناس بطنطنة الأبهة وفخامة الألقاب فأولئك الذين أفتح لهم أبواب مدرستي وأوصى رئيسها أن يقول لمن يضع ابنه في كفالته: تعال يا صاح! ألا تفصح لي عن باطن نيتك وما أنت مختارة لولدك؟ - فإن كان قصدك أن يقضي ولدك حياته في عالم وهمي، يلبس فيه أكاليل الفلج ذوو الكفاءة وأولو المقدرة، ويبحث فيه الناس عن الفضيلة العاكفة في خدرها فيجزونها، وعن البلادة والغرور والخسة فلا يجدونها، وينقبون فلا يرون فيه محلاً لغير الخير والجمال، ولا موضعاً لسوى الحق والكمال - أو كنت تختار لولدك أن يتمسك باحترام نفسه ويؤثره على إطراء الناس له. يصغي إلى ما يمليه عليه ضميره ويعرض عما يتمدح به الكافة من السوقة والغوغاء، ويغتبط بقضاء واجبه ومحاسبة ذمته أكثر من اغتباطه برضى الناس عنه، فاعلم أن لا محل له في مدرستي، وأولى لك أن تأخذ بيده إلى المدارس العتيقة فيرتل هناك ما يشاء من قصائد الشعراء الأقدمين والمحدثين، ويتلهى بما يشاء من العلوم والمعارف، ويسلم بما يفرغه في أذنيه معلموه وأساتذته، وأما أن تختار

لولدك أن يكون رجلاً من أولئك الرجال الذين يحييهم الناس في الطرقات، الذين يسافرون في المركبات المحجوزة، وينزلون في أفخر النزلات، ويصيبون من العقدة والجاه ما يسول لهم استحقار العظمة المغمورة، والزراية على الفضيلة المجهولة، فهاته إلى فأنا الزعيم له بذلك - فأما أنه يذكر بين سير فلو طرخس فذلك مالا أضمنه لك، ولكني أضمن لك أن يدون اسمه يوماً ما بين أعظم الأسماء في سجل الحكومة. ثم قال أنه سيرتب مدرسته درجات حسب درجات حسب درجات المدارس المعهودة لأن أكثر الناس لا يتطلعون من التعليم المدرسي إلى الانتظام في سلك الجامعات، أو يطمعون في درجة الأستاذية. وطلاب النجاح منهم من يقنع بما دون الوزارة في السياسة، ودون الملايين في الغنى والثروة، فلا حاجة لهؤلاء بما هو أعلى من المبادئ الأولية في علم النجاح. فلهذا أعددت في المدرسة قسماً عاماً لمن لا يبتغون أكثر من النجاح في الحرف الصغيرة والمكاسب الوضيعة ونصيحتي إلى هؤلاء الصدق والأمانة - قال وقد يظهر أن في هذه النصيحة شيئاً من خبث ماكيافللي ولكن الواقع والمشاهد أن الصدق نافع لطلاب القسم الأول من علم النجاح - لأن الناس كلهم على بصيرة بتمييز الجيد والردئ من صنعتهم - إذا أتقن الإسكاف صنع حذائه وباع البدال السكر نقياً ولم يبعه على الناس رملاً. فكلاهما على ثقة من نفاق بضاعته، والبركة في رزقه، وإن أجهل الناس يشعر بضيق الرداء أو سعته ويتعذر عليه أن يلحظ عيب السرير إذا كان معيباً، فاعلم أنه لا ينفع هؤلاء الصناع إلا تجويد الصنعة، والصدق في المعاملة. فأما الطامحون إلى عظيم المراتب، المغامرون في جليل المطالب، الراغبون فيما هو أسمى وأسمق من معقول الناس فنصيحته إليهم أن يتجنبوا الحياء ما استطاعوا. فقد يكون الرجل على قدم راسخة في العلم. وعلى قسط وافر من التفوق في الفكر، مليئاً بإنجاز العظائم، مضطلعاً بكبريات العزائم فإذا كان مع هذا حيياً وقوراً فأنذره بسوء العقبى وأيئسه من الإقرار بفضله والاعتراف بحسناته، إلى أن قال: ولا يغرنك قول من قال: لا تتكلم عن نفسك فهذا هذر وهذيان. ولكن ليكن كلامك كله عن نفسك أولاً لأن الكلام عنها يطربك، وثانياً لأنك تصرف المجلس عن التحدث بغيرك - وقد يكون من أندادك - ما دام المجلس يصغي إليك. وثالثاً لأن إثارة من كلامك ستبقى في ذاكرة أشد مبغضيك. وليكن لك من

الحزم ما يفهمك بالبداهة أن لا تذكر نفسك إلا بخير. ولا تقف في هذا عند حد بل عظم نفسك وترنم بالثناء عليها وسرد مناقبها ومآثرها واستعمل لذلك جهدك في الفصاحة والخلابة، وأضف إلى نفسك أفخم الصفات وأربع أعمالك إلى السماء السابعة وقل إنها أحسن مستخرجات العصر وأعجب محدثاته. وأكد لسامعيك أن العالم بأسره يعجب بها ولا تنس إذا لزم الأمر أن تنقل بعض أقوال المعجبين بك والمقرظين لك، فإذا لم يكن قد تناهي إليك منها ما تنقله فاختلقها للتو والساعة. وسترى أن نجاح نصيب إذا انتصحت بنصيحتي نعم إن من العقلاء من يسخر منك أو يستوقحك ولكن أين هم العقلاء؟؟ إن هم إلا فئة صغيرة وليست هذه الفئة هي التي تقتسم بين الناس جوائز الحياة. . فإذا دعيت يوماً إلى وليمة قالت ربة الدار هذا رجل صاحب دعاوى عريضة لا يقنع بالقليل من الحفاوة ولا يرضى إلا بأن أجلسه إلى يميني وأخصه بالمحل الأول على المائدة وإلا فقد يسوءه أن يتقدم عليه سواه ويبرح الدار محنقاً وقد يكون بين المدعوين رجل من أولى الكفاءة الصحيحة فلا تزيد ربة الدار على أن تقول له لا أخالك تمانع في إيثاره بذلك المكان؟ إنك ولا شك أرفع من هذه السفاسف ثم ينتهي الأمر بأن تحفظ لنفسك المكان الأول في كل وليمة، ويألف الناس تقديمك والترحيب بك حتى لا يخالج صدورهم تردد في ذلك قال ولا تنبذ الحياء كل النبذ ولكن أدخره لتعود إليه متى وجدت من المادحين ما يغنيك عن مدح نفسك. وانتقل نوردو من ذلك إلى معاملة الأنداد والقرناء فقال: إياك والإصاخة إلي نصح الناصحين لك بتجميل رأي أمثالك فيك، فإنها خرافة فاشية بين الأغمار وما أمثالك إلا مزاحموك - كلهم من أربة النجاح الذي هو من أربك، فكلما اتسع حيزك ضاق حيزهم، وانتقص قدرك من أقدارهم فلا تنتظر منهم إنصافاً ولا ترج من لدنهم إخلاصاً وإنهم ليجسمون أغلاطك ولا يأتلون سعياً في طمس مزاياك فاقصر همك على فريقين الفريق إلا على الذين بيدهم رفعتك ونباهتك والفريق الأدنى الذين هم تحتك من الدهماء والعامة واحرص على أن تبدوا للأولين صغيراً جداً وللآخرين كبير جداً كأن الفريقين ينظران إليك من طرفي مجهر. وليس هذا بالعلم السهل ولكنك حرى أن تتمكن منه بالمزاولة والتجربة. قال: فإذا بلغت المدى وخلفت أندادك وراءك وتبوأت المكانة التي يرجى خيرها ويخشى

شرها هنالك تشعر بالسرور الذي يداخلك من سرعة انتقال المذمة الشائعة إلى محمدة رائعة، والجفوة إلى المحبة، والأغضاء إلى الإعجاب والثناء ثم قال وإنك أشد ما تكون فقراً أحوج ما تكون إلى تجميل بزتك والظهور بمظهر أصحاب الضياع والكور. وربما أعوزك ذلك إلى المال وقد لا يتيسر لديك الكفاية منه. فماذا أنت صانع؟؟ إذن فافترض يا بني. اقترض ولا يكرثك أمر الوفاء - إنك إن عشت عيشة الأوفياء فسكنت السطوح وأكلت الخبز القفار لا تأمن بعد قليل أن تنبحك الكلاب وتتجه إليك شبه الشحنة ويوصد الكبراء أبوابهم دونك ولا يعبأ بك حتى البدال الذي تشتري منه ميرتك الساعة التي تسدد فيها دينه عليك. أما إذا أفرطت في الاقتراض وأسرفت في الاستعارة فإنك تعيش عيش المترفين ويكلأوك الدائنون كما يكلأ والد ولده. رغبة في بقائك وإشفاقاً على أموالهم المرهونة بحياتك، ثم يتمنون لك الغنى ويسعون لك في اليسار. وكان ختام المقالة هذه النصيحة الجامعة: لا تحتفل غاية الاحتفال بعمل ولا تبهظ نفسك في تجويده معتمداً على أن عملك يعلن عن نفسه فإن صوت الأعمال خافت يغطي عليه صلق الأوساط الحاسدين. ولغة الأعمال غريبة لا يسمعها الزعانف ولا يفقهون معانيها، وقل أن يعرفك أو يقدر عملك إلا النخبة المعدودون، والخاصة المنصفون. على أنهم مع عرفانهم قدرك وتقديرهم عملك لا يخفون إلى مسعدتك من قبل أنفسهم ما لم تعترض أعينهم غصباً. فما بالك يا بني تبدد عمرك في الأمانة والاجتهاد إنما عليك أن تدرس أطوار الجمهور وتتعرف مواطن غفلته فتستخدمها فيما يفيدك واعلم أن الناس لا طاقة لهم بالتمييز والحكم فاحكم لهم أنت، وليس لهم فكر ممحص أو نظر بعيد فإياك وما يكدر أذهانهم، ويعضل على أدمغتهم، وأن الناس بلداء الإحساس، ثقال السمع فليكن ظهورك بينهم بجلبة يسمعها الأصم ويبصرها الأعمى، وإن الناس لا يفهمون التورية والمزاح، ولا يتأولون الحروف والألفاظ فكن لهم واضحاً في مخاطبتك، سهلاً في عبارتك، وعدد لهم بلهجة ظاهرة يفهمونها ولا يرتابون فيها، كل ما هو بشين في أعدائك وكل ما هو حسن فيك، وأن الناس ضعاف الذاكرة فاهتبل هذه الغرة فيهم ولا تحجم عن طريق تؤديك إلى غرضك فإنك متى أدركته لم يذكر أحد كيف وصلت إليه فبهذه المبادئ الأساسية تصبح غنياً وعظيماً وتستتب لك الأمور في هذه الدنيا. بتلخيص وتصرف.

عباس محمود العقاد

ابن الرومي

ابن الرومي (تابع الكلام على طيرته وتعليلها) بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني (وبعد) فإن ما أوردناه من أخبار ابن الرومي على قلتها، وما سقناه من شعره على نزارته، خليق أن يرى القارئ أنه هنا بإزاء رجل غريب ليس كالناس، وإلا فلو أن ابن الرومي كان غير شاذ، وكانت حاله مألوفة، وأمره غير خارج عما عهد أهل عصره، لما أنكروا من أموره شيئاً، ولما وجدوا من أحواله داعياً إلى العجب، ولا باعثاً على التضاحك واللعب، وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء أن نتلمس أسباب هذا الشذوذ لعلنا أن نهتدي إلى بعض السر إذا لم نوفق إليه كله، نقول بعض السر لأن النفس الإنسانية أعمق من أن يسبر غورها نظر الناظر، وأغمض من أن يحسر عنها ظلال الإبهام فكر مفكر، تلك دعوى يقصر عنها باعنا ولا يسعها طوقنا، لأن للحقائق المادية حداً تقف عنده، وغاية تنتهي إليها، وإنما يقول أحدنا بالأغلب في الظن إذا قال وبالأرجح في الرأي إذا نظر، فإذا أصاب فموفق مجدود وإن أخطأ فمشكور ومحمود، وليس يعيب أحداً أنه سعى فخاب وإنما يعيبه أنه قصر وفرط، لأن دواعي الخطأ أكثر من دواعي الإصابة إذ كانت الوسائل قليلة محدودة والغايات لا أخر لها ولا نهاية. على أنه مهما يكن من الأمر فإن من الحقائق التي صححها القياس وأيدتها كل الدلائل في هذا العصر، أن العبقرية والجنون صنوان، وأنهما جميعاً مظهران لشر واحد هو اختلال التوازن في الجهاز العصبي وقديماً أدرك الناس ذلك فقال العرب ذكاء المرء محسوب عليه وفطن أرسطا طاليس إلى ما ينتاب العظماء من المرض ويظهر عليهم من آيات اضطراب الذهن واعتلاله، وفرق أفلاطون بين نوعين من الجنون - الجنون العقيم المعتاد والجنون الذي ينتج الشعراء ويخرج الأنبياء والعظماء وهذا ليس في رأيه داء أو شراً بل هبة من الآلهة. وأدرك سنيكا ودريدن ما بين الذكاء والجنون من الصلات، وسمى لامارتين النبوغ الجنون المفرط أخو الذكاء المفرط لأن حالات العقل متشابهة في العبقري والمجنون وذلك إن ذهن العبقري يفيض بالخواطر ويجيش بمختلف الذكر ويرى من الصلات بين الحقائق والأصوات والألوان ما يعجز الرجل العادي عنه، والمجنون في كل ذلك قرينه وضريعه،

كلاهما يرجع السبب في أساليب تفكيره وعمله إلى فرط نشاط أو شدة اهتياج أو فتور أو نحو ذلك في بعض نواحي الذهن، وليس الفرق في درجة حدة الإحساس، وقد يكون السبب في الحالين وصول مقدار جم من الدم الفاسد إلى موضع في الذهن، وقد تكون خلايا هذا الموضع العصبية ووشائجه بطبعها مفرطة الحس، وكثيراً ما تصير العبقرية جنوناً أو ينقلب الجنون عبقرية وليس بنا إلى شرح ذلك للقارئ حاجة لئلا نخرج عما قصدنا إليه وإنما نقول إن الذي غلط النسا فيما مضى من الزمن وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات وأداهم إلى التعلق بالمحالات هو حسبانهم أن العقل البشري شيء غير محسوس وأنه جوهر روحاني متصل بالجسم ولكنه غير خاضع لقوانين المادة، وقد أبان العلم الحديث خطأ هذا الظن وفساد ذلك الزعم فليرجع القارئ إلى مصنفات العلماء في هذا المعنى إذا أراد التحقيق. وبعد فإنه لم ينته إلينا شيء عن أبوي ابن الرومي وذلك ما نأسف له لأن للوراثة أثراً كبيراً وفعلاً لا يستهان به وما يدرينا لعل بعض الخفاء كان يبرح لو عرفنا عنهما شيئاً ولكن أحرى بمن قصر في حق ابن الرومي أن يقصر في حق أبويه! ومن ذا الذي يتوقع من مؤرخي العرب أن يعنوا بغامضين خاملين وقد ناموا عن نبيه مذكور! غير أن مما يعزينا أن شعر ابن الرومي كاف في الدلالة على مرضه وإثبات اعتلاله. فأول ما يلفت النظر من ذلك رثاؤه لأبنائه الذي رزئهم واحداً بعد واحد وكان له ثلاثة كما هو ظاهر من قصيدته التي يقول فيها: بكاؤ كما يشفى وإن كان لا يجدي ... فجودا فقد أودي نظير كما عندي ألا قاتل الله المنايا ورميها ... من القوم حبات القلوب على عم توخى حمام الموت أوسط صببتي ... فلله كيف اختار واسطة العقد على حين شمت الخير من لمحاته ... وأنست من أفعاله آية الرشد طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب قريباً على بعد لقد قل بين المهد واللحد لبثه ... فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد ألح عليه السقم حتى أحاله ... إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد وظل على الأيدي تساقط نفسه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند

عجبت لقلبي كيف لم ينفطر له ... ولو أنه أقسى من الحجر الصلد وما سرني أن بعته بثوابه ... ولو أنه التخليد في جنة الخلد وإني وإن متعت بابني بعده ... لذاكرة ما حنت النيب في نجد وأولادنا مثل الجوارح أيها ... فقدناه كان الفاجع البين الفقد لكل مكان لابد اختلاله ... مكان أخيه من جزوع ولا جلد هل العين بعد السمع تكفي مكانه ... أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي لعمري لقد حالت بي الحال بعده ... فيا ليت شعري كيف حالت به بعدي ثكلت سروري كله إذ ثكلته ... وأصبحت في لذات عيشي أخازهد أريحانة العينين والأنف والحشى ... ألا ليت شعري هل تغيرت عن عهدي كأني ما استمتعت منك بضمة ... ولا شمة في ملعب لك أو مهد محمد ماشئ توهم سلوة ... لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أوري من الزند إذا لعبا في ملعب لك لذعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد فما فيهما لي سلوة بل حرارة ... يهيجانها دوني وأشقي بها وحدي وأنت وإن أفردت في دار وحشة ... فإني بجار الأنس في وحشة الفرد عليك سلام الله مني تحية ... ومن كل غيث صادق البرق والرعد وهذه القصيدة صريحة في أن أبناءه كانوا ثلاثة وأن محمداً ابنه هذا كان أوسطهم وأسبقهم إلى القبر في حداثة السن وطراءة العمر ولسنا ندري أي داء أصابه فمضى سابقاً أجله إذ ليس في القصيدة ما يشير إلى شيء من ذلك وإن كان فيها وصف ذبوله ولكنه وصف شعري لا يصح التعويل عليه في تعيين المرض. وفي رثاء أحد الباقيين يقول: حماه الكرى هم سرى فتأوبا ... فبات يراعى النجم حتى تصوبا أعيني جوداً لي فقد جدت للثرى ... بأكثر مما تمنعاني وأطيبا فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى ... إذا فترت عنه الدموع تلبها وفي ثالث بنيه هبة الله يقول:

أبني إنك والعزاء معاً ... بالأمس لف عليكما كفن تا الله لا تنفك لي شجناً ... يمضي الزمان وأنت لي شجن ما أصبحت دنياي لي وطناً ... بل حيث دارك عندي الوطن ما في النهار وقد فقدتك من ... أنس ولا في الليل لي سكن ولقد تلي القلب ذكرته ... أنيى بأن ألقاك مرتهن أولادنا أنتم لنا فتن ... وتفارقون فأنتم محن وليس يخفي أن فقدان أولاده جميعاً في حدثاتهم لا يدع مساغاً للشك في اعتلاله واضطرابه وإنه لم يكن صحيحاً معافى في بدنه. ومما هو جدير بالنظر والتأمل في شعر ابن الرومي لدلالته فحش أهاجيه وإكثاره فيها من ذكر أعضاء التناسل ذكراً لا نظنه ضرباً من التكلف لمجرد الذم والقدم ولا نحسبه شيئاً لا يستند إلى أصل. لأنه إذا كان هذا كذلك فكيف نؤول اتهام الناس له بالعنة تارة وبالتخنث أخرى. وكيف نفسر موت أولاده على هذه الصورة؟ أليس البرهان من ذلك كله لائحاً معرضاً لكل من أراد العلم به وطلب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها والعلم بها ممكناً لمن التمسه؟ وانظر أي باطل نتكلف إذا نحن زهدنا في هذه الدلائل على وضوحها وجلائها واي جهل يركبنا إذا أثرنا الجهل على العلم وعدم الاستبانة على وجودها وتعجبني كلمة للعقاد في شعور ابن الرومي بالعلاقة بين تبرج الأزهار وتبرج النساء وإحساسه بالصلة بين محاسن الطبيعة ومحاسن المرأة قال وربما كان علة هذا الشعور الغامض اضطراب في جهاز التناسل أهاج جميع أجزائه فهز خيوطها ونبه وشائجها القديمة المختلفة ومنها الإحساس بذلك التبرج كما هو في قلب الطبيعة وهذا صحيح لأنه لابد لذلك من سبب يحور إليه ولو وقف الأمر عند بيت لقلنا معنى عن له ولكنه لا يزال يكرره في حيثما سنحت له الفرصة فكأنه يريد أن يلفتنا إليه: تأمل قوله: ورياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة في الأبراد وقوله في موضع آخر يصف الرياض: تبرجت بعد حياء وخفر ... تبرج الأنثى تصدت للذكر وقوله من قصيدة في وصف العنب:

لو أنه يبقى على الدهور ... قرط آذان الحسان الحور وقوله: لمن تستجد الأرض بعدك زينة ... فتصبح في أثوابها تتبرج وقوله: (وظلت عيون النور تخضل بالندى ... كما أغرورقت عين الشجي لتدمعا) (براعينها صوراً إليها روانياً ... ويلحظن ألحاظاً من الشجو خشعا) وبين أغضاء الفراق عليهما=كأنهما خلا صفاء تودعا هذا وليس أقطع في الدلالة على ضيق خلق ابن الرومي ونزق طبعه وقصر أناته من أهاجيه هذه والظاهر منها أنه كان يندفع في الشتم والذم وبسط اللسان في الناس لأهون سبب ومن أجل أشياء لا تهيج الرجل السليم الرشيد كأن يعيبه واحد بمشيته أو ينعي عليه صلعه فيفور فائره ويمتلئ غيظاً على عائبه ويتناوله بكل قبيح ويلصق به كل سوءة شنعاء ومعرة دهماء. وفي ضيق الخلق وتوعره برهان على الاضطراب واختلال توازن الأعصاب. ولا ريب أن الناس كانوا يتحككون به ويهيجونه لما يعلمون من ضيق حظيرته وسرعة غضبه لأن الناس في العادة لا يستثيرون بالدعابة إلا الطياش لعلمهم أن الحليم الراسخ الوطأة لا تقلقله المجانة والمفاكهة أولست تري الأطفال والصبيان في الطرقات هل يستفزون إلا المرهق ومن يعلمون عنه الخفة والحدة والحدة وسرعة البادرة ولقد كان أهل زمانه يعيبون شعره على إقرارهم بمزيته وحسنه وإنشادهم له في المجالس وإملائه على طلاب الأدب في حلقات الدروس فهل تحسب أنهم كانوا يفعلون ذلك إلا ليستثيروه ويضحكوا منه؟ ولقد روينا لك فيما أوردناه من اخبار ابن الرومي أن بعضهم قال: كان ابن الرومي إذا فاجأه الناظر رأي منه منظراً يدل على تغير حال فهل بعد هذا شك في مرض ابن الرومي واختلال أعصابه؟. بقي علينا أن ننظر في طيرة الرجل وأسبابه. (البقية في العدد الآتي)

شذرات من فلسفة نيتشه

شذرات من فلسفة نيتشه خداع النفس - من بعد نظر الحاسدين وحدة بصرهم، أنهم يجتهدون أن لا يمعنو في التعرف لمحسوديهم، حتى يشعروا أنفسهم أنهم أعلى منهم قدراً، وأرفع شأناً. كرم الضيافة - الغرض من كرم الضيافة تعطيل عاطفة العداء من نفس الغريب، فإذا لم تعد تنظر إلى الغرباء كالأعداء، قل لديك كرم الضيافة لهم، ويقوي هذا الكرم وينتعش ويزداد، ما دام توجس الشرفي نفسك باقياً. صيد الحقائق - هذا يسعى في صيد الحقائق المقبولة، وذاك في صيد الحقائق المكروهة، ومع ذلك ترى الأول يجد في نفس الصيد لذة أكبر من لذة الغنيمة. الفضائل الخطرة - لا ينسى شيئاً ويعفو عن كل شيء - لذلك سيكون كرهنا إياه مضاعفاً، لأنه يسبب لنا عاراً مزدوجاً بذاكرته وعظمة روحه. الغرور - هو الخوف من الظهور بحقيقتك، ومن ثم هو العطل من الآباء، وليس ضرورياً أن يكون العطل من الشخصية. الرحمة - تصوروا أن العناية بالغير والشعور بهمومهم كان لهما ضعف قوتهما الآن، إذن لما احتمل العيش على الأرض أحد، حسبكم أن تنظروا كم من حماقات يجنيها كل فرد منا يوماً فيوماً وساعة فساعة، لا يبعثه عليها إلا إرضاؤه نفسه وإخلاصه لها، وكيف ترونه لهذا مكروهاً لا يحتمل، فماذا لعمركم يحدث لو كنا نصبح للناس موضوع البلاهات والوقاحات التي عذبوا بها أنفسهم وأساؤوها، ألا ينبغي لنا ساعتئذ أن نطلق سوقنا للريح إذا لمحنا أحد الجيران مقبلاً علينا؟ ألا يكون من الضروري وقتئذ أن نجلل هذه الشفقة بالاستهانة التي ندخرها اليوم للأنانية؟. منشأ العزلة - في العصور المتوحشة، كان للأفكار السوداء الشريرة أكبر سلطان على الناس، فكان الفرد منهم، وهو يشعر بقوته، يجتهد دائماً أن يجعل أعماله تلائم هذه الأفكار السوداء. وتمشي معها، أعني أنه كان يضع هذه الأفكار في أفعاله، فيتخذ الصيد والسرقة والسطو والغيلة والوحشية والقتل، يدخل مع هذه ضروب ضعيفة من أعماله، كانت مباحة في البيئة التي يعيش فيها، فإذا اضمحلت قوته، وشعر أنه قد أصبح متعباً مريضاً سوداوياً ملولاً، وبذلك أمسى خلواً من الرغائب والشهوات، صار أحسن من قبل حالاً، أو بعبارة أخرى أقل خطراً، ولم تعد أفكاره السوداء تنطلق إلا في ألفاظه وكلماته عن أصدقائه مثلاً

أو حياته أو زوجته أو آلهته، أي أن أفكاره فقط أمست تأملات سوداء سيئة، وكذلك يرتقي ويتطور، حتى يكون منه مفكرو كاهن، فيضيف كل يوم إلى خرافاته، أو يخترع ملاحظات جديدة وشواهد، أو يهزأ بأعدائه وخصومه، فكل ابتكاراته، وكل ثمار قريحته، صورة منعكسة من ذهنه، نعني أنها تدل على ازدياد الخوف، وكثرة النصب والتعب، واحتقاره للعمل، واستهانته بالتلذذ والتمتع، ولذلك تجد مادة هذه الأفكار مستمدة من حالاته الشعرية التفكيرية الرهبانية، أي أن الحكم المظلم فيها متفش ذائغ. أما في العصور المتأخرة، فإن أولئك الذين يفعلون كما كان يفعل ذلك الرجل في تلك الظروف المخصوصة، يلقون إلينا آراء وهمية شريرة، ويعيشون عيشة سوداوية حزينة، ولا يؤدون عملاً كبيراًَ، فقد سموا شعراء ومفكرين، وقسيسين، وعزامين وقد كان الناس بأسرهم يريدون أن لا يعبؤوا بهم ولا يحفلوا، واق يطردوهم من المجتمع ويلفظوهم خارجه، لأنهم لم يجدوا لهم عملاً كافياً، ولكنهم رأوا في هذا نوعاً من المجازفة فأمسكوا، وإذ كان هؤلاء اللا عاملون قد اكتشفوا آثار الخرافة وضروب الخزعبلات فاتبعوها، لذلك لم يشك فرد أن لديهم وسائل قوة مجهولة يستطيعون استعمالها. هذه هي القيمة التي قدرت بها بقايا الجنس القديم من أهل الطبائع المفكرة - محقورين بمقدار ما كانوا من قبل غير مرهوبين، وفي هذه الصورة المحجوبة، وفي هذا المنظر المبهم الغامض، بقلب شرير، ورأس مضطرب في الغالب متعب، كان أول ظهور حياة التفكير في هذه الأرض - ضعفاء وهائلون في وقت واحد، محتقرون في السر، مجللون بكل ضروب التقديس الخرافي جهرة وعلانية. أعداء النساء - المرأة عدوتنا - إن من يقول ذلك من الرجال إنما يظهر للناس لذة مطلقة لا تكره نفسها فقط بل ووسائلها. الخداع بالتذلل - بحماقتك أسأت إلى جارك، وهدمت صرح سعادته، فلن ينهض أبداً بعدها - والآن بعد أن تغلبت على غرورك، جئت تذل من نفسك أمامه، وتسلم حماقتك إلى احتقاره، وتتوهم أنك بعد هذا الموقف الخشن الموجع لك المؤلم، قد أصلحت ما أفسدت، وبنيت ما قوضت، وإن فقدك الاختياري للشرف يعوض على جارك الأذى الذي نلت به سعادته، كذلك تشعر إذ تتصرف من حضرته ناعم البال، هادئ النفس، معتقداً أن فضيلتك

قد رجعت إليك. على أن جارك لا يزال على مضه وألمه، لا يجد شيئاً يعزيه من تصريحك بأنك كنت مخطئاً ومسيئا، بل على النقيض، يتذكر المظهر المؤلم الذي ظهرت به يوم جئت إليه تنتقص نفسك في حضرته، فيحس أنه قد طعن طعنة أخرى، ولكنه مع ذلك لا يفكر في الانتقام لنفسه، ولا يستطيع أن يتصور أي ميزان عادل يعدل بين كفتك وكفته، والحقيقة أنك ما ركبت ذلك المركب، ومثلت ذلك الدور، إلا لنفسك وأمام نفسك، وإنما دعوت للحضور شاهداً لا لصالحه بل لصالحك - فلا تخدع نفسك!. المجرمون والمرضى - لم نكد نبدأ درس طبائع المجرمين حتى انتهينا إلى استنتاج نتيجة لا نحول عنها ولا نرتد، وهي أن ليس بين المجرمين والمجانين فارق ذوبال، وذلكم الرأي هو أشد الآراء رسوخاً في الأذهان. ولذلك لا ننزوي عن استنتاج نتيجة أخرى نبنيها على تلك. وهي أن نعامل المجرم معاملتنا للمجنون، لا بالإشفاق المتكبر عليه، ولا بالرحمة المتعجرفة المزهوة، وإنما بحذق الأطباء، ومهارة الإساة، وحسن النية - لعل المجرم بحاجة إلى تغيير الهواء، أو تغيير الوسط والبيئة، وما يدرينا لعله بحاجة إلى التغيب عن نفسه حيناً من الدهر، أم لعله يحتاج إلى العزلة، أو الاشتغال بحرفات أخر، بل قل لعله يحس أنه أجدى له أن يظل تحت المراقبة ردحاً من الزمان، حتى يحتمي من نفسه، ومن تأثير داخلي مرهق ثائر مستبد. يجب علينا أن نبين له احتمال شفائه، ونوضح له وسائل علاجه، (وذلك بالقضاء على هذه المؤثرات الداخلية أو تغييرها أو تطهيرها) وفي الحالات الشديدة أن نفهمه عضل دائه، واستعصاء شفائه، ويجب أن نقدم إلى المجرم المعضل الذي أصبح حملاً ثقيلاً على نفسه، الفرصة السانحة للانتحار، ونبقي هذه الوسيلة آخر سهم في كنانتنا، ويجب أن ننتهز كل سانحة لنرد عليه شهامته وحرية روحه، ونطهر نفسه من كل ندامة أو تقريع وجدان، كأنما نطهرها من أكبر الأقذار والأدران، ونريه قدرته على أن يكفر عن مأثمة أساء بها إلى إنسان، بصنع جميل إلى غيره، أو إلى المجتمع كله، حتى ترجح موازين حسناته، بموازين سيئاته الماضية. كل هذا يجب أن يؤدي أحسن الأداء، ويقضي بأشد الملاينة والدقة والحذق، وعلى المجرم

أن يظل باسمه، أو يبحث له عن اسم مستعار، وأن يغير مقامه في كل حين، حتى لا تتأثر سمعته في حياته المستقبلة. نعم إن المعتدي عليه في زماننا لا يقنع من المجرم بأن يرد عليه ما فسد من أمره، بل يريد كذلك الانتقام، فيعمد إلى المحاكم يستعديها عليه لينال ترته، وهذا هو السبب الذي جعل قوانين العقوبات نافذة المفعول حتى اليوم كأنما في يد القضاء كفتان، يوازن بهما بين الجرم والعقاب، ولكن مالنا لا نخطو خطوة أخرى إلى الأمام؟ أفلا يكون من أحسن الخلاص، لعاطفة الحياة، أن نتخلص من اعتقادنا في الجرم، فنتخلص به من ميلنا القديم للانتقام، وبذلك ندرج إلى الاعتقاد بأن من الحكمة المصفاة المهذبة، أن يغفر السعداء لأعدائهم، ويحسنوا إلى الألى أساؤوهم، طبقاً لروح التعليم المسيحي. إلا تعالوا ننقذ العالم من فكرة الجرم، ونقذف معها فكرة العقاب، فليت أن هذه الآراء المسيخة المخيفة تعيش في نجوة عن مساكن الإنسان ومنازله، إذا كان من اللازم وجودها، أو إذا لم تكن تريد أن تفنى وتموت من احتقارها وسأمها من نفسها. ولا يجب أن ننسى كذلك أن الضرر الذي يعود على المجتمع والفرد من المجرمين هو من نوع الضرر الذي يصيبها من المرضى، لأن المرضى ينشرون في المجتمع الأسى والهموم، والمرضى هم اللا مثمرون، يستغلون أثمار الغير ويأكلون منتوجاتهم، ويطلبون مع ذلك عنايتهم ومواساتهم، أطباءهم وممرضيهم، ويعيشون في الحقيقة على وقت الأصحاء وقوتهم، كل هذا ونحن نسم بالوحشية ذلك الذي يريد أن ينزل الانتقام بالمرضى، ويثير عليهم الويل والعذاب، والحال أن ذلك كان يحدث في العصور الخالية والأحقاب الغابرة، وفي المجتمعات والأوساط التي لا تزال على الفطرة، حتى بين المتوحشين في عصرنا هذا، يعامل المريض كمجرم وخطر على المجموع وويل، ويعتقدون أنه مهبط مخلوقات جنية شيطانية نفذت إلى بدنه من جريمة ارتكبها، هؤلاء الشعوب يرون أن المرضى هم المجرمون!. أما نحن! ألسنا بعد أكفاء إلى القول بعكس هذا الرأي؟ ألا يباح لنا أن نقول المجرمون هم المرضى كلا. إن الوقت لم يحن بعد، نحن لا نزال نفتقد أولئك الأطباء الذين أحرزوا قسطاً من الآداب العملية، فأدخلوه في صناعة الطب، وعلم العلاج.

ولأنه ليس في رجال الكنائس من وكل إليهم العناية بصحتنا، ولأن دراسة الجسم وأجزائه، والأغذية وصنوفها، ليست حتى الآن من المواد الإجبارية التي تعلم في مدارسنا الابتدائية والتجهيزية، وليس هناك حتى اليوم جمعيات اتفق أعضاؤها بينهم على الاستغناء عن المحاكم وأقضيتها. وإنكار العقاب والانتقام الواقعين اليوم على الذين أساؤوا إلى المجتمع، ولأنه لم يجسر إلى اليوم مفكر فيقيس صحة المجتمع، والأفراد الذين يؤلفونه، بعدد الطفيليات الإنسانية الممكن للمجتمع احتماله. الرزانة والجفاء - أولئك الذين يعجزون عن إظهار الود للناس ونبيل الألفة، وصادق الخلطة، يحاولون أن يجعلوا نبل أرواحهم يتجلى في رزانتهم وجفوتهم وجدهم، ويظهر في احتقارهم الألفة، وسخريتهم منها، فكأنما تخجل حاجتهم إلى الألفة من إظهار نفسها. الرهبنة - أشد الناس شهوانية أولئك الذين يجدون من الضروري لهم اجتناب النساء، وتعذيب أجسامهم. الابتهاج بالحقائق - ميلنا الحاضر إلى الابتهاج بالحقائق - إذ نكاد جميعاً نشعر بهذا الميل - لا يفسر إلا بأننا ابتهجنا بالأكاذيب دهراً طويلاً حتى سئمنا ومللنا، ولكن هذا الميل في شكله الحاضر دون تخير أو تهذيب، لا يخلو من الخطر. وأقل أخطاره حاجته إلى التذوق.

الفوضوية والفوضويون

الفوضوية والفوضويون لعل أشد أنواع الجنون الشباب، إذ كان يغتذي من حرارته، ويستمد غلواءه من غلوائه، ويأخذ ضرامه من مضطرم عواطفه، ولا تجد شباباً خلواً من رائحة الجنون، إذ كان الشباب شعبة منه، وإنما على قدر حرارة النفس، وتسلط الآراء المجنونة على الذهن، يكون مقدار الحزن من الشدة والهول، وأنت لا ترى الشباب إلا أسرع تأثراً من الكهول، وأقل نظراً، وأخف أحلاماً من الرجال والشيوخ، لأن الجنون لا يعرف التردد، ولا يريد التفكير، ولا يعبأ بالنتائج، لأنه يخشى أن يكون في التردد ذهابه، وفي التفكير تلاشيه، إذ كان التردد من خصائص العقلاء، وليس من شأن المجانين، وإذا ما رأيت الجنون يتردد هنيهة واحدة، فاعلم أنه قد بدأ يدخل في حدود العقل. وإذا كان ذلك كذلك، فلا تعجب أن تسمع أن جميع المجرمين السياسيين إلى هذا اليوم لم يكونوا إلا شباباً وفتياناً، تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين، وفيهم صبية إنشاء لم يفوتوا بعد التاسعة عشر، لأن تعاليم الفوضى لا تتفق مع العقل، وإنما تمشي مع الجنون، ولا تستعين ببرودة الشيخوخة، وإنما تريد حرارة الشبيبة، وأشد مخاوفها الأحجام، وأشد معطلاتها التروي. فهي لذلك تخشى العقلاء ولا تطمئن للرزانة، ولا تسكن للمجادلة والمحاجة، يجب أن يكون خدامها عمياً حتى لا يبصروا، ومجانين حتى لا يحجموا، ويائسين حتى لا يخافوا ولا يفرقوا، فهي لذلك لا تقع إلا على حيواني كره الإنسانية، فأراد أن يطعنها في رؤوسها وتيجانها، ويضع من صوالجها وعروشها، أو خامل يريد بقتل العظماء نباهة الذكر، أو مغمور يرجو بزكى الدماء رفعة القدر، أو مفلوك يطلب بالاشتراكية الإجبارية الغنى بعد الفقر، أو معتوه ممرور يريد ما يراد منه، وكذلك تضم إليها زعانف الإنسانية ونفاياتها، وتجمع إليها أدنياءها ورذالاتها، وبذلك تعوض عليها بالكمية ما تفقده من المزية. حسبك من خطر هذا الجنون، ما وقع في خلال الشهر المنصرم، فطار نبأه بين المشرق والمغرب، ورددت صداه أنحاء العالم، خطبان جللان، أحدثهما غلامان مفتونان، يسند أولهما إلى التاسعة عشر، وجاز الثاني الحول العشرين - ونعني بهما قاتل الأرشيدوق فرانسوا فرديناند ولي عهد النمسا في البوسنة، والمعتدى على سمو أميرنا المفدى، ومليكنا المحبوب، في الآستانة.

كان من فعلة الأول أن ولدت حرباً عواناً طاحنة، تتضارب فيها دنيات العالم الحديث وحضاراته، وتتنازع البقاء دولة وأماراته، وأخرجت من بين أثناء الإنسانية المهذبة، حيوانية الإنسانية الأولى، بعد ان كانت مختفية وراء أستار العلوم، وحجب المدينة، وأغشية الفلسفة، وأطباق التربية، فرجعت تحمل كما كانت في الأعصر الحجرية، آلات التدمير والتخريب، وأسلحة النسف والحصد، وبذلك آثرت على حسنات العلم سيئاته. وقذفت أحكام فلاسفتها ومفكريها، وتعاليم سلمييها واشتراكييها، ثم عمدت إلى خرائطها ومصوراتها، تعدو على حدودها المقررة، وترفع تخومها الموضوعة، ونزعت عنها تلك الأثواب الجميلة التي خلعها عليها الفلاسفة والمفكرون، لتشتمل في تلك الأثواب العسكرية التي حاكمها السياسيون والحربيون. وما كان من تلك الجريمة الأخرى التي اندفع إليها ذلك الشاب المجنون المرور إلا أن كدر صفاء أمة هادئة وأساء إلى شعب وديع، لا يستمد حياته إلا من حياة أميره، ولا ينال نشاطه وتطوره إلا من حسن ملكة مليكه، ولا ينهض إلا برعاية سموه وجميل عطفه وعنايته، وكأن ذلك المفتون، إذ صوب مسدسه إلى الأمير، ما صوبه إلا إلى أمته، وما أراد من غيلته إلا اغتيال رعيته، وهل كانت حياة الأمير إلا عماد هذه الأمة وقوامها، وهل كان في سلامته إلا سلامتها وسلامها، وكذلك أبى القدر أن يقضي على شعب من لوثة فرد، فرد تلك الرصاصات الخائنة طائشة، وجعل جراح الأمير المفدى غير بالغة، وأنقذ الأمة المصرية من نكبة قاتلة، يعلم الله ما تكون عقباها، وما يكون من مآلها، وقد عجل الله لأميرنا الشفاء، وأتم عليه العافية، وحفظ حياته لحياة الرعية، ينهض بها أعلى أونج العلم والرقي. تلك آثار المجانين بمبادئ الفوضوية، وهذه سيئات إصلاحهم المزعوم، فقد وهموا أن النظام الاجتماعي الحاضر يقوم على ضروب من المفاسد شتى، وما علموا أن فوضويتهم أشد إفساداً للمجتمع من هذه المفاسد نفسها، بل أن وجودهم في الجمعيات البشرية هو الفساد الفذ الذي سيجري بالمجتمع في سبل عدة من التدهور والفناء. ونحن نقدم إلى القراء لمعة في تاريخ هذه النظرية، والأطوار التي تعاقبت عليها وعلى الذين استهدفوا لشرها وويلاتها. الفوضوية نظرية يقصد بها أن يعيش المجتمع بلا حكومة فوقه، لا يربط هذا المجتمع ولا

يشده الخضوع للقانون، ولا الطاعة للسلطات، ولكن يستعاض عن ذلك باتفاق حربين الطبقات المتعددة. والبيئات المختلفة التي يتألف منها المجموع، وقد وجدت مبادئ هذه النظرية في كل عصر من عصور الإنسانية، تقوم كفة الحكومة، فتسقط كفة الفوضى، وتعلو هذه فتسقط تلك. قال الأستاذ أدلر الألماني إن ارسيتباس المتوفى عام 430 قبل المسيح، وهو أحد مؤسسي المدرسة السريانية قال في إحدى كلماته أن على العقلاء أن لا يعطوا الحكومة حريتهم، وقد أجاب يوماً عن سؤال ألقاه إليه سقراط، إنه لا يرضى أن ينتسب لا إلى الحاكمين، ولا إلى المحكومين. . ولعل أحسن من وضح نظرية الفوضى الفيلسوف زينون المتوفى عام 270 قبل المسيح، وهو مؤسس الفلسفة الرواقية، عارض بمذهبه القائل بمجتمع حر دون حكومة تعلوه، نظرية أفلاطون في جمهورية وطوبوية الحكومة، فنقض قوة الحكومة، ودعى إلى قوة القانون الأخلاقي الذي يسنه الفرد لنفسه، قائلاً إنه بينا غريزة حفظ الذات تدفع الإنسان إلى الأنانية إذ بالطبيعة قد جعلت لهذه الغريزة مهذباً ومخففاً، فركبت في المرء عاطفة أخرى، تلك نهي غريزة الاجتماع، فإذا رجحت عقول الناس حتى يستطيعوا أن يتبعوا غرائزهم الطبيعية، فلا تعود بهم حاجة إلى المحاكم ولا إلى الشرط والمعابد والأديان، ولا إلى استعمال السكة والنقود، وإنما يستعيضون عن الأخيرة بتبادل العوارف والأعطية. على أن كتابات زينون لم تبلغ إلينا إلا شتيتا من كلم، ومتفرقاً من حكم، ولكن مذهبه هذا هو نفس مذهب الفوضويين العصريين فكأنما كان زينون لسان حالهم. وقد جاء رابليه وفنيلون في طوبوياتهما بهذه الآراء عينها، وكانت شائعة في القرن الثامن عشر بين الأنسيكلو بيذيين الفرنسيين، ترى منثورات منها في كتلب روسو ومؤلفات ديدرو، حتى لقد وجدت أشدها في الثورة الفرنسية. وكان جدوين في بحثه الذي عقده في العدل السياسي أول من نظم آراء الفوضوية السياسية والاقتصادية وإن لم يعطها هذا الاسم - قال ليست القوانين نتاج الحكمة من أجدادنا، وإنما هي وليدة عواطفهم وجبنهم وعصبياتهم وأطماعهم، وإن العلاج الذي نستمده من القوانين، لهو شر من الداء الذي تدعى هذه القوانين إشفاءنا منه، فإذا أبطلت هذه القوانين، وأقفلت

هذه المحاكم، وترك القضاء في الخصومات للمراجيح من الناس نشأ من ذلك العدل الحقيقي. وإليك ما كتب أيضاً يستطيع المجتمع بكل سهولة أن يعيش دون الحكومة، بل حسب المجامع ان تكون صغيرة متضامنة. وكان برودون أول من استعمل عام 1840 لفظة فوضوية للتعبير عن حال المجتمع بلا حكومة، وهو أول من نقض مذهب الاشتراك في مال الجمهور، وكذلك كل وسائل الاشتراكية الحكومية التي ذهب إليها لويس بلانك، قال عن الامتلاك في كتابه الأول الامتلاك هو السرقة والاختلاس ولم تصب آراء برودون الفوضوية في فرنسا إلا صوتاً خافتاً. إذ كانت الكفة العليا لآراء الاشتراكية المسيحية التي جاء بها لامينية وأتباع فورييه، وآراء الاشتراكية الحكومية للويس بلانك وشيعة سان سيمون، ولكنها وجدت بعض التشجيع في ألمانيا من فريق اتباع هيجل. وقد صرح بالفوضوية هس عام 1844، وكارل جرين عام 1845. وبدأت هذه الأفكار الفوضوية تشيع حتى انتهت إلى روسيا في خلال حكم القيصر اسكندر الثاني عام 1852 واتخذت لها اسماً غير الفوضوية ونعني به العدمية وهي لفظة كثر ما يراد بها النوع الثوري من الاشتراكية الروسية، وأول من استعمل هذه الكلمة تور جنيف الكاتب الروائي الروسي الأكبر، في روايته المشهورة الآباء والأبناء التي طبعت في عام 1862، وذلك أن تور جنيف لاحظ بين طلاب الجامعات والمدارس الصناعية العالية منظراً جديداً مدهشاً، وهو أن فتياناً نشأ، وفتيات شواب بدأوا يسخرون من الاعتقادات العامة والتقاليد المصطلحة والعادات المحترمة في الحياة الاجتماعية، وشرعوا يتباحثون في تهذيب المجتمع وتأسيسه على قواعد علمية بحتة. وكان من ذلك أنهم قلبوا النظام القديم المتبع حتى في أتفه الأمور وسفاسفها، فأما الذكران منهم فأعفوا شعورهم. وأما الإناث فقصصن فروعهن. فكانت ظواهرهم وأزياؤهم وأحاديثهم عرضة لسخرية الناس وهزئهم، ولكنهم كانوا يهزأون بذلك ولا يكترثون إذ كانوا قد رفعوا أنفسهم عن مستوى ما يسمونه بالرأي العام واحتقروا الرسوم والطقوس وكانوا لا يعترفون من المذاهب القديمة في التربية إلا بمذهب العمل لصالح الجماعات، وكانوا يصرحون بأن الإسكاف أو صانع الأحذية

المتفوق في صناعة المفتن فيها هو خير من شكسبير أو جيت وأعظم قدراً، لأن الإنسانية أحوج إلى الأحذية منها إلى الشعر ولها أطلب ولذلك كان تور جنيف هو الذي جعل الناس في محاوراتهم وأحاديثهم يطلقون على هؤلاء الخوارج لفظة أي العدميين وإن كانوا هم ما يبرحون يحتجون على هذا الاسم ويعدونه كنية فاحشة سيئة، لأنهم يقولون إنهم لا يرون في أنفسهم إلا طلاب إصلاحات معقولة سديدة، وليسوا طلاب مزاح ومجون، وإن الفروق والغرائب التي ظهروا بها في خططهم ومناحيهم لم تنشأ إلا من إهمال الناس لمصالحهم الحقيقية، ومنافعهم الصادقة. ظلت روسيا من وجهة التقدم المادي والأخلاقي المصلية في ميدان استباق الأمم الغربية فشعر الشبان المتعلمون بعد تلك الخيبة التي لاقتها روسيا في حرب القرم إن العهد القديم والنظام العتيق يجب أن يستبدلا بإصلاح متهور شديد، فدفعتهم حرارة الشباب، وجنون الفتوة، وبعثتهم السذاجة والبساطة وعدم الحنكة والعطل من التجربة والروية، في وجهتهم هذه بأشد من قبل تهوراً وحمية، ولما كانوا قد تعلموا مبادئ الفلسفة الإيجابية، وأخذوا بسبب منها، فقد رأوا أن روسيا ظلت باقية على حالها بعد أن تقدم الإنسانية كلها في الأطوار الدينية والأدوار الخيالية (فيما وراء الطبيعة) ولذلك فهي اليوم في أنظارهم على أبواب عصر جديد من عصور الفلسفة الإيجابية، ومن ثم ينبغي لها أن تقذف جانباً جميع الآراء الدينية والخيالية، وتنظم حياتها العملية والاجتماعية والسياسية، وتسير على هدى العلوم الطبيعية. فكان من بين الأنظمة القديمة التي رأى هؤلاء الشبان الإغفال هدمها إذ عدوها معطلات للتقدم الحقيقي، الدين والحياة الزوجية، والامتلاك والحكومة المركزية، أما الدين فيجب عندهم أن يقوم على أنقاضه العلوم العصرية، وأما الحياة الزوجية فيجب أن تستبدل بالزواج الحر، وأما الامتلاك فبالاشتراكية، وأما الحكومة المركزية فبمجموع ولايات مستقلة. وأمثال هذه الآراء والمذاهب لا يباح لأصحابها أن يعلنوها أو يخطبوا الناس بها، تحت حكومة مركزية يريدون نقضها، ولما كانت الصحافة الغربية قد تشبعت اليوم بروح الحريين السارية، كان من المستطاع أن تدس هذه الآراء الثورية تحت ستار الأدب

والروايات، ولعل هذه الآراء لم تجد تأثيراً قوياً في روسيا إلا برواية. (أي ماذا نحن صانعون؟) وضعها منذ سنين الروائي تشرتسفسكي أحد قادة هذه الحركة الثورية، وقد طبعت بعد تصديق أولى الشأن عليها!. وكانت روسيا منذ عهد بطرس الأكبر عرضة لجملة تطورات إدارية اجتماعية شديدة، وقد تنبأ الكثيرون بأن تطوراً كبيراً قد يحدث برضى من القوة المطلقة وتعاون منها، ولذلك ما كادت تبدأ هذه الآراء تخرج من أفواه دعاتها، حتى انتشرت بسرعة مدهشة، فقد كتب في شتاء عام 1862 موظف روسي كبير إلى صديق له كان غائباً عن روسيا شهراً إنك لو رجعت الآن لعجبت للتقدم الذي ظفر به الحزب المعارض، وإن شئت فقل الحزب الثور أن الأفكار الثورية قد استحوذت على جميع الطبقات والأعمار والصناعات والمهن، تعلن جهاراً في الطرق. وتلقي علانية في الثكنات، وتقال في إدارات الحكومة ومصالحها، بل إني لأعتقد أن الشرطة أنفسهم يغضبون لها ويثورون. كان برنامج الحكومة سهلاً عدلاً واسعاً، وفيه اليسير من الحرية، ولكن كان هؤلاء العدميون طائشين خفاف العقول، فأبوا إلا أن يريدوا انقلاباً سريعاً، وهدماً عاجلاً وأجمعوا يبعثهم نزق الشباب، وقوة الصبا، وبساطة الحياة، وقلق الحداثة، على أن ينهضوا هم بأعباء هذا المذهب المجنون، نافضين أيديهم من أيدي الحكومة خارجين عليها، معارضين لأمرها، ولما لم يكن بأيديهم القوة الكافية للقضاء على الحكومة المركزية، فقد رأوا أن يحببوا الشعب إليهم، ويضموه إلى جانبهم، فمن ثم بدأوا يؤلفون منهم فرقاً وجمادات، لنشر آرائهم، وبسط مذاهبهم، بين طبقات العمال في المدن، والفلاحين في القرى، وأقاموا منهم مروجين ودعاة، يجمعونهم من طلبة الجامعات ومن المدارس الصناعية، ومن مدارس الطب، ومن الفتيات المشتغلات بالتمريض والجراحة والتطبيب، وسكان البلدة الواحدة منهم يتعاونون، ويتسارون، ويتشاورون، ولكنهم لم يحاولوا أن ينشئوا منها نظاماً تاماً، أو زعامة مرتبة منظمة، وكان لكل فرد الحرية التامة في انتخاب الوسائل التي يستطيع بها نشر مذهبهم، فمنهم من تزيا بزي العمال ليدخلوا في دينهم الطبقات الجاهلة من العمال، وفيهم من أقام في القرى مستغلاً بالتدريس، يحاول ويجد ليثير البغض والكراهية للحكومة في نفوس الفلاحين السذج الأغفال، ويسروا لهم في آذانهم أن من الواجب التخلص من موظفي الحكومة،

وملاك الأرض، ويطمعوهم في أنهم سيقبضون بعض ذلك على الأراضي الشاسعة، والغابات البعيدة الأرجاء، والأملاك المترامية الأنحاء، ويتخلصون ثم من دفع الضرائب، وكان هؤلاء الدعاة يريدون أن يثبتوا لبعض المتعلمين من العمال أن الحالة الاقتصادية الحاضرة على أشد الفساد وأنكر الفوضى، وإن وجب كل فرد وطني صادق الرجولة أن يعينهم على الخروج من هذه الملمة، وإن أول خطوة لبلوغ ذلك، هو أن يبدأوا بهدم السلطة الحاكمة. وجملة القول أن المحرضين لم يصيبوا رائد النجح، ولم يعودوا مما طلبوا إلا بالخيبة، ووقع كثيرون منهم في أيدي الشرطة، ومن هؤلاء المجرمين من اكتشف الشرطة أسماؤهم من نفس الذين كانوا يريدون أن يعملوا على مصلحتهم المزعومة، ولكن سوادهم كان صلب المكسر، ثابت الجنان، رابط الجأش، متأهباً لاحتمال أية تضحية في سبيل فكرته، ولذلك لم يحجم الباقون عن متابعة عملهم، وقد نظر القضاء بين عامي 1861 و1864 عشرين قضية سياسية، وحكم على أكثر المتهمين فيها بالسجن أو البقاء تحت المراقبة. على أن شدة الشرط ودأبهم وتحريهم زادت سخط العدميين على الحكومة وكراهيتهم لها. فقد حاول في سنة 1866 أحد العدميين وهو يدعى كراكوزف اغتيال القيصر، ولكن خابت طلبته، فأمر بزيادة التحري والمراقبة. وفي عام 1869 ألف رجل منهم يدعى نتيشيف جمعية سرية باسم جمعية تحرير الشعب ولما ارتاب نتشيف في أحد أعضائها قتله فجر، قتله إلى القبض على بعض أفراد هذه العصابة الثورية وارتبط كثيرون من العدميين بالاشتراكيين في البلاد الأوروبية ولاسيما أتباع باكونين رأس الفوضويين وشيعته. وكانت الحكومة القيصرية لا ترى جواباً لهؤلاء الخوارج إلا بالقبض على رؤوسهم وزعمائهم. فلما كان شتاء 1878 قبض على 193 محرضاً وحوكموا علانية في سان بطرسبرج (بطرغراد) وحكم على أكثرهم بالسجن أو النفي. على أنه لم تكثر جرائمهم ولم يزدد توثبهم إلا في عام 1880 فقد قتل أحد العدميين الجنرال تريبوف محافظ بطرسبرج وهو يتظاهر بأن يقدم إليه عريضة استرحام وقتل مفتش الشرطة في رابعة النهار ثم أؤتمر على قتل خليفته. وقتل حاكم ولاية كراكوف البرنس كورباتكين، لاشتراعه نظاماً صارماً لمعاقبة المجرمين السياسيين، وهوجم القيصر

في قصر الشتاء، وحوول مرات كثيرة نسف القطار المقل أسرة القيصر وهو في طريقه إلى العاصمة، ووضعت مفرقعات من الديناميت في القصر فقتل عشرة من خدمه ولم يصب أحد من الأسرة بسوء لأنهم تأخروا يومذاك عن حضور المائدة، دع غير ذلك من الحوادث التي عجز الجواسيس عن الاهتداء إلى الفاعلين. ولما رأى الإسكندر الثاني عجز شرطته وضع نظاماً جديداً ودفع به إلى الكونت لوريس ميليكوف فكاد يذهب في جريرته قتيلاً ولم يكن من ذلك إلا أن تمخض عن مؤامرة جديدة لإهلاك القيصر، وذلك أنه في مارس عام 1881 والإسكندر في مركبته إذ رمى بقنبلة مدمرة كانت فيها منونه، فلم تكد المركبة تبلغ القصر حتى فاضت روح صاحبه. وكان من هذه الوقائع المتتابعة أن ظهر فساد ذلك الرأي القائل بقتل الفوضى بالعطف والملاينة والمسالمة، ولذلك صرح اسكندر الثالث بأنه لا يريد أن يضع حداً لسلطة حكومته، فعادا يتآمرون على قتله وهو في مركبته، ولكن قبض على الجانين قبل محاولتهم فعلتهم، ولكن رجعت نهضتهم إلى الانتعاش إذ وقع في سنة 1901 اضطراب كبير بين طلبة الجامعات الروسية ثم بين الفلاحين في أشهر بلدان الإمبراطورية. ولم تخف حدة الفوضويين ولم تهدأ ثائرتهم إلا بدخول مبادئ الحكومة البرلمانية في روسيا. على أن ليس كل المجرمين السياسيين فوضويين في صميم أرواحهم، ولا عدميين في قرائر نفوسهم، بل فيهم العدد العديد من الذين اندسوا في أهل المذهب وهم لا يشعرون له بشيء من التقدير أو الاستحسان أو الإخلاص، من كل مسموم العاطفة يحقد على الملك لنكبة نكبته لم تقع من يد الملك، وإنما سقطت من يد القدر، وآخر لظلامه ظن أن حقاً له قد هضمته الحكومة، وما هضمته إلا معدة الطبيعة، أو مغمور أولع بالنباهة وأولعت بهجره. فتثور في أنحاء روحه عاصفة هوجاء تزعزع عروش الحكام وتتزاور عن مواطن المحكومين، كالزوبعة القاصفة الهزجة تهشم أعالي السرح، وتعجز عما دونها، هؤلاء يسيئون إلى المذهب أكثر مما يسيئون إلى المجتمع، لأن للجمعيات البشرية مدخراً واسعاً من الملوك والأمراء، ينفد هؤلاء الممرورون قبل أن ينفذ جمعهم. منذ بدأ القرن العشرين أي منذ عام 1901 هل تعلم كم ضحايا هذه الفوضى الكاذبة؟ ثمانية عشر من الملوك والحكام وكبار رجال الأمم، نذكر من هؤلاء الملك همبرت والد ملك

إيطاليا الحالي، فقد قتله إيطالي يدعى بوسكي جاء من أمريكا لقتلنه خاصة، إذ أطلق عليه رصاصات من مسدسه، ثم الرئيس ماكنلى قتل في مدينة بافللو من أعمال الولايات المتحدة، إذ جاء إليها في شهر سبتمبر عام 1901 لحضور معرض الاتحاد الأمريكي، وفي غضون المدة التي لبثها بالمدينة دنا منه يوماً أحد البولانديين المتجنسين بالجنسية الأمريكية وقد خبأ المسدس تحت ضمادات كاذبة موضوعة على يده اليمن بحيث يظن الناظر إليها أن اليد مكسورة أو مقطوعة فعطف عليه الرئيس رائياً لحالهن غير عالم بخافية أمره، ماداًَ يده لمصافحته فلم يكن من البولاندي إلا أن مد له يده اليسرى وأطلق عليه من المسدس المختفي بين ضمادات يده اليمنى فقتله، أما مقتل الملكة دراجا والملك اسكندر الثاني ملك صربيا فقد كان أنكر من كل ذلك وأشد هولاً، ذلك أنه في عام 1903 دخل إلى القصر ثمانون ضابطاً من الثائرين الكائدين والمسدسات بأيديهم ولما بلغوا منامة الملك والملكة كسروا بابها ودخلوا عليهما فوجدوهما في أثواب النوم فأطلقوا عليهما عدة رصاصات سقطا منها صريعين وقد وجد في جثمان الملك ثلاثون رصاصة أما زوجته دراجا الحسناء فقد مزقها الرصاص كل ممزق. ولعل القراء لم ينسوا بعد مقتل جورج الأول ملك اليونان فقد وقع في التاسع عشر من شهر عام 1913 وكان يتمشى في أسواق سلانيك وقد احتلها اليونان في الحرب البلقانية الأولى فهاجمه يوناني مجنون وأطلق عليه الرصاص فنفذ من ظهره ومات لساعته. هذا وأما الفوضوية في الإسلام فسنفرد لها مقالاً آخر إن شاء الله.

جرجي زيدان ك

جرجي زيدان ك بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني مات في الشهر المنصرم (يوليه) جرجي بك زيدان منشئ مجلة الهلال ومؤلف تاريخ آداب اللغة العربية وتاريخ التمدن الإسلامي وسلسلة الروايات التاريخية وغير ذلك من المصنفات والرسائل، وقد كان بودنا أن لا نكتب عنه الآن ولما يمض على وفاته إلا بعض شهر لأن عهدنا به مازال حديثاً فقد لا نخلو من تحيز شديد له أو عليه، وقد لا نستطيع أن نجله الإجلال الذي ربما كان أهله، أو نستصغره الاستصغار الذي قد يستحقه، ولسنا على يقين من أن الناس سيذكرونه بعد عام أو عشرة، لأن مر الأيام يجرد المرء مما ليس له، ويعريه مما ألبسته الشهرة وكساه الوهم، فليت شعري ماذا يسلب الزمن هذا الرجل بعد دورة أو دورتين، هذا ما أتمنى أن أعرفه لو كان إليه سبيل، فقد أريت نفراً من الأدباء كان الناس يتفخمونهم ويكبرونهم ويكاد بعضهم يجن بهم جنوناً، قد طويت اليوم صحائفهم وشغل الناس بسواهم من الناشئين غير أن هذا ليس خليقاً أن يمنعنا من تقدير عمله تقديراً لا ندعي أنه في الصميم من حبة الصواب ولكنه غاية ما يسعه الطوق ويبلغه الجهد، وليعذرنا القارئ إذا رآنا أصرح مما يتوقع ولا يستعجل باتهامنا ورمينا بسوء القصد بيد أنا عاذروه إذا حك في صدره شيء من ذلك لأنه لم يسبق له بنقد سير الرجال عهد. لم يكن زيدان عظيماً ولا فحلاً من فحولة الكتَّاب ولا من أصحاب المبادئ ولا من ذوي البسطة في العلم والرسوخ فيه، وإنما غاية ما نستطيع أن نقوله عنه أنه كان من أرباب الاجتهاد مطبوعاً على العمل كثير الدؤوب عليه، هذا فضله وتلك مزيته في رأينا، على أنه فضل يشاركه فيه سواد عظيم من الناس، وإنما ظهر زيدان دون غيره ممن يماثلونه في هذه الصفة - وهم عديد الرمل في كل قطر - لأنه جعل الكتابة حرفة ومرتزقة ولولا ذلك في تقديرنا لعاش ولم يكترث له أحد ومات ولم ينعه أحد إلا آصرته وعارفوه، ويخيل إلينا أن زيدان لو ضاع منه مفتاح مكتبته لما عرف كيف يملأ صحائف هلاله!. وليست مؤلفاته من الإبداع والحسن بحيث تصبح عندنا في مرتبة آبائنا وأحبابنا وتجاربنا لما يتجلى فيها من سعة الروح التي تكاد تلتهم الدنيا وتساوي العالم الذي تصوره! كلا! ليست كتب زيدان من هذا الصنف وليس زيدان في الحق إلا رجلاً من الأوساط لم يرفعه

الذكاء وقوة الذهن وسعة الروح إلى مرتبة العظماء والفحول، ولم يهبط به الغباء والبلادة إلى درجة العوام والغوغاء. ولكنه وإن لم يكن من عامة الناس فإنه من عامة الكتاب عبارة ومن سوقتهم لفظاً. وهذا يدعونا إلى الكلام عن الأسلوب فقد كان المرحوم زيدان وغيره من الكتَّاب الأحياء يرون في ذلك رأياً لا يخلو من اعتساف ولا يبرأ من مباينة لوجه الصواب، ذلك أنهم يقولون حسب الكاتب أن يفضي بمعاينة إلى القارئ، فإذا أشرت إلى سوء اختيار اللفظ المراد به العبارة عن المعنى وتعقيد التركيب وركاكة الكلام سخروا منك وقالوا قد كان لك أن تنعى علينا ذلك وتعيينا به لو أدعينا الأدب ولكننا قوم علماء نشرح مسائل العلم ونجلى غوامض الفلسفة، وليس علينا أن تتجلى الفصاحة في كل لفظة من منطوقنا وتتمثل البلاغة في كل فقرة من فقرنا، تلك صناعة الأدباء وذلك ديدن الشعراء وأين نحن منهم وأين هم منا وما كنا لنشوش تآليفنا ونعميها بتكلف الرشاقة والتأنق ونحن أهل شرح وتبين. هذه خلاصة رأي زيدان يرحمه الله وأنصاره في الكتابة والأسلوب ولو أنهم كانوا أعمق نظراً وأدق فكراً لتبرؤا مثلنا من هذه السخافات الفاضحة والحماقات الشديدة التي اكتظت بها مؤلفات الكتاب لهذا العهد. ذلك أنهم حسبوا الأسلوب ثوباً للمعني وزينة لا جسماً حياً له ارتباطه به كارتباط الزوج بالجسم يضعف بضعفه ويقوي بقوته وظنوه خلاعة ورقة لا أحكاماً ودقة ونسوا أن العبارة إذا اختلت وأخذ الضعف والعي والركاكة والاستبهام بمخنقها نبا عنها الفهم وسئمتها الطباع وأعرضت عنها القلوب لأنه لا معنى من غير لفظ ولا يسلم إلا بسلامة اللفظ وغلا فسدوا ختل وضاع في تضاعيف التقيد وأتعب الغائص عليه الطالب له. ولسنا نريد أن يكتب الفيلسوف والعالم والمؤرخ والأخلاق كما يكتب الأديب والشاعر والروائي ولا أن يذهبوا إلى فخامة الكلام وجزلته على مذهب العرب القدماء ولا أن يستعملوا ألفاظاً بأعيانها وعبارات معلومة لا ينبغي أن يعدوها أو يستعلموا سواها ولا أن يتركوا المألوف إلى الدارس ولا السهل إلى المتوعر ولا إن يرجعوا إلى عنجهية البادية وخشونة الأعراب ولا أن يتظرفوا بألفاظ مختارة لينة المكاسر حسنة المنطوق والمسموع، ولا أن يحوكوا الألفاظ على حسب الأماني ويخيطوا الكلام على قدود الخيال، ولا أن يأتوا

للأشياء من بعد ويطلبوها بكلفة ويأخذوها بقوة لتملتئ الأسماع وتخلوا الطباع، وإنما نريد أن تكون ألفاظهم مهذبة وأساليبهم واضحة وديباجتهم مشرقة وأن يعبروا عن معانيهم بأجلى العبارات ويفصحوا عن أغراضهم بأبين الألفاظ وأن لا يخرجوا عن أصول اللغة وقوانينها حتى لا يتكلف القراء شططا ولا يقاسوا عنتا، فإن فساد التعابير مضيع للمعاني كخشونة الألفاظ وجفوتها - وليست البلاغة بمنافية للسهولة ولا العمل على جودة الألفاظ وسلاسة الكلام وصحة التأليف بمستدع للتقعر بمعنى الكلام والتلمظ بحوشى اللغة. فأما أن يطلبوا صحة المعنى ولا يبالون حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وشناعته فذلك ما نأخذهم به وننعيه عليهم، وعلى أنى لا أدري كيف يستقيم المعنى وألفاظه مرتبكة ومبانيه مضطربة، هذا ولغة الكتابة في كل أمة غير لغة العامة وغير لسان التحادث والخطاب ولكنها لغة تناسب رفعتها رفعة المعاني وشرف العقل ولا تكون كذلك حتى ينفى الكاتب عنه هذه الألفاظ الوضيعة المضحكة والعبارات القذرة السخيفة. وأحر بمن يكتب تاريخ أدب اللغة ان لا تعلق بعبارته ركاكة ولا يرتمي عليها للابتذال ظل ما. وليست مؤلفات زيدان إلا فهارس لا تنقع غلة ولا تبل أواما ولا تفيد المطلع عليها إلا كما تفيده الأخصاآت، وليتها بعد ذلك سلمت من معرة الخطأ وخلت من الغلط الفاحش الذي يرجع إلى الإهمال والعجلة. فلا هي جامعة فيرجع إليها عند الحاجة ولا صحيحة فيعتمد عليها ويوثق بها وكذلك ليست رواياته بأرفع مرتبة من سائر تصانيفه وتواليفه فكثيراً ما تجد القصة فيها مشوشة مضطربة لأنه لم يتولها بروية ولم يتعهدها بنظر ولا تدبر وذلك شأنه في كل شيء ولو كان زيدان ذا تؤدة وأناة لما استطاع أن يخرج لقرائه هذا العدد الكبير من الكتب والروايات. على أن ولترسكوت كان سريعاً وكانت كتابة بعض رواياته لا تستغرق أكثر من أسبوعين ولكنه كان ذا سليقة وزيدان ليس له طبع يحور إليه ولا سيلقة تخدمه ولذلك تراه لا يحال أخلاق أبطاله ولا يشرح لك شخصيتهم فعل كبار الروائيين ومجيديهم. ولست أرى فرقاً بين كثير من أبطاله لأنه لم يعن بتمييزهم كما لم يعن بالقصة وكما لم يمن باللغة. على أنا لا نجحد الرجل فضله ولا ننكر اجتهاده وكده ولكننا آثرنا قول ما نعتقد أنه الحق في تقدير أعماله وقد مضى الرجل لسبيلخ فرحمة الله عليه وألهم آله الصبر والسلوان.

(البيان) هذا رأي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في المأسوف عليه جرجي زيدان بك ونحن فلا نستجيز لأنفسنا اليوم بأية حال أن نصدع برأينا على أننا لا نرى ثمة فائدة في ذلك وقد مات الميت فليحيى الحي وكل ما في مكنتنا أن نقوله الآن إنا نتأول في رصيفنا الفاضل أميل زيدان خيراً كثيراً ونرى فخراً لمجلاتنا العربية أن يشتغل فيها شاب دارس متعلم مثل أميل زيدان وقد شاهدنا آثار فضله ودلائل علمه وأدبه في العدد الأخير الذي ظهر من مجلة الهلال ونود لذلك الود كله أن يقبل قراء العربية على الهلال ويعلموا أنهم سيطالعون منه موضوعات هي نتاج الدرس وثمار العقول وأن الهلال اليوم إن لم يفضل نفسه بالأمس فليس بدونه. أما المأسوف عليه جرجي زيدان بك فقد كان بجده ونشاطه قدوة يحتذى ويحسبه أن قد سود نفسه بنفسه وإن الأيام لا تنجب من أمثاله كثيراً صنع الله له وحقق آماله في خليفته وآمال عشاق العربية.

في عالم الحرب

في عالم الحرب كلمة تمهيدية الآن تسخر الطبيعة من الإنسانية المهذبة وتهزأ، والآن تتقهقر مدينة العقل أمام وحشية الغريزة، هنا يتوارى قانون التضامن الإنساني إزاء قانون حفظ الذات، واليوم تختفي الصفحة البيضاء من تاريخ العقل الإنساني وحسناته، حيال الصفحة السوداء من ويلات مخترعاته ومبتكراته، واليوم تتجلى سيئات الكيمياء والميكانيكا وجرائم البخار والكهرباء. كم من عقول كبيرة انصرفت عن خدمة الإنسانية العامة إلى خدمة السياسة وأفانين الحرب من يوم أن صنع شوارتز أول بارودة في التاريخ. لقد كانت هذه البارودة الأولى هي أول أبواق السياسيين والحربيين، هي المزية الفذة التي يتسامون بها في الجمعية البشرية على الفلاسفة والكتاب والمفكرين، هي التت جعلت صوت المفكرون صوت السياسي، إذ كان الأول يستمد سلطانه من صرير قلمه، وكان الثاني يستمد صوته من صوت المدفع!. لقد كانت هذه الحرب الرهيبة النتيجة المتوقعة من قانون التسليح، ذلك القانون الذي امتص أكبر قسط من ثروة الغرب، وعطل أكبر جزء من أذهانه، هو الذي جعل الأمم الغربية تبدد أذهان الملايين من أفرادها، لتربي فيهم على نفقتها حيوانية حفظ الذات، وتنمى فيهم الروح الحربية التي تريدها!. جدت الرب فاستطار بلاؤها إلى كل بقاع العالم وأقطاره، واستحصد شرها في كل مدائنه وبلدانه، إذ كانت الرابطة الوحيدة التي تربط ممالك العالم وأممه هي التي التجارة. والنازلة التجارية التي تنزل بلندن أو برلين لا تلبث أن ترى آثارها في القاهرة وكلكتا. وبعد فليس من وراء هذه النكبات الكبرى التي لحقت بالعالم الإنساني من هذه الحرب الخطيرة إلا كلمة واحدة لا تزال تضطرب في جوف المستقبل - هي أما أن يقضي على قانون التسليح وبذلك تتخلص الإنسانية آخر الدهر من كوارث الحرب وأما أن يحيا ثانية فيعود أشد مما كان همة ونشاطاًَ وهكذا كلما خطت الإنسانية بفضل فلاسفتها ومفكريها في طريق الكمال الاجتماعي خطوة واحدة عاد السياسيون والحربيون فتقهقروا بها خطوات. مخاوف الكتَّاب قبل الحرب

كان كتَّاب الغرب من السلميين والاشتراكيين يرون الاستعدادات الحربية الهائلة التي تعدها الدول الأوروبية، والمنافسات المستمرة في جندياتها، والتحسينات العديدة في بحرياتها، والاختراعات السرية والجهرية في مراكبها الهوائية ومدافعها ومفرقعاتها - كانوا يرون كل هذا فترجف قلوبهم من الصدمة الهائلة التي ستصطدم بها أوروبا من جراء هذا التسليح الدائم، وكانوا يلمحون أشباح الحرب المخيفة ماثلة أمام أعينهم تنذرهم بالويل المقبل. ولذلك جعل كثيرون من أكابر كتَّاب الغرب ينصحون أوروبا بترك التسليح، والتخفيف من الاستعداد الحربي أو إلغائه جملة واحدة، والعيش في ظلال السلم وأفياء الوئام، ولكن أخفقوا هؤلاء جميعاً في إرشاد المغرب إلى الاتفاق يداً واحدة على إطراح التسليح، لأن هذه إرادة العسكريين من دعاة العظمة التوتونية وإرادتهم فوق كل شيء. ومن بين الكتَّاب الأعلام الذين كانوا يتوقعون هذه الحرب الطاحنة الكاتب الإنجليزي المشهور مستر فردريك هارسون، فقد كتب في فاتحة العام الماضي مقالاً شائقاً في المجلة الإنكليزية - وهي من أرقى مجلات الإنكليز - عن ألمانيا نقتطف منها النبذة الآتية: قال فردريك هارسون: كلنا يعلم أن السلم منذ سنين هو الحالة التي يجري عليها التقدم الألماني، سواء من الوجهة الحربية أم من الوجهة التجارية، ولاسيما في البحرية، وكلنا يعتبر ذلك قضية مسلماً بها لا جدل فيها ولا مراء فإن تسعين في المائة من الشعب الألماني يريد أن يعيش في ظل السلم ما ظلت المصالح الألمانية غير معرضة لسوء وكذلك تعمل الحكومة الألمانية على بقاء السلم في الحالة الحاضرة هذا والإمبراطور يدأب مخلصاً في إزالة مخاوف جيرانه ووساوسهم حتى تضطره الشدائد إلى الكلام على أن العشرة الباقية من مجموع الأمة هم الذين يدفعون بألمانيا إلى سبيل صعبة لا نتيجة لها إلا الحرب المحتمة. ثم انتقل الكاتب إلى بحث الأسباب التي تجعل طمع الألمان في التوسع أمراً لازماً لا مرد لألمانيا عنه إلا الهزيمة، وإليك ما قال: هذه مشكلة دولية قامت من عهد بسمارك أي منذ خمسين عاماً على التقريب - إن كل سياسة أوروبا الآن تدور حول الارتقاء العظيم الذي تخلقه ألمانيا في الحرب والصناعة والعلم - وحول انحصار ألمانيا بين سبع ممالك مختلفة - ونصيبها الضعيف من الشواطئ

البحرية - وتكاثر عدد سكانها المطرد - وملاصقتها من كل الجهات يجيران معادين لها أو مرتابين في سلوكها - وفوق كل ذلك تطرفها في الزهو بنفسها ومغالاتها في طمعها وظمئها للتوسع في التملك. إن أمة كبيرة كهذه تتألف من 65 مليوناً من النفوس، وتملك مثل هذه المصادر العظيمة في السلم وفي الحرب: وتشعر بمثل هذا الزهو المتطرف، وتحس من قوتها بهذا العجب المتعجرف، تجد نفسها محصورة في مضطرب. ضيق لا يتسع لارتقائها واطراد عدد سكانها، ولا يكفي لرغباتها وآمالها، في حدود ساعد على خلقها التاريخ والجغرافية والظروف، في حدود تحرسها مخاوف جاراتها التي دونها في البأس ولا تحرسها عداواتهم. هذا هو البركان المتغلغل الثائر المصطخب الذي ترتكز عليه سياسة أوروبا. وختم المستر هارسون نبوءته بالكلمة الآتية: إن أوروبا والمدنية في خطر واقع من حب التوسع الألماني - إن أمامنا أزمة هائلة، وإن الذين يعمون عنها أو يتعلمون سيتحملون جريرة نكبة من أفظع نكبات التاريخ. وكذلك كل ما حذر. الأسباب الحقيية للحرب الألمانية الأوروبية كتب أحد كبار ساسة الإنجليز مقالاً هاماً في هذا الصدد آثرنا تعريبه لما حوى من دقة البحث وهدوء البحث وهدوء الاستنتاج وحصافة الرأي والتفكير، والغوص على الحقائق، إذ كان الكاتب من الذين قضوا السنين العديدة مجاوراً لوزارات الخارجية في جميع عواصم الغرب الكبرى، والمطلعين على خفايا السياسات ودقائقها: قال إن الحجة الواهية التي تذرعت بها النمسا لإضرام نار هذه الحرب - وهي أن صربيا لم تصلح ما أفسدت بمقتل الأرشيدوق فرانسيس فرديناند وزوجته، لابد من أن تطرح جانباً إذا أردنا أن نبحث عن الأسباب الحقيقية الصادقة. أي شأن كبير لصربيا، حتى تخاطر النمسا وألمانيا بكل شيء حتى بكيانهما للفتك بها؟ وما هي الفائدة الجلى التي تنتظرها روسيا من صربيا حتى يسارع القيصر إلى لم شعث جيشه واستدعاء جنده من أطراف قيصريته، ولم تكن أطلقت بعد بارودة واحدة؟. تلك هي الأسباب التي يجب أن نسألها إذا أردنا أن نفهم العوامل التي ولدت هذه الحرب،

وإليك الجواب عليها. إن صربيا وإن كانت مملكة صغيرة إلا أنها مملكة ذات بأس ومنعة. وهي الحائل الذي بين النمسا وبين بلوغها بحر إيجه إذ كانت سلانيك وهي أكبر ثغور البحر الأبيض المتوسط تبعد بنحو ثلاثمائة ميل عن بلغراد عاصمة الصرب الواقعة على حدود الإمبراطورية النمسوية، ومن ذلك يتبين أن أية دولة عظيمة ذات مصالح في بحر إيجة أو في البلقان بجملته وفي آسيا الصغرى يجب أن تقبض بيدها على هذا الثغر وإن الطريق إليه يجب أن تكون موطأة ممهدة. هناك دولتان عظيمتان وإن شئت فقل دولة عظيمة وأخرى تتألف من مجموع دولتين عظيمتين - كل منهما ذات مصالح عظيمة في آسيا الصغرى وبحر إيجة، أولاهما روسيا والأخرى ألمانيا والنمسا مجتمعتين، وقد ظلت هذه الدول عاجزة عن بلوغ أمنياتها من تركيا حتى عام 1908 تجاهر برغائبها ولا تقدم خطواتها، ومنذ خلع عبد الحميد بدأت خريطة البلقان تتغير وتتبدل، وطفقت الفتن والهزاهز تعمل أبداًَ على تغييرها. ولقد كانت تركي من قبل الانقلاب الدستوري نهباً مقسماً بين الماليين الغربيين وجلهم من الألمان، وقد جعل الألمان يأخذون الامتياز اثر الامتياز ويظفرون بالاتفاق بعد الاتفاق وأهم هذه الامتيازات سكة حديد بغداد، يراد بها أن تجري من القسطنطينية إلى بغداد فثم إلى الخليج الفارسي فتداني الأملاك الإنكليزية في المحيط الهندي، وكان من وراء شركة هذه السكة الكبرى المصرف الألماني، وهو من أعظم بيوتات المال في الغرب أجمع، وقد أخذ على عاتقه أن يسعف المشروعات الألمانية فيما وراء البحار كل جهده. الأسباب المالية كان مؤسس هذا المصرف الكبير جورج فون سيمنس وهو الذي ظفر بعقد الاتفاق على مد سكة حديد بغداد، ومديره الحالي هو أرثر فون جوينر هو الذي وكل إليه إتمام هذا المشروع، وقد أتوا حتى الآن على تشييد نصف الطريق أو كادوا، وقد أنفق إلى الآن عليه من الأموال الألمانية بين ستة عشر مليوناً وثمانية عشر من الجنيهات. ليتدبر هذه المسألة أولئك الذين يتوهمون أن ألمانيا والنمسا اندفعا إلى الحرب يسوقهما الثأر لدم الأرشيدوق؟ إن المصرف الألماني يملك كل سكك حديد برلين وكل مستخرجات الزيت

في رومانيا، ويدير شركة الاستصباح الكهربائي الألمانية في بلاد الأرجنتين وشيلي وأراجواي، وقد شرع فون جوينر منذ أشهر في اتخاذ التدابير لاحتكار الواردات من البترول لألمانيا حتى يقضي بذلك على جزء من ثروة الشركة الإنجليزية التي كانت تقوم بتوريده، وتقدر جملة الودائع في المصرف الألماني بنحو 85 مليوناً عدا الفوائد الذي يجتنيها من مصادر أخر. وهرفون جوينر هذا من أصدق بطانة الإمبراطور وأكرمهم عنده وأعظمهم في أهل مشورته، يقول الكلمة فتصبح قانوناً نافذاً في كل المسائل المالية التي تتعلق بالحركة الاقتصادية في ألمانيا ولو قال مثلاً للإمبراطور أن سكة حديدية يجب أن تجري إلى بحر إيجة تحت رقابة الحكومة الألمانية النمسوية من أجل سلامة المصالح الألمانية في آسيا الصغرى، لاندفعت حكومتا ألمانيا والنمسا (ومركزهما معاً في برلين) إلى اقتحام كل عقبة تقوم في سبيل هذا الرأي وإزالة كل حائل دون هذه السكة التيوتونية. وإني لأقول عن معرفة شخصية أن أرثر فون جوينر قد قال هذه الكلمة فأمن عليها الآخرون. ويجب أن لا ننسى أن لألمانيا في آسيا الصغرى غير السكة الحديدية مصالح أخرى وإني أقدم للقراء خلاصة شروط الاتفاق الذي عقد في مارس سنة 1911 بين الشركة والحكومة العثمانية، ولم يكن نشر قط حتى الآن. تتكفل الشركة بحفر الفرضات وإيجاد المعدات اللازمة لرسو السفن في الأفاريز وشحن البضائع وإنزالها. . . ويجوز للشركة كذلك أن تجري سفنها في الدجلة والفرات وللشركة أن تنتفع بما تعثر به من مناجم الفحم أو النحاس أو غيرهما على شريطة أن لا يعدو عن بقعة من الأرض قطرها عشرون كيلو متراً حول الخط الحديدي، ولها كذلك أن تتخذ ما يحسن لديها من قطع الأشجار من الغابات المجاورة، ويباح للشركة (على شريطة أن تدفع إلى الحكومة العثمانية 25 في المائة من أرباحها) أن تشيد في الأراضي المباحة لها مخازن للسكة الحديدة ومصانع لتشغيل العمال، وأن تبني مخازن لادخار القوة وسيكون لها الحق في احتكار الآجر والبرانج التي تبنيها في الأرض المباحة لها، وأن تشيد مصارف وجداول وتصل بين بحيرتي بيشيتير وقرافيرون وبين سهول قونية وقرمان. .

وكانت حكومة ألمانيا قد بعثت سنة 1903 جماعة من مهرة المهندسين لاستجلاء الأراضي التي ستمتد فوقها السكة الحديدية وعند عودتهم أرسلت اثنين منهم إلى الولايات المتحدة وكندا للإطلاع على الطرق الاستعمارية التي تتبعها هناك شركات الخطوط الحديدية. يتبين لك من ذلك أن سكة حديد بغداد والمشروعات الكبيرة الملحقة بها لإيراد بها القضبان الحديدية ليس غير، بل هي تتضمن القضبان والقاطرات والقناطر والمعابر والقوارب البخارية النهرية والآلات البخارية العديدة الأشكال والآلات الكهربائية المختلفة الألوان وكل هذه تجلب من برلين وفي مقابلها سينتفع الألمان بمناجم النحاس والفحم، وشاسع الغاب ومترامي الأجم وبترقية التجارة في تلك البلاد الواسعة. العوامل الصناعية لا يكون من خيبة مشروع سكة حديد بغداد إلا ارتباط التجارة الألمانية كلها، ولسنا نعني بخيبتها إلا معاكسة روسيا لها وقد تجلى ذلك في العام الماضي ولذلك اختطت الخطط لزيادة 000ر300 جندي على الجيش، حتى تكون قوة هذه الإدارة الحربية الهائلة ثمانمائة ألف في السلم فكلف ألمانيا ذلك خمسين مليوناً من الجنيهات، ولكن كان إنفاقها أمراً محتماً، لأن المصالح تطلب ذلك وحسب، ولما أظهرت روسيا انتباهها هذا الاتفاق، عدت إنجلترا عدوة لها، فكان من ذلك أن أصبحت ألمانيا ولأسطولها المكان الثاني في العالم. ولننتقل إلى العوامل الصناعية، من ذا الذي سمع باسم أوغست ثيسن؟ هو المعروف في أرضه بكارنجي الألماني أو الملك ثيسن، له في مناجم الفحم والحديد الخام ثلاثمائة وعشرين في المائة مما كان قبل وازداد منتوجها من الفحم ضعفه، وليس من وراء هذه المقادير العظيمة إلا أوغست ثيسن هذا. إذ يملك في ألمانيا مناجم الفحم والطواحين والمين والأفاريز، وفي فرنسا عدة من مناجم الحديد، وفي روسيا المصانع العديدة، وله فروع في كل مملكة من البرازيل إلى الأرجنتين إلى الهند، أنشأ النقابة أثر النقابة، وبذل من جهده ما لم يبذله ألماني غيره في استعمال طريقة الاحتكار الأميركية، والتوسع الألماني في آسيا الصغرى هو كل أمنيته، وقد صرح ثيسن بأن المصالح الألمانية في آسيا الصغرى يجب أن تكون آمنة من كل سوء مهما يتكبدون من ذلك ما يتكبدون. ومن روءا ثيسن عصبة كبرى من الماليين الألمان، هاك مثلاً أميل فون راتينو مؤسس

شركة الكهرباء العمومية وصاحبها، وهي تقوم بمائتي مليون من الجنيهات، وراتينو وئيسن وجوينر هم في الصف الأول من ملاك الألمان ويدب أن نضيف إليهم رابعاً هو الفرد بالن صاحب شركة همبرج أمريكا الملاحية، وهناك غيرهم من سادة المال يعدلون هؤلاء في القوة والسلطان وإن ليس في الاسم والشهرة، وهم وإن كانوا لا يعرفون في بلاط برلين، لأنهم ليسوا بعد إلا تجاراً وليسوا من الأشراف، إلا أنهم المتسيطرون على الإمبراطورية الألمانية وهذه ولا ريب المتيسطرة على حكومة فينا. وفي سنة 1910 عادت روسيا إلى المناقشة في أمر آسيا الصغرى، فكان ذلك داعياً إلى تلك المقابلة التي دارت بين القيصر والإمبراطور وظهر أن روسيا مقتنعة بتأكيدات حكومة ألمانيا لها من أنه مصالح تجارها في آسيا الصغرى محترمة، ولكن لم يكن كل منهما في قلبه راضياً عن سير الآخر وكل من له علاقة بخارجيتي برلين وبطرسبرج كان يرى أن الحرب لاشك واقعة بين الدولتين أن عاجلاً وإن آجلاً، إذ أصبحت تلك الأراضي الزراعية ميدان مصالح صناعية مختلفة للروس لفتت إليها أنظار الحكومة الروسية فشرعت تحمي هذه المصالح، وانتهت الفتن التي أثارتها دويلات البلقان بإعلان الحرب في خريف 1912 وضاعت في أثرها البقية الباقية لتركيا في أوروبا، وكانت روسيا ولاشك هيب المثيرة لهذه الفتن. وكانت ألمانيا مزمعة الحرب في العام الآتي ولكن جاءت حادثة الأرشيدوق فعجلت بنشوبها. هذه كلمة مجملة عن الأسباب الصناعية والمالية التي جعلت ألمانيا تقذف بنفسها في مضطرب هذه الحرب ورهجها، ولا ريب في أن هذه العوامل ليست كل شيء في أسرار هذه الحرب الكبرى وإنما نظر الكاتب إليها من جهة واحدة لا تقل عن الوجوه الأخرى من جنسية وسياسية وفلسفية وتاريخية وجغرافية. (وبعد) فمن أراد التوسع في معرفة أسرار هذه الحرب وخافياتها فليقرأ ما سنكتبه عن تاريخ الحرب في صحيفتنا الأسبوعية عالم الحرب التي ستصدر بعد بضعة أيام حافلة بأبدع ما يحفظ عن الحرب من الشذرات اللذيذة والطرف والمعلومات الغريبة والأسرار الدقيقة والمذكرات الخصوصية والروايات الخطيرة والصور المختلفة من وقائع وخرائط

مدائن واختراعات وصور أعاظم الرجال الذين يشتركون في هذه الحرب، وأما عن تاريخ الحرب فسنفرد له قسماً من الصحيفة كبيراً سيكون كتاباً جامعاً يتناول حركة المدنية الأوروبية في نصف القرن الأخير من أدب وفلسفة وتربية وسياسة وتسليح واختراع فنلفت إليه الأنظار. راجات الهنود يقاتل الآن سبعون ألفاً من زهرة جيوش الهند وأبسل شجعانهم جنباً لجنب مع الإنكليز وعلى رأسهم ستة من عظماء المهراجات يمشي في مقدمتهم السير برتاب سنج مهراجا جودبور، وقد كان تطوع هذا الشيخ خليقاً بالفخر والإعجاب فقد أبى إلا أن يمشي في رفقة الجيش ويركب الأوقاينوس ويمتشق السيف ويلبس لباس الجندي وإن كان شيخاً مسناً قد جاز السبعين أو كاد وقد اصطحب حفيده وهو فتى لم يفت بعد حدود السادسة عشر، والسر برتاب من أشهر حكام الهند وأوسعهم ذكراً وأعرضهم جاهاً كان صديقاً حميماً للملكة فيكتوريا كريما عليها يكاتبها الحين بعد الحين ويبدي لها سديد آرائه في مهام الإمبراطورية الهندية وشؤونها. وقد اكتتب مهراجا ولاية برودا بجنوده وكنوزه وأمواله، وهو من أقوى أمراء الهند وأوسعهم ثراء. حارب أجداده الإنكليز في الثورة الهندية وهو يفخر بأنه اليوم ينصرهم، يحكم ولاية أكبر من مقاطعة غال ويقدر دخله الخاص بما يربو على مليونين في العام. ومن مشهوري المهراجات مهراجا ميسور اكتتب للحرب بخمسة ملايين روبية أي بنحو من 000ر330 من الجنيهات لتنفق في سبيل البعثة الهندية. وتحتوي ولايته ستة ملايين من الهندوس ومنهم تخرج زهرة الجيش الهندي وصفوته. وقد اقترح مهراجا جواليور وكذلك أميرة بهوبال إنشاء مستشفي بحري لإسعاف الجرحى وتكفل بجزء كبير من نفقاته. ولم تكتف حميته بذلك، بل تكفل بالمقادير الكبيرة من المال لمساعدة الحكومة الإنكليزية وبتقديم الخيول للجيش. وقديماً أظهر هذا الأمير الدلائل الكثيرة على كرمه وولائه وسماحتهن فهو الذي دفع إلى الملك جورج في حفلة التتويج ثمانية آلاف من الجنيهات لتصرف في سبل الخير تخليداً لذكرى ذلك اليوم، وهو الذي رافق الجيش الإنكليزي إلى الصين منذ إحدى عشرة سنة وأنشأ يومذاك مستشفى بحرياً لتضميد الجرحى

وإبراء المرضى وهو من أشد حكام الهند نشاطاً وإطلاعاً وعلماً. وعلى ذكر أميرة بهوبال نقول إنها التي زارت إنجلترا منذ عامين أو أكثر وقابلت الملك جورج والملكة ماري زوجته، وهي تحكم ولاية تبلغ مساحتها سبعة آلاف ميل مربع يسكنها مليون من النفوس ويعدها الإنكليز من أكمل النساء خلقاً وأرجحهن لباً ولها مكانة سامية في قلوب رعيتها. ومن عظماء الأمراء كذلك مهراجا كشمير وقد رأس منذ أيام حفلاً حافلاً لا يقل عن عشرين ألفاً في مدينة سرنجار عاصمة ملكه فخطبهم خطبة بليغة مؤثرة انتهت باكتتابهم بآلاف من الجنيهات، وولاية كشمير من أكبر ولايات الهند وأحسنها حالاً وأكبرها صناعة وتجارة. ولا ننسى كذلك مهراجا باتيالا وهو من المتطوعين للحرب، ولولاية باتيالا أثر من الإخلاص للإنكليز لا تمحوه الأيام. ذلك أنه في سنة 1877 لما انقضت الهند كلها على الإنكليز وثارت عليهم جنود السلك لم يكن من أمير تلك الولاية إلا أن امتطى صهوة جواده فركب إلى معسكر الإنكليز ووضع في ذمتهم لأجندة وحدهم ورجاله بل نزل كذلك عن كنوزه وأمواله. وتختلف جيوش هؤلاء الراجات في البسالة والقوة والبأس. ولكن أكثرها يضم بين صفوفه أمهر الخيالة في العالم كله ويبلغ عدد هذه الإمارات سبعمائة إمارة تبتدئ في كثرة السكان بحيدر أباد إذ تحتوي ثلاثة عشر مليوناً من النفوس وتنتهي بإمارات صغيرة لا تزيد عن بضعة قرى حقيرة. وتتألف البعثة الهندية في هذه الحرب من جنود الجركا وهم قوم شجعان بواسل، لا يصلحون لشيء غير الجندية والقتال، وهم من الجبليين سكان سفح الهملايا - وقد وصفهم ولي عهد ألمانيا يوماً بأنهم أبسل الجنود التي في حوزة بريطانيا يشبهون اليابانيين في ملامحهم وقصر قاماتهم. مجاعة الباريسيين في الحرب السبعينية كان الباريسيون المترفون يأكلون الفيران والقطط والكلاب - أنهيالهم على أكل لحوم الحيوانات المفترسة مثل الذئاب والحمر والوحشية والفيلة - غلاء الأسعار - ربح الجزارين.

في حصار باريس الذي انتهت على أثره الحرب السبعينية اشتدت المجاعة بالباريسين المترفين وبلغت منهم شرة الجوع وقرم اللحم مبلغاً عظيماً حتى لم يبقوا ولم يذروا حيواناً مستأنساً ولا طيراً أليفاً إلا انهالوا على أكله بشره لا حد له - فأنشئت المذابح للكلاب والمجازر للقطط والفيران ومن لحوم الفيران كانوا يصنعون الفطائر، ولم يكن النوع السائد من هذه الجرذان إلا فيران المراحيض وكانت نهاية في السمن والضخامة وكانوا يقبلون عليها الإقبال كله ويقدرونها تقديراً كبيراً وإن كان بعض الباريسيين من المتغالين في الرقة والتأنق والظرف يتأففون من رائحتها الكريهة وكانوا يلتذون من لحم القطط المسلوق فلم تمض أيام حتى انتقلت كل قطة في باريز من الأسطحة إلى المقلاة. وكانت الأسعار فاحشة. كان يتراوح ثمن الفأر بين خمسة غروش مصرية وعشرة والقطة السمينة البدينة الصغيرة تشرى بستين غرشاً مصرياً والكلب المصغر السمين يتراوح بين خمسين غرشاً ومائة وخمسين غرشاً تبعاً لحجمه وجودة نوعه. وبلغت الحاجة إلى اللحم أشدها حتى أصبحوا يشترون إجراء الذئاب من حديقة الحيوانات التي في المدينة فكان يباع الرطل من لحمها بخمسين غرشاً ثم عمدوا بعد ذلك إلى أكل أكثر الحيوانات التي في الحديقة فكان أصحاب المطاعم يقدمون في قوائم أطعمتهم - في باب اللحوم - لحوم الإبل والياك وحمار الوحش والفيلة. وكان في الحديقة فيلان عظيمان اشتراهما رجل إنكليزي - وكان جزاراً مشهوراً - دفع فيهما ألفاً وثمانين جنيهاً وجعل يبيع الرطل من لحمهما من جنيه إلى جنيه ونصف وكان يبيع القطع من خرطوميهما وسوقهما بأفحش الأثمان. وعرض كذلك للبيع وعلان من الأوعال الهندية كانا في الحديقة فاشتراهما بأربعين جنيهاً وزوجان من غزلان أميركا الشمالية دفع فيهما مائة جنيه وغير ذلك من الحمر الوحشية والجواميس والدببة والذئاب فكان يدفع في شرائها المبالغ الباهظة ويربح في بيعها الأرباح الطائلة. ومن أكبر صفقاته حمل صغير يزن نحواً من خمسة وعشرين رطلاً غنمه جندي فرنسي من الألمان فاشتراه بعشرين جنيهاً ولم يلبث أن باعه بأضعاف ذلك. مذكرات سرية عن الإمبراطور غليوم

وصيفة من وصائف الشرف لبثت زهاء عشرة أعوام في بلاط برلين، تحدث العالم عما رأته من غرائب أخلاق غليوم وشواذ نوادره، وأسرار حياته، وبدائع جنونه وعجائب أموره - وهي حقائق ثابتة لا يشوبها شائبة من الكذب أو التلفيق أو الاختلاق، ولا يمازجها أثر من التخيل أو الزيادة أو التوسع أو الأطناب. والكاتبة الوصيفة من الكونتسات، أعني من السيدات النبيلات - تقول في مقدمها ليس لي مأرب شخصي من هذه المذكرات ولا أسباب عندي في وصف ما رأيت من العيشة البلاطية وشهدت، فإذا كانت قد احتوت جملة من الغرائب واشتملت طائفة من المضحكات، وهدمت كثيراً من الآراء الثابتة عند القراء، وكشفت عن أسرار عجيبة هي على النقيض مما أصبح تاريخاً مقرراً مشهوراً، إذن فليذكر القارئ أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال وإن التاريخ ليس إلا كذبة مزخرفة - ولست ذاكرة إلا الحوادث التي وقعت تحت عياني، أو التي استقيت من شهود ثقاة، وأما الحوادث التي وقعت قبل تتويج الإمبراطور فسأضطر إلى نقلها من أحاديث أهل البلاط ورواياتهم. مولد الإمبراطور - ضعفه الشديد عند ولادته - الإمبراطور أعرج أكتع أصم - وكيف يخفى عن الناس هذه العيوب ـ. هل هو طفل جميل؟. فتكوريا في الخامس عشر من شهر يونيه سنة 1888 عند الظهيرة، ولم تكد تمضي ساعة واحدة على وفاة الإمبراطور فردريك بدأ الملك الجديد يبحث في أوراق أبيه وأدراج مكتبته ولم يكن معه إلا رجل واحد هو فون نورمان، رئيس الحرس الإمبراطوري فلم يلبث أن أخرج من بين الأوراق الرسالة المتقدمة الذكر. فلما كانت جنازة الإمبراطور الراحل سألت نورمان وماذا قال جلالته عندما اكتشف رسالة فيكتوريا؟. أجاب. لم ينبس ببنت شفة. ولكنه أصفر قليلاً وقد أمسك بيده اليسرى مقبض سيفه وقد بدا عليه الاضطراب. وكانت رسالة الملكة فيكتوريا مؤرخة (28 يونيه سنة 1859) أي بعد أن خرج إلى نور

العالم أكبر أبناء الإمبراطور فردريك غليوم وزوجته بأربع وعشرين ساعة فقط. ولد غليوم كما يولد أولاد أهل البسطة في الثراء لا كأولاد الملوك والأمراء، وروعيت في وضعه وجوه التوفير وأساليب الاقتصاد، تلقته قابلة واحدة وطبيب واحد من أطباء القصر بإشراف الأخصائي المشهور في ذلك العهد، المرحوم الدكتور مارتن وكان واقفاً كعادته مقطباً عابساً لأنه يجب أن تعلم أن الطبيب في ألمانيا يرى نفسه أرفع من أن يتلقى الوليد ساعة الولادة. ولا يأتي أبداً إلا في الأحوال الشديدة الخطر. وكانت القابلة التي تولدت الأميرة فردريك غليوم هي مدام ستاهل وقد أصبحت اليوم عجوزاً ولكنها لا تزال تزور القصر إلى الآن ولذلك كنت أنتهز الفرص فأسألها عن أهم الحوادث في حياتها. قالت (ما كادت الإمبراطورة تضع وليدها حتى جعلت تئن أنيناً مخيفاً وجعل الطبيبان يتهامسان وهما يفحصان جسمها الملقى على السرير مبهوتين (إن الإمبراطورة ستموت، إنها ستضحي التضحية الكبرى من أجل ولدها) وكنت ولا شك مضطرة إلى ترك الطفل هنيهة لكي أعينهما في فحصها، فلما أفاقت الإمبراطورة بعد قليل عدت فجثوت إزاء مهد الوريث ولكن لشد ما كان رعبي، رأيته ولم يفه بصرخة واحدة، ولا حرك يداً ولا رجلاً فجعلت أقول في نفسي (يا الله! أمولود صامت؟) ثم أشرت إلى الطبيب فجاء إلى وجعلنا نفحص المولود الجديد ولا أعلم كم لبثنا وطفقنا نستعين بكل ما في كتب الطب والولادة من الوسائل لإعادة الطفل إلى الحياة. (ثم استرسلت القابلة تقول) فلما فرقنا من عمل قصارى جهدنا أخذت الصغير تحت ذراعي اليسرى وتناولت منشفة فبللتها. بالماء وطفقت أدلكه بها وأمرس بدنه في رفق وهدوء، غير حافلة بتألم الطبيبين من عملي هذا ولا آبهة لرعب من حولي، قلت في نفسي في سبيل الشيطان كل ما يطلبون من رسوم وتقاليد وآداب، هذه مسألة حياة أو موت وكذلك انطلقت في تدليكي آونة بيد ناعمة وأخرى بيد ضاغطة، حتى إذا كادت المدافع المعلنة مولد الطفل تفرغ من نصف المائة مدفع ومدفع - وإذا بصوت خافت ضعيف صدر من بين شفتى الطفل الصفراوين. (لقد عادت إليه الحياة! وكذلك أنقذته من الرمس المقدر له) فسألتها (ولكن ماذا تعلمين عن

يده وذراعه المشوهتين؟). فأجابت ستاهل (لم نهتد إلى ذلك إلا في اليوم الثالث أو الرابع من ولادته فقد قلت الآن إننا كنا بادئ بدء في شغل برد الحياة إلى الأمير عن كل شيء، ولذلك لم يفكر أحد منا في فحص أطرافه وأجزاء جسمه حتى أن الأمير في اليوم التالي لما قدم طفله إلى ذوي قرباه وأصحابه وأصدقائه وأهل الأسرة المجتمعين في القصر، لم يلحظ أحد منهم أن بالطفل سوءاً ولكنا تبينا في اليوم الثالث أن الطفل لا يستطيع تحريك ذراعه اليسرى فعرض على الجراحين فاهتدوا بعد فحصه إلى أن مفصل المرفق كان ناتئاً عن موضعه، وأنت تعلمين أن ليس ذلك بالأمر الخطير في الطفل القوي المنتعش ولكن حالة الأمير غليوم كانت غير ذلك فإن الجزء الناعم حول المرفق كان مجروحاً جرحاً بليغاً وكانت العضلات ناتئة بارزة حتى لم يجرأ أحد محاولة جبر هذا العضو الناتئ كما هو المعتاد في مثل هذه الأحوال). وكانت كثيراً ما تعيد على مدام ستاهل هذا القول وكانت تختم حديثها دائماً بهذه العبارات (ولقد كان رأيي أبداً أن ساعد الطفل لم يخرج صحيحاً من يد الطبيعة وكذلك كان جانبه الأيسر ضعيفاً، ولا يزال إلى اليوم على ضعفه. وفوق ذلك فكل من في القصر يعلم أنه وإن كان جلالته يمشي اليوم مشية النشاط والقوة، ويخطر خطرة ذي الشطاط والفتوة، فإنه يستعين على ذلك بيقظته واجتهاده وحيلته وانتباهه، ولو اتفق أن نسي جلالته التفكير في أمره إذن لرأيته يجر ساقه جراً، وكل آلامه وأوجاعه تجتمع في شقته اليسرى، ولو كان الأمير ولد قوياً تام الصحة منتعش البدن لقد كنا لا نلبث أن نهتدي إلى مرفقه وإذ ذاك لما كان يحول يومذاك حائل دون جبره. ولكن قضت الظروف أن يكون جوابهم على رسالة الملكة فيكتوريا بالإيجاب وقد سمعت الإمبراطور يوماً والإمبراطورة ينتقصان من قدر الدكتور هنزبتر وينقدانه النقد الشديد لقوله في كتابه إن الجيش البروسياني لم يقبل يوماً فتى ضعيف الجثمان لا يليق بأن يصير فارساً معلماً جريئاً مثل غليوم وكان ذلك عقب ظهور كتاب هنزبتر الإمبراطور غليوم الثاني صورة من حياته في عام 1888 فبعد أن حذر الإمبراطور زوجته من وقوع الكتاب في أيدي أولاده استرسل يقول إن فلاسفتنا الألمان لا يعرفون لهم حدوداً سواء عليهم أجاءوا بالحقائق أم بالأكاذيب لا تخلو كتبهم من التشهير بأصدقائهم وهم لا يشعرون.

ولكن يخفى الإمبراطور ذراعه الشوهاء تراه يدنيها من جسمه ويضع يده اليسرى فوق خصره أو على فخذه إن كان فوق جواده، وليست يسراه في القبح كذراعه، وإنما نهاية في اصغر أشبه بأيدي الأطفال ومن كان يتتبع الصحف الألمانية لا بد ذاكر أن الصحف الرسمية اعتادت أن تنشر بين حين وآخر مقالات عدة تريد بها أن تمتحن رأي الجمهور في إدخال الأنطقة على ملابس ضباط الجيش لأن الأنطقة ليست معروفة عند الألمان ولا تلائم الزي العام فكما أن الإمبراطورة أوجيني أعادت عهد العظامة لتخفي نحافتها وتستر نحولها فكذلك يريد غليوم أن يغير اللباس الحربي ليجد ليده وذراعه مكمناً سهلاً ومخبأً مريحاً لأن ذراعه اليسرى أقصر من اليمنى بنصف قدم ولكن وا أسفاه. إن سواد الضباط لا يرون في هذه الاقتراحات إلا نوعاً من المتاجرة لا يريد بها أصحابها إلا الريح العظيم ولذلك لا ينون يسخرون من هذه الاقتراحات ويتضاحكون، هذا وغليوم لا يستطيع أن يصرح بالسبب الحقيقي للاختراع، ويضطر إلى البقاء على مضه وألمه. والإمبراطور يستطيع أن يحرك أصابع يده الموجعة لأنه وإن كان طرف المرفق ناتئاً عن موضعه من المفصل الذي يربط الساعد بالكتف فليس العضو بجملته مفلوجاً باطل الحركة ولذلك لا مجال للريب في قول فون نورمان رئيس حرسه إن الإمبراطور قبض بيده اليسرى على سيفه فقد كثر ما رأيتها يفعل ذلك إذا وجد أو غضب، ولكنه إذا أمسك بها شيئاً فلا يستطيع يد الدهر أن يرفعها ولو قليلاً، تراه مثلاً يأخذ بها أعنة جواده ولكنه إذا أراد أن يثنيها أو يحتث مطيته لم يستطع ذلك إلا بيمناه وركبتيه. وترى وصفاء الإمبراطور وهم أربعة يقومون بإلباسه وتنضيته وتجميل بزته، يشكون مر الشكاة من عاهة سيدهم، وقد سمعت أحدهم وكان يفيض لفولت وصيف الإمبراطورة بمكنون ألمه، يقول ما كنا لنبرم بعملنا أو نسخط أبداً لو غير الإمبراطور ثوبه عشر مرات في اليوم بدلاً من ثلاث أو أربع، وإنما الخوف من إيلام ذراعه هو الذي يرهقنا ويجعلنا في ضيق من أمرنا، ونحن كذلك مضطرون إلى أن نكون على أتم الأهبة للاحتياط لتألم الأمير إذا ارتكز على ساقه اليسرى وهو متعجل في لبس سراويلات جديدة، فلو أنهم أدخلوا على لباس الراجلة والفرسان والمدفعية بل والبحرية بنطلوناً رسمياً واحداً لا يتغير، إذن لأراحونا من نصف همومنا ومتاعبنا، أما هذا التغير المستمر في أزياء الإمبراطور فقاتلنا

وزاهق أراواحنا وأني لأخاف أن يفضي يوماً إلى حادثة مؤلمة. وأما يمناه فكبيرة الحجم قبيحة المنظر بل لشد ما تروح قبيحة شوها، إذا شديد صديق أو حميم، وقبل أن أقدم إلى جلالته حذرني رئيس البلاط من قبضته القوية المؤلمة على أني وإن كنت اجتهدت أن أخفي ألمي وهو يشد بيده يدي فقد أوشكت ساعتها أن أصرخ. وترى الإمبراطور يحاول أيخفي عيب يمناه وقبحها ودمامتها بلبس عدة من الخواتيم والجعرانات ولكنها لا تزداد بالماسات والعقائق إلا قبحاً وخشونة وعيباً. وأول ما ذكرت إذن الإمبراطورة ومرضها، على ما أتذكر، كان أثر وفاة هنري الحادي عشر ابن عمة الإمبراطورة إذ كانت وفاته بالحمى الحصبا. وقد قالت الإمبراطورة يومذاك يجب أن لا يعلم الإمبراطور بسبب الوفاة، لأن ذكر الحصباء أبداً يزعجه قلت (كيف، أولم يصب جلالته من قبل بها؟) فأجابت صاحبة الجلالة بعد تردد قليل (نعم ولا ريب، وبأشد أنواعها خطراً، كيف تعيشين هنا هذه السنين ولا تعلمين بخبرها؟) ولما رأيت أن الإمبراطورة لا تريد أن تسترسل في الشرح أرجأت فضولي إلى فرصة أخرى حتى التقيت بالكونت سكندروف وكان حاجب الإمبراطورة والدة غليوم كريماً عليها مقرباً منها عليماً بأسرار البلاط. قال (لما أصيبت جلالته وهو فتى بالحصباء أصرت والدته الإمبراطورة على معالجته بطريقة شائعة في بعض أنحاء إنجلترا، فكانوا يعرضون المحموم للاستحمام بالماء المثلج عدة مرات في اليوم، وكانوا يغيرون ملابسه وفراشه كل يوم، فحدث من ذلك أن أصيب الأمير ببرج حاد شديد في أذنه اليسرى، ومنذ ذلك اليوم وهذه العلة تؤلمه وتهيج أعصابه شاباً وكهلاً ورجلاً). اقرأ في العدد الآتي (خوف الإمبراطور من العدوى - حكايات عن ذلك - وصف

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة كتاب المعاملات في الشريعة الإسلامية والقوانين المصرية للأستاذ الشيخ أحمد أبي الفتوح مدرس الشريعة الإسلامية بمدرسة الحقوق الخديوية بارك الله في الأستاذين الجليلين محمد زيد الأبياني بك أستاذ الشريعة الإسلامية في مدرسة الحقوق وأحمد أبي الفتوح أستاذ الشريعة الإسلامية كذلك في مدرسة الحقوق فقد سهلا الحزن وعبدا الطريق وقربا منال الحنيفية السمحاء بوضع الأول شرحيه الصغير والكبير للأحوال الشخصية وبأن وضع توأمه الأستاذ أحمد أبو الفتوح هذا الكتاب النافع الجليل الذي نحن بصدده اليوم، كتاب يقع في جلدين يحتوي الجلد الأول منهما على 224 صفحة ويحتوي الثاني 400 أما الكتاب فهو الغاية في بابه وموضوعه ظاهر من عنوانه يحتاج إليه الزارع والتاجر والعالم والمتعلم والمحامي والقاضي. وقد افتتحه بمقدمات نافعة آية في الإبداع في تاريخ الشرائع وكيف تستنبط الأحكام من مصادرها وتاريخ الأئمة الأربعة وأسباب اختلاف المجتهدين وما إلى ذلك وقد جعل ثمن الكتاب خمسين قرشاً فنرجو له الذيوع الذي يستحقه. أبطال العالم ظهر اليوم أول بطل من سلسلة أبطال العالم سفر يقع في 180 صفحة خصيص بتاريخ اللورد بيرون شاعر الإنكليز الأكبر في القرن التاسع عشر ومختارات قصائده ورواياته بقلم محمد السباعي، يبتدئ هذا السفر بمقدمة لصاحب هذه المجلة ثم بصورة اللورد بيرون فتاريخه، وليس هذا التاريخ سجلاً كسجلاتنا التاريخية، وإنما هو تحليل للشاعر ونقد شعره وأخلاقه في أسلوب شائق لذيذ للغاية، ويتخلل ذلك مختارات قصائده المشهورة مثل أسير شيلون وقصيدته المسماة الحلم ورثائه أمة اليونان القديمة وغادة أثينا وقصة الكافر وقصيدة القبصان وقصيدة تشايلد هارولد وأبياته في الحرية والرحيل وأبياته في البحر وواقعة واترلوا ومقتل المصارع ومسرح روما ووصف الحياة ورثاء ابنته والوداع والعودة والنعيم في الأمل والأحلام وشعره في الحب والحياة ورواية عروس عبدوس. . . الخ. وفي تضاعيف ذلك يرى القارئ الفصول الشائقة عن الشاعر وأطواره وغرائب أخلاقه

وسيرته مع زوجته وحبائبه، ذلك كله إلى بلاغة الأسلوب وجزالة العبارة حتى أن قارئ هذا الكتاب يفيد منه لغة وأدباً وتاريخاً ومعاني شتى في فلسفة الحياة ومشاعر النفس الإنسانية، وقد جعلنا ثمن الكتاب على هذا كله أربعة قروش يدخلها أجرة البريد ومن أحب أن يشترك في سلسلة أبطال العالم فقيمة الاشتراط في كل خمسة أبطال عشرون قرشاً ترسل حوالة إلينا. نقابات التعاون الزراعية نظامها وتاريخها وثمراتها في مصر وأوروبا تأليف الأستاذ المحامي عبد الرحمن الرافعي قل من يجهل الأستاذ عبد الرحمن الرافعي وكفاءته واقتداره وجده وتوفره على العمل، عمل كل ما يفيد أبناء العربية. وقد وضع أخيراً كتاباً جامعاً حافلاً أسماه هذا الاسم وهو يقع في 346 صفحة من طراز البيان مطبوع طبعاً نظيفاً على ورق جيد وثمنه عشرة قروش صاغ وليس بنا أن نشرح وجه الحاجة إلى اقتناء هذا الكتاب ولاسيما حاجة الزارعين وأرباب النقابات الزراعية. عالم الحرب تاريخ الحرب الكبرى ستظهر إدارة مجلة البيان في أول الشهر القادم عملاً عظيماً جداً لم يسبق إليه. ذلك هو أسفار خصيصة بهذه الحرب الكبرى في طراز بين المجلات والصحف يحتوي كل عدد منها على 20 صفحة اثنتا عشرة منها ينشر فيها أطيب ما يكتبه كتاب الغرب في تواليفهم ورواياتهم ومجلاتهم الشهيرة عن هذه الحرب من أخبار تاريخية وطرف ونوادر وروايات وغرائب مدهشة لذيذة جداً - وتصور كل ما له صلة بهذه الحرب من ملوك وأمراء وقواد وجنود ومناظر مدائن ووقائع وما إلى ذلك - وثمانية منها خصيصة بتاريخ هذه الحرب وأسبابها ونتائجها ومعداتها والأمم الملتحمة فيها في أسلوب جميل ممتع معن عن كل ما كتب ويكتب في تاريخ هذه الحرب فضلاً عن التصوير الجميل الذي سيسر الناظرين - وستكون الصحائف المفردة للتاريخ منفصلة عن القسم الأول (عالم الحرب) وإن كانا في

غلاف واحد بحيث يتسنى ضمها إلى أخواتها فيكون منها بعد ذلك لدى القارئين كتاب حافل جامع في تاريخ هذه الحرب - وورق هذه الأسفار جيد جداً وطبعها نظيف للغاية. ويظهر منها في الشهر ثلاثة أعداد إلى ستة حسب الرواج وثمن العدد الواحد قرش صاغ واحد وقيمة الاشتراك عن كل شهرين ثمانية قروش ترسل حوالة على البريد باسم عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة البيان وأبطال العالم بمصر - الإدارة بشارع عيط العدد نمرة / 18 /. تاريخ حرب السبعين أعاد جناب يوسف توما البستاني طبع حرب فرنسا وألمانيا، تلك الحرب المعروفة بحرب السبعين بعد أن طبعه منذ سنتين ونفدت طبعته وقد جعل ثمنه خمسة قروش.

خطتنا الجديدة

خطتنا الجديدة أرسلنا منذ أيام إلى جميع قرائنا صحيفة شرحنا فيها خطة البيان الجديدة. وإن ما كتبناه هناك يتلخص في هذه الكلمات سيظهر البيان من الآن مرتين في كل شهر وسنفرد عدد صفحات من كل عدد لتاريخ الحرب تكون بأرقام منفصلة عن أرقام صفحات البيان الأخرى انظر تاريخ الحرب الكبرى وسنعنى علاوة على ذلك بنشر أطيب ما كتبه ويكتبه فطاحل كتاب الغرب حول هذه الحرب من مذكرات سرية غريبة وروايات خطيرة وشذرات شائقة لذيذة وليس من عزمنا أن نغفل الموضوعات الأدبية والعلمية الأخرى التي لا صلة لها بالحرب بيد أننا سنضر صفحاً عن الموضوعات الطويلة التي كانت تنشر في البيان تباعاً مثل أميل وحضارة العرب في الأندلس ودون جوان وتقوم من حين إلى حين بطبعها على حدة في أجزاء مستقلة ونرسلها إلى قرائنا الحقيقيين الذين بادروا ويبادرون بدفع المطلوب منهم للبيان. ومن هنا انتفى الجور وصرنا غير مقصرين مع قراء البيان الأصليين بل على العكس صاروا هم الفائزين وبذلك سيكون البيان من الآن كأنه عمل مستأنف جديد لا ترتبط موضوعاته بالموضوعات التي نشرت في الأعداد والسنين الماضية ومن ثم يسوغ لكل قارئ أن يشترك في البيان من ابتداء هذه الأعداد وقد جعلنا قيمة الاشتراك عن كل ثلاثة أشهر عشرة قروش صحيحة. وللأساتذة وطلبة العلم وتلاميذ المدارس ومتوسطي الحال من الموظفين خمسة قروش عن كل شهرين ومتى رأينا رواجاً لهذا العمل وإقبالاً من قراء العربية محموداً أظهرنا البيان في هذا الطراز نفسه كل أسبوع لا كل أسبوعين وإذ من المعلوم الذي لا خفاء به أن مباحث البيان وغير البيان إما أن تكون علمية وإما أن تكون أدبية، لذلك ولأن مباحث الحرب أصبحت في نظر البيان ذات بال حتى كأنها فن آخر رأينا أن نجعل موضوعات كل عدد منطوية في هذه الأبواب الثلاث - عالم الأدب - عالم العلم - عالم الحرب - والله الموفق والمعين.

عالم الأدب

عالم الأدب ننشر في هذا الباب أطيب الرسائل والمقالات المنوعة في الأدب والأخلاق والاجتماع والتربية والفلسفة وحياة العظماء والقطع المختارة من الروايات النافعة المفيدة والشذرات الجميلة من شتى المنظوم والمنثور والنوادر المختلفة والفكاهات والملح. ونذيل ذلك كله بنقد الكتب العربية التي تظهر في الأسبوعين. شذرات من فلسفة الشاعر موسية الملاحدة رأى هؤلاء الملاحدة الفقير ينزل على جور الغني، والضعيف يرضى بظلم القوي رأوه يقول لنفسه في نجواه ليعسفني الأغنياء في هذه الأرض، وليرهقني الأقوياء فإني لواقف يوم القيامة على باب الجنة، أحول بينهم وبين عرائشها ومقاصيرها شاكياً إلى الله سوء ما لقيت، رافعاً إليه الظلامات التي عانيت ثم رأوا المسكين وا أسفاه يعتصم من هذه المسلاة بالصبر، ويعدل من هذه المناجاة إلى الراحة والسكون، عند ذلك يهيبون به وما بالك تخلد إلى الصبر حتى يوم العدل، وليس هناك من عدل، وترتقب الأبدية لتأخذ بثارك وتظفر بترتك، وليس من أبدية، إنك لتجمع قطرات الدمع التي فاضت بها عينك، وتدخر لآلئ العبرات التي ذرفها أطفالك وسكبتها زوجتك، وتختزن صيحات أفراخك، وعولات صبيانك، وأنات امرأتك، لتحملها يوم الحساب إلى ربك، وليس ثمة من رب. فلو سمع الفقير ذلك زجر دمعه، وكفكف غرب عبرته، وحظر على امرأته الشكاة ومنعها الأنين، وعمد إلى بنيه فصحبهم إلى العقل خفيف الروح مرير القوى، شديد المراس. إنه ليصرخ إذ ذاك في وجه الغنى أنت يا من كنت تظلمني وتعسف، لست إلا رجلاً مثلي، وإنه ليصيح بالقسيس أنت يا من كنت توجرني السلوى، وتجرعني العزاء، لقد كنت تكذبني. هذا ما يريد الملاحدة، هذا ما يطلب أعداء المؤمنين، ولعلهم يعتقدون أنهم بهذا يريدون السعادة للناس، بتحريضهم الفقراء على الحرب للحرية. ولكن أربعوا على أنفسكم أيها الملاحدة، إنه لو تعلم الفقير يوماً أن القساوسة تخدعه، وإن الأغنياء تنهبه وتجيعه، وإن الناس جميعاً في الحقوق سواء. وإن الخير كله في هذا العالم،

ولو ركن إلى نفسه وحدها وإلى قوة ذراعيه، فلعله قائل يوماً الحرب الحرب على الأغنياء! لي مثلهم نعمى هذه الأرض وبهجتها، إذ ليس هناك غيرها. لي الأرض! إذ كانت السماء خلوا فضاء، لي بل وللجميع، إذ كان الجميع في الحق سواء، فليت شعري أيها العقلاء المنطقيون الأعلام، ماذا تراكم قائلين له إذا عاد من هذه الحرب بالهزيمة، ورجع من الملحمة بخيبة المسعي؟. أنتم ولاشك قوم أخيار محسنون وأنتم على حق في تدبير مستقبلكم، وسيأتي اليوم الذي فيه تسعدون، أما اليوم فنحن لا نستطيع أن نسعدكم ولا نستطيع أن نرضيكم الآن يقول الظالم لي الأرض!. . فيرد عليه المظلوم ولي السماء! ولكن بماذا هو مجيب إذا انكفأ من الحرب على الظالم مذموماً مدحوراً؟. عبادة الملحدين نعم - ولسوء الحظ - إن في الاجتراء على الله والتسخط عليه ترويحاً عظيماً للقلب المفعم المترع إن الملحد الذي يخرج ساعته من جيبه فيفرد بضع دقائق الله يتمرد فيها عليه ويثور ويلعن ويشتم، برى في هذه الدقائق القليلة كأنه استرجع لذة شقية شريرة، بل إنها لنوبة عصبية من نوبات اليأس، إنها لاستصراخة في الحقيقة بكل قوى السماء، إنها مخلوق شقي ضعيف يئن تحت القدم التي تسحقه، هي صيحة يأس عظيمة - ولكن من يعلم؟ لعلها في عين الذي يرى كل شيء نوع من أنواع الصلاة، وضرب من ضروب التسبيح. عباس حلفظ فردريك نيتشه الفيلسوف الألماني ليست الفلاسفة جميعاً باجاً واحداً، بل هم ضربان مختلفان، وفريقان متباينان، فمنهم من نسميهم بالفلاسفة الأكاديميين أو النظريين، وهم أصحاب النظريات والطوبويات والمذاهب المتباينة المتعددة، وأولئك أمثال لوك وهوبز وهملتون وكونت وكانت وستوارت مل وسبنسر وغيرهم، ومنهم من ندعوهم بالإصلاحيين العمليين، مثل لوثر وروسو وفولتير وشوبنهور، أما الأولون فيفيدون الفكر الإنساني أكثر مما يخدمون الإنسانية نفسها، هم يعملون على توسيع نطاق العقل وتجديد ضروب المنطق والتخريج والتدليل، على نحو ما ترى من أصحاب الفرق والنحل في الإسلام، وأما الآخرون فهم الذين في حرب شديدة مع

أبناء أجيالهم، هم الهادموا القديم البانوا الجديد، هم خدام الإنسانية العمليون، ومصلحوها الحقيقيون، وفي رأس هؤلاء يقف فردريك نيتشه الفيلسوف المتوقد المستعر العظيم. ونحن مقدمون إلى القراء شذرات غريبة من حياة هذا الرجل الغريب المجنون في نظر أعدائه وكارهيه. وأعقل العقلاء في أعين شيعته ومريديه ومنصفيه، ومنه يتبين القراء كيف تعيش العظمة، وكيف يكون العبقري خارجاً على طبائع الناس شاذاً متمرداً على أخلاق الطبيعة، متوثباً متهجماً على شرائع العالم، وإننا مازلنا نري صاحب العبقرية عرضة لأن يموت في مستشفى أو سجن أو مثقلاً بالدين أو موصوفاً بلوثة أو سبة. من أبدع ما وقع من الاتفاق إن هذا الرجل الذي كان أعدى أعداء الديمقراطية وأشد الأرستقراطيين كبراً وشمماً وزهواً وأرستقراطية، وأشدهم بغضاً لكل ما هو حقير - يحمل اسم نيتشة ومعناها في اللغة البولندية الرجل الحقير!. بل أغرب من ذلك وأعجب أن نيتشة الخارج على المسيحية الواقع في تعاليمها الشائم لمبادئها، كان وهو غلام يتمنى على الله أن يصبح قسيساً كوالده، وكان يلقب في المدرسة القس نيتشه! ثم لم يكد يجوز الربيع العشرين وهو في الجامعة، حتى بدأ هذا القس الغلام يخلع عنه الرداء المسيحي الذي خلعه عليه آباؤه وأجداده، بل تصور لنفسك مقدار دهشة أمه ابنة القسيس واستنكارها لولدها إذ رفض الفتى نيتشة يوم شم النسيم سنة 1865 أن يأتي كما هي العادة إلى العشاء الرباني وقد كتب يوماً وهو في المدرسة إلى أته وكانت تغار عليه من الريح إذا كنت تطلبين اطمئنان الروح وسعادة القلب فاعتقدي، وأما إذا كنت تريدين أن تكوني من خدام الحق ففكري ونقبي!. وقد تعرف وهو شاب بواجنر أكبر الموسيقيين في العالم كله وكانت دار الموسيقى غير بعيدة عن داره، فلم يلبث أن أصبح الشاب نيتشه من المتحمسين لمذهب واجنر في الموسيقى الغاضبين له الناضجين عنه، وكان لواجنر في ذلك العهد أعداء كثر، فكم يوم مشرق جميل بهيج قضاه نيتشه في دار واجنر، وكم من لقاء حلو دار وحديث لذا طورح، ومضت أيام فأصبح نيتشه أعز عزيز في البيت وأحب زائر وأخلب جليس وكانت كوزما زوجة واجنر تميل إليه وتحب قربه، وتصبو إلى سمره، حتى لقد كانت توصيه بشراء

اللعبات لأطفالها. ولما ظهر كتابه (منشأ التراجيديا) وهو باكورة كتبه لم يصادف من الجمهور إلا الاشمئزاز والتأفف والإعراض، بل أنه لم يجد في أول الأمر من أصحاب المطابع من يرضى بطبعه، وكان هذا الكتاب تحية من نيتشه لواجنر، ودفاعاً عنه وإعلاء لذكره وتشييداً بمكانه، وليس من ريب في أن الموسيقي وزوجته قابلاً الكتاب بالهتاف والتصفيق والترحاب على الرغم من اشمئزاز الجمهور وتأففه، وأما الأساتذة رصفاء نيتشه فهزوا له أكتافهم، بل قال أستاذ منهم لتلاميذه (إن الكتاب سخافة بحتة لا معنى لها) وحتى أصبح الناس ينصحون للشبان بأن لا يذهبوا لتلقي علم اللغة في جامعة بال. ولا تسل عن حزن نيتشه وابتئاسه، أضف إلى ذلك أن وجنر ترك منزله في لوزون، فحرم نيتشه كذلك لقاء كوزما وسمرها وحديثها الرطب الجميل وكان هذا الرحيل ممهداً للجفاء بين الفيلسوف والموسيقار ومدعاة للقطيعة والعداء، نعم إن نيتشه عمل كل ما في سعته بقلمه وحبيبه لإنجاح واجنر والصعود به ذروة الشهرة الخالدة ولكن كان نيتشه في الوقت نفسه يخشى أن يعد واجنر يا ليس إلا وأن لا يحترم لقيمته الشخصية، وكان الجفاء ينمو بينهما ويكبر ويزداد وإن لم يصارح أحدهما به الآخر نعم إن واجنر ولا ريب كان ينظر بعض الأحيان إلى نيتشه كآلة من آلات شهرته ولكن أي رجل يلقى في طريقه عبقرية كهذه ولا يستخدمها لصالحه؟ على أن واجنر كان رفيقاً بصاحبه حدباً عليه مكرماً له، وكان يهتم بشأنه ويعني بحاله. ولو كان نيتشه اتبع نصيحة واجنر له وهي (تزوج يا صاح ثم سح) فمن يدري لعلنا كنا مبصرين من نيتشه أعظم من هذا وأسمى؟. ومرض نيتشه مرضاً شديداً فانتقل إلى إيطاليا طلباً للصحة واسترجاعاً للعافية وكان وهو في مدينة جنوه يعيش أخشن العيش، ويحيا حياة البؤساء، بل كان يجهز طعامه التافه بيده على السبرتو وكان إذا انتابه الصداع - وكثيراً كان ينتابه - يلقي بنفسه بعد العشاء متبطي على المتكأ غير مستصبح بمصباح، وكان يتشاور الجيران في أمره قائلين بعضهم لبعض إنه لفقير، لا يستطيع أن يوقد ولو شمعة واحدة ولذلك جاؤوه يوماً بمصباح، فكان يشكرهم نيتشه ويشرح لهم أوجاعه وعذابه ولكنهم كانوا لا يقولون عنه إلا (جارنا القديس). ولما كان في نابولي مع صديق له تعرف بآنسة تدعى (مايسنباج) سيدة حلوة المحضر

جذابة الحديث، لها في الأدب قسط، ومن القلم نصيب، ولقد فرح بها نيتشه فرحاً عظيماً، فكتبت له يوماً وهو في وحدته في جنوه تدعوه لزيارة روما فأذعن، وكانت ترأمه كما ترأم الأم وليدها، وكانت تعطف عليه وتهتم له، وكانت تريد أن تجد له زوجة تكون برداً على روحه الحزينة الوحيدة وسلاماً، بل أن نيتشه نفسه كتب إليها يوماً لا أكذبك حاجتي، أنا لا أريد إلا امرأة فوجدت من توسمت فيها الخير لهذا الفيلسوف الجوالة الهائم الحزين، وهي الآنسة سالومية، فتاة حسناء. فاتنة لم تكن جازت العشرين، فما وقع بصر نيتشه عليها حتى نزلت في حبة فؤاده، وما لبث أن راح في جمالها صبا مدلها، ومضي دهر فسألها الزواج ولكنها قابلت ذلك بالرفض فظل مع ذلك في قربها شهرين آخرين. ولكن لم يلبث أن تقاطعا وتهاجرا بغتة واحدة، ولا يعرف أحد من الناس ماذا كان يجري وراء الستار، لأن سالومية نفسها وأخت نيتشه قد سكتا عن ذلك حتى اليوم ولا يريدان أن يشرحا لنا أسرار هذه المأساة الكوميدية، ولم يخسر نيتشه فقط هذه الرفيقة الجميلة الحسناء - هذه المرأة الفاتنة التي أراد أن يظفر منها بالزوجة المخلصة الحنون العطوف، بل خسر من أجلها صداقة عزيز لديه وصاحب من أكرم صحبه عليه وهو صديقه (ري) لأنه اتهمه بالخيانة، وارتاب في سلوكه مع سالومية. وكان نيتشه يميل إلى النكتة القارصة، قالت له يوماً سيدة إنكليزية مهزولة البدن غير موفورة الصحة نحيلة اللحم (أنا عالمة يا مستر نيتشه بأنك تاتب، فلهذا أريد أن أقرأ كتبك) فما كان منه إلا أن أجاب (كلا، إني لا أريدك أن تقرأي كتبي، فإنه إذا كان ما كتبته حقاً فإن امرأة ضعيفة مثلك لا يجب أن تعيش!). وبدأ يعاني بعد ذلك آلام الأرق فكان يتحصن منه بالعقاقير، وأخذ مخه يضطرب رويداً في بطء، فقد كتب في سنة 1888 إلى الآنسة ما ينسباج (لقد أخرجت للعالم أعمق كتاب، أنا أكبر رجل في أوروبا، أنا الكاتب الوحيد في ألمانيا). ووضع في تلك السنة وهو على هذه الحال من اضطراب الذهن كتاباً ساماً مراً مقذعاً في صديقه ومعبوده القديم واجنر يقول فيه، إن واجنر إن هو إلا ممثل وليس من الموسيقار في شيء، هو عارض من عوارض الحياة المنحطة الضئيلة المسكينة الفقيرة، هو أفعى سامة ذات ضوضاء وصليل، هو مثال الانحطاط التام الكامل، إن موسيقاه ليست إلا موسيقى

مسيحية. وكان آخر كتاب كتبه هو () أي (أناهو) فكان ختاماً حلواً لموته الذهني، كتبه في أسابيع قليلة، هو رسالة لذيذة ولكنها محزنة، بقلة ناضرة، ولكن سامة، تطرف فيها وأبعد وبلغ بها أقصى حدود الرضى عن نفسه وأبعد تخوم الهو بها، وترى أسلوبه في هذه الاعترافات وثاباً طافراً قافزاً، وإليك عناوين الفصول الشائقة في الكتاب - لماذا أنا عاقل إلى هذا الحد - لماذا أنا نشيط إلى هذه الدرجة - لماذا أكتب هذه الكتب الحلوة الجميلة - أنا وهايني أعظم كتاب الألمانية في الأرض - لقد قمت بأعمال هائلة، أعمال لا يقدر عليها أي رجل في هذه الأيام، إن قراءة كتاب من كتبي لأعظم شرف يمكن للإنسان أن يظفر به، لم يكن هناك بسيكولوجيا قبلي. ووقع المصاب الأكبر في أوائل يناير سنة 1889. جن نيتشه جنوناً متوحشاً مفترساً كطبقاً - كان كلامه صريخاً وحديثه شجاراً عنيفاً، كان يشتري أتفه السلع ويدفع في مقابلها الجنيه والجنيهين، كان يصور له الجنون أنه قاتل مشهور وأنه ملك إيطاليا وأنه. . . . الله. وكان يصيح في شوارع المدينة ويصرخ في السابلة تعالوا إلى السعادة!. . إني مجنوناً عشر سنوات طوال، وقضى نحبه في الخامس والعشرين من أغسطس عام 1900 ملتهب الرئتين. هذا هو الرجل الذي قتلته الوحدة. وخنقه إهمال العصر، وذهب بلبه جهل الجيل. تناسخ الأرواح بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كان لي صديق عريض الدعوى يزعم أنه عميد أهل العلم، وأمام أولى العرفان، وقبلة المحققين والمجتهدين، صاحبته دهراً فما عرضت لنا مسألة إلا ادعى أنه توفر حظه منها وأحاط بأصولها وفروعها، ووقف على جلائلها ودقائقها، ومن أقواله المأثورة التي يرويها عنه كل من أمتع به إن كل شيء أفعله له لو علمتم سبب يدفعني إليه فمن ذلك أن عنده قرداً صغيراً قد كلف به الكلف الشديد فسألته في ذلك مرة فقال: إنكم معشر الماديين لا تعرفون من الحقائق إلا ما يلمس باليد ولا تؤمنون إلا بما يناله الحس وتتطلع عليه المدارك

على نقصها وعجزها أما ما وراء ذلك فلا قبل لكن به وكيف وأنتم لا تنظرون إلى أبعد من أنوفكم ولا تنضون رواحل أذهانكم إلا إلى ما ليس وراءه طائل من الأمور المادية فإذا سمعتم شيئاً عن الروح قلتم سخف وهراء. فإذا جادلنا كم قلتم هاتوا دليلا علمياً، أفحسبتم أن الروح مما يوضع في موازينكم الحساسة ويطحن في هاوونكم العلمي ويغلى ويحلل على نار (بنسن)؟ كلا! يا سيدي آمنوا بالروح فإنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، قلت ومن أنبأك إني لا أؤمن بها. قال ما كنت أحسبك إلا كغيرك ممن سدت المعامل في وجوههم منافذ النظر والتفكير. ثم اندفع يحدثني عن الروح وأنا أنظر إليه كمن غبى عنه معني ما يسمع ويقول إن الأرواح بعد الموت لا تفني ولا يتقاضاها ما يتقاضى الجسم من البلى بل تلبس أجساماً أخرى وكلما بلى بدن خلعته وإكتست غيره وكثيراً ما حدث أني أبصرت عصفوراً يعذبه أصحابه فابتعته منهم وأطلقته إذ ما يدريني لعل في جسم هذا العصفور وروح قريب لي أو عزيز علي ومن أجل هذا تراني أكرم هذا القرد وأبالغ في توفير أسباب الراحة له ثم أطرق وجعل ينكت الأرض بعصاه وقال بصوت خافت كأنما يحدث نفسه إلا من لي أن يرحم الناس هذا الروح التي بين جنبي إذا انتقلت إلى جثمان غير جثماني! ثم ودعته وانصرفت وأنفق لي بعد ذلك أن زرته فأبطأ على وكان في المكان قلم ودواة وورق فتناولتها وكتبت له هذه الرسالة على لسان القرد وتركتها تحت عينه: سيدي ومالك رقي لقد حرمتني المقادير نعمة النطق بما سلبتني من الإنسانية ووهبتني من الحيوية فلم يكن في مقدوري وهذه حالي من العجمة إن أفصح لسيدي عن شكري لصنائعه وأياديه وأكشف له عن حقيقة أمري حتى قيض الله لي هذه الأدوات فأحببت أن أقفه على ما يجهل من أمري جزاء ما قلدني من النعم وطوقني من المنن فليعلم سيدي إني كنت في أول حياتي وبدء نشأتي كبير البراهمة وعميدهم في الهند يرجعون إلى في الشدائد ويستصبحون برأيي في كل معضل من الأمور وعويصة من المسائل ولم أزل بينهم مسموع الكلمة محترم الرأي ملحوظ المنزلة حتى وافاني القدر المحتوم فنفضت عني رمتي وانتقلت إلى جسم آخر فلم أزل صاعداً في مدارج الشرف ومراتب الجاه حتى صرت وزيراً لبعض الملوك ولكن طبيعة الإمارة والحكم أفسدت من خلقي ولوثت طهارة البرهمي لما تدعو إليه من الظلم

وتحمل عليه من الجو والتعسف وأخذ الناس بالقسوة والعنف في بعض المواطن وحمل الرعية على الطاعة والاحتفاظ بما في اليد من قوة ونفوذ والحرص على السيادة لاسيما في تلك الأعصر الأولى فزينت لي نفسي أن أستأثر بالأمر دون الملك وسولت لي أن أنزله عن سريره فدبرت لذلك مكيدة وتآمرت مع الساقي على أن يدس السم في كأس الملك ولكنه لسوء حظي أخطأ فناولني الكأس المسمومة فمت لساعتي بين يدي الملك ونجا الساقي اللعين بحياته غذ زعم عند الملك أنه تواطأ معي ليوقعني في شر أعمالي. وكأن الأقدار أرادت أن تسلط على بأس انتقامها وتجزيني بإساءتي الماضية فألبستني جلدة مصري فتزوجت امرأة جعلتني عبرة في الغابرين ومثلاً وأحدوثة في المتأخرين ولقيت من ذل العيش وثقل الدين وسوء العشرة ما جعلني أمضى سابقاً أجلي. وكانت هجرتي الثانية إلى قاض شرعي فذكرت ما كنت فيه من الدين والحاجة والفقر فقبضت يدي كل القبض وعشت عيالاً على الناس وحميلة على أهل البر حتى صرت بغيضاً إلى الناس مشنوءاً من صغارهم وكبارهم على السواء فعزلت لسوء سيرتي وشناعتها وقضيت بقية أيامي في بؤس وخصاصة. ثم صرت بعد 1لك نملة فسمكة ولو شئت أن أقص عليك كل أدوار حياتي وكيف تقلبت بي الأحوال. وتنقلت بي الظروف من مدرس إلى جرذ إلى عصفور لأحتجت إلى السنين الطوال لشرحها وتبيانها ولكن أذكرك يا سيدي بتلك الفتاة التي ملك عناتها حبك وخلب لبها فضلك وحسنك والتي كانت تطالعك مع الشمس من نافذتها كل صباح وتسهر لك الليل كل مساء حتى أصابها البرد وماتت، لترى يا سيدي أنا صديقان من قديم وإن ليست هذه أول مرة طوقتني فيها سلاسلك. فعسى أن تدوم لي نفحات برك لتقرن بين قديم النعم وحديثها وتجمع بين تالدها وطريفها. عبدك العاني - القرد فلما نزل صاحبنا ورأى القرد ينظر إلى الورقة ثم إليه تناولها وقرأها وما زال إلى اليوم في ليل من الشك مظلم لا يعلم أكتبتها له أم كتبها القرد.

الكتب

الكتب الكتب كالناس، منهم السيد الوقور، ومنهم الكيس الظريف، ومنهم الجميل الرائع، ومنهم الساذج الصادق، والأريب المخطئ، ومنهم الخائن والجاهل، والوضيع والخليع، والدنيا تتسع لكل هؤلاء، ولن تكون المكتبة كاملة إلا إذا كانت مثلاً كاملاً للدنيا. يقول المرشدون اقرأ ما ينفعك، ولكني أقول بل انتفع مما تقرأ - إذ كيف تعرف ما ينفعك من الكتب قبل قراءته؟؟. إن القارئ الذي لا يقرأ إلا الكتب المنتقاة كالمريض الذي لا يأكل إلا الأطعمة المنتقاة يدل ذلك على ضعف المعدة أكثر مما يدل على جودة الشهية. واعلم أن من الكتب الغث والسمين، وإن من الكتب الغث والسمين، وأن السمين يفد المعدة الضعيفة، وما من طعام غث إلا والمعدة القوية مستخرجة منه مادة غذاء ودم حياة وفتاء، فإن كنت ضعيف المعدة فتحام السمين كما تتحامى الغث، وإن كنت من ذوي المعدات القوية فاعلم أن لك من كل طعام غذاء صالحاً. وإن من نظر أنت تراه فلا تود أن تراه بعدها، أو صوت تسمعه ثم لا تحب أن تسمعه آخر العمر، فلا أدري من أين داخل عامة القراء إن الكتاب إنما يقرأ قراءة واحدة، مع أن الكتاب أخفى رموزاً وأكثر مناحي نظر من المنظر والصوت، وأنت تنمو بعقلك أكثر من نموك بحواسك، فأنت أحرى أن تعاود النظر فيما يمتحن به نمو الفكر، وعندي أن من كان يفهم أن قراءة الكتاب شيء غير الإتيان على كلماته، وأن درسه غير استظهار صفحاته، عليه أن يكرر قراءته كلما استطاع، وأن كتاباً تعيد قراءاته مرتين لأغني وأكثر من كتابين تقرأ كلاً منهما مرة واحدة. ثم اعلم أنه ليس بأنفس الكتب ولا بأجلها الكتاب الذي تتوق إلى إعادته بعد قراءته. وليس بأفرغ الكتب ولا بأقلها الكتاب الذي تقنع بتركه بعد الفراغ منه. فإنك ربما صادفك الكتاب الأجوف المغلق فأعجبتك رنته فجعلت تقلبه على كل جنب لعلك أن تخلص إلى لبابه ولا لباب له. وربما صادفك الكتاب القيم الشافي فانتهيت إلى آخره مرتاحاً مصدقاً فقنعت بذلك منه. وقد عهدنا الناس يمنعهم البخيل فيراجعونه ويلحون عليه، ويعطيهم المنعم الكريم فيهجرونه ويعرضون عنه، وتلك ضرائبهم في مصاحبة الكتب، فلا تكن في المطالعة من هؤلاء.

وطريقتي في القراءة أن لا أذهب مع الطرف في الصحيفة إلا ريثما أذهب مع الفكر في نفسي، فقد أتناول الكتاب أبدأ فيه حيث أبدأ إذا كان من غير الكتب التي يلتزم فيها الترتيب والتعقيب، فيستوقفني رأي أو عبارة تفتح لي باباً من البحث والروية فأمضى معها وأطوي الكتاب فلا أنظر فيه بقية ذلك اليوم أو انتقل منه إلى كتاب آخر، وأجد هذا التوجيه في أنفس الكتب كما أجده في أردئها فلا أميز بينها في الابتداء، ولا يكاد يستدرجني إلى المضاء في المطالعة إلا موضوع يستوعب ذهني ويأخذ على المؤلف باب الانفراد بالفكر دونه. عباس محمود العقاد

عالم العلم

عالم العلم الكلب الكاتب المفكر - السمك المتوحش - إنقاذ اللقطاء في فرنسا - الأكاذيب المقررة في التاريخ - فندق الباستيل - كلاب البحر الفيلية - عقيدة العلامة هيكل. الكلب الكاتب المفكر في مدينة مانهايم من أعمال ألمانيا كلب حير الألباب وأذهل الناس واسترعى دهشتهم، وكتبت عنه عدة من المجلات الغربية، وهو لسيدة تدعى مدام ميكل. وقد جاء الدكتور ماكنزي إلى مانهايم خصيصاً لامتحان هذا الكلب. بدأ الدكتور يسأله عدة أسئلة في الحساب من جمع وطرح وضرب وقسمة فكان يجيب عليها ويؤدي مقدار العدد المطلوب بتحريكات من ظلفه الأيسر، ثم بعد ذلك كتب بعض حروف الهجاء وكان يرمز لكل منها عدداً مخصوصاً، وكان يتهجى الكلمات تهجية صوتية ويستعمل في ردوده عامية لغة المدينة، وكانت تتجلى في أجوبته قوة مفكرة مدهشة يمازجها ضرب من الذكاء المزاجي. ونحن مقتطفون الكلمة الآتية من مقال الدكتور الممتحن عن الكلب: قال بعثت خادماً ليشتري نسخة من إحدى الصحف وأمرت أن لا يرى النسخة أحد غيري وغير الكلب، فلما جيء بالصحيفة اخترت نهراً من أنهارها قد كتب في رأسه الكلمات الآتية () ثم دفعتها إلى الكلب وسألته أن يرددها فقرأها الكلب على هذه الصورة () فكان هذا ولا ريب مدهشاً مذهلاً معجباً، ذلك لأن الكلب لم يكرر الألفاظ حرفاً حرفاً كما يكون من الفوتوغراف بل إنه كما ترى أرجعها إلى تهجيته الصوتية الشخصية، مما يدل على أنه قد حدث في ترديد هذه الألفاظ شيء من التفكير والتروي والتعقل. ثم أمرت الكلب بعد ذلك أن يغادر الحجرة ليشرب شيئاً من اللبن فلما اختليت بالسيدة ميكل سألتها عما إذا كانت تظن أن الكلب يستطيع أن يجيب على أسئلة معنوية كأن يطالب مثلاً بتفسير معني () أي الخريف فكان رأي مدام ميكل أنها تعتقد أنه يستطيع ذلك وربما أجاب عن ذلك بما هو في معناه أي ربما يقول مثلاً هو فصل فلما عاد الكلب وألقيت عليه السؤال لم يكن جوابه إلا أن قال () ومعنى هذا الوقت الذي يكون في التفاح!!. فلما رحل ماكنزي استوحش الكلب غيبته فكتب إليه في صبيحة اليوم التالي لرحيله خطاباً

تاماً صحيحاً وإن كان موجزاً - وخير الكلام ما قل ودل - وإليك نص رسالة الكلب عزيزي الدكتور - ارجع سريعاً، لا تذهب بعيداً - أعطني صوراً وكذلك صورتك - تحيات كثيرة - خادمك!. وهذه القوى التفكيرية في هذا الحيوان تكاد تكون من غرابتها بعيدة التصديق ولاسيما أن الكلب يفعل ذلك دون أية مساعدة من أحد. السمك المتوحش كتب الدكتور روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق بعد رحلة طويلة في غابات البرازيل ومجاهلها كتاباً مستطيلاً في وصف ما شاهد. ونحن نقتطف منه النبذة الآتية في وصف نوع غريب من السمك. قال روزفلت: . . . ثم وجدنا بركة عميقة واسعة قد غشيها عدة من صغري التماسيح والخنازير البرازيلية المائية، وكان لا يقل حجم الخنزير عن النعجة أو الشاة. فلما ضربنا خنزيراً منها غطس في الماء وإذا بأسماك متوحشة مفترسة قد انقضت عليه ولم تكد تمضي دقائق حتى كانت قد التهمت نصفه، بل أعجب من ذلك وأغرب إننا أصبنا تمساحاً يبلغ طوله خمسة أقدام فما كان من هذه الأسماك المتوحشة إلا أن انقضت على التمساح فمزقته وجعلت تجره إلى البر تريد قتالنا ومواجهتنا - وذلك أنه لما هوت على التمساح الجريح ورأت الدماء تسيل منه اهتاجت اهتياجاً عظيماً حتى جعلت تهوى بأسنانها الهائلة فوق جثة التمساح وجعلت من شدة الغضب تمزقه إرباً إربا. ومن ذلك اتضح لنا أنها لا تمس الخنازير أو التماسيح بسوء إذا كانت هذه غير مجروحة بجراح، لأن منظر الدماء هو الذي يهتاجها ويحدث لها نوعاً مخيفاً من الجنون، والعجيب من غريزة هذه الأسماك المفترسة أنها لا تتعرض أبداً للسائحين من الناس في البركة بأي سوء، ولكن الجريح منهم أو من الحيوانات يكون من شرها غرضاً للافتراس والموت. إنقاذ اللقطاء في فرنسا كتب أحد كبار الكتاب في فرنسا يقول إن من الضروري اتخاذ الحيطات الكثيرة لمنع الهبوط المطرد في نسبة سكان فرنسان، وقد اقترح في مقاله أن توضع في جميع مستشفيات اللقطاء صناديق تلصق بجدران الحجر ويوضع كل لقيط في صندوق منها

ويترك للنساء الحرية في دخول الدار متى أردن، حتى لا يمنع الخجل من الفضيحة أو الخوف من العار أو أية أسباب أخرى، تلك الأمهات اللاتي نبذن أولادهن يوم الولادة في مظلم الأزقة وساكن الطرق، من الذهاب في كل يوم لتفقد أطفالهن في المستشفيات وإرضاعهم وتغذيتهن آمنات من شر الفضيحة مطمئنات، بل إن هذه الصناديق المحجوبة ستعمل كثيراًَ على تخفيف وفيات الأطفال في فرنسا وتقليل عدد الجرائم التي ترتكبها النساء في سبيل الخوف من الافتضاح. الأكاذيب المقررة في التاريخ وضع أحد كبار العلماء المؤرخين منذ أشهر رسالة في إحدى المجلات الكبرى تدور حول الأكاذيب المقررة في التاريخ كأنها حقائق تاريخية صادقة لا أثر فيها للخرافة وقد جاء بقائمة طويلة من هذه نقتطف منها ما يأتي: حرق جريجوري الأكبر مكتبة القياصرة - حرق عمر بن الخطاب مكتبة الإسكندرية - قولهم إن أوروبا في القرون الوسطى كانت تعتقد أن العالم سينتهي في عام 1000 ميلادية - قصة أسر قلب الأسد - قولهم إن خطب بطرس الناسك هي التي أثارت أوروبا إلى الحرب الصليبية الأولى - رواية ويليم تل. خرافة الباستيل لا نظن إن في القراء من لا تتأفف نفسه وتتأثر مشاعره وترتعد فرائصه إذا ذكرت أمامه مظالم الباستيل وفظائعه! أو قرأ شيئاً عنها في رواية، أو وقع على وصف لهوله في كتاب، ذلك لأن المؤرخين والكتاب والروائيين قد أكثروا من وصف هذا السجن العتيق بكل نكراء حتى أصبح راسخاً في أذهان العالم كله أن الباستيل كان أفظع السجون التي شهدها التاريخ. ولكن يظهر أن هذه خرافة أخرى من الخرافات التي يحملها التاريخ في بطونه ودفاتره، كما يتبين لك من الكلمة الآتية التي كتبها عنه العالم المتقدم الذكر في رسالته. لقد كانت العناية بالمساجين في سجن الباستيل نهاية في الكرم وغاية في الجود، وكان كل سجين يكرم على قدر مكانة في الهيئة الاجتماعية، فمثلاً كانت الحكومة تصرف يومياً لحاكم الباستيل خمسة فرنكات لطعام المسجون المتوسط الحال، وخمسة عشر فرنكاً لطعام

العضو في البرلمان وأربعة وعشرين فرنكاً للقائد وستة وثلاثين للمارشال ولما ألقي الكاردينال روهان في الباستيل من جراء عقد الملكة، كان يصرف عليه الحاكم في اليوم مائة وعشرين فرنكاً، وكذلك كان يتفق على المساجين من الفقراء والإغمار بقدر ما يناسب حالهم، فكان الباستيل أهنأ سجن في العالم بأسره بل إن ريتفيل في طعنه على حالة فرنسا قبل الثورة الفرنسية قد اعترف بأن كان يشرب وهو في الباستيل سجين خمرة الشمبانيا وخمرة البورغوينا ويأكل الفراخ والأرانب والسمك بل كان رئيس الطهاة في الباستيل يعرض على المساجين كل صباح قائمة الأصناف للتصديق عليها، بل كان الملك يأمر بكساء من يفتقر منهم إلى الملابس، وكان المساجين في السجن بأثوابهم الجميلة وأرديتهم ومعاطفهم وأوشحتهم وأقبيتهم، ولم يكن يلبس منهم أحد ملابس السجن وكانت الحكومة تقدم السجائر والدخان إلى من يحتاج إليها منهم وكانوا في بعض الأحايين يقيمون بينهم حفلات موسيقية أو فصولاً تمثيلية، وإذا مرض أحدهم عالجوه دون مابل وإن شاء أن يفصحه طبيبه الخصوصي جاؤوه به!!!. . ولعل القراء يتساءلون بعد ذلك لقد كان هذا الباستيل أشبه بالفندق منهن بالسجن!. . كلاب البحر الفيلية قدم الدوق بدفورد رئيس جمعية الحيوانات في لندن إلى حديقة الحيوانات بها زوجين من كلاب البحر الفيلية، وهما اللذان ترى في الصورة الماضية، ويبلغ طول الواحد منهما نحواً من ستة أقدام ويقولون إن هذه الكلاب تنمو وتطول حتى تصير عشرين قدماً، والسبب في تسميتها بهذا الاسم هو أن منخار الذكور منها ينتهي بما هو أشبه بخرطوم الفيلة، بينا تجد إناثها أصغر خراطم من أزواجها، ولا يظهر هذا الخرطوم في الصغار، لأن رأس هذا الحيوان أشبه برأس الكلب وله عينان واسعتان مستديرتان، وهو من الحيوانات البرية البحرية. عقيدة العلامة هيكل أرنست هيكل من أكبر العلماء الطبيعيين في هذا العصر، وهو رسول الحرب المستطيلة القائمة اليوم بين مذاهب النشوء ولاسيما المذهب الذي جاء به هذا الشيخ وهو المونيزم أي وحدانية الكائنات، وبين أساطين رجال المذاهب الكاثوليكية الرومانية، وهو اليوم قد جاوز

العقد السابع من عمره وقد وفدت عليه يوم عيد ميلاده الثمانين التهاني، والرسائل والأماديح من كل قواد الفكر الإنساني في نواحي العالم كله. وهذه العقيدة الجديدة تتلخص في كلمة واحدة، هي إن الذهن والمادة شيء واحد، وإنهما مظهران لكائن واحد مطلق، وإن كل شيء في العوالم جزء من القوة الإلهية أو مظهر من مظاهرها.

عالم الحرب

عالم الحرب مذكرات سرية عن الإمبراطور غليوم وصيفة من وصائف الشرف لبثت زهاء عشرة أعوام في بلاط برلين تحدث العالم عما رأته من غرائب أخلاق غليوم وشواذ نوادره وأسرار حياته وبدائع جنونه وعجائب أموره - وهي حقائق ثابتة لا يشوبها شائبة من الكذب أو التلفيق أو الاختلاق ولا يمازجها أثر من التخيل أو الزيادة أو التوسع أو الأطناب. والكاتبة الوصيفة من الكونتسات، أعنى من السيدات النبيلات - تقول في مقدمتها ليس لي مأرب شخصي من هذه المذاكرات ولا أسباب عندي في وصف ما رأيت من العيشة البلاطية وشاهدت فإذا كانت قد احتوت جملة من الغرائب واشتملت طائفة من المضحكات، وهدمت كثيراً من الآراء الثابتة عند القراء وكشفت عن أسرار عجيب هي على النقيض مما أصبح تاريخاً مقرراً مشهوراً، إذن فليذكر القارئ أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال وأن التاريخ ليس إلا كذبة مزخرفة - ولست ذاكرة إلا الحوادث التي وقعت تحت عياني، أو التي استقيت من شهود ثقات، وأما الحوادث التي وقعت قبل تتويج الإمبراطور فسأضطر إلى نقلها من أحاديث أهل البلاط ورواياتهم. فكاهات كثيرة من جنون الإمبراطور بنفسه - تغزله في النساء أمام زوجته وأمام الحضور حتى ولو كان بينهم رجالهن - غيرة الإمبراطورة وأمثلة مضحكة عن ذلك، تحدث غليوم عن نفسه واعتباره كل شيء في ألمانيا ملكه - إعلانه عن نفسه - غرامة بأيدي النساء حتى العجائز والدميمات - واقعة حال بينه وبين سيدة. علمتني الأعوام الطوال التي عرفت فيها الإمبراطور وعشتها على مقربة منه إن اعتقد أن الإمبراطور لا يجب أن يسأل عن كثير من أمور إدعائه وزهوه وقسوته وتقطيبه، لأنه لا يستطيع أن يتمالك نفسه من إتيانها، فهو لا يهتم بأحد إلا نفسه ويعد الناس والجماعة شيئاً لا يعني به ولا يحفل حتى لكأنه لا يشعر بوجود إنسان ما بجانبه. فإذا خرج يوماً وزوجته في نزهة طيبة على متون الجياد، ثم حدث للإمبراطورة في الطريق حادث عاقها عن اللحاق به، لم يكن من غليوم إلا أن يتابع سبيله إلى الوجهة التي يريدها هو ورفقته وحرسه وراضة جواده، غير مكترث أبداً ولا مهتم ولا حافل ولا مخفف

من سرعته حتى يمكن الإمبراطورة من مداناته، يكفي أن لدونا (اسم زوجته) وصفاءها ونساءها وحاشيتها، فليهتموا لها هم وليعتنوا. وقد يلتقي الإمبراطور بامرأة لعلها زوجة أحد الضباط الجدد في محفل أو مأدبة فيعجب بجمالها ويشغف بحسنها، إذ ذاك لا يتأخر دقيقة واحدة عن التصريح بذلك أمام الحضور، مسترسلاً في مديح تقاطيعها، مكثراً من التنويه بوجوه حسنها، إن كانت رخصة اليد ناعمتها، أو كاعبة النهد بارزته، فإذا عمدت الإمبراطورة - وعلى رضاها يتوقف مركز كل امرأة في البلاط - إلى اسم السيدة التي نالت إعجاب الإمبراطور فمحته من قائمة زوار القصر، لم يظهر كذلك أقل اهتمام، فكأنما يرى الإمبراطور أن الشرف قد يعود فينبت ثانياً كما ينبت الشعر. هذه مدام بوكن مثلاً، كانت عند الإمبراطور في مقياس الجمال آية الآيات ولذلك كم أكثر من الكلام عن يديها وقدميها، وكم أسهب في التشبيب بساعديها وكتفيها. بل كم زين حجرة مكتبه (بفتوغرافياتها) وزوق غرفة نومه وحجرة استقباله بعدة من صورها، ولكن السيدة نفسه لم تجز يوماً عتبة القصر، على الرغم من أن رئيس البلاط يضع اسمها في رأس القائمة سنين عدة عند كل حفلة تقام أو مأدبة تؤدب والسبب في ذلك أن الإمبراطورة وضعت يدها في القائمة فخابت مدام بوكان في كل شيء. وهذه حادثة (فيلما بارلاغي) المصورة لا تكاد تفترق عن الحادثة المذكورة، فإن الإمبراطور أعلن عنها أكبر إعلان ونوه بها أعظم تنويه، وجعل يغدق عليها الأوسمة الذهبية و (المداليات) على الرغم من احتجاج جمعية الفنون الجميلة وعلى كره من مجمع برلين، وقد دعاها آخر الأمر لترسم بريشتها صورته فجاءت إلى القصر ولكن لشد ما أضحكني ذلك المنظر فقد أبت الإمبراطورة إلا أن لا تفارق زوجها لحظة واحدة وجعلت تجلس إلى جانبه في كل جلسة يريد تصويره عليها، وطفقت تمعن في وجه الرسامة الحسناء لكي تخجلها ولا تمكنها من إجادة عملها وإظهار براعتها فكنت أضحك في نفسي كما رأيت حيرة المصورة وأنا أتقدم أمام جلالتيهما إلى حجرة التصوير. وأما عن تحدث الإمبراطور بنفسه واعتباره موارد الحكومة وأملاكها وثروتها كملكه الشخصي فحدث ولا حرج، كل شيء ملكه، (جيشي) و (بحريتي) و (ثغوري) و

(حصوني) و (أموالي) و (وزيري) و (مستشاري) تلك عبارات نسمعها من فمه كثيراً بمثل اللهجة التي يقول بها (جوادي) و (أولادي) و (خطبي). وإعلانه عن نفسه قد يلبس لباس المروءة والكرم فقد كان وجهه مشرقاً بضياء الفرح والزهو يوم أنبأ البلاط في حادثة حريق معرض باريس بأنه بعث صكاً بعشرة آلاف فرنك إلى لجنة مساعدة منكوبي الحريق فكأنما كانت تقول عيناه إن العالم بأسره سيتحدث ولا ريب عنها، أفي وسع رجل أن يعمل أكثر من ذلك لعدو أهلي؟. وفي مساء ذلك اليوم، حتى قبل أن تعلم الصحف بأمر الاكتتاب جاء الإمبراطور رسالة برقية من سفيره في باريس تقول سيحملون جلالتك على باريس سنة 1900 في موكب فخم عظيم. ولكن لم يكد يمضي شهر حتى عم السيل مقاطعة ورتمبرج وخرب منها ما خرب فلم يجد الإمبراطور مالاً عنده أو كلمة عزاء يدفها إلى المنكوبين والمحزونين!. واللاتي وقع غليوم في حبهم اشتهرن بنعومة أيديه ورخصها وبضاضتها وتناسب أجزائها وحسن منظرها، وترى الإمبراطور لا يريد أن يحفل بأية غادة يتلقي في المحفل، اللهم إلا إذا كانت ناعمة اليد حلوتها، حتى ولو كان لها مع ذلك منقار النسر أو ثدي الدجاجة أو حدبة الأحدب، وإنه ليجاذبها إذ ذاك أطراف الحديث ويأخذ في التشيب بجمال يدها، فإذا قامت لتنصرف قبل يدها تقبيلة واحدة إذا رأى من الحضور أعيناً راقبة، وعشر تقبيلات إذا لم يكن ثم رقيب. ثم لا عجب أن يكون لبس القفازات في القصر أمراً إجبارياً على نسائه ووصيفاته فإن الإمبراطورة، ولم ينعم الله عليها بجمال اليد ونعومة الكف، تحظر على نسائها ترك القفاز أو نسيانه، ولكن ترى الإمبراطور في بعض جلسات العشاء بعد مرقص أقيم أو غناء صدح يسأل دائماً بعض سيدات البلاط والزائرات أن يخلعن عنهن قفازاتهن. وقد قال يوماً على المائدة (إني لا تأفف من اليد والزند المختفيين، وراء القفاز تأففي من السيدة في ردنجوت تتبرقع!). واعلم أن الإمبراطور وإن كانت تهفو نفسه في أثر اليد الناعمة والكف الحلوة إلا أنه ليجن غراماً إذا زانها زند بديع ومعصم جميل. وهو على أنه ليس بالرجل الجواد الكريم تراه

السريع البذل الأريحي في انتخاب الهدايا والتحف لمن يرى من النساء الناعمات الأيدي الجميلة المعاصم، ثم هو لا يشترك في حفلات توزيع مشابك الصدر والقلائد والعقود على سيدات القصر وغانياته وإنما يخف إلى توزيع الخواتيم والأساور ويخلعها عليهن بيده. وقد وصفت سيدة من ذوات الألقاب في القصر واقعة حال في هذا الشأن بينها وبين الإمبراطور قالت: (أمرني يوماً جلالة الإمبراطور أن أحضر إلى قصر برلين وكان أهل البلاط جميعاً متغيبين في قصر بوتسدام وأن أجيء منتقبة حتى لا يعرفني أحد. فلما دخلت حجرته الخصوصية إذا به في بهرتها ولم يكن وجهه شاحباً كعادته فقال لي: (اخلعي عنك خمارك وسترتك) وكانت تبدو عليه علائم القلق، وكنت يومذاك في قميص رفيع ذي كمين حتى المرفق يزينهما حاشية طويلة من الدنتلا. قال الإمبراطور وأنا أخلع القفاز يا الله، إنه لشيء جميل! ثم عمد إلى سجف هناك فانتخب من بين عدة من صناديق المجوهرات صندوقاً كبير الحجم فأخرج منه سواراً على شكل الأفعى فمده إلى آخر نطاقه وقلده ذراعي فامتد فوق المرفق، وعند ذلك شكرت للإمبراطور هديته فجعل يقبل ساعدي مرة بعد مرة بين حلقات السوار وتعرجاته ثم ختمت السيدة اعترافها في ابتسامة ساذجة طاهرة (والذي أدهشني أن جلالته كان يلعب بأصابعي ويعبث طول الوقت!). لله سذاجة تلك الغانية: لقد ظننت ولا تزال إلى اليوم تظن أنها أول سيدة ظفرت بلعب هذه الكوميديا الجميلة، وما درت أن هناك في برلين وبوتسدام وكييل وبرسلو وكونجسبرج عشرات أمثالها من النساء والعذارى والفتيات لا يزلن يحتفظن بطرائف مثل طرفتها نلته من كف الإمبراطور، ولكنهن لسن جميعاً ثرثارات مثلها ولا ينسى الإمبراطور أبداً يد قبلها يوماً وإن بعد بها العهد، وهذه الذاكرة القوية مما يحدث في نفس الإمبراطورة زوابع من الغيرة المرة المؤلمة، وقد يكونان معاً في المركبة إلى نزهة جميلة وإذا بالإمبراطور قد قطع على زوجته الحديث يقول انظري يا (دونا) إلى يد هذه المرأة، أليست هي السيدة التي رأيناها في مكان. . . إنها لمليئة بريشة المصور!. وللقارئ أن يتصور لنفسه مقدار غيرة الإمبراطور ومبلغ غيظها وحنقها. (اقرأ في العدد القادم قطعاً أخرى مختارة من هذه المذكرات)

رجال الحرب

رجال الحرب الكونت فون زبلن هذا اسم مشهور معروف، له شهرة الشمس والقمر، فهو أمير الهواء، وفاتح أقطار السماء، رأى الأرض توشك أن تضيق دون جنود الإنسانية، وإن صعيدها لا يكفي ميداناً للحيوانية الإنسانية، وإن سوحها لا تتسع لهذا التنازع الرهيب على البقاء ففتح لها الجو وذلل لها الريح تجري مسخرة رخاء. ومن ترى يدري ماذا كنا آخذين عن هذا الذهن العظيم غير الطيارات لو لم يصنعها، ومن ذا يعلم ماذا كنا واجدين منه لو كان وجه هذا العقل الكبير إلى حسنات العلم وثماره الصالحة؟. لقد كان في حياة زبلن أكبر الأمثال على قوة الدأب، ومتانة الصبر، وشدة المراس، وهول الثبات، وعظمة المثابرة، وهو اليوم شيخ قديم العهد بالحياة، دخل منذ أوائل الحرب في حدود السابعة والسبعين، فقد داءه المجد متأخراً متثاقلاً متباطئاً كأنما كان على كره منه، ولم يعط نصيبه منه إلا منذ ستة أعوام لا غير، إذ أقبلت عليه الشهرة وهو في السبعين ووضعت يدها في يده قائلة له لقد أحسنت!. وليس في تراجم المخترعين من الوقائع الغريبة والصعوبات العظيمة والآمال المخفقة والحيل الضائعة والحوائل المنيعة ما في حياة هذا البطل، ولم يظهر رجل على متن المصاعب ولم يتسلق القحم إلى العظمة، بأشد ثباتاً ومراساً من هذا الرجل، فإن الضربات الصاعقة القائلة التي هوت فوق رأسه من يد القدر لم تستطع أن تقتله، بل كانت كل ضربة لا تقتله تخدمه، فلا بدع إذا أصبح اليوم معبوداً لي بني قومه مقدساً. ولد في سويسرا، على ضفاف كونستانس، تلك البحيرة الجميلة الزاهية، وكان أبوه من ضباط البلاط في برلين، وقد صرف زبلن شبابه جندياً باسلاً مغواراً تطوع أول مرة في حرب الثورة الأمريكية فأبلى أعظم البلاء. وكانت خدمته في الجيش الأمريكي هي التي قدمت إليه الفرصة الأولى لولعه بفن الطيران، إذ كان في الجيش بالون أسير للاستكشاف فكأنما أراد القدر أن لا يولد مستقبل ألمانيا الهوائي إلا في العالم الجديد!.

فلما كانت سنة 1892 انقطع زبلن لدراسة الطيران، وأعلن قومه بأنه صانع لهم مركباً هوائياً عظيماً، يجول في الجو المسافات البعيدة، ويكتشف لهم أجنبي المواقع والسواحل والبلدان - وإذا بصيحة ضحك عالية من الجمهور وضجة عبث وسخرية واستهزاء وقهقهة عالية يمازجها نوع من الرثا، فقد ظن القوم أن الرجل قد عرته جنة أو أصابه مس أو انتابه دخل. كان أصدقاؤه إذا نظروه يقولون إن زبلن قد أشرف على طفولة الشيخوخة وأما أعداؤه فكانوا أخف رحمة وأقل ضحكاً، كانوا يصيحون إن زبلن مخترع مغرور ممرور. ولما لم ير في بني جنسه رجاءه المطلوب، قصد رجلاً من أصحاب الملايين في أمريكا ليرهنه مستقبله على قرض يقرضه وهو خمسة آلاف جنيه فما كان من هذا المتمول الكبير إلا أن نهره قائلاً: أن لا أحفل أبداً بأمثال هذه السخافات التي يحلم بها السفهاء!. ولكن زبلن لم يكن ليرجع عن أمله بل ما فتئ يجاهد غير محتفل بمجون الناس ولا مكترث لمزاحهم واستهزائهم وإهمالهم، فأضاع ثروته وثروة زوجته، إذ كان ينشئ المئات من النماذج والتجارب، ثم يعود فينسخها ويحاول غيرها، يضع النموذج فإذا أتمه وطبق عليه كل قواعد العلم وقوانينه، عمد إلى تجربته، فإذا هو لسوء الخيبة لا يطير!. وما لبث الناس حتى المعجبون به أن تناسوه بتة واحدة ولكنه جعل يكتب في الصحف ويستصرخ ويحث ويحض ويقول إنه في طريق الحق وإنه في أثر النجاح وأنه وأنه، ولكن عبثاً كان يطلب وباطلاً يريد، ولكن هذا لم يقض على قوة الثبات فيه، بل عاد فادخر بعض المال وعمد إلى مواصلة البحث والاجتهاد، ولشد ما كان عجب الحكومة والشعب والعالم كله يوم رأوا الرجل الذي كانوا بالأمس يسخرون منه ويتضاحكون من سخافته كما كانوا يدعونها، يوم رأوا هذا الرجل يطير ست جولات ناجحة لابثاً في الأخيرة منها محلقاً ثماني ساعات أو تزيد، قاطعاً في خلالها مائتي ميل أوتربو - وكان ذلك في خريف عام 1907. إذ ذاك توارى الشاتمون المتضاحكون في أجحارهم وشقوقهم، خزياً وخجلاً وندماً، واشترت حكومته منه منطاده هذا، بل وأعطته فوق ذلك خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات يستعين بها على تجاريبه.

وكذلك أخذ هذا الرجل القوي الروح القوي المبدأ في تحسين مراكبه وتنقيح مناطيده حتى استطاع في سنة 1909 أن يطوف في الجو طوفة لا يقل محيطها عن ألف ميل والكونت زبلن ككل العظماء الذين حاربوا الدهر وخاضوا سبيلهم المحفوف بالمكاره إلى عرش المجد فاقتعدوه، أجل، هو ككل هؤلاء في أنه التواضع مجسماً، وهو وإن كان معبود الملايين إلا أن ذلك لم يحدث أدن أثر في أخلاقه ولين عريكته يعيش في مدينة ستوتاجرت، لا يشعر به إنسان، بل ترى برلين المتناهية في عبادته المبعدة في تأليهه قل ما تراه أو تسمع بخبره!. ولم يرزق الله الشيخ العظيم بغير ابنة وحيدة هي الآن زوجة أحد الضباط، وقد أخذت عن أبيها علم الطيران وتعرف عن المناطيد شيئاً كثيراً، وقد كانت هي العزاء الوحيد للشيخ أيام خموله وزمان محنته. ولا يزال الكونت زبلن يؤمل أن لا يموت قبل أن يكتشف على متن المنطاد جميع الأقاليم القريبة من القطب!. سيرجون فرنش لم يكن هذا الاسم قبل الحرب صغيراً فكبر بنشوبها، وما كان مغموراً فنبه بوقوعها بل لقد كان معروفاً مشهوراً في كل أنحاء العالم قاصيها ودانيها، إذا ذكر في مجلة جاء عرضاً في كتاب، ذكر الناس أنه ذلك الجندي الجليل العظيم، وأنه القائد الفذ النادرة الذي يقف على رأس قواد بريطانيا العظمى بأجمعهم وأنه أبدع قواد الخيالة في الغرب، ولعل المصريين يذكرون هذا الاسم الكبير في تاريخ السودان وحصار الخرطوم. إن اسمه الكامل ولقبه هو فيلد مارشال سيرجون دنتون بنكستون فرنش. وإن كان لا يعرف بين جنوده إلا باسم جاكي فرنش وقد كانت أمواه البحر أول رغبة من رغائب صباه، وأول مركب في شبيبته، إذ كان أبوه من قباطنة الإنكليز، ولذلك لم يكن في هذا شيء من العجب، لأنه أراد أن يخرج على حذو أبيه، ومضى في البحرية قبل التحاقه بالجيش زهاء خمسة أعوام، تلميذاً يتدرب لرتبة الضابط. ومن ثم ترى جنود البحرية وجنود الحربية إذا اجتمعوا يوماً في محفل أو ثكنة أو محضر وجاء ذكر هذا الرجل، ينطلقون في الخصام متنازعية بينهم متشاجرين عليه. متقاسمين له، فيقول جنود البحرية لإخوانهم جنود الحربية إن القائد فرنش نشأ أول أمره ملاحاً بيننا فيرد

عليهم الآخرون نعم إنه مكث دهراً في البحرية ليرى سوء حالكم ويشهد عيوبكم، فلم يلبث أن تأففت نفسه منها فجاءنا وكان منه ما ترون اليوم!. وكان وهو في الجندرية شاب، يقطع أكثر دهره مطالعاً سير ولنجتون ونابوليون وكلايف، ولم يلبث طويلاً حتى التحق بالفرقة التي جاءت السودان لإنقاذ الخرطوم. فأبلى هناك أعظم البلاء وأظهر أروع ضروب البسالة والإقدام، وقد كان غوردون الجندي القديس كما يسميه الإنكليزي محصوراً في الخرطوم، وكان فرنش قد رفع إذ ذاك إلى رتبة (الماجور) فأنفذه القائد ولسلى مع الحملة الهجانة لإنقاذ غوردون عن طريق الصحراء، فاندفع بفئته مخاطراً مخاطرة مستميتة وقاتل رجال المهدي قتالاً عنيفاً، حتى إذا دخلوا الخرطوم وجدوا غوردون قد قتل. ثم كانت حرب البوير فتجلت عبقرية فرنش فيها بأجلى مظاهرها، ولعل أعظم شهادة نالها في حياته - والفخر ما شهدت به الأعداء - هي التي صرح بها دي ويت الزعيم البويري المشهور، فإن هذا الرجل بينا كان يمجد شجاعة الجنود الإنكليزية وينوه ببسالتهم كان ينتقص من مهارة ضباطهم، فلما ذكر اسم هذا البطل أمامه، غير في الحال لهجته، وقال نعم إنه هو القائد البويري الوحيد في جيوش الإنكليز!. ولعل فرنش هو الرجل الفرد الذي ظفر في قتال البوير بالنجاح من الأول إلى الأخر، نزل الكاب في العاشر من شهر أكتوبر سنة 1899 وبرحها إلى وطنه في يونيو سنة 1902 يحمل لقب أكبر القواد الخيالة في العالم الحديث. وليس هناك من ريب في أن إنقاذ مدينة كمبرلي، أعظم بلاد الماس في جنوب أفريقيا - كان إحدى مخاطرات فرنش ونادرة فعاله، فهو الذي اندفع بجنوده عدواً على متون الجياد، منقضاً على صفوف الأعداء، هاجماً في بهرة ذلك القتال المستحر. وهو اليوم في فرنسا قائد الجيوش الإنكليزية يدافع ويناضل وهو في الثانية والستين أشد بأساً وهمة منه في الثلاثين. ولقد كان هذا الرجل الكبير في كثير من حوادث حياته الحربية عرضة للموت أو هدفاً للأسر أو القتل، فمن ذلك أنه وقع يوماً وهو في حرب البوير في خطر شديد، تحت صيب من القنابل، وهاطل من الرصاص، وجو كثيف من الدخان، ولم تقدر عليه النجاة إلا

بانبطاحه على أديم مركبة من مركبات السكة الحديدية، ولذلك لا غرو إذا كان فرنش معبوداً من جنوده جميعاً وقد حدث أحد الجند الذين حضروا حرب البوير معه فقال: إنه ليبدو هادئاً ساكناً في أشد المواطن اهتياجاً واضطراباً، لا يذهل به ولا يطير جنانه فيعرض الجند إلى المذبحة، بل إنه لينظر قبل أن يطفر وإذا طفر جعلنا نحن والويريون نطفر جميعاً، وهذا ولا ريب هو سر القيادة الظافرة الناجحة وكتب يوماً إلى زوجته من ميدان القتال ما كنت أظن أنني سأخرج من هذه الموقعة حياً. وهم يدعونه بفرنش الصامت ويشبهون صمته وسكونه بسكون الماء يكون عميقاً، وقد قال يوماً لجندي من جنده قد حكم عليه بالحبس: إن فرنش العجوز لا ينبح ولكن. . . يعض!.

عادات أهل التوجو وغرائبهم

عادات أهل التوجو وغرائبهم يذكر القراء أنه ما كادت تقع الحرب حتى ضم الإنكليز إليهم أرض التوجو إحدى مستعمرات الألمان في (القارة المظلمة) كما تسمى أفريقا عند الأمم البيض، ولما كان أهل التوجو لا يزالون على الفطرة الأولى في كل فروع حياتهم، ولا تزال حالهم كحال الإنسانية جمعاء في العصور الحجرية والطبقات الجيولوجية القديمة، ولا تزال حالهم كحال الإنسانية جمعاء في العصور الحجرية والطبقات الجيولوجية القديمة، فقد رأينا أن نجيء بوصف هؤلاء الناس وشتى عاداتهم، حتى تعرف الإنسانية المهذبة مقدار الهاوية السحيقة الغور التي وثبت من أعماقها، وإن كانت لا تزال اليوم تحمل دليلاً من دلائل الإنسانية المتوحشة، وهي العيش في ظل الحرب!. أرض توجو - أو كما يسميها الإنكليز توجولاند - إقليم مستطيل يمتد على الساحل الغربي من أفريقيا، بين مستعمرة ساحل الذهب الإنكليزية، وبين مستعمرة داهومي الفرنسية، وهو وإن كان مستعمرة من مستعمرات الألمان إلا أن سكانه من الأوروبيين لا يزيدون عن ثلاثمائة نفس، بل لم يكن فيها يوم ظفر بها الإنكليز في بدء الحرب أكثر من اثني عشر ألمانياً كلهم من الموظفين العسكريين والمدنيين بها، بينا يزيد أهلوها عن مليون نسمة. وهم كاهل البلاد المتوحشة ينقسمون إلى قبائل وشعوب، وكلها لا تزال في مبادئ النشوء الاجتماعي فأما قبائل الجنوب فعلى شيء من المدينة الابتدائية يجيدون ركوب الخيل، ويسترون جسومهم بالقماش ويدينون بالإسلام، أما أهل الشمال فيدينون بالوثنية ويعيشون عيشة أهل العصر الحجري تماماً، جل أسلحتهم القوس والنبال وهذه الأخيرة يطلونها سماً زعافاً، وليس لديهم من السكة ووسائل المعاملات غير الملح، والنساء والرجال حفاة عراة الأبدان، وفي بعض النواحي يستترون بلحاء الشجر أو أوراق الأغصان الناضرة. ولعل أرق قبائلهم قبيلة الكونوكومبوا وهم وإن كانت الروح الحربية عندهم لم تخرج عن حدود القوس والنبل إلا أنهم قوم شجعان بواسل حتى أن الألمان أنفسهم خرجوا من المستعمرة ولما يضعفوا شوكة هذه القبيلة الباسلة. وترى منظر الجندي المحارب منهم - كما هو ظاهر من الصورة التي أمامك - لا يقل في الروعة عن منظر أي جندي آخر، يلبس فوق رأسه خوذة تزينها عقود من الخرز والمحار ويعلوها قرنان مستطيلان من قرون الوعل ويشد إلى كتفه جعبة يضع فيها سهامه

المسمومة وهي من جلد وحيد القرن (الخرتيت) ومحلات بالخرزات، وهو يكاد يكون عارياً لولا الخرقة التي يستر بها عورته على أن بشرته السوداء المصقولة اللامة لتبدو في أشعة الشمس كبدلة من القطيفة أو الحرير، وتراه يلبس في زنده أساور من الفضة أو النحس إذ يعتقد أن وسوسة هذه الحلي تثير الرعب في قلوب أعدائه. وأهل توجو جميعاً يعيشون في أكواخ من خشب الأشجار يبنون فوقها طبقة من الطين النيئ والذين يسكنون منهم الجبال يبنون لهم حصوناً تكاد تكون على شيء من الفن، وهم يجتهدون في زراعة الأرض ويخرجون أحياناً منتوجات طيبة من الدخن والقمح، بينا ترى أهل الجنوب والبلاد الوسطى يحاولون أن يظهروا أنهم قد انتقلوا قليلاً من الوحشية المطلقة فيزرعون القطن يصنعون منه موا يستر عوراتهم، وهم مهرة في عمل السلال ونساؤهم حاذقات في صنع الخرز. وليست أرض توجو كلها طيبة لسكنى الأوروبيين بل هناك نواح منها يغشاها مكروب الملاريا، ومن الأمراض الفاشية بينهم مرض النوم وأول ما ظهر هذا المرض القتال منذ ثمانية أعوام أو تسعةن وهو يفتك بهم فتكاً ولذلك تراهم لا يستخدمون الخيل نهاراً بل يستعملونها ليلاً، لأن ذبابة هذه المرض - المعروفة بذبابة التستسى لا تظهر في الليل وأما بالنهار فيحبسونها في أكواخ يحصنونها من هذا الذباب ويقيمون عليها الحراس.

من هو روتر؟

من هو روتر؟ يرى القراء هذه اللفظة عند نهاية كل تلغرافات العالم أو جلها، فيتساءلون تري من هو روتر هذا، وكيف نشأ، وهل هو حي أم قد مات؟. ونحن محدثون القراء عن روتر وما كان منه: يوليوس روتر هو اسم مؤسس هذه الشركة الكبرى التي تنقل أنباء العالم بين جميع أأصقاعه وأقطاره ونواحيه، ولد هذا الرجل منذ ثمانية وتسعين عاماً أي عام 1816 ولولا قوة ثابتة ونشاطه واجتهاده وعزيمته، لما عرفه العالم ولا احتفل به الناس احتفالهم اليوم ولا ترددت أنباؤه في كل مملكة أو بلد ولما كانت لنكتب عنه هذه السطور. نشأ كما ينشأ كل رجال العمل أو سوداهم فقيراً فكان أول عهده بالصناعة أن أخذ يطوف بين البلاد سعياً على الأقدام أو على ظهور المطي ينقل الأخبار من بلد إلى بلد إذ لم تكن السكك الحديدية ولا الأسلاك البرقية قد جاءت إلى العالم بعد. وكذلك مضى في هذه الحرفة الشاقة المنهكة حتى إذا بلغ الثالثة والثلاثين أقام في مدينة أكس لا شابل من أعمال ألمانيا ينقل الأخبار بالتلغراف بين كثير من بلاد أوروبا وجعل يحذق هذه الصناعة ويدأب على معرفة أسرارها ومطالبها وحاجياتها وكانت لندن كعبته المقصودة ثم أخذ يجتهد حتى أنشأ بها سنة 1851 مكتباً صغيراً قصر عمله فيه على نقل تقارير الأسواق والأخبار التجارية البحتة ثم لم تلبث فروع عمله أن ازدادت حتى أصبح لذلك المكتب مكاتبون في أغلب عواصم الغرب. ثم عمد إلى الصحف، ولكن الصحف في أول الأمر لم تثق به ولم تركن إليه ولم ترض بعمله وإن كانت قد اعترفت له بأنه قد جاء بطريقة جديدة، على أن هذه الخيبة لم تضعف من عزيمة لرجل ولم تقتل جذور الأمل القوية في أعماق فؤاده بل ظل يجاهد ويعمل ويدأب حتى جاءه النجاح أخيراً. ذلك أن نابليون الثالث ألقى خطابه سياسية هامة في رأس سنة من السنين فالتقطها روتر بحذافيرها - وذلك بقوة الثبات التي لم تكن لتضعف من الصدمات وإن كبرت - وللحال بعث بها إلى الصحف فلم يكن هناك في الغرب صحيفة صغيرة أو كبيرة إلا نشرتها، وقرأها روتر في جريدة التيمس فما كان أشد فرحه بهذا النجاح وما كان أبهجه. ثم لم يقتصر هذا الرجل الدؤوب على ميدان الصحافة بل ما لبث أن دخل في ميادين

أخرى جعلت الناس باسمه يتحدثون ويهرفون، ذلك أنه في سنة 1856 اقترح أن ينشئ أسلاً كما تحت البحر بين إنجلترا وهانوفر وعقد اتفاقاً بين حكومة تلك المقاطعة وفي تلك السنة بعينها عقد اتفاقاً آخر بينه وبين فرنسا على مد أسلاك تلغرافية تحت المحيط بين الشواطئ الفرنسية وبين الولايات المتحدة. ثم طلب في سنة 1872 إلى شاه العجم أن يعطيه الحق المطلق في إنشاء السكك الحديدية في بلاد الفرس وتشغيل المناجم والغابات وكثير من المصادر الطبيعية في تلك المملكة فرفض هذا الطلب ولكن عوض له عنه بحق إنشاء مصرف فارس. ووقع لروتر اللقب والشرف الضخم في سنة 1871 إذ أنعم عليه بلقب البارون روتر وقد كانت وفاته سنة 1899 في مدينة نيس من أعمال جنوب فرنسا تاركاً وراءه شركة عظيمة لها أكبر الأثر في تاريخ العالم الحديث.

القنابل الخانقة

القنابل الخانقة كأننا بالعلم يخدم الحربيين أكثر مما يخدم الإنسانية، فقد كان من قوة العلم أن اخترع الفرنسيون في هذه الأيام نوعاً قاتلاً من القنابل لم يعهد له مثيل في تاريخ تطور الأساليب الحربية، ذلك أنهم اخترعوا قنابل خانقة تقطع أنفاس الجنود إذا كانوا في بقعة غير فسيحة من الأرض، وقد وقعت في هذه الحرب حادثة رهيبة تدل على قوة هذه القنابل الفاتكة. وتفصيل ذلك أن كتيبة من الجنود الفرنسية جعلت تطلق قنابلها الخانقة على قصر كان قد احتله جماعة من الألمان، فقلما وقع القصر في أيديهم، ودخلوا يمشون في دروبه ومنها إلى البهو إذ بهم أمام جماعة من الألمان جامدين كأنهم تماثيل من المرمر، فمنهم من كانوا وقوفاً عند النافذة مصوبين بنادقهم ولا تزال أصابعهم ضاغطة على أزندة البنادق، وآخرون كانوا جلوساً يلعبون الورق ويدخنون اللفائف، وقد وقف في وسط الحجرة ضابط فاغراً فاه كأنما كان يريد أن يتكلم، وكان يبدو على الجميع كأنهم لا يزالون أحياء يتنفسون، واقفين أو قاعدين في أمكنتهم التي كانوا عليها منذ ساعة من الزمان!!.

تميمة الإمبراطور

تميمة الإمبراطور لا يزال الناس وإن أدعوا أنهم قد بلغوا شأوا بعيداً في الحضارة والتهذيب يظهرون بين حين وآخر دليلاً جديداً على جهل الوحشية. هذا هو الإمبراطور غليوم يحمل دائماً في حبيب معطفه تميمة للحرب تتألف من عود من أعواد الحشيش يحتوي على أربع ورقات مجففة يابسة ذات رائحة زكية. وحكاية هذه التميمة ترجع إلى سنة 1870 وتفصيلها أن فتاة من فتيات البلاط اقتطفت عوداً من الحشيش فأهدته إلى الملك غليوم الأول فتقبله ولما رجع من موقعة سيدان الكبرى رد العود إلى الفتاة قائلاً لها: لقد جلب إلى هذا العود حسن الطالع فخذيه الآن لعله يجيئك أنت الأخرى بالتوفيق. ومضت أعوام فأهدته الفتاة إلى ابنة الكونتس دولما فلما كانت هذه في حضرة الإمبراطورة يوماً من الأيام ذكرت لها العود واقترحت عليها أن تقدمه إلى الإمبراطور فلما قصت القصة على غليوم لم يكن منه إلا أن أسرع متلهفاً إلى تقبله مؤكداً لزوجته أن هذا العود سيعود إليه بالنصر كما عاد إلى جده منذ أربعين سنة. ولذلك لا يفارق الإمبراطور طلسمه هذا هنيهة واحدة ولا يريد أن يتنازل عن هذه الخرافة الكاذبة حتى الآن!!.

تهذيب نساء برلين

تهذيب نساء برلين أراد غليوم منذ سنين أن يهذف نساء برلين فأصدر أوامره أن لا تعطي المقاعد في دار التمثيل إلا للسيدات العاريات الصدر المرتديات الأقمصة المعروفة بالدكولتيه وكانت نساء برلين لم يعتدنها من قبل، فلما حانت ساعة التمثيل، وقع منظر عجيب يعجز عنه الوصف. كانت تأتي السيدة إلى المشرف على تذاكر الدخول فتقول (ولكنني كما ترى عجوز، ولست أستطيع أن أظهر غضون عنقي ومكاسر صدري). وهذا يقول لها (هذا لا يهم يا سيدتي، إن الأوامر يجب أن تنفذ، هذا هو المقص) يقول ذلك ثم يخرج من جيبه مقصاً كبير الحجم فتصيح السيدة (هذا فظيع! أيقص (فستاني) أأظهر رقبتي، هذا يستحيل!). ثم تعلو الصيحة فالصيحة وتحاول السيدة أن تمانع ويحاول هو أن يقهرها، بينا الستار يريد أن يرتفع وبينا التمثيل يكاد يبتدئ، فلذلك تجد السيدة أنها مضطرة إلى الإذعان فيعمد الرجل إلى المقص فيقص صدر الثوب وهي بين ذلك مغطية وجهها بيدها والدموع تهمل من عينيها حتى إذا انتهى من تقوير الثوب قال لها (ما هذا يا سيدتي، ألا تنرين أنه قد صار الآن ثوباً باريسياً مفتخراً، انظري إلى نفسك يا سيدتي). فتعدل السيدة إلى المرآة. . . لله ما هذا المنظر الجديد، إن ذلك الجيد الذي ما انكشف يوماً على أجنبي قد بدأ الآن ناصعاً من وراء هذه القوارة، إذ ذاك تحس باحمرار الخجل لأنها لم تبد في هذه البزة منذ يوم عرسها، وإنها لواقفة كذلك أمام المرآة تحملق في صورتها، إذ يعمد إليها خادم آخر من خدمة دار التمثيل فيصلح من أثر القصاصة وينظم حفافي القوارة، فإذا انتهى فتح لها الباب فتدخل البهو إلى مقعدها يعلو وجهها احمرار الخجل. وكذلك اتبعت هذه العملية مع كل النساء النصف منهن والعجوز والشابة والحدثة فأما الشابات ومن في حدودهن فلم يعددن الأمر خطيراً أو صعباً إلى هذا الحد بل جعلت كل منهن تقول لأختها (انظري إلى عنقي، إنه ليس بعد كل هذا دميماً) وأخرى تقول (ماذا يقول فلان إذا رآني هكذا بارزة الصدر!). ولم تلبث رحبة الدار أن امتلأت بالأعناق العارية والنهود البارزة والظهور المنكشفة وأصبحت كدكاكين الخياطين و (ورشهم) قد احتجب بلاطها بقصاصات القماش من كل الأصناف والألوان!!.

ملابس الجنود

ملابس الجنود لكثير من الحيوانات المفترسة والوحوش الآبدة مقدرة كبرى في التخفي عن القانصين ومخادعة الصائدين والمهاجمين وقد بلغ من مهارة هذه الغريزة إنها تجتهد أن لا تسكن إلا البقاع التي تشبه تربتها وكل ما جاورها ألوان جلودها. وقد تنبيه الألمان إلى هذه الغريزة الحيوانية ففكروا في تغيير لون ملابسهم بلون سماوي قاتم يشبه الضباب وقد شهد كثيرون قد عادوا من ساحة القتال بأن من الصعب رؤيتها حتى من مسافات قريبة جداً، وقد قال أحد المكاتبين الحربيين من الأمريكان بعد أن حضر من ميدان الحرب لا ريب أن مخترع هذه الفكرة الشيطانية من العبقريين!.

خياطة نياط القلب

خياطة نياط القلب من غرائب الجراحة وعجائب الجراحين أن الجراح زيدلر الروسي استطاع أن يشفي ثلاثين جريحاً كانوا قد أصيبوا بطعنات نجلاء في القلب ولعل السبب في نجاح هذه العمليات الجراحية التي قام بها يرجع إلى السرعة المتناهية في تأديتها والدقة والاحتراز الشديدين. وتفصيل ذلك أن الجريح كان يؤخذ في التو واللحظة من موضع الإصابة فيعرض لتأثير الأثير ثم ينقل الجراح جزءاً من عظم الصدر ويرفع القلب من مرقده ويسرع في خياطة النياط بين النبضات، ولم يرجع بعد ذلك عظم الصدر إلى مكانه فوق القلب بل اكتفي من الغشاء بالجلد والعضل وذاك لكي يجعل للقلب مكاناً براحاً للامتداد وليمنع الخفقان من التعطيل وقد كان من ذلك أن عدة من هؤلاء الجرحى يشتغلون اليوم بالنشاط الذي كان لهم من قبل.

عالم الأدب

عالم الأدب ننشر في هذا الباب أطيب الرسائل والمقالات المنوعة في الأدب والأخلاق والاجتماع والتربية والفلسفة وحياة العظماء والقطع المختارة من الروايات النافعة المفيدة والشذرات الجميلة من شتى المنظوم والمنثور والنوادر المختلفة والفكاهات والملح. ونذيل ذلك كله بنقد الكتب العربية التي تظهر في الأسبوعين. تعدد الزوجات رأي الدكتور جوستاف لوبون ليس هناك كاتب وفي المباحث الشرقية والحضارة الإسلامية حقها من رصانة الرأي، وعدل الحكومة، وسداد الاستنتاج، والبعد عن التحيز، مثل البحاثة المحقق الدكتور جوستاف لوبون صاحب كتاب حضارة العرب وقد عثرنا حديثاً بين فصول هذا الكتاب البديع بكلمة ممتعة في ضرورة تعدد الزوجات عند الشرقيين والعوامل الجوية والفسيولوجية والأدبية التي دعت إليه، وبيان خطأ الفرنج في الحكم عليه، فرأينا أن نبسط للقراء رأي هذا الأستاذ المحقق العادل، ونطرفهم بخلاصة هذه الكلمة الشائقة. إن جوستاف لوبون يعيب على الغربيين هذه الصورة الممسوخة التي يصورون بها تعدد الزوجات، وينعى على كتابهم ومؤرخيهم أحكامهم الطائشة وآراءهم المتسرعة لأنه يرى أنك لا تستطيع أن تفهم روح شرع من الشرائع في أمة غير أمتك إلا إذا وضعت نفسك موضعها، وتجردت عند البحث من جنسيتك، ونسيت التيار الفكري الذي يجري في الوسط الذي تعيش فيه والآراء التي تحيط بك. إن نظام تعدد الزوجات عند الدكتور لوبون على النقيض مما يفهم الأوروبيون هو نظام بديع يرفع المستوى الأخلاقي في الأمة التي تعمل به، ويقوى فيها أواصر الأسرة ويشد روابط البيت ويجعل المرأة أشد احتراماً وأسعد حالاً من أختها في الغرب. وإن تعدد الزوجات هو في الحقيقة نظام مستقل منفصل عن مبادئ الإسلام، وجد قبل النبي بين شعوب الشرق وأممه، كان مسنوناً بين اليهود مشروعاً بين الفرس، سارياً بين العرب، فلم تكتسب الأمم التي دخلت في دين القرآن شيئاً من هذا النظام القديم، ولم يكن في مقدرة أي دين من الأديان، وأن أوتي أكبر المقدرة على تغيير الآداب والأنظمة والأخلاق، أن

يلغي نظاماً مثل هذا أو يعمل على أبطاله، لأنه النتيجة الضرورية للجو، والغاية المحتمة لمزاج الشرقي ونوع الحياة التي يعيشها. أما عن تأثير الجو فلا حاجة للبسط فيه والشرح، حسبك أن فسيولوجية المرأة ومطالب الأمومة والولادة والأوجاع والأمراض وغيرها تضطر المرأة إلى أن تظل أغلب دهرها بعيدة عن زوجها، وهذه العزوبة الوقتية للرجل مستحيلة تحت جو كجو الشرق ومزاج كمزاج الشرقي، وهذا هو الذي جعل تعدد الزوجات من أوجب الصرورات. أما في الغرب، وإن كان الجو أهدأ تأثيراً والطبائع أخف حرارة إلا أنك مع ذلك قل ما تلتقي بفردية الزوجية إلا في القوانين، وأما في العادات والآداب فما أقل العناية بها وما أندر. يتساءل الدكتور لا أعرف لماذا يعتبر هذا التعدد الشرعي للزوجات عند الشرقيين أحط منزلة من هذا التعدد الكاذب الفاحش عند الغربيين، وإن كنت أعلم جد العلم بالأسباب التي تجعل الأول أسمى مكاناً وأربع قدراً من الآخر؟؟!. أما وقد وفهمنا الأسباب الفسيولوجية التي عملت على اشتراع هذا التعدد في الشرق فليس من الصعب علينا أن نفهم السبب الذي حمل الدين على الإقرار عليه والاعتراف به، إن رغبة الشرقيين في الإكثار من النسل، وذوقهم المعترف به في عيشة الأسرة وعواطف العدل التي تتنازعهم ولا تسمح لهم بهجر المرأة التي لم تعد تعجبهم، هي الأسباب التي جعلت الدين يقر على هذا النظام الناشئ عن الآداب والطبائع. يقول جوستاف لوبون وإذا اعترفنا بأن القوانين تنتهي دائماً بموافقة العادات فحق علينا أن نعترف كذلك بأن هذا التعدد المتطرف المجاوز الحد عند الغربيين سينتهي يوماً بأن تقر عليه قوانينهم!. الأديب المصري من كلمة للأستاذ عباس محمود العقاد الكاتب المشهور: . . . . وما علمت في تاريخ الآداب حالاً أعجب ولا مسلكاً أوعر من مسلك الأديب العصري في مصر - عجب حاله وتوعر مسلكه لأن في مصر الأدباء العصريين وليس فيها القراء العصريون. أوهنا القراء العصريون ولكن الصلة بينهم وبين الأديب العصري

مقطوعة. وما القراء في مصر إلا واحد من ثلاثة: قارئ الأقاصيص والنوادر، وقارئ الأدب العربي، وقاري، الأدب الإفرنجي. فأما قراء الأقاصيص والنوادر فأعنى من أن يقرأوا أدباً قديماً كان أو حديثاً. وأجهل إن قراؤه من أن يميزوا بين زهيدة وثمينه، وبغية هؤلاء من الكتب إنما هي تمرين ألسنتهم على الهجاء أو تبديد الوقت في البطالة والفراغ. وأما قارئ الأدب العربي فإن كان ممن يقرأ فلا يروئ في المطالعة بصره ولا يصير من تلاوة الشيء إلى الحكم عليه فما أشبهه بقراء الأقاصيص!! وإن كان يقرأ ويحكم فهو إنما يحكم بطراز ألفه وشب عليه فلا معدل له عنه. ولا مقياس للأدب العصري إلا أدب الأمم التي سبقتنا في أدوار الحياة والفنون فهو - أي قارئ الأدب العربي - معزول أتم العزل عن آداب تلك الأمم. لا يستطيع نقدها وتقديرها إلا إذا استطاع إماطة الحجاب عن الغيب لأن حكم الرجل على ما ليس يعرف وتوهمه في نفسه القدرة على نقد أدب لا يلحن لغاته ولا يقرأ كتبه ولا يلم يسير أدبائه وأخلاقهم أو بمحاضراتهم ومساجلاتهم أو يحيط بآراء النقاد فيهم وأقوال بعضهم في بعض ويعارض بين عصورهم ومذاهبهم ثم لا يعلم الميزان الذي يزنون به إجادتهم ملاومهم - ذلك بمنزلة حذر الغيب. ولا يحسن هؤلاء الأدباء المقارنة بين الأدبين إلا من جهات المشاركة وهي أخس ما في الأدب العصري وأنأى ما فيه عن جوهره وزبدته. وكائن ترى منهم من يقارن بين أديب محدث وأديب قديم فيرجح هذا على ذاك أنه أرجح من قبل المشاركة وبصفح عما سوى ذلك من الحسنات التي استدق سرها عليه بل يتعجل فيقضى للأدب إلى آخر بخطراته حتى لا يحرم قراء العربية حسنات هذا الكاتب الذي أبت نفسه عليه أن يلابس هذا العالم المنكوس: عالم أشبهوا القرود ولكن ... خالفوها في خفة الأرواح فاختار أن يقيم بعيداً عن المدينة وما فيها من الكذب والنفاق وسقوط الهمم ونستغفر الله القديم جملة على الأدب المصري جملة. وهو إن كان له عذر من الجهل بفضائل الآداب الأجنبية فلا عذر له من الحكم على ما يجهل.

وربما عجبك من بعضهم أن يأنق للفصل الأنيق أو يستجيد قصيداً جيداً. فإذا سألته عما راقه أضحكك أنه ينتخب ما لم يخطر للكاتب أو الشاعر على بال ويسهو عما عمل له وتحراه كأنه ليس في الفصل أو القصيد. هذا محك أولئك الأدباء على ما علمت من الزلل والانحراف. وكما رأيتهم ليسوا بأخبر من قراء الأقاصيص بغرر هذا الأدب وعرره. وأما قراء الأدب الإفرنجي فيختارون أن يقتبسوه من أمهاته. ويرتادون في لغاته وأكثرهم لا ذوق لهم ولا بصر باللغة العربية، فما هم بأفهم للمعاني المودعة فيها من سواهم. كانت حياة الأدب بالقبيلة ثم صارت حياته بالرؤساء في القرون الوسطى وليست مصر في حال من هذين. ثم صارت حياته اليوم بالقراء، وهم في مصر كما عهدت، فهل بقي للأديب العصري إلا أن يجاهد لنفسه وهل لقارئ حق عليه؟؟. وصف بخيل بقلم الشاعر الكاتب مصطفى صادق الرافعي كتبها خصيصاً للبيان أما فلان فرجل بخيل لو مسخ حجراً لكفرت من سخطها الأحجار، ولو كان حديداً لما لأن الحديد في النار، ولو صوره الله طيناً أجوف لما طن في يد أحد على نقر، ولو خلقه مرة أخرى من تراب لما جمع هذا التراب إلا من ثياب أهل الفقر. غنى مقتصد ملء برده مال، وملء جلده آمال، يستغل الصفر فيخرج منه ألفين، ويرى من إجلال الدينار أنه كما كتب اسم الله بلامين يكتب الدينار بألفين، وكم تمنى أن يكون كإبليس في أنه لا يموت إلا متى هرم الدهر، ولا يذهب من الأرض إلا حين لا يبقى في تاريخ الأرض عام ولا شهر، وإذا خوفته الموت والحساب قال دع عنك، وإذا علم أنه سيعطي كتاب أعماله قال يا ليته من ورق البنك. على أن درهمه في أيدي الناس هم، واسمه في أفواههم سم، وكم لدراهمه من قتيل فمن (استلف)، فقد ذهب في التلف، ومن اقترض، فقد انقرض، وكم من بئيس قشعت غمامته، ثم غالت هامته، وقضت دينه، ثم أبكت عينه، فو الذي نفسي بيده إن دراهمه للصوص، وأنه للئيم (على الخصوص)، يرسل الدرهم في يد المسكين فيذهب فيه ديناره، ويقدح فكره الخبيث فلا تقع إلا في بيوت الفقراء ناره، ولو كان مخلوقاً يوم عرض الله الأمانة على

السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها لحمل وحده الأمانة، وإذا كان مبلغ القول في وصف كل غنى كريم أنه صراف في خزانة الله فجهد القول في مثل هذا اللئيم أنه لص الخزانة. وهو على غناه كأنه في الناس من همه بؤس القمار، وكأنه لحقارته ذيل الحمار، إن طلع عليهم فطالع زحل، وإن غاب عنهم فوباء رحل، ومتى ذكروه، فكأنهم أنكروه، وإذا قضى عليهم أن يسموه، فكأنما شتموه، وإذا وصفوه قالوا وجع الأظفار، وذنب بلا استغفار، وإذا عدوا الفئران سبب الطاعون عدوه سبب العدوى بين الطاعون والفار. وأنه لآية فما رآه الصالحون إلا قالوا اللهم غفرا، ولا رآه الجاحدون إلا زادوا عتواً وكفراً، أما وجهه فلو أنزل الله مرآة من السماء فنظر فيها لصدئت من قبح خياله، كصدأ، ذلك المخزون من ماله، وأما روعته فلو خرج على الحسان لابتلاهن بما يفجأ الظباء من رؤية الفهد، وامتلكهن بما تشعر به المرضع إذا كشفت عن طفلها فأبصرت الثعبان في المهد، وأما جهامته فلو نظر إليه البدر لغرب، ولو أطلع عليه الفجر لهرب، وأما روحه فلو بعثت في خلق آخر لما كانت إلا بقة صيف، في رقبة ضيف، أو بعوضة تلسع العاشق المهجور فتوقظه وقد ظفر بالطيف، وحياته كالبلاء المحتوم، وغناه كالطلسم المحتوم، وأما هو فكالقبر الكتوم. وأحسب لو رسمه أمهر المصورين فأبدع في خطوطه وألوانه، وأنطقه من عينه وعنوانه، وجعله آية فنه وافتنانه، وترك من يراه لا يحسب إلا أن المصور قد سرقه، أو أن الله تعالى مسخه على ورقه، لبقي مع ذلك في رسمه مغمز لا يصلحه إلا الشيطان الرجيم، ولا تلونه إلا شعلة من نار الجحيم، ومن للمصور بشرارتين من الصاعقة ينزلهما في الرسم لتظهر بهما عيناه، ومن له برقبتي البخل والرذيلة يطبق عليهما يسراه ويمناه، ومن له بلونين من غضب الله ونقمته يظهر بهما في الصورة معنى فقره وغناه؟. ولست أطيل في القول فما أنا ببالغ من الفول بعض صفاته، وهيهات أن يصفه إلا من يعلم لغة الملائكة فينقل إلى لغة الناس كتاب سيئاته. بشار بن برد في طليعة شعراء العرب، وأحد شعراء الدنيا الذين لا ينتطح عنزان في أسبقيتهم في حلبة

الشعر، بشار بن برد الأعمى شيخ المحدثين، وأحد مخضرمي شعراء الدولتين فإن هذا الشاعر يأبى إلا أن يكون شاعراً من أي الجهات نظرت إليه، فهو هو في الشعر ومحله فيه وتقدمه في طبقات المحدثين بإجماع الرواة ورآسته عليهم من غير اختلاف في ذلك محله وتقدمه ورآسته. وإذا نظرت إليه في أسلوب معيشته وجدته شاعراً، وتراه في مجونه ونوادره وغرائب أطواره شاعراً، نعم وتراه فتظنه الشعر مجسماً، ولا جرم فإنه ينمي إلى أصل آري وقد درج في مهد العربية وغذى بلبان البداوة وأخرج في خير العصور وأحفلها بالشعر والشعراء ونحن ذاكرون نهنا نتفا من شؤون هذا الشاعر العبقري تفكهة لقراء البيان. (أصله ومنشأه) أسلفنا أن بشاراً ينمي إلى أصل آري وذلك أن أباه برداً من فرس طخارستان (ولاية واسعة كبيرة من نواحي خراسان تشتمل على عدة بلدان) أصابه المهلب بن أبي صفرة (أحد أمراء الجيوش أزمان الدولة الأموية) في سبي فكان من نصيب زوجة المهلب فأقام برد في ضيعة لها بالبصرة مع عبيدها وإمائها ثم زوجته وأهدته لامرأة من بني عقيل كانت متصلة بها فولدت له امرأته وهو في ملكها بشاراً فأعتقته العقيلية فنشأ بشار عتيقاً لهم وربى في منازلهم ومنازل بني سدوس وصار يختلف إلى الإعراب الضاربين ببادية البصرة. (خُلقه وخلقه) كان بشاراً أكمه إذ ولد أعمى - قال الأصمعي كان بشار ضخماً عظيم الخلق والوجه مجدوراً آدم طويلاً جاحظ العينين قد تغشاهما لحم أحمر فكان أقبح الناس عمى وأفظعه منظراًَ - وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه وتنحنح وبصق من عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب. قال الأصمعي: وكان بشار من أشد الناس تبرماً بالناس وكان يقول الحمد لله الذي ذهب ببصري فقيل له ولم يا أبا معاذ فقال لئلا أرى ما أبغض. وكذلك العبقريون يبرمون بالناس ويبرم بهم الناس كما أبان عن ذلك صاحب كتاب حديث المائدة في كلمته النبوغ والعبقرية. (سر آخر من أسرار عبقريته)

قال الأصمعي: ولد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره فيأنى بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله فقيل له يوماً وقد أنشد قوله: كأن مثار النقع فوق رؤسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئاً فيها؟ فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه وتذكو قريحته ثم أنشد قوله: عميت جنينا والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موثلا وغاض ضياء العين للعلم رافدا ... بقلب إذا ما ضيع الناس حصلا وشعر كنور الأرض لامعت بينه ... بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا (آراء نقدة العرب فيه) قال الجاحظ: كان بشار خطيباً صاحب منثور ومزدوج وسجع ورسائل وهو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع المتفننين في الشعر القائلين في أكثر أجناسه وضروبه. وقال الأصمعي: قال بشار العشر وله عشر سنين فما بلغ الحلم إلا وهو مخشى معرة اللسان بالبصرة. قال: وكان بشار يقول: هجوت جريراً فاستغرني وأعرض عني ولو أجابني لكنت أشعر أهل زماني. وسئل الأصمعي عن بشار ومروان بن أبي حفصة أيهما أشعر فقال: بشار. فسئل عن سبب ذلك فقال لأن مروان سلك طريقاً كثر من يسلكه فلم يلحق بمن تقدمه وشكره فيه من كان في عصره. وبشار سلك طريقاًَ لم يسلك وأحسن فيه وتفرد به وهو أكثر تصرفاً وفنون شعر وأغزر وأوسع بديعاً، ومروان لم يتجاوز مذهب الأوائل وسمع الأصمعي مرة وقد عاد إلى البصرة من بغداد فسأله رجل عن مروان فقال وجدت أهل بغداد قد ختموا به الشعراء وبشار أحق أن يختموهم به من مروان. فقيل له ولم فقال: وكيف لا يكون ذلك وما كان مروان في حياة بشار يقول شعراً حتى يصلحه له بشار ويقومه وهذا سلم الخاسر أحد كبار الشعراء وهو تلميذ بشار، من طبقة مروان يزاحمه بين أيدي الخلفاء بالشعر (والخلفاء في ذلك الوقت هم هم علماً وأدباً وبصراً بمواضع النقد) ويساويه في الجوائز وسلم معترف

بأنه تبع لبشار - هذا رأي الأصمعي وقد طابقه على ذلك أكثر النقاد. (عقيدته ومذهبه) قال السيد المرتضى صاحب كتاب الأمالي أخو الشريف الرضى الشاعر وكما أنه في الجاهلية وقبل الإسلام وفي ابتدائه قوم يقولون بالدهر وينفون الصانع، وآخرون مشركون يعبدون غير خالقهم، ويستنزلون الرزق من غير رازقهم أخبر الله عنهم في كتابه وضرب لهم الأمثال وكرر عليهم البينات والأعلام، فقد نشأ بعد هؤلاء جماعة مم يتستر بإظهار الإسلام ويحقن بإظهار شعائره والدخول في جملة أهله زنادقة ملحدون وكفار مشركون، فمنعهم عز الإسلام عن المظاهرة، وألجأهم خوف القتل إلى المآثرة وبلية هؤلاء على الإسلام وأهله أعظم وأغلظ لأنهم يدغلون في الدين ويموهون على المستضعفين بجأش رابط ورأى جامع، فعل من قد آمن الوحشة، ووثق بالآنسة بما يظهره من لباس الدين الذي هو منه على الحقيقة عار، وبأثوابه غير متوار. كما حكى أن عبد الكريم بن أبي العوجاء قال: لما قبض عليه محمد بن سليمان وهو وإلى الكوفة من قبل المنصور وأحضره للقتل وأيقن بمفارقة الحياة - لئن قتلتموني لقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة - والمشهورون من هؤلاء الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، والحمادون (حماد الراوية، وحماد بن الزربرقان، وحماد عجرد) وعبد الله بن المقفع. وعبد الكريم بن أبي العوجاء. ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي. وصالح بن عبد القدوس الأزدي (الشاعر) وعلي بن خليل الشيباني وبشار بن برد وغير هؤلاء ممن لم نذكره. . . الخ. ثم بنين مذهب كل من هؤلاء إلى أن قال: فأما بشار بن برد فروى المازني قال: قال رجل لبشار أتاكل اللحم وهو مباين لديانتك (يذهب إلى أنه ثنوى) فقال بشار إن هذا اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة. . . قال المبرد ويروي أن بشاراً كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأي إبليس في الامتناع عن السجود وروى له: النار مشرقة والأرض مظلمة ... والنار معبودة مذ كانت النار وروى بعض أصحابه قال: كنت أكلم بشاراً وأرد عليه سوء مذهبه بميله إلى الإلحاد فكان يقول لا أعرف إلا ما عاينت أو عاينه معاين. فكان الكلام يطول بيننا. فقال: ما أظن الأمر يا أبا مخلد إلا كما يقال إنه خذلان ولذلك أقول:

طبعت على نما في غير مخير ... هواي ولو خيرت كنت المهذبا أريد فلا أعطي وأعطي فلم أرد ... وغيب عني أن أنال المغيبا وأصرف عن قصدي وعلمي مبصر ... وأمسى وما أعقبت إلا التعجبا وقال الجاحظ في البيان والتبيين. وكان بشار يدين بالرجعة ويكفر جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان صديقاً لواصل بن عطاء الغزال قبل أن يظهر مذاهبه المكروهة فلما أظهرها هتف به واصل فقام بذكره وتكفيره وقعد فقال بشار يهجوه: مالي أشايع غزالاً له عنق ... كنقنق الدو إن ولي وإن مثلا عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... تكفرون رجالاً أكفر وأرجلا فلما تتابع على واصل ما يشهد بالحاده قال عند ذلك: أما لهذا الأعمى الملحد، أما لهذا المشنف المكنى بأبي معاذ من يقتله، أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله على مضجعه أو في يوم حفلة ثم كان لا يتولى ذلك إلا عقيلي أو سدوسي - وكان واصل الثغ على الراء فكان يجتنبها في كلامه ألا ترى أنه عدل في هذه الكلمة من الضرير إلى الأعمى ومن الكافر إلى الملحد ومن المرعث إلى المشنف ومن بشار إلى أبي معاذ ومن الفراش إلى المضجع - قال السيد المرتضى وزاد قوم فقالوا ومن أرسلت إلى دست ومن يبقر إلى بيعج ومن داره إلى منزله ومن المغيرية إلى الغالية، والأول أشبه بأن يكون مقصوداً، وما ذكر ثانياً فقد يتفق استعماله من غير عدول عن استعمال الراء - وأنا أقول: وكذلك الأعمى والملحد قد يتفق استعمالها من غير عدول عن استعمال الراء، فأما قول واصل لا يتولى ذلك إلا عقيلي فلأن بشاراً كان مولى لهم كما علمت - وذكره بني سدوس لأن بشاراً كان ينزل فيهم، فأما بشار بالمرعث فقد قيل في ذلك ثلاثة أقوال أحدها أنه لقب بذلك لبيت قاله وهو: قال ريم مرعث ... ساحر الطرف والنظر لست والله نائلي ... قلت أو يغلب القدر أنت إن رمت وصلنا ... فانج هل تدرك القمر وقيل إنه كان لبؤشار ثوب له جيبان وارتان أي فتحتان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فكان إذا أراد لبسه يضمه عليه ضماً من غير أن يدخل رأسه فيه فشبه استرسال

الجيبين وتدليهما بالرعاث وهي القرطة فقيل المرعث، وقال أبو عبيدة إنما سمي المرعث لأنه كان يلبس في صباه رعاثاً. (ملحه ونوادره) دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي الخليفة العباسي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد - وكان فيه غفلة - فقال له يا شيخ ما صناعتك فقال أثقب اللؤلؤ فضحك المهدي ثم قال لبشار ويلك أتتنادر على خالي فقال له وما أصنع به؟ يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة شعراً ويسأله عن صناعته، وكان بشار جالساً في دار المهدي والناس ينتظرون الأذن فقال بعض موالي المهدي إن حضر ما عندكم في قول الله - وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر - فقال بشار النحل التي يعرفها الناس قال هيهات يا أبا معاذ النحل هم بنو هاشم وقوله يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس يعني العلم فقال له بشار أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم فقد أوسعتنا غثاثة فغضب وشتم بشاراً وبلغ المهدي الخبر فدعاهما فسألهما عن القصة فحدثه بشار به فضحك حتى أمسك على بطنه ثم قال للرجل أجل فجعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم فإنك بارد غث. ومر بشار بقاص في المدينة فسمعه يقول في قصصه من صام رجباً وشعبان ورمضان بني الله له قصراً في الجنة صحنه ألف فرسخ في مثلها وعلوه ألف فرسخ وكل باب من أبواب بيوته ومقاصره عشرة فراسخ في مثلها - فالتفت بشار إلى قائده فقال بئست والله الدار هذه في كانون الثاني (أي شهر طوبه أحد شهور الشتاء). ومر بشار برجل قد رمحته بغلة (ضربت به الأرض) وهو يقول الحمد لله شكراً فقال له بشار استزده يزدك - وم به قوم يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها فقال ما لهم مسرعين أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم - ورفع غلامه إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم فصاح به بشار وقال والله ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمي بشعرة دراهم، والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم - وحضر مرة باب محمد بن سليمان فقال له الحاجب اصبر فقال إن الصبر لا يكون إلا على بلية فقال له الحاجب إني أظن أن وراء قولك هذا شراً ولن

أتعرض له فقم وادخل - وقال له هلال بن عطية وكان له صديقاً يمازحه: إن الله لم يذهب بصر أحد غلا عوضه بشيء فما عوضك قال الطويل العريض قال وما هذا قال أن لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء ثم قال له يا هلال أتطيعني في نصيحة أخصك بها قال نعم إنك كنت تسرق الحمير زماناً ثم نبت وصرت رافضياً فعد إلى سرقة الحمير فهي والله خير لك من الرفض. حكى أبو دهمان الغلال قال: مررت ببشار يوماً وهو جالس على بابه وحده وليس معه خلق وبيده مخصرة يلعب بها وقدامه طبق في تفاح وأترج فلما رأيته وليس عند أحد تاقت نفسي إلى أن أسرق ما بين يديه فجئت قليلاً قليلاً وهو كاف حتى مددت يدي لأتناول منه فرفع القضيب فضرب به يدي ضربة كاد يكسرها فقلت قطع الله يدك يا ابن الفاعلة أنت الآن أعمى؟ فقال يا أحمق فأين الحس. ذاك ما وسعه هذا العدد وسنأتي في العدد القادم على كثير من نوادره وأحوالهن مع صواحبه وكيف كان يعيش وقطع من شعره إن شاء الله.

عالم العلم

عالم العلم الإنسانية الأولى بينما يزهى الإنسان المتحضر الحديث بآدابه وفلسفته وعلومه، وبينا هو يظن أن الأرض قد تبدلت بقوة ابتكاره وابتداعه غير الأرض، وأن الإنسانية قد دانت الكمال الاجتماعي، وبينا نحن نهرف بقوة المثل الأعلى، ونفخر بأننا ذللنا قوى الطبيعة وسخرنا لإرادتنا عناصر الكون، بينا كل هذا يجري في بقعة من الأرض، إذ بأقطار بعيدة المرامي والأنحاء لا تزال تعيش وتنمو في الظلام، ولا تزال تجري مع غرائزها الحيوانية المخيفة الرهيبة، تطلع عليهم الشمس اليوم وتغرب كما كانت تطلع عليهم وتغرب منذ أبعد عهود النشوء، وأنأى أدوار التكوين، كل ذلك ونحن لا نستطيع أن نحرمهم من مشاركتنا في لفظة الإنسانية ولا نخجل بعد ذلك من الإغراق في الزهو والعجب والخيلاء. حدث أحد قباطنة الإنكليز بعد سفرة طويلة إلى جزر الملانزيا الواقعة بين جزيرة غينيا الجديدة وبين جزر فيجي، غرب القارة الإسترالية، عما شاهد من غرائب الإنسانية المتوحشة، قال: إن أهل هذه الجزر يأكلون الآدميين، ويقطعون جماجمهم، ولا يزال الرجل منهم يعتقد أن من أوجب الواجبات عليه أن يأكل شخصاً عظيم الشأن، قوي الأسر حتى يكتسب من أكله القوة، ويجتني من التهامه الشدة والعظمة. وإذا اقتتلت طائفتان منهم، اجتهدت كل واحدة منها لتقتل زعيم القبيلة الأخرى فإذا ظفروا بجثته أقاموا عليها وليمة شائقة يقتسمون فيها لحمه بينهم، في فرح شديد كما لو كانوا يقتسمون بينهم ديكاً أو حملاً، وهم يعتقدون أنهم يأكل رجل قوي كهذا يكتسبون قوته وشدة مراسه، وهذه العقيدة الجائعة تجعل مقام الرجل الأبيض محفوفاً بأشد المكاره لأنهم يرون في البيض أقصى حدود الشجاعة والشدة والقوة. والفخر عندهم كل الفخر أن يعلق الرجل منهم على رأس كوخه العدد الأكبر من الجماجم الآدمية والهامز والحروب بين قبائلهم لا انقطاع لها، وهي نهاية في الوحشية والهول، حتى اعتاد بعض القبائل أن يبنى جزراً صناعية فوق الصخور في وسط النهار والبحيرات يأوى إليها خلق كثير من نسائهم وأطفالهم وشيوخهم، خلاصاً بهم من شر القبائل الأخرى المعادية لهم.

والخرافات شائعة بينهم، حتى لقد بلغ من تأثيرها عندهم أن الرجل قد يلقى في روعه أنه سيموت، فلا ينثني عن مكانه رافضاً الطعام والشراب، طالباً الموت حتى يدركه. ومنهم قبائل كثيرة تعتقد أن كل أسرة منهم يجب أن تظفر في العام برأس آدمي وإلا حاق بها الويل، ونزل بها العذاب، من مرض أو جراح أو جدب أو قحط أو موت، فإذا اصطاد أحدهم جمجمة رجل دفنها تحت أرض الكوخ الذي يقيم فيه، ووضع فوق مكان الحفرة ألواحاً يضع فيها نذراً للشياطين والأرواح الشريرة، فإذا فرغ من ذلك هجر الكوخ، منتظراً الفرج والتيسير، مرتقباً الخلاص من الأمراض والأخطار مؤملاً النجاح في صيده، والتوفيق في أمور معاشه. وهم يعدون الرجل الذي يفقد في هذا السعي جمجمته أنه قد جاء بعار لا يمحى، ووصمة لشرف الأسرة لا تزول، فلا يدفنونه بينهم، بل يقذفونه على رابية أو جبل بعيد عن القرية وأهلها، ثم يحفرون له حفرة في الأرض ويضعون رمحه فوق الحفرة إشارة إلى أنه قتل محارباً، ولا يحملونه إلى الحفرة على نعش بل فوق درغه يشدون بينها وبين عمود من الخشب بالحبال. والقبيلة التي يظفر أحد رجالها بالجمجمة تقيم حفلة عظيمة بينها، فيسيرون بالجمجمة صارخين فرحين مهللين، ثم يعدو كل إلى داره فيجيء بقطعة نظيفة من لحاء الشجر فيغمسها في دماء الجمجمة والعنق فإذا فرغ من ذلك أسرع إلى البيت فعلقها على باب داره، لأنهم يعتقدون أن ذلك يمنع الأمراض، ويحمي أهل الدار من انتقام أصحاب القتيل المقطوعة عنقه.

غرائب الأديان

غرائب الأديان لا تزال الهند مكثرة من كل شيء حتى من أديانها وعقائد سكانها ونحل أهليها، ومن أغرب ما أطلعنا عليه في كتب الأنتروبولوجيين من هذه الديانات ديانة أهل التودا ونحن هنا واصفون عجائب هذا الدين وغرائبه. إن التودا كما وصفهم الدكتور ريفرس أحد العلماء الأثريين المشهورين، هم قبيل صغير لا يزيد أفراده عن أفف نفس قد اعتزلوا ضوضاء العالم وصخبه، وانتبذوا لهم مكاناً قصيا في جبال النلجيري جنوب الهند حيث يعيشون عيشة السكون والهدوء والأمان على ضفاف جدول هناك من الجداول النابعة في تلك الجبال، وهم لا يعبدون الآلهة، ولا يعرفون لهم رباً من الأرباب، وإنما كل دينهم يدور حول عبادة الجاموس ولذلك يحرمون ألبانها على أنفسهم ويعتقدون أن أقسى أنواع الويل وأغلظ ضروب العذاب والدمار تنزل ولا ريب بالرجل الذي يجرأ على ارتكاب هذا الإثم العظيم، وليس لهم ثمة معبد سوى مربط الجاموس وقسيسهم اللبان الذي يحتلها، وينقسم هذا المربط إلى حجرتين، إحداهما مقدسة حرام والأخرى محللة مباحة، وفي الأولى يضعون الأواني غير المقدسة يعدونها لوضع ألبان الجاموس بعد احتلاب أخلافها ولتحويلها إلى الزبدة والجبن، وفي الحجرة الأخرى يضعون الأواني غير المقدسة وهي التي يعدونها لوضع هذه الزبدة والجبن بعد نقلها من الأواني المقدسة وتراهم يراعون الدقة المتناهية في نقلها، ويفردون لذلك آنية مخصوصة في الدهليز الموصل بين الحجرتين. وتراهم ينقلونها بين إشاراتهم ورموزهم وأدعيتهم، وتهليلاتهم وتكبيراتهم، فإذا فرغوا من أداء هذه الشعائر، أصبحت الزبدة والجبن حلالاً طيباً للآكلين!!.

عالم الحرب

عالم الحرب مذكرات سرية عن الإمبراطور غليوم وصيفة من وصائف الشرف لبثت زهاء عشرة أعوام في بلاط برلين تحدث العالم عما رأته من غرائب أخلاق غليوم وشواذ نوادره، وأسرار حياته، وبدائع عبقريته، وعجائب أموره - وهي حقائق ثابتة لا يشوبها شائبة من الكذب أو التلفيق أو الاختلاق، ولا يمازجها أثر من التخيل أو التوسع أو الأطناب. معاملة الإمبراطور لوزرائه - اعتباره إياهم كخدمته - حادثة المستشار الشيخ - إكراهه الوزراء على الحضور بلباسهم الرسمي قبيل الصبح - قراءة التقارير عليه - رأي خدم القصر في الوزارء - متاعب المستشار - إكراهه الوزراء على صنع ولائم له هو وحاشيته وأصدقائه. إن معاملة غليوم الثاني لوزرائه لمن أغرب ما ظهر من نفسية الملوك وأخلاق الإمبراطورة، فإن سواد الحكوميين الذين تقلدوا عنده مناصب الوزارة لم يلبثوا أن تركوها كما يترك الخادم بيوت مخدوميهم لاضطهاد سادتهم لهم وسوء معاملتهم إياهم، وذلك لأن الإمبراطور ينظر إليهم نظر السيد العظيم إلى خدمته الإغفال بل لا يقول عن خدمتهم جميعاً من المستشار إلى أصغر رجل في الوزارة إلا المساعدة غير المحنكة. حدث مرة أن الإمبراطور أمر مستشارة البرنس هوهنلوه أن يجيء إليه بتقاريره في الساعة السابعة صبحاً لكي يتلوها عليه في القطار، وكان غليوم مزمعاً سفراً غير بعيد، وكان ذلك في صميم الشتاء وزمهرير البرد، وكان البرنس شيخاً في الثامنة والسبعين، على أن ذلك لم يكن ليحول بين الإمبراطور وبين لذته، وكانت لذته أن يجلس في القطار إلى مائدة الفطور، مصغياً إلى قريبه الشيخ وهو يلقي عليه تقاريره عن مهام الإمبراطورية. فلما كان الإمبراطور في قاعة الانتظار في المحطة عند الموعد المضروب جاءه رئيس حرسه يقول إن الأميرة هوهنلوه قد حضرت إلى المحطة تريد رؤية الإمبراطور فلم يكن من غليوم إلا أن أسرع إلى لقائها، قائلاً وهو يمد إليها يده مصافحاً وعليه إمارات العجب ومظاهر الدهشة، الأميرة هوهنلوه!. . أترى مستشاري مريضاً!. فأجابت الأميرة وهي تبتسم، وكانت كذلك عجوزاً في السادسة والستين، لا. . بل نائماً!. .

قال الإمبراطور في لهجة المغضب أينام وقد أمره إمبراطوره أن يكون الساعة بجانبه. . إذ ذاك فارقت الأميرة تلك الابتسامة التي ظهرت على محياها ثم قالت عجباً يا بن الأخ! أنسيت الشرط التي أخذناها عليك في خدمته لك، إن أول هذه الشروط أن يحسب لسنه ومقامه حساب، إن أمراً كهذا يدعوه وهو رجل في الثامنة والسبعين إلى الحضور إلى المحطة، لفي مثل هذا الوقت المبكر الصعب، وفي هذا القر القاتل، والبرد المهلك، ليس ولا ريب من تلك الشروط في شيء، ولذلك لا غرو إذا تبادر إلى أن جلالتك تعني بذلك أن يكون التقرير لديك في القطار، ولذلك جئتك الآن به، فهل تراني أخطأت؟. وماذا ترى الإمبراطور كان يصنع في هذه الحال إلا أن يتظاهر بالرضا والموافقة ولذلك أجاب إني عالم أنك يا عمتي رقيقة القلب، ولكن هذه الأمور كما ترين خارجة عن العادة المتبعة، ولا بد من النظام كما تعلمين. . . وفي صميم الشتاء يجب أن يكون الوزراء جميعاً بين يديه أو على مقربة منه من الساعة السادسة صباحاً حتى منتصف الليل، وفي الصيف يدعوهم إلى الحضور في منتصف الخامسة من الفجر، ولذلك يضطر الوزير إلى أن يستيقظ من نومه قبل أن ينبثق الصبح، إن كان محتماً عليه أن يكون في لباسه الرسمي وردائه المذهب المحلى بأوسمته وشرائطه الحريرية وأن ينتعل حذاءه الدقيق ويشد إلى نطاقه سيفه وحمائله، والتجمل بهذه كلها يستغرق ولا ريب وقتاً ليس بالقصير. وإذا لم يطلبهم في هذا الموعد كان ذلك أسوأ عليهم وأشد قسوة، لأنهم لا يأمنون أن يبغتوا ليلاً أو نهاراً باستدعاء منه وهم في حلقة الأسرة بين أزواجهم وأبنائهم وصحبهم وندمانهم وهم لا يستطيعون أن يدعوا ملكية ساعة واحدة من ساعات النهار، لأنهم يعلمون أن التقارير الدائرة حول أمهات المسائل السياسية ليست عند غليوم إلا كأطباق الحلوى، يجب أن تلتهم بين فترات اللذة وفسحات اللهو والمراح، ومن ثم يبعث في طلب رجاله في أية ساعة كانت، كما شاءت لذته وشاء سروره، حتى أن نصف تقارير الوزراء يتلى عليه في حجرات القطارات أو في قاعات الانتظار في المحطات، وأما النصف الآخر فيقرأ عليه في مركبته أو سيارته. وترى خدم القصر يقولون إن الوزير الراغب في عمله ينبغي أن لا تفارق إذنه مسمعة

التليفون ولا تثني عينه عن ساعة الحائط، ولا ترتد عينه الأخرى عن كتاب الدليل. وقد يحدث في أغلب الأحيان أن يذهب الوزراء كلهم أو بعضهم إلى القصر على إثر دعوة من الإمبراطور، بصحبهم وكلاؤهم أو كتابهم بمحافظهم وأوراقهم وتقاريرهم فيخبرهم رئيس القصر أن الإمبراطور قد غير نيته، وخرج يطلب الصيد، ولعله لا يعود بعد ساعات، ومن ثم لا يجد الوزراء في وسعهم إلا أن يعودوا أدراجهم إلى بيوتهم، وربما بعث الإمبراطور في طلبهم بعد ذلك وما كادوا يستقرون في منازلهم. على أن أشد ما ينال المستشار أو الوزير أن يكون في دار التمثيل مع الإمبراطور فيدعوه، والليل كاد ينتصف، أن يصحبه إلى القطار ليقرأ عليه تقريراً أو يلقي عليه اقتراحاً أو يدلي إليه برأي، وفي مثل هذه الحال ترى المستشار يأخذ لفي القول ويمعن في الحديث، هذا والإمبراطور يتثاءب في رفق، بين فترات الوقت، وقد أخذ الكرى عينيه. فإذا وقف القطار بالمحطة التي يريدها أفاق الإمبراطور من نعاسه فمسح عينيه وهو يقول إني مقتنع باقتراحك هذا، فعليك أن تنفذه كما ترى وقد يقول إذا كان ضيق الصدر اترك تقريرك لدى الكاتب حتى أفحصه. . . عم مساء. .!. يقول ذلك وهو يخطو مسرعاً نحو المركبة، بينا يعود الوزير إلى قاعة الانتظار، وقد يمكث ساعة أو ساعتين حتى يقله القطار الأخير إلى وجهته. وقد يتفق كثيراً أن يدعو الإمبراطور نفسه إلى العشاء على مائدة أحد الوزراء تاركاً للوزير متاعب الاستعداد للقائه، وآلام التجهز للاحتفاء به، بل قد يقول له إنه قد أمر فلاناً وفلاناً من أصدقائه ورجاله إلى مصاحبته إلى هذه الوليمة الإجبارية. اقرأ في العدد القادم قطعاً أخرى مختارة من هذه المذكرات

الميت الحي

الميت الحي سارة برنار وفرانسوا جوزيف سارة برنار هي الممثلة الذائعة الصيت في كل نواحي الدنيا وأطرافها، قل ما تدانيها ممثلة في براعة التمثيل وحذقه وإتقان حركاته، بلغ من ولعها بصناعتها أن مكثت نحواً من عامين في أحد مستشفيات السل لكي تدرس طبائع المسلولين وأخلاقهم وعوارض علتهم، حتى تقوم بدور المسلولة في إحدى الروايات التمثيلية، وقد أملى عليها الحقد الوطني والغيرة الفرنسوية بضعة كلمات في فرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا عدت من أبدع ما جاء من الأدب الفرنسي في هذه الأيام، وقد رأينا أن نقتطع منها قطعة صغيرة لنفاسة أسلوبها وغرابة موضوعها: سارة برنار لما قتلت زوجة الميت الحي في جنيف، ذلك البلد السويسري الجميل، لم ينزعج الشيخ، ولا راع المصاب فؤاده، بل أسرع رجال حاشيته فاحتلوا حجراتها في المنزل الذي قتلت فيه، وجعلوا هم وصحبهم ونداماهم يتعاطون الشراب، ويعاقرون الكؤوس، وقد امتلأت بهم الدار واختنق النزل وهم يصرخون ويطربون ماجنين مازحين. وكنت نازلة بحجرة فوق حجرات الإمبراطورة، فلما سمعت صراخهم وضحكاتهم نزلت درج السلم أريد أن أكلم وصيفة من وصيفاتها، فلم ألبث غير قليل حتى أقبلت على أحداهن في بكاء ودموع. قلت أليس فيكم رجل رشيد يبعث بالنبأ إلى الإمبراطور بوجوه أن يطلب إلى صاحب الفندق أن يطرد هؤلاء السكارى الماجنين على أن يجيزه جائزة طيبة، إن هذا المجون، وهذا الضحك، وتلك الدعامات لهي استخفف منكر لا أكاد أمسك على دموي من فظاعته. فمدت إلى يدها ثم قالت وصوتها يتهدج من أثر النحيب أنت على حق في الذي تجدين، إن أحد ضباط الإمبراطورة قد طير النبأ إلى الإمبراطورة، ونحن للرد مرتقبون. على أن فرنسوا الغني المتمول، المزهو العظيم، إمبراطور النمسا وملك المجر، رأى بعد طول ابحث أن عملاً كهذا قليل الجدوى طفيف الفائدة، وأنه كذلك كثير النفقات، عظيم الثمن، وكذلك ظلت جثة زوجته الناعمة الحسناء في صندوقها، عند النزل، تنتظر مقدم

مركبة الموتى الإمبراطورية!!.

الرقص الحربي في روسيا

الرقص الحربي في روسيا اشتهر روسيا بأنها أخرجت في السنين الأخيرة أبدع الروائيين وأبدع الممثلات وأبدع المغنيات وأبدع الراقصات، فلا عجب في هذه الأوقات العصيبة، والظروف الحرجة أن تنتقل الروح الحربية عندهم إلى المسرح، ولا غرو أن يكون الرقص وهو أكثر الفنون إظهاراً للعواطف والوجدانات، أول فن يظهر لنا روح هذه الحرب الكبرى. وقد أقيم هذه الأيام معرض للرقص الرمزي في بلاد الروس فأظهر اثنان من أشهر أساطين الرقص من الروس كيف يستطيعان أن يعرضا على أذهان الجمهور صوراً مؤثرة مما يحدث في ساحة الحرب وميدانها. ونعني بالراقصين مسيو فوكين والمادموازل فوكينا، فهما بما يعرضان من صور الهازمين والمهزومين، والقتلى والجرحى، يقومان مقام أكبر المجلات التصويرية عن الحرب، ومن بين ضروب الصور الحربية التي يصورانها برقصهما الجديد، دنو العدو والنضال المستميت بين الجند، وإنقاذ الجرحى، وأسر الأسرى، وهزيمة المهزوم، ولكي لا يتبادر لذهن القراء أن رقصاً تصويرياًَ كهذا لحرب هائلة مخوفة كهذه قد يظهر مظهراً بارداً، لا سمة للحرارة والاضطراب والاهتياج فيه: نقول إن الخفة المتوحشة والجنون في الحركات، والبراعة في التصوير، التي يضعها الراقصان في أثناء رقصهما المحدث يترك المشاهد مضطرب المشاعر حار الفؤاد ثائر الوجدان، وليس هناك منظر أروع ولا مشهد أهول من منظر الهدوء الذي يبديه فوكين وهو يصور مشي الجندي القوي لأسر إلى قتال الجندي الهشيم الضعيف، وهو الذي تقوم بتصويره مدموازيل فوكينا ولذلك يقبض على رأسها بين يديه ويرميها على ظهرها ثم لا يزال يلوى نصفها الأعلى ويبسطه، تصويراً للقتال العنيف المهلك بين القوي والضعيف، كما ترى من الصورة الأولى، وأما الصورة الثانية فتمثل الفتاة الراقصة وهي تصور إسعاف الجرحى وإعانة القتلى، مستعينة في رقصها بإبريق من الماء تحمله في إحدى يديها، وبطاس تحمله في الأخرى. ثم ترى في الحركة الثالثة كيف يسقط المهزوم السقطة الأخيرة التي لا نهضة له منها وأما عن روعة هذا الرقص التصويري وهوله والجنون الذي يبدو في حركات الراقصين فيعجز عن وصفه قلم الواصف. وقد عد أهل الفن في الغرب هذا الابتكار في الرقص معجزة لا تباري، وأخذوا في

الإسهاب في مديح الراقصين.

رجال الحرب

رجال الحرب اللورد روبرتس قضى في خلال الشهر المنصرم رجل من أساطين الحربيين عند الإنكليز، وهو شيخ في الثانية والثمانين، وقد أبت الأقدار إلا أن يقضي نحبه في زمان الحرب، وأيام القتال، بعد أن عاش هذا الدهر الأطول بين المعارك والملاحم، وقطع هذا العمر المتقادم بين السيوف واللهاذم، فكأنما قد مات كما يريد. ولد في الهند، ونال شهرته الخالدة من ثوراتها وحروبها، كان أول خروجه إلى نور العالم في مدينة كوبنهور في شهر سبتمبر عام 1832، فلم يكد يبلغ الحول الأول حتى بعثوا به إلى إنكلترا موطنه، فلما شب عن الكوق دفعوا به إلى كلية إيتون يتلقى فيها العلم. ونشبت الثورة الهندية عام 1857، فكان روبرتس في الهند برتبة الملازم وهناك كان أول مرة خرج فيها من بين مخالب الموت حياً، وذلك انه في حصار مدينة دلهي أصيب برصاصة في سلسلة ظهره الفقارية ولكن هذه الرصاصة اصطدمت بكيس كثيف من الجلد كان معلقاً فوق ظهره فنجا، وتلقاه هناك أحد الثوار وهو فوق صهوة جواده برصاصة من مسدسه، فنكص الجواد واثباً طافراً، فلم تصبه الرصاصة بل نفذت إلى رأس جواده، وصوبوا إليه يوماً فوهة مسدس، فلم تخرج القذيفة وفسد المسدس!. وقد امتاز في قيادة الجيوش بسرعة الزحف، حتى أنه سار بجيشه في الحرب مع الأفغان ثلاثمائة وعشرين ميلاً في إحدى وعشرين ساعة. وكان أول ما رفع إلى مراتب النبل عام 1882، إذ أعطي لقب البارون، وكان إذ ذاك حاكم ناتال ورئيس القواد في جنوب أفريقيا. وقد رزئ عام 1899 بوفاة ابنه الوحيد، قتل وهو يحاول إنقاذ المدافع في موقعة كولنسو. وقد كان هذا الرجل حتى أخريات أيامه مثال الخفة والنشاط، ينهض من نومه الساعة السادسة، فيروض نفسه بعض الترويض قبل أن يتناول طعام فطوره، فإذا كان منتصف العاشرة جلس إلى مكتبه يراسل أصدقاءه ويرد على الرسائل التي وردت إليه مع البريد، ويظل كذلك حتى الظهر، ويقضي الأصيل أما ماشياً أو راكباً أو متنزهاً في سيارته، ويتناول عشاءه في منتصف التاسعة، فإذا جاءت العاشرة كان في سريره.

ولم يذق اللورد روبرتس في حياته الخمر، ولا شرب التبغ، وكان يرأس في بعض الأحيان مجتمعات منع المسكرات في الجيش، ولكن أكبر دليل على رجاحة عقل هذا الشيخ وحسن تبصره أنه لم يحاول يوماً أن يقهر الجند على أن يمتنعوا عن الشراب جملة واحدة. وكان يحب الأطفال ويبتهج بمداعبتهم، ويسر برؤيتهم، وقد حدث ذات مرة، يوم كان في الهند، إن رأى طفلة في الحول الثاني من عمرها في أحد حوانيت المدينة وكان في زورة إلى أحد الأسواق العمومية، فما كان منه إلا أن حملها وجعل يلاطفها ويناغيها، ثم مشى بها متظاهراً بأنه سيأخذها معه، فلم يكن من أم الطفلة إلا أن عدت نحوه فانفضت عليه انقضاض النمرة المغضبة، والتقطت الطفلة منه، وجعلت توسعه سبا وتقريعاً وانتهاراً باللغة الهندية، وطردت هذا البطل المغوار من حانوتها، ولذلك كان يقول اللورد كلما قص القصة على الناس وكانت هذه هي الهزيمة الوحيدة التي لقيتها في الهند!. فون بتمان هولوج المستشار الفيلسوف تعاقب على ألمانيا الإمبراطورية خمسة مستشارون - هم بسمارك الأوحد الفرد وكان سياسياً، وكبريفي وكان جندياً، وهو هنلوه وكان بلاطياً وبيلوف وكان مفوضاً دولياً، وبتمان هولوج، مستشار اليوم، وهو مثال الفيلسوف!. صعد هذا الأستاذ ذروة المستشارية منذ عام 1909 فلم يخلع عنه ثوب الفلسفة ليرتدي ثوب السياسة، ولم يجر لقب المستشار في أخلاقه على لقب الفيلسوف، ولكن ذلك لم ينزل الأستاذ عن مقعده ولم يحرمه من دسته، لأن غليوم الثاني، كما قال بسمارك في مذكراته: إن هذا الفتى الشاب سيكون مستشار نفسه ولأن القوانين الأساسية لا تجعل المستشارين مسئولين أمام البرلمان وإنما أمام الإمبراطور، وكفى أن الإمبراطور راض بالمستشار الفيلسوف، مغتبط بقربه، مبتهج بآرائه الفلسفية أكثر من ابتهاجه بآرائه السياسية، وقد خسرت ألمانيا عالماً عظيماً وأستاذاً كبيراً من يوم انتقل بتمان هولوج إلى حلبة السياسة. وكان يقولون عنه قبل المنصب أنه مثال الفلسفة النظرية السديدة فلما رفع إلى مقعد المستشارية هتفوا له صائحين هذا هو رجل الإمبراطور - يريدون أنه الرجل الفذ الذي سيسر غليوم - إذ كان تلميذين معافى فرقة واحدة في جامعة بون وإن الروابط القلبية التي

يحفظها الإمبراطور لزملائه في المدرسة جعلت بتمام ابدا عند ذاكرته قريباً من خاطره، وكان قبل ذلك وكيل المستشار السابق البرنس فون بيلوف ولذلك كان مرشحاً بحق للمنصب مهيئاً له. وقد قطع هذا المستشار الأستاذ حياة حكومية طيبة، خطاب استحقاق خطواته إلى الرئاسة ودلف إليها عن جدارة وإن لم يكن قد أظهر في السياسة شخصية قوية. وكذلك شأن الفيلسوف إذا أريد على عمل ليس منه ولا هو منه. وهو مثال الرجل العملي الصامت المتواضع، لا يعرض نفسه أمام أنظار الجمهور ولا يظهر نفسه للشعب ولا عمله، اشتهر في الوظائف التي تقلدها بأداء واجباته والتوفر على عمله في سكون وهدوء ولم تشتهر خطبه في الريشستاغ ومجلس الأشراف بشيء غير الصراحة والصدق والبيان، وما عهد عليه يوماً أنه يريد إثارة الشعب أو اهتياج الرأي العام، بل عرفت الحكومة فيه الأمانة والمحافظة والإخلاص وهذه الصفات كانت خير عوض للأمة الألمانية عن البرنس فون بيلوف سلفه. وليس لبثمان هولوج مكان يذكر في السياسة الخارجية والمفاوضات الدولية حتى اضطر الإمبراطور في السنة الأولى من تعيينه إلى تفويض زمام المسائل الخارجية إلى رجل غيره، وكل مهارته تدور حول المسائل الداخلية، حتى لا يدانيه فيها رجل في ألمانيا طولها وعرضها. ولد المستشار في مقاطعة براندنبرج، عند قرية هناك لا تبعد عن برلين بأكثر من بضعة أميال، وقد ظفرت أسرته عام 1840 بلقب الشرف، وهي عشيرة كبيرة اشتهرت منذ نشأتها بالتجارة والاشتغال بالثروة والمال، حتى نبه اسمها وعظم صيتها قبل هذا العهد الروتشيلدي، وكانت منذ أول أمرها تتألف من فرعين بتمام وهولوج فاتحدت على ممر السنين بالتلاقح والزواج. وهو اليوم في السابعة والخمسين، دخل وظائف الحكومة منذ عام 1885 وهي السنة التي ترك فيها الجامعة، وأتم البحث والدرس، بدأ عمله في الحكومة نائب قاض ولكن الذكرى الحلوة التي يحملها الإمبراطور لصديقه في المدرسة، وقرينه في الجامعة، جعلت الإمبراطور يرفعه في سنة 1899 إلى منصب سني وهو رئيس حكومة (بومبرج) على أنه

لم يلبث فيه غير ثلاثة أشهر حتى صعد إلى منصب رئيس حكومة مقاطعة برادنبرج كلها، وجعل داره في بوتسدام، حيث عاد الأستاذ إلى التنعم بقرب صديقه الإمبراطور والتمتع بحلاوة صحبة زميله القديم وخذنه الجليل، وليست رياسة حكومة براندنبرج في ألمانيا إلا الخطوة الأخيرة إلى مقاعد الوزارة البروسية، ولذلك ما كادت تأتي سنة 1905 حتى انتقل فون بتمان إلى مقعد وزير الداخلية البروسية، ومضى عامان فأصبح وزير الداخلية الإمبراطورية كلها، وأضاف على هذا المنصب لقب وكيل المستشار الإمبراطوري. وقد حمل هذا الحكومي الفيلسوف إلى جميع هذه المناصب التي تنقل بينها، مزايا الفيلسوف، وخصال الأديب المفكر، ونهي الغيرة الحادة، والاجتهاد المستمر، والتواضع الفلسفي الجميل. وهو عدو الاشتراكية الألمانية اللدود، يصارحها بالعداوة ويكاشفها بالاضطهاد ولم تكن الاشتراكية إلا العدو الأزرق للحكومات الألمانية كلها، وهو من أشد المحافظين الراضين بالأنظمة السياسية الحاضرة في ألمانيا وعدو الدعاة إلى حكومة نيابية تامة وأنظمة ديمقراطية بحته كاملة حتى ليقولون أنه لن تقام هذه الحكومة المرجوة إلا إذا أصبحت طرق برلين أنهاراً قانية تجري بدماء العمال والصناع والفقراء والعامة وفي تلك الساعة الرهيبة، يقف التاريخ فيحكم حكمه الأخير في المستشار الفيلسوف.

جواسيس الألمان

جواسيس الألمان كان نصف أعمال الألمان قبل وقوع هذه الحرب يقوم على التجسس، وينهض على استراق أسرار الأقران والأعداء، وقد بثوا عيونهم وأرصادهم في كل نواحي الدنيا وبلادها، فما تركوا بلداً يظنونه سيثور في وجوههم إذا وقعت الواقعة إلا ملؤوه بعيونهم. وقد قام المستر ويليم لوكيه، وهو رجل من كبار كتَّاب الإنكليز وعلم من أعلام روائييهم، فوضع في خلال هذه الحرب كتاباً ممتعاً في أسلوب قصصي، أسماه جواسيس الإمبراطور وهو مجموعة فصول شائقة مدهشة، تنطوي كلها على حقائق غريبة ثابتة، لا يشوبها للريب شائبة، تدل على صحتها تقارير هائلة ضبطها الكاتب في تجسسه على الجاسوسية الألمانية، ومصورات يدوية عن المواقع والأماكن والحصون والبلاد والشواطئ الإنكليزية التي كان الجواسيس يدأبون هذه السنين على تصويرها وأنباء ديوان الحرب في ألمانيا عن دقائقها وعظائمها، وقد دفع بهذه التقارير وتلك المصورات والأسرار إلى نظارة الحربية الإنجليزية ليرى رأيها ويقف على نيتها، فردت إليه أوراقه دون تعليق، عالمه بصدقها، موقنة بخطورتها، ثم طلبت إليه أن يضعها في أسلوب روائي حتى تكون ألطف أثراً، وأبدع سرداً. وقد وضع الكتاب على لسان صديقين من الإنكليز أخذا على عاتقيهما كشف أعمال الجواسيس الألمان في البلاد الإنكليزية ونحن ناقلون هنا فصلاً بديعاً عن محاولتهم سرقة أسرار المدافع الجديدة. سرقة المدافع الجديدة كنت أنا وصديقي راي في مدينة نيوكاسل على نهر التاين وقد حرضتنا بعض أبحاث قمنا بها على الاعتقاد بأن الجواسيس الألمان قد نزلوا بهذه المدينة يسعون سعياً متواصلاً في سرقة أسرار نوع جديد من المدافع، عظيم القوة، ضخم الحجم، كان يصنع إذ ذاك في معامل الأسلحة ببلدة السويك. وقد كنا نازلين بفندق المحطة، فبدأنا منذ يوم مقدمنا نقوم ببعض التحريات والاكتشافات، ومن بين الأمور التي وقعنا عليها وجود ناد سري يقيمه الألمان هناك فجعلنا منذ ذلك الحين نرصده عن كثب ونسهر على مراقبة أفراده.

ولا ريب في أن ليس هناك عامل إنجليزي يرضى عن طيب خاطر أن يخرج عن سر من أسرار مصنعه إلى حكومة أجنبية، ولذلك لم يخالجنا الريب ولم يحك في صدورنا أن يكون بين عمال مصانع الأسلحة بالسويك من يقرف بالخيانة ويتهم بالغدر، وكان بين أعضاء هذا النادي الألماني - وإن كان بينهم كثيرون من السويسريين والبلجيكيين - رجل متوسط السن، يدعى بينهم جون باركر ولكننا استخلصنا بعد البحث أنه إما أن يكون ألمانياً وإما سويدياً، ثم علمنا أنه يشتغل كاتباً في إدارة شركة كبرى من شركات السفن في نيوكاسل، وكان التصوير ملهاته الوحيدة، يلتف حولنه جمع من الأصدقاء والأصحاب، بينهم عامل من رؤساء عمال المصنع، يدعى شارلز روسر، عرف بالإخلاص في العمل، والدؤوب عليه. فجعلنا نراقب الرجلين عن كثب، وقد قامت الريبة في خاطرنا. وكان روسر يقضي الليل مع صديقه باركر في دور التمثيل أو في المراقص وحلقات الموسيقى، وظهر لنا أن باركر كان يدفع عن صاحبه ثمن كل شيء، ويذهب إليه في بيته، ويصرف المساء مع زوجته وأسرته. وكنا نتناوب على المراقبة، ففي ذات ليلة دخل على صديقي راي، وأنا في النزل وكان عائداً من أثر الرجل، فقال إن باركر يجض صديقه على شراء بيت جديد، يبلغ ثمنه ثلاثمائة وخمسين جنيهاً، وهو بيت أنيق جميل، حديث العهد بالبنائين. قلت (ثم ماذا؟). قال (لقد تسمعت الليلة عليهم فأخذ سمعي بعض الحديث سمعت باركر يعرض على صديقه أن يقرضه نصف هذا المبلغ). فصحت قائلاً (تحت شروط، أليس كذلك؟). فأجابني (لم تذكر الشروط، ولكن لا ريب في أن باركر يريد أن يوقع المسكين في الأحبولة. لكي يضطره إلى أن يبض له ببعض الأسرار والمعلومات، حتى ينقذه وأسرته من شر الفاقة وويل الحاجة، اذكر أن الجواسيس الألمان لا يترددون عن شيء ولا يحجمون). قلت، نعم ذلك أمر واضح، علينا أن نحمي روسر المسكين من شراك الرجل، وهل ثمة

شك في أنه يحتال على هذا الساذج ويظهر له بمظهر المخلص ذي المروءة الكريم، إن روسر لا يعلم أن صديقه الجواد الندي الكف ليس إلا جاسوساً). فتبعته يوماً بعد الأصيل إلى فم التاين حيث كانت ملهاته تصوير السفن الداخلة فم النهر والخارجة منه، وقد قضى جزءاً من ذلك الأصيل وجل اليوم التالي في استعراض حول (خزان المياه) ثم عاد بعد ذلك إلى فم التاين فرسم الحصن الواقع هناك عدة صور من عدة جهات، وكذلك الخط الحديدي والنفق، والسفن الماخرة والميناء، والأفاريز والمرساة، وكان يبدو عليه أنه يصور أدق الصور الفتوغرافية للبلد كله، وكان يحمل معه مذكرة يكتب فيها ملاحظاته، يفعل كل ذلك جهرة على مشهد من السابلة، وعلى مرأى من الشرطة، إذ من ذا الذي يفكر في وجود الجواسيس الألمان في هذه البلدة النائية؟. فلما كان المساء عرج على فندق المحطة، فخلع عنه معطفه وعلقه في البهو ثم ذهب إلى حجرة القهوة ليأمر بإعداد الشاي له. وكنت قد تبعته إلى الفندق، ولكنني لم أعج على حجرة القهوة مثله، بل ذهبت إلى حجرة التدخين، وهناك طلبت شراباً حتى إذا جرعته عدت إلى الموضع الذي علق عنده معطفه. هناك دسست يدي في خفية ورفق إلي جيب صدره، فوقعت على بعض أوراق وفي أقل من لحظة واحدة قبضت عليها فنقلتها على حبيبي، ثم دخلت في معطفي في هدوء وابتهاج، ورحت أمشي الهوينا إلى المحطة. ولحسن الحظ كان القطار يهم بالرحيل إلى نيوكاسل فما ونيت إن وثبت إليه، فلما بعد بنا عن البلدة أخرجت الأوراق في لهفة وشوق أريد أن أفحصها، فوجدت من بينها صورة بسيطة عن خزان المياه في البلد وكيف يمكن حبس هذه المياه عنها، وخطاباً خصوصياً من رجل من رجال العمل: وهو من الأهمية بمكان وإليك نصه: عزيزي جون - مع هذا الكتاب الفائدة أقدمها لك سلفاً - أربع ورقات من قيمة الخمسة جنيهات، فخذ في عملك كما كنت، واستعلم عن الأوامر كل ما أمكنك. إنه ليسرني أن أقول أن العمل لا ينقصه الآن إلا القليل، ونؤمل أن يكون نصيبك من الأرباح في السنة القادمة مضاعفاً، وأنت واثق من هذا ولا ريب - اكتب لنا كثيراً، وأخبرنا عن أعمالك، فإننا أبداً مهتمون بصالحك، ليس من الحكمة منك أن ترتاب في

شارلزني طالما رأيت منه رجلاً يستطيع الإنسان أن يضع عنده كل ثقته، وهو على ما أظن يسكن داراً في قرية فم التاين. كلهم اليوم في خير، ولكن الربيع في لندن مرهق معنت، على أننا مرتقبون جواً أدفأ - زوجتي وأولادي لاسيما الصغير شارلز وفردريك وشارلوت يرسلون إليك تحياتهم - ابن عمك الودود - هنري لويس. هذا الخطاب وإن كان بسيطاً في مظهره إلا أنه يحوي بعض تعليمات هامة للجاسوس وفوق ذلك مرتبه الشهري وهو عشرون جنيهاً. وإذا قرئ بالتعليمات الحرفية والإشارات المعروفة بين الجواسيس الألمان كان نصه كما يأتي: أرسل لك مرتبك الشهري - إن المعلومات التي بعثتها في خلال الشهر الماضي كانت سارة كافية - إن عملك على العموم يبعث على الرضى وإذا استمر كذلك زدنا في مرتبك - كف عن هرفك بشارلز - اهتم بنقط الدفاع في قرية فم التاين - أنت تعرف أن الرئيس (هو الذي يقابل الربيع في الرسالة) من الصعب إرضاؤه، لأنه في تفتيشه الأخير زاد في عملنا - ابق على محاولاتك ومفاوضاتك مع الثلاثة - (يريد العامل روسر) وشارلوت وفردريك (من العمال أيضاً) حتى تأتيك أوامرنا - لك أن تعرض عليهم مالاً إذا دعت الحال. فترى من ذلك أن أي إنسان يقع في يديه هذه الرسالة الآتية من هنري لويس لا يستطيع أن يتبين لنفسه معانيها الحقيقية. إن هذا الاسم المصطنع أي لويس كما علمنا بعد ذلك واكتشفنا، يقيم في مكتب صغير بأحد شوارع لندن، تحت اسم وكيل أشغال ولكنه في الحقيقة زعيم الجواسيس التي تشتغل بين نهري الهامبر والتاين. وهؤلاء الزعماء يزورون عمالهم - وهم الذين يقومون وحدهم بصناعة الجاسوسية - تحت ستار سياح تجار إذا كان العميل رب حانوت، فإذا لم يكن كذلك قدموا أنفسهم كوكلاء شركات التأمين أو من رجال المزاد أو من سماسرة البيوت. فلما رجعت عرضت على صديقي راي الكنز الذي اكتشفت، فما وقع بصره عليه حتى اضطرب وصاح قائلاً: إن الرجل جاسوس مقيم هنا في نيوكاسل ولا ريب فعلينا أن نبعد

في مراقبته. وكذلك فعلنا. كان الجاسوس روسر لا يفترقان لحظة ولا ينفصلان، يلتقيان كل مساء، وكثيراً ما كانت أسرة روسر تذهب إلى مشاهدة التمثيل أو الرقص على نفقة باركر، وكان لا يجعل للمسكين سبيلاً إلى إنفاق شيء. وقد ظهر لنا بعد استعلامات دقيقة أن روسر هذا من أمهر عمال المصنع وأحذقهم وأعلمنهم بصناعة المدافع، وقد بلغ من ثقتهم به أن ألقوا إليه مقاليد إتمام المدفع الجديد الذي سيكون فخر البحرية الإنكليزية، لا تدانيه منسوجات كروب، ولا يضارعه أحدث ما خرج من المدافع إلى ميدان الحرب. حدث ذات ليلة إن كان الرجلان في أحد القهوات العمومية بالمدينة، وقد استرقت السمع إليهما فعلمت من مجرى الحديث أن باركر قد أقرض صديقه مائة وخمسة وسبعين جنيها، وإن عقد شراء البيت الجديد سيكتب في اليوم التالي، وكان روسر تلك الليلة مطنباً في شكر باركر مسهباً في الثناء عليه، وظهر لي كذلك أن نصف المبلغ الآخر سيدفع مؤخراً وسيلقى على باركر نفسه. وكان الرجلان يتقارعان الكؤوس، وكان واضحاً من أمر روسر أنه لا يعلم شيئاً من أمر الهوة السحيقة الفاغرة فاها تريد أن تبتلعه، وفي الناس كثيرون لا يعرفون الريب ولا يخطر لهم الاتهام، ولا تقع لهم الاسترابة، ولعل العامل الإنكليزي أول هؤلاء. فلما عرضت ما سمعت على راي وتشاورنا بيننا عما نحن صانعون، قر رأينا على أن الوقت قد حان للاقتراب من روسر وإظهار سر صديقه الجواد له. وتبين لنا أن باركر قد يريد الرجل بسلطان كرمه وبقوة تأثيره على أن يستخلص له رسماً للمدفع الحديث أو شيئاً عن أوصافه ومزاياه وأسرار صناعته، ويفهمه أنه إذا لم يفعل، نزل به الدمار، وتولاه الفقر والخراب، وتحققنا أن روسر وإن كان عاملاً أميناً يعيش من أجوره الأسبوعية، وليس له ما يقيم أود زوجته وأولاده ويرفعهم من وهدة الخصاصة، وأنت تعلم أن الوجدانات الوطنية ليست من الصعب نسيانها أو التغلب عليها إذا رأى الرجل زوجته وأسرته في خطر من الجوع.

فلما كان مساء اليوم التالي تبعنا روسر بعد خروجه من المصنع فطرقنا باب بيته النظيف الحقير. فلم يكن منه بادئ الأمر إلا أن انتهر فضولنا وغضب أشد الغضب إذ قلنا له إنه على وشك أن يكون آلة في أيدي جواسيس الإمبراطور، ولكنه لم رأى الخطاب الذي شرحناه آنفاً وصورة خزان المياه، بدأ يفكر ويتذكر. سألته: ألم يسألك مرة عن المدفع الجديد الذي تصنعونه اليوم في السويك؟ فقال بعد تردد نعم. . . إنني أتذكر الآن، نعم إنه سألني أكثر من مرة فقلت: لقد أراد إما أن يشقيك وإما أن يضطرك إلى أن تكون خائناً. قال ذلك الرجل الشهم في لهجة المغضب ولن يستطيع، والله لو كان ما تقولونه حقاً إذن لدققت عنقه. قلت كلا. لا تفعل إنه دفع لك نصف ثمن البيت الجديد، أليس كذلك، قال بلى. قلت: إذن فاتركه لنا، إننا سنضطره إلى دفع ما بقي عليه من الثمن، وسيكون انتقامك بيتاً جديداً على حساب الحكومة الألمانية. فضحك وضحكنا. وفي الليلة الثانية هجمنا على الرجل في حجره وخبرناه بين إشهار أمره وإبلاغ الشرطة بسره، وإما أن يرد البيت الجديد دون شرط ولا قيد لروسر فلم يسعه إلا الانصياع لما طلبنا وهو يتهدد ويتوعد أشد التهديد والوعيد، ولكننا طالما سمعنا أمثال هذا الوعيد وأشباه هذا التهديد، ولذلك ما عتمنا أن ضحكنا منه ومن وعيده. واكتفينا من عقابه بإشهار أمره عند الشركة التي كان خادماً عندها وكنا حاضرين ساعة ترك حجره وربط متاعه وترك البلد وأهله يريد لندن وكأننا به ليشاور زعيمه (هنري لويس). اقرأ ألذ فصول هذه الرواية في العدد القادم

تاريخ سعد زغلول باشا

تاريخ سعد زغلول باشا إن كتابة تراجم النوابغ والعظماء لا نصادف في الشرق تلك الغاية الكبرى التي تجدها في الغرب. فهي عند الغربيين ركن كبير من أركان الأدب لا مندرجة عنه، لا يكاد ينبغ فيهم نابغة حتى ترى المؤلفات تترى في تحليل نبوغه والبحث في أخلاقه وشخصيته وأعماله ونفسيته، والعوامل التي ساعدت على إظهار نبوغه وعظمته، وهم لا يمسكون عن كتابة ذلك، لأن النابغة لا يزال حياً بينهم، أنهم يعلمون أن من السهل لديهم أن ينسخ الكتاب الكتاب، ويهذب التاريخ التاريخ، وتنقح الترجمة الترجمة، فإذا خرج في ترجمة النابغة الواحد قبل مماته مائة كتاب، فما أهون عليهم أن يخرج بعد مماته مائة مثلها، وهذا الفرع من الأدب هو عامل من أكبر العوامل التي عملت على تقدم الغرب ونشاطه وقوته، أما نحن بني الشرق فلم نهتم إلى اليوم بأمر عظمائنا ونوابغنا تركناهم يعيشون بيننا دون أن يقوم قلم واحد فيخرج لنا صورة واحدة من حياتهم ولذلك ترانا قل ما نفهم العظمة أو نعيها، لأننا لم نشهد منها إلا مظهرها وألوانها. نقول ذلك لنقود فننبه القراء إلى أننا كنا قد أخذنا في الأعداد الماضية نعقد أبحاثاً مستفيضة في تاريخ سعد زغلول باشا الرجل البرلماني الكبير، حتى بلغ ما كتبناه ثلاثين صفحة أو يزيد، وكنا نجرى في ترجمته مجرى الكتَّاب الغربيين المترجمين، نقف بكل نقطة من حياة الرجل فنعمد إلى تحليلها وتشريحها وبحث دقائقها وما يكون بنحو منها من الموضوعات الفلسفية والبيولوجية والأخلاقية وما إليها، وتحتوي الترجمة معلومات كثيرة ليست معروفة عند الجمهور. وقد رأينا اليوم أن عالم الأدب في نظامنا الجديد تنقصه هذه الأبحاث الممتعة. في هذا الموضوع الجليل، فعزمنا أن نسترسل منذ العدد القادم في ترجمة هذا الرجل الكبير، فنلفت إليها الأنظار.

تاريخ الحرب

تاريخ الحرب الفصل الأول إن النظام الاجتماعي الذي يكون فيه لأرباب الكفاءات الكبرى الكلمة العليا هو الذي يظهر أكبر الحيوية في هذا النزاع الداخلي الدائم. وأما النزاع الخارجي، أي الحرب، فلا تنتصر فيه إلا الأمة التي تضع في الميزان أكبر القوى الطبيعية والذهنية والأخلاقية والمادية والسياسية، وعلى ذلك تكون أحسن الأمم في الدفاع عن حوزتها والنضح عن سلامتها، والأمة التي تكون كذلك تنال من الحرب الظروف الطيبة المواتية للتوسع وامتداد السلطان ولا يكون من ذلك إلا تطور الإنسانية كلها، إذ لا يخفى أن تلك العوامل الذهنية والأخلاقية التي تتغلب في الحرب على غيرها تؤدي كذلك إلى ارتقاء المجتمع كله، وبدون الحرب لا يكون من الأمم والأجناس المنحطة الضعيفة الذابلة إلا أن توقف نماء العناصر الأخرى القوية المنتعشة المثمرة، وليس من وراء ذلك إلا الانحطاط العام في الجمعيات البشرية كلها، يقول فون سكليجل الحرب لازمة لزوم الحرب الواقعة بين عناصر الطبيعة. الحق للقوة نعم. قد تقولون قد يكون هناك منافسة سلمية بين الأمم كالمنافسة الواقعة بين أفراد الجمعية الواحدة في كل فروع الحياة الصحية - منافسة لا تستوجب دائماً نشوب الحرب، ولكن المنافسة بين الأمم لا تشبه التنازع الداخلي بين الأفراد ومن ثم لا تؤدي إلى النتائج نفسها، إن فوق منافسة الأفراد والطبقات في داخل الأمة ينهض القانون، وهو الذي يعني بمطاردة الظلم واستئصال شأفة الجور، وهو الذي ينشر العدل بين الربوع، ومن وراء القانون تقف الحكومة بقوتنها لتحمي الشعائر الأدبية والروحانية في جمعيتها ولنعمل كذلك على ترقيتها وتهذيبها. ولكن ليس هناك قوة عادلة غير متحيزة تنهض فوق منافسة الأمم لتمنع الحيف وتقتل الظلم، وتستخدم هذه المنافسة نفسها في ترقية الإنسانية والصعود بها ذروة الكمال الاجتماعي، وإنما الحائل الوحيد بين الأمم وبين الظلم هو القوة، وعلى كل أمة أن تنهض بنفسها وتأخذ مكانها من الفضيلة والمدنية وتعمل على ترقية مذاهبها ومبادئها وأغراضها فإذا حدث من ذلك أن اصطدمت هذه المبادئ وهذه المذاهب بمبادئ الأمم الأخرى ومذاهبها فعليها إما أن تخضع وتعترف بأسبقية الأمة المزاحمة وإما أن تعمد إلى القوة فتواجه بها

الصدمة الكبرى وأعنى الحرب حتى تنشر مبادئها وتذيع في الخافقين آراءها وآدابها. نعم ليس هناك قوة تستطيع أن تحكم وتقضي بين الأمم وتجعل لحكمها سلطاناً مسموعاً وليس هناك غير الحرب لكي تسود عناصر النجاح الصحيحة على روح التدهور والانحطاط. إن النزاع إذن هو القانون العام في الطبيعة. خلق الإنسان محارباً وإن تضحية الذات ليست إلا التخلي عن الحياة، سواء في وجود الفرد أو حياة الأمم، لأن القانون الأولى العام هو إظهار الإنسان وجوده المستقل في هذا العالم وبالاحتفاظ بالوجود المستقل دون غيره تستطيع الحكومات أن تكفل وجوه الحياة لأهلها وأفرادها وتضمن لهم الحماية المقدسة التي يحق لكل فرد مطالبتها بها وهذا الاحتفاظ بالوجود لا يكون برد عاديات أعدائها فقط وإنما يتضمن كذلك تكفلها بوجود الحياة وسبل الارتقاء لمجموع الأمة التي تحكمها. حقوق الفتح والاستعمار إن الأمم القوية الصحيحة، الناهضة المنتعشة، تزداد أبداً عديداً ونفيراً فلا تلبث أن تطلب توسعاً مستمراً في حدودها وتخومها وأرضاً جديدة لمقام من زاد من أهليها ولما كان كل مكان من الكرة الأرضية مأهولاً معموراًَ فلا تقع لهذه الأمة المستعمرة الجديدة إلا على نفقة أصحابها - أي بالفتح والغلب - وكذلك يصبح الفتح قانوناً من قوانين الضرورة. إن العالم كله يعترف بقانون الفتح، وهو في أول مبادئه يكون سلمياً وأول خطواته أن يفيض بعض الممالك المختنقة بالسكان الغاصة بالأهلين على غيرها من الممالك والأخطار سيلاً عرماً من المهاجرة والراحلين، وهؤلاء ينزلون على قوانين البلد الجديد الذي خفوا إليه برحالهم، ثم يجتهدون بعد ذلك في الظفر بامتيازات لهم على حساب السكان الأصليين الذين يزاحمونهم ومن هذا يكون الفتح. وكذلك يعترف العالم بحق الاستعمار وحق الفتح بالقوة والكره والحرب، فقد يكون هناك أمة نامية متكاثرة لا تستطيع استعمار بلد غير متحضر ولكن حكومتها تريد أن تحفظ عليها العدد الزائد من أهلها الذي لم تستطع المملكة أن تجد له طعامه ورزقه، فليس لها من سبيل إلى ما تريد إلا بالحرب، وكذلك تؤدي غريزة حفظ الذات ولاشك إلى الحرب وفتح الأرض واستعمار الأقطار ولا يكون الحق لصاحب الأرض إذ ذاك بل للغالب القاهر - وتكون القوة هي الحق الأعلى فإن الحرب هي التي تقرر الحق تقريراً بيولوجياً.

سيئات السلم وإذا ظلت السلم في الأمة دهراً لم تلبث أن تتسلط فيها المآرب الشخصية الحقيرة والأغراض الدنيئة المريضة، وتقوم الفتن والمكايد ويمحو الترف آثار الكمال الاجتماعي، ويحتكر المال قوة متطرفة غير شريفة ولا مشروعة ولا تجد الشخصية الكبيرة الاحترام اللائق بها. يقول شيلر تصوح زهرة الإنسان وتموت جذوره في زمان السلم وعهودها وتموت الشجاعة وتحتضر في ظلال الراحة وخمائل السكون. إن القانون هو ملهاة الضعيف العاجز هو الذي يجعل الناس جميعاً أنداداً وأشباهاً ولكن في الحرب تتجلى شجاعة الإنسان، والحرب تعلى الروح الوضيعة، وترفع كل منحط حقير، بل إن الجبان نفسه ليتناسى اسمه. يقول هيجل: بلى إن الحروب تخيف وترعب وتزعج، ولكنها واجبة لازمة لأنها تنقذ الأمة من كل ركود أو جمود اجتماعي. إن الحرب أشد من السلم إيقاظاً للحياة الأهلية وأشد توسيعاً لنطاق القوة الأهلية من كل وسيلة يذكرها التاريخ - نعم إنها تجر في أعقابها نكبات مادية ذهنية ولكنها في الوقت نفسه تثير أشرف الكفاءات في الطبيعة البشرية. ولاسيما في عصرنا هذا. حيث يجوز لنا أن لا نعد نشوب الحرب من عمل الملوك فقط والحكومات. بل هي لسان حال لأمة جمعاء. إذ ذاك تتوارى المآرب الذاتية الحقيرة أمام ذلك الحكم الرهيب الذي يتلجلج في صدر الحرب وإذ ذاك يجمع الخطر العام الجميع إلى سعي مشترك ونضال فذ، وما الرجل الذي ينزوي عن هذا الواجب وينقبض عن هذا النضال إلا ليستحق أن يركل بالأرجل والأقدام. وفي هذا الاتحاد العناصر الصحيحة التي تخرج للحياة الأهلية ثمار السعادة والهناء، ولسنا بحاجة إلى إثبات ذلك وهذه الحرب الألمانية الفرنسية - حرب السبعين - ونتائجها التاريخية. وأما الفظائع الوحشية الحيوانية التي تقع عادة في الحروب فيجب أن لا تذكر بل تتلاشى أمام كمالية النتيجة الكبرى وفي الحرب، ولاشك تتجلى قيمة تلك الألقاب الكاذبة والمراتب الجوفاء التي تربت في أحضان السلم ورتعت في بحبوحتها زماناً طويلاً وهناك تأخذ الشخصيات الكبيرة محلها الأرفع الأوجب وهناك تخطو القوة والإخلاص والصدق

والشرف إلى الطليعة تلعب دورها. عرف فردريك الكبير هذا التأثير النبيل العظيم الذي تحدثه الحرب فقال: إن الحرب تفتح الميدان الخصيب، الشاسع العريض للفضائل كلها، لأن في كل لحظة من أيام الحرب يتجلى الثبات والعطف والعظمة والبطولة والرحمة والإحسان وكل لحظة من أوقات الحرب تقدم الفرصة السانحة لإظهار فضيلة من هذه الفضائل. يقول تريتشكي يجب أن يتلاشى حب الذات وتتوارى الحزازات وتختفي الأحن والعداوات، إذا جاءت الساعة التي تصيح فيها الجمعية أن حياتها في خطر، يجب أن ينسى الفرد إذ ذاك ذاتيته، ويشعر بأنه شلو من جسم الأمة، ينبغي أن يعرف أن حياته ليست شيئاً مذكوراً بجانب حياة الجمعية، إن الحرب مهذبة رافعة سامية، لأن الفرد يختفي فيها حيال فكرة الأمة الكبرى، وإن إخلاص أفراد الجمعية بعضهم لبعض لا يتجلى أسمى جلاله إلا في الحرب. . . أية آداب فاسدة تريد أن تمحو البطولة من صدور الرجال؟. . بل قد يكون حتى في الهزيمة نفسها ثمرات غالية سامية، فهي وإن ساقت غالباً الضعف والبؤس والشقاء، مؤدية كذلك أحياناً أخرى إلى إحياء جديد وانتعاش قوي لا سمة للفتور أو العلة فيه وهي كذلك واضعة أساس أنظمة حيوية جديدة، يقول ويلهام همبولدت إني لأرى في تأثير الحرب على الخلق الأهلي عنصراً من أسمى العناصر في تكوين الجنس البشري وصوغه وتهذيبه. وهل هناك عمل أسمى للفرد من أن يبذل حياته لفكرته، ويضحي وجوده للمبدأ الذي يجاهد له، وكذلك الأمم والحكومات لا تستطيع أن تؤدي واجباً أربع مكاناً من بذلها كل قوتها في سبيل الاحتفاظ باستقلالها وشرفها وسمعتها وذكرها. وهذه الوجدانات والمشاعر لا تجد لها عملاً إلا في الحرب، ولذلك كان توقع الحرب ضرورياً لإيقاظ الخلق الأهلي وتنبيهه، ولا تستطيع الأمم أن تقوم للمدنية بأصدق الواجبات إلا بترقية الخلق الأهلي بين قومها ومن ثم كانت المجهودات التي تبذل في استتباب السلم هي من أكبر العوامل على قتل الصحة الأهلية، وناهيك إذا أصبحت فرعاً من فروع سياستها، والحكومات المتلببة لصرف هذه المجهودات إنما تمتص عصارة قوتها بنفسها، إليك مثلاً الولايات المتحدة فقد قامت لغرض من أغراضها في يونيه عام 1911 تدعو إلى

السلام العام وتدافع عنه وتنضح، وذلك لا لشيء سوى أن تترك آمنة هادئة لا تعني بغير الإثراء وجمع المال والتنعم بالغنى والوفر والثروة، ولتمسك عليها الثلاثمائة مليون من الريالات التي تنفقها على جيشها وبحريتها، فهي من ثم تعرض بنفسها لخطر عظيم ليس مقصوراًَ على احتمال نشوب حرب بينها وبين إنجلترا أو اليابان بل لأنها تحاول أن تمنع كل فرصة تسنح لحرب بينها وبين أقرانها ولداتها في القوة والبأس، وبذلك تقطع عليها تيار الوجدانات الأهلية السياسية الكبرى التي لا يكون هناك تطور أدبي في الخلق الأهلي إلا بها، وإن جرت في تلك الطريق أشواطاً أخر فهي ولا ريب دافعة عن هذه السياسية ثمناً غالياً. مؤتمرات السلام وجملة القول إن المجهودات المصروفة إلى إزهاق روح الحرب لا ينبغي أن توصف فقط بأنها مجهودات نزقة طائشة حمقاء بل مفسدة كذلك للآداب الإنسانية مناقضة، ينبغي أن تنعت بأنها نقيصه لا تحسن بالجنس البشري ولا تليق، لأنها تريد أن تحرم الناس حق تضحية النشب والمادة والحياة فدى للمبادئ الكمالية السامية وتحقيقاً لأسمي ضروب الانكارية الأدبية إنها تريد أن تمنع المشاحنات الكبرى بين الأمم بمؤتمرات السلام، أي بالمفاوضات والتوسطات والترضيات، أي تريد أن تقيم قانوناً سخيفاً باطلاً صورياً مكان أحكام التاريخ وأقضيته، تريد أن تعطي الأمة الضعيفة حق البقاء والحياة مثل الأمة القوية المنتعشة الفارعة، فهي لا تمثل إلا اعتداء متطرفاً باطلاً على النواميس الطبيعية للتطور، ولا يكون من ذلك إلا أشد النتائج وخامة وويلاًَ على الإنسانية جمعاء، فهي بتعطيلها التنافس الحر المسرح المباح الذي لا يعتمد إلا على القوة والسلاح والقتال، ستعمل على تعطيل التقدم الحق والارتقاء الحي الصادق، يتبع ذلك الركود الأخلاقي والجمود الفكري، ويجرى في آثار هذين الانحطاط والتدهور والانقراض، يقول تريتشكي: يرعى الله الحرب ويجعلها أبداً لا تجيء إلا لتكون للإنسانية دواء ناجعاً قوياً. ومن ثم يجب أن نستعدى كل الوسائل على القضاء على هذه المذاهب الخيالية الواهمة ويجب أن نشهرها أمام الناس ونفضح أمرها ونعلن حقيقتها وهي أنها فكرة خيالية ضعيفة عليلة طائشة، بل ثوب من أثواب الرياء السياسي وحجاب من حجبه، ينبغي أن يعلم قومنا

إن بقاء السلم لن يكون غرض سياستنا، بل يجب أن نكرر ونسهب في فضيلة الحرب ونعماها ووجوب وقوعها ولمثل الأعلى الذي تنطوي عليه، ينبغي أن نلقي إلى رسل فكرة السلم ودعاتها بيت شاعرنا جوت. أأحلام بالسلام وعهوده، ألا فليحلم به من يشاء، وأما نحن فليكن صراخنا الحرب. . الحرب وهلموا إلى النصر!. الفصل الثالث روح الغرور عند الألمان تتطور الأمم بالأكاذيب تطورها بالحقائق، وقد يكون للفكرة الطائشة من الأثر في أخلاق الأمة ما تعجز عنه الفكرة الصالحة، وما كان تطور الأمم ليقاس بصواب العوامل ورجاحة البواعث وصحة الأسباب، وإنما بمبلغ التأثير الذي تجدثه هذه العوامل ومقدار الغاية التي تنتهي عندها. ظل الألمان هذه السنين يعيشون على الزهو، ويغتذون من مادته، ويتطورون تحت تأثيره، فكان الزهو عندهم ولا ريب عاملاً من عوامل التقدم، وسبباً من أسباب الحياة والنهوض، إذ كان كتابهم وشعراؤهم، وفلاسفتهم وصحفيوهم، وسياسيوهم وحربيوهم يلقون إليهم أن الألمان هم خلاصة الجنس البشري كله وصفوة الإنسانية جمعاء، وإن العنصر الألماني هو العنصر الفذ الذي سيسود فوق العالم بأسره، وإن الشعب الألماني لم يعد شعب الجعة والمراقص والمواخير، لا بل شعب الشعراء والكتَّاب والمفكرين، وإن كلمة ألمانيا لا يراد بها اليوم الأمة النازلة بين نهري الرين والفستولا، بل يدب أن يفهم الآن منها ذلك الأوقيانوس العظيم من الشعوب المتكلمة باللغات التيوتونية، أو من الشعوب التي لا تتكلم اليوم بها، وهي أحق بأن تتخذها لسانها وبها أوجب وأخلق، يدخل في الأولى السويديون والنرويجيون والدانمركيون والهولنديون، وينطوي تحت الأخرى البلجيكيون والسويسريون والنمسويون وبعض قبائل الروس والمجر، بل تجاوزوا إلى أبعد من ذلك فقالوا إن الصقالبة من روس وبولونيين وبوهيميين وصربيين وكرواتيين ليسوا في الحقيقة إلا فروعاً من العنصر الألماني، ولذلك ترى مئات من علمائهم وكتابهم وألوفاً من خطبائهم وصحفييهم يلقون في أسماع الشعب أن هذه الأمم جميعاً جرمانية ولذلك يجب أن تدخل

أفواجاً في أمة ألمانية فذة كبرى. كان رسول هذه الفكرة التيوتونية المتطرفة المزهوة هاوستون ستوارت تشمبرلن (إن هاوستون تشمبرلن هذا من الإنكليز ولكنه أثار بكتابه أساس القرن التاسع عشر، أما الشعب الإنكليزي وإخراجه من جنسيتهم حتى أن كتابهم لا يذكرون إنكليزيته في كتبهم بل يقولون أن القدر إلى أن يكون له اسم الإنكليز. الكاتب الألماني بكتابه: أساس القرن التاسع عشر فلقد كان لهذا لكتاب في ألمانيا ثورة فكرية هائلة، وعاطفة متحمسة عظيمة، إذ أقبل على قراءته جميع طبقات الأمة من أصغر صغير في الشعب إلى أكبر كبير، وقد عدوه كتاباً ممتعاً بعيد الغور سديد الرأي متماسك الحجة، حتى أن أغنياءهم ومتموليهم جعلوا يبتاعون الآلاف من نسخه يفرقونها دون أجر على حجرات المطالعة العمومية في كل بلد أو نجع أو قرية لكي يقرأ الكتاب دهماء الشعب وعوامهم، وقد أطراه الإمبراطور ونوه به وتقبله بقبول حسن وأصبح الكتاب الرحى التي يدور عليها قطب الأدب الألماني الحديث، فمن مؤلف في مديحه، ومن سفر في تنقيحه، ومن آخر في الرد عليه، ومن كتاب في المحاجة له، وكان من ذلك أن أصبح تشمبرلن اليوم في رأس كتَّاب ألمانيا الخالدين. وليس نجاح الرجل بكتابه هذا بالسر المستعصي البحث المستغلق الاستقصاء البعيد لاكتشاف، حسبك أن الرجل لبس لبوس العلماء وتظاهر في بحثه بأسلوبهم، وانتحى في تخريجه مناحيهم، وراح يثبت للألمان أن تاريخ الإنسانية لم يكن إلا ألمانيا وإن كل تطورات العالم في المستقبل وكل ضروب ارتقائه المقبل، ستوسم بهذه الماركة المسجلة صنعت في ألمانيا وإن الألمان هم العنصر الصالح للأرض. هذا هو الإنجيل الألماني الجديد الذي جاء بن تشمبرلن فلم يبق في الأرض ألماني إلا دان له وتغنى به واستظهره، وإليك قطعة من هذه الأنشودة الألمانية الحادة المتعجرفة. يقول تشمبرلن: لا أعنى بالألمان إلا كل أمم أوروبا الشمالية التي ظهرت في التاريخ باسم القلت والجرمان والصقالبة، والتي منها نبغت شعوب أوروبا الحديثة، إن الحق الذي لا شائبة للريب فيه هو أن هذه الشعوب جميعاً خرجت من أسرة واحدة ولكن الألماني استطاع أن يظل بين أفراد هذه الأسرة سامي المكانة رفيع القدر عالي الرأس قوياً في ذهنه وآدابه وطبيعة جثمانه، حتى ليسوغ لنا أن نطلق اسمه على الأسرة كلها. . . إن الألماني هو روح

المدنية الأوروبية، إن أوروبا اليوم المنتشرة على مدى الكرة الأرضية لهي النتيجة الباهرة لتشعب أفراد هذه الأسرة، والرابطة الوحيدة التي تصل اليوم بيننا هي الدم الألماني. . . لا يجلس على عروش الغرب إلا الألمان، إن التاريخ الحق سيبتدئ من اليوم الذي يقبض فيه الألماني بكفه العظيمة على تراث آبائه وأجداده. وكذلك جعل تشمبرلن يبعد في القول ويمعن ويدلل لبني قومه ويثبت لهم أن في الألمان عنصراً حيوياً غريباً، هو الذي أعان كل من تجري في أعراقه الدماء الألمانية على إنجاز العظائم والقيام بالجسائم والمدهشات، وإن كل عظماء الأعصر الماضية إذا دققت البصر إليهم وحققت النظر فيهم لم يكونوا إلا ألمانيين نشأة ودماً وروحاً، هذا دانتي مثلاً الطلياني لم يكن - كما يقول تشمبرلن - إلا ألمانياً، بل انظر إلى وجهه ترله كل ملامح الوجوه الألمانية وتقاطيعها ومعارفها، وهذا باسكال كذلك وإن عده بعض الحمقى الأغفال من عظماء فرنسا ونادرة رجالها!!. وبلغ من إلحاح تشمبرلن هذا على البحث وتشبثه بأهداب (تيوتونيته) وتماديه في التغني بألمانيته، إن عمد إلى البحث في جنسية المسيح، فجعل يثبت أن المسيح لم ينشأ في بني إسرائيل ولا سكن في ديارهم، وإليك ما يقول في ذلك بتلك السذاجة العلمية المتفشية في نواحي كتابه المتجلية في كل سطوره وسلاسله. كل من يدعي أن المسيح كان إسرائيلياً إما أن يكون جاهلاً وإما خائناً أرميه بالجهل لأنه يخلط بين الدين والجنس، وأقرفه بالخيانة لأنه يعرف تاريخ غاليليه. . . ليس ثمة ريب في أن المسيح لم يكن إسرائيلياً ولا جرت في عروقه قطرة واحدة من الدم الإسرائيلي الخالص العبيط - فإلى أي شعب ترى المسيح يمت. .؟ ليس من جواب على هذا. . وطفق تشمبرلن بعد هذا يتيه فيب شعاب الظن ويمرح في أودية الحدس فيقول لعل المسيح كان رحالة من الآشوريين، حتى إذا لم يقتنع بنتيجته هذه ولي وجهة شطر المغرب فقال أم لعله من الإغريق، وإنك لتعجب للرجل كيف تراه عمي عن ملمس الحق وعشى بصره أمام وضح الصدق فخرج من كتابه الضخم ولم يهتد إلى غاية ولم يقف عند نتيجة ترضيه. على أن ألمانيا كانت أعظم من تشمبرلن وأصبر منه على التخريج وأطول منه نفساً في البحث، فما لبثت أن أخرجت من كشف لها المجاهل التي عجز عنها تشمبرلن وحسر

بصره عن الاهتداء إليها، وحقق لها المظان التي عثر بها الأول ثم أعرض عنها، ذلك أنه لم يلبث أن أخرج ريمر أحد علماء ألمانيا المعروفين كتاباً آخر ذكر فيه مسألة نشأة المسيح وجنسيته فلم يكن من كل بحثه إلا كلمة واحدة هي إن لم يكن المسيح ألمانياًَ فهو ولا شك حديث خرافة أماً وليس في الناس من يعده كذلك فهو قد نشأ ثمة نشأة ألمانية، بل ألم يكون المسيح وردى البشرة زرقاوي العينين أصفر الفروع زاهيها، وتلك هي الملامح الألمانية بعينها، فإذا لم يرض بعض القوم هذا الدليل فليس على المنكر المتردد إلا أن يعمد إلى التحليل لفظتي عيسي و (جرماني) وهما في الإفرنجية وفإن المقطع الأول في اللفظة الأولى وهو مقلوب عن في الثانية إذ كانوا يعتبرون حرف متحركاً ولذلك أسقطوه جملة واحدة واستعاضوا عنه حرف أما المقطع الثاني من اللفظة الأولى وهو فعلامة المذكر في اللاتينية وهي التي يقابلها في الإنكليزية والألمانية لفظة الموجودة في المقطع الثاني من اللفظة الثانية. . . فهل ثم أوضح من هذا برهاناً وأجلى مما ترى دليلاً؟!!. ولم يقف زهو الألمان عند هذه الغاية المضحكة بل تجاوزوها فقالوا إن القرن العشرين لنا نحن الألمان، كما كان القرن السادس عشر للأسبان، وكما كان السابع عشر للفرنسيين والثامن عشر للإنكليز، بل لم يقنعوا بإدعاء ملكية القرن العشرين بل أرادوا أن يظهروا للعالم أن القرون الماضية كانت لهم جميعاً. إن الألمان يعيشون اليوم عيشة تاريخية، كما يقول نيتشه، يعنون بالماضي كأكبر عنايتهم بالحاضر، قد أضافوا على حواسهم الخمس حاسة سادسة هي الحاسة التاريخية فترى كل غلام في المدرسة يعلم أن دانتي وروفائيل وأنجلو وماكيافللي لم يكونوا كما يشهد التاريخ من الطليان بل من الألمان، وكذلك كان نوابغ الفرنسيين أمثال العالم رابيليه والفيلسوف مونتان وباسكال وديكارت، يمنون إلى الألمانيين بدمائهم الألمانية، وليسوا من الفرنسيين في شيء كما يدعي العالم ويكذب التاريخ، فإذا سمع الصبي تلك من فم معلمه لم يلبث أن تتكون في أعماق روحه عاطفة الزهو بجنسيته فلا يستطيع أن يتمالك نفسه من الاعتقاد بأنه الدماء الألمانية والفلسفة الألمانية والآداب الألمانية والعالم الألماني وصفوة القول كل ما هو ألماني في كل فروع الحياة وأصولها أسمى مكاناً من غير الألماني وأعظم قدر!. ونحن شارحون هنا للقراء مؤلفاً حديثاً للكاتب الألماني لدويج ولمان يثبت فيه بأدلته

الألمانية أن أكثر نوابغ الطليان والفرنسيس في النهضة العلمية من الشعراء والنحاتين والمصورين والكتَّاب والمفكرين وثبوا جميعاً من أصل ألماني، ولسنا نريد أن نفند للقراء هذه المزاعم العريضة والحجج العاثرة بل حسبنا أن نقول إن الكتاب وإن كان مضحك التخريج، واهن الاستقراء إلا أنه قد قوبل في ألمانيا بالتهليل والتكبير، وتناولته المجلات التاريخية والأثرية بالأبحاث الرزينة، والتعليقات الجدية، والمقالات الممتعة الفلسفية، وكان له أعظم الأثر في نفوس الألمان. يدور محور هذا الكتاب على إثبات أن جميع أساطين القرنين الخامس عشر والسادس عشر أو جلهم من الطليان والفرنسيين نبغوا جميعاً من الدم الألماني، وقد انتحى وولتمان في تقسيم أوروبا منحى لم يزغ فيه عن منحى العلماء الأنثرولوبوجين إذ قسمها إلى أجناس وشعوب، وأشهر هذه الأجناس الجنس الشمالي أو الألماني، وهو الذي يمتاز عن غيره بالرأس المستطيل والشعر الخفيف والأعين الزرقاء، ثم يلي ذلك الجنس الجنوبي النازل بسواحل البحر المتوسط. وهذا يعرف بالرأس القصير المستدير والمعارف والتقاطيع السمراء، فإذا وقع وولتمان في بحثه على طلياني عرف عنه أنه كان مستطيل الرأس أزهر المعارف زرقاوي العينين لم يخالجه الشك هنيهة واحدة في أن الدم الألماني كان يجري ولا ريب في عروق الرجل. وترى كتاب ألمانيا وأهل الرأي فيها لا يريدون أن يقتنعوا بهذا المقدار من العجب والزهو بل ما فتئوا يعلمون قومهم أن الألمان هم الذين أنقذوا العالم من ذلك الانحطاط المظلم الذي كان يهم بأن يغشي الإنسانية على أيدي الرومان في أخريات أيامهم وزمان ترفهم وضعفهم، وهم الذين رفعوها من تلك الهاوية السحيقة القرار التي تهاوت فيها المدينة الرومانية وإن البرابرة الألمان الذين تدافعوا من حدود الشمال وتخوم الجليد على روما وأهلها ودولتها واجتاحوا شاسع أقطارها ووضعوا من صولتها لم يكونوا أقل بأساً من الرومان أو أصغر أو أحط مدينة. إليك ما يقول تشمبرلن عن هؤلاء البرابرة الألمان: إن هذا الهمجي الذي كان يؤثر أن يندفع إلى ساحة الحرب عاري البدن، هذا المتوحش الذي وثب على غرة من العالم من بين قرائر الأحراش وصمائم الأدغال فصب على الإنسانية المتحضرة المتهذبة ويلات ذلك

الفتح الرهيب العظيم - هو الوارث الشرعي للروماني وأخيه اليوناني - دمه من دمائهما، وروحه على غرار روحهما. لقد كان العالم الروماني على أبواب الموت وفي طريق الفناء، كان عبيد آسيا وأفريقيا قد اختلسوا الخطى حتى اعتلوا عرش الدولة الرومانية، بينا كل الشآمي قد وضع في يده مقاليد التشريع، وكان الإسرائيلي غائراً بين أسفار مكتبة الإسكندرية يريد أن يوفق بين الفلسفة اليونانية والشرائع الموسوية، ثم لم يلبث أن أقبل المغولي يريد أن يسحق تحت قدمه المتوحشة الملطخة بالدماء ثمار تلك الحياة الرومانية الزاهرة، كان الشعر الهندي سائداً وكانت الفلسفة الهندية سارية فاشية، وكانت الفنون الرفيعة قد أسلمت الروح، لم يكن للأغنياء من إلا الرسوم والآداب والإصطلاحات، ولا شاغل للفقراء إلا المصارعات والمسابقات، ولم يعد يومذاك في العالم، كما يقول شيلر، أناس بل مخلوقات. . . . إذ ذاك حان الزمن لظهور المنقذ، ونضج الوقت لوثوب المصلح المهذب. . . نحن لا نندم على شيء ندمنا على أن الألماني لم يبعد يومذاك في التطهير والاستئصال والإفناء. يزيد تشمبرلن أن يحتكر في قومه الصراحة والتسامح والحرية. يقول إن الغوط كانوا أنبل أرواحاً من الرومان، وأجمل منهم سماحة في الدين، إنهم جاءوا الدولة الرومانية فإذا التعصب الديني ضارب بجرانه، باسط على الأرض جناحيه، فزجروا هذه العاطفة المرذولة، وقضوا على هذه النزعة المنكرة وأقاموا على آثارها عاطفة التسامح الحلوة الطاهرة، أبقوا على الآثار، وأمسكوا على العاديات، واحتفظوا بحسنات الفنون. هذا بينا ترى الكتَّاب الألمان يقولون: نحن أحسن الاستعماريين وأبدع الملاحين وأعظم التجار. . . نحن أزكى أمة أخرجت للناس. . . بل أرقى شعب في العلم وأبدع أمة في الفن. . ثم نحن رأس الشعوب في الحرب غير مدافعين!!.

عالم الأدب

عالم الأدب المرأة في رأي برنارد شو برنارد شو هو الفيلسوف الإنكليزي الأوحد في هذا العصر، امتاز بآرائه الحرة الناضجة وفلسفته الإصلاحية السديدة، يضرب في كل مؤلفاته على نغمة الإصلاحيين الحربين، ويذهب مذهب الهادمين البانين، فهو خليف فردريك نيشته في حنقه على المجتمع وسخطه على انحطاط الإنسانية في كل وجوه الحياة وأساليبها، على أنه يطول على نيتشه بأنه أصفى ذهناً منه وأهدأ جأشاً، وأسكن نفساً، وأحلى أسلوباً، وهو يجنح في كتابته إلى العبقرية المزاجية فيجيء بالأعجب الأغرب، وليس كنيتشه في مرارة اللهجة، وقساوة التعبير، وفظاعة النقد، يضع فلسفته في روايات تمثيلية ليست في فن الروايات شيئاً مذكوراً بجانب روعة الآراء، وجلال الموضوع ونفاسة المغزى، وهو من أعظم أنصار الاشتراكية من الإنكليز وأكبر الدعاة إليها ونحن ناقلون له هنا رأيه في المرأة. إن الوجهة الشيطانية من فتنة المرأة ومكرها، أنها تريدنا على أن نرضى بهذه الفتنة وذاك المبكر وليست غاية المرأة هي لذتها أو لذتنا، لا بل لذة الطبيعة، وإن في المرأة الحيوية عمياء مجنونة ثائرة طائشة، تضطرها إلى تضحية نفسها، فهل تظن أنها تنزوي هنيهة واحدة عن تضحيتك أنت؟. إن للنساء غرضاً هو غرض الطبيعة نفسها، وليس الرجل عندهن غير الوسيلة إلى هذا الغرض، إنهن ليرعيننا ويحدبن علينا، ولكن كما يرعى الجندي سلاحه ولأمته، وكما يحدب الموسيقار على عوده وقيثارته، وهل تراهن يجزن لنا غرضاً نعمل له، أو حرية ننعم بها، أتراهن يرضين أن يتقارضنا بينهن، أيستطيع أقوى الرجال أن يفر من قبضتهن إذا احتبلنه مرة أو أوقعنه في شراكهن، إنهن ليرتعدن، ويرتجفن إذا حاق بنا حائق أو نزلن بنا نازلة، وإنهن ليرسلن أعينهن ويبعثن دموعهن في آثارنا إذا اختطفنا من بينهن الموت، ولكن هذه الدموع المستفيضة والعبرات المهراقة ليست من أجلنا بل لوالد قضي أو طفل تيتم، وتراهن يتهمننا بأننا لا نعدهن إلا وسائل للذتنا وشهواتنا، ولكن كيف تستطيع حماقة ضعيفة مسرعة متحولة مثل لذة الرجل أن تستعبد المرأة وفيها اجتمع غرض الطبيعة كلها؟.

عسيت تقول وماذا يضيرني استعباد المرأة إياي إذا كان في هذا الاستعباد رغدي ونعيمي؟. بلى لا ضير عليك أيها السائل ولا شر، إذا لم يكن لك أنت غرض كغرض الطبيعة وكنت كسواد الناس لا هم لك إلا السعي وراء الرزق والخبز. إن رب الفن العبقري ليهون عليه أن تجوع زوجته، ويعرى بنوه، وتسغب والدته، ولا يرضى لنفسه أن يشتغل بغير فنه، ولذلك كان عند النساء مكروهاً مبغوضاً، إنه لا يدنو منهن إلا ليدرسهن، لكي ينزع عنهن بشرة الكذب، وجلدة الخداع، وأديم الرياء، ولكي يكشف دفائن أسرارهن، ويخرج خبايا ضمائرهن. لا يقترب منهن إلا لأنه يعرف فيهن القوة التي تثير فيه أعمق خواطره وأسمى ابتكاراته، وتنقذه من برودة القريحة، وتنجيه من خمود التفكير، وترسله يمرح في مراتع الحلم ومسارح الخيال وتلهمه الوحي كما يقول!. فهو يحض النساء على أن يعملن العمل لغرضهن، بينا هو في الحقيقة يريدهن على أن يعملونه لغرضه، ويدعي أنه ينقذها من آلام الحمل ويغني عنها أوجاع الوضع لكي يظفر هو لنفسه بالرقة والحنان والعطف الواجبة لأولادها وأصبيتها، بل منذ كان الزواج والنساء يعددن رب الفن زوجاً سيئاً شريراً. لينقرض الجنس، أو لتذبل ألف امرأة، أو لتذو غلائل ألف غانية، فما بضائره أو محزنه، إذا استطاع أن يظفر من ذلك بما يعينه على أن يمثل دور هملت أحسن من دوره أو يصور صوراً أفخم من صوره، أو ينظم قصيدة أعمق من قصيده، أو يخرج فلسفة أبدع من فلسفته. واعلم أن رب الفن يرينا أنفسنا على حقيقتها، وما كانت أذهاننا إلا معرفتنا لأنفسنا، ولذلك كان كل من يضيف إلى هذه المعرفة ولو النزر اليسير إنما يخلق ذهناً جديداً، كما تخلق أية امرأة رجالاً جديدي، وليس رب الفن في هذا التكوين أقل قسوة وهولاً من المرأة، هو شديد الخطر عليها وهي شديدة الخطر عليه، وليس في الحروب الإنسانية كلها حرب هي أشد هولاً وخدعة ونكراً من الحرب القائمة بين الرجل العبقري وبين المرأة الوالدة!. كل مطلب هذه الحرب هو أيهما الذي سينهك الآخر ويبتلع؟. البحيرة

هي بحيرة بورجيه، في مقاطعة سافوي، جنوب فرنسا الجميلة، والشاعر هو لا مارتين، شاعر الحب والجمال، هو الرجل الذي اجتمع في قلبه قلب الطبيعة كلها هو الجزء الملائكي في وجدان الإنسانية وعواطفها، وضع قصيدة البحيرة عام 1817، بعد أن جاء إلى (بروجيه) على موعد من (الغير) حبيبته، ولكنها وا أسفاه لم توافه إلى الموضع، بل قضت نحبها بعد ذلك بثلاثة أشهر، دون أن يقدر للشاعر أن يظفر بلقائها قبل الموت. وهذه القصيدة تعد من أبدع منظومة، وأرق خواطره، هي كلمة حادة حزينة، صادرة من أعماق قلب خفاق كبير، غذي بلبان الحب، وعاش وقضى في أحضانه. نحن بني الإنسان ما أن نزال نساق في الحياة من ضفاف إلى ضفاف، ونقذف من ساحل إلى ساحل، وننقل من عدوة إلى عدوة مقتربين من ليل الأبدية، محمولين إلى ظلمة الخلود، فهل مكن وقفة لسفيننا فوق أوقيانوس الزمن وهل من مستقر. أيتها البحيرة، هذا العام قد دار دورته أو كاد، هذه أمواجك المحبوبة كم كانت تعاودها، وهذا آذيك الجميل كم كانت تشارفه، ولكن انظري. . . هذا أنا جئت وحيداً أجلس على صخرتك، وأقبلت فريداً أقتعد ثنيتك، حيث كانت تجلس، وحيث كنت تشهدين. كنت تصخبين على هذه الصخور العميقة، وكنت تئنين، كنت تتكسرين على جوانبها الممزقة وكنت تتدافعين، وكانت الريح ترمي بزبد أمواهك عند قدميها المعبودتين. . ففي ذات ليلة - وهل تذكرين - ليلة كنا فوق صدرك نجذف في سكون، ويدري بنا الزورق في صمت، لا حس فوق اللج ولا صوت تحت السماء، غير ضوضاء المجاذيف وصحبتها، وهي تضرب صفحة أمواجك الحلوة المنسجمة، وتسقط على أديم إمدادك المطردة المنسقة. . وإذا بصوت لا تعرفه الدنيا، وتجهله الأرض جرس حلو في أذني، ناعم الموقع في مسمعي، تردد صداه فوق ضفتك الجميلة الفاتنة، هذا وقد أصغى الموج وسكن خرير الماء، وهو يساقط هذه الكلمات: أيها الزمن. قف عن طيرانك، وامتنع عن جريانك، وأنت أيتها الساعات الحنون الرفيقة، هلا سكت عن دورانك، دعنا أيها الزمن نستطيب عذوبة ألذ أيامنا وحلاوة أبدع ساعات عيشنا، كم من مكدودين منحوسين في الأرض يضرعون إليك ويبتهلون، فخفف لهم أيها الزمن من عدوك، وهون لهم من غلوائك، وارفع عنهم الهموم التي تلتهمهم، وانس السعداء،

وتجاف يوماً عن المجدودين. ولكن عبثاً أبتهل، وباطلاً أضرع، فقد أبى الزمن إلا الفرار والطيران، إني لأقول لهذا الليل أبطئ ولا تعجل ولكن الفجر يأتي عادياً فيطرد الليل ويبدد. إذن فلنحب ولنحب، ولنعجل بهذه الساعة الهاربة الطائرة، ولنتمتع بالهوى ولننعم، ليس للإنسان من شاطئ يستقر عنده ولا ساحل، وليس للزمن من جانب يقف عنده ولا ضفاف، بل أن الزمن ليمر، ونحن في الأثر. أيها الزمن الغيور الحقود، ما بال سويعات النشوة والطرب، حيث يرسل الحب نبعة السعادة. وعين الهناء! تطير عنا في سرعة أيام البؤس وزمان الشقاء!. كيف. . . ألا تستطيع أن نقتفي آثار أيامنا الحلوة ورسومها، وطيف، أتمضي إلى الأبد، لأرجع ولأعود، هل فقدنا كل شيء، وحرمنا كل بهجة، أم الزمان الذي حبانا بها، ثم جاء فنزعها، لن يعود؟. أيتها الأبدية، أي عالم العدم، بل أيها الماضي الراحل المتحمل، أيتها الهاوية السحيقة، الغاشية المظلمة! ماذا تصنعين بالأيام التي تلتهمين وماذا تفعلين بالساعات التي تبتلعين. . . تكلمي - ألا تردين علينا اللذائذ التي استلبت، والفرحات التي استرقت. أيتها البحيرة! أيتها الصخور الصامتة الخرساء، أيتها الكهوف المظلمة، أيتها الغابة الكثيفة المعتمة، أنت وحدك التي يغفل عنك الزمن، بل أنت الذي يرد عليك الصبا والشباب. أيتها البحيرة، الجميلة في صمتك وسكونك، وزمجرتك وحنينك، وعصفك ورنينك، في رابيتك الزاهرة وكثيبك، في هذه الصفصافات السوداء، في هذه الصخور الموحشة، القائمة فوق أمواجك، المشرفة على لججك وأه واهك. سواء في الريح تئن ثم تمر، في خرير مدك المتدافع، أم في الكوكب الفضي وهو يشرق فوق أديمك بأشعته اللينة الناعمة، بل أن الريح وهي تنتحب، والجدول وهو يئن وعبق نسيمك وهو يتضوع. . . كل شيء نرى، وكل شيء نسمع، يقول لقد كنا عاشقين!. الرحمة بين اليقظة والمنام جلت في المدينة جولة ليليلة فرأيت السقيم المأوف، والعديم المهلوف، والكليم المشغوف،

ورأيت الخليع الماسي الذي لا يرحم نفسه، والعتل القاسي الذي لا يرحم الناس، وسمعت من أخبار الشعوب، وأوضار الحروب، ما يغري بشق الجيوب. فقفلت إلى بيتي مثقل الرأس، مترع القلب، ونمت وأنا أقول أما في الأرض رحمة؟؟. وما استغرقت في النوم حتى كأنني أصعدت إلى السماء وكأن ملكاً أخذ بيمناي وذهب يعرض على أسرار حجابها، ويفتح لي مغاليق أبوابها، حتى انتهينا إلى موضع فقال الملك ارفع بصرك واقرأ - فرفعت بصري فنظرت سطراً من نور رقمت حروفه بالكواكب والأقمار وإذا هو: خزائن السماء. ثم تقدم على باب مكتوب عليه خزانة الرحمة ففتحها فإذا بها خاوية وحارسها نائم، وتقدم إلى باب آخر مكتوب عليه خزانة المال ففتحها فإذا هي خاوية كذلك. قلت ما هذا؟؟ قال: لقد سمعناك العشية تشكو قلة الرحمة في الأرض، فاعلم إننا نسمع الناس من عهد أبيكم آدم يطلبون الرحمة والمال فوهبناهم منهما حتى فرغت خزائن الرحمة والمال، وشرعنا في أن نملأها بجانب من كنوز السماء التي ضاقت بها الخزائن والناس لا يطلبوها وها هي خزائن الحكمة والعلم والذكاء والأخلاق موصدة لا تفتح أبوابها إلا ساعة أو ساعتين في كل حقبة. قلت: ولكنكم أسديتم الرحمة لمن لا يفيد بها ولا يستفيد. قال: بل أعطيناها لمن سألها - سمعنا الحكماء والشعراء والمرضى والتعساء يصيحون الرحمة الرحمة فقلنا هاكم الرحمة، ولم نسمع أحداً غيرهم يطلبها فحبسناها عمن سواهم. قلت هذا سبب الخطأ قال: بل الصواب هذا. قلت وكيف ذلك؟؟. قال: أو كان يجعل عندك أن نبذل الرحمة لمن هو في غنية عنها. أم كان يعجبك أن تمسكها عمن هو في حاجة إليها وكيف لعمري يأخذ الرحمة إلا من هو أولى بها من الناس كافة؟؟. قلت: أنا لا أفهم معنى للرحمة إلا إذا أسعفت من بلاء. فإن كنتم تبذلونها لأهل البلاء ففيم

بذلتموها؟؟. قال: وفيم نبذلها لغير المبتلين وليس يعرف البلوى إلا أهلها. أفتدعونا إلى أن نخص طائفة من الناس بأنعم السماء كلها ومعها الرحمة والبلاء ويبقي الآخرون بلا رحمة ولا نعمة ولا بلاء - ذلك مالا ينتظم به أمر العالم الأرضي. إنكم يا بني آدم تجتدون النعم وتلحفون في أجتدائها فإن أعطيتموها لم تحسنوا تصريفها فتلوموا القدر ولأنتم أحق باللائمة - تطلبون الرحمة فنرسلها إليكم فتقولون هلا بعثتم بها إلى الأغنياء. وإن سألناكم ولمه؟؟ أجبتم ليجودوا بالمال!! فكأنكم إنما تطلبون المال ولا تطلبون الرحمة. وكأن الذي أردتموه رحمة تحملها أكياسكم لا قلوبكم وتطلبون المال فإذا بعثنا به إليكم ترمونه في الدور والضياع ثم لا نلقيكم قانعين. ولا والله ما أردتم المال ولا الدور والضياع ولنكم أردتم ما في احتوائها من اللذة، وليت شعري إن كانت اللذة هي مبتغاكم فما أحجاكم أن تعلموا أنه قد تكون لذة ولا مال وقد يكون مال ولا لذة وإن ليس في الغني من اللذة أكثر مما في الفقر، لأنها إحساس في النفوس، والذهب متاع في الصناديق. فعرفت أن أرسطو قد خدع أهل الأرض حين زعم أنه جاءهم بالمنطق بفصه. وأحببت أن لا أسترسل معه في الحوار فقلت فما بال الناس أشقياء بما عندهم من رحمة وحتام يظلون في شقوتهم هذه؟؟. قال حتى ينتقل ما في هذه الخزائن إلى الأرض - فعلم الناس أن يطلبوا غير الرحمة فإن في أرضهم منها فوق كفايتها وهي لا تعوزهم وإنما تعوزهم نهاتي الكنوز المهجورة، وأنبئهم أنه ما دامت هي بعيدة عنهم فالأرض أرض والسماء سماء. وإني لأفتح الباب لأنظر وراءه نظرة، فاندفع فكر على عقبه ورن له في السماء صرير نبه الحارس النائم فصحوت. وأنا أقول أليس في السماء رحمة؟؟. عباس محمود العقاد

نصائح للشبان

نصائح للشبان العناية بالأزياء إياكم أيها الشبان والإسراف في الاحتفال بزيكم، والعناية المتجاوزة بثيابكم فإن تبديد المال في تزيين البدن وتطريته ليس له من منشأ غير الغرور، وإن أردتم الحق فمن أحط أنواع الغرور وأخبثها، إذ يظن بعض الشباب أن الناس سينظرون إليهم إذا مشوا في الطريق ويتبعونهم بأبصارهم، ويرسلون أعينهم في أثرهم وإنهم سيحسنون الحكم فيهم ويجملون الرأي إذا شهدوهم في أثواب جميلة زاهية، وأردية أنيقة مهفهة. ولكن ما أسخف ما أحمق، وما أكذب، فإن العقلاء من السابلة ليمرون بهم معرضين غير آبهين لجمال بزتهم وحسن شارتهم، وأما الذين يشاركونهم في هذا الغرور فسيعرفون أنهم مثلهم يحاولون التدليس على الناس والتمويه على المارة، فيهزأون بهم لذلك ويسخرون، وأما الأغنياء فلا يحتفلون بهم ولا يعتدون ولا يكون نصيبهم من المغرورين أمثالهم الذين يرغبون في التأنق ولا يجدون سبيلاً إليه إلا الكره والحقد والحسد. ومن ثم ينبغي أن يكون لباسك ملائماً مكانك في المجتمع ومرتبتك، فإن من الخطأ البين أن تظن أنك ستستفيد من جمال سمعتك وحسن مظهرك، لأن أقدار الرجال تقاس بكفاءتهم لنفع الناس وطواعيتهم ونشاطهم للعمل لهم، وأما عن النساء وغرورهن فلئن كانت الثياب الأنيقة الناعمة تسترعي ميل بعضهن، فإن السواد الأعظم من النساء حديدات البصر، نافذات النظر، حتى ليعرفن مخابر الرجال من مظاهرهم، وإنهن لينظرن إلى الرجال نظرات عميقة بعيدة الغور، لكي يخرجن لهن مقاييس أخرى غير الثياب يقسن بها الرجال ويزن، واعلم أن النساء وإن كن يملن أنفسهن إلى الغرور، إلا أنهن يكرهنه في الرجال. إذن فليكن لباسك رخيصاً لا فاحش الثمن، ونظيفاً غير حقير المظهر، وليكن اهتمامك بلون قميصك أكثر من اهتمامك بنفاسة قماش سترتك، وكن نظيفاً ما أمكنتك مرتبتك، دون إرهاق أو اعتساف، وحذار أن تعتقد يوماً أن هناك رجلاً فيه مسكة من العقل، سيجلك فوق مكانك، ويرفعك فوق منزلتك، لنفاسة ثوبك، وأناقة بزتك، ولعل أخبث نقائص هذا العصر، أن كل إنسان في نظر نفسه يرفعها فوق مكانتها الحقيقية في الحياة!.

ترجمة سعد زغلول باشا

ترجمة سعد زغلول باشا الرجل البرلماني الكبير ـ 3 ـ نعود فنسترسل في ترجمة هذا الرجل العظيم الذهن. الكبير الروح، المتوثب الوجدان، ونعود فنأخذ في دروسنا الجليلة التي نستمدها من الحياة العظيمة، والشخصية الكبيرة، وما كانت حياة العظيم إلا الجزء الأكبر من حياة الإنسانية نفسها، ولو أردت أن تستخلص تاريخاً حياً حاراً لأمة من الأمم، فالتمسه في تراجم عظمائها وقائمة أبطالها، ولو أنت تجاوزت ذلك إلى حياة عامة أفرادها، وعادي رجالها، لما كان تاريخك إلا مذكرات يومية بطعام الأمة وشرابها، وشبعها وريها، وحيوانيتها وعجماواتها، وليست تراجم كبار الرجال إلا برامج سامية للجنس، وخططاً عاليه للنوع، هي أشد أثراً في تطور الإنسانية من الفلسفة والعلم، وابتكارات الذهن، ومخترعات العبقرية، لأن هذه لا تهذب نفوس الناس، ولا تطهر من أخلاقهم، ولا توقد من وجداناتهم، بل إن الفلسفة والعلم والآداب والمبتكرات في كل يوم تقتل نفسها، ويمحو اليوم منها ما يثبت الأمس، وأما حياة العظيم، فلا تني تخلق عظيماً مثلها أو أشد عظمة، وهي بعد مطهرة لدهماء الناس، مهذبة لأخلاقهم ووجوه الحياة عندهم، وما كانت حياة نابوليون إلا نسخة أخرى من حياة هنيبال أو الاسكندر، بل كم خلقت ترجمة نابوليون من نابوليون صغير، له روح نابليون العظيم ومشاعره، وليست له قوته، وليس له حظه. تكلمنا فيما مضى عن نواح شتى من شخصية سعد زغلول باشا ومزايا عظمته ونحن اليوم ذاكرون شيئاً من قوة عزيمته، وقوة دأبه وإرادته، فمن ذلك أن المترجم به تعلم اللغة الفرنسية، وهو يكاد يجاوز الأربعين من سنه، ولم يلبث غير قليل حتى حذقها، وأتقن معرفتها، وبلغ من إلمامه بها، أن أدى الامتحان بها في علم الحقوق وهو قاض في الاستئناف، ونال بذلك شهادة الليسانسييه. وأنت ترى من ذلك أن هذا الرجل الكبير كان ينزل عن منصة القاضي ليجلس مجلس التلميذ، وذلك لأن العظمة لا تخجل من أن تستخدم ما تحتها في سبيل كماليتها، وإن الشاعر العبقري لا يضيره أن يجالس البغي لكي يستعين بتحليل نفسها على الإبداع في قصيده

وخواطره، والفيلسوف لا تسمو نفسه عن أن يماشي السكير لكي يدرس طبائعه وعوارضه، والبحاثة العالم لا يترفع عن أن يصحب السوقة ليكون مادة له في بحثه وتفكيره، والناس كلهم طلاب معرفة، وأشدهم في طلب المعرفة نوابغهم، لأن المعرفة، في التعريف الفلسفي، هي ضرب من القوة. هذا ولقد كانت الإرادة القوية عاملاً من أكبر العوامل في تطور العالم وارتقائه، وازدياد وسائل المدنية وأساليبها ومستلزماتها، فهي التي رفعت الإنسانية من ظلمة الخمول وحمأة الانحطاط، هي كشفت العالم الجديد، وفتحت مجاهل العالم القديم، وظهرت على متن العالم الجليد هي ذللت الكيمياء الحديثة وأحماضها، وهي أخرجت مكتشفات الطب الجديد وجراثيمه وأدويته ومضاداته، وهي اخترعت عجائب الطيران ومدهشاته. ولا أحسب الرجل الذي يحاول اختراق الطريق مسرعاً فتدهمه العجلات وكان يعجز عن بلوغ الجانب الآخر، لو لم تتعطل فيه قوة إرادته، فعطلت فيه قوة ساقيه، ألا ترى اللص الهادئ، يعدو والشرطي في أثره، وإذا به قد وقف بغتة عن عدوه، وكان سابقاً الشرطي بالمسافة البعيدة، ذلك لأن قوة الإرادة فيه قد اضطربت، فاضطرب لها مجموع جسمه. إن أمام الإرادة القوية الوثابة لا تتطاول صعاب الأمور وعسيراتها ولا تستكبر عظائم الخطوب وجليلاتها، بل أن اجتياز نابوليون هضاب الألب وجباله، وثلوجه وشعابه، هو الذي علمه أن يقول أن كلمة مستحيل ليست في اللغة!.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة [1] المنهج الصحي: وضع الأستاذان يس أبو النور ومحمد زايد وكلاهما من خريجي مدرسة المعلمين الناصرية كتاباً سمياه المنهج الصحي وراعيا في تنسيقه والأغراض التي أودعاها بين دفتيه ما قررته نظارة المعارف المصرية في علم تدبير الصحة وهو يقع في 82 صفحة من القطع الصغير وثمنه قرشان وهو يطلب من مكتبة البيان. [2] غاية الطالب في علم التاريخ: ألف الأستاذ عبد المقصود دغيدي أحد خريجي مدرسة المعلمين الناصرية كتيباً في التاريخ وافياً بما قررته نظارة المعارف في هذا العلم على تلاميذ السنة الثالثة وتبلغ صفحاته 74 صفحة وثمنه قرشان ويطلب من مكتبة البيان. [3] كنوز سليمان: سفر يقع في 160 صفحة وضعه ريدرهاجرد الكاتب الإنكليزي صاحب ألن كواترمين ونقله إلى العربية أمين خيرت الغندور والكتاب نفيس ذو قيمة يبد أنا نأخذ على جناب المترجم ولوعه بالغريب من المفردات والتراكيب وننصح له أن لا يعود مرة أخرى إذ هو ألف أو ترجم إلى مثل هذه الطريقة التي ينكرها جميع علماء البلاغة وليست البلاغة أن يعمد الكاتب إلى معاجم اللغة فيصيد غريبها وموحشها ويثبتها كيف كانت وإنما البلاغة لعمري في الأسلوب كما كرر ذلك حتى أوفى على الغاية الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز. ليست البلاغة كما قال المأسوف عليه الشيخ محمد عبده إلا ملكة البيان وقوة النفس على حسن التعبير عما تريد من المعني لتبلغ من مخاطبها ما تريد من أثر في وجدانه يميل به إلى الرغبة فيما رغب عنه. أو النفرة مما كان يميل إليه أو تمكين ميل إلى مرغوب أو تقرير نفرة من مكروه أو تحويل في اعتقاد أو تغيير لعادة أو ما يشبه ذلك مما يقصد بالخطاب، وذوق النفس كذلك لنحاسن ما نسمعه أو وجوه النقد فيما يلقى إليها. (وبعد) فإن مجال القول لا يتسع لأكثر من ذلك الآن. نجوي الضمائر: وهي طائفة من الرسائل الودادية التي دبجها يراع شاعر الإنجليز النابه روبرت بيرنز وبعث بها إلى السيدة م. ليهوز. كلارندا نقلها إلى العربية الفاضل عز العرب على ضابط المدرسة المحمدية الأميرية - وهو في 72 صفحة وثمنه قرشان - وعز العرب أفندي من أدباء مصر المعروفين غير أنا نلاحظ عليه هو الآخر استهتاره بالألفاظ حتى ليخيل إلى قارئه أنهه يحفظ ألفاظاً بعينها من كتاب بعينه ثم صار يجر إليها

المعنى جراً ويلزقه بها إلزاقاً حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى ألفاظاً غيرها ومنعه الإفصاح عنه إلا بها - وتلك وا أسفاه آفة المتأدبين. النجاة: للشيخ الرئيس أبي على بن سينا فيلسوف الإسلام كتاب جليل كبير اسمه الشفاه في المنطق والفلسفة الطبيعية والإلهية ثم اختصر الرئيس نفسه هذا الكتاب في كتاب آخر سماه النجاة. كتاب يبلغ 1024 صفحة وقد وفق الله الأستاذ الشيخ محي الدين صبري الكردي صاحب المكتبة العراقية بجوار الأزهر الشريف إلى طبع هذا الكتاب وقد جعل ثمنه عشرة قروش. صبح الأعشى للقلقشندي: أهدت إلينا المكتبة الخديوية الجزأين الثالث والرابع من كتاب الأعشى للإمام القلقشندي المصري كما أهدت إلينا الأول والثاني - والكتاب ليس بحاجة إلى التقريظ وكل ما نقوله عن هذا الكتاب إنه موسوعات عربية تمثل ما يحتاجه الأديب في تلك الأعصر من المعارف المنوعة ثم الإلمام بكثير من تلك المعارف والكتاب يباع الجزء منه بخمسة عشر قرشاً وهو يطلب من المكتبة الخديوية ومن مكتبة البيان وأجرة البريد عن كل جزء قرشان. الحياة القومية: سفر ينطوي على مباحث شتى في الأخلاق والاجتماع للفاضل أمين أفندي حمدي وقد ظهر منه جزأن وهو يطلب من مكتبة البيان وثمن الجزء قرشان. ربة الدار: وضعت السيدة الفاضلة ملكة سعد صاحبة مجلة الجنس اللطيف سفراً جامعاً أسمته ربة الدار حشدت فيه كل ما يجمل بالسيدات معرفته من علم تدبير المنزل وعلم الصحة وما إليهما وقد نظرنا هذا الكتاب فألفيناه خليقاً بالاقتناء وإنا نحت كل الزوجات وكل الأمهات وبالحرى كل صاحبة منزل أن تقتني هذا الكتاب حتى تصدر في أعمالها ومملكتها الصغرى عن علم وبصيرة، وثمن هذا الكتاب عشرة قروش وهو يطلب من مكتبة البيان ومن سائر المكاتب.

عالم الحرب

عالم الحرب كلمات الإمبراطور مختارات شتى من خطب غليوم ورسائله ومحاضراته وبرقياته، ومنها يخرج القارئ بتحليل واف لشخصية الإمبراطور ونفسيته، وأخلاقه وإرادته وتعاليمه وآدابه. كلمات عن الجيش لا ينبغي أن يكون للجندي إرادة، بل ينبغي أن يكون للجنود أجمعين إرادة واحدة. . . تلك هي إرادتي. إذا كنتم جنوداً أخياراً فيجب أن تكونوا كذلك مسيحيين تقاة، وأبراراً متدينين. إن الجيش وحده، لا البرلمانات ولا الأصوات ولا الأكثريات، هو الذي شاد بناء الإمبراطورية، ولذلك إني أضع ثقتي كلها في الجيش. عقيدته وآراؤه الدينية إن الملك يستمد سلطته من الله، وهو مسؤول أمام الله وحده، والملك هو الذي يختار طريقه بنفسه، وليس من مهيمن على أفعاله غير الاله. لا يمضي صبح ولا يمر مساء دون أن أصلي لأجل شعبي. أحب قراءة الإنجيل، وأقرؤه كل يوم، ولا يفارق لحظة واحدة فراشي، مهما يضمر المستقبل من البلاء لهذا الوطن، فنحن الألمان سنعرف كيف نتخلص من مخالبه معتصمين بهذا القانون السديد نحن الألمان نخاف الله ولا نخشى أحداً غيره في هذا العالم. إن من لا يضع حياته على أساس من الدين يخسر كل شيء. تعليمه السياسية ليس في هذه المملكة إلا سيد واحد. . . هو أنا - ولن أسمح لنفسي بوجود سيد آخر. ليس في ألمانيا إلا قانون واحد. . . هو قانوني، هو القانون الذي وضعتة بنفسي. لا أريد أن أرى قوماً متشائمين في هذا البلد، فمن كان بيننا لا يريد أن يعمل عملنا، فليهجر المملكة وليبحث له عن موطن آخر. إن سلام العالم يتوقف على العلاقات الودية بين إنجلترا وألمانيا.

لن أنسى روح تلك الكلمة التي قالها فردريك الكبير إن الملك في بروسيا هو أول خادم في المملكة. إن بابي مفتوح أبداً في وجه شعبي. حياتي وعملي معاً لأمتي وأنبل واجبي هو العمل لرقيها. ذهب أسلافنا وبقينا، ولا واجب الآن أمامنا غير الاحتفاظ بما ورثنا. إن الدولة الذائعة السلطان في الأرض لا تبني في يوم واحد. أنتم تلبسون ملابس الحكومة، ولهذا تنعمون بحق الأفضلية على غيركم. إن أشرف واجبات الحكومة هو أن تحمي الضعفاء ضد الأقوياء. آراؤه في البحرية الألمانية إن مستقبلنا على الماء. لا غنى لعظمة ألمانيا عن الأوقيانوس، إن الأوقيانوس هو الذي سيثبت للعالم أن فوق أمواجه وعلى متن بحاره لا يمكن أن يتم شيء دون رأي ألمانيا وإمبراطور الألمان. لن أستريح حتى أسمو ببحريتي إلى المكان الأرفع الذي ناله جيشي. انظر إلى نهضة اليابان، ثم فكر في حالة الصين، ويعد ذلك أحكم على قوة المحيط الهادي، إن الدول العظيمة البحرية هي وحدها التي سيصغي إليها بإجلال واحترام، ولهذا السبب وحده يجب أن يكون لألمانيا أسطول ضخم عظيم. إن بحريتنا ولا ريب لا تزال صغيرة بجانب بحريات أعدائنا، ولكن سر قوة بحريتنا وسلطانها في روح النظام، في طاعة جنود البحرية لقائدهم العظيم ولضباطهم النجباء. رأيه في الاشتراكية إن الاشتراكية سحابة صيف عما قليل تنقشع إن لفظة اشتراكي لهي عندي مرادفة للفظة عدو للحكومة والوطن. إن هذا الحزب الذي يجرأ على مهاجمة أنظمة الحكومة وآساسها والخروج على الدين، والانشقاق على العقيدة، وتبلغ منه الجرأة أن يتجاسر حتى على شخص الملك، يجب أن يسحق، يجب أن يبيد، إني لأبتهج أن أرى يد كل فرد في يدي سواء أكان عاملاً أم مالكاً أم أميراً، ما دام يبايعني على هذه الحرب.

إن بيتنا لن يبرح يهتم بأمر الصناع والعمال. إن صالح العمال لفي ناحية من قلبي.

رجال الحرب

رجال الحرب ولي عهد ألمانيا ليس ولي عهد ألمانيا في عظمة النفوذ وقوة الأثر في الأمة، وامتداد السلطان في الشعب، أقل من أبيه غليوم، ولا أصغر نصيباً، وهو اليوم رأس من رؤوس هذه الحرب وكبير من أكابرها، وليس هو كلداته ولاة العهد في سكونهم وانزوائهم قبل أن يحين حين تتويجهم، ولا هو كمية مهملة حيال سلطة الإمبراطور والده، بل ما فتئ منذ سنين يظهر لأمته شخصيته واستقلاله ومخالفته لأخلاق آبائه ملوك هو هنزلرن وتقاليدهم وآدابهم ورسومهم، حتى نال من قلب الشعب مكاناً رحباً عظيماً. وكان أول ما ظهرت حرية تفكيره وخروجه عن التقاليد الهوهنزلرنية العتيقة، في مسألة زواجه، ذلك أنه لما عزم على الخطبة، بت في نفسه أن لا يطيع إلا أمر فؤاده لا وحي أبيه، وأن لا ينصاع إلا لأميالهن لا لأميال السياسة، وأن لا يتزوج إلا للحب والجمال، ولم يعرف في تاريخ زوجيات الملوك والأمراء حادثة غرام كانت أحر ولا أطهر ولا أسمى روحاً من الحادثة التي انتهت بتزوج إمبراطور الألمان المقبل بالآنسة سيسيلي دوقة ملنبرج شويرين، صيف عام 1905، فإن هذه الأميرة السمراء الملامح، الفرنسية الآداب، الروسية الإصطلاحات، كانت يوم دخولها برلين، العاصمة الإمبراطورية كأنما تهاجمها هجوماً، وتدخلها قسراً واغتصاباً، وذلك لأن الزواج كان على كره من غليوم ورغم من الوالد، ولكنها قد أصبحت راسخة العرق في الأسرة الهوهنزلرنية، لأنها قد ولدت لولي العهد أربعة أولاد، كلهم قوي الأسر مملوء حياة، وذلك في مدة ثمانية أعوام. وفي صيف عام 1907 بدأ هذا الشاب الكبير لشعبه في مظهر جديد من الشخصية الوثابة المطلقة، وذلك أن مكسميليان هاردن، وهو من أكبر الصحفيين في ألمانيا وأعظمهم فيها سلطاناً، وآخر كتابها أسلوباً، جمل يملأ أعمدة جريدته المسماة () مغامز وفضائح ومثالب عن بعض حاشية الإمبراطور وبطانته، هذا ومعلوم أن الإمبراطور لا يستقى معلوماته إلا من قطع تختار له وشذرات تجيء في الصحف فتقتطع لأجله وكانت حملات مكسيميليان وقوارس كلمة موجهة إلى البرنس يولنبرج صديق غليوم المخلص الودود، وإلى القائد الكونت كونوفون مولتكي حرسي الإمبراطور ولكنها لم تبلغ مسمعي الإمبراطور، ولم تقدم

إليه وتناقلت طبقات الأمة هذه الحملات ولم يبق في ألمانيا كلها من يجهل أمرها غير رجل واحد، هو غليوم. فرأى ولي العهد أن وطنيته الحارة وإخلاصه البنوي يحتمان عليه أن ينهي إلى أبيه هذه الحقائق المرة وإن كانت سيئة الموقع ويقضيان عليه أن يسترعي إليها أنظار الأمبراطور وإن كانت ستغضبه وتثير حتفه، وكان من إخلاص هذا الشاب أن حكم على البرنس يولبرج والكونت فون مولتكي ووقع الرأي العام في هذين البلاطيين الكبيرين، ولم يكن فعل ولي العهد ليؤمنه من سخط الشعب وموجدته عليه، ولكن لم يحدث شيء من ذلك، بل حمل له الناس في قلوبهم يداً كبيرة، وصنيعاً مشكوراً. ولم يلبث غليوم أن أشرك ابنه في أمره، وأعطاه للمرة الأولى حق إمضاء أوراق الحكومة وتقاريرها، بالنيابة عنه. ثم جاءت مسألة أغادير والأزمة المراكشية عام 1911، فتجلت كذلك شخصية ولي العهد في أسمى جلالها، وظهرت روح استقلاله بأبدع مظاهرها، هذا وقد انعقد مجلس الريشتاغ وأخذ الندي يتباحثون ويتمارون في الخطة الضعيفة التي سارت الحكومة عليها في تلك الأزمة فقام زعيم المحافظين وخطيب الحربيين، فون هايد براند، وجعل يسلق الدكتور بتمان هولوج المستشار الإمبراطوري بألسنة حداد ويعيب عليه سلوكه في مسألة مراكش ويهجم عليه بالنقد المر والاحتجاج القارس الشديد وكان ولي العهد حاضراً المجلس في حجرته الخصيصة به، وكان يسمع خطبة الخطيب ويصغي إلى نقده، وقد وقع كلامه في قلبه موزقع الإعجاب، وجعل يصفق على أعين الجمع المزدحم وأسماعه لكل كلمة حادة يقولها ذلك الرجل العظيم الملقب بملك بروسيا اللامتوج فكان عمل ولي العهد هذا خروجاً صريحاً على سياسة أبيه وتمرداً بحتاً على حكومته، ولم يكن من المستشار بعد سكوت هايد براند عن القول إلا أن اكتفى بالرد عليه بكلمة واحدة وهي أن هايد براند جندي يحمل سيفه في فمه، فكأنما بتمان كان يريد بذلك وريث العرش، ولكن ولي العهد لم يستطع أن يمسك عليه عواطف الوطنية الحارة الجائشة في حنايا أضلعه الفوارة في أعماق صدره، وترك الريشستاغ وله في جوانح الأمة أكبر الأثر. وقد أظهر الشاب في كل أدوار حياته هذا المزاج الحاد والذهن المبتكر والشجاعة المتناهية،

وهو اليوم مشهور في الجيش بأنه فارس مجيد ومن أكبر المخاطرين في ركوب صهوات الخيل، ويذكرون عنه أنه قاد كتيبة من الكتائب الخيالة وارتقى بهم درج سلم القصر في بوتسدام حتى قمته، وصعد مرة في طيارة من طيارات زبلن، دون أن يصطحب أحداً أو يخبر والده، ولما كان في جزيرة سيلان ثم في الهند شتاء عام 1910 أبدى من المهارة والشد والبأس في صيده في الغاب والأحراش ما دل على انه من مهرة الصيادين والقانصين. وهو فوق ذلك جندي مغوار، أقام سنتين في حامية من حاميات دانتزيج، بعيداً عن برلين وبلاطها، وكان الناس يهمسون أنه كان في دانتزيج مقصياً منفياً، لأن الإمبراطور بدأ يغار من شهرة ابنه، وينفس عليه كبير شأنه ويقولون أن خياله الجيش الألماني لم تر قائداً يحكيه أو يضارعه. ولعل النقيصة التي فيها إكثاره من طلب الإجازات وإفراطه في التغيب عن وظيفته في الجيش ومرتبته، مرخياً العنان للهوه ومغازلة الحسان، حيناً تراه في سان مورتز في لعبة (المزالق) وحيناً في كييل، إذا أقبل الصيف الناعم الجميل، في يخته، ويغشى دور التمثيل في برلين، على أنه وإن أحب اللهو يحترم جنديته ويكبر من شأنها، وقد تنقل بين أدوار الجندي حتى بلغ رتبة القائد بقوة رأيه وجدارته، وليس حبه للألعاب الرياضية يعد تبديداً لوقته وإسرافاً في شخصيته، لأن ألمانيا كانت قبله بحاجة إلى من يرقى فيها الرياضيات ويرفع اسمها في حلبتها، وقد وجدته في ولي عهدها. وليس لمظهر ولي العهد ما يدل على مخبره، وليست فيه من المعارف والملامح ما ينبئك عن هوهنزلرنيسه، فهو طويل النجاد أهيف القوام، مهزوله غير عريض الصدر ولا ضخم الكراديس، ولا يخبرك ذهنه عن نصيب كبير من العبقرية أو النبوغ، وعبثاً تطلب مقدرته الحربية وكفاءته الأدبية من ثنايا فسيولوجيته، بل ترى ولي العهد على نقيض والده في تحبهم معارفه ومفتول شاربيه، بساماً مشرق صفحة الوجه، لا تفارق محياه ابتسامة صبيانية طاهرة، وهذا دليل من دلائل وقته. وهو من عشاق الموسيقى، ويجد التوقيع على القيثار، وهو مجبول على الحياء والتواضع ديمقراطي الآداب، حتى بلغ من حبه للشعب أن اشترك في حفلة زفاف إسكاف حقير في

بوتسدام، وقد قال يوماً (سيأتي اليوم الذي يجيء فيه الاشتراكيون إلى البلاط) وهو وإن كان يحب أن يطلق لسيارته كل سرعتها المقررة - وتعادل قوتها قوة تسعين حصاناً - إلا أنه قد عرف أنه كم من مرة أوقف السيارة ليرفع فلاحاً أو مسكيناً سقط في الطريق وليحمله إلى المستشفى. وترى ولي العهد لا يعبد بعد زوجته وأولاده إلا شخص نابوليون العظيم، حتى لقد ملأ حجرة مكتبه في القصر بعدة من صور هذا الفاتح وتماثيله، ودمياته وتذكاراته، على الرغم من أن بونابرت اجتاح منذ قرن مضى بلاد آبائه، وقسم إقليمها ولايات فرنسية ومقاطعات. وهو معبود الجيش الألماني، ويعدونه أعظم من غليوم أبيه، وأمهر في الحرب منه. ألبرت ملك البلجيك بين أساطين هذه الحرب وأبطالها الذين سيكتب لهم التاريخ صحيفة حلوة خالدة، يقف ألبرت ملك البلجيك، الصحفي والكاتب والمهندس والديمقراطي والحربي العظيم. ولعل المصريين كغيرهم من الأمم لم يسمعوا باسم هذا الرجل الشهم قبل ذلك اليوم الذي أرسل فيه لجنوده المحشودة عند لييج يقول لهم: أثبتوا أمام جيش الألمان وكان من ثباتهم ما عرفوه. ولقد كانت تضحيته وإنكارية ذاته وشجاعته النادرة المدهشة واستماتته في الدفاع عن شرف مملكته مثاراً لإعجاب سواد العالم، وقد حدث أنه كان يمشي بين الخنادق البلجيكية، والقنابل تتناثر وتتساقط حوله، وهو يقول لجنود (لو لم أكن قائداً في الجيش البلجيكي لوددت أن أفخر بأن أكون بينكم جندياً). وليست كراهة هذا الملك للآداب الرسمية والاصطلاحات بأقل جلالاً من شجاعته وروعته، وبلغ من ذلك أنه في بدء الحرب وهو يخطر بين صفوف جنوده مستفسراً منهم عن حالهم وبلائهم، جعل كل جندي يخاطبه بلقب الجلالة، فكان يمتعض منها ويقول لهم (لا تقولوا جلالتك، ولا تخاطبوني كمخاطبتكم للملك، بل نادوني بألبرت!). وكذلك عاش الملك ألبرت متحبباً لشعبه مختلطاً برعيته، ديمقراطي الروح، عالي الذهن، ومن الحوادث التي برهنت على ذلك أنه جاء إلى أحد ثغور بلجيكا الصغيرة في نزهة جميلة ساكنة. ولم يلبث أن صادق أهل هذا الثغر وصيادي الأسماك هناك وأصبح واحداً

منهم، وبلغ من حسن عشرته بهم أنه أسهم معهم بشيء من ماله في تجارة السمك بالقرية. وترى في ناديه العلماء والأساتذة والمهندسين والكتَّاب والتجار وكل من يتوسم فيه الخير لأمته. وقد حاز شهادة الهندسة بعد دراستها ثلاث سنين، ثم توفر على هذا العلم ودأب على إتقانه وهو الذي وضع الخطط لمد سكة حديد كهربائية بين مدينتي بروكسل وأنفرس وأبى في التجاريب التي أقيمت بعد الفراغ من مد تلك السكة لا أن يسوق أول قطار بنفسه. وقد وجدت السياسة والأدب فيه متعشقاً محباً، وقد ألف حتى اليوم أكثر من كتاب، وطالما صرح لشعبه أن المملكة لا تنتعش ولا ترتقي دون الفنون الرفيعة، وفي عام 1909 بدأ يدرس فن السفن وصناعتها وقصد أكثر ثغور فرنسا وهولندة لهذا الغرض، وعمد بعدها إلى درس فن الطيران والحذق فيه. وقضى دهراً وهو ولي العهد صحفياً عادياً يكاتب الصحف ويعمل لها، وذلك أيام كان في أمريكا أي عام 1898 وأقام بنيويورك وغيرها من أمهات البلاد الأميركية بضعة أشهر وألف كتاباً عن أمريكا بعد عودته منها، امتدح فيه فكرة الحكومة عند الأمريكان. والملك ألبرت أطول ملك في الغرب قامة وأوفاهم شطاطا تبلغ قامته نحواً من مترين وهو اليوم في التاسعة والثلاثين من عمره وارتقى العرش منذ خمسة أعوام بعد وفاة خاله الملك ليوبولد، وهو الابن الأصغر للكونت فلا ندرس، قتل أخوه الأكبر إثر حادثة غرام وكان هو وريث العرش، لأن أباه قد تنازل عن حقه في وراثة الملك بعد أخيه ليوبولد الشيخ المتهدم العمر لابنه الأكبر وفي سنة 1891 تنازل لألبرت بعد أخيه القتيل، فلما توفي ليوبولد خلفه على ملك البلجيك. وكان زواجخ عام 1900 بابنة دوق بافاريا كارل تيودور، وكان هذا من أمهر أطباء العيون في الغرب كله، وقام بنحو من خمسة آلاف عملية جراحية للفقراء في مستشفاه الخاص بميونيخ دون أجر، وقد تزوجها الملك ألبرت عن هوى بينهما وحب والملكة اليصابت مثل زوجها في قوة الذهن وجلال الروح، وهي تشغل من قلوب البلجيك محلالا يقل عن زوجها.

مصلحة البريد في ساحة القتال

مصلحة البريد في ساحة القتال ليس للجندي في ميدان القتال من لحظة عزاء وفرح غير الوقت الذي توزع فيه الرسائل من مصلحة البريد في الميدان. وليست إدارة البريد هناك إلا خيمة واحدة وليس عمالها إلا جنوداً بريديين، ولما كانت فرق الجنود في كل حين متنقلة من مكان إلى مكان. ذاهبة من موضع إلى موضع، كان من الصعب إرسال الرسائل إلى أصحابها في الميدان، ولكنهم اختطوا خطة تريحهم من متاعب هذا التنقل المستمر، ذلك أنهم جعلوا يقيمون إدارة بريد رئيسية في إحدى القرى التي تكون في مؤخرة خطوط القتال، بعيدة عن العدو ومنال يده، وهذه الإدارة هي التي ترسل الرسائل والطرود إلى فروعها في الساحة، فلكل فرقة بريدها، يتنقل معها حيث تنقلت: فإذا عسكروا وضربوا خيامهم، كان أول ما يضربون منها خيمة البريد، وهم يقيمون الحراس حولها شاكي السلاح، بينما عمال البريد في داخلها بأسلحتهم وبنادقهم، وليست هذه الخيمة على شيء من الأثاث لا تحتوي غير مقاعد صغيرة ومكاتب ضئيلة وأكياس الرسائل وجعبات صغيرة تقوم مقام صناديق البريد وهم يستعملون السيارات في نقل الرسائل من الإدارة وإليها وبين الفرق والفرق والخطوط والخطوط. وقد يحدث أن تتساقط على السيارة القنابل، وتتناثر حولها القذائف، وقد تقع في أيدي الأعداء، وأما الرسائل التي يبعث الجنود بها إلى أهلهم وذوي قرباهم فتوضع في تلك الصناديق ومنها تؤخذ إلى الإدارة الرئيسية، حيث يرسلونها إلى أماكنها فيما وراء البحار.

أساطيل الشمع والذهب

أساطيل الشمع والذهب اعتاد الإنكليز أن يصنعوا لكل سفينة حربية ينشئونها نموذجاً من الشمع قبل أن يأخذوا في إنشائها. وهذه النماذج توضع في أحواض خصيصة من الشمع لكي يختبر فيها نموذج السفينة، وهذه النماذج تبلغ في طولها بين أثني عشر قدماً وأربع وعشرين، أما الحوض فيتراوح طوله حوال أربعمائة قدم، والسبب في صنعها من الشمع هو أن الشمع لا يمتص الماء ولا يتغير ثقله، وإنه كذلك سهل التشكيل والتغيير إذا أرادوا أن يغيروا قالب النموذج ونظامه. ثم هم يصنعون لكل سفين نموذجاً من الذهب لا من الشمع، يقدم للملك لا لوزارة الحربية، ومن ثم ترى الملك جورج الخامس يحفظ لديه أسطولاً كبيراً من السفن الذهبية، وكذلك جرى الألمان على منوالهم، وارتسموا رسومهم، حتى تجد الإمبراطور غليوم يملك اليوم أساطيل عديدة، ولكنها من الفضة لا من الذهب، على أن أساطيل الملك جورج تمثل تقدم البحرية الإنجليزية وتطورها منذ عهد ويليم الفاتح، حوال القرن العاشر من الميلاد، وبين هذه النماذج عدة من السفن التي تصور عظمة البحارة الإنكليز الأبطال الذين عاشوا بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر.

كيف يعسكر الجيش

كيف يعسكر الجيش إذا أراد الجيش أن يعسكر في موضع من المواضع لزمت كل قوة من الجيش مكانها المعدود لها المقرر، فأما الفرق الراجلة فتضرب خيامها في الطليعة، حتى تكون أقرب الفرق بعداً عن الأعداء، وذلك لأن الراجلة تستطيع إذا دوهم الجيش المعسكر أن تلتقط أسلحتها وبنادقها في سرعة البرق وتتمكن من مواجهة العدو الداهم وقتاله، وأما الفرق الخيالة فهذه قليلة الجدوى إذا عسكر الجيش، نزرة الفائدة، إذ خيم، لأنها تستغرق زمناً طويلاً في إعداد خيلها وأسلحتها وامتطاء صهواتها، ولذلك تضرب خيامها وراء مضارب الراجلة، وأما المدفعية فتلزم مكاناً وسطاً، بعيداً عن حدود المعسكر وأطرافه، وذلك لأن المدافع يجب أن تحرس إذا قام الليل وتؤمن من شر المهاجمين الداهمين، وأما مورد الماء القريب من المعسكر فعليه حراس أشداء ليل نهار وكذلك خيم الأسلاك البرقية، وهي الوسيلة الوحيدة للمواصلات والمخابرات بين نقط الجيش. وليس لكل جندي في المعسكر إلا أن ينام دون شية أو وجل، لأن المعسكر تحرسه الحرس عند أطرافه وعلى كثب منه، حتى إذا انشق الفجر قامت الخيالة من نومها، حتى إذا تناولت فطورها في عجلة وسرعة انطلقت تكتشف الحركات التي قام بها العدو خلال الليل، وقد استعاضوا عن الخيالة في هذه المهمة بالطيارات، وللمعسكر شرطة يحفظون النظام بين الجند ويمنعون المشاحنات بينهم والمشاجرات.

تمائم الملوك

تمائم الملوك ذكرنا في العدد الأول طرفة عن تميمة الإمبراطور غليوم، وعلى ذكر ذلك نقول كلمة أخرى عن اعتقادات الملوك في التمائم وأثرها من الحظوظ والأقدار حتى يعلم القراء أن الإنسانية لا تزال ضعيفة الأعصاب، خوارة أمام الطبيعة وأن الملوك كعامة الناس وذؤبانهم وصعاليكهم لا يزالون ضعفاء النفوس صغار القلوب، وإن أوتوا من قوة السلطان، ومناعة الجانب ما أوتو. من المعروف عن أسرة هوهنزلرن المالكة أنها لا تزال تحتفظ بخاتم من الجعران تعتقد أنه سبب عظمتها ونجاحها، وتفصيل القصة أن أفراد الأسرة ومن ينتمي إليها يعتقدون أن فص هذا الخاتم سقط من جعران على فراش والد فردريك الأكبر، ولذلك كانوا يتوارثونه كابراً عن كابر. ويورثه الملك في ساعة احتضاره لوريثه وخليفته، وهو اليوم في أصبع غليوم الثاني، فإذا حضره الموت دفعه لولي عهده موضوعاً في حقه. وكذلك يعتقد قيصر الروس في خاتم يقولون عنه أنه يحتوي على قطعة صغيرة من الصليب الحقيقي الذي يظنون أن المسيح صلب فوقه، وحادثة هذا الخاتم أنه قدم إلى أحد قياصرة الروس الذاهبين من يد البابا، فلما مات ذلك القيصر دفعه إلى وريثه ثم أصبح يتوارث في الأسرة إلى يومنا. بل أغرب من ذلك أن قيصر روسيا الحالي يحتفظ إلى اليوم بمجموعة غريبة من النقود الشرقية القديمة كان أهداها أحد اليهود إلى القيصر إسكندر الثالث وزعم أنه رأى في المنام أنه سيكون لها الأثر الأكبر في عظمة الأسرة القيصرية!. ويضع الملك الفونسو ملك الأسبان إيمانه في خاتم يعد من أشهر الخواتيم في التاريخ حتى لقب بخاتم الأسبان. وكان أهدي إلى أبيه الفونسو الثاني عشر من إحدى السيدات المتدينات، فكان الفونسو السابق يعتقد أن للخاتم أثراً كبيراً في مستقبل أسبانيا وحياتها، وأمر أن يعد أبدا تميمة المملكة فحفظها عنه ابنه الفونسو الحالي. وكان الملك إدورد السابع من أشد الملوك اعتقاداً بالتمائم وأمثالها من الخرافات وكانت تميمته سواراً أهدي إليه من أحد أصدقائه في مرضه الشديد الذي أجل من أجله يوم تتويجه بعد وفاة الملكة فيكتوريا والدته، فلما أبل من مرضه اعتقد بأن للسوار يداَ كبرى في شفائه، فلما توفي أمر أن يوضع السوار في المخلفات الخصوصية التي يتركها للملك جورج، وهو لا يزال في حوزته.

الإمبراطور غليوم والتاج

الإمبراطور غليوم والتاج من أغرب ما يذكر عن الإمبراطور غليوم الثاني أنه لم يتوج ولم تقم له حفلة التتويج وتفصيل الحادثة أن غليوم لما اعتلى أريكة بروسيا أخذ يعد المعدات الكبرى لحفلة تتويجه بالتاج الإمبراطوري وأمر أن يحشد للحفلة كل بديع، وكل جميل، وإن تكون أبهي مما وقع من حفلات الملوك والتيجان، ولكن للأسف لم يتم شيء ولم تتحقق الآمال وذلك أن غليوم قرر أن لا يموج باسم (الإمبراطور الألماني) ولكن باسم (إمبراطور ألمانيا) لأنه وجد في الأول لقباً أضأل من الثاني وغير جدير به، ولكن ملوك ألمانيا وأمراء مقاطعاتها وولاياتها رفضوا أن يتخذ ملك بروسيا هذا اللقب العظيم فلم يكن من غليوم إلا أن قال (إذا فلست أريد التتويج مطلقاً!) وكذلك كان.

كيف يقضي كتشنر نهاره

كيف يقضي كتشنر نهاره يعد اللورد كتشنر ناظر الحربية الإنكليزية اليوم من أكبر رجال النشاط والمتاعب فهو وإن كان اليوم في الربيع الواحد والستين من عمره لا يزال في نشاطه وقوته ودأبه وثباته، ولم تكد تلقى إليه في هذه الحرب مقاليد وزارة الحربية حتى أبى إلا أن يجد له منزلاً بجوار مكان الوزارة، ولحسن الحظ عثر بمنزل إحدى السيدات النبيلات على مقربة من الموضع إزاء منزل المستر بلفور، الزعيم البرلماني المشهور. فإذا كان الصبح، أقبل اللورد عند التاسعة مخفاً نشيطاً يريد نظارة الحربية، فإذا استقر به المكان أخذ يطالع الرسائل العامة الواردة إليه من ساحات القتال وغيرها فإذا انتهى من ذلك عقد مجلساً بينه وبين مستشاري الحربية ورؤساء أقسامها، أو من الوزراء، وتجد مجلسه مع الوزراء يستغرق أحياناً ساعتين من وقته وبعد ذلك يعود إلى الوزارة ليتناول فطوره، أما في المساء فلا يعرف للورد برنامج مقرر، فهو إن لم يكن في حجرته من النظارة، لابد من أن يكون في استعراض الجنود، وسواء أهذا أم ذاك لا يخفت له نشاط، ولا يعتريه كلال، فإذا جاء المساء تناول العشاء في النادي ثم يعود بعده إلى الوزارة فيمكث هناك أكثر الليل.

رجال الحرب

رجال الحرب الفرد فون تيربتز منشئ البحرية الألمانية إذا أراد المؤرخ أن يضع تاريخاً صادقاً دقيقاً لتطور البحرية الألمانية وارتقائها، وتقدمها ونمائها، فلن تجد اسماً يضعه على رأس هذا التاريخ إلا اسم رجل واحد هو فون تيربتز. فإن لهذا الرجل الصلب العود المتشعب اللحية، السياسي الملاح، التيوتوني المعارف والسمت، الفضل الأكبر في نهضة ألمانيا إلى مصاف دول البحار. فهو وحده موجد أساطيل الإمبراطور. وهم يسمونه في برلين (تيربتز الخالد) ذلك لأنه قد مضى عليه وهو في دفة الوزارة نحو من خمسة عشر عاماً، لم ينزل في خلالها عن مقعده ولم يعتزل أو يعزل عن منصبه، وليس في الوزارة الذين تقلدوا مناصب الوزارة من لم تزعزعه عن مكانه عواصف السياسة وأزماتها هذا الدهر الطويل اللهم إلا هو وبسمارك، فقد تقلد كثيرون من المستشارين مقاليد الاستشارة ثم تحملوا. وجاء كثيرون إلى وزارة الحربية ثم ذهبوا وتعاقب العديدون على كراسي الوزارة الأخرى ثم نزلوا، هذا وتيربتز لا يزال متربعاً في دسته منذ عام 1898 سائراً في سبيله البحري وخططه. وليس تيربتز من أصل عريق، ولا هو من الذين يمتون إلى محتد شريف، بل على النقيض من ذلك نشأ من عامة الناس، لإسناد له الأهمية عظيمة، لا تعرف النصب ولا رأس مال له إلا قوة الإرادة وعلو المطمح، وكانت هي وحدها كافية لأن تنقله من بحار بسيط إلى إدارة قوى البحر كلها، فهو الرجل الأوحد في وزارة البحرية الذي يجمع بين أثوابه المهارة البحرية والنبوغ العملي والحذق في السياسة، حتى أن الصحف الألمانية والتقارير الحكومية تقرن اسم تيربتز ابداً باسم المستشار، وذلك لأن ألمانيا فقيرة بمستشاريها. وتيربتز هو الذي جعل ميزانية البحرية الألمانية تتدرج من ستة ملايين من الجنيهات عام 1898 إلى ثلاثة وعشرين مليوناً عام 1913 وكانت سياسته وقوة شخصيته هي التي لعبت بعواطف الأمة، وسحرت رجال الرشتاغ، فرضوان بهذه الزيادة، وأقروا بتوسيع

نطاق التقدم البحري، والإكثار من حشد الأساطيل. ولد بعيداً عن البحر وشواطئه من أبوين فقيرين خاملين، فلم يكن في منشئه ولا في مظهره ما ينبئ عن أمير للبحرية وزعيم في السياسة، فلما كان في السادسة عشرة بعد الفراغ من المدرسة وتعليمها دخل تلميذاً متطوعاً في البحرية البروسية، وكانت يومذاك لا تتألف إلا من عدة سفائن صغيرة فلم يلبث غير أربعة أعوام حتى نال رتبة الملازم، ولما ناهز الخامسة والعشرين ظفر برتبة القائد البسيط، وفي هذا الموطن الصغير كان أول ما ظهر من مقدرة تيربتز المدهشة على الابتكار، وبوادر ما تجلى من عبقريته في سيطرة آرائه ومبادئه على آراء من فوقه ومن دونه، وفي هذا الموطن بدأ ذلك النبوغ العملي الذي كان الحجر الأساسي لحياته المقبلة ومنذ ذلك اليوم وهو قد اعتاد أن يمعن في التفكير والابتكار وسبق زملائه في البحرية وغير البحرية بسديد الآراء. وناضج الفكر، فكان يكتسب بذلك قلوب أشياع كثيرين، ويسحر الباب عصبة ليست بالقليلة، حتى لكأنما قد خلق هذا الرجل بطبيعته قائداً ومبتكراً، ولعل السبب الأكبر الذي جعل أزكى الرجال وأخصب الأذهان تلتف حوله وتقبل عليه يرجع إلى تمرده على الآداب البروسية القديمة، والتقاليد الحربية العتيقة، ونعني بها احترام السن وتبجيل الكبار، وكانا يريدان أن يسودا بين رجال البحرية وموظفيها، ولذلك سن قانوناً جديداً، هو أن الجدارة والأهلية هما الخليقان دون غيرهما بالاحترام والإكبار. وجاءت سنة 1891 فخطا تيربتز بكفاءته إلى رئاسة محطة كيبل البحرية، وكانت كيبل مريض الأساطيل الألمانية ومثواها. وهناك سنحت له الفرص لإظهار براعته وقوة ابتداعه، فاهتم أول أمره بإنشاء النسافات وتحسينها والتمشي بها نحو الكمال، وإن قوة ألمانيا المعترف بها في هذا الفرع من البحرية هي نتاج دأب تيربتز ومهارته. ولم يكن صعود الرجل من سطح السفينة إلى مقعد الوزارة لينجيه من مطاعن المنافسين والحاقدين، ولم يكن ليجعله بندوة من نقد الناقدين وشتم الشاتمين، ولكن فون تيرينز كان فوق الشتائم وفوق المطاعن فلم تنل منه شيئاً، بل كان يلقب بين رجال البحرية بالسيد. وكان فون تيربتز لا يبرح ينظر إلى المستقبل بتلك العين الذكية الوقادة، فما كاد ينتهي من ذلك العمل الشاق العظيم، وهو تنظيم إدارة البحرية، واختيار الأذكياء والنوابغ لها، حتى

توفر على إيجاد أسطول ألماني ضخم، يكون خليقاً بهذا الاسم، وكان التقدم الصناعي الألماني قد بلغ أشده، وانتهى إلى الغاية البعيدة، وكانت سفنها التجارية في البحر قد اتسع نطاقها وازداد، فوجد تيربتز أن الفرصة سانحة لنشر الروح الجديدة التي يريدها، وهو العمل على التأهب ببحرية كبرى، ووقع في سنة 1899 ما أعانه على مطلبه، ذلك أن سفينة بريدية من سفن الألمان وقعت في أسر سفينة حربية للإنكليز، وهنا وثب هذا الرجل فاستخدم هذه الحادثة بكل ما أوتي من قوة وبيان، وأبدى للأمة وريشتاغها أن هذه الحادثة تمثل الخطر الدائم الذي لم يبرح يحدق بالعلم الألماني الخفاق فوق سفن التجارة، ما لم ينشأ لحمايتها أسطول عظيم، وكان القانون البحري الذي سنته ألمانيا في سنة 1900 وليد ذهن تيربتز وقريحته، وكان من إقرار الريشتاغ عليه أن أعطى لقب النبل المتوارث، وهو كلمة فون كما ترى وأنزل إلى البحر أول سفينة حربية عظيمة تحمل ثلاثة عشر ألف طن، في سنة 1902 فرفع إذ ذاك إلى لقب أمير البحرية العام، وتوصل بإيقاد عواطف الشعب وإرسال الحمية في نفوس سواد النواب إلى سن المذكرة البحرية الإضافة القائلة بوجوب إنشاء الدريد نوط بين أربعة وستة في العام، فانعم عليه الإمبراطور بأسمى وسام في الإمبراطورية ذلك هو وسام النسر الأسود. هذا وتيربتز من محبي إنجلترا والإنكليز، ومن عشاق كل ما هو إنكليزي، بل قد تعلم كل أولاده في إنجلترا. والعزيمة الحديدية هي أكبر مزايا هذا الرجل، بل هي التي أنشأت البحرية الألمانية بل أنشأته، وهو الوزير الأوحد الذي لم يعتد الخضوع لذلك السيد الفرد، ولم يعرف الاعتصام بالاستكانة له والسكون، بل إن له لإرادة قاسية، وهو يعرف كيف ينفذها. وهو اليوم في الرابعة والستين، لا تزال تجري في عروقه حرارة الشباب وفضيلة النشاط، وهو رب أسرة، ووطني كبير الذهن يغلي بالوطنية، فلا غرو بعد ذلك إذا عد في طليعة منشئ ألمانيا الحديثة. فون درعو لتز باشا من بين نوابغ العالم الذين يحملون السيف في يد، والقلم البليغ في أخرى، وطبقت شهرتهم الخافقين في الدولتين، فون درعولتز باشا، فإن هذا الفيلد مارشال الشيخ كان يكون نابها

بأدبه ومؤلفاته وإن لم يكن جندياً يخططه الحربية وتنظيماته، بدأت مقدرته الأدبية وهو فتى حدث، في ريعان العمر، وكان أول فرع في الأدب أحبه هو الروائيات، وضع في شبابه روايات غرامية، كان يبيعها ليعول بثمنها أماً أرمل فقيرة ثم أخذ يبدي براعته شيئاً فشيئاً، ويتنقل من الغراميات إلى الحربيات، حتى وضع بعد ذلك كتاب ليون غمبتا وجيوشه فعلاً بالكتاب صيته، ونبه ذكره، وكان هذا المؤلف الحربي يجور حول إنقاص مدة الخدمة الحربية في ألمانيا من ثلاث سنين إلى سنتين، وهذه الفكرة هي التي كان الحزب الاشتراكي في الريشتاغ يدعو إليها بعد ذلك. ويشتد في طلب العمل بها، واتهم جولتز أثر ذلك بأنه من أشياع الحريين وهي تهمة لا تليق بضابط يلبس أردية الحكومة، فعوقب من أجلها بإنزاله إلى رتبة دون رتبته، وانتشر الكتاب في سنة 1877 فأثار هزة كبرى بين أفراد الأمة، على أن الكتاب مهد الطريق إلى تحقيق هذه الفكرة فحققت بعده بستة عشر عاماً. ولعل أحسن مؤلفات جولتز وأعظمها في العالم أثراً كتابه (أمة في السلاح) نشره عام 1883، وكان يومذاك في الأربعين، وهو كتاب رشيق حماسي متين الحجة، يرمي إلى وجوب الخدمة العسكرية الإجبارية، وقد ترجم الكتاب إلى بضع عشرة لغة، ووعته كلا حكومة في الغرب ودرسته، ثم اتبعه بمؤلفات أخرى اشتهرت شهرة الأولى، منها (حروب فردريك الأكبر) و (فن قيادة الجيوش) و (التاريخ الحربي لألمانيا في القرن التاسع عشر) وقد تجلى في هذا الكتاب الأخير من أكبر دعاة النظرية القائلة بأن الحرب هي المنشأ الوحيد لتقدم ألمانيا. وقد اشتهرت أسلوب غولتز بالرشاقة والخفة والوضوح والمائية، حتى عد بذلك من أساطين رجال الأدب. ودعي غولتز عام 1883 إلى تنظيم حربية السلطان عبد الحميد السابق وإصلاح فاسدها، وكذلك ظل حتى عام 1895، وجد الجنود العثمانية جمعاً مشتتاً مبعثراً، لا يحتوي غير رجال غفل، لا يعرفون أساليب القتال ولا شهدوا نظاماً. ولو سمعت ما كان يجري حول هذا القائد منذ يوم وصوله الآستانة إلى يوم رحيله عنها، من المكايد والفتن والدسائس في عهد السلطان المخلوع، إذن لعجبت كيف استطاع فون

جرجولتز، حتى في مدى الأثنى عشر عاماً التي لبثها، أن ينجز شيئاً من الإصلاح، فقد حاطه عبد الحميد بعدة من الجواسيس والعيون، يحولون بينه وبين كل سبيل، ويعرقلون له كل سعى، وحدث مرة أن جولتز نجح في استخلاص الأذن من السلطان بإقامة استعراض يمثل القتال، وما كاد يبدأ بذلك الاستعراض، حتى جاءه الأمر بالامتناع عن إتمامه، لأن عيون السلطان ألقت في أذنه أن السبب الوحيد في عمل هذا الاستعراض هو القيام بمؤامرة حربية عليه، ولم يسمح ذلك السلطان العصبي المستبد يوماً للقائد جولتز أن يترك جنوده في أيام التمرين يستعملون رصاصات الخرطوش، وما استطاع يوماً أن يجعل مدفعيته تستعمل في أوقات التجربة شيئاً من البارود، واشتريت بنادق موزر من ألمانيا لأجل الجنود العثمانية، ولكنها ظلت مكدسة في غرائرها مربوطة في أكياسها زهاء ست سنين في مخازن الآستانة، وهذه هي التأثيرات التي كان يعمل تحتها القائد جولتز. ولكن قوة الرجل ودأبه العظيم وصبره الطويل، كل ذلك ساعده على أن لا يرحل عن تركيا إلا وقد أسس لها جيشاً وإدارة حربية ومدرسة عسكرية ومصلحة طبوغرافية، ووضع كذلك لها الخطط الحربية لقتال جيرانها والدفاع عن بيضتها حيال دول البلقان. فلما كان عام 1909، وقد وضعت تركيا الفتاة السلطان عبد الحميد عن العرش، وأعلنت الدستور، دعى جولتز بعد فراق أربعة عشر عاماً إلى الرجوع إلى تركيا وتنظيم الجيش الجديد، ولكنه اعتذر، على أنه قضى في العام التالي زهاء شهرين في الآستانة بين تلاميذه وأصدقائه القدماء، وقفل إلى ألمانيا راجعاً وهو يتوسم الخير في العصر الجديد. ولما انهزمت تركيا في حرب البلقان الأخيرة، جعل بعض القوم في برلين وألمانيا يرمون جولتز باشا بالنقص، وينسبون إليه جريرة هذه الهزيمة. هذا الجندي الشيخ، قد أوفى على السبعين، وكان في حرب سنة 1866 ملازماً ثانياً وقد تفتت عظم كتفه اليسرى في تلك الحرب من إحدى القنابل، ثم جعل يرتقي من مرتبة إلى مرتبة حتى فاز بلقب الفيلد مارشال وبوسام النسر الأسود، وهو يرجع نسبه إلى أسرة جولتز وقد نبغ له جد ارتقي إلى رتبة المارشال في عهد لويس الرابع عشر، وهو رقيق المظهر مشرق الطلعة، على حين أن له قلباً من الصخر وإرادة من الحديد، لا تحفل بشيء ولا تكترث، وأكثر مزايا شخصيته الإعراض عمن فوقه من الناس والتعطف والتودد لمن

هم دونه، ووظيفته الحربية تستلزم حضورة إلى البلاط في (التشريفات الرسمية) ومن امتيازاته فيها أن يحمل سيف الإمبراطور. خوف الإمبراطور من الأمراض بينا يسير الإمبراطور في ساقة الجيش اليوم، لا تراه يتخلى عن أطباء بلاطه لحظة واحدة، فهو يخاف اغتيال المرض له، خوف قيصر الروس من غيلة سكين الفوضوي فإذا ما أصاب الإمبراطور ولو يسيراً من برد، لم يلبث أن يأوى إلى فراشه ويدعو إليه أطباءه، تاركاً العناية بكل شيء سوى صحته، وإذا كان في رجال حاشيته من يتألمون من إصابة البرد رأيتهم يحذرون جد الحذر من أن تظهر عوارض السعال عليهم وهم في حضرته، ولو عجز أحدهم مرة عن إمساك سعاله، وهو بين يدي الإمبراطور أذن لما كان نصيبه إلا الطرد من لدنه، وعليهم أن يستعملوا مناديلهم وراحهم، ويتحصنوا من السعال وراء أكفهم، حتى لا يبدو هذا العارض أمام الإمبراطور. وقد اعتاد في برلين أن لا يخرج للرياضة إلا في رداء كثيف، يسخن على النار قبل أن يشتمل فيه، فإذا كان في حلقة الكرة، راح يلعب مع رجال بلاطه وأصدقائه وهو في ردائه هذا المحمي بينا ترى اللاعبين في لباس اللعب، والعرق يتصبب من عوارضهم وأكسيتهم.

الطيارون الحربية الفخمة الأثاث

الطيارون الحربية الفخمة الأثاث يعجب القارئ إذا سمع بالأثاث الفاخر الذي تحتويه الطيارات الحربية اليوم، فهي أشبه بالحجر الأنيقة في البيوت منها بمجالس بسيطة في آلات تطير في الأجواء، إذ ترى أمام السائق دولاباً فخماً وعدة من الأدراج تحتوي أشياء كثيرة، منها زجاجة لمعرفة درجة الحرارة. وأنابيب من الشكولاتا، مغطاة بالصفيح لحفظها من الرطوبة، وقنينة من خمرة الكونياك، كأسعاف وقتي للطيار إذا أغمي عليه، أو أحس بدوار، واسفنجة مشربة بالغاز ليمسح بها الآلات، ومسدس موضوع في رف مخصوص له ودرج للرسائل والكتب، وبجانبة عدة من أقلام الرصاص مختلفة الألوان، لكي يجيد الطيار رسم مواقع العدو ومرابطه وأمامه لوحة من ألواح الطباشير وعدة من المصورات الجغرافية، وفضلاً عن ذلك ترى مدخنة الآلة تمر على أديم الطيارة تحت قدمي الطيار، لكن تبقى في دفء طيب، ولكي يتحصن الطيار بالحرارة من تأثير برد الجو ورطوبته، وأعجب من ذلك أن يجلس الطيار في مقعد فخم أنيق، ذي مسند كبير، كمقاعد القضاة والوزراء وأهل الثراء!.

النقود بدل الرصاص

النقود بدل الرصاص وكان الثوار الهنود في الثورة الهندية يحشون بنادقهم بقطع من النقود الفضية، فلما نفدت هذه كذلك، جعلوا يقذفون على العدو من أفواه البنادق والمدافع أحجاراً خالصة من العقيق، وبلغ من جنود سراج الدولة الهندي الثائر، في الثورة الهندية، أن عمدوا إلى حشو قذائفهم بقطع من الموازين، كانوا يجمعونها من الحوانيت، فيسوون طرافها حتى تكون على شكل القنابل، لكي يسهل عليهم إطلاقها من الفوهات.

كيف تتخاطب السفن الحربية في عرض البحار

كيف تتخاطب السفن الحربية في عرض البحار لكل سفينة حربية في البحر معدات التلغراف اللاسلكي، وهذه توضع في مكان خصيص منفرد، يسهل على ربانها أن ينفذ إشارته ورسائله إلى السفن الأخرى الماخرة عباب البحر، أو إلى السواحل القريبة منه أو إلى محطات التلغراف اللاسلكي التي تكون على كثب من السواحل والثغور، ولكل أسطول من أساطيل الدول سفينة كبرى، هي التي تخاطب إدارة أمير البحرية رأساً، وتأخذ منها أوامرها وتعليماتها ونواياها، فتبلغها إلى المراكب الراسية عند السفن، وهذه تنشرها في سفن الأسطول كلها، وترى كل سفينة تتبع إرشاد محطة معينة على الساحل أو نقطة مخصوصة تختلف إليها الغواصات والنسافات، وأما عن التخاطب بين السفن عن مواضع العدو والاحتراز من مباغتاته وغيلاته، فإن التلغراف اللاسلكي لا يفيد فتيلاً، بل تراهم ينفذون بعض الغواصات لاستكشاف مواقع سفن العدو وممارحها والحركات التي تجمع أمرها على عملها، فترسل بذلك تقريرها إلى السفينة التي تكون في أثرها، وهذه تبلغ التقرير بواسطة مصباح مورس إلى أمير الأسطول الرابض، وقد تستعين الغواصات أحياناً ببعض النسافات، فإذا فرضنا أن ثلاثين من هذه السفن أنفذت إلى اكتشاف العدو، فإنها تكون في أغلب الأحيان هدفاً للظهور على أعين العدو، ومن ثم يستحيل على الأسطول أن يمر في خفية، دون أن يشعر به أو يحس.

حقوق الفيلد مارشال

حقوق الفيلد مارشال رتبة الفيلد مارشال هي أسمى رتبة في الجيوش الغربية، ومن حقوق صاحبها أنه لا يعتزل عن خدمته في الجيش ولا يفارق وظيفته فيها، حتى آخر لحظة من حياته، وقد يعطي في بعض الأحيان نصف مرتبه، ولكن هذا لا يعفيه من الخدمة، ولا يعد اعتزالاً أو معاشاً، بل لا يزال اسمه في قائمة رجال الحربية، الذين لا يزالون في خدمة الحكومة، ومن القوانين الحربية الإنكليزية أن لا يزيد عدد حملة هذه الرتبة في المملكة كلها عن ثمانية لا يدخل في ذلك من أعطى رتبة الفيلد مارشال لقب شرف، أمثال الملوك والأمراء والإمبراطورة، ومن بين هؤلاء الثمانية يجب أن ينتخب لهذا اللقب الفخم العظيم اثنان من رجال الجيش الهندي، وعطاء الفيلد مارشال في البحر الأبيض هو خمسة آلاف جنية في العام، ولعل أقل عطاء يناله الفيلد مارشال العادي هو ثلاثة آلاف، وهذا يزيد على عطاء أمير البحرية ورتبته تعادل كلمة فيلد مارشال بحري وهو لا يتقاضى أكثر من ألفين وخمسمائة.

عالم الأدب

عالم الأدب شاعر يتمرد هذه قصيدة متمردة صارخة باكية، أرسلها الشاعر لامارتين، قلب الدنيا وصوت الطبيعة، في ساعة حزن قاتل، ويأس ثائر، وعاصفة إحساسية شديدة، هي ضمير رجل متمرد ساخط ضاقت نفسه من شرور العالم وآلامه، وأظلمت صفحة روحه أثر عارض من عوارض الهم، ونكبة من نكبات الإحساس، حتى حسب الأرض والسماء وعناصر الكون في مناحة مثله. تئن أنينه وتنتحب. أيتها القوة الإلهية، هذا هو الشر قد ساد في مملكتك، هذا هو السوء صعد ذروة دولتك، خلق كل ذي فكر، وكل ذي نفس، لأن يلتهمه الألم. ويظفر به العذاب، بل إن الأرض والسماء، والروح والمادة، كل يتألم ويتنهد، هذا صوت الطبيعة لا يخرج إلا نفساً صاعداً متراجعاً مستطيلاً، إذن فأرفعوا أبصاركم إلى اقطار السماء، ودوروا بأعينكم في آفاق الزرقاء، والتمسوا الله في صنعه، واستصرخوا من آلامكم وأوجاعكم ذلك المعزي العظيم. بأي اسم نسميك، أيتها القوة الأبدية، وبأي لقب نلقبك، أنت التي نسميك القدر والطبيعة والعناية والقانون البعيد عن متناول الذهن، العظيم على ملمس العقل، أنت التي ترتجف في يدك، ونرتعد في قبضتك، أنت التي ننشق عليك ونتمرد، مخافك خاضعين وتائرين، ونحبك راضين وغير راضين. أنت أبداً أمامنا. وأنت أبداً أنت!. أية جريمة ارتكبنا حتى استحقنا الحياة. واستوجبنا الوجود. هل طلب العدم الظهور، أم هل رضي بالخروج، إذن فابعثوا صوب السماء ببخورها الذي تحب وانفذوا إلى عرش الله العطر الذي يستطيب، بتنهداتكم، وعولاتكم، وأناتكم وعبراتكم، وسخطاتكم، والحاداتكم، وأنت أيتها الأصوات المهتدجة المحتبسة الدامية، وأنت أصوات الموتى، وأجراس الهلكى، وصرخات المرضى، ورنات الثكلى، أصعدي فأطرقي تلك الأبواب المقفلة، ودقي منافذ قصر الأقدار، ومغاليق مداخل العزيز الجبار. ألا فارفعي أيتها الأرض صراخك، وأنت يا سماء رددي، ويا أيتها الهاويات الدامسة، أيها الإقليم الأسود المظلم، حيث يركم الموت فرائه، لا تخرجي من أعماقك إلا أنه واحدة، شكاة أبدية، تكون شهيداً على تهمة الطبيعة، وظلم الأقدار، بل إن الحزن ليجعل الخليقة تبث

الطبيعة صوتاً منتحباً مجهشاً. انظروا، هذه هي المادة قد استكانت لشرور الخليقة ومفاسدها، وذلت لفوضى السيئة وتمردها، والهفاه، إن البدن يتلوى ويتعذب، واحسرتاه، إن الحياة غير من العدم. إن العناصر لتتقاتل في جوف الدنيا وتتحارب، إنها لتتطاحن في أحشاء الكون وتتضارب، وإن الزمن ليذبل وردة الحياة، ويذبل غلائل الخليقة، متربعاً فوق الأطلال التي ركمها، متهادياً بين الرسوم العافية التي كدسها، واقفاً على رأس الكائنات المتحولة يريد ابتلاعها، مقيماً على مرصد من الأحياء يرتقب التهامها، وهذا أخوه الموت يختطف أصول الإنسانية من حجور الأمهات، ويخنق الجذور البشرية في أحضان الوالدات. لقد استنامت الفضيلة للقحة، وسادت الخسة على الشرف، وطرد الصدق، ونفي الحق، وراحت الحرية هائمة، تعرض قرباناً لآلهة العالم، وأرباب الإنسانية، ومضت القوة الظالمة الجائرة، تسحب الأذيال متملكة، سادلة الثوب متسيطرة، ووقع الثراء لأهل الجرائم، وأصبحت كبائر الإثم حلالاً وشرعاً، وورث الآباء جريرة الأبناء؟ وقص الجيل المخف الذاهب همومه وآلامه للجيل المقبل القادم. أيتها القوة الإلهية، رويدك رويدك. . . حسبك هذه العذابات والمثلات، كفاك هذه الأدعية والابتهالات، هذه الضحايا والفريسات، وأنت أيتها الشمس، الشهيد القديم على شقاء الأرض، هلا ولدت يوماً واحداً، لا يشعل أوجاع الموجعين، ولا يوقدهم المكروبين المحزونين. أي وراث الأحزان، وحملة الأشجان، وفرائس الحياة، لن تبرحوا على الهم غادين ورائحين، حتى يقبل الموت، فاتحاً أبواب معبده، قاذفاً في جوف الأبد الساكن حزن الأبد!.

شذرات من فلسفة نيتشه

شذرات من فلسفة نيتشه ائتلاف الشعور للتوصل إلى معرفة وجدان الجار أو العشير أو بعبارة أخرى لكي تولد في نفوسنا تلك الإحساسات التي تملأ نفسه ترانا غالباً نبحث عن بواعث إحساساته وأسبابها كأن نسائل أنفسنا ما سبب حزنه أو سروره حتى إذا عرفناه أدخلنا على قلوبنا من الترح أو من الفرح مثل ما به غير أنا كثيراً ما نهمل أن نفعل ذلك أعني أن نبحث عن أسباب اغتمام الرجل مثلاً فنعرفها بل كل ما نفعل هو أننا نولد في أنفسنا إحساس جليسنا بتقليدنا حركات جسمه الدالة على هذا الإحساس كحطايتنا لحظ عينيه ونغمة صوته ومشيته ووقفته (أو حكايتنا صور هذه الحركات والهيئات كما يصورها لنا الكلام أو النقش أو الموسيقى) وتقليدنا حركة عضلات الرجل وجهازه العصبي. وبمجرد تقليدنا هذه الحركات يتولد في نفوسنا الشعور الذي في فؤاد جليسنا بمقتضى القانون النفساني - قانون اصطحاب الإحساسات ودلائلها الظاهرة. وبيانه أن لكل إحساس نفسي علامة ظاهرة في الجسم متى نبع الإحساس في النفس قام عليه الدليل في الجسم فإحساس الحزن مثلاً مصحوب بالدلالة الظاهرة - ظلمة الوجه. فإذا حزن القلب أظلم الوجه في الحال وهذا القانون عكسي أعني إذا كان رجل مشرق الوجه من السرور والارتياح فقابل آخر مظلم الوجه من الحزن فإن الرجل الأول لا يتمالك أن تكسو وجهه ظلمة طبقاً لقانون التقليد. وإذا كانت هذه الظلمة الظاهرة والحزن الدخيل هما كما قلنا متلازمين لا يكون أحدهما بدون الآخر فإنه متى غشيت هذه الظلمة الوجه تولد الحزن في القلب اضطراراً لا اختياراً وإن لم يكن هنالك أدنى باعث نفسي على الحزن. وهذا التقليد للحركات الظاهرة قد نمت ملكته في الإنسان فصار فيه من أسرع الملكات وأنشطها فانظر إلى وجه أية امرأة تصادفك وتأمل فيه سرعة حركة الحياة وفرط اضطرابها وانظر ما به من الاهتزازات والتموجات التي هي نتيجة دوام تقليدها وتصويرها لما يحيط بها من الحركات والسكنات. وبعد فإنه ليس كالموسيقى شيء أدل على ما ركب في طبائعنا من القدرة على سرعة إدراك الإحساسات والعواطف والتأثر بها. فالموسيقى وإن لم تكن إلا تقليداً لتقليد العواطف والإحساسات فإنها رغماً عما فيها من الإبهام والبعد من الأصل أسرع الأشياء إلى إشعار

أفئدتنا ما تعبر عنه من تلك الإحساسات فنستشعرها بغتة حتى ترانا نحزن أشد الحزن مثلاً بلا أدنى باعث هنالك على الأسى. اللهم إلا سماعنا بضعة أصوات وألحان تذكرنا - لا ندري كيف - بحركات المحزونين وهيئاتهم، فلقد وري عن بعض ملوك الدانمارك أنه جلس مرة يسمع لحناً حماسياً فبلغ من شدة تأثره واهتياجه أنه وثب إلى قدميه فانتضى حسامه فذبح خمسة من أتباعه الحاضرين. مع أنه لا حرباً يشهد ولا عدواً يشاهد بل السلم ينشر فوقه أجنحته والأحباب حوله جالسون، وكم أفاضت الموسيقى من سجال العبرات على خدود الملاح في الأعراس، وكم هاجت الحنين وأوقدت نار الذكرى في قلوب الأحبة الناعمين تحت ظلال الوصل الذين قد نظم عقدهم وأليف شملهم سلك الاجتماع بعد الفرقة، وبرد أحشاءهم فرح اللقاء بعد الحرقة. والعلة في وجود هذه الملكة - ملكة تقليد إحساسات الغير في الإنسان - هي أنه لما كان الآدمي أجبن المخلوقات وكان منذ أقدم الأزمان يوئس الخطر في كل ما ليس له بعد ألفة من الخلائق فقد أصبح إذا لقي واحداً من هذه الكائنات شرع يقلد حركات وجهه وجسده ليستدل بذلك على ما عساه يكون إحساس هذا المخلوق الغريب وعاطفته وما يحتمل أن يكون الشر الذي يضمره له. بل إن الإنسان لم يكفه أن يضع ذلك بالحيوان حتى صنعه بالجماد فكان يديم النظر إلى الكائنات الطبيعية يحاول أن يترجم حركاتها وظواهرها ومميزات خواصها ويستدل بهذه على ما تكن وتستر من نواياها ومقاصدها وكان يغريه بذلك اعتقاده الكاذب أنه ليس في الكون شيء جامد بلا روح. ويقيني أن هذا هو أصل ما يسميه المفكرون الآن عشق الإنسان للطبيعة والتداذه بمناظرها والفرح الذي يخامر القلب عند رؤية السماء الزرقاء الصافية. واللجنة المتدفقة الطامية. والصخور الشماء. والحدائق اللقاء. والرياح العواصف. والرعود القواصف، والزوابع. والنجوم اللوامع والشقاء المطير، والصيف النضير. وما إلى ذلك من شتى صور الطبيعة. وأشكالها. ولا ريب عندي أنه لولا ما سبق لنا من عادة الهيبة والخوف وحملها إيانا على الارتياب بالكائنات الطبيعية والظن أنها تضمر من المعاني خلاف ما تظهر وإنها تستر وراءها سراً مجهولاً لما كنا واجدين في رؤية الطبيعة من الجذل والابتهاج ما تجده الآن. كما أنا ما كنا لنرتاح ونطرب ونسر برؤية بني الإنسان والحيوان لولا ما سبق ذلك من ارتيابنا وخوفنا أفراد هاتين القبيلتين

وجموعهما ولا غرو فالفرح والتعجب والضحك هي صغرى بنات العاطفة التي هي عنوان هذه المقالة أعني عاطفة (ائتلاف الشعور) أما الابنة الكبرى فهذه هي عاطفة (الخوف) وملكة سرعة الإدراك التي هي مبنية على عاطفة (حب التقليد)، (وهذه الثانية هي كما ابنا آنفاً نتيجة الهيبة والارتياب والخوف) - أقول وملكة سرعة الإدراك تضعف في ذوي القوة والجبروت والبطش إذ كانوا أشد جرأة وأقل هيبة. وعلى العكس من ذلك ترى في ذوي الخور والجبن من هم مفعموا الأوعية من ملكة سرعة الإدراك وبراعة التقليد وشدة الذكاء وفيهم موطن الفنون التقليدية ومظنة البديهة وسرعة الخاطر.

النوم والفضيلة

النوم والفضيلة سمع الحكيم زارثوسترا بفيلسوف جليل يجيد الكلام على الفضيلة والنوم ويفسر أسرارهما وإن هذا الفيلسوف يأتيه طلاب العلم من كل فج عميق فيلتفون حوله ويشنف هو آذانهم بلالئ الحكمة، فوفد (زارثوسترا) على هذا الفيلسوف في الوافدين وانتظم في سلك حلقته حتى إذا التف المحفل واحتشد القوم انبرى الفيلسوف يقول: إن للنوم لجلالاً وروعة وإن له لموقعاً عظيماً في صدور من يبصرون آيته، وهيبة وإكباراً في نفوس من يقفون في حضرته. ألا ترى اللص نفسه يرهقه الخشوع إذا صار في جوار النوم؟ ألا تراه يدب بالليل في خفية ويسير في الظلام الهوينا؟ وإن كان الخفير - أخزاه الله وآذاه - لا يرعي للنوم هذه الحرمة فتراه يصيح جوف الليل كالبعير. ليس النوم مطلباً سهلاً وعملاً هيناً ودليل ذلك أنك لا تستطيع استدراجه إلا بإمضائك النهار الطويل مستيقظاً. ولكي تضمن نيل النوم ليلاً يجب عليك أن تغلب شهوتك وتقهر نفسك عشر مرات بالنهار. فإن محاربتك النفس وقهرها يحدث في قواك وهنا مستلذا وتعباً مريحاً وهو بمثابة مخدر للروح ومنوم. ولكي يأتيك النوم عفواً ينبغي لك بعد محاربتك النفس وقهرها أن ترجع إليها مسالماً ملا ينا فتصالحها لأن قهر النفس أليم. وخصيم نفسه خليق أن يبيت خصيم نومه وأيضاً ينبغي لك أن تحصل أثناء النهار عشر حقائق وإلا اضطررت إلى التماس الحقيقة أثناء الليل فحرمت طيب الوسن. وبت بروح جائعة. وكذلك يجب عليك أن تضحك في خلال النهار عشر مرات وتبش وتنشرح وإلا لم تأمن أن تثور عليك بالليل المعدة - أم الشرور والمضار. وقرارة المحن والأكدار. وعلى من طلب النوم المطمئن أن يشعر قلبه الفضائل كافة. فإنه لا نوم لمن حضرت فراشه هاجسات الرذائل والخباثث توسوس له فيطفق يناجي نفسه بمثل هذه الكلمات أأشهد الزور؟ أأقترف السفاح؟ أأغوي فتاة جاري؟؟. أأخون صاحبي؟ هذه الوساوس وأمثالها لا تجرئ مع النوم في طريق واحد. ولا يكفيك استحضارك الفضائل حتى ثنيم هذه الفضائل في الوقت المناسب فإنك أن أبقيتها ياقظة ناقشتك الحساب وخاصمتك وحاجتك وما هذا مما يجلب النوم.

ومن مطالب النوم أيضاً طاعتك العمياء للحكومة وتحبيذها وتقديسها سواء أكانت قويمة أم عوجاء، صحيحة أم عرجاء، وماذا يجدي سهرك وطول تفكيرك إذا آثرت السلطة أن تسعى على رجلين عوجاوين، وقدمين عرجاوين؟. وعندي أن الذي يسوق النوم إلى المرعي الأخضر الخصيب هو أكيس الرعاة وأحزمهم، على أن هذا من مستلزمات النوم. لست أطلب الثراء الطائل ولا المجد المؤثل فإنهما من مهجيات الخاطر، غير أني أكره أن أعير جنبي الفراش وأنا بعد مجرد من طيب السمعة صفر من المال. لا أحب خلو الدار من الضيوف، وللقليل من هؤلاء أحب إلى من كثرتهم، واشتراطي - بعد - أن يكون قدومهم وذهابهم في الأوان الموافق وإلا نغصوا على نومي. هذا وضعاف الأحلام من هؤلاء الجلساء أشهى إلى من أولى الألباب ووقدة الذكاء إذ كانوا أجلب للنوم، بارك الله فيهم إنهم المسكنون لثائرة الذهن المنيمون هياج الأعصاب ولا سيما حين يتلقي أحدنا كلامهم بالموافقة، ويستقبل قولهم بالمطابقة. ط كذلك يمر نهار الأخيار، ويختم يوم الأبرار، فإذا جن الليل تراني أحاذر أن أدعو النوم، لأن من خصال النوم أنه لا يحب أن يدعى. ولكني أعرض على ضمير سجل يومي وأجيل نظري في صحيفة نهاري لا نظر ما أخذت وأعطيت وما صنعت وتركت، وما نفذت وفكرت. ثم أسرد تلك الأعمال والأفكار على مقلة النقد والتبصر كما تجتر البهيمة ما استودعته أمعاءها من الغذاء أثناء رعيها فأسائل نفسي: ماذا كانت عشر غزواتك لنفسك؟ وماذا كانت عشر مسالماتك لها؟ وماذا كانت العشر الحقائق التي استنبطت؟ وماذا كانت العشر الضحكات التي سليت بها نفسك. فبينما أنا وسط هذه الخواطر الأربعين تديرني وتقلبني إذا بالنوم يدهمني بغتة غير مدعو ولا منتظر. ثم ماذا يصنع؟ ينقر على جفني خفيفاً فيثقل جفني ثم يلمس فمي فأبقي فاغراً فمي. أجل يمشي النوم إلى الضراء. ويسري إلى في خفاء. يدب إلى هذا اللص المعشوق والسارق المحبوب فينهب أفكاري ويستلب لبي. فإذا أنا مفقود الحركة أشد تبلداً من الجماد. (انتهى كلام الفيلسوف).

فلما وعي زار ثوسترا مقالة الحكيم ضحك خفية فكنت تراه يسرق الضحك من شدة الحياء في جيبه وقال في نفسه: إني لأضحك من هذا الفيلسوف الأبلة إذ أتخيله محفوفاً بأفكاره الأربعين ولكني أحسده على نعمة النوم العميق وأشهد له بالسبق في هذا المضمار وإحراز تلك الغاية - أعني النوم المطمئن الهني. فطوبى لمن رزقه الحظ جوار هذا الحكيم وبشره بطول الرقاد. وقلة قلق الوساد. لأنه ليس فيما أعلم شيء هو أعدي من النوم حتى ولو حال دون العدوى جدار من اسمك الجدران. بل إني لأحسب في أعواد منبره الذي منه يخطب طلابه لسحراً منيما - أعني بياناً يفيض في أذهانهم ينبهها كيما يكون تيقظها هذا أدعي إلى النوم العميق ليلاً. ولعمري إذا كانت الحياة كما يزعمون خلواً من الحكمة فلم أجد بداً من استماع الهذيان إذن فهذيان هذا الرجل أحب إلى وأشهى إلى أذني من كل لغو غيره والسلام.

ترجمة سعد زغلول باشا

ترجمة سعد زغلول باشا الرجل البرلماني الكبير ـ 4 ـ كلمة في الوزارة - أهمية انتقال المترجم به إلى وزارة المعارف - الأسباب التي دعت إلى ذلك - الحالة التي كانت عليها المعارف قبل تعيينه. ننقل الآن من ترجمة القاضي إلى حياة الوزير، ونترك منصة القضاء إلى مسند الوزارة، وليس في أعمال الجمعية البشرية عمل هو أخط من عملها، وليس بعد الصحافة كما يقول اللورد روز بري من وظيفة هي أشق ولا أكبر مكاناً منها، وما كان في أبهة هذا المنصب وعظمته وضخم أعطيته ما يغني عن متاعبه ومشاقه وأخطاره، وأنت لا ترى الوزارة تجعل من الرجل عظيماً، ولا تخلق منه نابغة، بل هي تحبوه ليس غير بالعطاء الكبير واللقب العظيم والمركب السني، وهو الذي يعلو بالوزارة ويهبط وينحرف بدقتها ويستقيم إذ كانت الوزارات مقاييس حرارة لرجالها، وموازين دقيقة لكفاءات أربابها، هي التي تربك مقدار الجزء الإنساني من الوزير، ونشعرك بمبلغ الشعور الأهلي في الحكومي، وتفهمك مقدار علمه بالنفسية الأمية، والوجدانات القومية، إذ كان حقاً على الوزير أن يكون عليماً بسيكولوجية الشعب وشعوره، ومطالبه، ومراميه، وطبائعه ومزاجه، وهل كان جراي ودلكاسيه وأشباههما إلا من أكبر علماء النفس، وأعظم الملمين بروح الاجتماع وأسراره، ذلك لأن الوجدانات الأهلية أشبه بالوجدانات الطفولية، سريعة التحول، متناقضة المبادئ ضعيفة الاستنتاج، قابلة للتأثير خوارة أمام الشخصية الحكومية الكبيرة، ولذلك كان من الوزير الكبير أن يحتال لعوارضها ويتحصن من تقلباتها، ويعمل على مصانعتها وإظهار شخصيته عليها، ولذلك كانت الوزارات قصيرة الأعمار سريعة السقوط، مستمرة التجديد، إذ على قدر معرفة الوزارة بنفسية شعبها والعمل على مطاوعة هذه النفسية وموافاتها يكون عمر الوزارة من القصر أو الطول ومكانها من الاحترام في التاريخ. وبعد فقد كان انتقال صاحب الترجمة من محكمة الاستئناف إلى وزارة المعارف من أكبر العوامل في حياته فقد أخذت شخصيته القوية من ساحة القضاء لتعرض في ساحة الأمة، ولم تعد تلك الفضائل الإنسانية العظيمة التي تنطوي عليها روحه تبدو فقط للمجرمين

والمتهمين وأرباب الظلامات، وذوي الحقوق المضيعة والشكايات، بل هنا جعلت تتجلى للجميع، وهنا بدأت حرارتها تزداد، ونطاقها يتسع، وأثرها يعظم ويطول، لأنها تريد أن تشمل كل فرد في الأمة وتعم المجتمع المصري بجملته، ولقد كانت وثبته من مرتبة القاضي إلى كرسي الوزير دليلاً بينا على علو شأنه، ورفعة روحه، لأن الامتياز باستقلال الرأي واحترام الذات والبعد عن الزلفى والملق لأصحاب السلطات، كان كفيلاً بأن يأخذ بيده إلى منصب سام لم يكن يومذاك يفكر فيه أو يطلبه، بل أعجب ما في ذلك أن المترجم به حتى يوم تعيينه في الوزارة كان أبعد الناس عن فكرة مفارقة وظيفته التي ألفها واطمأنت نفسه إليها وحبس آماله وكفاءاته عليها، وأنه لما ذكر نباً تعيينه حبسية مزاح مازح ودعاية مداعب، ذلك لأنه كان قليل الاختلاط بالقابضين على أزمة الأمور، في معزل عن أولى السلطة والنفوذ. مخلد إلى وظيفته يخلص إليها ويتوفر على إظهار نبوغه فيها، وليست هذه الحادثة إلا أمثولة طيبة، جديرة بالعظة، خليفة بالاعتبار، هي مقياس لنتائج الخلق الكريم، والذهنية العظيمة، والروح العالية، فقد كانت سنة الرقي من وظيفته التي كان بها أن يدرج منها إلى وكيل للمحكمة فرئيس خلقاء برتبهم وألقابهم ومناصبهم بأن يظفروا بالمنصب دونه، ولكن المزايا الذهنية والروحانية التي نبغت في سعد زغلول بك كانت بحيث تحتاج إليها الوزارة أكثر من المحكمة، وكانت باعثة على هذه الطفرة السريعة، وسترون مما سننشره من أعمال المترجم به في وزارة المعارف أن ذلك الانقلاب في سنة الرقي الحكومي، جاء بالخير العظيم للأمة والإصلاح العلمي الكبير، وكثيراً ما يكون الانقلاب السريع خيراً وأفعل أثراً من التطور الهادئ البطئ. وقد كان دخول سعد زغلول بك الوزارة عنصراً حيوياً جديداً في الحكومة إذ كانت الوزارة الفهمية قد ظلت إحدى عشرة سنة وأشهراً وهيئتها على حالها، لا تغيير ولا تعديل، وكانت وزارة المعارف تحت المرحوم حسين فخري باشا يشرف عليها وهو في وزارة الأشغال، كعمل هين إضافي، فكانت وزارة المعارف بحاجة إلى قائد يبث فيها روحاً حارة، وذهناً كبيراً نشيطاً، ويسير بها في طريق الإصلاح السديد، فلم تجد الحكومة لها أكفأ من المترجم به فعينته.

هل كان مجنونا

هل كان مجنوناً تقدم إلى القراء في هذا العدد رواية بسيكولوجية، غريبة الموضوع، مدهشة الوقائع، مخيفة المغزى، بلغ من أهميتها وغرابة حوادثها، إن عقد مجمع الأخصائيين في الأمراض العقلية بمدينة سان بطرسبرج مجلساً خصيصاً بها، وأخذوا يتباحثون في أمرها، ويحللون دقائقها تحليلاً طبياً نفسياً لكي يخرجوا منها بنتيجة كبرى في علم النفس وفن الطب، وقد كانت مثاراً لتضارب آراء المفكرين والباحثين، وانقسام الأطباء والسيكولوجيين، واشتهرت في الغرب وعظم شأنها، هذا وواضعها ليونيداس أندريف كاتب من أبدع كتاب الروس، وروائي من خيرة روائيهم، وناهيك بما للأدب الروسي الآن من السلطان الفكري في أوروبا، بل لقد بذ الآداب الفرنسية والإنكليزية والألمانية والطليانية، وسما عليها جميعاً في الروائيات والنفسيات، حسبه أنه أخرج للعالم تولستوي، ومكسيم غوركي، وتورجنيف، ودستوفسكي وأندريف، وجوجل، وبوشكن، وكوربوتكين، مهذبي الفكر الحديث، وهادمي الآداب البالية العتيقة. وقد بدأ هذا الروائي الكبير حياته فقيراً جائعاً مشرداً، ولم يصب أول أمره النجح في حرفته، ولا وجد ما يسد إرماقه بقلمه، حتى بلغ به يأسه من بهجة الحياة وفرحتها إن أجمع أمره على الانتحار، قال عن نفسه أطلقت على رأسي رصاصة من المسدس، ولكنني لم أنجح حتى في قتل نفسي، لقد عرفت الخصاصة في أخبث حدودها، وبلوت الفقر في أقسى غاياته، كنت أجوع أكثر أيامي، كنت لا أجد ما أمسك به ظمأ حياتي اليوم واليومين. ومضى على سوء حاله أينما طوالاً، حتى كتب هذه الرواية التي نقدمها للقارئ اليوم، فكأنما لم نخرج من قلمه، بل من قلم الأقدار، ومداد الوحي، فكانت آخر عهده بالجوع، وأول عهده بالشبع، وارتفعت به الرواية إلى أوج الشهرة وذروة المجد، وأخذت المجلات والصحف تتناقل روايته، وتنوه بعبقريته، وعدت من أرقى ما خرج من الروايات في العصر الحديث. في اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر سنة 1900، ارتكب الدكتور أنتوني كرجنتزف أحد الأطباء جريمة القتل، وبدا من الظروف التي وقعت فيها الجريمة والحوادث التي سبقتها، ما يشير إلى اضطراب في ذهنية القاتل، فسيق الطبيب إلى مستشفى الأمراض النفسية لفحصه، وهناك عرض على أمهر الأطباء والأخصائيين ولكن ما كاد الشهر يتولى بعد دخوله المستشفى حتى قدم الدكتور كرجنتزف إلى أطبائه مذكرة له بسط فيها ما وقع

من أمره، وها نحن ننشر للناس بعض شذرات من الرسالة وقد وجه الخطاب فيها إلى أطباء المستشفى. ـ 1 ـ حتى هذه الساعة، وأنا أكتم عنكم يا سادتي الحق وأخفيه، ولكني أشعر الآن بقوة تدفعني على إظهاره، وستفهمون من معرفته أن حادثتي ليست من السهولة كما يبدو للنظر السطحي المتسرع البسيط، ليست حادثتي من تلك الجرائم العادية التي تقود إلى السلاسل والأغلال، وتسوق الجاني إلى الاشتمال في أكسية المجرم، وسترة القاتل، بل أن في جريمتي عنصراً رهيباً، بل أرهب مما تظنون، عنصراً غريباً موحشاً، ستنتفعون منه وتستفيدون. إن الرجل الذي قتلته، اليكسين سافيلوف، كان رفيقي في المدرسة، ثم قريتي في الجامعة، وإن كانت وجهة درسي غير وجهته، وأنتم تعلمون أنني طبيب، وكان هو محامياً، ومحال أن يقال عني أنني كنت أبغضه، كنت أجده أبداً رقيق القلب، وثاب الشعور، فوار الإحساس، ولم أصادق دهري أحداً آخر من صداقتي له، ولكن لم يكن اليكسين، على الرغم من رقته ووجدانيته ذا شخصية كبيرة تلهمني الاحترام له، وتوحي إلى عاطفة التبجيل، وإن حلاوة طبيعته وتواضعه المدهش الغريب، وإن تقلبه في آرائه وعواطفه ومشاعره، أن تطرفه الشديد في أفكاره المتحولة المتغيرة، كل هذه كانت تضطرني إلى أن أعتبره طفلاً، بل أعده امرأة، وكان أصحابه وأهل وده أبداً هدفاً لثورة هذا الإحساس، وبركان هذا المزاج، ولكن ما أبعد الطبائع البشرية عن المنطق! إذ كانوا في الوقت نفسه يحبونه أعظم الحب، وكانوا يجتهدون أن يجدوا شفيعاً لهناته وهفواته، واقتفيت في ذلك أثرهم، فشاركتهم في الرأي، وجعلت أغضي لا لكين عن هفواته الصغيرة، نعم أقول الصغيرة وأصر على القول، لأن الكين كان عاجزاً عن أي شيء كبير، حتى في الهفوات، وإذا أردتم أيها السادة دليلاً على ما أقول فليس علي إلا أن أعد عليكم آثاره الأدبية. كلها سخيف حقير. وإن اثنى بعض النقدة الحمقى خيراً عليها. نعم هي لا شيئيات جميلة كما أن مؤلفها لا شيئية حسناً. كان الكسيز يوم مقتله في الواحدة والثلاثين. كان أصغر مني بربيع ونصف، وكان الكسيز متزوجاً، وإذا كنتم أيها السادة قد رأيتم زوجته وهي محزونة أرمل. فما أنتم بقادرين على أن تعلموا كيف كانت قبل المقتل، إنها فقدت كثيراً، هذه وجنتها قد ذبلت، وهذا خدها الأثيل

قد أظلم، هذه بشرتها الناعمة قد ظهر فيها التخدد والغضون، كانت تحب زوجها أعز الحب، هذه عينها لا تشرق ولا تلمع كما كانت بالأمس، ولم تعد تضحك وكانت أبداً مومضة ضاحكة، وقد رأيتها عرضاً في فناء دار الشرطة، فكدت أصعق للتغير الذي طرأ عليها، إنها لم تستطع أن ترمقني بلحظة ساخطة متوحشة مفترسة، واهاً للمسكينة!. كان هناك ثلاثة فقط، الكسيز وتاتيانا وأنا، هم الذين يعلمون وحدهم إنني منذ خمسة أعوام قبل زواج الكسيز بعامين كنت سألت تاتيانا يدها فرفضت الطلب وأعرضت. ولكن من الحماقة أن أقول لم يكن هناك إلا ثلاثة فقط، لا ريب أن لتاتيانا حلقة من الأصحاب والأحباب. والصواحب والحبائب. وكلهم قد علم - ولا شك - بأن الدكتور كرجنتزف طلب يوماً إليها الزواج. فكان نصيبه حرارة الرفض. إني لأتساءل أتراها تتذكر أنها ضحكت في ذلك اليوم، نعم إنها كم ضحكت في الدهر مراراً وكم ابتسمت، ولكن ذكروها أيها السادة بأنها في الخامس من شهر سبتمبر ضحكت فإذا أنكرت وهي لاشك منكرة، فذكرها أنها حقاً ضحكت، وأنا الرجل القوي العتيد، الذي لم يسكب عبرة واحدة، ولا ذرف يوماً دمعة منحدرة، ولم يعرف الرعب ولا الخوف، وقفت يومذاك أمامها مرتجفاً مرتعداً، رأيتني مرتجفاً ورأيتها تعض شفتها، ففتحت لها ذراعي لأضمها، فرفعت عينيها، ورأيت تينكم العينين تضحك، هنا تراخت ذراعاي، وراحت هي تضحك، وضحكت كثيراً، كما شاءت ولكنها عادت بعد ضحكاتها فاعتذرت. قالت، وعيناها لا تزالان تضحكان (أتوسل إليك أن تصفح) فابتسمت أنا كذلك، ولو استطعت الآن أأصفح عن ضحكها، فما أنا بمستطيع أن أصفح لنفي عن تلك الابتسامة!. حدث ذلك في الخامس من سبتمبر، الساعة السادسة من المساء على حساب سان بطرسبرج. أقول على حساب سان بطرسبرج لأننا كنا في تلك الساعة على أفريز المحطة، وها أنا لا أزال الآن أنظر إلى ساعة المحطة وأتبين موقع عقربيها، أحدهما في رأس الساعة والآخر في أسفلها، وفوق ذلك فإن الكسيز قتل في الساعة السادسة تماماً، وهذا لعمري اتفاق غريب، اتفاق ذو معان كبيرة عند الرجل اليقظ البصير. قلتم يا سادتي إن أحد الأسباب التي صاقتني إلى هذا المستشفى هو أنكم لم تجدوا أي باعث على ارتكاب الجريمة، فهل تجدون اليوم باعثاً، قد تقولون الغيرة، ولكنكم على ضلالكم

القديم، إن الغيرة من شأن الطبيعة الحادة، والمزاج المستعر الناري، وليست من شأن رجل هادئ المزاج رصين العقل بارد الروح كشأني، إذن فهل يكون الانتقام؟ نعم هذا أقرب إلى الحق وإن كانت إلا كلمة قديمة لإحساس جديد وشعور غريب مجهول. هنا لابد لي من أن أقول أن تاتيانا خيبت ظني مرة أخرى، كنت أعتقد أنها بزواجها الكسيز وأنابه خبير لن تجد الهناء يوماً واحداً، وأنها ستندم على رفضها مطلبي ولهذا السبب اجتهدت في تعجيل زواجهما. وكان الكسيز قد راح بها صبا. قال لي قبل فاجعة مقتله بشهر (إنني مدين لك بهذه السعادة) ثم التفت إلى زوجته يسألها (أوليس كذلك يا زوجتي؟). فنظرت إلي ثم تمتمت (نعم) وضحكت عيناها فضحكت، وضحكنا جميعاً والكسيز يضمها إلى صدره، وكانا لا يستحييان من شيء أمامي. قال الكسيز (نعم، إنك يا صديقي قد خسرت الصيد). هذه النكتة الباردة المؤلمة الثقيلة هي التي قصرت من حياته أسبوعاً كاملاً، لأنني كنت قد أجمعت أول الأمر أن لا أقتله حتى اليوم الثامن عشر من ديسمبر. أجل، كانت الحياة قد طابت للزوجين، ولاسيما تاتيانا فقد كانت سعيدة السعادة كلها وأما الكسيز فلم يكن حبه لها في أعشار قلبه، لأنه يعجز عن أي حب عميق، وكان الأدب ملهاته يؤثره على مناعم البيت ومباهج الزواج، ولكن هي! هي لم تكن تحب إلا هو، وكانت لا تحيا إلا له هو، وكان أبداً متوعك الصحة، ينتابه الصداع، وينهكه الأرق، وكانت تاتيانا ترى في تمريضه والعناية برغباته أعظم السعادة، وأكبر النعمة، والمرأة يوم تحب، تفقد كل شخصيتها. كذلك كنت أرى كل يوم وجهها المبتسم ومحياها الباهر المشرق الناعم فكنت أقول لنفسي وأتساءل (أنا سبب كل هذا، أردت أن أرسفها في غل زوج مغفل لكي ترى بنفسها مبلغ خسارتها يوم رفضتني فإذا بي أراني قد جئت إليها بالرجل الذي أحبت!) وأنتم يا سادة ترون غرابة موقفي، كانت أخصب ذهناً من زوجها كانت تحب حديثي وتطارحنيه، فإذا انتهينا من الحديث تركتني في رفق مبتهجة إلى ذراعي زوجها!. ولا أستطيع أن أتذكر متى كان أول تفكيري في قتل الكسيز، وكل ما أعلم أنني ألفت هذه

الفكرة حتى لكانها ولدت معي وأعرف أنني كنت أريد أن أنزل بتاتيانا العذاب والألم، أعرف إنني فكرت في وسائل أخرى لإنجاز غرضي، وسائل أقل خطراً على الكسيز، وويلاً، لأنني كنت دهري عدواً للقسوة كارهاً لها، وكنت أعرف ما هو القتل، واعلم أنه جريمة يشتد القانون في العقاب عليها، ولكن أليست كل أعمالنا جرائم مختلفة الضروب والأنواع. كنت لا أشعر بخوف من نفسي، وهذا كل شيء عند المجرم، أن أخوف ما يخافه القاتل والمجرم ليست الشرطة ولا القاضي ولا العقاب، وإنما نفسه التي يخاف، هي أعصابه وإراداته وضميره، وجعلت أفكر في هذا الموضوع وأروئ فيه البصر، جعلت أدرسه وأعيه وأفحصه، ولا أقول إنني وثقت الوثوق المطلق من هدوء أعصابي وثبات إرادتي، فإن وثوقاً كهذا لا يصدر إلا عن رجل مفكر عاقل يعتد بكل الاحتمالات والممكنات، ولكني بعد أن وزنت إرادتي، وصلابة أعصابي واحتقاري التام للقيمة الأدبية، شعرت أنني أستطيع أن أعتمد كثيراً على نجاح خطتي. والآن وقد تحققت خطتي عساكم تسألون ترى أيحزني الآن ضميري، وهل أشعر بندم أو أسف؟ وأجيبكم. كلا، ولا ذرة من ندم. أشعر بألم، نعم، بألم شديد هائل، ما أظن أحداً غيري في العالم عاناه، إن شعر رأسي الأسود يستحيل الآن إلى البياض، ولكن هذا شيء آخر، نعم شيء آخر. شيء مخيف مفزع خارق غريب، لا يمكن أن يصدق مع بساطته الفظيعة الهائلة. ـ 2 ـ وكذلك أجمعت على أن أقتل الكسيز، ولكني أردت أن تعلم تاتيانا أنني أنا الذي قتلت زوجها، ولكنني كنت أريد مع ذلك أن أتجنب عقوبة القانون، وإن كان عقابي لن يغني تاتيانا عن نكبتها شيئاً، لأنني كنت كأكثر الناس أكره السجن وأحب الحياة، أحب أن أرى الخمرة مشرقة في الكأس، وأن أمد ذراعي وساقي على فراش ممهد وثير، وأحب أن أملأ سحري بنسمات الربيع، وأشهد الشموس الزاهية في مطالعها ومغاربها، وأقرأ الكتب، وأنعم بالمطالعة، أحب نفسي، قوة عضلاتي، وصفاء ذهني، ورجاحة لبي. ولم أفهم يوماً ما يريد الناس بقولهم (متاعب الحياة).

ومع ذلك كان من الهين على أن أنجو بنفسي من العقاب إذ هناك ألف وسيلة يستطيع بها الإنسان أن يقتل في خفية إنساناً آخر، ولاسيما إذا كان مثلي طبيباً، ومن بين الخطط التي فكرت فيها ثم أعرضت عنها، خطة واحدة تدبرتها طويلاً وفحصتها، ذلك أني فكرت في أن أدبر له مرضاً عضالاً قاتلاً، ولكن الصعوبات التي تعتور هذه الخطة مما يتبين لكن أيها السادة، على حين أن ألن الضحية المستطيل المستمر سيكون خشناً فظاً قاسياً، وفوق ذلك فإن تاتيانا ستتنعم بشيء من السعادة حتى في مرض زوجها وأصعب ما في خطتي أنني كنت أريد أن تعلم أية يد أوقعت برجلها، وما كان مثلي لتخفيفه العوائق، إذ العوائق لا تخيف إلا الجبناء. وسنحت لي الفرصة والفرصة حليفة العقلاء، وهنا استرعى أبصاركم أيها السادة، إلى نقطة هامة، أقول لكم إنها الفرصة وحدها لا إرادتي التي خدمتني، هي وحدها التي كانت أساساً للجريمة، وهي التي خلقت الحوادث التي جرت بعد ذلك. أقول لكم يا سادتي إني قرأت في إحدى الصحف، ولعل نسخة الصحيفة لا تزال في بيتي، إذا لم تكن قد وقعت في أيدي القضاء، إن رجلاً ادعى أنه أصيب بنوبة عصبية جنونية، فقد في خلالها المال الذي أؤتمن عليه، وكان في الحقيقة قد اختلسه، على أن الرجل كان هيابة جباناً، فاعترف بذنبه، وبلغ به جبنه أن دل القضاة على المخبأ الذي وضع فيه ما سرق، ولكن الفكرة نفسها لم تكن سيئة ولا صعبة الإنجاز (نعم) إن التظاهر بالجنون، وقتل الكسيز في نوبة جنونية ثم الرجوع إلى الرشد، هذه هي الخطة التي وثبت إلى رأسي. عندما كنت أقرأ قصة ذلك الرجل. وكنت كالداني الأطباء أعرف شيئاً من علم النفس وجعلت أصرف أكثر وقتي في قراءة أسفار هذا العلم والمؤلفات الموضوعة في دقائقه. حتى تبينت أن الخطة لابد موفقة ناجحة. وأول شيء يجب أن يسترعي أذهان علماء السيكولوجيا هو تأثير الوراثة. ولشد ما كان ابتهاجي إذ وجدت التأثير الوراثي موافقاً لغرضي، كان أبي مدمناً تعلى الشراب ملحاً على الكحول. وقضى أحد عمومتي في مستشفى المجانين، وتوفيت أختي الوحيدة. وكانت عرضة للتشنج العصبي. وبدالي أن من الهين على أن ألعب دور المجانين، فعمدت إلى قراءة ما يدور حول طبائع

المجانين في الكتب، وأضفت من عندي بعض الاختراعات الجنونبية، كما يكون من الممثل الصنع الحاذق الأريب. وخطر لي، وأنا أقوم بمبادئ خطتي خاطر غريب. لا أظنه يقع يوماً لمجنون، ذلك ني فكرت في الخطر المفزع المخيف الذي تجره تجاريبي المجنونة الممرورة. وأنت يا سادتي تفهمون ما أريد، إن الجنون ليس إلا ناراً محرقة تلهب من يلعب بها، بل لو كنتم في كهف مظلم مملوء بالبارود، فأرسلتم النار في جوانبه، لكان آمن عليكم وأقل خطراً من أن ينساب إلى عقل أحدكم أقل خوف من الجنون. كنت أعرف ذلك، وكنت أحسه، ولكن أي خطر يستطيع أن يرد الرجل الشهم الجريء. ـ 3 ـ ولعلكم الآن تفهمون مبلغ تلك النوبة الجنونية المخيفة التي اعترتني في وليمة آل كارجوانوف. كانت هذه النوبة أول تجاريبي، وقد نجحت أكثر مما كنت أتوقع، أقول لكم يا سادة إن المدعوين جميعاً رأوا عوارض تلك النوبة قبل أن تبتدئ، وبدا لهم أنها حادثة عادية قد تقع يوماً للأصحاء الأقوياء، فلم يظهر على أحد منهم أدنى أمارات الدهشة أو الاستغراب. ألم ينبؤكم أنني كنت ساعتذاك شاحب اللون، مخيفاً مرعباً، وإن جبيني كان غارقاً في لجة من العرق البارد، ألم ينته إليكم أن شعلة الجنون كانت تطل من عيني ولما أنبؤوني بعد ذلك بكل ما رأوا مني في المأدبة اتخذت هيئة محزنة مظلمة متعبة، ولكنني كنت في أعماق ضميري مزهواً بنجاحي فرحاً مغتبطاً. ولم تكن تاتيانيا ولا زوجها حاضري المأدبة، ولا أعرف يا سادتي إذا كنتم لاحظتم هذه النقطة، نعم، لم يكن تغيبهما عن الوليمة فرصة من الفرص، ولكني اخترت أن أقوم بالنوبة في غيابهما، كنت أشفق من إرعاب تاتيانا، بل مما هو شر من ذلك، من إثارة شكوكها، وذلك لأنه إذا كان في العالم إنسان واحد يستطيع أن يكتشف أمري، فذلكم الإنسان لا يكون ولا ريب إلا هي، هي وحدها. واخترت ساعة العشاء لنوبتي، إذ يكون المدعوون منتدين جلوساً في المقاعد. وإذ تكون الخمر قد اهتاجت أعصابهم. ولعبت الشمول بالرؤوس. وأخذت مجلسي عند طرف المائدة

بعيداً عن الشموع الموقدة. لأنني لم أكن أريد أن أثير حريقاً في الدار أو ألهب أنفي وأطرافي. وسألت أحد المدعوين وهو بافل بتروفتش أن يكون جنيبي. لأني كنت منذ زمن بعيد أميل إلى مغاضبة هذا المخلوق المرذول المبطان البدين. وهو إذا أكل اشتد ثقل روح وازداد برودة دم. ولقد حسبت يوم رأيت هذا الثقيل يأكل إن الأكل لابد من أن يكون رذيلة الرذائل ومشت خطتي في هينة ورفق، وكان كل شيء في صالحي، حتى لم يستطع أحد منهم أن يلحظ أن الصفحة التي حطمتها بقبضة يدي كانت مغطاة بالمنشفة، لكي أتجنب تجريح يدي. وكانت الرواية المضحكة التي قمت بتمثيلها حمقاء طائشة، ولكن ذلك ما كنت أبتغي وأريد، ذلك لأنني لو عمدت إلى حركة أهدأ وأعقل وأتقن لراحت عند القوم غامضة مبهمة، بدأت ألوح بذراعي في الهواء وأصيح في وجه بتروفتش أرعن مغيظاً، وجعل هو في دهشة وذهول يحملق إلي ببصره، ويدير عينيه في مبهوتاً، وإذ ذاك عدت إلى هدوء هامد مظلم حزين. قالت أيرين بافيلوفونا في ابتسامة صغيرة، ماذا بك يا أنتوني، وعلام هذا الانقباض؟. حتى إذا شخصت الأبصار جميعاً إلى، تضاحكت ضحكة محزنة مريضة قالوا أجمعين ما بالك، ألست في صحتك؟. قلتأحس بدوار، إن رأسي يضطرب، ولكن أرجوكم يا سادة أن لا تنزعجوا فإنها عمل قليل تمر. وعادت ربة الدار إلى طمأنيتها، ولكن بتروفتش جعل يلحظني بعين متهمة غير مصدقة وما كادت تمضي لحظة أخرى، حتى رأيته يرفع كأسه إلى شفتيه فوثبت إليه فحطمت الكأس قريباً من أنفه، وألقيت بقوة وعنف قبضتي على الصفحة التي أمامي فطارت شظاياها في كل مكان، أما بتروفيتش فجعل يتسخط ويلعن ويشتم وهو يدور حولي، وولولت السيدات وارتفع الصريخ، وضج الصياح، وصرفت بأسناني ثم جررت غطاء المائدة وما فوقها، صدقوني يا سادة، لقد كانت رواية طائشة مضحكة. أجل، لقد كانت دعابة جميلة، وإذا بهم جميعاً قد التفوا حولي وتزاحموا، فأمسكوا بذراعي،

ومنهم من جاءني بالماء يمسح به وجهي، ثم أجلسوني في مقعد كبير، وأنا أزأر زئير النمر قد احتبس وأنا أدور بعيني في الجميع بنظرات مفترسة متوحشة، وكان كل شيء مضحكاً، وكان الجمع الملتف حولي أحمق مغفلاً، حتى هممت بأن أنتهز فرصتي فانهال عليهم بالضرب وألطمهم فوق أنوفهم ولكنني تجلدت فأمسكت عن ذلك وسكت. وبدأت أتوب نمت إلى رشدي،، ومضيت أرسل أنفاساً عميقة صاعدة متراجعة وأخلق عوارض إغماء متعددة. وأصرف بأسناني، وأعض على شفتي، وأفقت أخيراً وأنا أسأل أسئلة كهذه أين أنا؟ وماذا حدث؟. ووقع هذا السؤال البارد موقعه المعتاد، فتكلف ثلاثة من أولئك الحمقى الرد عليه، فقالوا إنك عند آل كارجوانوف ثم في صوت رفيق مداعب أتعرف يا دكتور من هي إيرين كارجوانوف؟. حقاً إنهم لا يصلحون لحضور روايتي المضحكة الحسناء. . . ووقعت النوبة الثانية بعد شهر من الأولى، وكانت هذه أقل حذقاً واتقاناً من تلك، ولم أكن أريد أن أحدث ضجة أخرى كالضجة التي أحدثت، ولكنني لما رأيت الظروف موافقة صالحة وجدت من الحماقة أن لا انتفع بها، وأنا لا زال يا سادة أذكر كل ما حدث، كنت مرة أخرى في حفل عند صديق لي، وكنا جلوساً في حجرة الاستقبال، آخذين في حديث طويل، وإذا بي قد شعرت بإحساس عميق حزين، ورأيت بكل وضوح وبيان موقفي، وجدتني غريباً بين القوم غير معروف، رأيتني وحيداً في هذا العالم، سجيناً آخر الدهر في محبس التظاهر بالجنون، وتولاني بعد ذلك أحساس آخر، هو احتقار كل من حولي والكراهية لهم، وهنا تميزت يا سادة من الغيظ، وعلا حنقي وتوحشي وشرعت أضرب بقبضتي الفضاء، وأصيح صيحات نكراء وأشتم شتائم شنيعة، وأقول كلمات عور مذمومة، وما كان أبهجني إذ رأيت وجوه الجمع تصفر من خوف ورعب!. وانطلقت أصيح في القوم أيها الأوغاد، أيها السفلة الأنذال، أيتها المخلوقات القذرة المنتنة، أيها الأرواح الحقيرة الملطخة، إني ألعنكم، إني أبغضكم وجعلت في توحشي هذا وجدي أتلاكم أول الأمر مع خدم الدار وأتضارب، ثم هرع إلى سائقو مركبات الحضور فانطلقت فيهم ضرباً وصراعاً ولكماً ورفساً. والآن أعترف أمامكم في سذاجة وبساطة. إنني كنت

أشعر بالسرور والابتهاج من ضربهم وشتمهم في وجوههم، وإذن هل من يعترف بالحق يكون مجنوناً، إنني أؤكد لكم، أيها السادة، إنني كنت أعي كل شيء، كنت أحس تحت يدي بأجسام حية تتألم من لكماتي وضربي. وفي تلك الليلة بعينها، إذ ضمتني جدران مخدعي، رجعت أضحك من نفسي وأقول يا لي من ممثل بارع، وأويت بعد ذلك إلى الفراش، وقرأت في تلك الليلة وأنا مضطجع كتاباً بل إني أستطيع أن أقول لكم يا سادة عن اسم المؤلف. . هوحي ده موباسان، إذ كنت أبداً من المعجبين به، وبعد أن أتممت الرواية تولاني النعاس فنمت ليلتي نوماً هانئاً عميقاً كالأطفال، وأنا أسألكم الآن يا سادة، هل يقرأ المجانين كتباً، هل يجدون في قراءتها لذة ويحسون سروراً، وهل ينامون بعد القراءة نوماً طفولياً عميقاً؟. إن المجانين لا يذوقون طعم النوم، إنهم يتألمون، إن اضطرابهم كله في أذهانهم هم يريدون أبداً أن يصرخوا ويمزقوا ويعضوا، هم يحبون أن يزحفوا على أيديهم وأرجلهم، زحفاً رفيقاً، هادئاً ثم يهبوا وقوفاً صارخين ضاحكين ها. . ها. . . نعم، نعم، ولكنني نمت كالأطفال، وهل ينام المجانين نوم الأطفال؟. ـ 4 ـ وبدأ الناس بعد النوبة الثانية يخافون مني وامتنعوا عن دعوتي إلى بيوتهم وإذا لقيت عرضاً في الطريق بعض معارفي، قطبوا وجوههم وابتسموا ابتسامة مريضة سقيمة وهم يقولون يا صديقنا كيف أنت؟ وما كان أسهل على عند ذاك أن أمد إليهم يدي بالأذى، ولا ألام عليه ولا أعاتب، ولكنني تمهلت وأردت أن أنتظر حتى أفوز بتصريح طبي فعلي يكون كأذن لما سيقع من يدي وعزمت على أن أنتظر كذلك الظروف التي تجعل استشارة الأطباء في حالتي تبدو كحادث عرضي غير مقصود وإن كانت حيطتي هذه تهذيباً في خطتي لا حاجة إليه، وكذلك حدث أن تاتيانا نفسها وزوجها هما اللذان أخذاني إلى الطبيب، وكان هذا في رأيي نقطة بارعة متقنة مؤثرة قالت تاتيانا (أتوسل إليك أن تذهب إلى الطبيب يا عزيزي أنتوني؟) لقد كانت المرة الأولى التي نادتني في حياتي بلفظة (يا عزيزي) وهكذا كان يجب أن أجن لكي أفوز منها بتلك الكلمة!. فأجبتها في استكانة وخضوع (سمعاً يا عزيزتي تاتيانا سأذهب) وكنا ثلاثتنا في الحجرة

التي قدر لها أن تكون مكان الجريمة، فقال الكسيز في لهجة السيطرة والنفوذ (نعم يا أنتوني يجب أن نذهب دون تردد إلى الطبيب، وألا يعلم الله أي حادث أنت محدث؟!) فقلت في صوت ضعيف متخاذل جبان مرتعد محاولاً أن أخلي نفسه من التبعة في عيني صديقي القاسي الشديد ولكن ماذا أستطيع أنا أن أحدث؟ قال ومن يعلم. . . قد تفلق جممة إنسان. وكنت أقلب بين يدي ثقالة ورق ضخمة من البرونز، فنظرت إلى الكسيز ثم إلى الثقالة وأنا أقول جمجمة إنسان؟ أتقول الجمجمة؟ فقال ولماذا، نعم أقول الجمجمة، قد تأخذ أداة كهذه فينتهي كل شيء!. هذه يا سادتي مسألة لذيذة هامة. . لقد كانت هي الجمجمة التي عزمت على فدغها وهي هي الأداة التي أجمعت أمري على استعمالها والآن ترون أن هذه الجمجمة هي قد تخيلت الجريمة بحذافيرها قبل وقوعها، ولكن صاحب الجمجمة فاه بكلمته في ابتسامة غير مكترثة، ومع ذلك تجد هناك قوماً يعتقدون بوجود إحساسات هاجسة متنبشة. . أي حمق وأية سخافة!. قلت لا يكاد الإنسان يستطيع أن يحدث بهذه ضراً، إنها خفيفة فأجابني الكسيز مندهشاً متعجباً ماذا تقول؟ خفيفة؟ وأخذ الثقالة من يدي فأمسكها من يدها وجعل يهزها مرات متوالية ثم دفعها إلي ثانية وهو يقول زنها في يدك قلت إني أعرف مقدار ثقلها ولكنه قال كلا، خذها في يدك وبعد ذلك احكم، فتناولت الأداة منه في ابتسامة ضعيفة، وهنا تداخلت تاتيانا بيننا، شاحبة اللون مرتجفة الشفتين، وهي تقول كيف يا الكسيز عن هذا، كف عن هذا فالتفت إليها مندهشاً ثم سألها ولماذا، ما بالك يا تاتيانا؟ فرددت القول امتنع عن هذا، أنت تعرف إنني أكره أمثال هذا المزاح وهنا ضحكنا جميعاً: ووضعت الثقالة على الخوان. وكانت زورتي للطبيب ت. . . مثل ما كنت أتوقع، فقد كان الرجل محترساً مدققاً، واتخذ سيمياء الجد والاهتمام، وسألني أسئلة عديدة، عما إذا كان لي أقارب يعنون بأمري، ونصح لي أن لا أفارق بيني وأن أسكن إلى الراحة والهدوء وبحق مهنتي جعلت أناقشه وأحاجه وإذا كان قبل محاجتي له في ريب من حالتي، فقد تبددت جميعها بمخالفتي لآرائه في تشخيص مرضى وتشريحه، ومنذ تلك اللحظة وأنا في نظر ذلك الطبيب مجنون. نعم مجنون والجنون الذي بي جنون موحش مؤيس مطبق ولكني أؤمل أيها السادة أن لا تضعوا

كبير أهمية لتلك المزحة الصغيرة التي موهتها على رجل من أهل صنعتكم. . . إن الأستاذ ت. . العالم البحاثة ليستحق ولا ريب كل احترام. ومنذ اليوم الذي أصبحت حياة الكسيز في يدي وأنا أهتم كل اهتمامي بصحته ولم يكن الكسيز قوياً شديد الأسر. ومع هذا كان مهملاً نفسه غير مكترث بصحته لا يريد أن يلبس قميصاً أو يتدثر بصدار، يخرج في اليوم البارد المقرور دون خفية. وكانت تاتيانا تكلف نفسها صعود سلم داري لتحمل إلي أنباء زوجها المتوعك المريض وجاءت مرة لتقول لي إن الكسيز نام ليلة الأمس في هدأة ورفق - وكان هذا أمراً غير عادي عند الكسيز فأظهرت لهذا الخبر ابتهاجاً وغبطة وطلبت إلى تاتيانا أن تحمل إلى زوجها كتاباً مني وكان هذا الكتاب نادر الوجود وكان مشوقاً هو إلى قراءته. ولعل إتحافه بهذه الطريقة كان غلطة مني إذ قد يتهمونني بأني كنت أريد بهديتي أن أعمي القوم عن التماس الحقيقية، ولكن رغبتي في إدخال السرور على قلب الكسيز كانت شديدة حارة حتى أجمعت نيتي على أن أجازف هذه المجازفة الصغيرة، وسلكت في هذا اللقاء مع تاتيانا مسلكاً رفيقاً محبوباً جميلاً فرأيتني أكتسب بذلك شيئاً من انفعالها وتأثر مشاعرها ووجداناتها وهي وزوجها لم يشهداني في نوبتي الماضيتين، حتى لقد صعبا عليهما أن يفهما أنني حقاً مجنون. قالت تاتيانا وهي تستأذن في الانصراف هلا جئت لزيارتنا فقلت مبتسماً لا أستطيع، إن الطبيب قد أمرني أن لا أبرح مكاني فقالت أية سخافة وأي هراء! أنت تستطيع أن تأتي إلينا، إذ تكون لدينا كأنك في بيتك، وإن الكسيز لتهفو نفسه شوقاً إلى رؤيتك. وكذلك وعدتها الذهاب، وما وعدت في حياتي وعداً كهذا وكنت في إنجازه أوثق مني ذلك اليوم. وكانت الثقالة البرونزية في موضعها اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر الساعة الخامسة من المساء، وأنا أدخل مخدع السكين، وكان ذلك قبل تناول العشاء، وعشاؤهما في الساعة السابعة، وكانا ساعتذاك في بهجة ومرح، وإزدار مراحهما برؤيتي قال الكسيز وهو يشد بيده يدي (أشكر لك يا صديقي الكتاب الذي أهديت كان ينبغي أن أذهب أنا لزيارتك، لولا أن تاتيانا أكدت لي أنك قد أبللت كل الابلال. وستذهب الليلة إلى دار التمثيل. فهل تصحبنا؟.

ومضينا نخوض في حديث عادي طويل، وكنت أتكلم بدقة وإيجاز ووضوح وجعلت عيني طول الوقت تستقر على عقرب الساعة، وقد عزمت على أني إذ تدق السادسة يجب أن أكون قاتلاً!. حتى إذا بقيت على الميعاد سبع دقائق نهض الكسيز عن المتكأ متثاقلاً متبلداً وغادر الحجرة وهو يقول (سأعود بعد هنيهة). وأردت أن أتجنب عيني تاتيانا ونظراتها فخطرت إلى النافذة ففرقت الأستار ووقفت هناك كأنني أنظر وأتأمل، وإذا بي أشعر بتاتيانا دون أن أراها تخطر في الحجرة متوجهة نحوي، وجاءت فوقفت بجانبي، وكنت أسمع تنفسها الصاعد المتراجع، وعرفت أنها كانت تنظر إلي لا إلى النافذة، فاعتصمت بالسكوت. قالت تاتيانا (ما أشد وميض الجلد!) فلم أحر جواباً، وعادت تناديني وهي مترددة (أنتوني!) ولكنني كذلك لم أجب، فكررت النداء في صوت متهدج مرتجف فنظرت إليها. وهنا أخذت تاتيانا ترتعش وتتمايل حتى أوشكت أن تقع، كأنما صعقتها تلك القوة المتوحشة المفترسة المرعبة التي كانت تطل من عيني، ثم وثبت إلى جانب زوجها، وكان في تلك الآونة قد رجع، وتمتمت الكسيز!. . السكيز. . . إنه. . . . فقال (ماذا تريدين؟). قلت دون ابتسام بل في صوت خشن مخيف (إنها تعتقد أنني أريد أأقتلك بهذه الأداة) هذا ورحت أرفع في سكون وخفة وصمت الثقالة وتقدمت رويداً نحو الكسيز، فشخص في بصره مصفراً مذهولاً مبهوتاً، وهو يكرر هذه الكلمات هي تعتقد. . . قلت (نعم هي تعتقد!) ورفعت ذراعي في رفق وأنا أشير بالأداة وألوح، وبدأ الكسيز في مثل رفقي يرفع هو الآخر ذراعه، وعيناه لم تغادرا وجهي، فصحت به في خشونة وغلظة أن (قف!) وعند ذاك تراخت ذراعاه، وبقيت عيناه مستقرة على، وبدت على شفتيه ابتسامة ضعيفة ذابلة متهمة، وصرخت تاتانيا صراخاً مرعباً مزعجاً، ولكن كان الوقت قد أزف!. نعم بحد تلك الثقالة أهويت على الكسيز أضربه فوق جبهته، وقد أنبأني القضاة يا سادة إنني ضربته عدة ضربات، إذ رأوا جمجمة القتيل مفتتة مبددة، ولكن هذا أيها السادة مخالف للحقيقة، أنا ضربت الكسيز ثلاث ضربات لا غير، واحدة وكان واقفاً واثنان وهو مطروح

على أرض الحجرة. نعم، الحق أقول أن الضربات كانت شديدة قاسية، ولكنها ثلاث ضربات ولا تزيد، إنني أذكر جد الذكري، نعم، ثلاث ضربات!. ـ 5 ـ أرجوكم يا سادتي أن لا تتبعوا أنفسكم في تحليل هذه الكلمات التي كتبتها في ختام الفصل الرابع، ولا تلقوا كثير أهمية على شطبى بعض الكلمات وحذفاتي، لا تعدوها دلائل على عقل مضطرب مجنون، فإن موقفي الغريب الآن يدعوني إلى أن أكون دقيقاً موفياً كل صغيرة، أريد أن أكون أمامكم صريحاً حراً ساذجاً، فافهموا ذلك عني واحفظوه. وتعلمون أنتم أن لظلام الليل تأثيراً شديداً على الأعصاب المتعبة المنهوكة، ولذلك ترون أن الأفكار المزعجة والخواطر السوداء المخيفة لا تجيئنا إلا مع الظلمة ولا تغشى رؤسنا إلا مع الليل، ولذلك كانت أعصابي في الساعات المظلمة التي أعقبت الجريمة غرضاً لاضطراب مدهش غريب، نعم ما أشد حاجة من كان في مكاني إلى قوة كبرى على ضبط مشاعره، إن قتل رجل ليس مزاحاً!. فلما كان وقت تناول الشاي، بعد أن نظمت بزتي، وقلمت أظفاري، وغيرت أثوابي، دعوت طاهيتي ماريا فازيليفنا إلى الجلوس بجانبي، وكانت هذه المرأة الحمقاء هي التي ضربتني الضربة الأولى. قلت لها تعالي فقبليني. . فضحكت ضحكة بلهاء وظلت جامدة في مكانها، قلت (تعالي) فارتجفت، ثم أحمر وجهها، وبدت في عينيها إمارات الرعب، وأقبلت نحوي فاتكأت على الخوان في مظهر الذليل الخاضع المتوسل فقالت (يا صديقي أنتوني اضرع إليك إلا ما ذهبت إلى الطبيب) فقلت وأنا مندهش مغضب (ماذا، أأذهب إليه ثانية؟) فصاحت المرأة (ويلاه، لا نصح هذا الصياح، إنك تخيفني، إنني مرتاعة منك يا صديقي). كل ذلك وهي لم تكن تعلم شيئاً عن نوباتي حتى تلك الساعة ولا عن المقتل، بل كنت أبدو أمام تلك المرأة هادئاً وديعاً حدباً حنوناً. عند ذلك تولاني خاطر غريب. قلت (إذن إن بي شيئاً ليس بالناس، شيئاً يخيف القوم

ويرعب) ولكني طردت هذا الخاطر في الحال، ومع ذلك غادر في إحساساً غريباً، وشعرت ببرودة في ظهري ومفاصلي، وجعلت أعلل نفسي بأن ماريا علمت ولا ريب بمرضي من أهل البلد أو من ألسنة الخدم، أو لعلها لاحظت ملابسي الممزقة التي خلعتها عني، فكان ذلك داعياً لهذا الرعب الذي أبدت، فقلت (اذهبي!). فلما تولت مددت جسمي على المقعد الطويل أمام مكتبي، ولكنني لم أشعر بميل إلى القراءة، بل أحسست بتراخ ووهن شديدين، كما يكون من الممثل بعد الإبداع في دوره. وثقل جفناي، وتراخت أهدابي وشعرت بطائف النوم وإذا بخاطر جديد قد نفذ إلى رأسي، جعل ينساب بطيئاً بليداً متكاسلاً، وكان له كل المزايا التي امتازت بها خواطري - الوضوح والإيجاز والبساطة، نعم نفذ إلى رأسي واستقر، وها أنا ألقيه إليكم أيها السادة حرفاً بحرف، في صورة الغائب، وهكذا خطر لي، وإن كنت لا أعرف السبب، وهذا هو (إن من المحتمل جداً أن الدكتور كرجنترف حقاً مجنون. هو ظن أنه قد تظاهر بالجنون ولكنه في الحقيقة مجنون. إنه في هذه اللحظة مجنون وأعاد هذا الخاطر نفسه في ذهني ثلاث مرات أو أربع، وظللت أضحك، لأنني لم أفهم (إنه ظن أنه قد تظاهر بالجنون. ولكنه في الحقيقة مجنون، إنه في هذه اللحظة مجنون). وتوهمت أول الأمر أن هذه الكلمات قالتها ماريا، إذ بد إلى أن الكلمات قد وجدت صوتاً. وإن هذا الصوت يشبه صوتها، ثم ظننت أنه صوت الكسيز، نعم صوت القتيل الكسيز، وأخيراً تبينت أنني أنا الذي رددت هذا الخاطر، وكان هذا شنيعاً مرعباً. هنا أمسكت بشعر رأسي ووثبت واقفاً في بهرة الحجرة أقول (هو ذلك. انتهى كل شيء! لقد وقع الذي خفت أن يكون، إنني اقتربت من الحدود ودانيت، والآن لا يحفظ لي المستقبل إلا شيئاً واحداً. . . هو الجنون!). فلما جاءوا للقبض على كنت كما يظهر في حالة مخيفة رهيبة، كان وجهي المتوحش الشاحب تقشعر لرؤيته الأبدان، كانت ملابسي ممزقة قطعاً وإرباً، ولكن أنشدكم الله يا سادة، أن رجلاً يقضي مثلي المساء المخيف الذي قضيت دون أن يجن عقله، ألا يدل ذلك على أن لي عقلاً قوياً جباراً صلباً؟. إنني لم أحدث شيئاً أكثر من تمزيق ثيابي وتحطيم الزجاج، وعلى ذكر الزجاج اسمحوا لي

يا سادة أن أدلي إليكم بنصيحة، إذا قدر لأحدكم أن يعاني ما عانيت ذلك المساء فليثق من تغطية مرايا الحجرة التي هو بها وليغطها كما تغطى إذا مات في البيت ميت نعم احجبوها وأجيدوا الحجاب!. ولا أذكر بعد ذلك شيئاً حتى وصول الشرط، وسألت كم الوقت فإنما نحن في التاسعة، فكدت لا أصدق بأنه لم يمض على قتل الكسيز إلا ثلاث ساعات فقط وإن كنت أتذكر فلا أذكر إلا شيئاً واحداً، هو خاطري، هو الصوت (إن الدكتور كرجنتزف ظن أنه قد تظاهر بالجنون وما كان في الحقيقة إلا مجنوناً). وعند ذلك جسست نبضي فإذا هو مائة وثمانون، نعم، إن مجرد ذكرى ذلك الصوت كان كافياً لأن يثير دقات نبضي إلى هذا الحد. ـ 6 ـ والآن يا أساطين العلم وأرباب البحث إن منكم أطلب الجواب، هل أنا مجنون أم غير مجنون؟ إنكم ولا ريب ستنقسمون في أحكامكم، سيقول البعض رأياً، ويقول البعض الآخر نقيضه، ولكني أعدكم يا سادتي أن أصدقكم جميعاً، فأعطوني فقط آراءكم وها أنا أقص عليكم كذلك تافهة أخرى، ولكنها حادثة هامة قد نعين أذهانكم المنيرة وعقولكم الخصبة اليانعة. في ذات مساء هادئ ساذج، بين هذه الجدران البيضاء لاحظت أن الممرضة ما كانت تنظر نظرات خائفة مذعورة مضطربة كأنما انزعجت من شيء مخيف، وتركت الحجرة فظللت وحيداً جالساً فوق الفراش وهنا جعلت أفكر وبدا لي أنني أريد أن أعمل أعمالاً غريبة - نعم، أنا الدكتور كرجنتزف أردت أن أنبح، نعم، لا أصرخ بل أنبح، كما يفعل الآخرون، أردت أن أمزق ثيابي وأجرح وجهي وأخدش، أردت أن آخذ بتلابيب القميص وأشقه شقتين حتى الحاشية، وأنا، أنا الدكتور كرجنتزف، أردت أن أنزل على راحتي وركبتي وأزحف! وكان السكون حولي سائداً، وقطع البرد تلمع فوق زجاج النوافذ، وعن كثب مني كانت ما تصلى لله في صمت، فلبثت مدة أعرض على ذهني أي عمل من هذه الأعمال، أن نبحث أثرت ضوضاء وضحكاً وسخرية، وإذا مزقت قميصي عرفت في اليوم التالي، وبكل تعقل وتدبير أردت أن أحقق الرغبة الثالثة، وهي أن أزحف، نعم لن يسمعني أحد وإذا جاء

إنسان ورآني، أقول إنني كنت أفتقد زراراً سقط. وهنا فكرت (ولكن لماذا أريد أن أزحف، هل أنا حقاً مجنون؟). وتولاني الرعب، ثم تولتني رغبة شديدة في أن أقوم بالثلاثة معاً، أنبح وأزحف وأجرح نفسي، فأخذني الغضب. وسألت نفسي (أتريد أن تزحف؟) فلم أسمع جواباً، فأعدت السؤال (أتريد أن تزحف؟) فلم يكن جواب. قلت (إذن فلنزحف!) وشمرت عن ساعدي ونزلت على أربع وانطلقت أزحف وما بلغت وسط الحجرة حتى تبينت حماقتي فجلست على الأرض في فكاني ورحت أضحك، أضحك، نعم أضحك. ولما كنت لا أبرح على اعتقادي أن المرء يستطيع بالبحث أن يهتدي إلى شيء من الحقيقة والمعرفة، قد أخذت على عاتقي أن أهتدي إلى مصدر هذه الرغبات المجنونة التي خطرت لي، أجل هي ولا ريب وليدة خاطري، وإن فكرة التظاهر بالجنون هي التي استدعت مني هذه الرغبات، فلما حققتها لم أعد مجنوناً ولكن يا سادة زحفت، زحفت، أي رجل أنا، أمجنون يعتذر عن نفسه أم عاقل ذو لب يمشي في دوره إلى الجنون. تعالوا إذن يا سادة إلى نجدتي، اجعلوا رجاحة ألبابكم تعلو أو تهبط بإحدى الكفتين، حلوا لأجلي هذا السؤال القاسي، آه ما أقلقني في انتظار حكمكم، هل أنا مجنون؟. (تمت).

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة [1] رسائل غرام بين شهيرات ورجال عظام هي رسائل مختارة حلوة الأسلوب كان قد نشرها الأديب الكاتب سليم عبد الأحد في مجلة الزهور والآن وقد جمعها وطبعها على حدة طبعاً نظيفاً متقناً على ورق جميل يخلق بمحبي الإطلاع أن يقتنوها ويقبلوا على قراءتها وهي تطلب من إدارة البيان وثمنها خمسة قروش عدا أجرة البريد. [2و3] تربية الطفل - التمريض المنزلي - كتابان نافعان يدل عنواناهما على ما ضمناه. وضعهما الأستاذ البحاثة المجتهد الدكتور محمد عبد الحميد بك طبيب مستشفى قليوب صاحب المؤلفات النفيسة المنوعة في الطب الدالة على إخلاصه واجتهاده وطول باعه في هذا العلم عرفنا الله أقدار أمثال الدكتور ولا حرم الناطقين بالضاد آثاره النافعة. وأنا نحث كل قارئ وكل قارئة على أن يقتنوا هذين الكتابين فليس لأحد غنى عنهما وثمن الأول أربعة قروش والثاني عشرة عدا أجرة البريد وهو يطلب من إدارة البيان وأكثر المكاتب. [4] ديوان الراشد - أهدى إلينا الأديب محمود راشد الجزء الأول من مجموعة أشعاره المسماة ديوان الراشد وثمنه خمسة قروش. [5] الخصائص - أهدت إلينا دار الكتب الخديوية المجلد الأول من كتاب الخصائص للإمام أبي الفتح عثمان بن جنى. وهو كتاب جليل في فلسفة اللغة العربية وخصائصها وقدما كنا نود ظهور هذا الكتاب في عالم المطبوعات وقد حقق الله الآمال بهمة القائمين بأمر المكتبة فنحث جميع عشاق العربية على اقتناء هذا الكتاب النادر حتى يفيدوا منه لغة وأدباً وعلماً وأسلوب كتابته أسلوب متحيز فصيح يعد من أرقى الأساليب العربية وبودنا أن نفي الكتاب حقه من القول وننقل منه شذرات مختلفة ولكن البيان للأسف لا يتسع لمثل ذلك. وثمن الكتاب 15 قرشاً وأجرة البريد ثلاثة قروش وهو يطلب من إدارة البيان وأجرة تجيلده لمن أحب ذلك خمسة قروش. [6] الاعتصام - وكذلك أهدت إلينا كتاباً من أنفس الكتب الإسلامية وهو كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي في البدع وهو يقع في ثلاثة أجزاء تم منها جزآن والثالث تحت الطبع وثمن الجزأين 20 قرشاً وأجرة البريد ثلاثة قروش وهو يطلب من إدارة البيان. [7] الأحكام في أصول الأحكام للإمام الآمدي الفقيه - وأهدت إلينا دار الكتب الخديوية أيضاً هذا الكتاب الجليل وهو في أصول الفقه لكن لا على طريقة المتأخرين بل الطريقة

التي يكتب بها الأئمة الأولون إيضاحاً وانتظاماً وحسن تنسيق وهو يقع في أربعة أجزاء كبار وإنه لجدير بعلماء الدين والقانون وطلابهما أن يحصلوا على هذا الكتاب النفيس الذي لم يظفروا بمثله وثمنه 48 قرشاً وأجرة البريد أربعة قروش وهو يطلب من إدارة البيان.

بسم الله الرحمن الرحيم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً أما بعد فأنّا نستأنف اليوم العدد الرابع لهذه المجلة باسم الله عز اسمه وبعونه جلّت قدرته. ولعلنا فرغنا بما كتبناه لفواتح السنين المواضي من القول في شرح ما نستهدف له من عذاب واصب وجهد ناصب وما تقدم عليه من خطر أليم وهم مقعد مقيم ثم ما نشكوه لا ما نشكره وما تقرّبه الأمة من صبرنا ولا تنكره ثم ما لا نهاية له من هذا الباب الذي يفتح من صاحب المجلة على خراب ومن أكثر القراء في مصر على قيعة وسراب فاللهمّ عونك على المصيبتين المصريتين: الأدب والعلم لا يكثر قراؤهما والقراء على هذه القلة ولاسيما الأغنياء همو همو. . . على أننا لا نزال نقول إن قراء البيان هم خاصة القوم وأدبائهم وأهل العلم فيهم وذوا النعرة الصحيحة منهم ونرى حقاً علينا أن نزلف لهم الشكر محضاً وأن نخصهم بالثنء كله فقد آذرونا وشدوا منا وحملوا عنا أكثر المؤنة في هذه الصناعة ولولا ذلك منهم لما بقى البيان حيث هو ولا قريباً مما هو ولا استطعنا في هذه الضيقة أن نتسع فيه على حين أن كثيراً من المجلات الراقية إن شرقية وإن غربية قد دفنت من جراء الحرب في غلافها أو انتقضت من أطرافها أو اقتصرت على كفافها - فأننا على ذلك قد أخرجنا وسنخرج البيان مرتين في الشهر وجعلنا وسنجعل كل عدد 64 صفحة متقنة فتلك مائة وثمانة وعشرون صفحة نجهد لها بين الهلالين وما هي في أثرها علينا بالشيء القليل ولا بالخطر الهين وإنها لتستنفذ الوسع في هذا الضيق وتستفرغ جهد الطاقة في هذا العسر من المطيق ولكن البيان بقرائه الفضلاء وهم والحمد لله وله المنة بين كافٍ ووافٍ ومن ذي عهد وذمة إلى ذي كرم وهمة وكلهم كما عرفنا ضنين بالبيان حريص أن يصل إليه مبسوط الراحة له مقبوض اليد عليه. غير أن منشأ البلية أن ينصرف سواد القارئين من أغنيائنا وأولاد أغنيائنا - وهم المادة والعدّة - على السخف والسفه وإلى ما لا خير فيه ولا خير منه لأحد ولا لأنفسهم ثم يجمدوا على ذلك جموداً لقصط لا يترك فيه قطرة من الحياء تندى فلا يبالون أن ترى وجوههم أقفاء في كل ما يسوق إلى غير الفسوق ولا يأنفون أن يجروا مع الرغاء في مضمار لا يقال السابق السابق في الجواد ولكن السابق السابق فيه الأعيار. . ولا عليهم بعد ذلك من الأدب إن نفق أوكد وصحّ أو فسد وهبّ أو ركد ولا من العلم إن دار

أو بار وظهر أو غار وكأنهم عفا الله عنهم لا يجدون الشرف الصاعد إلاّ في تلك المقاعد ولا يحتاجون من أمتهم لغير خدمتهم ولا يخشون على أنفسهم التلف إلا متى قلّ العلف. . . فإذا كانت النهضة لأهوائهم طاروا وإن كانت لآدابهم تبلدوا وحاروا وإذا قيل الهزل والطرب أقبلوا إقبالاً شديداً وإذا قيل العلم والأدب وقفوا منها بعيداً. على أنهم ويا أسفا من الأمة هامات وفي الأمة قامات وفي عدد الأمة رقاب وفي تاريخ الأمة نعوت وألقاب. فواهاً لك أيتها الأمة المصرية ويا لهف الأنفس المشفقة عليك. وعلم الله لو أن عشرة من هؤلاء الأغنياء أو واحد منهم أو ابن واحد منهم كان رقيق الإحساس شريف النزعة صحيح الغيرة وافر الإخلاص يعرف من حق الأمة عليه ويستيقن ما يعرفه فينظر إلى المجلات النافعة في مضر ويعينها بعض العون على ما تعالج ويثبت بذلك أن في أغنيائنا من يكون لأمته بعمة بين المصائب وإن الكنانة مهما خلت لا تخلوا من سهم صائب. إذن لأهدينا من البيان محاسن الأدب مجموعة وجعلناه من الطلاب كفاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فوهبنا الكثير منه معونة للطلبة الفقراء ووسعنا من فوائده على القراء وأطلعناه في الكمال مطلع البدر ونشرناه كما يعم الشرق نور الفجر ولا والله ما تنقصنا الرغبة ولا تعوزنا المادة ولا يضيق بنا الإخلاص ولا يحوجنا شيء من ذلك إلى عذر نتعلل به أو نتعلق عليه ولكنا نقبل وأكثر الناس معرضون ونبسط يدنا في مالنا وهم يقبضون. على أننا لا ندري لم لا تعتبنا حكومتنا السنية أيّدها الله وهي منا بمكان الوصي من القصر وهي دائبة على تعليم الأمة وإرشادها وهي تعرف ما تؤديه مجلة مثل البيان وما لها من الأثر الظاهر في تقوية النهضة الأدبية وما توسع على الأمة في آدابها وثروتها العقلية - لم لا تعتبنا أعزها الله وتعتب الأمة فتنظر كذلك للمجلات المصرية الصالحة وهي لا تبلغ أصابع اليد الواحدة فتحيط أصحابها بشيء من العناية وتقدر عملهم للأمة وحاجة الأمة إليهم وتعمل على أنهم فئة كهؤلاء الممثلين والموسيقيين الذين يقذفهم برد أوربا كل شتاء فتدفعهم بذهبها. فإن لم يبلغوا أن يكونوا كذلك في الاعتبار وكان بينا وبينهم ما بين الشرق والغرب فلا أقل مما يكون أصحاب المجلات المصرية الكبرى في رأي الحكومة كأصحاب الكتاتيب. . .

على أن هناك نظارة المعارف ومدارسها ومجالس المديريات ومعالمها ونظارة الأوقاف ومعاهدها وحسبنا مدار في تلك المدارس ومجال في تلك المجالس وما نسأل حكومتنا إلا ما هو أشكل بها في ترقية الأمة وأشمل لمذهبها في التعليم واقرب إلى أغراضها السامية فيما إلى ذلك. وبعد فهذا هذا ونحن فأنا نعد مصر والمصريين وسائر قراء العربية في سائر الأقطار أنا لا نألو جهداً ولا نذخر وسعاً في الاحتفاظ بالبيان والمضيّ في سبيلنا مهما كانت العوائق معوّلين في هذا الأمر عليّ الله جل شأنه ثم علي ما تفضل علينا من قوة المبدأ وقوة الإرادة وقوة الثبات وعلى ما تفرد به قراؤنا الأفاضل من الغيرة الصحيحة والأخلاق النبيلة الصريحة وحسبنا الله ونعم الوكيل. عبد الرحمن البرقوقي

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الخامسة تاريخ الأندلس منذ فتحها المسلمون إلى وقتنا هذا وهو سنة أربع وتسعين وثلاثمائة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم سألتني أمتعك الله بالأدب وأذاقك حلاوة المعرفة أن أردف رسائلي التي وضعتها قديماً في طراءة العمر وريعان الصبى أثر وفودي على الأندلس برسالة أبسط لك فيها تاريخ ذلك القطر العجيب الذي كأنه قطعة انخزلت من الفردوس وسربت من السماء إلى الأرض وقرت عيناً بهذا المكان فاستقرت وكانت لاهليه روحاً وريحاناً وجنة نعيم إن للجنة في بالأندلس ... مجتلى حسن وريا نفس فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس وإذا ما هبت الريح صبا ... صحت وأشوقي إلى الأندلس وإنها عمرك الله وملاك بها لخليقة ... بقول من قال وقد طبق المفصل أي المعاهد منك اندب طيبة ... ممساك بالآصال أم مغداك أم برد ظلك ذي الغصون وذي الجنى ... أم أرضك الميثاء أم ريك وكأنما سعطت مجامر عنبر ... أوفت فار المسك فوق ثراك وكأنما حصباء أرضك جوهر ... وكأن ماء الورد دمع نداك وكأنما أيدي الربيع ضحية ... نشرت ثياب الوشي فوق رباك وكان درعاً مفرغاً من فضة ... ماء الغدير جرت عليه صباك ومن هنا أصاب سؤالك عن نفسي مواقع الماء من ذي الغلة على الرغم من تقدم السن وضعف الشيخوخة وأكلى على الستين. وسنفتتح لك هذه الرسالة التي سألت بالقول على الأندلس وتقويمه ووصف ما أجملته هنا من خصبه واستبحار العمران فيه وذكر البلدان والأنهار والمعادن والأجبال وسائر الخصائص التي احتوى. والله سبحانه هو الموفق لإتمام هذه الرسالة على ما تحب وتهوى. ولما فيه رضي الله والراسخين في العلم إن شاء سبحانه.

وصف الأندلس جزيرة الأندلس - ويسميها العجم اشبانية - وهي قطر كبير متصل ببلاد أفرنسة من الأرض الكبيرة التي هي بلاد أفرنجة العظمى إلى جنوبيها الغربي وهي على مثال الشكل المثلث إذ هي تعتمد على ثلاثة أركان فركنها الواحد فيما بين الجنوب والغرب بمقربة من جبل الأغن كثب صنم قادس إذ يتلاقى البحر المتوسط الشامي والمحيط المعروف ببحر أقيانس والذي يسميه أهل الأندلس بحر الظلمة وبحر الأنقليشيين الأنجليز والأقيانوس الاطلانطي أو الأطلانطيقي وركنها الثاني بشرقيها بين مدينة أربونة إحدى مدن أفرنسة نربون ومدينة برديل إحدى مدائن أفرنسة كذلك حيث يقترب البحر المحيط من البحر الشامي فيكادان يجتمعان فتصير الأندلس جزيرة بينهما لولا جبل البرت الذي قام ثمت وفصل الأندلس من بلاد أفرنسة والركن الثالث هو في بلاد جليقية حيث الجبل الموفى على البحر المقابل جزيرة برطانية أنكلترة بالقرب من مدينة شانت ياقب ومن هنا تعلم أن الأندلس ليست بجزيرة على الحقيقة لاتصال أرضها ببلاد أفرنسة كما تتحقق ذلك إذا أنت نظرت إلى المصور الجغرافي الذي صورنا لك فيه هذه الجزيرة. وأن حدها الجنوبي هو الخليج الرومي بوغاز جبل طارق الخارج من البحر المتوسط مما يقابل طنجة في موضع يعرف بالزقاق - وسعة هذا الخليج اثنا عشر ميلاً - وحدها الشمالي البحر المتوسط وجبل البرت أو البرتات. والبرت بلسان الإشبانيين الباب إذ فيه أربعة أبواب أحدها ناحية برشلونة ويسمى برت جاقة والثاني يسمى برت أشمرة والثالث يسمى برت شازر ورابعها برت بيونة ويتصل بكل برت منها مدينة في الجهتين وقد زعم بطليموس أن قَلَوْبطره (كليوباطره) وهي امرأة كانت آخر ملوك اليونان أول من فتح هذه الأبواب بالحديد والخل والنار - وهذا وهم من بطليموس فإن قلوبطره كانت ملكة على مصر ولست أدري ولا المنجم يدري. أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان أما أن العرب سموا هذه البلاد الأندلس فذلك لما سيمر بك أن قوماً يعرفون بالأندلوش سكنوا قديماً شطرها الجنوبي فسماه من بعدهم من أعجام رومة الرومانيين والقوط أندلوشيا فلما فتح العرب هذه الجزيرة سموها كلها الأندلس تسمية للكل باسم البعض كما تسمى

الأرض الكبيرة بلاد أفرنجة وفيها أفرنجة وغير أفرنجة - أما تسمية العرب إياها اشبانية فلم نعلم لذلك سبباً على التحقيق. ويلتحق بجزيرة الأندلس جزائر أخرى منثورة في البحر المحيط والبحر الشامي المتوسط وهي جزيرة قادس من أعمال أشبيلية وهي في البحر المحيط. وهذا البحر المحيط فيه جزائر أخرى كثيرة كبيرة وصغيرة ففيه الجزائر الخالدات وهي غربي مدينة سلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي الخالي الجو من الأبخرة الغليظة وفيه بجهة الشمال جزيرة برطانية أنكلترة وفيها من المدن والقرى ما لا يحصى. أما البحر الرومي ففيه من الجزائر التي تلتحق بالأندلس جزائر ميورقة ومنورقة ويابسة وقد مضى وصفها في الرسالة الأولى من كتابنا حضارة العرب في الأندلس.

الإسلام والآداب

الإسلام والآداب في رأي الدكتور جوستاف لوبون لا نظن أحداً من القراء لا يعرف من هو الدكتور جوستاف لوبون صاحب كتاب سر تطور الأمم وروح الاجتماع وكثير من المؤلفات الفلسفية الجليلة. وهذا الفصل منقول من كتابه حضارة العرب وهو كتاب قيم جليل يهم الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً أن يقفوا على آرائه فيه ومن ثم أخذنا على أنفسنا أن ننقل في البيان تباعاً أطيب ما في هذا الكتاب وسننشر كلمة اليوم دون تعليق عليها اتكالاً على فطنة القراء. يقول الدكتور جوستاف لوبون إن التعاليم الأخلاقية التي جاء بها القرآن هي صفوة الآداب العالية وخلاصة المبادئ الخلقية الكريمة فقد حض على الصدق والإحسان والكرم والعفة والاعتدال ودعا إلى الاستمساك بالميثاق والوعد والوفاء بالذمة والعهد وأمر بحب الجار وصلة الرحم وإيتاء ذي القربى ورعي الأرامل والقيام على اليتامى ووصى في عدة مواضع من آية أن تقابل السيئة بالحسنة. . . تلك هي الآداب السامية التي دعا إليها القرآن وهي لا تكاد تختلف وآداب الإنجيل في شيء. ولكن البحث في الآداب التي يحض عليها كتاب من الكتب ليس من الأهمية من المكان الكبير فأنك لا تكاد تقع من الأديان الإنسانية على دين لم تكن المبادئ الأخلاقية التي جاء بها سامية عالية وإنما الحقيق بالأهمية الكبرى من البحث في حال شغب من الشعوب هي الآداب العملية التي يسير عليها لا الآداب التعليمية المدونة في الكتب المحفوظة في الأذهان إذ قد دلت المشاهدات والاستقراآت إن ثمة فرق بينا بين إلا أن الآداب العملية والآداب التعليمية في جميع النحل والشعوب. إن من بين العوامل المختلفة التي تعمل على تكوين الآداب ونشوئها هي المصلحة المشتركة وتأثير الوسط والرأي العام والطبقات العلية في الأمة والشرائع القانونية والتربية وعقلية الأمة وغير ذلك من العوامل وليس للأديان في تكوين آداب الأمم إلا أثر ثانوي ضعيف. وقد شهدنا أن الأديان القديمة كأديان المصريين الأقدمين والآشوريين والكلدانيين والإغريق والرومان لم تسن شيئاً من الآداب ولم تتعرض للأخلاق ولا تجد فرائض وتعاليم من

الآداب إلا في نحل الهند وفي الأديان التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد على أن هذه الأديان الأخيرة لم تضع آداباً جديدة ولا اشترعت حدوداً من الأخلاق حديثة وإنما عمدت إلى عدة من الآداب الموجودة في الأمة فأمدتها بشيء من القوة وكفلت لها شيئاً من الضمانات وجملة هذه الضمانات أمل الثواب وخشية العقاب في حياة أخرى آجلة ولكنها في الوقت نفسه سهلت الظفر بالمغفرة فرفعت عن الخوف من العقاب ذلك الأثر الذي كانت ستحدثه في قلوب السواد الأعظم من الناس. وفضلاً عن ذلك أن الباحث لا يعوذه إلا أن يضرب في الأرض ويدرس الناس على حقائقهم خارجين عن دائرة كتبهم وتعاليمهم حتى يعرف أن الدين مستقل عن الآداب كل الاستقلال إذ لو صح أن بينهما أسباباً وتلازماً حقيقياً لكان أكبر الأمم تمسكاً بالدين أكبرها حظاً من الآداب. ولكن ذلك في الحقيقة خلاف ما هو واقع فإن أسبانيا والروسيا وهما أشد ممالك الغرب استمساكاً بشعائر الدين لا تزال آدابها في مستوى منحط ضعيف ومن ذلك يتقرر أن الباحث في حالة الآداب عند أمة من الأمم لا يصح أن يتلمسها في دين الأمة أو يتوخى أسبابها من نحلتها على أنني أكرر القول أن الأديان جميعاً تحتوي مبادئ من الآداب عالية وأنها لو اتبعت لرجع إلى الأرض عصرها الذهبي لكن طريقة إتباع هذه المبادئ تختلف باختلاف الوسط والزمن والجنس وغيرها ولذلك نرى لكل أمة من الأمم المشتركة في دين واحد آداباً تختلف عن آداب شريكتها اختلافاً كبيراً وهذا ينطبق على الأديان جميعها ومن بينها الإسلام فإن آداب القرآن سامية عالية ولكن كان فعلها مختلفاً جسد الاختلاف تبعاً للشعوب والأوساط والعصور والأجيال فقد كانت آداب العرب في صدر الإسلام وأوائل عصوره أسمى كثيراً من آداب الأمم المعاصرة لها وفي طليعتها الشعوب المسيحية وقد كان عدلهم واعتدالهم وإحسانهم وسماحتهم في معاملة الأمم المهزومة واحترامهم لشعائرها وطقوسها وتلك الشخصية الفروسية التي طبعوا عليها كل ذلك كان حقيقياً بالإعجاب خليقاً بالدهشة والإجلال بل كانت على نقيض آداب الأمم الأخرى ولاسيما الشعوب الغربية في عصر الحروب الصليبية. على أننا إذا جارينا الناس فنسبنا للدين من التأثير ما ينسبون له عادة لوجب علينا أن نقول إن آداب القرآن كانت أسمى بكثير من آداب الإنجيل. إذ كانت الأمم الإسلامية على آداب

أرقى كثيراً من آداب المسيحيين ولكن ما قررناه من استقلال الآداب عن الأديان يثبت فساد استنتاج كهذا فلئن كانت هذه الآداب سامية في بعض العصور فقد انحطط انحطاطاً كبيراً في غيرها فإن سيادة الأتراك المتراخية والمتسلطة والنظام السياسي الذي بسطه فوق الممالك التي تحتها وضعاً كثيراً من آداب الشرقيين فإن مملكة تكون فيها أهواء الوالي وجنده وصنائعه وهي القانون الفذ والشرع الذي لا حول عنه ولا مرد حيث يكون كل فرد هدفاً لعسف ألف طاغية صغير لا هم لهم ولا مطمع إلا في الغنى والثراء حيث لا عدل يبتغى ولا نصفى ترتجى وحيث لا تستطيع أن تظفر بشيء إلا بقوة الذهب وسلطان المال نعم أن مملكة تعيش في جو كهذا يروح الفساد فيها عاماً شاملاً وعند ذلك لا تستطيع أن تقع فيها على أثر من الآداب أو شبه أثر ومن ثم أصبحت آداب الشرقيين بحكم الضرورة والقهر في مستوى منخفض منحط وإن كان القرآن بريئاً من هذا الانحطاط كما أن الإنجيل بريء من الانحطاط الأخلاقي المشهود بين الشعوب المسيحية التي تعيش تحت هذا النظام. وما تقدم يكفي لإظهار ضعف أساس ذلك الرأي السائد اليوم في الغرب وهو أن الدين الإسلامي هو الذي أفضى ببعض شعوب الشرق إلى حد بعيد من الانحطاط الأخلاقي الذائع اليوم بينها وهذا الرأي يقوم على سلسلة من الأغلاط والأكاذيب هي أن القرآن هو الذي سن تعدد الزوجات وإن مذهب القضاء والقدر الذي يزعمون أن القرآن بثه هو الذي أدى بالناس إلى البلادة والخمول وإن محمداً لم يفرض على شيعته إلا شعائر بسيطة يسهل الاستمساك بها والقارئ المتتبع لما كتبنا يعرف إلى أي حد من الخطأ والفساد تجري هذه الآراء فقد أثبتنا أن تعدد الزوجات وجد في الشرق كله قبل أن يخرج محمد إلى العالم بعدة من القرون وإن القرآن لم يكن أشد قدرية من أي كتاب ديني آخر ولئن كان العرب قدريين بطبائعهم فإن عقيدة القضاء والقدر لم تؤد بهم كما يزعمون إلى البلادة والخمول وهم قد أسسوا بنياناً من الدولة شامخاً وأثبتنا كذلك أن المبادئ الأخلاقية التي جاء بها القرآن تعادل في سموها وكمالها ما جاءت به الكتب الأخرى ولو صح أن القرآن هو الذي حط من المسلمين لارتقبنا من أولئك الشرقيين الذين لم يكونوا بطبائعهم قدريين ولم يأخذوا بتعدد الزوجات أمثال مسيحيي الشرق أن يكونوا بنجوة من هذا الانحطاط ولكني لا أعرف من البحائين الذين درسوا الشرق من لم يجد نفسه مضطراً للاعتراف بأن آداب هؤلاء

المسيحيين الشرقيين في مستوى أقل بكثير من مستوى آداب المسلمين. ونقول في ختام هذا البحث أن آداب القرآن في سموها ورقيها كآداب أي دين آخر وأن الأمم التي دانت له أظهرت الأمم التي تعيش تحت شرائع المسيح مستوى من الآداب متحولاً متغيراً وذلك تبعاً للعصور والأجناس وتبعاً للعوامل الأولية في نشوء الآداب. ولكن النتيجة الكبرى التي يمكن أن نستخرجها من كل ما قلنا هو التأثير العظيم الذي أحدثه القرآن في الشعوب التي خضعت لشريعته فقلما ترى من الأديان ديناً أحدث شبيه ذلك السلطان الذي بسطه الإسلام على النفوس والدولة التي شادها فوق الأرواح بل ليس في الأديان جميعاً ما ثبت سلطانه واستقام كالإسلام فإن القرآن لا يزال إلى اليوم قطب الحياة في الشرق وملاك أمرها وإنا لنجد تأثيره في أتفه فروع الحياة وأقلها ولئن كانت دولة العرب لم تعد ترى إلا في كتب التاريخ فإن الدين مؤسس تلك الدولة لا يزال حياً ممتداً منتشراً ولا يزال ظل النبي من أعماق قبره يسود متملكاً على تلك الملايين العديدة الساكنة أفريقية وآسية والمترامية بين مراكش والصين والمنثورة بين البحر الأبيض وخط الاستواء.

من قول ابن الرومي

من قول ابن الرومي عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام والشراب

الخلود

الخلود قصيدة نظمها الشاعر لامارتين يرثي بها حبيبته الفير وكانت قد قضت نحبها في ريعان الشباب وكان لامارتين نفسه مريضاً يظن أنه قد شفا الموت وقد جمعت القصيدة معاني شتى من الفلسفة والحب والجمال والموت والخلود حتى عدت أحر زفرات الشاعر وابلغ نفثاته. هذه شمس أيامنا أصفرت وهي في مطلعها أنها لا ترسل الآن على جباهنا الذابلة ووجوهنا المنهوكة المتعبة إلا أشعة متحدرة مضطربة واجفة تغالب مطالع الظلام وتناصب هواجمه هذا الظل يمتد وهذا النهار يموت كل شيء يزول يفر ويطير. لشد ما يرتجف المرء لهذا المنظر الرهيب ويرتعش لشد ما يراجع الخطى عند حدود الهاوية وينكب بل لشد ما يخفق الفؤاد إذ يستمع عن كثب على تلك الأنشودة الحزينة المظلمة أنشودة الموتى تتردد في أعماق صدره منتشرة في أنحاء نفسه إن تلك الأنات المخنوقة والأنفاس المتحشرجة آهات الحبيب وزفرات الخليل وانتحابات الولي وهي تتراجع وتضطرب حول فراش الموت أن هذه الأصوات المضيعة المبددة تعلن الأحياء أن منكوداً منهم قد خف ومكدوداً قد رحل. تحيتي إليك أيها الموت وسلامي أيها المنقذ السماوي الكريم ما عدت بعد اليوم تطالعني في ذلك المنظر المرعب المشؤوم برهبتك وخشيتك ولا عادت يمينك تشارفني بمرهف سيفك لست أيها الموت بالمتجهم الوجه ولست بالخائن العين أنت الذي تروح إلى الله الرحيم بأحزاننا وفجعاتنا ونستدعي رحمته على نكباتنا وويلاتنا أنت لا تعدم بل تنقذ أنت لا تقتل بل ترحم إن يدك يا رسول السماء تحمل إلى مشكاة الهية يوم تحرم عيني المتعبة الحسيرة مشرق الضياء ومطلع النور أنك تجيئني لتمطر الجفن وتبلل العين هناك يطفر الأمل إلى قربك يظلله الإيمان وتشده التقوى ويفتح أمام عيني عالماً أجمل أروع حلو المتقبل لذ المتفكه والمتنعم. ألا تعال أيها الموت وأقبل تعال فاقطع عني أغلال اللحم وبدد عني قيود البدن تعال أكسر باب سجني وافتح مغالق محبسي أعرني أجنحتك الهفهافة وقوادمك ماذا يحبسك عني ويمسكك ماذا يعيق عن زورتي ويؤخرك ألا أطلع عليّ وأشرف أريد أن أطفر إلى ذلك الكائن العظيم اشهد عنده مبدئي ومختمي.

أموت ولا أعرف ما الوجود واذهب ولا أعلم ما البقاء أنت أيتها الروح المبهمة أيها الطائف الغامض المجهول سدى أسألك وعبثاً أستطلعك أية سماء بحقك تسكنين وفي أية دار ترى تعيشين أية قوة دفعتك إلى عالمنا المتحطم الضعيف الهشيم أية يد حبستك في محبس فخارك واعتقلت في قالب طينك لأي سبب عجيب وبأي سر غريب يرتبط بك البدن وبه ترتبطين لأية سفرة جديدة سترحلين عن الأرض وتتحملين أتراك نسيت كل شيء أم هل تذكرين أتعودين إلى حياة أشبه وعالم أمثل وأحكى أم في حجر الله مخرجك ومربعك وموطنك ستنعمين مناعم الأبدية وتلعبين ملاعب الخلود؟! نعم تلك علالتي يا نصف الحياة وتلك طماحتى تلك هي الأمنية التي كانت عزاء نفسي السجينة المغلولة يوم شهدت غلائل حسنك تزبل والربيع في صميمه ومزدهره هي اليوم مناي والحزن يفتك بي والأسى يقتل وأنا أجود اليوم بالنفس وأسلم أموت فينان الغصن رطب العود ولكن ها أنا ذا أبتسم! سيصبح قطيع أبيقور وجماعته أمل خلب كاذب! وذلك العالم الذي يفحص بيده عناصر الطبيعة ويدرس في زاوية صغيرة يسمونها العقل سيقطع دهره للمادة ويعيش في عالم المادة ويغفل عن الروح سيقولون جميعاً أيها الأحمق أنظر حولك ودر بعينك كل إلى فناء وكل إلى غاية وكل يولد لكي يموت أنظر ألا ترى الزهرة في الحقل تتعب فتضمحل فتموت ألا تشهد السدرة العظيمة في جوف الأجمة الكثيفة تفرع شامخة الرأس متطاولة الذؤابة ثم تسقط تحت ثقل الدهر ممتدة على العشب منتشرة فوق بطحاء الأرض أنت ترى البحار تنضب في قيعانها وتجف أنت ترى السماء نفسها تزوي وتصفر هذه الشمس تجري مثلنا إلى الفناء والانقراض هذه الطبيعة كلها تركم القرون والأجيال تراباً فوق تراب إن الزمن يقبر في جوف حوادثه ويرمس ولكن يا لا عظم حماقة الإنسان ويا لا سخفه لا يفتأ يوقن وهو في غيابات القبر إنه سيظفر بعد الحياة بالحياة ويحلم بالأبدية وهو في زوبعة العدم! ولكن هوناً أي عقلاء هذه الأرض لعل أحدنا سيقول لكم أتركوني أيها العقلاء إلى ضلتي وإني أحب وعليّ أن أتمنى وأتعلل إن عقلنا الضعيف يتحير ويضطرب بل إن عقلنا أمام حجتكم يسكت ولكن غريزتنا ترد عليكم وتجيب.

وأما أنا فيوم أرى الكواكب في السموات العلى تنحرف عن سبيلها المسنونة ومنازلها المقررة وأشهد في حقول الأثير النجم يهجم على النجم والكوكب ينطك الكوكب وأسمع الأرض تتنهد منشقة الجوف وتتأوه وأرى كرتها مائدة هائمة تضطرب عن كثب من السموات وتمور تبكي إنسانها الفاني وابنها الدفين مترامية في أحضان الأبدية فانية وأدور حولي فأجدني الشاهد الوحيد والحاضر الفرد يحف بي الموت وتحوطني الظلمات عند ذاك سأنهض واثباً لا خوف ولا رعب أفكر فيك يا نصف الحياة وأحلم موقنا برجعة فجر الأبد وعود عالم الخلد أرقب لقائك وأرجو زورتك. أتذكرين الرحلة الهانئة والسفرة الراغدة يوم نشأ حبنا الخالد وبدأ غرامنا المقيم حينا فوق ذوائب الصخور القديمة الوحيدة وحينا على ضفاف البحيرة الساكنة الحزينة على جناح النعيم بنجوة من هذا العالم يوم خضنا معاً متصاعد الظلال ومنتشر الأفياء نهبط الربى وننزل الجبال نصغي إلى غناء النجوم وصدحها موسيقى حلوة لا صخب فيها ولا ضوضاء كنت تقولين الله محجوب وهذه الطبيعة معبده هذه الدنيا صورة كماله وماويته إن النهار نظرته وهذا الجمال ابتسامته أيها الأبدي اللانهائي القدير الجليل إن القلب في كل مكان يعبدك إن الروح تهفو مشوقة إليك إنها تريد أن تطفر نحوك وتثب تشعر أن الحب ختام حياتها فهي تحترق إلى معرفتك شوقاً وتلتهب كذلك كنت تقولين وبهذه النفثات كنت تناجين وكان قلبانا يجمعان تنهداتنا ويمزجان أناتنا وزفراتنا يبعثان بها صوب ذلك الكائن العظيم الذي يدل عليه هوانا ويشهد به غرامنا يحمل إليه الليل تخشعاتنا وضراعاتنا ويرفع إليه الفجر تذللاتنا وابتهالاتنا والعين سكرى تتلدد بين الأرض منفانا والسماء مسكنه. أواه. . . أللعدم خلقت أرواحنا أللفناء كانت حياتنا أيجري على الروح في ظلمة القبر حظ البدن أياتهمها جوف اللحد كما يلتهم اللحم ويدق العظم أتعود مثلها تراباً وتستحيل هباء أتراها تطير وتحلق أم تراها تتبدد كأجزاء الصوت المتردد. بعد حسرة ضائعة وزفرة راجعة وتوديعة لمن أحبك باكية أيغني المحب ويبيد المغرم أواه. . إن أمام هذا السر العظيم لإنجاحك أيها العقل ولكن نسألك أيتها الغريزة أي ألفير إن محبك يسوق بنفسه فهل من رد. . هل من جواب!.

الكبراء

الكبراء إن المتوحش الهمجي السفاك ينحني أمام معبودات من الخشب والصخور والأحجار ولكن الإنسان المتحضر العصري يسجد لمعبودات من الدم واللحم إذ كان بين عاديي الناس وأوساطهم وبين أغنيائهم وكبرائهم ضرب من العبودية المنظمة عبودية ملونة بخليط من أصباغ العظمة المظهرية التي لا تعتمد في هيبتها وجلالها الأعلى العمي اللوني المتفشي في الطبقات الصغيرة من الجمعيات البشرية وليست هذه العظمة المظهرية إلا قوالب مجوفة من الضؤولة نفختها أنفاس المال أو أبهة المنصب أو حقوق الدم والناس جميعاً إلا أقلهم يرون من المال والمنصب أكبر مقياس للقوة وفي الظافر بالطائل منهما أكبر قوى فهم يقدسون هذه القوة القياسية لأنهم يشعرون من نحوها بالضعف كما يكون من المريض برئتيه أن يحسب السعداء هم الصحاح الرئات السليمة اللهى ومن ثم فمركبة الكبير بالقياس إلى قدمي الفقير هي قطعة من القوة ولذلك فهي قطعة من الاحترام. وعلى هذا فقد أصبح للكبراء من وراء هذه العبودية المنظمة مجموعة من الآداب خاصة بهم هي آداب السادة وغيرها آداب العبيد فالكبر مثلاً من آداب الكبراء السائدين فإن فكر الرجل العادي أن يتأدب به عد عند العاديين هارباً خارجاً واعتبر عبد السادة متهجماً متوقحاً فالزهو والكبر والصلف والبذخ من آداب السائدين والقناعة والتواضع والخنوع والحياء من آداب المسودين. عاش لابروبير وكان من عامة الشعب في ظل الكبراء وجناب النبلاء واختلط بالسادة والمتمولين ثم جعل يشرح نفسياتهم تشريحاً دقيقاً ويحلل آدابهم تحليلاً بديعاً وكان لابرويير من أبدع كتاب العصر وأحرهم لهجة وأسلوباً كان مرير التهكم قاسي الوصف جريء اللب وكان في بلاغته أبلغ من روسو وأسحر. والآن فاسمع ما يقوله في وصف أخلاق الكبراء: أيها الكبراء! إني أترك لكم مآكلكم ومناعمكم وفرشكم وكلابكم وأفراسكم وقردتكم ومجانكم وملاقكم ومداحكم ولا أحسدكم على شيء إلا أن في حاشيتكم خدماً يساوونكم قلوباً ويضارعونكم أرواحاً بل قد يفوقونكم أنفساً ويفضلونكم شعوراً ووجداناً أنكم تزهون علينا بأنكم تستطيعون أن تقطعوا في جوف الأكمة الكثيفة المختنقة طريقاً معبداً أو تشيدوا فوق بطحاء الأرض عالي الجدران وشامخ الأبنية أو تذهبوا سقوفاً

وتجملوا قباباً وأعراشاً وتزرعوا الحدائق وتنشئوا البساتين ولكن أن تردوا قلباً واحداً إلى البهجة أو تدخلوا على روح محزونة الفرح أو المسرة أو تسدوا حاجة المحتاج أو تأسوا جراح المكدود فأنتم العاجزون والمتأففون. أنا لنتسائل إذ نرى الفروق البينة بين الأنصبة بين آلام الفقراء ومباهج الأغنياء هل ترانا نتبين ضرباً من التعويض يتساوون به جميعاً ويتكافؤون فلا يكون نصيب الفقراء أقل احتراماً ورغبة من نصيب السراة والمتمولين هذا هو السؤال الذي لا يحكم فيه إلا الفقير. إن للفقر وللغنى لسحراً جذاباً فتاناً إن الكبراء يبتهجون من اللذات بالتطرف وأما الصغار فيحبون الاعتدال الكبراء ينعمون بالأمر والنهي والأصاغر يبتهجون بالخدمة والطاعة الكبراء يحرسون ويحيون ويبجلون والأصاغر يحرسون ويكفرون وينحنون ويسجدون والكل مبتهج بأمره فرح مغتبط. ليس بالأمر العظيم عند الكبراء أن يعطوك المواعيد ثم لا يتقيدوا بقيودها والحزم الحزم عندهم أن يخرجوا عن المواعيد وينحرفوا عن المواثيق وكلمات الشرف. أنت تقول في لهجة باردة وصوت محتقر ممتهن إن هذا الخادم يضرب بسهام في الاجتهاد ونشاط الروح والطاعة وأداء الواجب والإخلاص والزافي إلى سيده ولكن قل ما يكترث لهذه فيه ويحفل إنه لا يحترم إنه لا يحب هذا ولكني أسألك أهذا الخادم تقرف أم السيد تنهم؟ قد تكون في أغلب الأحيان خيراً أن نفر من حظائر الكبراء من أن نشكو إليهم ونسترحم. إن الكبراء يحتقرون ذوي الأرواح لأن هؤلاء لا يملكون غير الروح وذوي الأرواح يزرون على الكبراء لأنهم لا يملكون غير الأبهة وذو الخير يرثون للجميع لأنهم لا يملكون إلا الروح وإلا الأبهة خلوا من الخير صفراً من الفضيلة إن فلاناً يؤثر أن يقطع حياته صنيعة للكبراء على أن يضطر إلى العيش الناعم بين لذاته ونظرائه إن تجهيمة أو تقطيبه تأتي إلينا ممن هم فوقنا تكرهنا فيهم وتبغض وتحية منهم أو ابتسامة توددنا إليهم وتحبب إن الاحتقار الذي يشعر به الكبراء نحو العامة هو الذي يجعلهم لا يأبهون بأماليقهم

وأماديحهم لأنها تخفف من حدة زهوهم وهي تطفئ من جذوة كبرهم أنظر إلى الأمراء أنهم يروحون بمديح الأكابر أشد زهواً وأكثر عجباً لأنهم لا يحتقرونهم بل يقدرونهم ويعظمون. يعتقد الكبراء أن وحدهم المستبدون بالكمال المتفردون بالمحاسن لا يحتملون أن يروا في الناس نبل الروح ولا فضيلة النشاط ولا رقة الحاشية وهم يدعون ملكية كل شيء جميل كحقوق وجبت لهم بطيب مولدهم وكرم دمائهم ومن أكبر الخطأ أنهم يعيشون على هذا الخطأ هم يرون أن الأرض لم تخرج أثقف عقولاً منهم ولا أبلغ قولاً ولا أرق تأليفاً ولا أبدع إنشاء بل ولا أرق بصراً ولا أنعمى خلقاً بل أنهم ليذهبون إلى أن هذه لم تنبت إلا فيهم ومنهم لكم الله أيها الأكابر نعم إن لكم أرضاً واسعة وملكاً كبيراً وسلسلة من الأجداد متراخية مترامية من ذا الذي ينكر عليكم هذا ومن ذا يجحد! أيها الأكابر أتريدون أن أعتقد أن لكم نبل الروح وروعة العظمة وجمال الذوق والحكمة وبعد النظر أتريدون أن أصدق الأماديح المتغنية بأوصافكم غني لا أومن بها إني أتميز غيظاً ن كذبها إني ألفظها إني أزدريها أتريدون أن تخدعوني بمظهر العظمة الذي تلبسونه وسمت السمو والعلاء الذي تضعونه في كل كلمة تقولون وكل أمر تحدثون وكل لفظ تكتبون إني لا أومن إلا بأن لكم الجاه والأبهة ومناعم الغنى وأطايب الثروة. . . بأية وسيلة نستطيع تعريفك أيها الكبير الخشن الصوت الفظ الجرس إنا لا نقترب منك إلا كما نقترب من النار الموقدة إنا لا نكلمك إلا عن كثب ولا ندانيك إلا عن رهب يجب أن نخلع عنك حجابك ونلمس حقيقتك ونواجهك بنظراتك ونصدمك بأقرانك حتى نخرج منك بحكم فيك سديد رشيد.

مستقبل الإنسانية

مستقبل الإنسانية كيف يسود السلام العام أيمكن أن يسود السلام في العالم وكيف يسود ومن ذا يكفله؟. . . . تلك هي الأسئلة العظيمة الشأن اليوم المقلقة لأذهان المصلحين والفلاسفة والسلميين المزعجة لكل قلب يحس فوق هذه الأرض بعد أن أصبح المقتنعون بفظاعة الحرب ونكرها وأهوالها وويلاتها المتلهفون على إزهاق روح الحروب وقتل سيطرتها الراغبون في تنظيم أمور الحياة على وجه لا يعود بعده على مسرح العالم ما يجري اليوم من الشدائد والأهوال والعذاب والآلام والقتل والفتك والتخريب والتدمير - نعم بعد أن أصبح هؤلاء جمهوراً عظيماً لم تشهد الإنسانية ضريبه في جميع ماضيها الحربي المخيف ولئن كان هذا الجمهور العظيم وهو يكاد يكون السواد الأعظم من أمم العالم كلها يريد أن يستتب السلام في الأرض آخر الدهر ويستقيم إلا أن الرغبة شيء وتحقيق الرغبة شيء آخر ولكن تحقيقاً لهذا لرغبة كهذه يتطلب إرادة عامة تشمل كل إنسان في العالم وتعم إذا كان يراد أن يسود السلام في الإنسانية إلى الأبد إذ لو كان الراغبون في السلم تسعة وتسعين من المائة فاعلم أن الرجل الواحد الخارج عن هذه الرغبة سيتابع ولا ريب تسليحه واستعداده فيشعل بعد ذلك يوماً جذوة الحرب ويثير سعيرها وأنتم تعلمون أن النكبة الرهيبة الحاضرة كانت نتاج تسليح عام مستمر لبث يجري مطرداً على نظام دقيق ممهد عجيب ومهارة عظيمة ودأب كبير طويل أربعين حولاً أو تزيد ومن ثم فلا يمكن أن نرتقب سلاماً عاماً إلا بإضراب عن التسليح يكون أشد من ذلك التسليح مهارة ودأباً ودقة ونظاماً فما هي إذن الوسائل التي تمكننا من نشر السلام العام في ربوع الأرض وإغلاق سجل الحرب إلى الأبد؟؟ وقبل أن نجيب عن هذا السؤال يجب أن نشرح للقراء العوامل النفسية الغريبة التي تثير الحرب عادة والعوامل النفسية التي تجنح بالناس إلى السلم والرغبة في تسويدها. يقول الأستاذ ويلز وهو من أكبر كتاب الإنكليز اليوم وأعمقهم تفكيراً وأصفاهم ذهناً من أكبر الاشتراكيين العصريين إن في كل إنسان منا روحاً من الاحتجاج والاستنكار للحرب وأكثرنا على وجه من الإجمال يريد السلم ويطلب إبطال الحروب ولكن ليس فينا فرد واحد قد خلا من نزعة حربية مختفية من تضاعيف نفسه محتجبة في أعماق وجدانه - نزعة

حربية غريبة تثب لصرخات الحرب وتجيش لأصوات القنبلة وزمجرة المدفع إذ لا ريب في أن كل منا يحس بأثر من الإعجاب والإجلال إذ يقرأ في الصحف نبأ موقعة حربية أو إغراق طرادة أو نسف باخرة لأن هناك مظهراً جميلاً من العظمة ومعنى حلواً من الجلال في كثير من خشونات الحرب ورهيبة أحداثها ووقائعها يثير في قلب كل فرد نوعاً من الحمية وضرب من السمو والقوة نعم إن في أثناء جوانحنا هذه النزعة التدميرية المخربة فلا داعي إلى إنكارها لأن أول وسيلة يمكن أن نستعين بها على نشر السلام هو أن نعمل على ضبط هذه النزعة وقهرها ولا سبيل إلى ضبطها إلا بتذكير الإنسانية جمعاء بالوجه الآخر المخوف من حقائق الحرب وأمورها على أن الذين يسفهون الحرب ويكرهونها ويرمونها بكل نكراء من القول هم الذين يريدون أن ينهوا عصرها ويختموا عهدها ولكن هناك كثيرين كبرت عندهم هذه النزعة وأشتد أثرها وهم وحدهم هم الذين يقفون في طريقنا إلى السلام العام على أننا يجب أن نتذكر أن القوى التي تعمل لصالح أمر من الأمور هي دائماً أشد تماسكاً وارتباطاً وتأثيراً من القوى التي تعمل على مقاومته وهذا ينطبق على حالنا نحن رسل السلام ومقاومتنا لرسل الحرب ودعاتها وأبواقها وطبولها فنحن القائمين في وجه الحرب الراغبين في قتل روحها لم نقم في وجهها إلا لعدة من الأسباب والأدلة والبراهين وذلك أن هناك فروعاً من الحياة غير الحرب نؤثر ووجوهاً من العيش نحب وهذه الحرب تقتل رغائبنا وتعيق أميالنا وأمانينا منا من يريد أن يتوفر على الفن - الشعر والموسيقى والتصوير والنقش والفلسفة الكتابة والتأليف ومنا من يريد أن يخلد إلى حرفته في المصنع وصناعته في المعمل ومنا من يريد أن ينزوي إلى التفكير العلمي والاختراع والابتداع ومنا من يريد اللهو والمرح والبهجة ومنا ومنا ولذلك قد اجتمعنا كلنا على أن نفكر في غير الحرب وننكمش إلى مطالبنا ووجوه عيشنا غافلين عن الحرب منشغلين وبيننا نحن كذلك إذ هناك فئة قد آثرت أن تخلد إلى العمل للحرب كما آثر بعضنا الإخلاد إلى الشعر ومن ذلك أصبح نشوب الحروب من جراء إهمالنا مسائل الحرب محتملاً ممكناً لأن هذه الفئة لا تفتأ تعد الأهبة وتمهد السبل وتضع الخطط لإضرام نيران الحروب كما لا يفتأ أرباب الفنون ما يتقنون فنونهم وينقحون في أساليبها ويهذبون وجوهها وإذا بنا على غرة قد تنبهنا إلى أن الحرب قد قامت على قدم وساق وعلى هذا لن تنتهي

الحروب ما لم نفكر نحن طلاب السلام في تأسيس نظام تام نستطيع به مراقبة مثيري الحروب وخالقيها وما لم نكن منهم بمثابة الشرطة من المجرمين واللصوص والجانين. وقد شهدنا أن طلاب الحرب في كل أمة قليلون وإن كان أكثر الناس في بعض الأحيان يطلبون الحرب وذلك لأن العدوى قد سرت إليهم من هؤلاء القليلين وهم الذين أصبحت النزعة الحربية المختفية في أعماق عواطفنا جميعاً باعثاً نفسياً مسيطراً على كل شيء فيهم متغلباً حتى لا يمكن أن تقهر فيهم كما تقهر في وفيك بتذكر فظاعة التدمير والتقتيل ولا بإحساس الشفقة والرحمة ولا بتخيل الهول والويل لأن هؤلاء عشاق الحرب مخلوقات لا تحاكينا في التركيب ولا في العواطف ولا في الوجدانات وأنك لتسمع منهم دائماً إذا جلست وإياهم إلى حديث كلمة واحدة وهي إن الحرب تنبل وهم لا يريدون بكلمة تنبل إلا أنها تبيد آلاف المناعم التي لا يتنعمون بها ولا يتذوقونها ولا يفهمون لها معنى مناعم يجهلونها ولذلك يشعرون من نحوها بالغيرة والحقد مناعم سلمية هي الجمال والرقة والعطف والهدوء والسكون والبهجة وهم يصفون كل ما ليس خشناً في الحياة فظاً قاسياً بالانحطاط والاضمحلال وهذه الحجة التي يعمد إليها الحربيون وهي أن الحرب تنبل إن هي إلا عارض من عوارض ناموس حفظ الذات فيهم ضد مناعم السلم التي لا يعرفونها ولا يقدرون لها قدرا. وليس طلاب الحرب قاصرين على القواد وغيرهم ممن يلبس تلك الأردية الملونة المذهبة العسكرية بل تعداهم إلى الأساتذة في الجامعات وقواد الفكر وكبار الكتاب ومنشأ ذلك إن الدأب على البحث والتنقيب وإنهاك الأعصاب في التدريس والتعليم هما اللذان يجعلان هؤلاء القوم يشعرون بالسآمة والضجر ويحسون عوارض السوداء والفتور والحزن والغم ويزداد فيهم ذلك حتى يتخذ مظهراً موحشاً يؤدي بهم إلى تلك الأفكار الوحشية الرهيبة فلو أنهم يعمدون إلى استحمام يومي طيب دافئ وانقطاع عن شراب النبيذ والجعة وغيرهما وإضراب عن التدخين وقضاء ساعات في الرياضة بعد المقيل لتحسنت صحة هؤلاء الأساتذة المحمومين المستعري الأعصاب ألمضطربي الأذهان. على أن ليس العائق الوحيد دون استتباب السلام في العالم هم عشاق الحرب بل أولئك الجماهير العظيمة التي تعينهم على عملهن فلئن كانت الجماهير لا تحب الحرب ولا تريدها

إلا أنها تقدم لعشاق الحرب الفرص السانحة لنشوبها لأنها لا تضع لهم حدوداً يقفون عندها ومثل هذه الجماهير كمثل قوم يخشون تفشي الحمى الصفراء في بلادهم ولكنهم يعارضون في وضع مقادير من البترول في البرك في الجداول والمستنقعات وهي الوسيلة الوحيدة لقتل جراثيمها بحجة أن البترول يضر بالأزهار. إذن فهذه الجماهير التي تكره الحرب ولا تطلبها ومع ذلك تجيزها هي التي يجب أن نبحث في أمرها إذا كنا نريد أن يخفق علم السلام على الأرض أبد الدهر. (1) وأول وسائل الواجبة لسيادة السلم: هي ضرورة إنشاء سلطة رقابية عامة إذا كنا نريد أن تلغي الحروب وتحترم المعاهدات ولكن ما دامت هناك حكومات متعددة كل منها حرة اليد في عمل ما تحب تسلح إن شاءت شعبها وتلغي المعاهدات كما تريد فلن يتحقق أملنا في سلام مضمون بل لن نستطيع أن نقيم سلاماً عاماً في العالم إلا إذا نسجنا نسيجاً من المعاهدات ترتبط به الأمم كلها وأقمنا شباكاً من التضامن تدخل فيه الحكومات جمعاء ولا يكون هناك اتحادات فرعية ولا اتفاقات ثلاثية ولا رباعية. ولقد كان مؤتمر الهاي الخيط الأول من خيوط هذا النسيج الدولي العام ولكنه كان خيطاً ضعيفاً واهياً ولذلك لم يحدث أثراً ما ولكنا نريد أن يقام هناك مؤتمر عام يمثل وزارات الخارجية في جميع الأمم سواء الأمم المحاربة اليوم وغير المحاربة الصغيرة منها والكبيرة وأن لا يحل هذا المؤتمر بحال من الأحوال بل يجب أن يكون له مقام مستمر وموظفون دائمون وكتاب وإداريون ومالية مخصوصة ينعقد ويتناقش جهاراً وينشر المعاهدات والارتباطات التي تؤلف بين الدول أعضائه ويكون له الحق في الاستعانة على تنفيذ قراراته ببحريات الدول وحربياتها وأما عن الاحتفاظ بالكلمة العليا للدول العظمى فيمكن أن يكفل بعدد من الأصوات على نسبة عدد سكانها وكل دولة تبعث ممثليها بواسطة وزارة خارجيتها أو يمكن أن ينتخب هؤلاء النائبون كما ينتخب نواب البرلمانات والندوات التشريعية ولا تكون سلطة هذا المؤتمر مقصورة على سن المعاهدات وإبرامها وتنفيذها بل يعطي الحق في إنشاء ما يراه صالحاً من الأنظمة والطرائق والمشروعات المتعلقة بالتجارة والمصلحة العامة والصحة والملاحة والرقابة البحرية وما إلى ذلك ومن ثم يكون في الحقيقة برلماناً عاماً محترم الكلمة مسموع الأمر والنهى وهذه الفكرة العملية من السهل

إخراجها اليوم إلى حيز التحقيق إذا استطعنا أن نتغلب فقط على تلك الفكرة الخالية التي يتشبث بها اليوم جمع كبير من السياسيين والحكوميين وهي أن كل كل دولة تستطيع أن تحتفظ بالسلم مع كونها غير مسؤولة أمام غيرها ولا مرتبطة بأدنى رباط مع بقية الدول الأخرى ولكن لعل وزارات الخارجية وزراءها وكبار المفوضين والسياسيين سيثيرون اعتراضا حارا على هذه الفكرة لأنها ستجهز على عصر الأسرار وتختم عهد الدسائس. وستطهر العالم من تلك الاتفاقات السرية والمكائد المعقودة في الظلام التي كانت الأساس الأكبر الذي قامت عليه معاهدات الماضي ومفاوضاته واتحاداته ولكن صالح الإنسانية فوق كل شيء وذلك لأن المتتبع للمفاوضات التي ساقت العالم إلى هذه الحرب لا يشك في أن اكبر أسباب هذه المجزرة الهائلة أن جري السياسيون على التكتم والائتمار والخلفي ولو أنهم تكاشفوا وتصارحوا لما قذفوا بالعالم في هذه الهوة السحيقة من التدمير والتخريب (2) والوسيلة الثانية هي أن تلغى السفارات لأن السفارة في المملكة عين عليها واشية خائنة نمامة وهل كانت السفارات الاجاسوسيات منظمة تحت ستار خدعة؟ وليس تمت من خطر على علاقات الدول ومصالحها المشتركة مادام القناصل هم القضاة المدنيين الذين يعملون على الاحتفاظ بحقوق رعاياهم. حتى إذا تم النجاح لهذه الفكرة فأنشئ هذا البرلمان الدولي العام فأن أول مسألة خليقة بالبحث جديرة بالتدبير والتفكير هي إلغاء التسليح فإن المراقب لشئون السياسة في نصف القرن الأخير لا يستطيع أن ينكر أن ذلك الدأب العظيم على التسليح والاختراع المدمر ولابتكار المميت هو الذي جر إلى فظائع التقتيل الواقعة اليوم وحصد الجسوم وتفتيت الأبدان وتقطيع الأوصال والأشلاء فإن ملايين القتلى في هذه الحرب لم تقتلهم إلا تلك المخترعات الجهنمية الشيطانية وليدة العبقريات الشريرة ونتاج العلم المدمر. وهناك وجه آخر من سيئات هذه المخترعات وفظائع هذا التسليح حقيق كذلك بالبحث والتفكير وذلك أن الدول العظمى تمد الممالك الصغرى والشعوب الهمجي المتبربرة والأمم التي لم تعد بعد طور التكوين الاجتماعي بتلك الأسلحة والمخترعات عينها فتسلح جنوب إفريقيا مثلاً وجمهوريات بيرو والبرازيل والمكسيك بل ترى الصين وإفريقيا حافلة بالآلات

الجهنمية الأوروبية والأسلحة الفتاكة الأمريكية ومنشأ هذا هو التنافس التجاري والغيرة المتبادلة بين بعض الدول وبعضها وقد وجب الآن بعد ما رأينا من هذه الحرب أن يلغى ذلك التسليح الجنوني للجمعيات البشرية المتأخرة المتقهقرة. ولا سبيل إلى ذلك إلا أن لا تعود صناعة المواد الحربية بعد اليوم صناعة حرة فردية وأن لا تكون كما كانت إلى اليوم مصدراً للإثراء ووسائل لبعض الأفراد للإكثار من الربح والمكسب وأن لا توجه القوى المخترعة والعبقريات المبتكرة إلى ابتداع ما يحصد النفوس ويفتت الأبدان.

عالم العلم

عالم العلم آداب الطيور لسنا وحدنا نحن بني الإنسان المخلوقات الوحيدة التي تتنعم بالحب والعشق وتحنو إلى المغازلة والتشبيب وتقيم الخطب والأعراس فإن في عالم الطير من ذلك المدهش لغريب إذ ما يكاد يدخل الربيع بنضارته وريعانه حتى تنطلق الطيور تبحث عن الأزواج والذكر منها هو الذي يلعب عادة دور المغازل الخاطب وإن كان بعض الذكران قد أصاب من الحياء والتعفف ما يصيب أمثالها من ذكران الناس فتضطر المتهتكات من الإناث إلى مغازلتها بنفسها وإيقاعها في مصائد الزواج وقد دلت ملاحظات العلماء على أن هناك أنواعاً من الطير لا تعد مسألة الزواج إلا أمراً عادياً لا محل فيه للحب ولا مدعاة إلى المغازلة وأمثال هؤلاء من الناس كثير ومن ثم تهجم على إناثها بالخطبة وتبغتها دفعة واحدة بطلب القران وإن هناك ضروباً غيرها تعاني المشقة المنهكة في ابتغاء قرنائها في الحياة وشركائها وأخرى لا تظفر بالأنثى إلا بعد صراع طويل بينها وبين مزاحمتها حتى إذا صرع أحدها الآخر وفر بالأنثى ظافراً وليس تعدد الزوجات معروفاً عند الطير بل لكل ذكر زوجة واحدة ومن الطير أصناف كثيرة تمكث في صحبة الزوجة آخر حياتها ومنها ما يقضي من العام في ظل الزواج فصلين أو ثلاثة ومنها ما يعد نفسه حراً من مواثيق الزواج وعهوده إذا انفرط عمر الفصل الواحد. وللألوان الأثر الأكبر في نجاح الخطبة بين الذكور والإناث وترى لريش الذكور عادة - إلا في بعض الأحوال النادرة - ألواناً أبهج وأزهى من ألوان الإناث ولذلك تستخدم الذكران بهجة ألوان أذنابها وأعرافها وأجنحتها في المزاحمة على عشيقاتها وإذ ذاك تقع المشاحنات ويستطير القتال بين الذكور والمتزاحمة على الأنثى الواحدة وفي مثل هذه الأحوال ترى الأنثى ترضى بالصارع وإن كانت قبل الصراع تحنو إلى الصريع وتلك طبيعة الأنثى في ضعفها وإيثارها من الأزواج القوى على الضعيف حتى إذا عرض لها يوماً ذكر أقوى أسراً من زوجها وأجمل مظهراً عمدت إلى تحريض الزوج على قتاله لكي تظفر بعده به ولا يكون من ذلك إلا أن أقوياء الذكور من الطير وأصحائها وحسانها هي التي تستطيع وحدها الفوز بالزوجات وكذلك تعمل الطبيعة على بقاء الأصلح.

وللذكور في التظاهر أمام الإناث بجمال ريشها وحسن مظهرها عادات غريبة بل تكاد تكون مضحكة فهي تحاول أن تظهر كل قطعة من جسومها وكل زخرفة في ألوانها ومن ثم تتخذ حالات من الغرابة بمكان فترى الديك الرومي مثلاً يعمد إلى الانتفاخ مزهواً متكبراً وتشهد الطاووس يرسل ذنبه إلى آخره لكي يظهر كل بدائع ألوانه على أن من الطير ما يكره أمثال هذه المظاهر فيقف إزاء الإناث لا يأتي بحركة ما مرتقباً حكمها الأخير فيه وكل ما تسمع من أغنيات الطير في الربيع ليس إلا أناشيد يخطب بها الذكور الإناث. فإذا تمت الخطبة عمد الزوجان إلى بناء وكر الزفاف وعلى الزوج أن يقوم بالعمل الأشق منه حتى إذا وضعت الأنثى بيضها رأيت من الطير الذكر أن ما يعمد عند ذاك إلى هجر زوجه وإغفال شأنها طائراً عن الوكر أبقاً من العش ومنها أزواج أوفياء تلزم البيض وتحرسه بل تأخذ على نفسها كذلك نقفه وفقسه وإخراج صغاره

عالم الحرب

عالم الحرب مصلحة البريد الجوية فكرت الولايات المتحدة في استخدام ألفي طيار لنقل الأشياء الهامة المرسلة في البريد وذلك اتقاء ضياعها في البحار بعد أن رأت الأقيانوس محفوفاً بأخطار الحرب وغيلاتها وقد أجمعت على تحقيق فكرتها إذا بدأت منذ سنتين تصدر طوابع جديدة برسم الطرود مرسوماً عليها صور طيارات البريد. الأوسمة الحربية للكلاب اعتادت الجيوش أن تحشد مع رجالها عدداً غير قليل من الكلاب وقد جرى الجند على اصطحاب كلابهم إلى ميادين الحرب وقد لعبت الكلاب في هذه الحرب دوراً عظيماً لم تلعبه من قبل الحروب الماضية فقد استخدم البلجيكيون الكلاب في جر الأحمال والمدافع الصغيرة والذخائر الخفيفة وقد كان منها أن جعلت تمضي الأيام العديدة مشدودة إلى عجلاتها ومركباتها لا تذوق الراحة إلا كأسيادها الجند خلال الهنيات القليلة والكلاب في الجيش الفرنسي يقومون في الآرجون مقام الحراس على الخنادق والمرابط. وقد كان من ذكاء هذه الكلاب أنها إذا رأت أو أحست باقتراب العدو أو جواسيسه لا تعمد إلى النباح كعادتها عند إحساسها بمقدم غريب أو عدو أو طارئ بل استعاضت عن النباح بضرب خافت من العواء حتى لا يتمكن العدو أو الجاسوس من الفرار إذ هي نبحت وناهيك بما تؤديه الكلاب إلى جمعيات الصليب الأحمر من الخدمات والأعمال. فلا عجب بعد ذلك إذا كانت الجيوش الأخيرة تنعم على كلابها عند البلاء الحسن بضروب من الأوسمة لا تختلف عن أوسمة الشجعان من الجند وقد أعطيت بعض الكلاب وسام صليب فكتوريا وهو من الأوسمة الكبرى في المملكة البريطانية وقد أبلى أحد الكلاب الإنكليزية في حرب الأفغان عام 1879 أحسن البلاء فطوقته الملكة فكتوريا نفسها الوسام الأفغاني بيديها. كيف تتخاطب الغواصات يندهش القارئ إذ يسمع أن الغواصات استطاعت أن تبعث بأنباء أعمالها إلى عاصمة الدولة التي تنتسب إليها والوسيلة الوحيدة إلى هذا التخاطب أن الغواصات متجهزة بجهاز

لا سلكي بخلاف الأجهزة المعروفة وهذا الجهاز يتركب من عامود قصير ينتهي طرفه الأعلى ببالون أسير مشدود فإذا أريد إرسال خبر من الأخبار جعلوا البالون يفلت في الهواء ثم يطلقون من الآلة الكهربائية الباعثة سلكاً يجري إلى العامود فإذا تركت الآلة إلى العمود انتقلت إلى البالون الأسير بواسطة آلة مغناطيسية وهذه تنفذها إلى أحد مراكز التلغراف اللاسلكي الشبيهة بها في البلاد المطلوبة ويقال أنها تستطيع إرسال أنبائها على مسافة خمسمائة ميل أو ستمائة. تأثير التبغ في الحروب دلت الرسائل التي يكتبها الجند في ميادين القتال إلى ذوي قرباهم وأصدقائهم في البلاد إن التبغ للجندي في مرتبة الطعام والشراب وأن له أكبر الأثر في نجاح الحروب وخيبتها وانتصار الوقائع وفشلها وإن الجيش الأقل نصيباً من التبغ أقل نصيباً من النصر وقد تجلى هذا التأثير العظيم في الحرب السبعينية فقد أكد الإحصائيون الحربيون أن هزيمة الفرنسيين العظيمة كانت ترجع إلى قلة المناعم ولا سيما التبغ بين الجنود بينما كان الألمان لا يألون جهداً في إمداد جندهم بالمقادير الكبيرة منه وتأليف الجمعيات المتعددة لإرسال ملايين اللفائف إلى ساحة الحرب وقد أثبت التاريخ أن الضابط منهم كان يعدو في الساحة فوق جواده واللفافة في فمه وإن الجند كانوا صافين وذوائب الدخان تخرج من غلاينهم بل إن بسمارك نفسه كان قدوة للجنود فلم يكن ليرى دون لفافته وقد كان من عادته بعد انتهاء الموقعة أن يمر بين الجرحى وهم بين سررهم في المستشفيات فيفرق عليهم لفائف التبغ ويشعلها لهم بل إن مولتسكي الكبير أعترف في بعض تقاريره بأن التبغ من أوجب الضرورات له إذا أجمع على تدبير موقعة من المواقع. هل تبطل المدافع ببطلان الحرب الناس في أوقات الحرب عرضة لأن ينسوا أن للمدافع بقطع النظر عن التقتيل والتفتيت عدة من الفوائد لا تنكر وإن المدافع لن تبطل وإن بطلت الحرب إلى الأبد. فمن فوائد المدافع الخارجة عن حدود الحروب أن السفن لا تستطيع إعلان بلوغها الساحل إلا بإطلاق مدفع يؤذن بذلك وليس من الهين أن يستعاض عن ذلك بوسيلة أخرى تغنى غناء المدفع ومدفع الظهر هو أكبر الوسائل الممكنة لإعلان البلاد وإرباضها بصحة الوقت ثم لا تنس

المدافع التي تطلق حداداً على الكبراء والملوك والوزراء وتلك التي تطلق احتفالاً بالأعياد الكبرى وجلوس الملوك ومواليدهم. وهذا والمدفع تنقذ الأرواح كما تخطفها فإن في البلاد المقفرة الصحراوية حيث يصعب جمع المياه من رطوبة الرمال يستعمل الجند مدافعهم في إنقاذ حياة الهالكين من الظمأ وذلك بأن يطمروها في الرمال فتلتقط رطوبتها ومن ثم يتيسر للناس الشرب

المتشائمون

المتشائمون مقال جميل جليل متفائل - خليق بجماعة الساخطين على السكون والحياة وبكل من يهمه أن يعيش في هذه الدنيا عيشة راضية أن يقرؤه وينعموا فيه النظر ويعتبروا بما جاء فيه - لخصناه من مبحث ضاف طوال للفيلسوف الألماني ماكس نوردو من كان يحسب أهرام مصر وحدائق سميراميس وبرج بابل وتمثال رودس من عجائب الدنيا فإن ثمت ما هو أعجب من هذه وأغرب أعني بذلك مذهب التشاؤم مذهب الساخطين على السكون والإنسانية والحياة عامة سخط المهموم الكاسف البال الذي قد أصبح من الوجوم والانقباض بمنزلة من لج في الشراب علا على نهل حتى نزح أربعاً وعشرين كأساً. والتشاؤم نوعان طبيعة وتكلف والأول ضربان نظري وفعلي فخطة النظري لإغراق في نقد كافة مظاهر الوجود ذاهباً إلى أن السكون بناء سيء الصنعة لا يفضل أدنى مجهود من يد جافية خرقاء وأنه لا غاية لاستمرار الوجود ولا قصد وصاحب هذا الرأي يقف أمام هذه الآلة (أي الكون) الضخمة المعقدة حائراً يهز رأسه عجباً ويحاول عبثاً أن يتبين لحركتها الطائشة وسيرها المجنون أدنى أثر في نظام أو حكمة ثم هو يرى أن اليد المدبرة للكون ولأعظم ما يهمنا في الكون أعني الحياة البشرية إنما هي الصدفة وأنه ليس هناك قوة منظمة كقانون الواجب توجه مجرى الحوادث صغيرها وكبيرها فالفضيلة في كساد والرذيلة في رواج والبر خائب والفجور فائز. والعقل محروم يرى ما يرى ... كما ترى الوارث عين المريض فلماذا تستمر الحياة ولماذا يدوم الكون؟ أليس الأصوب أن يهدم هذا البنيان ويرجع إلى العدم الذي منه خرج ونشأ؟ غرور وغفلة ومذهب باطل ورأي فائل! وذلك أنه بني على الخطأ وقام على الكذب إذ جعلت مقدمته التي ابتدئت بها القضية هي تقديس العقل البشري وافتراض أنه أشرف الخليقة وأنفس نتائج الطبيعة وانه قادر على فهم كل ما هو كائن وأنه لولاه ما كان شيء وأن ونواميسه لا بد أن تكون أيضاً نواميس الكون اجمعه. والحقيقة أنه لو كانت نواميس الكون هي عين نواميس العقل البشري أعني أن الذي يسير الكون ويدبره هو عقل مماثل في ماهيته وتركيبه لعقل الإنسان - إذن لصح لابن آدم أن

يطعن في هذا الوجود ويمزق بلسان الذم أديمه ويرميه بكل عيب ومنقصة لأنه يكون إذ ذاك أهلاً للقذف والقذع وتكون أفعاله في الواقع خبيثة منكرة ويكون بحق ذلك الأرعن الأخرق المجنون آناً مسرفاً وآناً شحيحاً وفي جميع أحواله اعمى عن العواقب راكباً سبل الغواية طارقاً أبواب الفساد حتى لقد آن أن يضرب على يده فيجعل تحت رقابة أستاذ مؤدب وحكيم مهذب من حائزي أرقى شهادات الفلسفة من أكبر جامعات أوربا فالكون إذن مجرد من العقل والفضيلة وعليه إما أن يعتدل فيستقيم أو يتوارى فيخفى. هذا لو كانت القوانين المدبرة للكون هي عين المدبرة للعقل الإنساني ولكن أيها الأحمق الضعيف إني لك الحكم بأن هذا هو الواقع وبأي حق تطبق على الكون وأحواله خطة النظر والاستدلال الخاصة بك؟ أليس من المحتمل بل من المرجح أن عجز الذهن البشري عن تفسير المظاهر الكونية وربما كان أشد من عجز مفتاح ساعتك عن فتح القفل المحكم من خزانة حديثة الطراز ومع ذلك فالقوي المتصرفة في إدارة كيان الإنسان قد تكون هي عين القوى المتصرفة في إدارة السكون كما إن القواعد الميكانيكية التي يقوم عليها تركيب قفل الخزانة المذكورة هي عين التي يقوم عليها تركيب ساعتك وإنما الأمر هو فرق بين شيئين أحدهما صغير جداً والثاني مفرط العظمة لا حد له ولا نهاية - أحدهما بسيط بالقياس والثاني متناهي التركيب والتعقيد ونحعن فلا نجد أمامنا بعد ما ينفي قول من يزعم أن للكون عقلاً شاملاً عاماً يعجز دماغ آدمي وأضيفت إليها القوى في هيئة حركة عصبية تولد عن ذلك جسمه والتي أهمها الأوكسجين والإيدروجين والآزوت والكربون والحديد والفسفور الكبريت والكالسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والكلور توجد ايضاً بكثرة مفرطة خارج الجسم لبشري الحي وكذلك القوى التي بها تؤدي الأعضاء وظائفها الحيوية وأعني بهذه لقوى القوانين الكيماوية والميكانيكية كالكهرباء وغيرها من ضروب الحركة هذه أيضاً فعالة خارج جسد الإنسان فمن ذا الذي يجرأ بعد ذلك على القول بأن هذه العناصر لا يتولد عنها عقل إلا إذا تألفت على شكل واحد خاص - شكل الدماغ الإنساني والجهاز العصبي، أليس من المعقول بل من المحتمل أن شكل الجهاز العصبي هو شيء جاء من طريق الصدفة والاتفاق وأن الجزء الجوهري والركن الأساسي إنما هو العناصر المؤلفة للجهاز المذكور والقوى الفعالة في طيه وأن هذه العناصر والقوى قد تنتج أيضاً نوعاً ما من العقل

إذا هي تفاعلت بكيفية مخالفة للخطة التي يدور على محورها نظام الكائنات الحية الواقعة تحت حواسنا. أما الذين يرمون الدنيا بفساد الفضيلة فقد صح رأيهم لو ساغ لنا أن نزن العالم بمعيار الفضيلة المصطلح عليه بيننا. ولكن بأي حق نفعل ذلك. إن قانون الفضيلة عندنا لا يزال رهناً بالزمان والمكان يتغير بتغيرهما فهو في انتقاله من شكل إلى شكل وتحوله عن صورة إلى صورة كالأزياء واختلاف ضروبها. ففضيلة القرن التاسع عشر هي غير فضيلة القرن الثامن عشر ومحامد العصر الحاضر هي مذام العصر الغابر بل أن قانون الفضيلة في العصر الواحد تراه متنافر الأجزاء يناقض بعضه بعضاً فهو يعد القتل جريمة إذا وقع من الفرد ومكرمة ومأثرة إذا قامت أمة مسلحة فأوقعته جملة على أمة أخرى. وهو يعد الغش والكذب رذيلتين وتراه مع ذلك يجيزهما في باب السياسة وهاك أمة عظيمة راقية - أعني الولايات المتحدة - تخص السرقة والنهب بأصرم العقوبة إذا صدر عن الفرد ولكنها تتغافل عن هذين الجرمين إذا وقعا من الجماعات والمدن والولايات بإعلانها الإفلاس الكاذب وتزويرها على أرباب الديون. وقانون الفضيلة اليوم جد مخالف لما كان عليه في سالف العصور، وأكبر ظني أنه سيكون شديد المخالفة لما سيكون عليه في مستقبل الأيام. وبالإجمال فالفضيلة إنما هي بيان لتلك الأمور التي تعتبر ضرورية من وقت لآخر طبقاً لحالة الجنس البشري وهذا البيان يوضع في أسلوب أوامر ونواه أدبية وقوانين وقواعد أخلاقية. وبتدرج الطبع الإنساني في الرقي تتغير بعض مقتضيات نجاحه وتغير هذه يستلزم تغيراً في مواد قانون الفضيلة والرذيلة أعنى يتغير رأي المجتمع في ماهية الخير والشر - المحظور والمباح - الحسن والقبيح. أفمثل هذا الميزان المزعزع والمعيار المتقلب تقاس به ظواهر الطبيعة وتختبر حركات الكون؟ وهل شي لم يسلم بصحته السلف. ولن يقر بصوابه الخلف. يجعل قانون الطبيعة الأبدي. وناموس الكائنات الأزلي؟ أما أني لا أرى الفيلسوف الذي يسخط على الكون وينسب إليه الطغيان والجور وإلى خلقه الفساد واللؤم إلا كالفتاة الغرة التي قد ساءها أن ترى الجو محالف الزرقة فهي تسوم السماء أن تلبس كل يوم لوناً يلائم صبغة حليها وحللها وبغير ذلك لا تنال السموات رضاها. إن فلسفة أرسطاليس القائلة بتشريف الإنسان على سائر الخلائق قد ظهر بطلانها في

العصور الأخيرة وقد ألغيت وعفت آثارها. فليس من معتقدات هذا العصر وتعاليمه أن الكرة الأرضية هي مركز الكون ولبابه وسره. وأن الإنسان هو أقصى غية الخلقة ومنتهى مطمح الطبيعة وأن القمر ما أشرق إلا لينير حنادس ليلنا والنجوم ما انتظمت إلا لتنتثر في دواوين شعرائنا. على أنه لا يزال بين طلاب الفلسفة من يتمسك بهذا الرأي المأفون فيرمي الطبيعة بالسفه والحمق بحجة أن ذخيرة الفحم الحجري ربما نفذت يوماً ما من المناجم وأن بركان فيزوف قد أهلك جما غفيراً من الخلق وفيهم الفتيان والفتيات في ريعان الشباب وزهرة العمر. وأن آنسة أورليان أحرقت بالنار حية وقائد الأسويج جستاف أدولف قتل في واقعة لوتزين في أوج انتصاره وأن الحسناء المليحة كثيراً ما تقضي نحبها على فراش النفاس وتترك الفرخ الضعيف لا كفيل ولا حاضن. وإذا كان من حق الإنسان أن يعتد محنه وبلاياه دليلاً على لؤم الطبيعة وأجرامها فلماذا لا يحق للمكروب أي الجراثيم (البكتيريا) مثلاً أن تعد ما ينالها على يد الإنسان من المصائب دليلاً على لؤم الطبيعة وأجرامها أيضاً، أرأيت لو أن للجراثيم فكرة فلسفية إذن لشد ما كانت تسخط على العالم وتمقت الطبيعة! وحقاً إن الدنيا هي حسب نظرها فاجرة لئيمة تزداد على ممر الأيام جوراً وطغياناً، فالمكانس الفظة والمذاود الشديدة البطش والأكسجين الغليظ الكبد والماء الساخن الفتاك تتآمر جميعها على إزهاق أرواحها وكل ما فيه رزقه وبقاؤها يزال فيلتف، وما أن يزال هلا من حامض الكربونيك عدو يحارب الحياة في أجسادها ويترك حركات المرح والنشاط منها رجات نزع ورعدات حمام يستوي فيها من هذه الجراثيم البار والفاجر والطيب والخنيث، وترانا مع ذلك نعد هذا العمل الذي تراه البكتيريا أو ما من الكون وطغياناً من الطبيعة نعمة كبرى وعملاً صحياً جليلاً جديراً أن يفخر به ويهنأ عليه. وإني لأكاد أتخيل ذبابة من ذلك النوع الذي يعشق النفوس المحفورة في بعض أصناف العملة وغيرها من النقوش والتصاوير (وعشق بعض الذباب للصور ولرسوم هو ما تشهد به ربات المنازل ومدبرات البيوت) - أقول كأني بإحدى هذه الذباب قد صادفت في بعض رحلاتها ذلك التمثال الجسيم. تمثال بافاريا فماذا تري يكون موقفها إزاء هذا البناء الضخم وماذا تكون حيرتها وتعجبها وماذا يكون إنكارها واستهجانها؟ لاشك سترى الذبابة في هذا

التمثال كتلة لا شكل لها ولا صيغة ولا مبدأ ولا نهاية ولا أدنى آية على عقل أو حكمة أو نظام أو مبدأ - وجانب من هذه الكتلة أنعم من خدود الحسان، وفي ذلك المكان انبعاج لا يهتدى فيه إلى أصل ولا فصل، ثم إذا قيض لهذه الذبابة أن تقضى أيامها في جوف هذا التمثال لكان من المرجح أنها تضع مؤلفاً ضخماً يتناول هذا الكون الذي يحتويها بجميع أصناف الهجاء والطعن تقرر فيه الذبابة المذكورة فساد خطة دنياها واختلال ميزانها ووضوح خرقها وبلهها، وحمقها وسفهها، موردة في سبيل ذلك من الأدلة كل دامغ قاطع، ومن البراهين كل ناطق ناصع، مما لا يدع في قلوب سائر الذباب من بنات جنسها أدنى مجال للشك في صدق قولها وصحة قضيتها، حتى لا ترى فرداً من سكان هذا العالم (أعني تمثال بافاريا) إلا قد راح مقتنعاً بصواب ذلك الرأي معتنقاً لذلك المذهب على أن الذبابة لم تصل بعد إلى الحقيقة ولم توفق إلا إلى الضلال والخطأ وهذا ما يمكنها معرفته من أحقر الكتب المعنونة دليل بافاريا. لا لا! ما أحسب فلسفة التشاؤم إلا هازلة، وما أظن فلاسفة التشاؤم إلا مازحين، وكل ما فيها من الحق هو تأفف شديد من ضعف إدراكنا وعجز أذهاننا، فترى أحدنا يود لو يقف على سر تركيب الكون ولكن هذا ما لا يكون أبداً فلا جرم أن تجدنا نغضب ونغتاظ على الكون حتى نظل بحال الهمجي المتوحش الذي يتصدى لبعض الآلات الدقيقة التركيب من مبتدعات العلم ومخترعات المدنية يحاول حل لغزها حتى إذا أعياه ذلك وباء بعد الجهد الجهيد بالخيبة اشتد حنقه على الآلة فرمى بها إلى الأرض غضبان أسفاً، وكذلك الإنسان يحسب أنه سيد الكون ولكن الأيام لا تبرح حتى تريه أن سيادته ضيقة المجال قصيرة الباع فيضيق من أجل ذلك صدره ويسوء خلقه ثم ينفث غيظه في صورة نظام فلسفي يسميه مذهب التشاؤم وإذا كان ذلك كذلك فلم لا نسمي الطفل الذي يبكيه أنه لا يستطيع تناول القمر باليد فيسلوفاً أيضاً؟ غير أن الطفل يمكن شفاؤه من داء الفلسفة برشفة من العسل أو قطعة من الحلوى. على أن من أحسن التفكهة وأمتع التسلية أن ترى هؤلاء الفلاسفة - فلاسفة التشاؤم - يعلم كيف يهتدي إلى المضغة السائغة واللقمة الطيبة الكريمة فهو الذي يعرف من أين تؤكل الكتف وأنه بعد الغلو الفاحش في ذم الحياة والحض على إعدام الجنس الآدمي واستئصاله

تراه يختم بالزواج رواية غرامية ويظهر بعد ذلك رغبة شديدة في سائر مطايب العيش ومحاسن الوجود، فالفلسفة عند هؤلاء الفئة ضرب من لباس التشريفات يلبسونه في الحفلات الرسمية ليروعوا به نفوس المشاهدين من العامة ويهولوا بمنظره الفتان قلوبهم ويبهروا أبصارهم، ومن تحت الحلة الموشاة والثوب المطرز القميص المعهود من التيل أو الكتان. وهناك فضلاً عن هذه الفلسفة النظرية الكلامية التي تترك صاحبها يأخذ أقصى ريه وشبعه من مناعم الدنيا صنف آخر من التشاؤم أعني التشاؤم الفعلي الحقيقي وأرباب هذا النوع لا يجادلون ولا يناظرون، وليس لهم مذهب فلسفي وقوانين مشروعة ولا شروح ولا تفاسير، فهم لا يحاولون أن يذكروا أسباب فساد الكون وخطأ سننه ونواميسه، وإنما يبغضون الدنيا من حبات أفئدتهم ويكرهون جميع ما تظل السماء. وتقل الغبراء، من سويداوات ضمائرهم ويرون أن قبح العالم ولؤمه واختلاله جديرة أن تغري الإنسان بالانتحار. أقول مثل هذا النوع من التشاؤم لا يقبل المناقشة والرد وإنما كل ما يستطاع أزاءه هو أن يتناوله الإنسان بالتحليل والتشريح للوقوف على أصله وعلته، فبإجراء هذا يعلم أن هذا التشاؤم هو أحد أعراض مرض العقل في بدايته أو عند بلوغ أقصى شدته، وقد شاهد الأطباء وعلماء النفس أن الجنون كثيراً ما يظهر في ابتداء أمره بحالة الماليخوليا (أعني الاكتئاب المجهول السبب) فترى المصاب يلازم الحزن والإطراق ويعتزل الناس ويرمي كل ما في الوجود بعين البغضاء والمقت، والسر في ذلك أن في عضو التفكير العقل خاصة مرعبة مخيفة وهي أنه إذا أخذت فيه عوامل الفساد تنبأ بما سيكون من جليل خطبه وهائل مصابه وكان له القدرة على تتبع مسرى الداء فيه والعلم بأن التلف مصيره والخراب مآله وهكذا يحصر العقل نظره في أمر اضمحلاله وانحلاله وتستغرق التفاته هذه الرواية المحزنة حتى لا يبقى لسائر أمور الدنيا من هذا الالتفات والنظر إلا فضلة خسيسة لا تريه من الدنيا وأشيائها إلا أشباه الأشباح الضئيلة، فلا غرو أن كانت الدنيا تتراءى لمثل هذا العقل المصاب مثلما تتراءى للعين الرمدة أعني عالماً مملوءاً تشوشاً واختلاطاً وظلمة، فشعروا التشاؤم والتبرم قد كانوا ولا شك مراض العقول، فالمشاعر لينو مات مجنوناً، والشاعر ليوباردي كان يشتكي علة في عضو التناسل قد عرفها الأطباء من أمراض العقل، والشاعر (هاين) بدت

في نظمه آيات السخف والخلط لما أخذت علة فقاره تؤثر على دماغه، والشاعر (بيرون) كان فيه ذاك الشذوذ الذي تسميه العامة (نبوغاً) ويسميه علماء النفس (مرض الذهن) حقاً أن ذلك التشاؤم الذي ترى صاحبه يغمى عليه إذا هو أبصر حبيباً يغازل حبيبه وتراه يسكب الدموع لرؤية الشمس ساطعة في صباح يوم صحو بلا سبب ولا قصد ولا فائدة ولا سلوى - مثل هذا التشاؤم هو بلا أدنى نزاع مرض خبيث لا يتمناه امرؤ وبه ذرة من العقل. والآن نسطر كلمة في التشاؤم المتكلف الكاذب وأربابه الذي يجعلون انتقاص الطبيعة وانتقاد العالم وذم الدنيا ذريعة إلى تمييز أنفسهم عن سواد الناس فترى أحدهم يرهف حد لسانه ويريش سهام القذف والهجاء ليقال ذو حنكة وتجربة قد خاض أهوالاً وغمرات، واقتحم أخاطاراً وعقبات، وتراه يردد الزفرات والأنات ليقال أنه من الفئة القليلة التي أفردتها الأقدار دون سائر الناس بالنفاذ إلى خبايا الأحزان، فمثل هذا التشاؤم ليس له علة فسيولوجية ولا سبب بسيكولوجي إذ لا أصل له إلا التصنع والرياء وأحسن ما تستقبل به صاحب هذا المذهب هو أن تغمز جنبه مداعبة وتناديه يقول الفرنس ويحك يا خبيث! (أو بقول عامة المصريين اطلع من دول يا لئيم). وهنا ننتقل إلى نقطة أخرى وهي شكوى المتشائمين من وجود الألم في الدنيا فيا للضلال بل للجحود ونكران الجميل. أما أنه لو كانت الدنيا خلواً من الألم إذن لوجب على الإنسان أن يحدثه ويبدعه! فإنه لعمرك من أجزل حسنات الطبيعة وأجل آلائها! وهل هو إلا دليل على صحة الجهاز العصبي ودقة تركيبه وأحكام صنعه، وصحة الجهاز العصبي وأحكامه ودقته هي علة إدراك الملاذ واصل الإحساس بالمسار التي لا يجرأ امرؤ على إنكار وجودها في هذا العالم، فالكائنات الحية السفلى هي ضعيفة الشعور بالألم ولكنها أيضاً ضعيفة الشعور باللذة، أولاً يكون من المنكر أن يصبح الجهاز العصبي في الإنسان من حدة الشعور باللذة بحيث ينتشي أحدنا من عبق الأزهار ورنين الأوتار ونشيد الأشعار ودمية الحفار وهو مع ذلك من بلادة الإحساس بالألم بحيث لا تؤذيه الأرواح الخبيثة والضوضاء المزعجة والمناظر الكريهة، هلا سألت مفلوجاً مشلول أحد الشقين أو كليهما، أيسره ما هو فيه من عدم الشعور بالألم؟ نعم أن الدنيا لا تصيبه بأدنى أذى ولكنها لا تهدي إليه كذلك

أدنى مسرة، وما هي إلا برهة من الوقت حتى تراه يود من صميم قلبه لو يصبح بحال تغشاه معها الآلام وتنتابه الأوجاع، وكم من مرة شاهدت المفلوج وقد نقه من علته يستقبل بأشد فرح والحبور عودة إحساس الألم لوخز إبرة، والألم هو نعم نذير الخطر وبريد الشر يؤذن باقتراب البلاء لنقوم للمكروه على قدم فنصده أو نراوغه، فحق علينا لذلك أن نعد الألم أصدق صديق وأحوط راع وكالئ ومصدر كل إحساس ممتع وشعور لاذ، إذ الألم هو الذي يبعثنا على مكافحة الشيء المسبب له وهذه المكافحة هي بمثابة أشد رياضة لقوانا العقلية وأقصي إجهاد لمواهبنا الفطرية والكسيبة وفي ذلك السرور الأعظم الأجل - أعني الفرح الذي لا يزال نتيجة إظهار فضلنا الكمين بالعمل وإبراز شخصيتنا، ولولا إلا لم لمْ تكد حياتنا تبقى لحظة إذ لا يكون معنا حينئذ ما يدلنا على عوامل البوار والتلف فننتقيها. وبعد فإنه مهما سخط الساخطون على الدنيا فإنهم ليرونها مع ذلك مما يطاق احتماله، والإنسان بفطرته مجبول على الاستسلام - راضياً أو كارهاً - إلى ما ليس في وسعه تبديله، بل مجبول على إلفة ما قد يحيط به من المحتوم حتى يجد فيه ضرباً من المتاع واللذة، ويتعلق منه بسبب لا يحب أن يصرمه وعروة لا يرغب في فصمها فهو لا يبغى بقسمته بديلاً ولا يريد بحظه عوضاً، وإنما السر في ذلك أن النسيج الذي هو أساس حياة الإنسان والذي فوق رقعته يدبج الذهن نقوش الأحزان وتصاوير الأشجان - هذا النسيج هو التفاؤل لا التشاؤم. ألا ترى المتشائم نفسه يسلم بجمال الطبيعة ويهتز ليوم الصحو تتألق شمسه في لازورد السماء ولليلة الأضحيانة يسري بدرها في حاشية الدراري، ومع كل ذلك فغنه لو هبط ساكن الزهرة فجأة إلى أرضنا هذه لأبصر نفسه في قفر موحش كله ظلام وقر، وذلك أنه لاعتياده في وطنه الضوء الباهر المعشى للبصر والحر اللافح المحرق للبشرة تراه إذا قام في أرضنا هذه أحس أنه في زمهرير وظلمة وبدت لعينه أبهج ألوان هذا العالم كامدة نافضة وأزهى أضوائنا كاسفة ضئيلة، وكذلك لو هبط إلى أرضنا ساكن زحل فقارن بين سمائه المشرقة بأقمار ثمانية وسمائنا ذات القمر الفرد إذن لأوحشه من أقفار خضرائنا وظلمتها قدر ما كان يؤنسه من لألا، خضراته الساطعة المنيرة لا تبرح أقمارها بين أفول وطلوع تتشكل في فلكها الرحب أشكالاً لا ترى مثله في سمائنا عين المنجم أو مقلة الساهر، ونحن

مع ذلك لا نتوق إلى شمس الزهرة الوهاجة ولا ننزع إلى سماء زحل الباهرة وأقمارها راضين عن فلكنا المتواضع لا نريد تحولاً عنه إلى غيره وأن كان أشرف منزلة وأعلى قدراً، ولكن مالنا ولاستهباط الأمثال من العوالم العلوية والتحليق إلى الأجرام السماوية، بل حسبنا نظرة نحو الأقطار القطبية، أن في هذه البقاع أناساً يضرب المثل بطلاقتهم وبشرهم وبفرحهم وبمرحهم قد اغتبطوا بحالهم وسروا بعيشهم لا يكادون يحسبون أن في الأرض شيئاً أحسن من بيوتهم المغلقة بالثلج وأمتع من ليلهم السرمدي، وهم لو كان فيهم الشعراء لمدحوا قفارهم الثلجية المجدبة بما لم يمدح به شعراؤنا المنظر الأنيق من ضفاف وادي الرين والعيش الأفانين في ظلاله الرطاب بين ماء من اللجين وكرم من العسجد وبساط من الزمرد، وأن في سرور أولئك القوم بحياتهم الثلجية مضيعة لما ينتابنا من الخوف عند ذكر العصر الثلجي الذي يزعم أرباب مذهب البرودة أنه سيجيء في مستقبل الزمان، نحن إذا تخلينا هذا العصر الثلجي تراءت لأوهامنا أهله وكأنهم يلتحفون فرو الدببة جاثين إلى نار ضئيلة قد أذكيت من آخر بقايا الفحم يلقون شعاعها المضمحل بأبدان مضمحلة قد شفها السقم وبراها الضنى كأنهم لشدة الإحراق والحزن والقردة في المتحف الحيواني ببرلين، على أن هذه الصورة المتخيلة خطأ محض بدليل أنه إذا اتخذنا حياة ساكن الثلوج القطبية الاسكيمو معياراً نقيس به ما سيكون من ذريتنا أهل المستقبل الثلجي إذن لاتضح لنا أن هذا الجيل القادم سيكون أشد بني الدنيا سروراً وأكثرهم حبوراً، فسوف تقوم لهم الأعياد الهزلية (الكرنفال) والأسواق اليومية في ميادينهم الشهباء وسوف يطردون القر من مفاصلهم بآداب الرقص على أناشيد الشراب وسوف يلذون من زيوت الحوت ما تلذه أنت من الرحيق المختوم والعسل المصفى وإذا حضرت الوفاة أحدهم وتقلصت عنه ظلال الحياة قضى وهو مفتر عن نواجذه وأنامله مطوية على العدد الأخير من صحيفة العصر الهزلية. وعلى الرغم مما يؤكده لنا الشعراء من أن الحياة ليست هي النعمة الكبرى والمتاع إلا كبر فقد نرى ونحس أنها لكذلك. وأنه ليس شيء أهول وأخوف من فكرة الهلاك - فقدان الشعور وفناء الشخصية. والموت آلم شيء حتى ولو تعدى نفوسنا إلى أنفس عزيزات علينا حبيبات إلينا. ولعل خير ما يتمناه امرؤ لنفسه وأهل وده من قريب أو نسيب أو حبيب هو العمر الطويل والأجل المديد وحده الأعلى هو مائة أو مائة وعشرون حجة. وأن

قال الشاعر: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبالك يسأم وفي أكر من مائة وعشرين لا يطمع امرؤ في البقاء. فأخو المائة محسود ومن يغتبط في زهرة الشباب في العشرين أو الخامسة والعشرين يحزن عليه ويبكي فهذه الوجدانات وجدانات الأمل والحسد والحزن والرحمة التي تنبع من ثرى أفئدتنا عفواً لا نطيق لها رداً ولا نقداً إنما هي فيض الكامن العتيد في نفوسنا من التفاؤل. أما رضانا بالمائة وعشرين غاية لأعمارنا فذلك لأنه قلما نرى ذلك الأمد يتجاوز ولو كان متوسط عمر الإنسان هو كعمر الغراب أو الفيل أو بعض أنواع السمك مشتى عام أو ثلاثمائة لطلب أحدنا أن يبقى هذه المدة ولساءه نبأ من يعلمه أنه قد قدر له الموت في سن أقصر من هذا مائة وخمسين سنة مثلاً مع أنه لا يطمع فيما فوق المائة والحال كما هي، وعلى عكس ذلك لو كان متوسط العمر البشري هو كعمر الحصان ثلاثين أو خمسة وثلاثين عاماً إذن لما رغب امرؤ قط في البقاء أكثر من ذلك ولأصاب الذي يموت في هذه السن من حسد الناس إذ ذاك قدر ما يصيبه في الحال الحاضرة من الرثاء والرحمة. هذا ولو أنه قد حدث مرة - مرة واحدة - أن آدمياً أفلت من حبائل الموت إذن لأمل الخلود كل إنسان ولما طابت نفس امرئ قط عن الروح تفارق جسده ولو بعد ألف عام - ولرأي الناس في الموت إذ ذاك من الهول والبشاعة مثلما يرون في أفظع قتلة وأشنع ذبحة مما يتقيه كل فرد بأقصى جهده. فأما والخلود لم يعرف قط عن آدمي فليس من الناس إلا من طاب نفساً عن الحياة وأخلد لفكرة الموت راضياً مستسلماً غير متوجع ولا محزون قانعاً من دنياه بتأميل امتداد الأجل إلى أقصى الممكن من الغابات أو ليس من المستطاع أن يمتد عمر الإنسان إلى بضع مئات أو بضع آلاف؟ نحن لا نعرف برهاناً قاطعاً على استحالة ذلك. ولكننا على كل حال لا نطمع في هذا الأمر وما ذلك إلا لأنه ليس الواقع. أفمن الضروري أن تختم بالموت حياتنا؟ نحن لا نرى في ذلك ضرورة ولزوماً بالرغم من اجتهاد الأستاذين ويزمان وجوتي في إثبات أن الموت حكمة عليها تقوم أكبر مصالح الإنسان. ومع ذلك فقد ترانا نوطن النفس على فكرت الموت المرعبة ولا علة إلا يقيننا بأنه ضرب لازب والحقيقة أنه قد ركبت في طباعنا غريزة قبول القدر المحتوم بنفس طيبة

وأحشاء مطمئنة ثم نعتق الفؤاد من رق التوجع لهذا القضاء وننفي عن ساحة الصدر ما عساه ينتابها لذلك من الهموم. وفي هذا بيان جانب من علة حدوث ما يسميه الناس (سرور المشنقة) أعني ما يعتري بعض المجرمين أحياناً من الابتهاج أثناء أخذه إلى مكان الإعدام. وهذه حقيقة لا يطعن فيها لتواتر شهادة الثقاة بصحتها فخاطب الموت يهتدي إلى التوفيق بين نفسه وبين الهلاك متى تشبع باعتقاد أنه قضاء بلا مفر منه. وفرط قوة الأمل في الإنسان أنصع دليل كذلك على أنه متفائل لا متشائم. وهل تحسب أنه كان يوجد في الناس من يجرأ على الاشتغال بأية حرفة لولا ما ركب فينا من التفاول. وبيان ذلك أن السابقين المتفوقين في جميع الحرف والصناعات هم الشواذ النوادر. فالمرتقي إلى رتبة القيادة في الجيش واحد في المائة والمعتلي إلى منزلة الرآسة في الطلب واحد في المائتين أما الباقون فينبذون في زوايا الإهمال ويطرحون في ظلمات الخمول وغالباً ما يذوقون مرارة الأملاق والفقر وهكذا لا يزالون يصيبون من صناعاتهم محنها وآفاتها ويخطئون منها نعمها ومسارها حتى يغشاهم الموت. ومع ذلك فإن أحدنا إذا جلس يفكر في اتخاذ مهنة لم يخطر بباله شيء من آفاتها وسواتها ولم يدر بخلده حالات الخبيثة والتأخر وعددها كما قلنا تسع وتسعون أو مائة وتسع وتسعون بل كان ما يراه في المهنة المختارة هو الحالة الفردة الشاذة فيعتقد أنه لا محالة بالغها ولو كان الوصول إليها هو مما يراه الفطن اللبيب من أبعد الأشياء احتمالاً. وتلك هي حالنا في كل ما نحاول من المسائل. فإنه بالرغم من أن المآكل قد يكون للخيبة وقد يكون للنجاح بل ربما كانت الخيبة أشد احتمالاً ترانا مع ذلك نهجم على الأمر واثقين بالفوز. وإن العامل الذي يطرد من صدورنا وساوس الريب وينفي عن ضمائرنا هواجس الشك ويسبل الستار على النوافذ التي ربما شوهد من خلالها آفات المشروع ويعلق على الحائط صورة النجاح البعيدة الاحتمال، هذا العامل هو التفاؤل. ولا يفوت القارئ أن ما قد ذكرناه من الثقة بالنجاح أمر مقصود على أغراضنا الذاتية وغاياتنا الشخصية فإذا وقفنا موقف المستشار الناصح لغيره في أمر اشتغاله بمهنة أو صناعة أو الحكم على مستقبله في عمل من الأعمال إذن لرأيتنا نستفرغ الجهد في درس المسألة درس دقيقاً ورأيت منا حذقاً عظيماً في استكشاف ما هنالك من العقبات والعراقيل

والمصاعب وميلاً شديداً إلى سوء الظن بالعاقبة مما يثبط همة المستنصح المستشير، فما هي العلة في ذلك؟ هي أنه في مثل هذه الحال ينعدم ذلك العامل القوي - عامل التفاؤل الذاتي الكامن العتيد الذي من شأنه أن يقطع لسان العقل ويخرس صوت البرهان ويجري عملية الحساب كما شاء الميل والهوى، ولذلك ترانا نبصر العقبات والمشاق بعين جلية مع فقدان ذلك التحمس الذي يثور في الفؤاد لتذليل هذه المشاق بعين العقبات والذي لا يجده ولا يحسه إلا صاحب المشروع وطالب الأمر وهذا يرى فيما يحاول ويريغ خلاف ما يراه النصيح المستفتى، إذ النصيح إنما يرى من الأمر أحد جوانبه وليس يبصر طول خط الهجوم الذي تعده همة صاحب المشروع وعزمه لهزيمة الصعاب وبلوغ المدى. وأقاصيص الجان وهي القوالب المفرغ فيها آراء العامة الأميين في الكون والحياة هي حجة مستمرة على عنصر التفاؤل في تركيب الإنسان. لقد ذكرت لك إخلاد الفرد لفكرة الموت واستسلامه لحقيقة الفناء، على أن الأمة تصنع ما هو أكثر من ذلك إذ تحول الشر المحتوم خيراً وتستخرج من السيئة حسنة فتخترع القصة ترمى إلى أنها منة وموهبة وأن الحياة الأبدية شقاء وبؤس، وهذا مغزى حديث اليهودي التائه الذي يجعله واضع القصة يشتهي الموت في شدة يأسه تخلصاً من الحياة فلا يجد إلى الهلاك سبيلاً، ومثل هذا مغزى الفكاهة الحلوة عن الرجل المسكين الذي بهره ثقل صليبه فابتهل إلى الله أن يعطيه به بدلاً، فساقه الملك الحفيظ إلى مكان فيه عدد جم من الصلبان بين خفيف وثقيل: ودقيق وجليل، ومرهف وكليل، فجربها جميعاً فلم يجد بينها ما يوافقه، حتى إذا كاد أن ييأس منها حانت منه التفاتة فأبصر صليباً منبوذاً جانباً فتناوله وجربه فألفاه أحسنها ملاءمة له، أيها القارئ حدثني عن مبلغ عجبك حين أعلمك أن الرجل وجد هذا الصليب صليبه الذي استقال الله منه! وهكذا لا تبرح الإنسانية تكرر في شتى الصيغ وفنون الأساليب هذا المعنى الواحد وهو: لن يجد امرؤ أحسن مما قيض له والخير في الواقع وقد ذلك من رام من حظه بدلاً، وأن الأحدب - كما جاء في بعض الأقاصيص - يجد من حلاوة العيش مع حدبته وشوهته مثل ما يجد ذو الشطاط (2) مع حسن قده واعتدال قامته (3). وخلاصة القول أن أساس الوجدانات البشرية هو تفاؤل راسٍ راسخ وطيد عتيد فالتفاؤل إذن هو اسم آخر لشعور الحياة وإحساس الوجود وقدرة الإنسان على التوفيق بين نفسه

وبين الظروف والأحوال - تلك القدرة التي أولاها ما استطاع الإنسان أن يبقى - ورغبته في الإصلاح الباعثة له على التدرج في معارج الرقي، هاتان قاعدتا التفاؤل، وأنا لا أرى الهمم الصادقة المبذولة في سبيل بلوغ الكمال وتدليل ما يعترض في هذه السبيل من الصعائب والمشاق واقتحام العقبات ولا أرى التقدم والأمل والحياة إلا مرادفات للفظة تفاؤل ولقد أحسن الحكيم الروماني كل الإحسان إذ أودع في هذا اللفظ الصغير وهو لا يفارقني حتى تفارقني الروح فلسفة الحياة بحذافيرها، وأبرز هذه القاعدة البيولوجية الكبرى في إحدى حلل البديع.

الشرائع الاجتماعية والسياسية

الشرائع الاجتماعية والسياسية في الإسلام يقول الدكتور جوستاف لوبون: إن الشرائع الاجتماعية والسياسية تختلف باختلاف الممالك والشعوب، وما يصلح منها ويستقيم في الأمة الواحدة قد لا يصلح ولا يستقيم في الأمة الأخرى، وما يقع موقع القبول منها في شعب قد ينزل منزلاً سيئاً مكروهاً في شعب آخر، وهذه الحقيقة تحتاج ولا ريب إلى عدة من الأمثلة والشروح لأنها لا تدخل سريعاً على العقل، ولا تنساب إلى الفهم، فقد يعترضها ما يبدو لأول وهلة حقيقة جلية مقررة، وهو أن الشرائع التي تنسب إليها عظمة أمة من الأمم خليقة ولا شك بأن تصير للإنسانية جمعاء مثالاً حسناً ونموذجاً طيباً مقرراً، ومن ثم فليس أحكم ولا أسد ولا أرشد من اختيارها لأمة أخرى، حتى وأن استوجب نشرها القوة والإكراه. . . وهذا هو الرأي الذي ظل زماناً طويلاً يجري في أذهان السياسيين والمؤرخين، ولا يزال يأخذ به حتى اليوم سوادهم. ولكنا قد بدأنا نتبين ما وراء هذا الرأي وأشباهه من الأخطار والأضرار، ونحن لو تعمقنا قليلاً في دراسة حياة الأمم والشعوب، لوجدنا أن شرائعهم ليست إلا خلاصة عواطفهم وحاجياتهم الزمنية الموروثة التي خلقها ماض طويل بعيد وأن ليس من الهين أن نهذبها أو ندخل عليها من الإصلاح ما نشاء ونريد. . . وقد يقول لنا المؤرخون أن بعض المتشرعين أمثال موسي وليكروجوس وصولون ونوما وغيرهم قد سنوا لشعوبهم شرائع لم تخرج كل قطعة منها إلا أدمغتهم، ولم تكن إلا وليدة ابتكارهم ونتاج أذهانهم ولكنهم لو تبصروا لعلموا أن هذه الشرائع لم تكن في الحقيقة في شيء من ذلك، وأن ليس في الأرض كلها متشرع واحد يملك في يديه مثل هذه القوة العظيمة وأن أشد الفاتحين صولة وحولاً، وأن أعظم الانقلابات هدماً ونسخاً لم تستطع أن تعمل بهذه القوة إلا زمناً غير طويل، ونحن قد نستطيع ولا ريب أن نكره أمة على أن تأخذ زمناً ما بطائفة من الشرائع المختلفة جد الاختلاف عن شرائعها التي تعيش عليها كما نستطيع أن نريد حيواناً على أن يتخذ شكلاً من الحياة يخالف طبيعته وغريزته، ولكن سرعان ما يعود الماضي إلى نصابه، إذا رفعنا يوماً هذا الضغط، وأن الشرائع القديمة في الأمة لم تتجدد ولم تتحول ولم تتبدل وإنما جعلت تعود إلى الظهور وفي كل حين تحت أسماء جديدة، ولم يحدث ثمت أدنى تغير إلا في

الأسماء والمصطلحات والموصوفات. وقد يبدو لأول وهلة أن هناك عدة من الحوادث التاريخية، تناقض كل ما قدمنا ولكنا لو تعمقنا في دراستها وبحثها لم يلبث هذا التناقض الظاهر أن يزول، فقد يظن أن العرب مثلاً قد نشروا شرائعهم التي اشترعوها في شعوب تختلف عنهم كل الاختلاف ولكنا لو درسنا الأمم الأسيوية والإفريقية التي بسط العرب فوقها عقيدتهم وملكهم لرأينا أن الشرائع الداخلية في أكثر هذه الأمم لم تكن تختلف بعضها عن بعض إلا قليلاً جداً، وأن القرآن في الأحوال التي كانت تختلف فيها شرائع العرب عن شرائع الأمة المغلوبة اختلافاً جوهرياً، كالشرائع التي كانت عند المغاربة مثلاً، ولم يستعمل إلا نفوذاً ضعيفاً، غير مكره ولا قاهر، ولقد كان العرب أعقل من ساسة هذا العصر وعلمائه فعرفوا أن شرائعهم لن تلائم جميع الممالك التي فتحوها فأخذوا دائماً على أنفسهم أن يبيحوا الأمم المهزومة البقاء على شرائعها والاستمساك بأنظمتها وآدابها وعاداتها ومعتقداتها. ولما كانت الشرائع - كما قدمنا - هي المعبرة عن حاجيات الأمة وعواطفها فما كانت لتتغير إلا إذا تغيرت هذه الحاجيات وهذه العواطف نفسها، وقد أظهر التاريخ أن تطور الحاجات والعواطف لا يكون إلا بعد سلسلة متطاولة من الطوارئ الوراثية والإحساسات المتعاقبة المتلاحقة، وهذه لا تكون إلا بعد تراخ من الزمن طويل، فإن بين البرابرة الذين أغاروا على الدولة الرومانية وبين أخلافهم وأعقابهم في النهضة العلمية فرقاً عظيماً، ولكن هذا التطور العظيم لم يحدث إلا بعد أن انصرف ألف عام، ومن ثم يتقرر أن النواميس التي يجري عليها تطور جميع الكائنات الحية هي نفسها التي يجري عليها تطور الشرائع الاجتماعية فإن بعض الحيوانات الحية التي كانت تعيش في أعماق الماء، في العصور الجيولوجية الأولى قد انتهت على ممر الزمن بأن اكتسبت الحواس والأعضاء الضرورية التي استطاعت بها أن تعيش في الهواء. إن العوامل الهامة في تكوين الشرائع هي طبيعة الشعب، ثم الوسط، ثم وجوه المعيشة وأساليب الحياة، وطائفة أخرى من العوامل، أهمها الضرورة، وآخرها رغبة الناس، وللزمن وحده القوى الكبرى على تحديد هذه جميعاً، فإذا رأينا أمة تعيش على شرائع ظلت عليها الدهر الأطول، فلنا أن نقرر أن هذه الشرائع هي أشد الشرائع ملاءمة لها واتساقاً مع

عواطفها وحاجاتها، وإذا كانت الحرية تصلح لبعض الشعوب فإن الأنظمة الجافة الصلبة التي يسنها الفرد المطلق قد تكون أفضل منها وأجدى على شعوب أخرى، ونحن خلقاء بأن نقتنع بهذه النظرية، حتى لا نتصور أن الشرائع التي استطاعت مجهودات القرون الطوال وتطوراتها أن تلائم بينها وبين حاجات إحدى الأمم، يمكن أن تطبق على حاجات أمة أخرى، إذ ليس من السداد ولا من رجاحة العقل أن تكره السمكة على أن تتنفس في الهواء، بحجة أن التنفس الهوائي عام بين الحيوانات، فإن في الوسط الذي تجد فيه ذات الثدي الحياة، لا تجد فيه السمكة إلا الموت. وإن التراخي الزمني الطويل الذي تتكون فيه شرائع الأمم وتتطور يجعلنا لا نشعر بهذه التطورات إلا عندما يتصدى لتقريرها مشرع عظيم، ونحن ننسب دائماً إلى المشرع العظيم إنشاء الشرائع وخلق القوانين، على حين أنها في الحقيقة لم تكن إلا نتيجة فعل داخلي طويل، وليس للمشرعين من عمل حقيقي إلا أنهم يقررون للأمة عادات وآداب قررها شعور الأمة من قلبهم بعض التقرير، وينسخون ما أصبح منها عقيماً أو سيئاً أو ضاراً ولكنا لا ننكر أن لهم تأثير في الأمم هاماً عظيماً، ولكن تأثيرهم هذا مقصور على تقرير التغيرات لا ابتكارها، وليس لابتكارهم في الشرائع إلا أثر طفيف ضعيف. فهم حريون أن يقولوا قول المشرع صولون إني لم أعط الأثينيين خير ما يكون من الشرائع، ولكني أعطيتهم خير ما يستطيعون احتماله منها على أن هذه الشرائع الصالحة التي جاءهم بها صولون لم يستمدها من ذهنيته، بل من العادات والشعائر والآداب التي كانت إحساسهم ومعتقداتهم ورغباتهم قد شرعت من قبله في تقريرها. كذلك كان شأن محمد، فقد عرف كيف يختار من بين شرائع العرب القديمة، شرائع كانت خيراً منها وأجدى على الأمة، ثم عمد إلى شرائعه التي اختار فكفل لها من سلطانه الديني ضماناً قوياً، على أننا لا نستطيع أن نقول أن شرائعه هدمت جميع العادات والشعائر التي كانت للعرب قبله، إلا إذا قلنا أن قوانين الاثني عشر لوحة قضت على جميع القوانين القديمة التي كانت عند الرومان، وإذا كان قد عرض للنبي أن يقضي على شيء من العادات القديمة، كوأد البنات مثلاً، فقد جاء تحريمه إياها تعبيراً عن رغائب وعواطف كانت قد بدأت تنتشر بينهم وتسود، ولهذا لم يلبث تحريمه لها أن وقع منهم موقع الاحترام

والقبول. وعلى هذا نقول أن شرائع محمد، - من الوجوه التي لا تتعلق بالدين - ليست إلا مقتطعات من شعائر وعادات كانت قديمة بين العرب، وهذا الشرائع المحمدية - ككل الشرائع الأخرى - تظهر لنا الحالة الاجتماعية التي كانت تعيش عليها أمة العرب، وإذا كانت كتب التاريخ لا تتعرض غالباً لدراسة شرائع الشعوب، فإن من الهين أن نخرج من معرفة الحاجات التي دعت إلى اشتراع هذه الشرائع، والأمور التي حرمتها، وتلك التي أباحتها، برأي صحيح عن الحالة الاجتماعية التي ولدتها.

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس أقاليم الأندلس ومشهور بلدانها تنقسم الأندلس إلى أقاليم عدة وفي كل إقليم من المدائن الكبار والقواعد الممصرة والقرى والحصون والقلاع ما يخطئه العد والإحصاء، ونحن ذاكرون هنا من هذه الأقاليم والبلدان ما لا بد منه للاستبصار بهذا القطر الأندلسي إن شاء الله. فمن أقاليم الأندلس إقليم جليقية ويقال غليسية أيضاً وهو ناحية كبيرة تطل على البحر المحيط في أقصى شمال الأندلس من جهة الغرب - وصل إليه موسى بن نصير أوائل الفتوح، وغزاه لعهدنا هذا الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر أدام الله ملكه. وأشهر مدائن هذا الإقليم مدينة شانت ياقو أو ياقوب ومعنى هذه الكلمة بلسان الإشبانيين يعقوب المقدس لأن ياقو في لغتهم يعقوب وشانت معناه المقدس، وذلك أن يعقوب الحواري زعموا أحد الاثني عشر وأخصهم كان بالسيد المسيح جعل يستقري الأرضين داعياً لمن فيها وما زال حتى انتهى إلى هذه القاصية ثم عاد أدراجه إلى أرض الشام فمات بها وله مائة وعشرون سنة شمسية فاحتمل أصحابه رمته فدفنون في هذا البلد وبنوا له كنيسة هي عندهم بمنزلة الكعبة عندنا فيها يحلفون وإليها يحجون من أقصى بلاد روما وما وراءها. ومن أقاليم الأندلس إقليم البشكنس وقشتالة ونبره وسردانية وألبه وقطالونية وأرغون وجميعها في شمال الأندلس خلف جبال وادي رامة التي تمتد بين مدينة قبره وبين مدينة سرقسطة وقد غزى المسلمون جميع هذه الأقاليم واستولوا على كثير من بلدانها كما سيمر بك في التاريخ. وهذه الأقاليم هي أردأ أقاليم الأندلس، فإن أرضها قفر يباب هدف للبرد القارس والرياح الهوج والمطر الثر - أرض صالحة للمرعى ولكنها في كثير من أنحائها لا تصلح للزرع، ومن هنا لم يحفل بها العرب وإنما كانوا يغزونها من حين إلى حين رغبة في كسر شرة أهليها ومرغمة لأنوفهم، وقد جادوا بها للبرابرة الذين يمتلكون أكثرها لعهدنا هذا أعتاباً لهم وتقية لشرورهم. ومن بلدان هذه الأقاليم ليون وبرغش وبنبلونة ووشقه وبربشتر واسترقة تطيلة وخلف هذه الأقاليم الشمالية للجنوب سائر بلاد الأندلس الحلوة الجميلة المريعة الكريمة

البقعة الطيبة التربة الخصبة الجناب، المنبجسة الأنهار الغزار والعيون العذاب التي جمع الله فيها الشآم بطيبها وهوائها، واليمن باعتدلها واستوائها، والهند بعطرها وذكائها والأهواز بعظم خراجها وجبايتها، والصين بكثرة معادنها ودفائن ترتبها. وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ومن هنا كانت كما أسلفنا مستبحرة العمران كثيرة المدن والقرى والحصون والقلاع حتى لقد أخبرتني ثبت ثقة أن بها ثمانين مدينة من القواعد الكبار وثلاثمائة ونيفاً من المتوسطة وأما القرى والحصون والقلاع والضياع فلا تحصى كثرة، ولقد قيل لي أن عديد القرى التي على نهر اشبيلية اثنا عشر ألف قرية. لاحت قراها بين خضرة أيكها ... كالدر بين زبرجد مكنون ولقد سلف لنا في الرسالة الثانية - وعنوانها من المرية إلى قرطبة - أنا كنا نجد في اليوم الواحد ثلاث مدن وأربعاً، وكنا لا نكاد نقطع فرسخين دون أن نرى الماء وحيثما سرنا نرى الحوانيت في الفلوات والصحارى والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والسمك وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة وهذا لعمري ما لا يكاد يوجد في صقع من معمور الأرض. وهذه الأندلس الجنوبية التي نحن بصدد من وصفها يمكن تقسيمها إلى وسط وشرق وغرب، فالوسط فيه عدة أمصار لكل منها أعمال ضخام، فمن هذه الأمصار قرطبة وطليطلة وجيان وغرناطة والمرية ومالقة - أما قرطبة فهي سيدة بلاد الأندلس - وقد وفينا القول عليها في الرسالة الثالثة من كتابنا حضارة العرب في الأندلس - ومن أعمالها استجة وهي مدينة جميلة على نهر شنيل لها من الرساتيق ما لا يحصى وقد زرتها فبهرتني قنطرتها العجينة المبنية من الصخر المنجور وقد رأيت فيها من البساتين والحدائق والأسواق العامرة والمتاجر القائمة ما أخذ يلبي وإليها ينسب محمد بن ليث الأستجي المتوفي سنة 328 - ومن أعمال قرطبة قبرة ويتبعها رساتيق ومدن كثيرة ومنها محمد بن يوسف بن سليمان الجهني تخذه أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر إماماً في قصره وولاه بعد ذلك قضاء قبره مات رحمه الله سنة 372 (انظر بقية الموضوعات الأدبية بعد عالم الحرب).

عالم العلم

عالم العلم ضؤولة العقل في الأجسام الكبيرة - تحليل علمي جديد قد تقع على صنف من الناس، ضخم البدن، متين الأعصاب موفور الصحة كان يظن فيه العقل الوافر ولكنك تعجب لسخفه ورعونته وضؤولة عقله، ثم تعجب أشد العجب لتناقض المثل السائر القائل (العقل السليم في الجسم السليم) بإزاء هذه المشاهدات، والحقيقة أن ضخام الجسم هم غالباً فقراء العقول، وقد كشف العلم عن خافية هذه المسألة، وحللها تحليلاً علمياً مقبولاً. يقول الدكتور مرسيير - وهو من أكبر الأطباء الثقاة في الأمراض العقلية - أن النقص العقلي ينشأ دائماً من وقوف نماء المخ بغتة، وهذا إما أن يكون راجعاً إلى استعداد طبيعي أو أن يكون أثر حادث خارجي، ولكي نظفر بعقول قوية يجب أن نعمل على تغذية الجسم تغذية كافية لكي لا يتلف المخ من الفقر البدني، ثم يجب أن نعمل تضطرد العناية بالجسم في كل أدوار العمر، فإذا انقطعت هذه العناية أجلاً معيناً فقد تمضي الحياة دون أن يرجع للمخ شيء من القوة، لأن اكتمال العقول هو نتيجة اكتمال المخ في سن معينة قد تختلف باختلاف الناس والأوساط والتربية والوراثة ولكن من المؤكد أن المخ إذا استكمل نموه واتخذ شكلاً ثابتاً وحجماً ووزناً ثابتين بدأ العقل يستكمل ثم تتسع حدوده باطراد العمر وتتم قواه. ونمو المخ محدود مهما بلغ من الكبر وذلك بخلاف الجسم إذ لا حد لنموه، وهذه هي المسألة التي حلها العلم (إذا كانت وسائل التغذية في بدء تكوين الجسم مقصورة على البدن وحده ظل المخ فقيراً في نموه، وإذا تحولت كلها إلى إمداد المخ نما الجسم نمواً ضعيفاً، وقد تجد إنساناً معتدل الجسم صغير العقل، وذلك لأن تغذية بدنه كانت قليلة وآخر كبير الجسم وصغير العقل أيضاً، وذلك لأن كل الغذاء تحول إلى بدنه فافتقر المخ وآخر معتدل البدن وعقله كبير وهذا كان لمخه كل وسائل التغذية الصالحة، فضخامة البدن فوق المعتاد إنما تجور على المخ. غرائب العمران لعل أغرب مملكة في العالم جمهورية جبل (أثوس) تلك الجمهورية الهادئة الساكنة التي لا

يزيد عدد سكانها عن ستة آلاف نفس كلهم رهبان من رعايا الكنيسة، وأغرب ما في أمر هؤلاء المعتزلة أنهم يقيمون حراساً على حدود مملكتهم حتى لا تخطو امرأة إلى أرضهم فتفسد عليهم طقوسهم وآدابهم وطهارة أنظمتهم، وأغرب من هذا كله أنهم يحرمون، على أنفسهم اقتناء الحيوانات الإناث وليس عندهم إلا الذكور من كل حيوان أو طير داجن. وعاصمة هذه المملكة الصغيرة قرية (كرياس) تبعد قليلاً عن مدينة سالونيك وفي العاصمة ينعقد برلمان الجمهورية وأعضاؤه أربعة وعشرون راهباً ينتخبون من بين الستة آلاف، ورئيس البرلمان راهب ينتخب كل أربع سنوات، وللرئيس أربعة وزراء من الرهبان يسيطرون معه على شؤون المملكة ويديرون الحكومة تحت إشراف البرلمان. ولم تكن الاضطرابات التي وقعت أخيراً في البلقان لتنتهي إلى هؤلاء المترهبين المنقطعين عن الإنسانية الصاخبة المزدحمة، وكل ما اتصل بهم أنهم خرجوا من سلطة الأتراك إلى سلطة اليونان. . . ولعل هذا المجتمع الغريب أبدع مثال للعصور الوسطى في هذا العصر. قوة العالم على تغيير العالم نحن لا نزال نئن تحت ثقل المدنية ولا نزال نتسخط ونرجو أن لا يطول للإنسانية هذا العمر المحزون المبدد المضيع - بلى. لم يستطع العلم إلى الآن أن يخفف من آلام الناس ولكن لا يجعلنا نيأس ولا يوقع في قلوبنا الشك في مستقبل النوع. ومهما يكن من نقص الإنسانية فإن العلم كفيل بأن يمشي بالناس إلى الكمال. لما اخترع أديسون - العالم الكهربائي الكبير - آلة الفوتوغراف تنبأ نبوءات علمية لم يصدقها الناس يومذاك ولكنه آخذ الآن في تحقيق نبوءاته وقد اخترع أخيراً (التليسكريب) وهو مخترع يجمع بين التلفون والفونوغراف في آلة واحدة، ومزية هذا الاكتشاف الحديث أن طرق المعاهدات والتوصيات التجارية وغير التجارية اللفظية الكلامية ستتغير وتتبدل فإن هذه الآلة ستقلل من أكاذيب الناس ووعودهم وعقودهم وعهودهم اللفظية الفارغة الباطلة، فإذا أراد تاجر أن يقاضي عملاءه المماطلين الكثيري الوعود استطاع ذلك بأن يجمع أحاديثهم التي دارت بينه وبينهم في هذا التليفون الفونوغرافي فيأخذها إلى المحكمة وهو رابح القضية لا محالة إذا كان الفونوغراف أصدق شاهد. هذا وقد تنبأ أديسون بأن العلم سيزيد خصوبة الأرض، وأن الناس سيستخدمون النيتروجين

في التسميد وسيولدون الكهرباء من الهواء لاستغلال الطبيعة استغلالاً نافعاً، فلم يمض زمن قليل حتى نحقق كل ما قال، فإن هذه الوسائل العلمية الآن مستعملة في بلاد السويد فهناك يزرعون على الطرق العلمية ويستغلون بالعلم. قال أديسون الآن صرنا بفضل العلم ذوي حواس خمس حقيقة، ولكنا سنتابع الارتقاء حتى نصير ذوي ثمان حواس! وهذه النبوءة ولا ريب محققة على مدى الأيام. أغرب علاج. . لو صح نرجو من قرائنا ومن الأطباء أن يجربوا العلاج الآتي ويكتبوا إلينا بنتائجه، لأنه لو صح لكان أغرب علاج عرف إلى الآن. . لقد استعصى الروماتيزم على الأطباء ولكن عالماً أميركياً قال أخيراً بعلاج جربه فصح، ذلك أنه تعاطي مقداراً من الجبير مذوباً في الماء، وإليك ما قال. كنت أشكو الروماتيزم وقد أيست من أشافي الأطباء فخطر لي يوماً أن أتناول ملعقة من الجبير مذوبة في قدح من الماء فوجدت الألم قد خف كثيراً، ثم كررت هذا الدواء فزالت عوارض الروماتيزم تماماً، ولما كنت أنقطع عن اتخاذ الجير كانت تعاودني بعض الآلام فكنت أعاود استعمال الجير. البيوت المتحركة لعلنا سنذلل سيئات المدن، ونقتل أخطار ازدحامها - نعم ونتغلب على الأمراض التي تتولد من الزحام وضخامة الأبنية في المدن الغاصة الكبيرة الآهلة، فقد توفق أحد الفرنسيين إلى ابتناء شكل من البيوت يتحرك ويدور حول نفسه فيستقبل الشمس أيا ما اتجهت فقد وجدوا أن أغلب أمراضنا تفتك بنا لأن النور والهواء لا يدخلان بيوتنا فهذا النوع الجديد سيكون كزهرة عباد الشمس يستقبلها في كل ناحية تتولى إليها. لماذا نعطس؟ هل من فائدة للعطاس؟ هذا هو السؤال الذي قد لا يجيب عليه كثيرون، لأنهم يجهلون التداوي بالعلاج الطبيعي، فالعطاس علاج للبرد فإن العطسة الواحدة ليست إلا هزة تعم الجسم كله ولا تقتصر على الأنف والرأس وحدهما، وفي أثر هذه الهزة ينبعث الدم بقوة في جميع شرايين البدن وبذلك تتغلب حرارة الهزة على تأثير البرد الدفين في أثناء الجسم،

ونحن لا نعطس بأنوفنا إذ كانت رجة العطس تبتدئ في داخل الجسم وتنتهي إلى الأنف فتخرج هذا الصوت العنيف، وإذا مللت العطس وأردت أن تنتهي منه فتنفس بقوة مرتين أو ثلاثة فيزول العطس.

شذرات عن الحرب

شذرات عن الحرب عشيقة بسمارك رجل الدم والحديد يعشق لا نريد أن نكتب عن بسمارك، رجل الدم والحديد - كما يسمونه - كرجل سياسي، عظيم الدهاء، مدهش التدبير، ولا كحكومي قوى السلطان، جبار العقل، بل جئنا لنكتب عنه من ناحية الجزء الروحاني فيه، من الناحية الإنسانية الحساسة التي تهزأ أبداً بحجج العقل، وتسخر من خشونة التفكير، ولا تستمع لقسوة العمل، هي عاطفة الحب - جئنا لنكتب عن بسمارك، ذلك الرجل الحديدي القاسي العملي كعاشق ذاقت روحه الخشنة لذة الحب، وليس في هذا شيء من العجب، فإن عاطفة الحب ليست إلا عاطفة روحانية عامة، لا حد لها ولا وسط ولا بيئة ولا صنف، هي تشمل الزنوج المتوحشين، كما تعم المتحضرين المتهذبين، وتنزل في القلب القاسي المغلق الأصم، كما تقع في الفؤاد المتفتح. وأول حادثة وقعت له في حب النساء كانت وهو في السادسة والعشرين، جندياً حار القلب، مضطرم الوجدان، وكان قد خرج إلى ميترباد، بلدة صغيرة في النمسا من بلدان الحمامات المعدنية المشهورة، ولعله كان في هذه السن مغرماً بالنساء، ميالاً إلى مغازلة الحسان، جناحاً إلى التقرب إلى ظبائهن، فلما نزل ميترباد، جعل يمشي متنزهاً في طرقاتها ودروبها ومتنزهاتها، يتبع الجميلات ببصره، ويملي على العين من وجوه المليحات حتى إذا كان ذات يوم، والعام 1841، وأنه ليخطر في إحدى طرق المدينة، إذ وقعت عيناه على فتاة رشيقة ذهبية الشعر أثيلة الخد ناعمة الوجنة، حلوة الوجه مبتسمته فما كادت تقع عليها عينه حتى وقع معها قلبه، ومنذ تلك الساعة وهو مهتاج النفس، مضطرب القلب، حتى تبعها يوماً، وعرف مقرها، ثم تعرف بعد إليها. وكانت الفتاة التي أسرت فؤاده تسمى جوزيفاً ابنة صاحب حمامات بلدة ميتر باد كلها، وغني من أوائل أغنياء مقاطعة التيرول بأسرها، وقد سره وقع موقع الغبطة منه أن اهتدى إلى أن الفتاة لم تكن تغضب من تقربه إليها، ولم تكن تشعر إلا بالإعجاب بمشرق وجهه الجميل ونجوي عينه العاشقة، فتشجع وجعل يلتقي بها كل يوم في ساعات معينة محدودة وقد بدأت الفتاة تلتهب حباً للفتى الغريب وبه إعجاباً.

ومضى أسبوع، ومر أسبوعان، وهما يلتقيان ويجتمعان على خفية من السيد هولزنر، والد الفتاة وصاحب الحمامات، حتى إذا بلغ الحب من بسمارك شدته، وأعجزه أن يصطبر لحرارته، عزم على أن يفاتح والدها في الزواج، ويسأله يد ابنته، ولكن الرجل لم يكن يعرف أن في أثواب هذا الضابط الفتى الشاب، تلك العظمة الهائلة المخيفة الرائعة التي كانت ستتجلى بعد حين في أكبر جلالها، وكانت ستغير وجه التاريخ الإنساني الحديث بأجمعه، بل لم يكن يدري أن هذا الشاب الذي لا يحمل إلا اسم أرثر بسمارك، اسماً صغيراً عادياً، سيضع بعد قليل من الزمن لقب (البرنس) إلى جانبه وسينادي به في التاريخ رجل الدم والحديد، فما كان من الرجل إلا أن قابل سؤاله بأشد ما يقابل من القحة والأنفة والاستنكار، بل راح يهجم عليه بالشتائم والسباب، ويسمى هذا الرجل العظيم الجبار وقحاً، ودعياً، ورقيعاً وصرح له بأنه يؤثر أن يرى ابنته ملحودة موؤدة، على أن يشهدها امرأة دعي مثله، وعبثاً حاول بسمارك أن يحتج ويغالب ويدافع عن نفسه، ولكن أبى الوالد القاسي إلا أن يصر على عزيمته وانتهى الحديث بينهما بأن أشار الوالد إلى الباب، يريد أن يطرده!!! وكذلك لم يكن يدري هذا الرجل أن في تلك الدقيقة التي أقفل فيها بابه وراء بسمارك، كانت هي الدقيقة نفسها التي فيه أغلق بيديه الشرفة التي كان سيطل منها على المستقبل الأبدي الخالد. . . كيف تكتم أسرار الحروب (اللورد كتشنر لا يأمن المتزوجين من الجند على أسرار الحرب!) لا ريب في أن للحكومات خلال زمن الحرب عدة من الأسرار الهامة الخطيرة يجب أن تحرص عليها كل الحرص، وتعمل جهدها على كتمها، ولذلك لا تني تضع الوسائل المختلفة والطرائق الكثيرة، والأساليب الغريبة في الاحتفاظ بها من الذيوع والسرقة والانتشار، ومن هذه الوسائل أن الكتابة في الدواوين المختصة بهذه الأسرار والرسائل والتقارير الهامة فيها لا تجفف بأوراق (النشاف) المعتادة بل قد استعاضوا عنها بآلات مجففة تتألف من اسطوانات متحركة مغطاة بورق من النشاف مبلل بالمداد، أسود الأديم، حتى لا يمكن أن تنطبع الألفاظ والسطور على أديمها، لو كانت بيضاء، وهم في أغلب

الأحيان يستعملون الورق النشاف الأسود بدلاً من الأبيض أو القرمزي، أما الرسائل البرقية الخطيرة فهم يستعملون في تطييرها رمزاً مفهوماً بينهم معروفاً. وقد كان من عادة اللورد كتشنر في الحروب التي حضرها أن لا يأمن على أسراره الخطيرة إلا الأعزاب غير المتزوجين، حتى أنه في السنوات العدة التي قضاها في السودان يعمل على مهاجمة المهدي والغلبة عليه لم يجعل في ديوان حربه وكتماء سره رجلاً منهم متزوجاً فإذا أراد أحد الجند الذين في خدمته وديوان حربه أن يتزوج أمر اللورد بنقله إلى مكان آخر، وذلك مخافة أن يعجز عن كتم الأسرار الحربية عن زوجته!.

مستقبل العالم

مستقبل العالم مقال للفيلسوف الألماني ماكس نوردو يتنبأ فيه عماذا عسى يكون مستقبل الأمم نشرناه على علاته دون نقد أو تعليق. على لوح الغيب وصحيفة المجهول أنقش بريشة الحدس والتخمين قصة المستقبل فإني كلما أرسلت الطرف في ذلك اللوح فألفيت فراغاً واسع الأنحاء صبوت إلى التكهن واهتز القلم في يدي وولعاً بأن يسطر في إحدى زوايا اللوح ما يوحي إليه التصور عن مستقبل العالم. سترى الأجيال القادمة حل مشكلة القومية إذ تختفي الأمم الصغيرة الضعيفة وأقصد باختفائها أنها تفقد لغاتها الخاصة وشخصياتها كما حدث لأمة الفندال في لوزاتيا وميكلنبرج ولأمة الكلت في ويلز وبريتاني وسكوتلاندة. فيما سلف وستنضم الشعوب المتجانسة لتؤلف أمة فردة كبرى كما فعلت جرمانيا العليا والدنيا وكما فعل سكان بروفانس والفرنس الشماليون وكما فعل السلاف تحت قيادة الروس وكما شرعت تفعل اسكاندنيفيا وسوف نرى طوائف المهاجرين من أبناء الأمم العظمى إما هالكين وأما بمعونة دولهم متغلبين على أهالي المستعمرات فسائدين ثم ملحقين ببلادهم ما أحرزوا وما كسبوا. وسينجم عن هذا التزاحم العام وعن هذا التواثب والتكالب تشوش بين الأمم يلبث حيناً ثم ينجلي عن أقوى الأمم - وهي بضع قلائل - كاملة البنيان محكمة العقدة. وهكذا ينقص عدد الممالك في أوروبا إلى أربع أو خمس ولكنها دول ضخام كل واحدة منها ربة بيتها وسيدة منزلها قد نبذت أو امتصت جميع العناصر الأجنبية والمكدرة فهي لا تمد الطرف إلى ما لاصقها من الدول إلا بإشرافه الصديق الملاطف أو الجار المحادث. أما الحكم في فناء ما سوف يفنى من الشعوب بعد المعركة الكبرى وفي تاء ما سوف يبقى فليس إلى البرلمانات مرجعه ولا إلى كفاءات الأفراد من ساسة ولا إلى تقصير أو بلاغة أو عجز أو كياسة من أحد قادة الأفكار وزعماء الرأي بل قوة الشعب الحيوية الفطرية البادية في شتى صورها ومظاهرها كشدة الأبدان وقوة التناسل والتفوق في ميادين القتال والسبق في مضامير العلوم والفنون والآداب والنعرة القومية والحمية العصبية. ولست ممن يرى أن كثرة عدد الأمة أو قلته نتيجة الاتفاق والصدفة بل أرى أن مجموع أفراد الأمة هو في عالم الحيوان أحد الخواص الجوهرية - أحد مميزات الأمة. فزوال أمة الكلت من كافة أنحاء بريطانيا العظمى. وقصور أمة اليونان عن مجاوزة بضعة ملايين من الأنفس. وبقاء الألبانييين والباسك

والمجر شعوباً صغيرة ليس له سبب سوى عجز هذه الشعوب عن بلوغ منزلة الأمم العظمى. لقد كان عدد الأمة الانكليزية في عهد الفرد إلا كبر مليونين من الأنفس ولعل سكان اسكاندينفيا في هذا العهد كانوا لا يتجاوزون هذا العدد. فاليوم قد بلغ سكان انكلترا أربعة وثلاثين مليوناً على حين أن جميع سكان اسكاندنيفيا لا يعدون ثمانية ملايين. ولا يمكن أن تكون الأحوال الجوية وطبيعية الأرض هي سبب هذا البون البعيد. بدليل أنه ليس هنالك فرق أساس في الجو والتربة بين انكلترا من جهة وبين الدنيمارك وجنوب النروج والأسويج من جهة أخرى. أضف إلى ذلك أن الانكليز لم يحصروا أنفسهم في جزيرتهم ولكنهم فاض فائضهم على وجه المعمور وعمر طوفان قوتهم الجم العديد من أرجاء الدنيا فاستعمروا من العالم أضخم جزئيه، وأجزل شطريه، وكذلك ليس إلى عوامل الجو والتربة مرجع هذه الحقيقة وهي أن في أوائل القرن التاسع كان عدد سكان فرنسا اثنين وعشرين مليوناً وهو الآن ثمانين وثلاثيون مليوناً إلى تسعة وأربعين مليوناً. فالفرنسيس أكرم تربة وأحسن جواً وأوسع متقلباً. ولكنهم قصروا مع ذلك عن مساواة الألمان في كثافة العدد. وعلى ذلك فمسألة العد راجعة إلى ظاهرة جوهرية وخاصة فسيولوجية متأصلة في الأمة من مبدأ أمرها وهذه الخاصة وأن أثرت فيها عوامل الدم الدخيل والأحوال المعاشية السيئة تأثير تبديل أو فساد إلا أنها تستعيدت مع صلاح الأحوال قوتها وتؤدي في النهاية إلى هذه النتيجة التاريخية المحتمة وهي أن إحدى الأمم تنتشر في مساحة فسيحة من الأرض وتزداد على ممر القرون عدة وعدة إلى أن تحكم القارات العظيمة بحذافيرها على حين أن قرائتها ولداتها في الصبا اللواتي لم تك تفضلين بادئ بدء يصبحن قد تبلدن وراءها ونكان ونيا ووهنا وفتوراً ثم لا يزال في تناقص وتضاؤل حتى يعدن خيالات لما كن من قبل أو يمتن فينقرضن البتة. وكذلك يؤول الأمر إلى قارة أوربية خلاف أوربا الحالية - قارة أوربية قد وفقت إلى التوازن الداخلي الصحيح، وشعوبها القليلة الباقية قد بلغت من القوة والوحدة والمساحة أقصى ما يستطاع بلوغه ببذل غاية مجهود قواها الحيوية. حينئذ ترى إحدى الدول الأوربية تحترم الأخرى وتعدها ظاهرها مخلدة من الظواهر الطبيعية التي لا يعروها تغير ولا تبدل فهي أبدية سرمدية. حينئذ نعد الحدود بين الممالك أشياء ثابتة كالحد بين اليابس

والماء. ولا يفكر روسي في غزو جرمانيا أو جرماني في دخول إيطاليا إلا إذا فكر عصفور في أن يعيش تحت الماء أو فكر حوت في الإقامة على رأس جبل، حينئذ تتوجه كل أمة إلى إصلاح شؤون معاشها وتحسين أحوال بقائها وإزالة كل عقبة تعترض في سبيل استرسال الفرد في جميع مناحي الرقي وبلوغه أقصى الغايات في كافة أغراض الحياة وتمنع من إدراك أسمى منازل الخير والسعادة للفرد والجماعة. ثم تتوسل أخيراً سواء بطريق الرقي السلمي التدريجي أو بالثورات العنيفة إلى أن تشيد من النظامات الحكومية والاجتماعية وتنشئ من نواميس المسائل والشوؤن المعاشية ما يعد في رأيها أو في رأي أغلبيتها أنه الأصلح. فالتوسع العظيم في استخدام قوى الطبيعة (الكهرباء والبخار والماء الخ) واختراع الآلات العجيبة يمكن الأمة من الاستغناء عن تسعة أعشار العمال المشتغلين الآن في المصانع فبفضل النظام الاجتماعي المؤسس على الشركات المسؤولة تتحول طوائف عما المصنوعات إلى طوائف لاستهلاك هذه المصنوعات أعني أن طوائف الصناع وأرباب المصانع الصغرى تخلو أيديهم من العمل بتعطل وظائفهم لمزاحمة الشركات إياهم فيصبحون هم الذين تعمل لهم المصنوعات ليستهلكوها بعد أن كانوا هم أرباب المعامل والعمال. وبناء على ذلك فإنهم يرجعون إلى المزارع والحقول ليستدروا بالفاس والمحراث أقوات الأمة من أخلاف الثري ويستمحنوا الطبيعة رزق اليوم فالغد والأمة في أثناء كل ذلك لا تزال ترقى وتكثر فتزدحم الناس وتكثف وتحتشد ويضيق مجال الفرد ويقل نصيبه من مساحة البلاد ويزداد معترك الحياة حرجاً وضنكاً ويشتد الكد والكدح فترتقي وسائل الزراعة وتربية الأنعام وتستحيل البلاقع القفار جنات ناضرة والأنهار والبحيرات صهاريج للسمك وتخرج الأرض من مكنون خيراتها ما لم يكن في الحسبان. ولا خطر في حلم وسنان. غير أنه كما قبل في الأمثال لكل سائلة قرار ولكل راكض غاية ولا بد أن تجيء ساعة يبلغ الفلاح منتهي مجهوده من الكد وتبلغ الأرض أقصى طاقتها من الجزاء والمكافأة وهنا تقوم مسألة التموين في وجه الأمة كشبح عفريت أو خيال جان - من أين يجلب القوت لأمة تكاثف على الإصلاح والرقي عددها وطالت بفضل تقدم العلوم والفنون أعمارها؟ كيف يرزق أولئك الجموع المحتشدة من صغار يحملون عنوان النجابة والفلاح وكبار يجودون بثمرة الفوز والنجاح؟

لقد أصبح من ضروب المحال أن تتعدى الأمة حدودها فتفيض في سلام على جاراتها وذلك لأن الحال واحدة جميع أوربا ومشكلة إحدى الأمم هي عين مشكلة جارتها. وكذلك استعمال القوة لا يجدي ولا يفيد. إذ أن المدنية تكون قد ارتفعت في جميع الأرجاء إلى مستوى واحد وقد تشابهت العادات والنظامات. والمواصلات السهلة الرخيصة الجمة قد عقدت بين الشعوب للألفة والصداقة ألف ألف آصرة وعروة. حتى لقد يعن من أكبر الجرائم مد الأيدي إلى الأملاك الأجنبية - بل هو فضلاً عما فيه من الإجرام يرى ضروباً من المخاطرة الحمقاء والمجازفة الخرقاء. وذلك لاشتمال كافة الدول الأوربية على عين الأسلحة الفتاكة المبيدة وعين أساليب الدفاع والقتال، فإذا اشتبكت أمة مع أخرى في ساحة الوغى لتسلبها جزأ من أرضها فمعنى هذا أن الأمة المذكورة إنما تقدم فضلة أبنائها جزراً لحد الحسام وطعمة الفوهة المدفع وقرباناً لإله الحرب، وفضلاً عن ذلك فلن يكون ثمة بين الشعوب عداوة جنسية لأن استواء الأمم في التفقه والتأدب ودوام تبادلهم الأفكار والآراء يريهم أنهم أفراد أسرة واحدة، فكما أن إحدى المقاطعات من فرنسا أو انكلترا لا يخطر ببالها أن تشن الغارة على إحدى جاراتها من المقاطعات لتطرد أهلها وتستولي على أرضهم كذلك لا يخطر قط ببال أمة أوربية في المستقبل أن تفعل مثل هذا بإحدى جاراتها. إذن فماذا يصنع لحل مشكلة التموين؟ هنا يتقدم إلى حل العضلة قانون معروف من قوانين الطبيعة، وذلك أن فضلة أهالي أوربا تفيض من القارة الأوربية في الاتجاه الذي هو أدنى مقاومة من غيره أعني تلقاء الأمم الملونة السوداء والصفراء والحمراء، وهؤلاء بحكم الضرورة يقضي عليهم بإخلاء أماكنهم للأمم البيض ثم يعقب ذلك اضمحلالهم فانقراضهم، فإن استواء طبقة الحضارة والمدنية الذي بفضله ترى الأمم الأوربية متشابهة متماثلة لن يوجد بين هؤلاء وبين الشعوب الملونة، فاستعمال القوة العديم الفائدة في أوربا يأتي بأجزل الفائدة وأسرعها في أراضي الأمم الحمراء والسوداء والصفراء، فينزل الأوربي بهذه الأقاليم في المنطقة المعتدلة التي هي أصلح المناطق له وأليقها به، ثم لا ينزل وراءها أبعد مما تضطره إليه الحاجة، فأول ما يستعمر أمريكا الشمالية واستراليا ثم جنوبي أمريكا وأفريقيا فيما يلي المنطقة الحارة، وبعد ذلك يستولي على ساحل بحر الروم الجنوبي وينفذ إلى الترب الكريمة من آسيا، فيحاول الأهالي المقاومة أولاً مثل يرون أن لا حيلة سوى

الهرب، فيتقهقرون أمام الجنس الأبيض آخذين ثأرهم من أرباب الأراضي الذين هم أضعف حولاً وأوهن صولاً، يلقونهم بمثل ما لقوا من البيض المستعمرين، إلا أن أوربا لا تزال تنتج في كل جيل فضلة من الخلق المهاجرين فيرتفع بسبب الفيض الجديد عباب الاستعمار في بحاره، وتسمو عقب اليسل الأخير غوارب ذاك الزاخر الخضم في تياره، فيندفع متدفقاً في الأقاليم الحارة من أقطار الأمم الملونة مقترباً من خط الاستواء، وكذلك لا تلبث هذه الأمم أن تهلك فتفنى، على أن اندفاع الرجل الأبيض بعامل الجوع إلى خوض أحشاء الأقاليم الحارة واصطلاء جمرة القيظ في بقاع خط الاستواء ونزوله تلعات منابع الكونغو وضفاف الأمازون والجانج وهلاك الرجل الأخير من همج تلك الأحراج والأدغال تحت وطأة الأبيض ربما لا يكون إلا بعد مضي آلاف من السنين على أنه مهما تأخر أمر لا بد منه. أفبعد ذلك تثبت الدنيا على حال لا تتغير؟ أيقف نمو الإنسانية وارتقاؤها؟ كلا إن تاريخ الدنيا دائم السير والحركة، وهو يجري متغلغلاً في ظلمات المجهول وغياهب الغيب، بل سيستمر الجنس الأبيض بعد وراثته الأرض واستئثاره بالدنيا على الرقي والنماء في أوطانه الأصلية بأوربا وفي المنطقة المعتدلة من سائر قارات الكرة، وسيتمادى في الازدياد والتكاثر ولا يزال يخرج له نسل يبتغي تحت ظل السماء مقيلاً، وفي مذاهب الأرض سبيلاً، وعلى خوان خيرات الله موضعاً، ولدى منهل اللذات مشرعاً ومكرعاً فعلى ممر العصور لا تزال تنشأ هنالك ضرورة الهجرة عن الأوطان وانسلاخ بعض الشعب والفروع عن أصولها، غير أن في هذا الحين لا يبقى على أديم الأرض شعوب منحطة يسهل اقتلاعها وإبادتها ويكون افناؤها غير مشفوع بالألم الحاد الذي لا بد أن يصحب اعتداء الرجل على أخ وصديق، فحيثما حللت من الأرض وجدت صوراً واحدة وأشكالاً واحدة، وفي كل بقعة لغات بعينها وآراء بعينها، وأخلاقاً متماثلة، وعادات متشاكلة، وفي كل مؤطئ قدم قام رجل من الأمم البيضاء فسجل على الثرى حق الملكية بأخاديد المحراث المشرفة وحفائر الفاس المقدسة فأين يذهب المهاجرون؟ وماذا تصنع المقادير بباقي السكان في أقدم مواطن الحضارة؟ أقول أنه لا يزال هنالك قانون فعال طبيعي يتقدم لتفريج هذه الغمة وتنفيس تلك الكربة، ذلك أن ذرية الجنس الأبيض التي نزلت عند خط الاستواء أو قرابه

يعروها الانحطاط في هذه الأصقاع الحارة فما هي إلا بعضة أجيال حتى تراهم أمة دنيئة ونوعاً سافلاً ينزلون من إخوانهم الساكني البقاع المعتدلة منزلة الزنجي أو الأحمر من الأبيض، وهذه حقيقة لا ريب فيها فإن أوفر الشعوب البيضاء رجولة وأعظمهم فروسية ينالهم الاضمحلال في البلاد الحارة في ظرف أجيال قليلة فإذا هم لم ينقرضوا البتة بعوامل العقم والمرض فإنهم على كل حال يصبحون من الضعف والبلادة والجبن والغباوة بحيث لا نخالهم إلا خيالات لآبائهم وأجدادهم، كذلك مآل أولئك الفاندال الأقوياء الجسام الذين غزوا قرطاجنة رجالاً ضخاماً فلم يك قرن أو زهاؤه حتى أخرجهم البيزانطيون الأدنياء من تلك الديار نعاجاً وأنعاماً. وهذه العملية بعينها تشاهد حتى اليوم في الأقاليم الحارة التي يستعمرها الجنس الأبيض، فلقد ذكر أحد الاختصاصيين أن عدد الزيجات التي وقعت بين ذكران وإناث من الجنس الأبيض في مستعمرة غينينا الفرنسية فيما بين 1859 و1882 هو أربعمائة وثمان عشرة فمئتان وخمس عشرة من هذه بقيت عقيمة، والمائتان والثلاثة الباقية أنتجت أربعمائة وثلاثة أطفال. ومن هذا النسل أربعة وعشرون ولدوا أمواتاً، ومائة وثلاثون وثمانية هلكوا فيما بين عامي 1861 و1882 على أعمار متفاوتة، وعلى ذلك فإن مائة وواحد وأربعين ولداً هم جميع ذرية طائفة أوربية من المتزوجين عددها ثمانمائة وستة وثلاثون في مدة ثلاثة وعشرين عاماً، وما أفسدها مع ذلك ذرية، وما أحطها سلالة، وماذا عسى أن تقول عن نسل قصار دمام ضعاف عجاف صغار الهام، ضئال الأجسام، خلا عدة غير ذلك من النقائص والمعايب، والمساب والمثالب. وهكذا نرى أن نازلي الأقاليم الحارة عرضة للانحطاط والتقهقر فلا يزالون يسلبون محامد السلف الصالح حتى لا يبقى لهم من آبائهم إلا لغة فاسدة وزهو بالنسب والمحتد فأمثال هؤلاء الضعاف الضئال لا يستوجبون من المهاجرين الأقوياء احتراماً ولا مودة ولا إنصافاً ولا رعياً لحرمة ولا وفاء لذمة. لذلك لا يلبث هؤلاء الأقوياء الذين قد ضاقت بهم أوطانهم وشحت أرزاقهم وأقواتهم أن ينقضوا على أولئك الأصاغر الأدنياء فيفنونهم ويقوموا مكانهم ليكافحوا من ذلك الجو عدواً

مبيناً. وهكذا تصبح المنطقة الحارة الاستوائية تشغل في تاريخ البشر عين الوظيفة التي تشغلها في الدورة الجوية، فكما أن مياه القطبين الباردة تنحدر تلقاء خط الاستواء وهنالك تتبخر ثم ترد إلى القطبين في هيئة بخار وسحاب، وكما أن هذا التبخر يحدث بالمنطقة الحارة هبوطاً في سطح الماء لابد أن يسد القبطان بسيول جديدة من مياههما الباردة، وكما أن مياه البحار لا تزال هكذا في حركة دائمة والأنواء والأمطار في سائر أنحاء العالم تدبر وتنظم وأقصى بلاد الأرض تمنح الخصب والبركة فكذلك ستفيض في المستقبل فضلات الأقاليم الباردة والمعتدلة إلى المنطقة الحارة وهنالك تهلك فتتبخر ثم يحل محلها السيل الدائم الفيضان. وهكذا سيكون خط الاستواء مرجلاً شنيعاً يذاب فيه لحم الإنسانية فيبخر، هكذا يقف أهل الأرض فضلة أبنائهم في حلق هذا الفرن المحتدم فيفسحون بذلك مجالاً لنموهم وسعيهم.

جوسلان

جوسلان أو صفحة من فلسفة الحياة ما كان الشاعر الذين يستعين بقوة خياله، ويستنزل وحي تصوره، لكي يلقي إليك بصورة مكبرة من عواطف الناس ووجداناتهم، ويطلع عليك بنماذج متخيلة مفتعلة من أخلاق العالم وغرائب طبائعهم، ليبلغ مبلغ الشاعر الذي لا تجد في ديوانه إلا ترجمة حياته، ولا تشتم من قصيده إلا رائحة حقيقته، ولا تقع على قطعة من شعره إلا كنت واقعاً على قطعة من روحه، ولا تقرأ جزاء من كتبه إلا كنت قارئاً جزءاً من تاريخه، وإنك لتتصفح قصائده فكأنما تتصفح أحداث حياتك، حتى لتشعر إذ ذاك أنك إنما تقرأ أفكارك وتشهد مشاعرك، وتحس ساعتذاك أن الشاعر إنما كان يكتب لك وحدك، أو كأنه كان يكتب عنك، وكأنما كنت تملي عليه خواطرك، وتعترف له بمكنونات عواطفك وأنت فلا تجد أمثال هذا الشاعر الصادق إلا قليلين، إذ كان أكثر شعراء الدنيا قوماً ثرثار مالقين كاذبين، يرسلون دواوينهم فلا يظهرون لك إلا أيدياً مرتعشة، وسوقاً مرتجفة، وعيوناً باكية، ووجوهاً كاسفة، وقلوباً دامية، وأنت بين ذلك لا تجد لكل هذه العوارض الشعرية أثراً في نفسك، ولا تحس لها لهيباً في عواطفك، وما أعجب إلا من أولئك الذين يقولون باستجازة الكذب للشعراء، فإن هؤلاء لا يريدون أن يفهموا معنى الجمال، وعندهم أن المرأة المتبذلة في مساحيقها وأدهانها، وكواذب حليها وخوادع يواقيتها تقع من نفوسهم موقع الحسناء الخفرة في أبسط أثوابها وحقائق تقاطيعها، وهؤلاء لا يضيرهم أن يدخل عليهم الشاعر بأكاذيب الحياة كلها، ما دامت في ثوب جميل، وظهارة حلوة، وصيغة مقبولة. ومن بين شعراء العالم الصادقين المخلصين يقف الشاعر لامارتين فقد وضع كل روحه في أشعاره، واعتصر قلبه فألقى بخلاصته في كتبه وديوانه، فلا تقرأ له من رواية، ولا تستمع له من شعر إلا وجدت قلبه يطفر في خلال سطوره وأجزائه، هذه رواية روفائيل وهذه رواية جرازييلا وهذا كتاب الاعترافات، وهذه قصائده جميعاً وأبياته، لا تحتوي غير وقائع حياته ووصف عواطفه وآلامه ومباهجه وأحزانه، فهي من هذه الناحية كتاب الحياة البشرية كلها، وخلاصة ترجمة عواطف الجنس البشري بأجمعه، إذ كان البحث في تاريخ إنسان

واحد، كما يقول الشاعر بوب هو البحث في تاريخ النوع الإنساني كله. ونحن نعرب له منذ هذا العدد - بعد أن نقلنا في الأعداد الماضية ثلاث قصائد من أبدع قصائده - رواية جوسلان، وهي قصة شعرية مستفيضة، تجيش بكل معاني الحياة وفلسفتها، وتصف في أبلغ وصف ضؤولة الإنسان وحقارته، إزاء عظمة الأقدار الإلهية وقوتها، وكان الشاعر قد بدأ ينظمها منذ شبيبته، ولم يفرغ منها إلا في أيام كهولته، كان ينظم القطعة منها إذا التهبت فيه حرارة الشعر، ثم يتركها فلا يعاودها إلا في عاصفة أخرى من عواصف شاعريته، وليست رواية (جوسلان) هذه من المخترعات الشعرية ولا من نسيج الخيال، وإنما هي قصة واقعية استمدها الشاعر من تاريخ أسرته، وقد وقعت حوادثها في خلال الثورة الفرنسية، وكان لامارتين ولد قبل نشوب تلك المجزرة بثلاثة أعوام، أما جوسلان بطل الرواية، فهو قسيس من أهل الريف، وقد استمد الشاعر وصف خلق الرجل من قسيس صديق له، يدعي الأب ديمونت، كان من أهل بلدة ميلي، مسقط رأسه، وقد حشد فيها الشاعر كثيراً من ذكرياتها الشخصية، وحوادث حياته، وعواطف قلبه، وعدة من آرائه الفلسفية ومبادئه. وقد قسم الرواية إلى تسعة أعصر ومقدمة وخاتمة، وجعلها مذكرات كتبها القسيس جوسلان في أيام حياته، ثم وجدت بعد مماته، وسنقتصر في هذا العدد على تعريب المقدمة والعصر الأول، ذاهبين في التعريب إلى شيء من التصرف، وسنوالي تعريب كل عصر منها في كل عدد من الأعداد القادمة حتى تكون قطعة كل عدد منها كأنها موضوع مستقل. المقدمة كنت صديقه الوحيد في هذا العالم بعد شائه وغنمه. . فغدوت إليه كعادتي في الكنيسة سعياً على القدم. . أسير صاعداً في طريق ضيقة، أحمل بندقيتي فور منكبي وأقبض في كفي على مقود كلبي، أتسنم متعباً تلك الروابي المشتبكة المتناوحة المتقابلة، مفكراً في تلك البهجة الحلوة التي سأنعم بها عند المغيب، إذ أطرق بابه، وأرقى درج سلمه، وإذ أجلس إلى ناحية من موقدته المشتعلة المتوهجة، وإذ أشهد الغطاء الأبيض الناصع قد أمتع فوق خوانه، وأرى المائدة قد صفت فوقها ألوان الخضر والفاكهة، متأملاً مجلسنا ونحن نتحدث تحت جنح الليل ونسمر، وكأنني أسمع صوته الحنون الرقيق، وجرسه الخفاق الناعم،

وأحس كأن قلبه يشير إلى بالتحية، فإن اليد تعين القلب، إذا لم يتكلم اللسان، وعزت الألفاظ والعبارة. فلما بلغت الرابية التي تشرف على ذؤابة بيته، ألقيت بندقيتي فوق صخرة هنالك غيراء، ووقفت أمسح العرق عن جبيني المبلل الذابل، ثم أرسلت الطرف في ذلك الموضع المنبسط الفسيح، فاندهشت إذا لم ألمح بين أشجار البستان وسرحاته قباءه إلا فحم الأسود، وكنت أعرف أنها الساعة المقدسة عنده، إذ يجلس وحيداً منفرداً في ظلال المغيب يقرأ في كتاب صلواته، وازداد دهشي إذ لم أبصر كعادتي ذوائب دخان ناره تصعد من قمة داره وما أخذ عيني من منزله إلا نافذة دون ضياء الشمس مغلقة، وطيف حزن عميق، وظل كآبة واجمة، فمرت فوق صفحة قلبي رعدة مؤلمة، كما ترتعد صفحة الجدول المتدفق الفضفاض ولكني لم أشأ أن أدع سبيلاً إلى رعبي، بل انطلقت في طريقي، موسع الخطي مسرعاً. وراحت عيني تبحث عمن تسأله وتستفسر، فلم تر في تلك الحقول المقفرة الصامتة أحداً، لا إلا نعام ولا راعيها، ولم يقع في مسمعي عن كثب إلا صيحة الصراصير، وكنت من قبل أشرف على ضوضاء عظيمة وأصوات جهيرة عالية. . . وهبطت فطرقت الباب. . ولكن لم أسمع جواباً. . حتى كلب الحارس لم يأت على وقع أقدامي ودقاتي علوياً كما كان يفعل نابحاً، فضغطت على القفل بيد قوية غليظة مسرعة، ودخلت الفناء فإذا الدار ساكنة مقفرة،. . كلا، واأسفاه، بل أبصرت عند نهاية السلم المفضية من الفناء إلى صميم الدار، شبحاً أسود جالساً هناك كما يجلس السائل المسكين عند عتبة المعبد، لا يعير حركة، ولا يرفع طرفاً، قد دفن جبينه بين ركبتيه، وأخفى وجهه في وقاء ثوبه لا يخرج أنة لوا عولة ولا رنيناً، بل مشتملاً في ثياب سوداء متجهمة، وهنا قام في نفسي جلال الموت عند رؤيتي هذه الشارة الصامتة الخرساء، فدانيته وإذا بي أرى خادمة صديقي الشيخ تبكي مستعبرة قلت أحقاً ما تقولين يا مارتا، فنهضت على صوتي تمسح عينيها بأطرف أناملها، ثم أجابت نعم، هو الحق يا سيدي، هلا صعدت إليه فأنت مستطيع الساعة أن تراه، وأنا لدافنوه غدا عند مطلع الفجر، إن روحه الحزينة ستروح إلى ربها في هدوء وبهجة إذا أنت ودعتها الآن بآخر ضراعاتك لها وابتهالاتك، ولشد ما تكلم عنك في ساعة احتضاره، وكثر ما ذكرك، وجعل يقول لي، أي مارتا، إذا كان الله أراد أن يتوفاني إليه إذن فانبئيه عني أن

صديقه قد ترك له كل متاعه، ليرعاك أن وطيوري وأنعامي وكلبي متاعه. .!. . يا الله. . . وهل كان أكبر فخره إلا أن يبذل كل متاعه، وأن لا يبقي على رفوف خزانته طعاماً ولا رزقاً. . ولقد كانت عنده فضلة من المال فصرفها درهماً بعد درهم في مطعمه وشرابه، وفي وجوه خير وإحسان يعرف الله خبرها. . ومنذ تعثر في علته الكبرى وهو ينفق كل ماله على الناس وحياته يا سيدي وروحه. . وها هو قد ظفر آخر أمره بالموت. . فقلت في أثرها. . . نعم. . . وبالسماء!. وصعدت سلم البيت وكانت الحجرة مقفرة خالية مظلمة، وليس فيها إلا شمعتان ضئيلتان، وقد ازدحمت فوق جبين الميت أشعتهما الرهيبة المحزنة وضياء المساء المتورد الذهبي وهو ينفذ من خلال تضاعيف النافذة، وكأنما يتقاتل عليها في عذاب الموت البريء الطاهر، نور الأمل الخالد وظلمة ليل الحياة الفانية. . . وعثر صديق جوسلان على هدى خادمته مارتا في مخزن الكنيسة ببقايا مذكرات كتبها بقلمه القسيس الراحل، فنظمها ورتبها في الصفحات الآتية، وإن كان يتخللها صفحات بيضاء ضائعة. العصر الأول جوسلان الآن في السادسة عشر، وقد أحس في أعماق نفسه ببوادر الحب وطلائعه. . ولكنه لم يلبث أن علم أن أخته ستضطر إلى الامتناع عن الزواج ممن تحب لأن نصيبها من ميراث أبويها لم يكن ليكفل لها مهراً طيباً مقبولاً، وقد اهتاجت هذه الفكرة روح جوسلان، وكبرت في عينه فأجمع على تضحية نفسه ونصيبه من مال أبيه في سبيل هناء أخته. . . 18 مايو سنة 1786 هذا ما قلته اليوم لوالدتي - أماه. . إني أحس كأن الله يدعوني إليه ويستقدمني. . . أن التقوى العظيمة والإيمان الحي العميق، والظمأ الطاهر المقدس، إلى مناعم العالم الأقوم الأبقى، وهي التي اغتذيت منك طفلاً، أدرج في حجرك، وأرتع عند ركبتيك، قد بدأت يا أماه تخرج اليوم ثمرها، وإن كان ثمراً مريراً يا والدتي في فمك. . مريراً لشبيبتي

وصبابتي، ولكن ما أعذبه على الروح، وما أسوغه وأبرده. . . أن ظل المعابد يستهويني إليه ويجتذبني، أريد أن أقف لله، وأنا في طراوة العمر، أيامي الآتية الذاهبة الفانية، كما توقف الآنية المطهرة لحياض المذبح، ليس في هذا العالم الأرضي ما يخدعني، وليس في الأرض ما يغريني، إني لا أريد أن أضرب خبائي في هذا الريح الأهوج الفاسد، ولا أريد أن ألطخ قدمي في مناكب الأرض وسيلها، حيث ترتطم القطعان الإنسانية وتنحدر. . . بل أني أؤثر يا أماه أن أنحرف عن منافذ هذه الدنيا فأتبع إذا أسفر الصبح طريقي الساكن الجبلي الموحش القفر، أوثر أن أجلس إلى ظلال جدران الهيكل، وأفياء أبنية المعبد، وأن أخلص بنفسي منذ شبابي الناضر إلى حضرة الله وقربه. . . إني أحس أنني لم أخلق لزحمة هذه الحياة وصراعها، حيث الناس يصرخون على مطالب العيش ويصطخبون ويتقاتلون. . إني أحمل روحاً لا نستطيع أن تقف هنيهة في ساحة هذه الحرب المتوحشة المخيفة، نفساً مفعمة بالحنان، وقلباً لا يدفع إلا نفساً صاعداً راجعاً، إني ولا ريب سأخرج من هذه الحرب قتيلاً، إن رفيقاً رحيماً، وإن متكبراً مزهواً عزيزاً، من النصر أن فائزاً منصوراً، ومن الهزيمة أن منهزماً مدحوراً. . أن العالم يا أماه ليس إلا مقامرة، وليست الحياة إلا مادة هذه المقامرة ولعبتها، وما أنا مستطيع أن أضع شيئاً فوق مائدتها ما أثقل عبء الحياة. . وما أشق رحلتها، وما أغلظ سفرتها وشقتها. . فخير لنا أن نقطعها مخفين من المتاع. . من الأحمال والأوزار، من الهموم والأطماع، ومن روابط الحب، وأواصر الحياة المتفككة الرثيثة الواهنة، من الأولاد والأعقاب، ومن المصائب والويلات والأحزان. . وإذن فأية طريق إلى وجه الله نأخذ، وأية سبيل إلى سمائه نصعد، فنحن إليه يومذاك أقرب وأسبق وإذا نحن توسدنا فراش التراب، واضطجعنا في أحضان القبر، فلا هم يجري في أثرنا، ولا عبرة تراق عند رحيلنا، أواه. . . لا ترفضي يا أماه أنشدك الله توسلاتي، ولا تمنعيني آمالي وأمنياتي، فأنت يوماً، لو تبصرت، مزهوة بتلك اللفظة التي تبدو لك اليوم وداعاً محزناً، وفراقاً شجياً مبكياً، وماذا أنت ترجين من الخير للطفل الذي يتضرع إليك الآن ويبتهل، إلا أن يكون السلام في الأرض مرتعه، والسموات العلي موطنه ومرجعه. . يا للرحمن. . حقير اسم المتعبد. . . وضيع لقب المتزهد!. . . أواه. . . لا تخجلي أماه منه ولا تأنفي فليس في الأرض أنبل منه اسماً، ولا أعز لقباً، إن الله الذي

خلقنا وصورنا عرف وحده سر الحياة، ومعنى الأرض، فقسم الحظوظ بين أطفالها وأولادها فخص قوماً منهم بالتربة الخصبة يحرثونها ويفلحونها، وبالحقول يزرعونها ويبذرونها، وآخرين منهم بالبنين يحبون ويعزون، والنساء يعشقون ويتصبون، وهؤلاء وهؤلاء باللذة العاجلة المسرعة يحتسون ويرتشفون، وقوماً غيرهم بالضوضاء العظيمة إذ يخطون فوق الأرض ويخطرون ولكنه قال للقلوب المؤمنة الصابرة المتعذبة لا تأخذي من متاع العاجلة شيئاً فستنعمين غداً منه وتبتهجين. . . نعم يا أماه، إن الرجل المؤمن المتعبد هو الآنية المقدسة الموقوفة للقبة المشرفة العالية، لا تفسد ماءها خمرة الناس، ولا تقتل نميرها العذاب لذاذاتهم، أنه في صمته إزاء ضوضاء الأحياء كقيثارة المعبد إزاء كل المعارف والمصادح والأعواد. . لا تسمع صوته العميق المنفرد الخفاق يمتزج خارج المعبد بأشتات أصوات الأرض المبددة، وضوضائها العقيمة الضائعة. . أنه ليرسل وهو في هدأة المعبد صوته العظيم المتدفق المتموج، يحمل إلى عرش الله ترنيمة الطبيعة وأنشودة الإنسانية. ولكن لعلك قائلة يا والدتي. . أنه يعيش وحيداً معتزلاً منئبذاً. . أن روحه لن تلتهب يوماً بحرارة الحب، ولن تتقد بلهيب المرأة، ولذلك ستذبل في هذه العزلة وتجف وستضق في الوحدة وتضؤل. . أنه لا يشعر بنعمة الأسرة، وبهجة حياة البيت، وسيقسو لذلك قلبه وييبس. . ولكن قولي أنه يجد في الناس بيته وأسرته، وسيجعل له من محاويج الأرض وفقرائها أما وامرأة وطفلاً. . أنزل الله على قلبه عطفه العظيم فأصبح كل من يرى يتألم، وكل من يرى يبكي ويتعذب، صديقاً له وصاحباً وعشيراً إذن فلا تخافي يا أماه ولا تظني أن حبي لك سيزول أو يفنى، فإن الله الذي أحب ليس رباً حاسداً غيوراً، وأن العهد الذي عاهدته سيقربني من جنابه ويدنيني. . ولكن لن يبعدني عن قلبك ولن يقصيني،. . . إذن فلا تمسكي شفتيك عني، ولا تنظري إلى نظرة حزن ويأس، ولكن قولي يا أماه. . لقد حقت عليك رغبة الله! قولي يا أماه ما قالت سارة لربها. . ثم باركيني!. . . 26 مايو سنة 1786 وبكت سبعة أيام، كما بكت في الجبال ابنة يفتاح وفي أثرها صويحباتها الفتيات والأبكار، وإذ هي تسأل الله أن يمهلها ليالي وأياماً تبكي فيها ربيع الشباب، ونضارة الجمال الوديع الجميل، ثم تذهب بنفسها فتقدم عنقها إلى المذبح، وكذلك بكت والدتي ثم قالت ليكن يا بني

ما تشاء. . . . .!. ومضت أيام فزفت أخت جوسلان إلى خطيبها، وفارق الشاب الدار ليدخل الدير. . . .

الانحطاط

الانحطاط مقال مستفيض حار مؤثر تضطرم جوانبه اضطراماً كأنه نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. . . . لكاتب مصري كبير لم يشأ أن يذكر اسمه، ألم فيه بجميع ضروب الانحطاط المستبد بأخلاقنا وآدابنا وجميع معاني الحياة اليومية التي هي قوام الأمم وسياجها والتي ينهد بناؤها ويتقوض دون الاحتفاظ بها والتفوق فيها، ونحن فأنا نعتقد صدق ما جاء في هذه الكلمة من الحقائق، وكل ما يؤخذ على الكاتب أنه صرح بالحقيقية التي قلما يجرأ كاتب عندنا أن يصدع بها وإذا اجترأ كاتب على ذلك في الندرة أصاب من القراء سخطاً عظيماً وعدوه كأنه اقترف جرماً كبيراً. ليس في أحط شعوب الإنسانية الموحشة الضئيلة الإحساس من عوارض دناءة الحياة وبلادة الذهن والوجدان ما في هذا الجيل المجرم، المتحدر إلى الموت، المتطلب للفناء، هذا القطيع المتشتت المتقاطع الذي لا نخجل من أن ندعوه بالأمة، ونناديه في العرف بالشعب. وليس يه من مدلول كلمة الأمة إلا ضرب قاس من التهكم، ومعنى مر من السخرية. نحن نعيش في أكبر مظاهر المدنية، وننعم بأبدع مستخرجات الحضارة، ونتمتع بآخر ما وصل إليه ابتكار العقل الحي من وسائل الترف، ولكنا إذا استقصينا روح الحياة نفسها وجدنا أنا إنما نعيش في أكثف أحراش القارة المظلمة، وتتقاتل على الطعام بأشد مما يتقاتل عليه الزنج وأشباه الزنج من الحيوانات الدنيئة، ولقد ساد الانحطاط في حياتنا فلم يترك ناحية منها إلا استبد بها فنحن واجدوه في الأسرة والمدرسة وفي الحياة العملية وفي أساليب التهذيب وفي كل ما تمتد إليه أيدينا، وكذلك نعيش عيشة متكلفة خداعة دنيئة، بل لقد اكتسبنا من تسويد الانحطاط عدة من الطبائع الغريبة التي أبادت ضروباً من الأنواع الحيوانية الأولى، ونحن مهما احتلنا لمخادعة الطبيعة القاسية التي لا تشفق على كل عنصر غير صالح للأرض، ومهما موهنا ورأينا وارتدينا شمائل الأحياء وظهرنا في مظهرهم فإن معاني الانحطاط والتقهقر تعمل ولا ريب في صمت، وتقذف بنا إلى هوة العدم والفناء، وليس ثم من شيء أعجب من خصائص الأوساط المتقهقرة والبيئات المنحطة، إذ كنا نحصن أنفسنا بكل وسائل اللؤم والجبن، والجمود من أن يدخل على حياتنا الضعيفة دليل من دلائل الإصلاح والانتعاش والقوة، لأنا نخشى أن نفيق من لذة الانحطاط وتخديره وبهجته، ولذلك لا نفتأ نقاتل النهوض، ونحشد قوانا لمحاربة المفكر، ونبتكر أحط أساليب اللؤم لتأييد التأخر

والتراجع والفساد، وأصبحنا لا نستطيع نرى دلائل الحياة القوية الناهضة تقترب منا أو تدنو من أنظمتنا وآدابنا وآرائنا ومبادئنا، ولا شك في أن مؤرخي الأجيال القادمة سيحارون في إيجاد اسم جديد لهذا الانحطاط المدهش المخيف. وبعد فإنا آخذون في شروح مستفيضة نتناول فيها بعض فروع هذا الانحطاط، ونصدع بالحكم الأخير على هذا الجيل المتراجع المتقهقر، وكذلك أبى التاريخ إلا أن يسجل العار على هذا الشعب المسكين، ويعطي لأبنائنا صورة تامة لأبنائهم، وكذلك يشيع هذا الجيل إلى المقبرة. . . ويدرجه في صمت وحزن وألم. . . . 1 - انحطاط الآداب إن أكبر مقياس تقاس به روح الأمة وعقليتها ومبلغ ما يجري فيها من دلائل الحياة والإحساس هي مجموعة الآداب التي تتجلى في تواليفها وندواتها وصحفها وكل وجوه تفكيرها، وما كانت دراسة الآداب التي نعيش في أمة من الأمم إلا دراسة لحالتها الاجتماعية، هي بحث مستفيض في مقدار عقليتها وحيويتها، وليس الشاعر والكاتب والمفكر والخطيب إلا النبض الخفاق الذي تستطيع أن تلتمس فيه شعور الأمة أو خمودها، وليست قصيدة الشاعر إلا مظهراً من أكبر مظاهر الحياة للوسط الذي خرجت فيه، ولهذا كان التطور في الآداب هو في ذاته أكبر تطور في الاجتماع وكان العمل على النهوض بالآداب هو العمل على النهوض بالحياة، إذ كانت الحياة الإنسانية المتحضرة تعيش على الفكر أكثر مما تعيش على الخبز، وفي تهذيب الفكر تهذيب لأساليب العيش، وليس هناك أجدى على الأمة المتأخرة المتقهقرة من العمل على تغيير قيمة آدابها، لأن الآداب يجب أن تتجدد كالأزياء، يجب أن يقتل القوى منها الضعيف، ويخنق الصالح منها الفاسد، وليس في الحرب الخفية الناشبة بين الأدباء وأهل الفنون إلا أكبر عامل على تنقية الآداب ورقيها، لأن ما يجري على الناس من التنازع على الحياة يجري على آدابهم من التنازع للسمو والانتصار. وأنت فلا تجد وسطاً من الأوساط ينحدر ويتقهقر إلا إذا قذف بالآداب - وهي خلاصة الماضي وروح الحاضر ومبلغ ما أخذ الناس من العقل والإحساس بالحياة - إلى هوة الغفلة والتهاون والاحتقار، وليس الفارق الأكبر بين المتحضرين وبين الذين يعيشون في طفولة

الحياة إلا الجزء التفكيري في حياة المتحضرين، إذ كان المتحضر يعيش بروحه أكثر من معدته. وكان المتبربر رجلاً لا يضيره أن يغالب الحيوانات كلها على رزقها، وأن يفوتها في صلابة التركيب، ووحشية البدن، ولا يفوته أن يدخل في صف الفصيلة القوية الضخمة منها، وما كانت الأمة التي لا آداب لها إلا خليطاً من الأنعام يعيش في غفلة وذهول، ويمشي إلى العدم والانقراض. ومن ثم فهل يكون الاقتراح الذي جاء أخيراً في شأن الآداب وأنصاف أهلها دليل حياة قوية تختلج في جسم هذا الوسط الخامد النائم. الذي جعل من الكتاب والآداب وكل ما يتعلق بأسباب التفكير شارة خجل ومعنى تافهاً ضئيلاً. . أترانا واجدين بعد هذا الركود الطويل والجمود القاتل أن العقل انتصر على الحماقات. وأن روح التطور والرقي غالبت قوة الانحطاط الذي ركمته فوقنا الأجيال المستطيلة المتلاحقة وأيدته العادات الحمقاء الفاسدة. نحن قد قتلنا النبوغ وقضينا على فضيلة التفوق. . تلك هي خلاصة السلسلة الطويلة التي تلحقنا بالماضي وتربطنا به. . . حلقة متراخية من الآباء والأجداد. متلاشية فإنه ليس لها من الشأن إلا أن نذكره نحن ثم نصمت. . . وكذلك نؤرخ من أعمارنا طائفة من القرون مرت خرساء صامتة. والآن. . . هل نعيش، وهل لنا سمات الأحياء ودلائل الوجود، وهل تجيش فينا حرارة الحياة وقوتها وأطماعها وكبرياؤها. . . لقد تعاقب علينا خمسون عاماً ونحن نعمل أعمال المتحضرين، ونطبع أنفسنا على غرارهم، لنا صحافة وأدب ومدرسة ومعهد، ونشأ فينا أديب، وراح منا أديب، وقام كاتب وتولى كاتب، ولكن أين نحن من حياة النهوض والسمو والقوة، بل لقد قتلنا النبوغ، وطبعتنا الحياة المتقهقرة بغرائز المتقهقرين الكامنة في أعصابنا، فقد شئنا إلا أن يكون لنا مظهر الجماعات العاملة المتمدنة، ولم نكن ندري بأننا نستر لؤم الطبيعة المتكسبة البلهاء وراء أنظمة وطقوس كاذبة. . . أردية من الزور والتمويه والباطل نسميها آداباً، وما كنا لنخجل من أن نجعل من الأديب والكاتب ما يجعل الزنج من الكهنة والسحرة والعزامين، كنا ولا نزال نتطلب رقياً أدبياً ثم لا نفتأ نقتل في الأدباء كل فضيلة طيبة، فنرسلهم شرداً ونطاردهم ونعسفهم، ونريدهم على اللؤم، وكذلك أنشأنا من المفكرين والأدباء طائفة من

المسترزقة، وكذلك عشنا بمعد المتمدنين وعقول البرابرة. ثم هم يريدون الآن أن يعمدوا إلى المدرسة ليتخذوا من التلاميذ وطلاب النجح زعماء تفكير وآداب عقلية راقية، وكأنهم لم يعملوا أن المدرسة قل ما تخرج رجلاً واحداً متفوقاً في صناعة من الصناعات، نعم بذلك ستكثر المدارس من عداد المتعلمين والناجحين في الحياة، ولكنها لا تعمل مطلقاً لتهذيب الفنون وخلق النبوغ، أو ليس تطلبنا من المدارس نوابغ الأدباء والكتاب إلا كتطلب الأمم من حكوماتها نوابغ السياسيين ومهرة القواد والحاكمين، في حين أن أرقى الحكومات لا تستطيع أن تخلق سياسياً عظيماً واحداً، وأن الحكومات كلها ليست إلا عمل أفراد نوابغ، هم منحة الطبيعة، وخلاصة التقدم الذي لا ينهض على الأنظمة المشترعة الموضوعة، ولكنه نتاج عقليات كبيرة، وأذهان مفكرة، وإرادات عاملة، ومبادئ قوية، وهل كانت المدارس إلا حظائر مهذبة لتربية النوع الإنساني، وإعداده لأن يعيش ويفتن في أساليب المعيشة، ثم تجود الطبيعة لا المدرسة بفرد واحد فيغير على كل وجوه التهذيب في الأمة فيمسخها. . أن النابغة أكبر من الأمة كلها. . . أكبر من القرون والشرائع والمبادئ والمدارس. . . هو الخلود. أنريد أن نتطلب العظمة التاريخية من بين تلك الجدران التي يسمونها المدارس، وفي الأمة ذلك الوسط الفسيح الكبير نوابغ تقتلهم غباوة الشرائع وجهل القوانين وغفلة الأمة وتجعلهم دواعي الرزق ومطالب الكسب مغمورين مضيعين، ثم لا نظفر من وراء كل هذه المجهودات المتكلفة العمياء إلا خسارة التاريخ نفسه، يقولون أن الطبيعة ضنانة علينا بالنوابغ ولكن لمّ لا يقولون أن معاملتنا للنوابغ هي نفسها تعجيز للطبيعة واستئصال للنبوغ. . إننا نرتقب ظهور الرجل الذي قد يكون مظنة الخير فلا نزال نغري به حتى نلحقه في زمرة العدادين والحاسبين ونسجل اسمه بين القعدة والمتكسبين، وكذلك في خمسين عاماً لم نستطع أن نظفر برجل فاضل كبير، لأن مبادئنا لم تكن على شيء من الفضل، ولم تكن فيها قوة السمو وفضيلة العظمة. . .

حوادث البلد

حوادث البلد الوزير الجديد إن مقاعد الوزارات كالمقاييس الزئبقية، تجري مع أحوال الجو. وتتقلب بتقلباته وتهبط أو ترتفع مع هابطات درجاته ومرتفعاتها، فقد يطلع اليوم عليها بجو ساج هادئ ولكن لا يكاد يغيب اليوم حتى يقصفها من السياسة عاصفة هوجاء قاسية، ولذلك كان المقتعدون مقاعد الوزارة كالجالسين فوق كراسي المصاعد الكهربائية ليس أسرع من حركات صعودها وهبوطها، فقد كان الشهر الماضي شهر الاستقالات الوزارية، فاستقال فنزيلوس - أو كما يسمونه جراي الثاني في اليونان، واستقالت الوزارة في إيطاليا، وأوشكت الوزارة أن تستقيل في انجلترا، وبوغتت الأمة المصرية باستقالة وزير من وزرائها. . . هذا وقد وقعت خيرة الحكومة المصرية لمقعد وزارة الأوقاف على حكومي كبير عرفه الشعب في جميع الوظائف التي أسندت إليه، رجل حاد لروح، حي الوجدان صريح الكلمة، يجري في جميع عمله على مبدأ احترام النفس، والإخلاص إلى العمل والعمل في صمت وهيبة وسكون، ويستمد من الروح الجندية التي فيه روح النظام المتين التام المتماسك، وروح القوة العملية التي لا بعتاقها شيء من مغريات الضعف والتلكؤ والتكاسل وبرودة الإحساس، فأنت لا تراه في عمل من الأعمال إلا رجل عمل يحترم كل ما يعمل لأنه يحترم نفسه، ويقدر المنصب المسند إليه لأنه أشد الناس تقديراً لشخصيته. . ونعني به صاحب المعالي إبراهيم فتحي باشا وزير اليوم ومدير الأمس. ولقد كان عهده في مديرية الغربية من أشد العوامل في تطهير أدرانها من عناصر الضعف ومهلكاته، إذ كان الرجل الكبير الشخصية إنما يرفع إليه العمل الذي يعطاه ويأبى أن ينزل هو إليه، وكانت الأعمال لا تسمو بنفسها بل بالقائمين عليها وليس تأثير الحكوميين على المناصب إلا أعظم من تأثير نفسها عليهم، ولهذا نتوقع أن ستكون وزارة الأوقاف تحت هذا الوزير الجديد في طليعة الوزارات انتعاشاً وسمواً وقوة، وقد كنا نريد أن ننشر للقراء صورة حقيقية من أخلاق هذا الرجل الكبير وآدابه ومميزاته لو لم يضق نطاق هذا العدد دون ذلك ولكنا موافو القراء بها في أحد الأعداد القادمة. . . الإصلاح الاقتصادي الكبير

اقتراح فليني فهمي باشا إن من أكبر ما نعاني من ضورب الارتباك والفساد في حياتنا الاجتماعية أمر تدبير المال وطرق الاقتصاد والتنظيم وجوه العيش إذ كانت المسألة الاقتصادية في هذا العصر هي الأساس الذي تقوم عليه كل حضارة قوية ناهضة وليس الفارق الذي يفصل شعباً عن شعب ويميز عنصراً من عنصر، إلا مقدار ما بينهما من قوة الاحتفاظ بالاستقلال في العمل ومعرفة أساليب الاستثمار ومناهضة العوامل التي تجوز على الحرية الشخصية فتقتلها، وقد بدأنا نفقد شخصيتنا يوم فقدنا استقلالنا في المسائل المالية بل لقد كانت الغلطة المالية الأولى هي التي وضعتنا تحت ظروف مرة قاسية وأصابت مجموعنا بالشلل الاجتماعي وجعلت منا عنصراً مستخذياً مرتبكاً في أمره. ولهذا كان البحث في تدبير المال وابتكار أساليب الإصلاح فيه أكبر عمل يمكن أن يفيد شعباً منتشراً عليه أمره مثلنا وكان المصلح الذي يتوفر على هذا العمل من أكبر الإصلاحيين الاجتماعيين. ونحن فإذا قلنا أن الاقتراح الذي صدر في هذه الأيام من ناحية عطوفة قليني فهمي باشا من تنظيم الديون والعمل على الاستقلال الاقتصادي من أكبر المشاريع الإصلاحية الحاضرة فلا نقول شيئاً كثيراً، وهو إذا تم على وجهه فأنا ولا شك ظافرون بخير الإصلاحات التي ترفع عنا نير الماليين والعاملين على سلب كل قوة فينا. وهذا المشروع على خطورة شأنه وجليل أثره في حياتنا سهل ميسور مع بعض التضحية والنشاط، وخلاصته أن تضرب على كل فدان ضريبة مقدارها خمسة قروش لمدة خمس سنوات، وتعفى من هذه الضرائب الملكية التي لا تزيد على اثني عشر فداناً وبذلك نستطيع أن ننشئ مصرفاً مالياً وطنياً أكبر عمله إسعاف البلاد بفوائد قليلة. ولم نعجب من شيء عجبنا للمناهضات والمعارضات التي جاءت تصدم هذا المشروع الحيوي الكبير وتخطئ الوجه المفيد منه ولكنا نعلم أن المعارضة والتخطئة خلق ركب فينا يريد أن يهدم أكبر مجهودات أذهاننا ونعلم أيضاً أن قوماً يرتزقون من وراء المتاجرة بالتخطئة والمعارضة التي يمكن أن تغتفر في الشعوب الناهضة الحية ولكنها في شعب فقير لا يزال في أول مدارج الحياة تعد أشد العوامل في تأخره وتعطيل كل مشروع مفيد وليس الصحافي الذي يجلس وراء مكتبه ويناول كل فكرة بالاستنكار إلا رجلاً مأجوراً على

مقاتلة المبادئ الصالحة الكبيرة الأثر. هذا وربما عدنا إلى هذا الموضوع وبسطنا وجوه الرأي فيه من مخالف ومحبذ ونشرنا رأي الباشا الأخير مكتوباً بقلمه في الأعداد الآتية. حول جمعية الهلال الأحمر من بين الفكر الإنسانية الصالحة التي أخذها الشرق اليوم عن الغرب وتبعه في العناية بأمره واستنداء الأكف والقلوب والسواعد والأرواح إلى عونها وغوثها، فكرة إسعاف جرحى الحروب ومواساتهم وضمد جراحاتهم والاحتيال لتوفيرهم على النوع الإنساني والاجتهاد في رد قوات الحياة والنشاط والعمل التي كانت ستفقدها الإنسانية بفقدهم، وهذه الفكرة تعد من أحسن حسنات العالم المتحضر وأبلغ ما انتهت إليه وجدانات الأمم والشعوب ونحن لا نزال نسمع كل يوم بنبأ الملوك والأمراء والأكابر والكتاب والعلماء، بل والأميرات والكاتبات وفضليات السيدات وخلاصة أهل الجنس اللطيف، مسارعين جميعاً إلى أسرة الجرحى يمرضون ويطببون ويأسون، ويرضخون بالأموال والأعطية والأكسية والأطعمة والعقاقير، وليس من شك في أن جمعيات الصليب الأحمر كانت في هذه الحرب القاسية الموحشة المفترسة أكبر عامر على تخفيف خسائر الجنس البشري من جرائها وتلطيف ما يخيف من قسوتها ونكرها. ذاك وليست جمعية الهلال الأحمر التي قامت في هذه البلاد بأقل أثراً في خدمة العالم من أخواتها الجمعيات الغربية الأخرى، فهي أبداً مخلدة إلى عملها السامي الشريف دائبة على الإخلاص في واجبها الروحاني العظيم، ولعل الفضل الأكبر في جلالة أعمالها لا يقع إلا لرجل واحد، اشتهر من قبل بين طبقات هذه الأمة بسماحته وكرم روحه وجود يده على كل فكرة أو مشروع أو مهمة يستمد الناس منها حاجهم من غذاء النفوس واطمئنان القلوب واستثمار الأذهان، وتهذيب المدارك، وقتل آلام الحياة، والتغلب على هموم العيش، والظهور على عناء السعي وراء الرزق ومنهكة الكد لسد الرمق، من مدرسة أو معهد أو مسجد أو ملجأ أو دارغوث أو أشباه هذه جميعاً، ذلك هو وكيل هذه الجمعية، والعضو بالجمعية التشريعية، صاحب السعادة حسين واصف باشا الرجل المحسن الكبير. فهو لا يرى في الموطن العظيم إلا عظيم الروح، متدفق الإحساس، فياض اليد والقلب، والناس في

كل عصر أحوج أبداً إلى المواسي والمطعم والمثقف والمربي والمرض والطبيب والعائل والوصي والقيم، لأن قسوة الحياة تريد أن تصرع كل من لا يشبعها ويواتيها ويصدع بأمرها ويقومن على مطالبها ورغائبها. فإذا اجتمعت كل هذه في فرد واحد، وكانت روحه تنطوي على ألف رجل لكل واحدة منها، فهو ولاشك عائش يد الدهر في أذهان الناس وحبات قلوبهم وهذا هو أسمى ضروب الخلود الإنساني، لأنه جاء من ناحية الحياة نفسها، ولأنه جعل الناس ينتصرون على الآلام والجهل والهموم ومتاعب الوجود، وهي كل ما يقتل الروح، ويخنق النشاط، ويستأصل جذور الراحة والهناء. كذلك يجب أن يعمل الناس، وعلى مثل هذا يجب أن يتزاحم سراتهم. . . رجل عظيم يحيي ذكرى أديب إن في تكريم رجل من أهل الآداب والاحتفال بذكره بعد موته لمعنى يلقي الروعة والإجلال في قلب كل المشتغلين بالفنون ويدخل على كل أديب العزاء والنشاط والأمل، ولكن أروع من ذلك وأجل وأعظم أن يكون العمل على إجلال الأديب صادراً من غني وجيه رب أموال وفضل وأعمال ومكانة مرموقة لا تحتاج إلى الشهرة أو الإعلان، فلئن كانت فكرة تأبين المأسوف عليه جورج زيدان رائعة وجميلة فإن أجمل منها أن يكون سعادة ميشيل لطف الله بك ذلك الرجل النبيل الإحساس، العظيم المبدأ، الكبير الثراء، الذي يرجح في اعتقادنا بألف غني من أغنيائنا والذي يحق للعرب عامة والسوريين خاصة أن يفخروا به الفخر كله والذي أعاد بأعماله المجيدة ذكر المأمون ومعن بن زائدة وأمثالهما من أجواد العرب ومعضدي العلم والأدب صاحب الفكرة والقائم في رأس المحتفلين لها. . . وما ذاك إلا لأننا نعيش في عصر مقفر مجدب من الأغنياء الكبرى النفوس، وإن اختنق بكثير من المتمولين اللؤماء الشعور، المثلجي العاطفة، ومن الصيارفة البارعي الحيلة في الحشد والكنز، والطائفة الكبيرة صاحبة الجاه المزور المموه الأجوف وأن في ظهور رجل غني عظيم المبدأ، متوقد العاطفة بين أرباب الفنون لحادثاً تاريخياً كبيراً وظفراً للمفكرين المتألمين الغرباء في هذا البلد المائت المحتضر. وليست أمراض الجيل ومساويه ومخازيه الإنتاج فقر الأغنياء من كل معنى جليل وأثر

نافع، بل لقد كنا في حياتنا الأدبية أعرف الناس بنفوس الأغنياء وقوة برودة العواطف فيهم، نعم نحن الضحية الكبرى في هذا العصر الأشل، نعرف عن أصحاب الأموال ما لا يعرفه الجمهور، لطالما عرفنا فيهم فقر الإحساس وجمود الذهن وبلادة النفس وانحطاط الضمير والبلية الكبرى على الآداب وسائر ما يتعلق بها ويكون منها الخير لصالح المجموع. وما كان التشنج الاجتماعي والفساد والفقر والجمود التي تشوه وجه الحضارة وتعوقها وتقتل فضائلها إلا نتيجة، الارتباك الذي يوقعه الأغنياء في صفوف المجتمع بفضل أموالهم - فإذا ظفرنا برجل كبير فاضل نبيل الروح يأبى من جميع جهاته إلا شرفاً وكرماً وهمة ومروءة وإحساساً خفاقاً مثل ميشيل لطف الله بك فإنما نظفر بالحجة الدائمة على الطائفة المثرية الدائمة التخريب الجامدة الأثر، التي تتمتع بمناعم الحضارة كلها وتأبى أن تعمل لها شيئاً. فإن قلنا رحم الله ذاك الأديب فإنا نصرخ اليوم بكل قوى العواطف المخلصة الشاكرة - ليحي الرجل العظيم، نصير الآداب المتمرد على المتمولين المشرق الصحيفة بين طائفة كل تاريخها أسود مظلم خبيث. . .

عالم الحرب

عالم الحرب الجنرال جوفر قائد جيوش الحلفاء في الميدان الغربي للحرب لئن كان هذا الاسم يغدو كل يوم مع أنباء الحرب وصحفها، ويروح مع بلاغاتها ومنشوراتها، فإن القراء بعد لا يعرفون إلا قليلاً عن قوة هذه الشخصية الكبيرة المدهشة التي يتعلق عليها مستقبل الحلفاء في الساحة الغربية، وبها تتشبث النتيجة الرهيبة لهذه الحرب الفاجعة. ولد هذا القائد العظيم في اليوم الثاني عشر من شهر يناير عام 1852، فهو اليوم قد جاز حدود الكهولة، متاخماً أسوار الشيخوخة، في الرابع والستين من العمر، ولعل والدته كانت ملهمة متنبئة، يوم الحت على زوجها - وكان دناناً فقيراً في قرية ريفيزالت من أعمال فرنسا - أن تضيف على اسم المولود الجديد كلمة قيصر وأبت إلا أن ينادي باسم جوزف جاك قيصر جوفر. على أنه وإن كان المعجبون بالقائد المتحمسون له لا ينعتونه بما ينعتون به يوليوس قيصر سميه، من تلك الصفات العظيمة السبرمانية المدهشة، صفة مؤسس الدول، وفاتح الأقطار، وسيد السياسيين، ورأس القواد، فإن المنصفين لا يستطيعون ولا ريب أن ينكروا أن بين القائدين وجوهاً من الشبه عدة، يؤول إليها نجحهما في الحياة، وتحور إليها عظمتهما وبعد ذكرهما، فإن لجوفر ما كان ليوليوس قيصر من هدوء الأعصاب ورباطة الجأش، ورصانة الحزم، وبرودة الحلم، ولد مثله عبقرياً حربياً، منشئاً للجيوش، مهذباً للقوى، مثيراً للأرواح، معبوداً من الجند، ولقد كان المتشائمون يهمسون منذ ثلاث سنين، يوم رفع إلى منصب القيادة العامة للجيش الفرنسي (إن المهمة صعبة شموس. . . إن جوفر ليس من أهلها. .) ولكن وزارة الحربية كانت تثق بالرجل وتعرف قوته وكفايته، فلم تصخ لطيرتهم هنيهة واحدة، بل كان من الجنرال بو، هذا القائد المعبود الأكتع، إن قام في الاجتماع المعقود يومذاك لانتخاب القائد العام فأشار إلى الجنرال جوفر وهو يقول (هذا هو الرجل الوحيد الخليق بالمنصب!) ومنذ ذلك اليوم وهو يدأب على العمل والتأهب ليوم الحرب العصيب، فأصلح من شأن

الجيش الراجل. وهذب الكتائب الخيالة الراكبة، ونقى القواد من العجزة وغير الأكفاء وأعاد التحسين في التحصينات والمعاقل والاستحكامات. وكان جوفر ثاقب النظر فتنبأ بأن الحرب ستكون على خلاف الحروب السابقة كلها لأنها ستنشب في ميدان متطاول عريض ممتد، يكون فيها الصبر أعظم نفعاً من الإقدام ورباطة الجأش أفعل أثراً من المجازفة، فكان يقول الآن لن يعود القائد العام بعد هو الذي يكسب الموقعة بل سيكسبها منذ الآن صغار القواد والضباط، ومنذ الآن ستقع الوقائع على خطوط تربى في طولها على ثلثمائة ميل، وأين قبضة رجل واحد أن تلم على مسافة هائلة كهذه وستكون الجيوش التي اختلق بالنصر هي التي تكون أطولها صبراً وأشدها احتمالاً، وأرفعها نشاطاً، وأقواها إيماناً بالفوز الأخير. وهو على ما به من دأب وطول عمل، وكثرة مشاغل، تراه في حياته الخصوصية، بين أسرته وأصدقائه وصحبه وديعاً طيب المحضر، عذب المجلس، يميل إلى المشي في دروب حديقته في القرية، يصحب زوجته إلى السوق، ويشارك فتاتيه مارسل وأنيت في التوقيع على المعزف البيانو وينزل على أمرهما فيرفع الصوت صادحاً منشداً، ويركب هو والفتاتان الجياد يروحون النفس في غاب بولون ومسارحها. وأعجب ما في خصاله أنه لا يرضى أن يتداخل أحد في نظامه اليومي الذي اختطه لنفسه، فقد حدث في ذات ليلة من ليالي هذه الحرب، أن ضابطاً من أركان الحرب جاء إلى مضارب الجنرال جوفر بنبأ مستعجل ضروري محتم وكان الجنرال قد أوي إلى فراشه فأخبر الضابط أن القائد لا حاجة إلا إيقاظه، فإنه قد ترك التعليمات اللازمة إذا عرضت أمور في ثلاثة أغلب موضوعة هنا، فاكتفى الضابط بأن فض أحدهما فوجد فيها ما يتعلق برسالته وفي الحال طير التعليمات. وتراه يتبع إلى اليوم أسلوب حياته الذي يعيش عليه منذ زواجه، وذلك منذ ربع قرن مضي، فهو يستيقظ - وذلك قبل نشوب الحرب - مبكراً فيشتمل في ملابسه فيقضي عشرة دقائق في الألعاب الرياضية، يعقبها بالاستحمام بالماء البارد، فإذا مضت ساعة من الزمان رأيته على ظهور الجواد نشيطاً يسير الهوينا بين صفوف الأشجار الفنيانة. عند غابات بولون ورياضها، حيناً في رفقة أصحابه من الضابط، وأكثر الأحيان في صحبة إحدى

فتياته، يتبعهما عادة جنديه الحارس. وهو لا يحضر المجالس ولا يميل إلى المجتمعات والندوات، وإنما يجنح إلى العزلة فإذا سئم الموسيقى والغناء عمد إلى كتبه وأسفاره. فقضى ساعات في القراءة. أما في الكتب الحربية الفنية. وأما في قراءة روايات هوجو وبلزاك وديماس وزولا وديكنز وأحبهم إليه القصصي الأخير، فإذا نزل بهم ضيف عمد إلى لعبة من ألعاب الأسرة، ولم تكن أبهة المنصب لتغير فيه من شخصيته أو تعدو فيه على طبيعته، بل لا يزال هو جوفر الصغير الوديع، وقد حدثت أخته مدام أرتي عنه فقالت أنه يأبى إلا أن يناديه أصدقاؤه حتى اليوم باسم جوزف جوفر لا غير، وهو لأبني يزور قريته التي ولد فيها، حيث يجد السرور كله في لعب الورق، إذا حان المساء مع أبيه وأصدقائه. جاء إلى مضارب الجنرال جوفر بنبأ مستعجل ضروري محتم وكان الجنرال قد أوي إلى فراشه فأخبره الضابط أن القائد. لا حاجة إلى إيقاظه فإنه قد ترك التعليمات اللازمة إذا عرضت أمور في ثلاثة أغلف موضوعة هنا فاكتفى الضابط بأن فض أحداها فوجد فيها ما يتعلق برسالته وفي الحال طير التعليمات. وتراه ينبع إلى اليوم أسلوب حياته الذي يعيش عليه منذ زواجه وذلك منذ ربع قرن مضى فهو يستيقظ - وذلك قبل نشوب الحرب - مبكراً فيشتمل في ملابسه فيقضي عشرة دقائق من الألعاب الرياضية يعقبها بالاستحمام بالماء البارد فإذا مضت ساعة من الزمان رأيته على ظهر الجواد نشيطاً يسير الهوينا بين صفوف الأشجار الفينانة. عند غابات بولون ورياضها حيناً في رفقة أصحابه من الضباط وأكثر الأحيان في صحبة إحدى فتاتيه يتبعهما عادة جنديه الحارس. وهو لا يحضر المجالس ولا يحضر المجتمعات والندوات وإنما يجنح إلى العزلة فإذا سئم الموسيقى والغناء عمد إلى كتبه وأسفاره فقضى ساعات في القراءة أما في الكتب الحربية الفنية وأما في قراءة روايات هوجو وبلزاك وديماس وزولا وديكنز وأحبهم إليه القصصى الأخير فإذا نزل بهم ضيف عمد إلى لعبة من ألعاب الأسرة ولم تكن أبهة المنصب لتغير فيه من شخصيته أو تعدو فيه على طبيعته بل لا يزال هو جوفر الصغير الوديع وقد حدثت

أخته مدام أرتى عنه فقالت أنه يأبى إلا أن يناديه أصدقاؤه حتى اليوم باسم جوزف جوفر لا غير وهو لا ينى يزور قريته التي ولد فيها حيث يجد السرور كله في لعب الورق إذا حان المساء مع أبيه وأصدقائه. وأولى ما ظهرت كفاءته في حرب السبعين وكان يومذاك ملازماً ثانياً وقد ألحق بفرقة المهندسين في حصار باريس فلما عقد الصلح عين في اصلاح أستحكاماتها وقد أغتبط المارشال مكماهون يومذاك عند ما جاء لرؤية الأصلاحات الحربية التي قام بها في حصون باريس حتى انه عين من ساعته ضابطاً كبيراً على أن هذه الرتبة وإن كانت قد جاءته وهو في الثانية والعشرين فلم تكن تقنعه إذ جعل يقول إني لا أريد أن أقطع أيامي في بناء الأستحكامات وتشييدها. . . أريد أن أقود الجند وأشهد الحرب وإذ ذاك أنفذوه إلى التونكين وكانت الحرب ناشبة بين الفرنسيين هناك والأهلين وهناك تمت له طلبته فقاد الجند وأمتشق السيف وبلغ قمة النصر وهو جندي صلب العود باسل القلب مستبد الرأي، وقد حدث أنه كان في رحلة إلى تمبكتو في أواسط أفريقية فاصابت عينه اليسرى علة شديدة من أثر لذعة أحدى الهوام السامة وكان يوشك أن يشرف على المدينة ويبلغ مأربه من هذه الرحلة الأكتشافية وكان الطبيب الذي في صحبة الرحالة يخشى أن يفقد القائد جوفر بصره فاشار عليه بضمادة ولكن العليل أبى إلا الرفض قائلاً إني لن أستطيع أن أقود جنودي إذا مشيت معصوب العينفقال الطبيبإذن فيجب عليك أن تلبس منظاراً أزرق ولكن الصحراء لم تكن أرض المنظار ولا مكان الصيدليات وقد بدأت عين الجنرال جوفر تشتد وجعاً وألماً وتنبأ الطبيب بأن عقبى العلة ذهاب ضياء البصر ولكن جوفر لم يستطيع إلى أن يبتسم وهو يقول إن الحظ ولا ريب غير مفارقه ومضت أيام والعلة تشتد والبصر يحسرحتى أذلبهم ذات يوم قد جاء أحدهم طردفي (البريد) ولم يكد صاحبه يفتحه حتى وجد فيه منظاراً أزرق!!! وكذلك شفى الجنرال من علة نظره، توزيع مرتبات الجند البريطانية في الخنادق إن لمرتبات الجند البريطانية في ميدان الحرب ديواناً مخصصاً لها منظماً ولذلك أستطاع الجنود ان يتناولوا مرتباتهم في أوقاتها دون تأخير أو أمهال أو تريث فقد وضعوا في كل

فرقة من الفرق في الميدان الغربي أدارة لدفع مرتبات جندها يرأسها رئيس مخصوص وتحته عدد كبير من الصرافين يتنقلون محروسين بين الخنادق ليوزعوا المرتبات على أهلها فإذا كانت الفرقة متفانية في القتال طول يومها مشتغلة بالمناجزة طول أسبوعها فهم ينتظرون حتى يفتر اطلاق النار أو تحين فترة فيوزعون المرتبات على المقاتلين وإذا لم يستطيعوا توزيعها نهاراً أستطاعوه ليلاً وكا جندي يحمل دفتراً صغيراً يدون فيه ما يتقاضاه من ديوان المرتبات وديوان المرتبات يقيد مرتبات الجند فيرسل مذكراتها على الأدارة العامة في أنجلترا وتري الجندي البريطاني يحرص على هذا الدفتر الصغير حرصه على أعز الكنوز لانه إن فقده لم يسمح له بتناول شئ من مرتباته السابقة قبل تاريخ أعلانه فقده وترى الجنود يستعينون بدفاترهم هذه في كتابة وصاياهم في ساحات القتال مخافة أن يقتلوا ولهذه الأدارة المنظمة الكبيرة سبعمائة ضابط وسبعة آلاف كاتب من المهرة الحاذقين فن الكتابة والتدوين والحسابات وهذه الأدارة تستطيع أن تدفع إلى زوجات الجنود وأسرتهم ما يريد رجالهم. قائد الجيوش البريطانية في مصر من أكبر القواد الذين يعملون تحت الجنرال جون مكسويل في هذا البلد رجل من كبار الحربيين الذين أزدانت بهم صفحة تاريخ إنجلترا في الحرب وهو الجنرال السير جورج جون يانجهزبند وهو الذي يقود الجنود البريطانية عند قناة السويس وقد قضى هذا الرجل في عالم الحروب نحوا من ست وثلاثين سنة وأول ما تجلت عبقريته الحربية في الحرب الأفغانية حيث ظفر منها بأحد الأوسمة الكبيرة ثم حضر فتح السودان فحرب بورما في الهند فالحرب الأسبانية الأمريكية ثم حرب البوير وقد أبلى في الأخيرة أحسن البلاء حتى حمل من الموقعة جريحاً وأنعم عليه وهو في المستشفى بوسام الملكة. وكان في صباه بين رفقائه الضباط الفتيان يعرف في ندواتهم ومجتمعاتهم (بالمفراح) وذلك لأنه كان مزاحاً من أحسن الناس نكتة وأرقهم مزاحاً ومجوناً ثم أشتهر بأنه من أمهر المصورين الهزليين يضع صوراً حربية هزلية من أبدع الصور وأكثرها إغراء على الضحك والإعجاب وبه ولع بالسياحة حتى أنه قضى ستة أشهر يجوب مقاطعتي برما وسيام في جنوب الهند حتى قطع يومذاك نحواً من ثمانمائة ميل وهو من الكتاب المجيدين

وضع في رحلته هذه كتاباً التقت فيه الفائدة بالمجون إذ صور أخلاق سكان البلاد أحسن تصوير على أنه ألف كذلك عدة من الكتب الحربية الفنية. وقد وقعت له حادثة في الهند غريبة وذلك أنه كان معسكراً في أحدى القرى فجاءه أهلها وهو في خيمته بقطع كثيرة من الأحجار تشبه الياقوت وهم يقولون أنهم قد عثروا عليها وهم يحتفرون في بقعة لا تبعد كثيراً عن القرية فظن السير جورج أنه وقع على كنز كبير ومنجم عظيم فلم يكن من فرط سروره إلا أن أشترى كل قطعة منهم وأستعلم منهم عن حدود تلك البقعة الجميلة ومواقعها وقد قص بنفسه ما كان يخطر له ساعتذاك فقال. . لقد كنت أحلم يومذاك بالغنى الطائل والثروة العظيمة فاندفعت شاخصاً إلى كلكتا أريد أن أقدم ثمن تلك الأحجار وما كان أشد حزني ساعة دفعتها إلى صيارفة المهرة الحاذقين وسمعتهم يقولون (لون زاه جميل وضياء ساطع ومظهر بهي تستحق كل قطعة منها أن تشتري بخمسين جنيهاً. . ولكن واأسفاه أنها ليست إلا عجينة من خليط المعادن الصناعية المموهة!!) أخاديع الرصاص أن للقذائف التي تخرج من فوهات البنادق العادية ضروباً من الحيل والأخاديع تعد من أغرب الغرائب فقد حدث احد الضباط الذين حضروا حروب السودان أيام الفتنة المهدية عن عدة من هذه الخدع فقال (حدث أن ضابطاً مريضاً نقل قبل واقعة أم درمان في أحدى القوارب على النيل إلى الضفة الأخرى حيث وضع في خيمة تبعد عن حدود ميدان القتال بنحو أربعة أميال وكان في هذه الخيمة ولا ريب بنجوة من كل خطر وفي عاصم من متناول الرصاص ولكن لم يلبث أن انطلقت رصاصة ضالة هائمة فقطعت الأربعة أميال في الصحراء وبلغته نافذة إلى جمجمته فقتلته. . . وأتفق كذلك في واقعة أخرى أن الجنرال السير هنتر من كبار قواد الحملة السودانية وضابطين من ضباطه خرجوا يستكشفون مواقع الأعداء على مسافة بعيدة وقد عمدوا إلى ثغرة في حائط ساقية هناك وأخذوا ينظرون بالمرقب وكانت هذه الثغرة نهاية في الصغر والضيق حتى لم يسع الثلاثة غلا الوقوف الواحد خلف الآخر وكانت الشمس تؤذن بالمغيب وقد استقرت حمرة الشفق على زجاجة المرقب فكان لها وهج مضيء لفت أحد الدراويش وكان يمشي في جماعة معه على شاطئ

النيل فلم يلبث أن وقف ثم سدد مرماه وكان حسن الرماية إذ انطلقت فنفذت من عدسة المرقب إلى مخ الضابط الأول فقتلته في مكانه ثم خرجت فنفذت إلى كتف الضابط الثاني وأخيراً استقرت في صدر الجنرال هنتر وهي لا تزال فيه إلى اليوم

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة ذكرى الماضي محمد أفندي صبري أديب معروف تخرج من المدارس الثانوية وحصل على شهادتها ويمم أوربا لإتمام الدراسة هناك والتوسع في آداب الغرب ونحن نعرف شاعراً جزلا قوياً مبتكراً وقد علمنا أخيراً كاتباً غزلاً رقيقاً وكذلك يجب أن يكون الكاتب شاعراً وهذا كتابه ذكرى الماضي يشهد له بعلو كعبه في الكتابة على أنه لم يتجاوز الربيع العشرين وذكرى الماضي قصيدة نثرية مؤثرة يصف فيها بعض المشاهد التي رآها في فرنسا - وثمن الكتاب 15 مليماً ويطلب من مكتبة البيان.

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فهذا هو العدد السادس من السنة الرابعة لهذه المجلة - وهو العدد الذي يلي العددين السابع والثامن من نظامنا الجديد الذي كنا نحونا بالبيان نحوه وحسبناه أردَّ علينا بالفائدة، وأوفى بحاجة الناس، وأوفق لطلبة القراء على اختلاف طبقاتهم، فأخذنا نُصْدره على ذلك ونتسع فيه نفتنُّ في رسومه ونبْسط له اليدين جميعاً وقلنا لعل الناس يقدرون هذا النحو وعسى يكون من ورائه ما نرجوه ذيوعاً وإقبالاً ولعل ثم لعل وعسى ثم عسى، بيْد أنا رأينا إثم ذلك أكبر من نفعه، والخسارة فيه متحققة بين بصر البيان وسمعه، فكأن باب التجربة في مصر لا يفتح على غير الخسارة، ولا يفضى منه إلى غير النعت، ولا يفصل - كسائر التجارب - بين ما هو حق وبين ما هو باطل ولكنه يفصل بين صاحب الحق وبين حقه لا غير. . ومن هنا انتشر علينا الأمر، وتفرق بنا الحزم، وكادت تعصف الحوادث بالبيان عصفاً لولا أن الله لطف في قضائه، وألهمنا صواب الأمر بعد خطائه، فاعتزمنا أن نرجع بالبيان إلى خُطَّته الأولى فنؤثر به المشتركين، لا المشترين، ونخصه - إلا ما لا حفل له - بالعلم والأدب، لا بالحَرْب والحَرَب، ونجعله للأدباء الأخيار، لا لأهل الروايات والأخبار، ثم تممنا الأمر بأن فصلنا وكلاء البيان جميعاً وهم كانوا أصل البلاء، ولم نرا بداً من التطواف بأنفسنا في البلاد مهما تجشمنا في هذه السبيل من التعب ولو إلى حد الأضناء، وكان مما أفدناه في هذه الفترة أن جُلنا في بعض أنحاء القطر ولقينا طوائف كثيرة من قرائنا الأفاضل فتلقونا بصدور يفيض سرورها، وقلوب يسطع نورها، ووجوه تبسم ثغورها، ولقينا منهم الكرم كله، ومن عوارفهم ما لم نكن لننتظر قُلّه، ومن سجاياهم ما أطلق اللسان، ومن مروءتهم ما مكن البيان، ومن محامدهم ما شد هذا البنيان. ثم كان من ذلك أن علمنا الذين صدقوا من المشتركين وعلمنا الكاذبين وجعلنا الخبيث بعضه على بعض فركمناه جميعاً فبترناه من سجلاتنا بتراً، وحذفناه حذفاً. والله المستعان على ما نلقي في هذا الأمر، وبه سبحانه القوى على ما نضعف عنه، ومنه التوفيق لما نسعى إليه، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.

روح الطفولة

روح الطفولة في الأدب المصري إن أخلاق الناس وقوة نفوسهم وأعصابهم وأذهانهم، وأساليب العيش الذي يعيشونه، وروح الفن الذي يحملونه في كل وجوه العمل، ومطالب الحضارة، لا يمكن أن تتجلى في صورة واحدة، إلا في الآداب التي تخرج من الناحية السامية فهيم، وهي كتابهم وشعراؤهم وأهل التفكير منهم. وأنت فإنك تستطيع أن تدرك طرفاً من عواطف الفرنسي ونظام بيته وأخلاقه وقوة الروح الفنية عنده من قراءتك كتب فيكتور هوجو وحدها، وإن لم تنعم برؤية فرنسا آخر حياتك، ولم تتقلب في بلادها وتدخل مغانيها وبيوتها، وتظفر بصداقة جميلة مع طائفة، من أفرادها، وكذلك تستطيع أن تفهم من الأدب العربي أي نفوس كانت تحمل العرب، وأي أعصاب كانت لهم، وأي أخلاق كانت تختلق، بل أنك قادر أن تتبين مثلاً من طرازهم في العمارة وهذه التعاريج والتثنيات والمتداخلات التي كانوا يزينون بها. شرفات قصورهم ومطلاتها وقبابها، روح الجاحظ في ثرثرته وزيغاته، ومعرجاته، واستفاضاته. ومن أدبهم الذي لم يكن يحتوي غير حكايات قصار ونوادر موجزة وأبيات أفذاذ وكلمات طيبة مقتضبة، تستطيع كذلك أن تعلم أنه قد كانت لهم نفوس قلقة، وقلوب وثابة، وأعصاب حارة ملتهبة، فلم يكونوا ليطيقوا الصبر على البحث الأدبي المستفيض والكتابة التفكيرية الممتدة، اللهم إلا في حدود الفقه والحديث وعلوم التربية وأشباه ذلك. وهذه كانت لا يطيقها إلا شيوخ منهم يحسبون فتور العلم ويحملون في أعصابهم العلمية برودة القطب. وإذا تقرر ذلك فإن الأدب المصري الحاضر لا يزال يحمل مفاسد الجيل وطبائعه، وأخلاقه وعوارض الانحطاط السائد في كل ناحية من هذه الحياة المريضة التي نعيشها، ونحن واجدون في كل ما يخرج من أفواه شعرائنا، وتقذفه علينا المطابع من أقلام كتابنا وأدبائنا، صوراً شتى من غرائب الطبائع المصرية التي نشهد أثارها في البيت والشارع والمكتب والديوان، إذ كان أكثر كتابنا وشعرائنا وأدبائنا لا يكادون يمتازون عن سائر الشعب في عامية النفس وجمود الروح وضؤولة التفكير، فكل ما يكتبون وينشئون يجري مع مطالب الجمهور وينزل على حكم السواد الأعظم، ويدخل على قلوب العامة وأشباههم من ناحية ما

يحبون ويطالعهم من ناحية ما يفكرون ويعتقدون، ومن ثم كان الجمهور العادي في هذا البلد هو الذي يقود الفكر ويسيطر على الذهن ويستبد بكل منتجات القرائح، وثمرات العقول، وما كان الكتاب الذين تأبى عليهم مطالب الربح والذكر والشهرة إلا أن يتابعوا هذا الجمهور الذي لا يزال في طفولة الحياة، ولا يزال يعيش بروح الماضي، ولا تزال تحركه مبادئه وعقائده، إلا أكبر عقبة في سبيل تهذيب الجيل، وقتل حماقات العصر، وهم الذين لا ينون يفسدون على المهذبين العبقريين من أهل الناشئة الجديدة عملهم، وهم الذين أثاروا حقد الجمهور على كل ذهن جديد وعقل متوقد وروح متمردة من آثار الجمود، وهم الذين لا يفتأون يتلطفون للجمهور ويملقونه وينتصرون له، ويهجمون إلباً واحداً على كل كاتب نبيل الروح مفعم الذهن بكل ضروب التهذيب ووسائل الخروج بالحياة من كل غل من أغلال العبودية الاجتماعية، فلا يزالون به أو يفسدوه ويبددوا كل أثر من آثار إخلاصه. ويجتمعوا بعد ذلك على تركته، يتقاسمون الربح ويتشاطرون الابتهاج بالنصر، ولقد تكاثر في هذا العصر جموع هؤلاء الألفاف، وانتشرت زمرهم واستحصد شرهم، فراجت بذلك حالهم وطالت مكاسبهم وهم بعد خلقاء بهذا التشجيع من الجمهور لأنهم قطعة منه وهم ألسنته وصنائعه، ولأن المصانعة والمداهنة والتدليس من الطبائع المصرية العميقة في أرواحنا، الظاهرة في كل وجه من وجوه أعمالنا. ولا يتلجلج في خاطرك أن مجرد وجود لمحة من الآداب في الأمة هو دليل الحياة وأنه أثر من آثار التقدم والانتعاش، وعنوان على روح الحضارة والرقي، فإنك لو عمدت إلى أحط قبائل الزنج وأغلظ أهل الأحراش والغاب إذن لوجدت لهم شاعراً مغلقاً يضج بالقصيد تلو القصيد على أصوات المزمار، ونقرة الدف، ورقصات القيان، ولرأيت لهم خطيباً مصقعاً يصرخ فيهم إذا عرض خطب، ويستنفرهم إذا نشبت حرب، ولأبصرت لهم كتبة ومشايخ جلَّة يعلمون ويؤدبون ويهذبون، وما أنت بمستطيع أن تمنع شاعرهم هذا من أن يشترك في لقب الشاعر مع شكسبير وهوجو والمتنبي، ولا خطيبهم هذا من أن يقاسم في لقب المصقع شريدان وجوريس والحجاج، ولكن هذا بعد ليس مقياساً صحيحاً للآداب، بل إنما تقاس الآداب بقوة ما فيها من روح السمو والنضوج وما نشعر من قوة ذهنية أهلها ومبلغ ما أخذوا من التهذيب والحضارة والعلم، والضروريات الأولى للأدب، وهي روح الفن. وقوة

الخيال. ودقة الشعور. وقوة الملاحظة. فإذا نحن أردنا أن نتلمس هذه أو بعضها في هذه الطائفة التي اصطلحنا على تسميتها بالأدباء فما نحن واجدون ثمت أثراً لها، بل لرأينا أكثر أدبنا، أو ما نسميه أدبنا، خلواً من روح الفن، وإذا افتقرت الآداب إلى هذه الضرورية الأولى فلن تعد من الآداب في شيء، بل هي في الحقيقة ليست إلا وسائل يستعان بها على العيش، ومطالب الأكل والشراب، للذين خابوا أن يجدوا في الحياة غيرها، وهي إذ ذاك مهنة تسد جوع الجائعين وتطعم أفواه الضعفاء في الحياة العملية والمهزومين، لأن الكتابة والشعر وسائر الفنون الرفيعة ليست تعتمد في كل روحها على مستلزمات الحرف والصنائع من وجوه التعليم والتمرين والحفظ والرياضة وممر الزمن، وإنما هي تتغذى قوتها من إحساس داخلي عميق يولد مع الشاعر والكاتب والأديب والمصور والنحات، وما كان الكتاب والشعراء في هذا البلد إلا يتابعون في افتقارهم إلى روح الفن، سائر أفراد الأمة، لأننا جميعاً مفتقرون إلى روح الفن، فلو أنت زرت قصوراً أكبر أغنيائنا وأهل الرقة والترف فينا ونظرت إلى الصور الأنيقة التي تشرف عليك من جدران حجراتها والنقوش والرسوم والنفائس التي ترنو إليك في مقاصيرها، إذن لأدهشك النُّبُوّ الظاهر في الترتيب وفساد الذوق البادي في التنسيق، على نفاسة الأثاث، وفخامة الرياش، وغلاء أثمان المتاع، وذلك لأن الجمال كما يقول الإفرنج ليس في الصورة وإنما في كيفية تعليقها ووضعها، وكذلك نحن من الغني إلى الفقير فقراء من روح الفن ورفعة الذوق. ثم يلي هذا افتقارنا إلى سمو الخيال، ولا يزال أكثر أدبائنا وشعرائنا يستمدون تخيلهم الشعري من صور الماضي ومحسات العصور الذاهبة ويستعينون بأثر من روح العرب في كل المواقف الشعرية وأشباهها، وليس سمو الخيال إلا دليلاً من دلائل صفاء الذهن وخصوبة الخاطر ونقاء الروح ولطف الشعور ونحن لا ننعم بشيء من هذه لأننا نعيش عيشة مريضة بلهاء فاسدة ونعاني في البيت والشارع ضروباً من الانحطاط والفوضى سائدة، ولأن حياة أدبائنا - صَنَع الله لهم - إنما هي سلسلة متطاولة من معاسف العيش ومنغصات الهم والفقر والتشرد والإهمال، وهذه أدعى إلى أن تبدد صفاء الذهن، وتضعف حاسية الروح، وتفسد صحة الذهن وتطفئ شعلة الإحساس ونحن من جرَاء هذه جميعاً

فقراء في قوة الشعور والملاحظة. وقوة الملاحظة من أكبر الأسباب التي تعمل على تهذيب الآداب وتقدمها ونمائها لأنها تفتح أبواباً شتى من البحث وتحدو إلى نواح طيبة من التفكير، وتفضي إلى مطارح بعيدة من الاستنباط والاستنتاج، ولهذا كان الأدب المصري خلواً من أسمى فروع الأدب المنتعش الصحي المتحضر، وهو فن الرواية والقصص، وهو قد أصبح في الغرب جماح علومه وأدابه وفلسفاته ومبادئه، لأن فلاسفة العصر وكبار الأدباء والمفكرين من أهل الغرب آثروا اليوم أن يضعوا أفكارهم وفلسفتهم وآراءهم في أساليب حلوة من الرواية وموضوعات سهلة من القصص، حرصاً عليها أن تروح مستثقلة على أذهان الجمهور مستغلقة الفهم باردة الروح، مستكرهة الطعم، فترى أمثال برناردشو وويلز وبورجيه وأنا طول فرانس وأضرابهم يعدون في طلائع الروائيين وهم مع ذلك من أكبر المفكرين والفلاسفة. على أن من طبائع الفوضى التي ركبت في نفوسنا وتأبى إلا أن تظهر كذلك في أدبنا أن أدبائنا وكتابنا ليسوا إلا نَشَراً لا يجمعهم نظام، ولا تحكمهم قاعدة، فهم لا يحورون ناحية من المذاهب المقررة إلى مذهب ثابت، ولا يرجعون إلى منحى معروف وأنت فلا تستطيع أنتحصر من بينهم الفريق الذي يذهب في الكتابة مذهب الرياليزم وهو المذهب التقريري الذي يعمد فيه إلى بسط الحقائق على علاتها دون تحلية أو تهذيب أو تجميل، ولا أن تعرف من بينهم كتاباً إيدياليين، وهم الذين يجنحون إلى السمو في أطباق الإيدياليات، وهي الأمثلة العليا للحياة، وأنك لترى الكاتب منهم إنما يخرج لك في المقال الواحد خليطاً من الجميع، فبينا تلتقي بقطعة من الرياليزم إذ تهاجمك الفقرة التي تليها بروح الإيدياليزم، وهذا ضرب من الفوضى، وعلة من علل التقلب. وعارض من عوارض كراهية المصري لروح النظام. وإذا وعيت هذا ثم علمت أننا لم نأخذ بعد بنصيب من العلم الحديث، وأن نصف أدبائنا وشعرائنا لا يعرفون لغة من لغات الغرب، بل هم يسكنون في دواوين الشعراء الذين تقدموهم ويعيشون في بُرد الكتاب الذين سبقوهم وهم بعد لا يستطيعون أن يستمدوا منها شيئاً غير حظ من الأسلوب، وجملة من موفق اللفظ، وطائفة من بدائع الكلم وهذه ولا ريب لا تخلق الأديب، ولا تنضج الشاعر، ولا تفتق الذهن، ولا تفتح مغاليق الفكر، وإنما هي

أداة من أدوات الزينة وسيلة من سوائل التجميل، وأن النصف الآخر العارفين بلغة الفرنجة ليسوا صنفاً واحداً في الإطلاع، ولا سماطاً واحداً في الفهم والبراعة والذكاء، بل ما يبرح كثيرون من إغفالهم يهجمون علينا بكل غث وخم من الكتب وكل عقيم تافه الفائدة من الأسفار من كل ما يقع تحت أيديهم أو يعثرون به فوق رفوف المخازن وألواح المكاتب، إذ كان قد قام في أذهانهم أن كل ما يخرج من كتاب الغرب قمين بالقراءة، خليق بالنقل، وكأنهم لم يعلموا أن كل مملكة في الغرب تحوى الألوف المؤلفة بالخلود وعظمة الشأن إلا القليلون. ومن هذه الملايين من الكتب إلا القلائل وإن كان كلهم رائج المكسب في بلهنية من العيش وغفراء من النعم لأن كل ما يخرج للجمهور في تلك البلاد المهذبة لا يلبث أن يلتهم إذ كان كل فرد منهم قارئاً، وكل قارئ منهم يحتفل بمطالب ذهنه احتفاله بمطالب معدته. ومن ثم كان التعريب في هذا البلد كالتأليف لا يزال يجري أكثره في سبل من الفوضى ويطرد في مضطرب واسع من السخف والحمق، وأكثر ما نقل إلينا لا يكاد يجدي علينا في فرع من شؤون التهذيب ولا يقرب لنا طرفاً من علوم العصر في كل أبواب الاجتماع والتربية والفلسفة والأدب والعلوم الطبيعية بأنواعها، هذا على كثرة النافجين منا بمعرفة لغات الغرب والمزهوين بأنهم تلقوا تهذيبهم في جامعاته، وأخذوا آدابهم عن أساتذته، وعاشوا طويلاً بين ظهراني أهله. ولكن أكثر هؤلاء إنما نفقدهم ساعة تحتويهم الباخرة خصة بهم إلى الأرض المقدسة لأنهم يذهبون وهم على شيء من الفطنة والذكاء والتوقد والنشاط فما يلبثون أن يعودوا ضعفاء الأعصاب خامدي الأذهان مرضى الأرواح من أثر إفراطهم في حيوانيات الغرب ومقاتل لذائذه، ثم نحن بعد لا ننال منهم لا كثيراً ولا قليلاً من نتائج العلم الذي درسوه وجملة الآداب التي تلقوها وحلزوا درجاتها، وذلك لأن الجامعة لا تستطيع وحدها أن تخلق كاتباً واحداً أو شاعراً واحداً أو أديباً واحداً، إذ كان التعليم في الجامعة مدرسياً بحتاً لا يدخل في أغراض الحياة، ولا ينفذ إلى صميم العيش، وهو إنما يكون سبيلاً إلى إظهار النبوغ، وتجلى مطالع العبقرية، وفي الغرب ملايين عظيمة من خريجي الجامعات وحملة الشهادات والألقاب العلمية، ولكن ليس منهم إلا قليلون هم الذين استطاعوا أن يكونوا كتاباً ويظفروا بشيء من الذكر في دائرة الكتابة والأدب، وإذا كان ذلك

فلا عجب إذا رأيت شباننا الذين نالوا بركة الحج بمشاهدة أرضهم المقدسة لا يلبثون أن تشتمل عليهم مكاتب المحامين أو كراسي النيابة أو مقاعد الإدارة. على أنه لا ينبغي أن يتملكنا روح اليأس من انتعاش أدبنا الحاضر وخروجه من حدود الطفولة إلى أدوار الحياة القوية المكتملة. إذ كنا لا نزال نرى جمعاً قليلاً من شباب هذا الجيل قد جاؤوا يدخلون على هذا الأدب الطفولي الضعيف روحاً جديداً من التهذيب وسبلاً عدة من التفكير العميق. وهم، وإن كانوا لم يتحرروا بعد من بعض نقائص العصر وأخلاقه وأعراض انحطاطه وطفراته، لا يخلون - إلا قليل منهم - من دلائل النضوج وسموا الذهن وبواكر العبقرية. ولعلنا مفردون لهم مقالاً طوالاً فنتناولهم جميعاً فيه ونشرح للقراء كل ما نراه في مذهبهم الجديد.

الإسلام في الصين

الإسلام في الصين الحياة مد وجزر. ومستقبل العالم يضطرب الآن في جوف الزمن، والمجزرة المفترسة في الغرب اليوم قائمة، والغربيون يتقاتلون الساعة على الحياة، ويتصارعون على سيادة الأرض، وكل أمة من أممه تسوق أشد فتيانها وأصلح شَبَابها للمذبحة، وتدفع بسلسلة ماضيها ومجهوداتها وأذهانها وحضاراتها وآدابها إلى المقبرة، والحرب ولا ريب طاحنتهم وقاتلة مدنياتهم وملتهمة كل أثر قوي في الحياة عندهم، وسيذبل الغالب والمغلوب، نعم وستبيد الحرب قواهم المنتجة، وستنهك أعصابهم الصلبة، وتذوي أذهانهم المضطرمة الجبارة، وسوف لا تبقي ولا تذر إلا الضعفاء والولدان والشيوخ والمهازيل والأقزام من أهلها، ولن يحدث هذا الجزر المخيف في الغرب إلا مداً طاغياً فياضاً في الشرق، لأن سكون ريح القوى يرسل النشاط والحرارة وأعراض الحياة القوية في الضعيف، وسينهض الشرقيون بعد هذه الحرب الغريبة من ضجعتهم عند أقدام الغرب، وسينتبهون للحياة ويحسونها، وستثور نفوسهم عظمة الماضي المتطاول البعيد، وستشد أعصابهم وأذهانهم التي ابتردت من آثار الخمول والاستنامة والفتور، ومن يدري فلعل هذا الشرق المستضعف الساكن اليوم، المطل من ضجعته على الغرب في مجزرته، مخرج بعد زمان تيمور لنكاً جديداً، وجنكيز خاناً عصرياً، وعمراً ثانياً، وخالداً وعلياً وهاروناً وقتيبة وصلاحاً آخرين، وكذلك تأبى الحياة إلا أن تكون مداً وجزراً، والزمان دول، والمدنيات كمحدثيها يجري عليها من نواميس الطبيعة ما يجري على الناس. وإذا كان كذلك فنحن خلقاء أن نُعني بالبحث في حاضر أمم الشرق وشعوبه، وما يمس الحياة فيها، ولا سيما ما يتعلق بالمسلمين وأحوالهم، ومن هنا فقد عزمنا على أن نجيء في كل عدد من الأعداد القادمة ببحث مستطيل في حاضر إحدى أمم الشرق حتى يكتمل الكلام عليها جميعاً، وحتى يلم القراء بشؤون الشرق وأحواله وأسباب ضعفه واستكانته، والقوة الكامنة في حاضره وما يمكن أن يكون من مستقبله. ونحن اليوم بادئون بالكلام على المسلمين في المملكة الصفراء وحالهم الحاضرة. يقول ستانلي لين بول، وهو من كبار مؤرخي الإسلام والشرق في هذا العصر - وهو الذي نلخص عنه هذا البحث - إن تاريخ الإسلام هو سلسلة مستطيلة من المدهشات، فإنه منذ خرج إلى الأرض وفاض فيضه، حير الألباب وأدهش العالم جميعاً، ولم يفتأ الإسلام منذ

ذلك اليوم يعمل على إدهاش العقل الغربي وتحييره، ولقد كان الغربيون في السنين الأخيرة يذهبون إلى أن الدين الإسلامي قد أسند في حدود الشيخوخة فلا يرتقب له تقدم جديد، ولكن لم يلبث هؤلاء الذين أغمضوا أعينهم عن هذا الدين من أهل الغرب أن انتبهوا فجأة إلى حقائق مدهشة من أمره فقد دلت الشواهد على أن الدين الإسلامي يتقدم ويخطو خطى واسعة في غرب إفريقية، وهو يزاحم المسيحية ويطاردها في تلك البلاد، وأن المسلمين هناك قد أخذوا يدخلون على البلاد إصلاحاً اجتماعياً جديداً بعد أن عجز رسل المسيحية ومبشروها عن أن يضعوا شيئاً من الإصلاح، وأن جزءاً كبيراً من بلاد الصين قد دان بالإسلام، وأن هناك قري. وبلداناً وأقاليم قد اكتظت بالمسلمين من أهل الصين يعيشون جنباً إلى جنب مع عبدة بوذا وشيعة كونفوشيوس. على أن الذين يعرفونه رسيساً من تاريخ العرب لن يجدوا شيئاً من الغربة في دخول الإسلام بلاد الصين فقد كانت تجارة الصين في أيدي العرب يجيئون بها إلى الشام قبل أن يقوم دين الإسلام بسنين، وقد اتسعت بينهما أسباب التجارة في القرن السادس الميلادي وكانت تأتي عن طريق سرنديب - جزيرة سيلان - ولم يكد يدخل القرن السابع حتى نمت التجارة بين الصين والعرب وفارس، وكانت مدينة سيراف الواقعة على الخليج الفارسي هي محط المتاجر الصينية، إذ كان تجار الصين لا يتعدون هذا الثغر إلى داخلية البلاد، ومن ثم كان تجار العرب من مسقط والشام يلتقون بهم هناك ويحملون بضائعهم إلى أنحاء الجزيرة وبلدانها، وكان من بين الذي جاؤوا الصين في أوائل عهد أسرة تانج المالكة، أي في ذلك العهد الذي كان يدعو فيه محمد العرب بمكة إلى الإسلام، طائفة من أهل المدينة. وإليك ما ذكرت التواريخ الصينية في صدد ذلك - إن مملكة المدينة تقع قريبة من الهند وفي تلك المملكة قام دين هؤلاء الغرباء وهو دين مخالف جد المخالفة لدين فو - أي بوذا - فهم لا يأكلون لحم الخنزير ولا يشربون الخمر ويعدون قذراً غير مبارك كل لحم لم يذبحوه هم بأيديهم، ولهم اليوم معبد في كانتون يسمى معبد الذكرى المقدسة وقد ابتنوه في عهد أسرة تانج وكان لهم بجانب المعبد مأذنة شاهقة تبلغ في ارتفاعها مائة وستين قدماً، وقد اعتاد هؤلاء لغرباء أن يذهبوا كل يوم إلى المعبد فيؤدوا فيه فرائض دينهم، ولما استجازوا الإمبراطور المقام بكانتون فأجازهم، شادوا بيوتاً طيبة ومنازل شاهقة على طراز

من الهندسة جد مخالف لطراز مملكتنا، وكانوا على أنعم حال من الثراء، وكانوا كُيْراً عديدين، ولهم من ثرائهم نفوذ وسلطان حتى لقد كانوا على أنعم حال من الثراء، وكانوا كُثْراً عديدين، ولهم من ثرائهم نفوذ وسلطان حتى لقد كانوا يستطيعون أن يؤذوا الرجل من أهل المملكة ولا يصيبهم سوء أو عقاب، وكانوا يرجعون في أمرهم إلى وال منهم استعملوه عليهم. يقول ستانلي لين بول - ولكن سلالة هؤلاء الذين حملوا الإسلام إلى الصين لم يستطيعوا أن يدلونا على شيء من أنبائهم، ولكن الذي لا ريب فيه أنهم من العرب، لأنهم تركوا معالم وجوههم في وجوه ذريتهم وأخلافهم، ولكنا عاجزون عن أن نعرف من أية ناحية من العرب جاؤوا، ومن الجائز أن محمداً هو الذي أنفذهم عام أنفذ البعوث والرسل إلى الممالك والأصقاع ليدعوهم إلى الدين الحق، أو لعلهم كانوا طائفة من الهاربين المُشَرَّدين كأولئك الذين هاجروا إلى الحبشة بإذن النبي، ولكن لا شك ثمت في تاريخ دخولهم المملكة الصينية، ولا مراء في أن الصين رأت قوماً من المسلمين في الربع الأول من القرن السابع أي بعد عام الهجرة بعشر سنين. أما عن واليهم الذي كان يقودهم ويحكم فيهم فنحن في ظلمة شديدة من التكهن والريب، ولكن لا شك في أنه كان رجلاً ذا خطر كبير لأنهم حفظوا عنه بعض القصص والأساطير وقد جاء في إحدى المدونات المؤرخة عام 1351 من الميلاد أنه كان في الصين رسول وفد من العرب، ولكن الاسم الذي جاء في تلك الأسطورة لا يدل على شيء غير أنه كان من الصحابة، ولقد تكهن الكثيرون في أمر هذا الرسول والأسماء العديدة الغريبة التي سمي بها في الأساطير حتى قالوا أنه رجل يدعى وهب أبا كبشه من أخوال النبي. قال المؤرخ - فلما استقر بالإسلام المقام في تلك الأرض لم يلبث أن نما وانتشر وقويت شوكته وتكاثر التجار العرب الذين نزلوا أول أمرهم بمدينة كانتون وزاداد عديدهم بالوفود التي التجأت إليهم من جزيرة العرب وبالتزاوج وأهلَ الصين وبالذين دخلوا منهم في دينهم، وقد جاءهم عام 755 من مولد المسيح مدد من الخليفة المنصور في أربعة آلاف مقاتل كان أنفذهم أمير المؤمنين لعون الإمبراطور سوه تيسنج - على الخارجي الذي شق عصا الطاعة عليه، فلما قاتلوا وظاهروا الإمبراطور على عدوه أذن لهم الإمبراطور بالمقام في

الصين وبالزواج من نساء مملكته، وليس في هذه المحالفة التي قامت بين الخليفة العباسي في بغداد وبين عاهل الصين ما يلوح لأول وهلة من الدهشة والغرابة فقد كانت حدود دولة العرب قد صارت على مسافة غير بعيدة من حدود دولة الصين، إذ كان قتيبة بن مسلم قد اجتاز - وذلك في القرن الأول من الهجرة - نهر جيحون وفتح بخارى وسمرقند وجاوزهما إلى كشغر وغيرها حتى دانى تخوم الصين، وإذ ذاك أرسل نفراً من كبار رجاله إلى الإمبراطور الصيني يعرض عليه ود الخليفة وأمانه، ويخيره بين دفع الجزية عن يد وهو صاغر، وبين السيف والنار وحرق المدائن وقتل لرجال وسبي النساء والأطفال، وقد رفع قتيبة بهذه الرسالة الجريئة الدهشة إلى بُرُده في هدوء العربي ورباطة جأشه، فلما نزلوا على الملك أدهشه لباسهم وملامحهم وأخذت بلبه جرأتهم وفخامة كلامهم فتلقاهم أحسن اللقاء وأغدق عليهم الرتب والألقاب ونزل على دفع الجزية إلى الخليفة ومنذ ذلك اليوم والخليفة وحليفه على أحسن الود وأطيب السلم، يتهاديان الهدايا يتوادان بالتحف والنفائس، ولقد كان الباعث على هذه المحالفة بين هذين الأمير بن المتباعدين ما كان يحدق بدولة كل منهما من غوائل عدوهما المشترك وهم أهل تبيت وغاراتهم على حدود الدولتين. وكذلك أخذ المسلمون يزدادون في الصين ويتكاثرون وزادهم عدداً من كانوا يرحلون إليهم لو إذا من أهل التتر، بعد أن ثار جنكيز خان في الشرق ثورته، ولم يكونوا بحاجة إلى الامتزاج بأي عنصر غير عنصرهم، إذ كانوا في نماء وتناسل مستمرين، وكانوا يتسرون السراري من نساء الصين، ولم يقتصروا في الإكثار من عددهم على ذلك بل كانوا يشترون أطفال الأهلين في زمان القحط والمجاعات والجدب فيدخلونهم في زمرتهم ويقومون على تربيتهم وتهذيبهم وتزويجهم إذا بلغوا حُلُمَهم، حتى كان لهم بعد زمان قرى عديدة من هؤلاء الذين كانوا يشترونهم أطفالاً، وظلوا كذلك أربعة قرون وهم محسودون من الأهلين على نفوذهم وثرائهم. يقول دي تير سانت في كتابه الإسلام والصين، ولم يلبثوا أن أخذوا يفقدون طبائع وجوههم وأجسامهم التي كانت تميزهم عن أهل الصين في أول عهدهم بتلك المملكة، وكذلك خرج منهم جيل مخالف في شكله وهيأته لأهل الصين وليس عليه كذلك سمات العرب الأقحاح الأصليين فمسلمو الصين اليوم خفاف الأجسام صلابها أرفع قامة من الصينين الأصليين

وأضخم منهم خلقة وأصلب منهم أعصاباً ولهم عيون أهل الصين وإن اختلفت عنها في حدة بصرها، ونساؤهم أصغر منهم جسوماً مكتملات النهود دقيقات الأرجل، يتبعن في ذلك عادات نساء الصين في تصغير أرجلهن، والمسلمون أقرب في ألوان بشرتهم إلى البياض والسمرة من صفرة أهل الصين وشعورهم على الأكثر سوداء، وإن كنت قد تلتقي من بينهم بشعور صفراء. أما عن أخلاقهم فهم أودع من الصينيين وأنعم آداباً وأقرب إلى الصدق منهم، وهم في التجارة أمناء لا ظل للخيانة على معاملاتهم، وهم إذا ارتفعوا إلى منصات القضاء عدول لا يظلمون ولا يتحيزون، وموقرون مبجلون، وهم بطبيعتهم أنشط وأخف إلى العمل، ويؤثرون القتال والتجارة على الصناعة والأدب، وليسوا من المتعصبين بل إنهم ليعدون في التسامح إلى أقصى حدوده فيتركون من سنن الدين ما يغضب أهل الصين أو يصطدم مع أفكارهم وعاداتهم، وهم يعيشون معاً مؤتلفين متضامنين كأهل العشيرة الواحدة، يدافعون بعضهم عن بعض ويحسنون إلى فقرائهم وهم بطبيعة الحال مضطرون إلى أن ينزلوا في بعض الأمور على قوانين البلاد وأن يستمسكوا في غيرها بشرائع الإسلام بعد أن يتمشوا بها كما تتطلبه أديان المملكة وعاداتها، فإن قانون الزواج في الصين لا يعسف المسلمين هناك ولا يرهقهم لأن على المسلم أن يتخذ زوجة واحدة ولكنه يستطيع أن يتسرى - وذلك بعد استئذان الزوجة - بعدد من السراري والإماء، وهن يعملن في الدار كجوار للزوجة ووصائف، ومن أغرب الحقائق أن الزوجة هي التي تستحث الزوج في أغلب الأحيان على تسري السراري واتخاذ الإماء، وذلك لأنها إما تكون عقيماً وأما لأنها تريد أن تزيد في حاشيتها ووصائفها. وقد انتشر الإسلام في الصين انتشاراً لم يظفر به دين آخر غريب في تلك البلاد إلا الديانة البوذية، وليس ذلك يرجع إلى شيء من المقاربة والمماثلة بين الإسلام وأديان الصين كما كان يقول ملوكهم في أوامرهم وقراراتهم إذا أرادوا أن يرسلوا السكينة والود والهدوء بين المسلمين وبين أهل مملكتهم، ولكن لأن المسلمين هناك فهموا واجب الأقلية إزاء الأكثرية، وإنك لتندهش إذ تسمع بأن مسلمي الصين استطاعوا أن ينزلوا عن بعض شعائرهم ويتمشوا مع عادات الوسط الذين يعيشون بين ظهرانيه ويرضوا بآدابه ومصطلحاته

وقوانينه فهم لم يقتصروا على الأخذ بعادات الصين بل أخذوا كذلك عنها زياها ولباسها وتخلوا عن شيء من عصبيتهم فعاشوا بينهم على محض الحب والسلام والرخاء وأنهم ليشتركون في أعيادهم ومحافلهم ويسلكون سلوك الصينيين بل هم خير منهم في ذلك وأنعم أخلاقاً، وهم يتجنبون بكل حزم وحكمة كل ما يغضب الأهلين كطوال المآذن مثلاً. وقد كانت هذه الطاعة وهذا الإخلاص مدعاة إلى معاملتهم بالحسنى واللين والعرف من ناحية الإمبراطرة - يوم كانت الصين إمبراطورية - وأنك لتلتقي في كل قرارات هؤلاء الامبراطرة وأوامرهم ومنشوراتهم إلى الشعب الصيني بعبارات رفيقة تحث الأهلين على الترفق بالمسلمين والتحبب إليهم وملاينتهم وملابستهم والعمل على الإحسان إليهم واستتباب السلم والسكينة بين الأهلين وبينهم. وأما المشاحنات والمقاتلات والمذابح والثورات التي قامت في خلال القرن الماضي بين المسلمين وبين الصينيين فلم تكن للسلطات العليا في حكومة الصين يد في فيها، ولم تكن هي الباعثة عليها، وإنما هم الموظفون الأصاغر الذين كانوا يوقدون نارها، لأنهم كانوا يكرهون المسلمين وينفسون عليهم حب الحكومة، ولقد كانت نخوة العرب وحميتهم وتمردهم على الضيم والذل وإباؤهم المختفي في أرواح هؤلاء المسلمين أخلافهم وورثتهم، تدفع مسلمي الصين إلى مقابلة الأذاة بمثلها والمذبحة بأشد منها، فكانت المشاجرة التافهة بين الأفراد لا تلبث أن تسوق إلى المذابح المخيفة الموحشة بين الفريقين ففي سنة 1860 مثلاً قامت مذبحة كبرى في مدينة كبوتشو ذبح فيها مسلمو المدينة عن آخرهم، ولم يكن الباعث على ذلك إلا قضية شخصية بين أسرة مسلمة وبين أسرة كونفوشيوسية، فلما رأى مسلمو المدينة المجاورة لكيوتشو ما فعل الأهلون بشركائهم في الدين أغاروا على المدينة فذبحوا من سكانها الوطنيين خلائق كثيرة حتى لقد امتلأت الطرق بجثث الموتى وأشلاء الهلكى والقتلى والجرحى فكانوا يحملونها أكواماً وركاماً واختلطت الجرحى بالقتلى فقضت نحبها دون أن يحس بأمرها، وكان من هذه المذبحة أن جاءت في آثارها بمجاعة كانت أشد منها هولاً، فكان الناس يأكلون لحمان البشر ولم يكن يجسر رجل من الفريقين أن يخرج وحده ويبعد في الطريق مخافة أن ينقض عليه الجائعون فيلتهموه التهاماً، وكان أكبر حظ الرجل منهم أن يقع على جثة إنسان فيأخذها إلى مكان قصي وهناك يقطعها إرباً ثم يجففها

في حرارة الشمس ويختزنها كأحسن ما يختزن من المآكل واللحوم القديدة وكانوا يعملون من عظامها المرق والحُساء، ولقد اشتدت هذه المجاعة المخيفة حتى صاروا يبيعون اللحوم الآدمية جهرة في الأسواق. وكذلك مضى نصف القرن الأخير على هذه الحال من الثورة والمذابح والشحناء حتى فني من المسلمون وباد خلق كثيرون يعدون بالملايين، ثم عادوا آخر الأمر إلى العيش في ظل السكينة والطاعة والسلم، كما يجب على الأقلية إزاء سواد الأهلين.

آخر زمن

آخر زمن - آخر زمن كلمة سيارة بيننا شائعة، ترددها ألسنة الخاصة، وتتشدق بها أفواه السوقة، وتجري كل يوم بين المذهبين، تدور كل حين في حلقات الغوغاء والأميين، وهي تقال في معرض التبرم والتسخط، عند ما يشهد الناس أمراً مستنكراً خارجاً عن سنن المألوف، متمرداً على حكم العرف، منشقاً على مبادئ الأخلاق والآداب، وإذا صح ما يذهب إليه علماء الفيلولوجيا، أي علم اللغات، إن الفكرة تستمد لفظها وأسلوب التعبير عنها من لغة الأمة التي نشأت أول أمرها فيها، فإن كلمة آخر زمن التي خلقتها روح العصر في هذا الجيل الحاضر، هي أكبر دليل على أنا مصابون بالمرض الذي ينطوي تحت معناها، والعلة العُضال التي تدل عليها حروفها، ولكننا في ذلك إنما نتبع أمم العالم وشعوبه، ونئن من الداء المتسود في أقطار الأرض المتحضرة وممالكها، إذ كان الغربيون قد ابتكروا قبلنا للتعبير عن هذا المرض. العصري الذي استبد بكل فروع حياتهم ومدنيتهم كلمة - ومعناها الحرفي (آخر الزمن) ويراد بها في الغرب المعنى الذي يريده المصريون في هذا العصر منها والكلمة كما يتبين للقارئ فرنسية، لأن فرنسا هي التي ظهرت فيها أعراض المرض قبل غيرها، ثم لم تلبث أن انتشرت في أمم الغرب بأجمعها، واجتازت الإقيانوس إلى العالم الجديد ففشت في لغاته، مما يدل على أنها تعبر عن حال المجتمع الإنساني المتحضر في كل بقاع الأرض، ولكن الكلمة في فرنسا مسقط رأسها تتجلى في أتم معانيها وأغراضها، وليست باريس إلا الحاضرة الكبرى لمرض (آخر زمن). ونحن فإذا بحثنا في قيمة التعبير من حيث لفظه ومبناه فلا نلبث أن نتبين خطأه وفساده، لأن القرن من الزمن لا يجري عليه من مراحل العمر وأدوار السن ما يجري على الناس، فهو ليس مثلنا يبدو وضيعاً في العام الأول من مأته، ثم يشب ويترعرع ويمتلئ ويكتمل، ثم يكتهل ويشيخ ويهرم، ثم يحتضر في آخر يوم من العام المتمم للمائة، اللهم إلا في عالم التخيل والوهم والمجاز، ولكن الناس قد اعتادوا أن يحيلوا انحطاطهم وفشلهم وأمراضهم ومصائبهم ونكباتهم إلى الزمن، متنصلين من تبعة أغلاطهم، رداين إلى الزمن جريرة مفاسدهم، فهم في التبرم من انحطاطهم يقولون (آخر زمن) وكان أوجب أن يقولوا (آخر

ناس). على أنه مهما كان من خطأ التعبير وفساده فإن الغرض الذي يقصد به إليه قد عم العالم وتجلت مظاهره في كل حياة الجيل الحاضر ومعيشته، فقد اشتد الاضطراب بين الناس، وعظم الفساد، واستتب الانحطاط، وفشت المتاعب والهموم، وقست الحياة، حتى ساد الوهم بين الناس، إن العالم موشك على الانطفاء والخمود والفناء وإن العصر الحاضر هو آخر ما يطلع على العالم من العصور، وختام ما يدور به الزمان ومن ثم ترى كلمة (آخر زمن) ليست فقط اعترافاً بفساد الجيل، بل تسخطاً كذلك من هذا الفساد وشكاة وتبرماً. ولكن إشفاق الناس اليوم وتخوفهم من وقوف دورة الزمن، وفناء عالم الأرض، ليس بالأمر المستحدث الجديد، فقد استولى نفس هذا الخوف على الأمم المسيحية عند حلول عام 1000 من الميلاد ولكن هناك فرقاً بيناً بين فزع أهل ذلك الزمان وبين فزع أهل (آخر زمن)، فإن قلق أولئك وفزعهم من مقدم ذلك العام لم يثر فيهم إلا لأنهم كانوا يحسون نعمة الحياة وبهجتها وانتعاشها، وكانت لهمه قلوب حساسة خفاقة، وأرواح متوثبة ومناعم حلوة بهيجة، فعز عليهم أن يلقى في روعهم أن الأرض عما قليل مُسفَّة بهم، ولا يزال فيها كؤوس تحتسي، ورضاب شفاه يرتشف، وهم يحسون أنهم لا يزالون قادرين على التمتع بالخمرة والحب، وأما فزع (آخر زمن) فليس فيه شيء من هذا، بل هو يأس رجل مريض، يحس أنه يحتضر ويدنو رويداً إلى الموت، في وسط هذه الطبيعة الجميلة الزاهرة المتفتحة. ونحن نجيء إليك بطائفة من الأمثلة التي تقال فيها كلمة (آخر زمن). . . . ملك يعتزل الملك ويرحل عن بلده فيعيش في باريس في مغنى جميل، ويحتفظ عند الحكومة التي خلفته على الملك ببعض الحقوق والرتب والامتيازات، ثم يمضى زمان فيخسر على مائدة القمار أكثر أمواله، فيقع في معسرة شديدة، فلا يجد مخلصاً له إلا أن يخابر حكومة بلده في أن تعطيه مليوناً من الفرنكات، في سبيل تنازله آخر الدهر عن حقوقه وألقابه وامتيازاته. . . هذا ملك (آخر زمن). قاتل شرير يحكم عليه بالإعدام ثم تشرح جثته بعد الوفاة، فيجيء مفتش الشرطة فيقتطع له قطعة من جلد الجثة بعد تشريحها فيدبغها ويصنع له منها محفظة للفائفه وبطاقاته. . . شرطي (آخر زمن).

شاب يخطب له عروساً، ثم يأخذها يوم العرس فيزف معها في منطاد. . . زفة (آخر زمن). ثلاث بنات من أسر طيبة، يتحدثن إلى صواحبهن، فتتنهد إحداهن فتسألها الأخرى، ماذا بك؟ فتجيبها - إني أحب فلاناً. . . وفلان يحبني، فتقول لها صاحبتها وهي تحاورها، ما أطيب هذا الحب. إني أعرف فلاناً فهو شاب جميل ورشيق وحلو القوام، ولطيف الحديث، ولكن علامَ إذن هذا الحزن؟ فترد عليها الأولى قائلة، ولكنه فقير لا يملك شيئاً وليس من أسرة مذكورة، وأبواي يريدان أن أتزوج بالباشا الفلاني، وهو بطين، عظيم الكرش، وأصلع، ودميم، وثقيل، ولكنه مع ذلك كبير الغنى، عريض الثراء، وإذ ذاك تقول لها محدثتها، إذن فتزوجي الباشا يا بلهاء دون تأخير، ثم اعملي بعد ذلك على أن يتعرف الباشا إلى حبيبك ويصاحبه يا غبية. . . بنت (آخر زمن). ومن ثم ترى أن كلمة (آخر زمن) في هذه الأمثلة التي ضربناها ليس يراد بها إلا الانحراف عن أحكام العرف والعادة والانشقاق على سلطة الأخلاق والآداب والتحرر من سيطرة القوانين الأدبية التي نعيش عليها، فهي عند الشهواني مطاوعة اللذة إلى أبعد حدودها، والاسترسال مع الشهوة إلى أقصى مطالبها وإطلاق الجزء الحيواني في الإنسان، وهي من ناحية الأناني احتقار كل ما يتعلق بالناس والسخرية من شأنهم، وهدم الأسوار التي تحول بينه وبين طماعيته وشهواته، ولذائذه وحيواناته وهي عند المكذب بصلاحية الحياة المؤمن بسخافتها التمرد على الفضيلة، والسخرية بالآداب، ومتابعة النفس ووساوسها ومختلجاتها، وهي عند الجميع هدم الآداب، وقتل الحاسة الأخلاقية، وتسويد الإباحة في كل معالم الحياة. ولكن عوارض هذا المرض قل ما توجد بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة لأنها لا تتجلى إلا في طائفة قليلة من الناس يرونها في الطريق السوي إلى المستقبل والباعث الأكبر على ترقية الحياة وتهذيبها، والافتتان في إصلاحها والسمو بها، ولكن هذه الطائفة الصغيرة هي التي تنشر ظلها على المجتمع كله، لأنها طائفة الأغنياء الظرفاء، وطائفة المتهوسين، فالأولون يتبعهم من بقية الشعب الأدعياء والمتظاهرون والحمقى والمغفلون، والآخرون يؤثرون في الضعفاء والجهلاء والعجزة والعصبيين والجميع يمشون إلى الانحطاط والفساد.

أعراض المرض ومظاهره أدخل قصور الأغنياء وذوي البسطة في العيش، والمترفين من سكان الحواضر والمدن، وأخطر في دروبها ومنافذها وحجراتها، ونبئني. ماذا نجد؟ أن أول ما يهجم عليك من مظاهر هذا المرض، أزياء النساء والرجال والأطفال، هذه الأثواب الغريبة الأشكال والألوان، هذه الحواشي والقُوارات والمزركشات والمتعرجات، وهذه الشرائط والأكمام والمخرمات، وهذه الربْطات التي تظهر لك ألوان الطيف الشمسي ومخاليطها وأصباغها، وهذه الأفرع المعقوصة والذوائب المرسلة، والسوق السمينة اللطيفة، والنحور الناصعة الجميلة، وهذه الحواجب المزججة المكتحلة، والخدود الأرزية الطلاء، والوجنات الوردية الدهان، والشفاه المحمرة المصبوغة، ثم دع ثياب النساء وبزاتهن، وانظر إلى الأطفال وهم في غرائب أثوابهم وفساتينهم بين سترة حمراء كسترة الجلاد في القرون الوسطى إلى سترة مذهبة كسترة القائد العظيم، وبعد ذلك تحول إلى بزات الرجال تر العجب العجاب، تشهد ضروباً شتى من الغرائب والمضحكات، بينا ترى السترة المتقاصرة لا تكاد تحجب الإعجاز، إذ تصدمك السترة الطويلة تنزل إلى أسفل من الركبة، ثم لا تنس الشعور الملواة، والمفروقة والمدهونة، والمفرق المقصوص، والطرة المسترسلة، والفود المتأود، والمنديل المطل من الجيب، والعصاة الذهبية، والمنشة البيضاء العاجيَّة. وهذا وأنت إذا دققت البصر رأيت أن كل فرد من هؤلاء يحاول بما يبتكر من الأغراب في التفصيل والتقطيع والخياطة واللون، أن يهتاج التفات الناس واندهاشهم وإن كل فرد منهم - الرجل سواء في ذلك والمرأة - يريد أن يحدث للناس ضرباً من التهيج العصبي الشديد، وغاية الجميع من هذه البزات الغريبة أن يحدثوا تأثيراً ما، مهما كان الثمن، ومهما كانت التضحية. ثم يأتي من بعد ذلك نظام البيت وأثاثه ورياشه، فإن كل شيء في هذه المغاني والقصور بهيج الأعصاب، ويذهل الأبصار، ويزيغ الحواس، فإن هذا التنافر الظاهر في كل نفائس الحجرات وطرائفها، وهذه المعارضة البينة في الألوان والأشكال والترتيب والوضع والتنسيق - كل ذلك يراد به إدهاش الناس وتهييج أعصابهم، وتضليل أبصارهم وحواسهم. ثم تعال نلتمس أصحاب هذه البيوت في مجتمعاتهم وملاهيهم والأمكنة التي يختلفون إليها،

ويطلبون فيها اللهو والمسرة والمراح، نجدهم في دور الأوبرا والمراقص ومسارح الغناء لا يصفقون إلا للشهوى من الأغنيات، والمهيج من الأناشيد، والعارية من الراقصات، والمومس من المغنيات، ولا يضجون بالمديح والإعجاب إلا للرواية السخيفة الغرض، والقطعة التمثيلية البلهاء القذرة العفنة، ولا تؤثر الموسيقى في أعصاب أحدهم إلا إذا اختلطت نغمات الأوتار كلها وامتزجت أصواتها، فاستحالت زوبعة من النغم صخابة داوية، ولا غرض له من اللهو ولا مأرب إلا أن تهتاج أعصابه، وتتبعه حيوانيته، ويستعيد في منتصف الليل شبابه ونشاطه وقوته. وأعمد بعد ذلك إلى تصفح الكتب التي يطالعها سواد الجمهور بطبقاته ومراتبه ليجد فيها مسرته وتهذيبه فإنك ولا ريب ستحمي أنفك أن تؤذي من هذه الرائحة المستنكرة الدفرة التي تتصاعد منها، إذ لست واجداً غير كتب فاسدة عن النساء والعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، وعن اللصوصية وغرائبها والشرطة وأسرارها، وحوادث الزنا ووقائعه، والكتاب الذي يريد أن يكون محبوباً من الجمهور، جارياً مع روح العصر، متمشياً مع مودة الجيل، يجب أن يكون قبل كل شيء حيوانياً والجمهور يميل إلى الأقاصيص، على شريطة أن تطبع بطابع العلوم العصرية، كالتنويم المغناطيسي ومناجاة الأرواح، واستحضار الموتى، وأصابع اليد، والحركة في النوم، وقراء الكتب ينتشون اليوم من الشعر الرمزي المظلم المختنق بالاستعارات والرموز والكنايات والمجازات، وإن لم ينطو تحت هذا شيء من الغرض الشريف، أو مسحة من المعنى النبيل فإذا خرج من بين هذه العاصفة الكتابية كتاب فلسفي ممتع، عليه كل ظواهر الصحة والقوة والسلامة، أو رسالة نقية الروح، كبيرة المقصد، أو ديوان شعر حار القصيد، ملتهب الشاعرية، جديد المنحى، فلا يكون نصيبها إلا البقاء فوق رفوف المكاتب، وفي مخازن المطابع، وفي بيوت أصحابها، وعند طائفة معدودة من المهذبين، ومن ثم كان الأصحاء المبدعون من الكتاب والأدباء والشعراء لا يجدون من الإقبال والمكانة والرواج ما يجده السخفاء والزمني والحمقى والأدعياء، وليس ذلك إلا أكبر دليل على أن أعصابنا وأذهاننا لا تقبل إلا السخيف والحيواني والغامض والمظلم والبليد. وصف المرض وأسبابه أما وقد وصفنا لك طائفة من الوجوه التي تلتمس فيها أعراض آخر زمن ومظاهره، فنحن

منتقلون إلى تشخيص المرض، ثم إلى العوامل التي أحدثته وعملت على نمائه وانتشاره. أنا نعيش الآن ضعاف الأعصاب، مرضى الأذهان، خائري القوى، مفقودي الرَوْح والنشاط، مخدرين بكل أنواع التخدير، مقتولين بكل ضروب الضعف والزمانة والذهول والفتور، والعالم يئن اليوم من مرضين عضالين يريدان أن يستبدا بكل مظاهر الحياة، ويفتكا بالجيل والناشئة وينحدرا إلى السلالة والذرية، وهما يزدادان كل يوم شرة وتفاقماً وخطراً، وهذان المرضان هما الانحطاط والهستيريا بمراتبهما، ولا نريد بالانحطاط إلا الأمراض العقلية المختلفة التي تدخل في حدود الجنون، وقد عرف الأطباء هذا الضرب من الانحطاط بأنه اختلال في الأجهزة المخية وانحراف فيها عن مستوى العقل الصحيح، وليست الهيستريا وغيرها من الأمراض العصبية بأقل في أحداث آخر زمن من الانحطاط الذهني ودرجاته، ولا يذهبن أحد إلى أن الهيستريا لا توجد إلا بين النساء فإنك لتلتقي بها أحياناً بين الذكران، وهذان المرضان الخطيران سائدان بين الجمهور في البلاد المتحضرة ذائعان، يطبعان أعراضهما على كل عمل يعمل، وكل أسلوب من الحياة يعيش، ويمتزجان بأكثر ما يكتب ويقرأ ويقول. وقد أرجع أكبر أطباء الغرب هذا الانحطاط إلى التسمم، فإن جيلاً قد اعتاد سواده أن يلح على المخدرات والمنبهات المختلفة الوسائل والأنواع، كالخمور والتبغ والأفيون والحشيش والمورفين، ويكون عرضة للسموم العضوية كالحمى والزهري والسل الرئوي والحنجري وغيرها، سينزل ولا ريب منها حيل منحط مريض، وإذا ظل هذا الجيل المنحدر يأخذ من هذه المخدرات ما أخذ الجيل الذي كان قبله، فأنت واجده ولا شك هاوياً إلى أحط أنواع الانحطاط الذهني، إلى البلاهة والحماقة والعته والذهول وأشباهها، ولو اطلعت إلى الإحصائيات لعرفت مبلغ التسمم الذي يجري كل عام في أجسام الشعوب المتحضرة، ولا تزال المقادير التي يتناولها العالم من المخدرات والمنبهات كل عام في ازدياد مطرد وارتفاع مستمر، ولاسيما الحشيش والأفيون وإن كانت مصيبة مصر وبعض أمم الشرق منهما أشد من مصيبة الغرب. والعامل الثاني الذي عمل على إنماء مرض الانحطاط، وهو أكبر أسباب مرض العصر - آخر زمن - هو سكنى العواصم والمدن الكبرى، فإن ساكن المدينة الكبيرة - حتى الغني

العريض الثراء في قصره الفخيم، محوطاً بكل وسائل الترف والنعمة - لا يزال دائماً معرضاً للمؤثرات الخطيرة التي تنقص من حيويته ومقدار قوته ونشاطه، فهو يتنفس هواء مشبعاً بالجراثيم، ويأكل طعاماً فاسداً ملوثاً مغشوشاً ويحس أنه أبداً هدف للاضطرابات العصبية المختلفة، حتى لا تكاد حاله تفترق عن حال ساكن المستنقعات ومغاشي الحمَّى، ومن ثم كانت درجة الوفيات في المدينة الكبيرة تزيد بمقدار الربع عن باقي سكان المملكة وهي ضعف ما هي عليه في الريف والبلاد الخلوية، وكان ينبغي أن تكون أقل منها، لأن درجة الوفيات في المدينة الكبيرة من الشباب والفتيان ومتوسطي الأعمار أقل منها في الأطفال والشيوخ، هذا وأنت تجد أطفال المدن الكبرى يترعرعون وينمون ويخرجون من أكمامهم حتى الربيع الخامس عشر وتظهر إذ ذاك عليهم علائم النشاط والفتوة والمستقبل. الزاهي المجيد. ولكنك لا تلبث أن ترى أن ذلك النماء قد وقف وأن ذلك الذهن المتوقد السريع البديهة والفطنة قد بدأ يفقد توقده وسرعة بديهته، ويعود متراخياً بارداً بليداً وإذا بك ترى الصبي الذي كان بالأمس مثال النشاط في المدرسة قد أصبح أحمق مفلول القريحة غبي الذهن متكاسلاً. ونحن نعلم أن الولع بسكنى المدائن والعواصم قد اشتد في هذه السنين بالناس وأنه قد أصبح ضرباً من المرض، حتى أصبحت المدن اليوم غاصة بالسكان مختنقة بالوافدين عليها من القرى والبلاد، ومن ثم أصبح جزء كبير من سكان المملكة هدفاً لهذا التأثير الخطير الذي يسوقه الولع بالمدن، ولم تكن الحال كذلك منذ خمسين عاماً، ومن هنا جعل عدد الضحايا يزداد في كل سنة زيادة جلية فاحشة مخيفة مدهشة، واطرد معها الزيادة المستمرة في عدد المرضى المصابين بالأمراض العقلية، كالمجرمين والمعتوهين والمجانين وسكان مستشفيات المجاذيب. هذا ولا يزال هناك سبب ثالث أعم من السبب الذي قدمنا، وهو سبب وإن كان غير كاف وحده لإحداث مرض الانحطاط، إلا أنه سبب كاف لأن يبعث على تفشي الأمراض العصبية الخطيرة كالهيستيريا والنيروستانيا وأضرابهما، وهذا السبب الثالث هو التعب الذي يستشعره أهل الجيل الحاضر من قسوة الحياة وتكاثر مطالبها ومشاغلها، والعالم المتحضر يشكو من هذا التعب منذ نصف القرن الأخير، فقد كثرت المخترعات

والمكتشفات وتغلغلت جميعها في حياة كل فرد منا ونفذت إلى صميم عيشه، وأثرت أكبر الأثر في أعصابه وقواه، فإن البخار والكهرباء في أيامنا هذه قد غيرا حياة الفرد كل التغيير وطمسا معالم العيش الذي كان يعيشه آباؤنا وأجدادنا، والآن دعنا نقارن بين حال العالم منذ أكثر من سبعين سنة ثم حاله منذ عشرين سنة. فقد كان في أوروبا عام 1840 ثلاثة آلاف كيلو متر من السكة الحديد فأضحت في سنة 1891 218 ألف كيلو متر وكان عدد المسافرين في هذه السكك الحديدية عام 1840 مليونين ونصف المليون فلم تكن سنة 1891 حتى أضحي 614 مليوناً، وكان مجموع الخطابات التي دارت بين ممالك الغرب في سنة 1840 هو 92 مليوناً من الرسائل، وذلك بخلاف الرسائل الداخلية التي دارت بين سكان المملكة الواحدة، فلم تكد تقبل سنة 1909 حتى صارت 2759 مليوناً، وكان في ألمانيا 305 من الصحف اليومية سنة 1840 فصارت 6800 في سنة 91، وكان منها في فرنسا 776 فصارت 5182، وكان في انجلترا منها سنة 1846 551 صحيفة فأضحت 2255، وناهيك بعد هذا بإحصائيات المطبوعات والمؤلفات وحركة المطابع والمكاتب، فإذا كان ذلك كذلك منذ أكثر من عشرين عاماً فليتصور القارئ مقدار النمو المدهش الذي حدث في هذه الأرقام إلى يومنا هذا، ولا يفوتنه أن يتبين لنفسه النسبة بين حال الغرب من هذه الوجوه وبين حال مصر، فليست هذه إلا صورة مكبرة لازدياد نسبها عندنا، فقد كادت السكة الحديدية اليوم تشبه في هذه البلاد خيوط الشباك ونسيجها، وأضحت مصلحة البريد أكبر من قبل وأكثر عملاً وفروعاً وحركة ونشاطاً، وكثرت عندنا كذلك المطابع والصحف والكتب والمطبوعات. ومن ثم كان هذا النمو المدهش المسرع وهذا التغير المطرد في وسائل الحياة يتطلبان من الفرد في هذا العصر نشاطاً أشد من قبل، وحركة أكبر، وعملاً أكد، ونصباً أطول، لأن هذه الصحف المتكاثرة تريد كلها أن تقرأ، وهذه المجلات والكتب والمؤلفات ومستخرجات المطبعة والمكتبة تريد أن تطالع، وهذه الرسائل العديدة يجب أن تكتب، ومصالح السكة الحديد والبريد والتلغراف تريد كلها أن تأتي بإيرادها وأرباحها، ثم أن للفرد فوق هذه مشاغل العمل الذي يرتزق منه ومطالب الأكل والنوم وجميع حاجيات العيش، حتى لقد أصبح لساكن القرية الصغيرة في الغرب اليوم من مشاغل السياسة وموضوعات الصحف

والتجارة ما يزيد على مشاغل حاكم ولاية من الولايات الكبرى منذ مائة عام، فهو يريد أن يفهم مجاري السياسة في مملكته وفي كل دول العالم وأقطاره، ويهتم بآلاف الحوادث التي تجري في أنحاء الأرض وأركانها، يهتم بالقراءة عن ثورة في تشيلي، أو تمرد في إفريقيا، أو مذبحة في الصين أو مجاعة في روسيا، أو مظاهرة في إسبانيا، وقد أصبح الطاهي في الغرب يرسل من الخطابات والرسائل أكثر مما كان يفعل الأستاذ في الجامعة قبل هذا العهد، وأصبح التاجر الصغير يسافر أكثر مما كان يفعل الأمير. وهذه المشاغل الكبيرة، حتى التافه منها، تجهد ولا ريب الجهاز العصبي وتضعف الأنسجة وتنحلها، فإن كل سطر نقرأ أو نكتب، وكل وجه نبصر، وكل حديث نتحدث، وكل منظر نشهد من خلال نوافذ القطار الطائر، تحرك فينا أعصابنا وتؤثر في مراكز مخنا، بل إن أقل هزة من القطار - وإن لم نشعر بها - والضوضاء الدائمة المستمرة، والمناظر المتتابعة التي تأخذ أعيننا في شوارع المدينة الكبيرة، وترقبنا للحوادث الهامة الخطيرة، وتلهفنا الدائم على موعد ظهور الصحف، ومجيء ساعي البريد، وقدوم الأضياف والزائرين تكد في أذهاننا وأعصابنا وتهيجها وتضعفها، ولقد أصبح الرجل المتحضر اليوم يؤدي من العمل أكثر مما كان يطلب إليه أن يعمل منذ قرن بمقدار يتراوح بين خمسة أضعاف وخمسة وعشرين ضعفاً. وأنت ترى أننا على فرط ما نتعب وننصب ونجهد أعصابنا وأذهاننا لا نتناول من الطعام ما يزيد في كميته وجودته عن مقدار طعامنا منذ خمسين سنة إلا الشيء اليسير ولكن هذا المقدار لا يكاد يوازي المتاعب التي تتطلب منا اليوم، ولو أنا عنينا بالطعام واحتفلنا له وأخذنا منه أجوده نوعاً وأكثره مقداراً، لما أغنى عنا ولا أفادنا لأننا لا نستطيع له هضماً، فإن معدناً لا نستطيع أن تمشي مع متاعب أذهاننا وأعصابنا، ومن ثم كنا نسوق بأنفسنا إلى عسر الهضم وأخطاره. وكان من هذا التعب الذهني والإجهاد العصبي أننا اكتشفنا في السنين الأخيرة عدة من الأمراض العصبية وسميناها بأسماء محدثة، ولا يذهبن أحد إلى أن هذه الأمراض الجديدة كانت موجودة في العالم قبل أن يهتدي إليها وأننا إنما كنا عُمي البصائر عنها، فإننا إذا كنا لم نعثر بها فإنما لأنها لم تكن قد وجدت من قبل، ولأنها من نتائج العصر وويلات الجيل

وأمراض المدنية الحاضرة، وكثير من هذه الأمراض يحمل اسم العوامل التي أحدثتها، وهنا نعود فنقول أن ازدياد المقادير التي تناولها الجيل الحاضر من الشراب والمخدرات لا منشأ له في الحقيقة إلا أن الجيل متعب منهوك القوى خائر الأعصاب، ولذلك راح كثير من أهله يتلمس في الكأس طيف الراحة والخمود والهروب من المتاعب والآلام، ويطلب روح النشاط والانتعاش والمراح، حتى إذا وجدوا أن الشراب لا يزيدهم، إلا تعباً وخوراً واهتياجاً للأعصاب، عمدوا إلى متابعة الشراب والإلحاح على الكأس، وهذا هو السبب الذي يجعل من أهل الشراب مدمنين وسكيرين ومخمورين. وقد دلت الملاحظات على أن هذا التعب اللاحق بالإنسانية في هذا العصر يعمل على تعجيل المشيب وبكور الشيخوخة فقد كان الشيب لا يأتي قبل الآن إلا إذا ألمَّ الإنسان على الخمسين ولكنك لو درت بعينيك في حلقات أصحابك لرأيت أن من بينهم كثيرين قد وخط الشيب مفارقهم وأفوادهم وهم في الثلاثين ومنهم من شاب وهو قبل هذه السن، وقد قرر كبار أطباء العيون أن الناس كانوا قبل اليوم يبدأون بوضع المناظر في الخمسين فأصبحوا يضعونها اليوم في الخامسة والأربعين، وذكر أطباء الأسنان أن أسنان الناس تسقط في هذا العصر أو تختل قبل السن التي كانت تختل فيه في الجيل الماضي. والخلاصة أن الإنسانية منتهكة القوى، ضعيفة الأعصاب، مريضة الأذهان وأن هذا المرض المخيف يبعثنا على التمرد على الآداب، والهزوء بما يسمونه أحكام العرف والأخلاق، وأن كلمة أخر زمن هي الطابع الذي نطبعه على كل قطعة من مدينتنا الحاضرة.

التصوير في الإسلام

التصوير في الإسلام لعل تاريخ فن التصوير في الإسلام موضوع من أحدث الموضوعات وأروحها للقراء إلا أنه وعر شاق يبهظ من يتصدى للكتابة فيه لقلة مصادره وضياع أخباره وتجنب بعض قدماء المؤرخين والكتاب البحث فيه لعد بعضهم إياه مكروهاً أو على الأقل غير مستحب للاختلاف في تحليله وتحريمه، ومن هنا وهم كثير الباحثين في المدنية الإسلامية حتى العصر السابق فصاروا يعجبون من أن الحضارة بلغت عند المسلمين شأواً بعيداً على حين أنهم لم يهتموا بالتصوير ولم يكن لهم هوى فيه كما لأهل أوروبا الآن فيحكم أولئك الباحثون ضرورة أنهم لم يستقصوا ضروب المدنية الإسلامية بأن هذا الفن (أي التصوير) كان من الفنون المهملة في الإسلام للسبب المتقدم، مع أن الإسلام لم يحرم التصوير المعروف الآن كالتصوير بالزيت والأصباغ والصور المنقوشة على الورق وتصوير الكتب وكل الصور التي ليس لها ظل، وإنما حظر الإسلام صنع التماثيل ورسم الأشخاص مجسَّمة على الأحجار وغيرها خشية أن يرجع العرب إلى الوثنية وعبادة الأصنام التي قضى عليها الإسلام، فهذا الخطر كان لحكمة سامية في ذلك الوقت، أما التصوير والرسم الذي يمثل الأجسام إلى حد ما هو مباح فلا حظر فيه ولا وزر على فاعله وسنبين ذلك بعد. فترى مما تقدم صعوبة هذا البحث ووعورته، بيد أن العلماء في هذا العصر غيروا نظرهم ورجعوا عن ما كان شائعاً في العصر الماضي من القول بأن المسلمين لم يحفلوا بفن التصوير بتة وتبين لهم المخطوطات وتفقد الآثار أنهم عنوا به بعض الشيء. إلا أننا إذا تعمقنا في البحث ودققنا النظر فيما كتب العرب ووقفنا على كل أقوال فطاحل مؤرخيهم المبعثرة في بطون مؤلفاتهم تبين لنا أكثر من ذلك وعلمنا أنهم عنوا به العناية كلها وسنثبت في هذا المقال إجادتهم لهذا الفن وبلوغه عندهم مبلغاً عظيماً من الإتقان وكثرة المصورين منهم وتنافسهم في صنع أنفس الصور واحتفال أمراء الإسلام وعظمائه بها كما هي الحال في أوروبا وأمريكا الآن إلى مثل ذلك من الأبحاث، وسنمهد بلمحة في تاريخ فن التصوير في الإسلام والاستشهاد بما يثبت استعماله في العصور الأولى أي قبل أن نضج عندهم هذا الفن فنقول: التصوير من الفنون الجميلة التي كانت تعرف عند العرب (بالآداب الرفيعة) وهي ثلاثة: التصوير والشعر والموسيقى، فالتصوير كان معروفاً عند العرب ولم يكونوا يتأثمون في

صدر الإسلام اقتناء الصور والدليل على ذلك أنه كان يرد على الصحابة أقمشة من بلاد الروم وفارس رسمت عليها صور أشخاص وغيرهم فاستعملوها في لباسهم وفرشهم وأثاثهم، بل قد استعمل في صدر الإسلام الأثاث والرياش المزركش وعليه الصور والرسوم ومن جملة ذلك أبسطة عليها صور ملوك وحوادث تاريخية إسلامية، ذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب أنه كان في دار الخلافة ببغداد في أيام المنتصر العباسي المتوفى سنة 248 بساط عليه صور ملوك شتى في جملتهم يزيد بن الوليد وشيرويه بن أبرويز، وقد كتب تحت صورة الأول: صورة يزيد بن الوليد بن عبد الملك، قتل ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ملك ستة أشهر وتحت صورة الثاني: صورة شيرويه القاتل لأبيه أبرويز الملك ملك ستة أشهر. التصوير على الأبنية بالألوان وكان في القصر العظيم الذي بناه أحمد بن طولون في القطائع وزاد فيه ابنه خمارويه مجلس اسمه (بيت الذهب) طلى خمارويه حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد المعمول من أحسن نقش وأظرف تفصيل وجعل فيه على مقدار قامة ونصف. صوراً في حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته وصور حظاياهُ والمغنيات اللاتي تغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين والكوادن المرصعة بأصناف الجواهر في وآذانها الأجراس الثقال الوزن المحكمة الصنع وهي مسمرة الحيطان ولونت أجسامها أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة. هذا ومما يثبت اشتغال العرب بالتصوير إبان التمدين الإسلامي ما روته مجلة لغة العرب عن تنقيب الدكتور هرسفيلد في سامرّا (سر من رأى) وما عثر عليه من الصور البارزة والملونة في آثارها فقد ذكر هذا الدكتور أنه وجد على جدران الجامع الأعظم الذي بناه المتوكل على الله نقوشاً مطبوعة وتصاوير ملونة وفسيفساء وأنه وجد في جملة تنقيبه غرفاً وحجراً وردهات قد زينت جدرانها وغشيت حيطانها بتصاوير شرقية منقوشة نقشاً بارزاً أو غائراً في الجص وهي في غاية البهاء والجمال، وكلها محفوظة أحسن الحفظ كأن البناة قد غادروها قبل أن يدخلها أهل البحث، هذا ولا ترى النقش على الجص. فقط بل أنك تشاهد تصاوير ملونة في مواضع الجص الفارغة من النقوش، وهناك أيضاً تصاوير

مختلفة الألوان وصور أناس كلها ملونة على أبدع مثال وهو أمر في غاية الندرة في تاريخ الصناعة الإسلامية إن فنية أو بنائية وقد عدوا هذا الاكتشاف خطوة واسعة في معرفة تاريخ فن التصوير عند العرب، والراجح أن هذه الرسوم من صنع القرن الثالث للهجرة عند بناء سامرا لأن هذه المدينة أهملت في زمن المعتضد بالله سنة 289 وخربت من ذلك الحين وغشيها التراب حتى أخذ أهل هذا العصر في التنقيب عن أطلالها. المصورون وارتقاء فن التصوير في العراق ومصر فمنذ أواخر القرن الثالث للهجرة نضج فن التصوير عند العرب ولاسيما التصوير على الأبنية بالألوان فقد أجادوه وانتقلوا به من طور التقليد إلى طور الابتكار والإبداع سواء أكان في المشرق أم في الأندلس، ففي المشرق امتاز العراق ومصر بمشهوري المصورين وإجادة فن التصوير في عهد حضارة الدولتين العباسية ببغداد والفاطمية بالقاهرة أما العراق فاشتهر بنبوغ كثير من المصورين والمزوقين الذين صنعوا أنفس الصور وأفخر الصنائع ومن أشهرهم (ابن عزيز) المصور الكبير وقد كان في العراق مثل القصير في مصر وسنقص حكايتهما بعد. (أما البصريون) فكانت صنعتهم مشهورة في ذلك العهد لا يضارعها شيء من صنائع سواهم وقد اشتغل منهم كثير في مصر التي كانت وقتئذ كعبة الطلاب والقصاد يتبارى فيها رجال هذا الفن الجميل فيجدون من يعضدهم ويعجب بأعمالهم من المغرمين بفن التصوير من كبار رجال الإسلام، وقد اشتهر فيها (بنو العلم) شيوخ هذا الفن وشيوخ أشهر مصوري عصرهما أعني (الكتامي) و (النازوك) ثم (القصير) وقد كان في التصوير كما ذكروا عنه مثل ابن مقلة في الخلط أما ابن عزيز فكان كإبن البواب، هؤلاء بعض مشهوري المصورين في الإسلام وكلهم كانوا في مصر أو جاءوا إليها. وقد وضع لهؤلاء المشهورين وغيرهم من المصورين كتب طبقات مثل طبقات الفقهاء والشعراء والأدباء والأطباء وغيرهم وذلك مثل كتاب طبقات المصورين المسمى ضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس فهذا يدل ولا شك على كثرة المصورين في الإسلام والاهتمام بهمه حتى وضعوا فيهم كتب طبقات، نعم ومما يدل على شغف الناس ولاسيما الخاصة بالتصوير ما سنورده من وصف بعض صنائع هؤلاء المصورين أمثلة لنبوغهم وصورة مصغرة لعصرهم ذلك العصر الذهبي للتصوير، ليقف القارئ بنفسه على

مبلغ رقي هذه الصناعة عندهم، وقد وقفت على هذه الأوصاف الهامة عرضاً في المقريزي فقد ذكر مناظرة القصير وابن عزيز ومنافستهما في التصوير أيام وزارة البازوري سيد الوزراء الحسن بن علي بن عبد الرحمن وزير المستنصر الفاطمي فقد كان كثيراً ما يحرض بينهما ويغريهما بعضاً ببعض لأنه كان أحب شيء إليه كتاب مصور أو النظر إلى صورة أو تزويق، ولما استدعى ابن عزيز من العراق فأفسده - وكان قد أتى لمحاربة القصير كان يشتط في أجرته ويلحقه عجب في صنعته وهو حقيق بذلك، وكان الباروزي قد أحضر مجلسه القصير وابن عزيز فقال ابن عزيز أنا أصور صورة إذا رآها الناظر ظن أنها خارجة من الحائط فقال القصير لكن أنا أصورها فإذا نظرها الناظر ظن أنها داخلة في الحائط فقالوا هذا أعجب ثم أمرهما الوزير البازروي أن يصنعا ما وعدا به فصورا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين هذه ترى كأنها داخلة في الحائط وتلك كأنها خارجة من الحائط، فصور القصير راقصة بثياب بيض في صورة حنية دهنها أسود كأنها داخلة في صورة الحنية، وصور ابن عزيز راقصة بثياب حمر في صورة حنية صفراء كأنها بارزة من الحنية، فاستحسن البازوري ذلك وخلع عليهما ووهبهما كثيراً من الذهب. أما صنعة (البصريين وبني المعلم) في التصوير والتزويق فقد وصفهما المقريزي عند كلامه على أبواب جامع القرافة قال: وعدتها أربعة عشر باباً. . . . أمام كل باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف وهو مكندج مزوق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ وفيه مواضع مدهونة والسقوف مزوقة ملونة كلها والحنايا والعقود التي على العمد مزوقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبني المعلم المزوقين. . . وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوقة في منحني حافتيها شاذروان مدرج وآلات سود وبيض وحمر وخضر وزرق وصفر إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها رافعاً رأسه إليها ظن أن المدرج المزوق كأنه خشب كالمقرنص وإذا أتى إلى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أول القوس منها ورفع رأسه رأى ذلك الذي توهمه مسطحاً لا نتوء فيه، وهذه من أفخر الصنائع عند المزوقين، وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها فما يقدرون.

أما (الكتامى) فأنفس ما صنعه صورة يوسف عليه السلام في الجب وهو عريان والجب كله أسود إذا نظره الإنسان ظن أن جسمه باب من دهن لون الجب وكانت هذه الصورة بدار النعمان بالقرافة. ومما يدل كذلك على تفننهم في التصوير إبان حضارتهم واهتمام الخلفاء أنفسهم به في هذا العهد ما جاء في المقريزي عن الآمر بأحكام الله الخليفة الفاطمي أنه لما بنى المنظرة على بركة الحبش جعل فيها دكة من خشب مدهونة فيها طاقات تشرف على خضرة البركة صور فيها كل شاعر وبلده واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح كتبها عند رأس ذلك الشاعر. وبجانب صورة كل شاعر رف لطيف مذهب. فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار أمر أن يحط على كل رف صرة مختومة فيها خمسون ديناراً وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته، ويشبه ذلك الرفرف الذي بناه الأشرف خليل بن قلاوون وكان عالياً يشرف على الجيزة كلها وصور فيه أمراء الدولة وخواصها وعقد عليه قبة على عمد وزخرفها وكان السلطان يجلس فيها. وكان الحكام يستعملون التصوير بمثابة المنشورات الآن لتحذير الناس من عمل أو لحضهم عليه فمن ذلك ما رواه المقريزي عن نساء القاهرة من استعمالهن طرزاً جديداً من الثياب (مودة) كن يسمينهه البهطلة وكان فاضحاً جداً فأسرفن في عمله حتى كان يبقى من القميص كثير على الأرض وسعة الكم ثلاثة أذرع فيكلفهن مبالغ فاحشة، فأمر الوزير منجك بقطع أكمام النساء وقبض على جماعة منهن وركب على سور القاهرة صور نساء لابسات (مودة البهلطة) بهيئة نساء قد قتلن عقوبة. أما الأندلس فكان التصوير فيها زاهياً شأنه في المشرق. وأقدم ما وقفوا عليه من الصور الآدمية على الأبنية صورة مجلس قضاء وجدوه مصرواً على جدران قصر الحمراء في غرناطة ويظن أنه من صنع القرن الثامن للهجرة. أما تصوير الكتب ورسم المسائل العلمية كالنبات والبيطرة والحيوان والهندسة وغيرها فقد استعمله المسلمون حسب الحاجة إليه. نرى مثلاً من إجادتهم في هذا الشأن من صور ورسوم كتب أبقتها لنا الأيام. وهذه الصور تختلف باختلاف موضوعات الكتب فمن ذلك الصور التاريخية والأدبية. وأقدمها كتاب كليلة ودمنة الذي عرب في القرون الأولى وشاع

بين الطبقات كافة مزيناً بصور الأشخاص. ثم مقامات الحريري ومنها ثلاث نسخ مصورة: الأولى في مكتبة باريس وهي مصورة بأبدع الصور وكتبت في القرن السادس للهجرة: الثانية في المتحف البريطاني وفيها 81 صورة ملونة وكتبت سنة 654 هـ. أما الثالثة فمسوداتها في مكتبة المستشرق شيغر. ويضاهي هذه المقامات في القدم مخطوطة عربي في مكتبة شلومبرجر من القرن السابع للهجرة (13 للميلاد) فيه عدة صور تاريخية بينها صورة جنود عربية خارجة إلى الحرب بجمالها وأفراسها وأبواقها. ويلي ذلك صور كثيرة في كتب المخطوطات بعد هذا التاريخ بينها صورة حصار بني النضير مرسومة في القرن الثامن للهجرة في كتاب مخطوط في المتحف البريطاني وهناك غير الصور التاريخية والأدبية الصور الطبية - كما فعل رشيد الدين الصوري المتوفى سنة 639 بتصوير الحشائش في كتابه الأدوية المفردة. وأقدم الصور التشريحية صورة تشريح العين لحنين بن إسحق مرسومة في كتابه المسمى تركيب العين وعللها وعلاجها على رأي أبقراط وجالينوس وفي في الخزانة التيمورية وفيه بضع صور ملونة تمثل أشكال العين. الصور الجغرافية - أي الخرائط ورسوم تخطيط الأقاليم والبلدان وهي كثيرة في مؤلفات العرب فقد استعملوها في أقدم مؤلفاتهم الجغرافية كما في كتاب الأقاليم للاصطخري. ويدخل في هذا النوع من الصور تصوير الحركات الحربية وغيرها. الصور الميكانيكية - وهي كثيرة في كتب الميكانيكا التي كانت تعرف عندهم بكتب الحيل وفيها صور الآلات الرافعة أو المحركة بين ملونة وغير ملونة كما في كتاب الحيل الروحانية وميخانيقا الماء الذي نشره المستشرق كارداي فو عن نسخة مخطوطة في مكتبة باريس فيها كثير من الرسوم تمثل آلات مدهشة كالتنين الصناعي والطيور الصافرة، إلى غير ذلك من الصور العديدة في أصناف الكتب العربية مما يضيق المقام عن سردها إذ ليس قصدنا في هذا المقال أن نفصل الكلام على تصوير الكتب عند العرب وسرد أسماء مؤلفاتهم المصورة فإن لها مجالاً آخر وفي دور الكتب في مدائن العالم الكبرى أمثلة كثيرة من هذه الصور ملونة تلويناً بديعاً تشهد بإجادة العرب لهذا الضرب من التصوير وبكثرة

استعمالهم له حتى استعملوه في تمثيل بعض الرسوم الخيالية أو الدينية كصورة المعراج وصورة الصراط وغيره من الصور التي أتى بها الشعراني في كتابه الميزان. (وبعد) فإنك متحقق مما أجملناه هنا رقي فن التصوير عند المسلمين وتفوقهم فيه على أنواعه على خلاف ما كان يظن قبلاً ونزيد على ذلك الآن أنهم قد أثروا في أهل هذا الفن في هذه العصر وما قبله ونعني بهم الطليان فإنه نظراً لاحتكاك أهل إيطاليا بالعرب وقد كانت لهم مدنية عظيمة في إيطاليا وصقلية اقتبسوا عنهم كثيراً من المجهودات والمبتكرات العربية في التصوير والرسم والحفر وقد كان الطليان في ذلك العهد متخلفين في المدنية. وما زالت الآثار التي أقاموها هناك مثاراً لإعجاب علماء الآثار والفنون وقد قال بعض علماء أوروبا أن الفن العربي على أنواعه الذي دخل إلى بلاد ايطاليا وغيرها من أوروبا إنما كان من جملة العوامل المؤثرة في ترقية فنونهم الجميلة. هذا وسنعود إلى طرق هذا الموضوع ثانياً فنتمم الكلام في الأعداد القادمة من البيان على تاريخ فن التصوير في الإسلام عند المغول والفرس والأتراك وسائر الأمم الإسلامية إن شاء الله. عبد الفتاح عبادة البيان زارنا منذ شهرين صديقنا عبد الفتاح أفندي عبادة صاحب هذه الكلمة وكان فيما جرى بيننا من الأحاديث أن له كلمة متسلسلة على التصوير في الإسلام وأنه يود لو نشرت في البيان فلم نر بأساً من ذلك. إذ أن مثل هذه المباحث مما يُعنى به البيان وإذ أن البيان يرحب بكل كاتب. ولكنا أخذنا ميثاقه أن لا ينشر كلمته هذه في غير البيان لأن خطة البيان أن لا ينشر إلا الجديد فلا ينشر شيئاً قد نشر في كتاب أو في صحيفة أو في مجلة أو ألقي في نِدى ثم تسلمنا منه هذه الحلقة الأولى من كلمته وقدمناها فيما قدمنا من الموضوعات إلى المطبعة: بيد أنا لم نطبع منها نصفها حتى علمنا أنها نشرت في أحد المجلات العربية فأدهشنا هذا الأمر ونال منا كل النيل فسألنا عبادة أفندي في ذلك فاعتذر إلينا أنه إنما أقدم على ذلك حين رأى البيان قد تأخر ظهوره، أما وقد ظهر البيان فإنه لا محالة مختصه بما بقي من هذه الكلمة. ومن هنا نعتذر إلى قرائنا الأفاضل عن نشر هذه الكلمة في البيان مع أنا سُبقنا إليها وإن

كنا نظن أن قراء البيان كلهم أو جلهم غير قراء المجلة التي نشرت فيها هذه الكلمة.

جوسلان

جوسلان أو صفحة من الحياة العصر الثاني في الدير . . . مضت ستة أعوام وجوسلان لم يكتب في خلالها حرفاً واحداً. . . قضى هذا الدهر وراء حائط الدير متوفراً على العبادة والتفكير والدرس. . . . إذا امتد ظل الليل، وانتشرت في أركان الدير ظلمته، وفرغنا نحن سكان المعبد من طعام العشاء، وانتثرنا ملتمسين المقاعد في رحاب الدير وأفنائه، كل يطلب من الجمع صاحبه، وكل يبحث فيه عن رفيقه، يتهامسون في هدأة الليل ويتناجون، حيث يفيض القلب، ويتفتح الضمير، ويتدفق الحب، إذ ذاك أروح أنا الغريب الذي لم يجد بعد من أهل المعبد صديقاً، المنقطع الذي لم يجن له منهم وليّاً ولا خليلاً، لأن القلب المترع المفعم لا يميل إلى بعض الحب ولا يرتضي منه نصفه أو قليلاً، أنطلق منتبذاً مجالس القوم أطلب قرب الصديق العظيم ونجوي الوليّ السامي الأشم، باب معبده الخفي، ألقي عند قدميه حبي في وحشه الليل وهجعته. أي أو سْيَان. . أوسيان لطالما زرت لأجلك سحائب أنيستور وأجبالها أحمل في قلبي شعرك، وفي يدي قيثارتك ممعنا في صميم الشتاء، أضرب في قلب الغابة الكثيفة العذراء لشدَّ ما استمعت لأنين الشمأل، وحشرجة الريح الباردة وهي تحف بفروع الشجرة الفنيانة المورقة، ولطالما مست طرة شعري جبيني المتبلل المتدفق، ولكم رأيت الريح العاصفة هاربة متولية، كأنما من خوف ورعب، إلى حدود الوهاد البعيدة المترامية، تجري من السماء مذعورة عاجلة هوجاء، تضرب وجه الصخرة الغضبى المزبدة، حاملة إلى أذنيّ صيحاتها وعولاتها وزبدها وعزيفها، فإذا انتفضت جذوع السرحات وأفنانها، كما تنتفض في ملعب الريح القصبة الجوفاء، وثارت الزوبعة المثلجة فنالت من أعاليها الشم الموحشة، وخفضت من رأسها المشرف المتطاول، وأنا أمشي مشتملاً في بُردَة العاصفة، مؤتزراً إزاره العاتية، وإني لأنظر فإذا شعاعة متوثبة تبدد غيم النوء المتكاثف، تمشي في أثرها

الشمس مشرقة من مكمنها، تنظر إليّ وتطالعني في إشراق وانتعاش وبهجة، تفتح لي طريقي بين المنحدر والهاوية. . . إن قلبي ليخفق إذ ذاك في ناحيته، وإن دموعي لتطفر من مختزنها، وإني لأسير متفتح الأذن، منتشر الذراع، مسرعاً كالمجنون موسع الخطى، أسير كأني أبصر ظل الله في ظل العاصفة، وكأني أسمع العظيم في زفيف الريح ورجع أصدائها، وما أشدني إذ ذاك بهجة وما أحرني حباً للطبيعة ووجداً، وما أبعدني إمعاناً في قلبها وصميمها. تلك كانت لحظات نعمة أين لي بوصفها، تلك كانت برهات غبطة أدمع الله كأسها، أشعة مراح، وظل نعيم، يخلطان بين الحياة وبين الأبد. . . أن روحنا لتذكرها فتمر بنا الذكرى كخطرة مسرعة في حلم مسرع مبعد. . . يا الله. . . لقد ذقتها فما شككت في أن نبعة من نبعات الأبدية ما أن تزال تتدفق في هذه الأرض وتسح وتفيض. والآن. . وقد قامت بيني وبين العالم تلك الجدران الشاهقة، التي شادها الإيمان ورفعتها القرون والأجيال، والآن وأنا أطوف في رفق وصمت بأجنحة الدير البعيدة. . . هذه الجدران المعتزلة الجامدة الصليبة، بيت الله ومسكنه ومقامه، حيث يعيش السكون والرهبة والجلال والأبد، وضياء المساء ينتشر فوق زجاج النوافذ آخر أشعته، وفي المحراب نار مشبوهة تسطع كالعين المشرقة في ظلمة الليل، وصوت الناقوس يتبدد في نعومته ويتشتت، وأنا أعتمد جبيني بعامود من أعمدة الدير فأسمع من جوفه صدى متردداً فيه متمشياً يهتز كما يهتز مفتاح العود الطروب الشجي، وإني لأرسل بصري في فضاء هذه الدار فأحس في فراغها كأن أذنا تصيخ إليّ وتستمع، وكأن صديقاً خفياً يشارفني في صحن الدير وباحته، يستهويني إليه ويجتذبني، وإنه ليكلمني في لغة غريبة، لا يقع معناها إلا للروح، ولا يدركها إلا القلب، وأنه ليخاطبني في أعماق صمت مرسل منشور وأنه ليحتويني في صدره ويواريني، وركبتاي عاطفتان على أرض الدير راكعتان وأنا أنشر على عيني طرف قبائي كالمبهوت المذعور، أسكن إلى ظل الرحمن العظيم، أنصت له واستمع، حديثاً روحانياً لا تستطيع كنهها لغات هذه الأرض، ولا تعيها بابل ألسنتها. وكذلك يسلخ الليل ساعة فساعة. . والآن وقد أقفلت أبواب هذا البيت المقدس ومنافسه، وأنا أبتعد عن موقفي في رفق وتؤدة، أمسح بيدي الباردة القطرة المتحيرة فوق جبيني من دموع

السماء. . . الآن قامت الثورة. . . وقد بلغت أخبارها الدير فضج لها أهله، وتولى الجميع الرعب والخوف، وراع قلب جوسلان مقتل الملك ومذابح سنة 1793، ثم انتهى إليه أن بيته الذي درج فيه وليداً قد أحرق واندكت جدرانه، وإن والدته وأخته قد ركنتا إلى الهرب، ثم سمع بعد ذلك بأيام أنهما قد هجرتا أرض فرنسا، ولكن لم يلبث الدير كذلك أن انقض عليه الغوغاء فذبحوا من سكانه من ذبحوا، واعتصم الآخرون برؤوس الجبال ومعاصم الكهوف، وقدر لجوسلان النجاة من شر الثوريين وجنتهم، فلاذ بقمة مهجورة متناهية في وهاد الألب، عند كهف هناك يسمى كهف النسور دل عليه كان شيخاً متهدماً، وكان مكمناً لا يقتحم ولا يدانى، ينفذ إليه فوق هاوية متحدرة غائرة الأعماق، تشقها قنطرة من الصخر المعشوشب، وفي ذلك المكان الموحش الجليل قدر لجوسلان أن يقضي بقية عيشه، منقطعاً عن العالم مقصياً. . . العصر الثالث جوسلان ولورانس في الجبل . . . لئن كان مشهد المكان رائعاً جليلاً يأخذ على اللب نواحيه، ولئن كان قلب جوسلان مفعماً بسكون المؤمن وتقواه، إلا أن وحشة المعتصم لم تلبث أن نزعت من فؤاده مراحه وبهجته، وأنه لفي ذات يوم خارج الكهف، إذ لمح عن كثب منه سجينين، رجلاً وفتى، يعدوان وفي أثرهما جنديان، متدانين جميعاً إلى الهاوية يطلبون طريقاً ومخلصاً، فصرخ جوسلان، وقد ثار في روحه إحساس طبيعي غريب، صرخة عالية، وأشار يدل السيجينين المطارَدين على القنطرة الصخرية، فعمدا إليها فاقتحماها مخاطرين مجازفين، والجنديان في آثارهما يعدوان، وإذا ذاك ضج في الفضاء من الناحيتين دوي الرصاص، فنهادي الجنديان مرتطمين في الهاوية، وأما أكبر الطريدين فأصيب بجرح بالغ شديد فلم يكد يحمل إلى الكهف حتى جاد بأنفاسه بين ذراعي جوسلان، بعد أن أوصاه الخير بفتاه. وكان الغلام يدعى لورنس، في الربيع السادس عشر، وكان وحيداً في العالم، لا نصير له بعد أبيه ولا كفيل، فلم يلبث جوسلان أن فتح لرفيقه الصغير قلبه، وأحله منه محل العطف والحب والحنان، وكذلك اقتسما وحشة العزلة في الجبل، فأضحت عند جوسلان حلوة

المبتسم طيبة الجناب. . . . . في الكهف 25 سبتمبر سنة 1793 وكنت إذا عدت أدراجي عند المغيب منحدراً من مقانصي المتجافية النائية، كليل القدمين، مجروح الأصابع من أثر الثلوج، محتقباً الظبي الأرن، أو الشاة الجبلية، وأنا مشرف من الرابية في أبعد حدود البصر على البحيرة الزرقاء المتصاغرة، كالقطرة المرتجفة المتحيرة في راحة الطفل الغرير، والعشب الأخضر المزهر يحف بساحلها الصلد، والسنديانات من حولها مائلة الأعناق ذابلتها، وألمح سطع الموقدة المشبوبة متوهجاً من ناحية الكهف البعيد، وإذ ذاك يطير لبي في عالم التفكير ومسارح الخاطر، أسير أقول لنفسي. . . . . هناك عند هذه الناحية المستنيرة التي لا تبلغها عين الفهد، هناك تقيم القطعة الطاهرة مني، هناك الجزء الآخر من روحي ومهجتي. . .، هناك العين المشرقة تتشوف مقدمي، والأذن المنصتة تتسمع مقتبلي، والذاكرة النقية التي تحبني، هناك الصديق الذي يخفق فؤاده لموقع قدمي، والمخلوق الذي أرسلتني السماء لحمايته ورعيه، وهناك الإنسان الذي أرى فيه كل شيء في الحياة، ويراني عنده كل شيء في الأرض، كل منا عند صاحبه الوطن والصحابة والأحباب والأب والأم والأخ والأخت، هو الذي يعد خطواتي بخفقات فؤاده، ويطالعني وأنا أنحدر إليه فكأنما اليوم المستطيل الذي قضى بعيداً عني كان برهة من الزمن، وطرفة من العين، وأنه ليقبل علي إذ ذاك متشبثاً بنحري متوثباً، باسطاً ذراعيه إلى محاضنتي، عادياً كالرشأ من مرح، طافراً من بهجة، يجري أمامي إلى الكوخ وأنا في أثره. . . . فإذا فرغت من تفكيري، أسرعت الخطى في طريقي الثلجي الأشهب، وأنا أتبع ببصري الممر الذي يفضي إليه، نافذاً من بين ربي الثلج أجباله، منزلجاً مع المنحدر هاوياً، وإذ ذاك أجد لورنس عند سفح الجبل مرتقباً رؤيتي مستطلعاً، وأنه ليأخذ ذراعي الضعيف في ذراعه، وأروح أقص عليه حديث يومي وخبره، ويتلو عليّ هو وقائع نهاره ونبأه، ونعود أدراجنا يحدثني كيف أن يماماتا نقفت البيض تحت أجنحتها وكم أعطت العنزة من لبانها، وكم من السمكات اصطادت حبائلها، ثم يأخذني فيريني ما جمع من أوراق الطحلبات وأغصانها، وما ركم من غثاء الأشجار ولحائها، يفرش به أرض الكهف قبل وفدة الشتاء وقرسة الزمهرير، وما اقتطف من أبّ الغابة وفاكهتها وما شاك أصابعه الدامية من إبرها

وأشواكها، وما مَد ولوى من دوالي الكروم، وعواسج اللبلاب، فوق جوانب المغارة وجدرانها، وما أمسك من العصافير بمخادعتها بالحبوب ومداعبتها، والظباء الجائعة يلقطها الحب بيده ويؤكلها، لأن كل شركائنا في عزلتنا، ظباء الجبل وأيلها، وعصافير الغابة وأطيارها، أما من حب له، وأما من رضي واعتياد، تتسابق عند رؤيته، وتجتمع لمطلعه، وتطير على صوته ومشيئته. . وكنا نأكل ما أصبناه في نهارنا، تحلو لنا الألبان وتوافه الطعام وتطيب، ونلتهم بعدها غرائب الفاكهة، ونوادر الثمر، وحينا نشرب ماءها، ونؤثر عليها عصيرها، وتختزن للفصل المحتضر ما تجفف الشمس ويحفظ الزمن، وينوه أحدنا بفكرة أخيه ويصفق لمبتكره، ويطفر لأملوحته، ونقتل السماء المتطاول في النادرة أثر النادرة والطريفة تتلوها الطريفة، والضحكة الحلوة في أعقاب الضحكة، وحينا نشهد القمر في صميم الليل بازغاً مستهلاً، ساطعاً على صفحة البحيرة منبسطاً، فنسجد فوق الصخر إلا هم خاشعين ضارعين، نستقبل مطلع ذلك النور، ومتألق ذلك الضياء وقد أمال لورانس جبينه المؤمن الطاهر فوق الضريح متفجرة عينه بالعبرة المهراقة، ندية وجنته بالدمعة المسفوحة، نشكر الله اليوم الذي أعطانا، ونحمد له الليلة التي وهبنا، ونسأله الشمس تطلع علينا بالغد الهنيء، والأيام الحلوة الراغدة، ونرسل ضراعاتنا ودعواتنا للذين على الأرض، مبتهلين للمتوسدين بطونها ولورانس يجاهد الدمع ويغالبه، متهدج الصوت في حزن، ناشجاً في شجن، يرسل من عينه ما بقي من عبرات الابن لذكرى الوالد، ويروي يديه المشتبكتين فوق صدره من شؤونه ودموعه. . . . . . كذلك نختم يومنا، نمضي في سلام لنهجع في رفق، ملتحفين كثيف اللحاء متوسدين غليظ أوراق الشجر، حتى يصدح صوت الذي يصحو قبل رفيقه مع نشائد القنبرة، ويمتزج بأغاني البلبل، فيطرب أذن صاحبه، ويوقظه من هجعته. هذا ولورانس ينمو ويفرع، ويزداد في كل يوم روعة وجمالاً، وفتنة ونضرة شباب، وتشتد بينهما أواصر الود والحب والعطف والإعزاز. العصر الرابع الشتاء في الجبل

مضى عام. . . والفصول تتابع هنا هبط الشتاء متعجلاً باكراً قل زمن مهبطه، وقد انتشرت فوق جسم الأرض أكفانها، والرياح من حولنا ترمي بآكام من الثلج الأشهب. . . الله لنا، ورعيا للصخرة التي تضمنا، وبركة للثغرة الت تكنفنا وتعصمنا، فالآن لم نعد نستطيع أن نخرج من ظلمة كهفنا ومنفنانا، ولم نعد نتبين الوديان من القمم التي كانت تعلوها، والذوائب التي كانت تزينها، ولا جسور الصخر التي كانت تحوطها، ولا الروابي التي كانت تسامي وهادها ونجادها، وقد حجب الطوفان المتجلد مناحر الجبل ومنافسه، وعواليه ورؤسه، وسهوله وحزونه، وأن الظبي ليرتجف مثلنا ويرتعش، لا يفارق الكهف ولا يخرج إلى الجبل كما كان يفعل متوثباً ممراحاً لاعباً، وقد سمت على القنطرة التي تعوج بالجبل إلى الوادي ركام من الثلج شماء عالية، ونحن الآن في جزيرة لا تبلغها العين، ولا يشارفها البصر، مسجونين حتى مرحل الشتاء وهجرته. . . يا الله لشد ما أحييت أيام الشتاء وأشهره، إنه لتذكرني بحال الأرض وتعلّمني أن القلب لينزوي وينكمش إلى دفئه، ويمسك عليه في هذا الموت الأصغر مهجته، وعصارة قوته، مقتصدها للربيع الرنوان الجميل، وعلائل نسيمه السجسج الساكن، ليجري فيه أخف من قبل نشاطاً وأشد روحاً، أن الروح المنزوية في خلاله المنقبضة من جهامته لتخرج عند الربيع من حجبها ووسائدها هاربة من هدأة المشتى وظلماته ومحازنه وما الشتاء للروح إلا كالملح للطعام يرفع شهوتها ويصلح مذاقها ولقد كنا ننعم إذ نحس بأننا نحب، ونشعر بأنا نعيش، بينا كل شيء في الطبيعة يحتضر تحت الجليد ويموت. . . ولكن ما لبث أن عدا على هذه السعادة المعسولة ظل من الحزن. . . إذ وقع للورانس حادث مزعج ألقاه جريحاً مريضاً، فدأب جوسلان على تطبيبه والعناية به، وأسكنه لم يلبث أن اكتشف أن لورنس ليس إلا فتاة، فثار فيه عند ذلك إحساس مخيف، يمتزج فيه الرعب بالخجل، وكان إخفاء لورانس جنسها عن أمر من أبيها، واشتدت الحيرة بجوسلان، وتملكه الاضطراب، ولكنه ظل يحوط لورانس بالحب والعطف والإجلال. . .

الطلاق

الطلاق تمهيد أحب شيء إلى الإنسان حريته والمثل الأعلى للحياة أن يكون الإنسان مطلق السراح لا يصده عن أغراضه صاد. ولو تقطعت الأوصال الاجتماعية وعاش كل إنسان في عزلة لتمتع الناس بنصيب وافر من الحرية لا يعوقهم شيء غير العقبات الطبيعية وما يعتو نفوسهم وجسومهم من النقص والفساد، ولو كان الزواج لا يهم غير الزوجين لترك كل إنسان وشأنه في الطلاق، متى أحب امرأة وأحبته تزوجا، ومتى دَبّ بينهما الشقاق أو مال قلب كل منهما عن الآخر أو انتفت بينهما عاطفة الحب افترقا ولكان الاقتران الحر خير كفيل لسعادة النوع الإنساني. الحب عماد العائلة والأساس الذي يجب أنا يبني عليه كل زواج، وعلى قدر حرارته وفتوره يكون نصيب الزوجين من السعادة والشقاء، غير أنه يشيخ مع الزمن ثم يلحقه الموت فيفنى، ومهما اشتد كلف الزوجين فسيتلاشى حبهما طال الزمن أو قصر، ويحسن بهما حينذاك أن يفترقا ليبحث كل منهما عن عشيق يسكن إليه. قد لا تتفق أخلاق الزوجين ويشجر بينهما الخلاف وتصبح الحياة سلسلة نزاع يفوت معها غرض الزواج، وما أشد تعرضنا لهذا الخطر لما في الخطبة عندنا من المقامرة بالمستقبل والمقامر على حافة الإفلاس إن لم يدركه حسن الحظ هوى به سوى البخت إلى حضيض الشقاء، ودين القمار لا يلزم المدين كذلك زواج القمار لا يرتبط به الزوج الذي لو أراد ألقى حبل زوجته على غاربها، فالطلاق والحال هذه خير دواء لفوضى الزواج ومتى كان الزواج فوضى فأخلق بالطلاق أن يكون فوضى. هذا هو ملخص ما يقول حماة الطلاق تأييداً ولكنه قول بعيد عن الصحة، ومنشأ الخطأ عدم الاعتداد بالتاريخ في تعليل الأمور والاعتقاد بأن القوانين صنع الروية والعقل، والحقيقة أن الضرورات والطقوس والعادات والأوهام والخرافات هي الموجدات للقانون بفعل الأجيال فيها وتأثيرها عليها وصياغتها إياها في قالب كيماوي. فيجب إذن على من يحب الوقوف على حقية قانون أن يرجع إلى نشأة هذا القانون ويعرف تاريخه فإن وجد العناصر المكونة له باقية على حاله لم تتغير حكم بأنه صالح وإن رأى أنها اندرست حكم بأنه ضار يجب

العدول عنه إلى قانون آخر يتفق والعادات الحديثة. وإذا رجعنا إلى العصور القديمة نجد أن الزواج كان ضرباً من ضروب الرق إذ كان الرجال لا يتزوجون إلا من النساء اللاتي كانوا يسبونهن من القبائل الأخرى أو من اللائي كانوا يشترونهن، وما زال لكل من هاتين الطريقتين في الزواج أثر بيننا وأن كان هذا الأثر ضعيفاً، ففي بعض القرى إذا خرجت عروس لقرية أخرى ففي الغالب يحدث شجار بين القريتين كأن أهل الزوج يحاولون سبي المرأة فيدافع عنها أهلوها، وما حفلة الزفاف في بعض القرى ولدى البدو وما فيها من ضرب على الطبول وسباق خيل كراً وفراً ولعب بالحطب وطلقات البارود وإحاطة العروس برجال أشداء إلا تمثيل للحفلة التي يدخل بها المنتصر دياره بالغنائم والأسرى، والمهر الذي يدفعه الزوج لزوجته أثر لشراء النساء ليكن زوجات. والمهر في عرف الفقهاء ثمن لبضع المرأة، وكما ينعقد الزواج بالإيجاب والقبول ينعقد أيضاً بلفظ البيع والشراء. ولما كان الزواج مرتبطاً بالطلاق ارتباطاً متيناً وقد أبنَّا أن الزواج كان نوعاً من الرق فمن المعقول أن ينفرد الرجل بالطلاق دون المرأة كما انفرد السيد بالعتق دون العبد والطلاق كالعتق تسريح للمرأة وتمليكها حريتها أما الآن فقد تغيرت الحال وأصبح مركز المرأة الاجتماعي أحسن نوعاً وفقد الزواج صبغة الرق والاستعباد وصار عقداً لا يتم إلا بالإيجاب والقبول كبقية العقود الأخرى، وإتباعاً لهذا التطور لا يستحسن بقاء الطلاق على حاله وإرخاء العنان لشهوات الرجل كلما عاف امرأته نبذها كما ينبذ نعله القديم بل يجب أن يكون بحال تتفق وأخلاقنا وعاداتنا الحاضرة. على أن ذبول الحب وحده غير كاف لتبرير الطلاق فإن طول المعاشرة وإن يطفئ من شعلة الوجد إلا أنه ينشئ بين الزوجين جملة عواطف لا تقل قوة وصلابة في شد أزر العائلة، إذ بعض مضي زمن من الزواج بألف الزوجان بعضهما البعض ويعتاد كل منهما معاشرة الآخر وتندمج مصالحهما في مصلحة واحدة فيتعاونان في المشورة والعمل ويأتمن كل منهما الآخر على سره ويخلصان النصيحة وجملة القول يتحول الوجد إلى عاطفة أخرى لذيذة، عاطفة الصداقة والصحبة، وما أعز على النفس من فراق صديق حميم فما بالك إذا كان هذا الصديق ربة بيتك وشريكتك في أطفالك.

لا شك عندنا في مشروعية الطلاق وضرورته للهيئة الاجتماعية ولكن لا شك أيضاً في أنه من كبريات المصائب التي تنزل بالعائلة فيفصم عراها ويدك أركانها ويفك روابط الألفة والوداد ويغرس بين الناس بذور الحقد والضغينة فلا يحسن الالتجاء إليه إلا إذا استفحل الشقاق بين الزوجين واستحال التوفيق بينهما، ألا ترى أن الجراح لا يقدم على بتر عضو مريض إلا إذا استعصى الداء ويئس الطبيب من معالجته وخاف على بقية الجسم من الهلاك. وإذا لم نتقصد في الطلاق جهد الاستطاعة اختل ميزان الأمة واعتلت صحتها، وإذا لم يكن الجراح ماهراً أنزل بمرضاه مصائب جمة وأودى بحياة كثيرين منهم. ولو كان الطب مباحاً لجميع الناس يحترف به من أراد وإن كان جاهلاً لفتكت الأمراض بالنفوس وحصد الجهل حياة كثيرين من الأقوياء. ومتى كان الطلاق فوضى يقع بمجرد صدور لفظه من أي إنسان بقصد وبغير قصد فأخلق بالأمة أن تكون هزيلة القوى مفككة الروابط. الطلاق شر عوامل الفساد وتحليل للعائلة. والعائلة للأمة بمثابة الخلاية للجسم الحي. وإن يكن في الخلاية قوة تدفع بها عادية الفساد عن نفسها غير أنه يستحسن اتقاء الخطر قبل وقوعه واستئصال جذوره قبل أن تنمو وتشتد. والقوة الحافظة لكيان العائلة الأطفال وتحاب الزوجين وتقاربهما في الأخلاق والمشارب. ولكن السآمة وإتباع الهوى وضعف الأخلاق والوقوع في حب شخص غريب عوامل حرب وتفريق إن لم نقطع عليها طريقها ولم يقلم الشارع من أظفارها فإنها قد تتغلب على عوامل الألفة وتقتلع الروابط العائلية فتذر العائلة أنقاضاً وتمسي الأمة واهية القوى. يقول أحد الفقهاء الطلاق سم قليله دواء وكثيره قتال وأول ما يقتل نفوس الأطفال ينتزعهم من أحضان أمهاتهم ويلقبهم بين مخالب الضرات فينشبن فيهم أظفارهن. ويمزقن قلوبهن الصغيرة ويقتلن أخلاقهن الطاهرة بما يرهقن به أجسامهن من الضرب المبرح والكلام القارص وسوء الغذاء وقذارة الثياب وحقارتها. ولا أضر على الأفراد والأمم من تربية الذل والإرهاق ولا أدعي إلى الجبن والكذب من القسوة مع الأطفال. والحسد أشد ما يكون بين الأقارب وكلما دنت القرابة ازداد سعيراً فهو بين الأخوة فيما لو وجدت أسبابه على قمة غليانه، وهل يثير الأحقاد مثل التفرقة في المعاملة؟ يشقى أولاد المطلقة وينعم أولاد الأخرى.

(لهذا الموضوع بقية)

نصيحة شاعر

نصيحة شاعر إذا درس المرء التاريخ ونظر في حياة الأمم التي بادت ولم يبق منها غير أسمائها وجد في الطور الأخير من أطوارها والعصر الأخير من عصور حياتها صفات معروفة ذا رآها في أمة حية علم أن مصيرها مصير تلك الأمم التي بادت وانقرضت وليس انقراض العناصر البشرية مما يستدعي الدهشة فإن ذلك سنة لا مناص منها وإذا نظرنا في حياتنا وجدنا في أمتنا تلك الصفات التي تبدو في حياة كل أمة قبيل انقراضها مثل العجز والملل والكسل والتوا كل والضعة. والزمان وحده هو الذي يحكم على صفات أمتنا أهي عوارض تزول أم عوامل تؤدي إلى الهلاك. لا الدهر غر ولا الأيام ظالمة ... وإنما العيش فينا والردى علل كل له أجل يسعى ليبلغه ... وليس يفلت أمَّأ جاءه الأجل لولا التنافس في الدنيا لما صلحت ... ولا الحضارة والأيام والدول زاوين إلا عن الفحشاء أنفسهم ... وفوقهم من بوادي خزيهم حُلَلُ يا بارك الله مقدروا يعاجلهم ... فتطهر الأرض لا رجس ولا خطل ما باشروا الصديق في قول ولا عمل ... فكُذبَ الأصدقان القول والعمل إذا أصيبوا بشْر هيّن خنعوا ... وإن أصابوا منالاً هيّناً جذلوا ويغضبون على من رام نفعهم ... فما يشجعه في السعي محتفل فلا حكيم ولا نَدْب ولا فَطِن ... ولا عظيم ولا ثَبْت ولا بطل إذا هممتم بأمر نفعه عممِ ... ألهاكم العجز والذلات والملل وإن بدهتم بخطب ضره أمم ... ضاقت لديكم به الغايات والسبل وصاحب الجهل فيكم آمن فَرح ... وصاحب العقل فيكم حاذر وَجِلُ إذا نطقتم بحق فيكم حَصَر ... والبُطْل مبتدر منكم ومرتجل فإن رقدتم فإن النوم عادتكم ... وليس تصحو لكم روح ولا مقل تهافتون على الأدناس ما نتنت ... مثل الذباب على الأدناس ينتقل أفهامكم مثل أفهام الفراش إذا ... حام الفراش على مصباحِ يشتعل فإن دعيتم إلى خير ومكرمة ... حكيتم البُهْم لا عقل ولا حيل

فما طبيب يداوي داءكم أبداً ... إلا الهلاك وهذا ريثه عجل ومن دلائل هذا الهُلْك أن لنا ... فخرا فنحسب أن الفضل متصل إذا خُشِيتم فأنتم مشعر جبُن ... وإن رُجِيتُم فأنتم معشر خُذُل كم من نصيح لكم بالرشد ينصحكم ... كأنما حظه من نصحه الصَّحلُ كلوا وناموا ونالوا حظكم أبداً ... من التثاؤب لا لوم ولا عَذَل وعاقروا الخمر والأفيون في دعة ... فعيشكم مثل ظل سوف يرتحل واستخبروا عن هوى اللذات قاطبة ... أمَّا عن العز والعليا فلا تسلوا وملء أشداقكم ضحك أأسكركم ... من حسن حالكم خمر هي الجذل أم ضحكة الرجل المجنون من حَزَنٍ ... لشد ما نال منك البؤس يا رجل أم ضحكة الخنث الموهون أضحكه ... أمر معيب فلا تقوى ولا خجل أنا النذير إليكم والنصيح لكم ... وليس يؤثر نصحاً عاجز مَذِل يمضي الزمان فلا عزم فيُسْعِدكم ... وليس يزداد إلا العجز والخبل وفيكم من صفات السوء أخبثها ... حتى لقد صار فيكم يضرب المثل أشعلتم نار يأسي وهي خابية ... وقد قتلتم ذكائي وهو مشتعل هيهات هيهات إني مِقْول أبداً ... حلق الزمان به الناس يرتجل أنتم بفيّ كطعم المر أمضغه ... حتى تساوى لديّ الصاب والعَسَلُ فإن فهمتم فمالي فيكم أرب ... وإن جهلتم فشر العادة الجهل إذا هجوت فما أهجوكم أبداً ... إلا ودمع على الخدين ينهمل أنتم أحق بتأبين ومرثية ... والرزء بالحي جرح ليس يندمل أنتم عليّ وإن طالت مهانتكم ... أعز ذي قدم يسعى وينتعل فنحن في أمرنا طرا سواسية ... وأن تفاوتت الأخلاق والنّحَلُ ليس لي فيكم حظ ولا أمل ... وليس لي في الورى من دونكم بدل إني رأيت حياة الناس أولها ... يدعو لآخر ما يأتي ويُقْتَبَلُ لقد ورثنا كلها كمد ... مور على القلب مثل النار يشتعل فنحصد الشوك مما ذَرّ أولنا ... لقد ورثنا عن الأسلاف ما فعلوا

فمن خمول ومن جهل ومن كسل ... وأعظم الخطب ما يأتي به الكسل ثقل على النفس نُمضيه ونصرفه ... حتى يصح وحتى يصدق العمل ونجتني العز غضا كله ثمر ... ونشرب العيش ريا كله جذل أن الأماني دون القلب ما برحت ... في القلب منزلها مُسْتَمْرأ خَضِل نستخبر القوم أني وجهة سلكوا ... فبلغتهم إلى عليائها القلل هم زاولوا الجد قد دانت تجاربه ... لهم فعزوا بها والدهر مقتبل قوموا اجعلوا السعي في الأطماع رائدكم ... ما أضيع المرء لولا السعي والأمل بعض العلوم إلى الأعمال منتسب ... وأحسن العلم ما يجدي به العمل هذا السلاح الذي يدع لهم سبلا ... في مجدهم لا ألقنا الخطية الذُبُل يا قوم هذا سبيل لا خفاء به ... فيه الحياة لأقوام إذا عقلوا أنا بمنزلة الفصل يتبعها ... أما الحياة وأما الموت والأجل حتام ننكر حقاً غير مشتبه ... لا يكره الحق إلا من به دخل لا يصلح العلم مضنوناً به أبداً ... فأين شؤبوبه إلا ينفع البلل هذا الذي يدعى الأقوام قادرة ... فكل فرد كعضو ما به شلل أذلك المال مضنون به أبداً ... إن العزيز لدى الأوطان مبتذل والعلم مثل عصا السحار يبسطها ... فيصبح المال قد ضاقت به السبل والعلم والمال مقرونان في قَرَن ... لا نجتني المال حتى يصدق العمل وإنما لغة الأقوام مِيْزَتُهُمْ ... فإن تولت فمجد القوم مرتحل قد أصبح العلم والآداب ضائعة ... وأصبح الشعر فوضى كله ذلل يرقى الوجود بعيش الصالحين له ... من ليس يدركهم عجز ولا كلل ليس الحياة بمستشفى لمن سَدِكَت ... به الزمانات والأمراض والعلل بل الحياة جهاد لا خفاء به ... فليس يفلح إلا الأغلب البطل إن الحياة كَتَنُّور ومعركة ... يَصْلَى الشجاعُ ويصلى العاجز الوكل وكلكل الدهر لا يُبْقي على ضَرع ... وليس يخدعه جود ولا بَخَل نلهو عن العيش والأقدار نافذة ... كأنهن مطايا تحتنا ذُلُلُ

إن المقادير أجناد مُجَنَّدة ... تصول بالحق لا ظلم ولا خطل لا رحمة عندها ترجي ولا مِقة ... ولا الشفاعة تُقْصيها ولا الخَوَل عبد الرحمن شكري

أفكار بليدة

أفكار بليدة لمفكر بليد هذا اسم كتاب بديع حلو الأماليح يمتزج فيه الجلد باللهو وتختلط الفلسفة فيه بالدعابة، يحتوي طائفة من الأفكار الجديدة والآراء الصائبة المستملحة، وقد اشتهر مؤلفه الكاتب الانجليزي الماجن جيروم. ك. جيتروم بأنه من أبدع الكتاب الفكاهيين في العصر الأخير، ونحن نقتطف منه قطعاً صالحة لتفكهة القراء. 1 - الغرور إن الرجل الطيب في نظرنا هو من كان طيباً لنا، والرجل السيء هو الذي لا ينزل على ما نريده منه، والحق الذي يقال إن كل إنسان منا يحمل في قلبه عقيدة ثابتة راسخة، هي أن هذه الدنيا العريضة كلها بناسها وجماداتها ما خلقت إلا له وحده فرجال الأرض ونساؤها لم يخلقوا إلا ليعجبوا بنا وليشبعوا شهواتنا وليسدوا مطالبنا، وأنا وأنت أيها القارئ العزيز كل منا يعتقد أنه مركز الكون كله وقطب رحاه، فأنت - كما أفهم - جئت إلى هذا الوجود لكي تقرأني وتدفع ثمن ما قرأت، وأنا - في نظرك - لست إلا شيئاً أرسل إلى هذا العالم لكي يكتب لك شيئاً تقرأ. والنجوم لم تنتثر في صفحة السموات إلا لتجعل منظر السماء في الليل مبهجاً لنا جميلاً، وهذا القمر البازغ الحلو لم يطلع إلا لكي نتحاضن تحته ونقبل ونعانق ونشاغل. وإني لأخشى أن نكون مثل ديك جارتنا إذ ظن أن الشمس تطلع كل صبح لكي تستمع لصيحاته، بل إن الغرور هو الذي يحرك هذا العالم ويسيره، وما أظن أنه عاش على هذه الأرض إنسان واحد لم يكن مغروراً، ولو وجد إذن لكان يكون رجلاً لا قبل لنا به ولا طاقة لأحد منا على احتماله، ولقد كان يكون ولا شك رجلاً طيباً جداً، رجلاً يوضع في زجاجة ويطاف به على الناس للفرجة والمشاهدة، رجلاً يوضع فوق قاعدة تمثال ونلتف به نرسمه كما يفعل التلاميذ في كراسات الرسم. نعم إنه ليظفر منا إذن بالاحترام ولكن لن يظفر بالحب، لن يكون عندنا الأخ الآدمي الذي نأخذ يده في أيدينا ونشد عليها في حرارة ود وحب، وذلك لأن الملائكة قد تكون في نفسها حلوة المحضر طيبة ولكنا نحن بني الموت لعلنا وأجدوها غير لذيذة العشرة ولا رقيقة السمر، بل إن الرجال الطيبين طيبة مجردة لا

يشوبها شيء من نقائص البشر ثقال الظل ولا مؤاخذة، لأن عيوبنا ونقائصنا - هي التي تمزجنا بعضنا ببعض وتجعلنا نتواد ونتحاب، ونحن نتباين كثيراً في سجايانا ومحاسننا ولكننا مجتمعون مشتركون في مساوينا، فمنا البررة الأتقياء، ومن الأكرمون الأجواد، وقليلون فينا الأمناء، والأقلون بيننا الصادقون، ولكنا جميعاً والله الحمد مغرورون، والغرور هو ولا ريب من مراحم الطبيعة التي تؤلف ما بيننا وتقرب مسافة الفروق، فنحن بجمعنا من الهندي الفارس المزهو بحزامه ومنطقته إلى الجنرال الأوروبي المنتفخ تحت نجومه وأوسمته، ومن الصيني الفَرح بضفائره الصفراء إلى الحسناء المتكلفة تتحمل العذاب والآلام لكي تعجل خصرها أشبه بحلقة الكعكة، ومن المرأة الفقيرة تخطر في الشارع تحت مظلتها المتخرقة البالية إلى الأميرة وهي تتثنى في حجرة الاستقبال تجر وراءها ذيلاً يربي في طوله على أربعة أمتار، كلنا نعيش ونتشاجر ونجرح وندمى ونموت تحت علم الغرور المرفرف الخفاق. نعم. إن الغرور هو ولا شك القوة الدافعة التي تحرك الإنسانية وتجرها والملق هو الشحم الذي تدهن به عجلاتها، فإذا كنت تريد أن تغنم الحب والاحترام في هذا العالم فأنت خليق أن تملق الناس وتمتدحهم، إذن فأملق الرفيع والوضيع والغني والفقير والمغفل والعاقل والأحمق والرزين فأنت ولا ريب ظافر بحياة بين الناس حلوة راغدة أمدح فضائل هذا ونقائص ذاك، وحي كل إنسان وأمدحه على كل شيء، ولاسيما على ما لم يؤتَه وما ليس فيه، أمدح المشوهي الخلقة القباح الوجوه الملعوني الشبه بالجمال والرشاقة والحسن واستحسن من الحمقى ذكاءهم وأبد إعجابك من الوقحاء الأراذل لتربيتهم وكرم أدبهم، وإذ ذاك يرفعون دقة بصرك وذكاءك ولطافة ذوقك إلى السموات. ثم إن للملق طرقاً مختلفة وأساليب عدة، وأنت ولا ريب حري بأن تتخذ لكل موضوع الأسلوب الذي يلبسه، فكثيرون يحبون أن يقدم الملق إليهم بالمعالق وهذا النوع لا يطلب شيئاً من البراعة والتفنن، وهناك جماعة من العقلاء يحبون أن يكون التملق لهم بالإشارة لا بالكناية والعبارات، وآخرون يحبون أن يكون ملفوفاً في غطاء من الشتيمة كأن تقول لأحدهم - يا لك من أحمق مغفل، إنك لترمي بآخر قرش معك لأول سائل يلقاك! - ثم إن هناك جمعاً غير هؤلاء لا يتذوقون الملق إلا إذا قدم إليهم عن يد رجل ثالث فإذا أراد أحمد

مثلاً أن يستأسر لب علي - على شريطة أن يكون على هذا من هذه الماركة نفسها - فعلى أحمد أن يسر إلى أحد أصدقاء عليّ أنه يرى في علي هذا رجلاً بديع الخلق كريماً طيب القلب ويأخذ عليه إلا ما كتم عن هذا عن الناس ولاسيما عن صديقه علي، ولكن المتملق أن يحذر أن يكون هذا الوسيط الذي ألقى إليه الملق رجلاً موثوقاً به كتوماً وإلا خابت الحيلة. وأما هؤلاء الأكياس الصلاب العود الذين يقولون لك أبداً إننا نكره الملق والمديح يا سيدي وإننا لا نسمح لمخلوق أن يتغلب علينا بالملق الخ. . الخ. . فلا تخفنك منهم هذه الطنطنة الحلوة. . . أمدحهم أملقهم فقط على فقدانهم حب الملق والمديح. ثم افعل بهم بعد ذلك ما شئت. وأخيراً أن الغرور فضيلة. . . ولكنك تستطيع بكل سهولة أن تجيء بكراسة طويلة في ما قيل ضدها من الأمثال السائرة، ولكنها بعد عاطفة وثابة تدفعنا إلى المحامد كما تدفعنا إلى المذام، ثم أليست الآمال الكبيرة إلا ضرباً مهذباً من الغرور، ونحن نريد أن نظفر من الناس بالإعجاب والاستحسان أو بالشهرة كما تحبون أنتم أن تسموها، ومن ثم نكتب كتباً ممتعة طيبة ونرسم صوراً فخمة جميلة ونغني أغنيات لذة مطربة، ونكد ونتعب ونعمل بأيدينا وأجسامنا في المكتب والمعمل والمصنع. نحن نود أن نكون أغنياء، لا لكي ننعم بالراحة ورغد العيش ونعومة الحياة فهذه كلها يمكن أن تشتري بثمن بخس حسب الصنف والمقدار، وإنما لكي تكون بيوتنا أبر من بيوت جيراننا وأفخم رياشاً وأجمل مظهراً، ولكي تكون جيادنا وغلماننا أكثر عدداً من جيادهم وغلمانهم، ولنستطيع أن نكسو أزواجنا وبناتنا ثياباً ليست بالفخمة وإن كانت الثمينة الغالية، ولكي نؤدب المآدب الكبرى وإن كنا نحن لا نأكل من أطعمتها ما يساوي خمسة قروش، وبهذا نعين متاجر الدنيا ونصرفها، وننشر التجارة ونروجها على أهلها، ونمد في المدينة إلى أبعد حدودها وتخومها. لا تسخطوا إذن على الغرور، ثم لا تسيئوا استعماله، وخير لكم أن تحسنوا القيام عليه، بل إن الشرف نفسه هو أبدع وجوه الغرور وأسمى نواحي الزهو. نعم إن الأدعياء مغرورون ولكن لا تنسوا أن الأكفاء والأبطال أيضاً مغرورون. إذن تعالوا أيتها الطواويس الصغيرة الحسناء نكن معاً مغرورين. هلموا نتعاون وننمي غرورنا. لنكن إذن مغرورين ولكن ليس

بسراويلنا وفروع شعْرنا ولكن بالأفعال الكبار والمحامد العظام، وبالحق والجمال والطهر والشرف. تعالوا نزهى بأننا لا ننحني لأي أمر حقير خسيس، وإننا لا نقول لأحد كلمة قاسية ولا لفظة خشنة. دعونا نزهى بأنا نعيش قوماً مهذبين في وسط من اللصوص والإخساء والأشرار، ولنفخر ونعتز بأننا نفكر أفكاراً حلوة، ونعمل أعمالاً ونعيش عيشة باردة راغدة. . 2 - القناعة إن أهل الطيبة والخير هم على الباطل - وهم أبداً كذلك عندي لأنني لم أتفق يوماً معهم في شيء - إذ يقولون أن الطمع من أكبر الشر. ولكن ماذا كان يكون أمر الدنيا بغير أهل الطمع أكثر الله منهم. إذن لما عدت أن تكون في رخوتها ونعومتها ولينها كعجين العجانة. ثم أليس أهل الطمع هم الخميرة التي ترفع العجين حتى يخرج منه خبز جيد صالح وبغير ذوي الأطماع لا ينهض العالم ولا ينمو ولا ينتعش. باطل أن نكون من أهل الأطماع! يا حلاوتكم أهل الخير. .! أيكون أهل الأطماع على الباطل وهم بظهورهم المنحنية وجباههم المتصببة عرقاً يوطئون الطريق للإنسانية لتسير فيه جيلاً بعد جيل، وهم لا ريب يطلبون النفع لأنفسهم ولكنهم في طلبهم نفعهم يعلمون لنفعنا. لأننا مرتبطون ببعض حتى لا يستطيع أحدنا أن يعمل لخيره وحده دون خيرنا، إن النهر في تدفقه ومسيله متصاعداً فياضاً يدبر طواحين الدقيق ويسقي الزرع ويصل ما بين الأرض والأرض والبلد والبلد، وكذلك الرجل المطماع في إقامته تمثالاً لنفسه يترك أثراً صالحاً للجيل المنحدر بعده، وإن الإسكندر وقيصر قد حاربا لأغراضهما وأمانيهما بذلك قد مدا أنطقة من المدنية حول هذه الأرض، وإن ستيفنسن أراد أن يكسب له رزقاً طيباً فاخترع الآلة البخارية وشكسبير لم يكتب رواياته إلا لكي يملك بيتاً أنيقاً دافئاً لمسز شكسبير والشكسبيرات الصغار. إن القانعين الراضين هم محمودون نوعاً ما. . هم يصلحون ليكونوا في هذه الدنيا ألواحاً ترسم فوقها الصور الفخمة العظيمة. وإني أعدهم إني لن أتكلم عنهم أبداً ما داموا معتصمين بالسكوت، ولكن بحق السماء لا تدعوهم يمرحون في الأرض - كما يحبون أبداً أن يفعلوا - صارخين إنهم الأسوة الحسنة التي يؤتسى بها والمثال الحق الذي يحتذى، لأني لا أراهم

إلا كذكور النحل في الخلية الكبرى، والغوغاء في الشارع يتلكؤون وينظرون في الحوانيت إلى الذين يعملون ويكدون. ثم لا تدعوهم كذلك يتوهمون - كما هي عادتهم - إنهم عقلاء وفلسفيون وإن من أكبر الحزم أن يكونوا راضين قانعين، فقد يكون الذهن القانع الراضي سعيداً في أي الأحوال كذلك الحمار الأورشليمي، والنتيجة من ذلك أن كليهما يوضع حيث تضعه ويرضى حيث تعامله. فإذا كنت من الحماقة بحيث ترضى بالرضى والقناعة فبالله عليك لا تظهرها، ولكن تسخط مع المتسخطين ووسوس بالشكوى مع الشاكين وإذا استطعت، أن تعيش على القليل فلا تطلب إلا الكثير، لأنك إن لم تفعل فلن تظفر إلا بالقليل ولا بالكثير إذ ينبغي في هذا العالم أن تسير على المبدأ الذي يسيطر عليه المطالبون بالحق المدني في ساحات القضاء تعويضاً عن الخسائر التي لحقتهم إذ يطلبون عشرة أضعاف ما يظنون أنه يرضيهم، فإذا أحسست من نفسك أن مائة فلست بظافر إلا بعشرة. وهذا ما وقع فيه المسكين جان جاك روسو، فقد حدد أوج سعادته الأرضية بأن تمني أن يعيش في بستان أغن وأن تكون إلى جانبه امرأة محببة وأن يكون له جاموسة. . . فلم يظفر حتى بهذه نفسها، فقد أحرز البستان، أو ما يجوز أن يسمى بستاناً، ولكن المرأة التي وجدها لم تكن محببة، ولكي تكون المصيبة تامة جاءت معها بوالدتها، ثم لم يظفر بالجاموسة، ولو كان روسو المسكين أقر في ذهنه أن يكون رب ضيعة واسعة في الريف وبيت حافل بالظباء العين ومعرض من البقر والجاموس، إذن لما عتم أن عاش لكي ينعم على الأقل بقطعة من الأرض، وبرأس واحد على الأقل من الماشية، ولعله كان واقعاً على ممر الزمن بأندر النادر. . . وهي المرأة المحببة حقيقة. هذا وما أبلد ما تكون الحياة لهؤلاء القانعين الراضين، وما أثقل عبء الوقت على رؤوسهم وأكتافهم، ثم أية خواطر وأفكار بعيشك تجول في أذهانهم، إذا فرضنا أن لهم خواطر وأفكاراً، وما أظن إلا أن قراءة الصحف وتدخين اللفائف هي كما يلوح لي الغذاء الذهني الذي يزدرده سوادهم، وأما الباقون وهم أقل بلادة وخمولاً وفتوراً فيضيفون إلى هذه التوقيع على القيثار والكلام في حق الجيران!

أفيقو إذن أيها الناس. . أفيقوا. . أفيقوا. أيتها السيدات، أيها السادة أفيقوا انهضوا يا رجال ويا أطفال ويا بنات، اظهروا براعاتكم وكفاآتكم وجربوا قواتكم ومجهوداتكم، أن معرض الحياة مفتوح ولعبة الحياة أبداً قائمة، أفيقوا يا سادة وضعوا أيديكم في أيدي رفقائكم الناس، إن لألعاب الحياة جوائز أيها الناس ومكافآت للجميع، والجميع يستطيعون أن يلعبوا ويتسابقوا، الذهب للرجل يا سادة والشهرة والمجد للشاب، والحب للعذراء، والراحة واللذة للأحمق، إذن أفيقوا، جوائز ومكافآت، القليلون يربحون وأما الباقون فيتمتعون بلذة السعي والكد.

آداب الإنجليز وآداب الألمان

آداب الإنجليز وآداب الألمان إن الحرب قاسية منكرة، ولكن أقسى منها أن يكون كل من الفريقين المتقاتلين المتصارعين يحمل في أعماق قلبه احتراماً خفياً صامتاً لعدوه، وكل منهما يريد أن يخنق صاحبه ويكتم أنفاسه ويهدم منزله ويرسله مدرجاً في أكفان الهزيمة إلى المقبرة، ولكنه ولا ريب واقف ساعتذاك على قبره خاشعاً لجلاله متهيباً، يصلي من أجل عدوة القوي الذي صارعه وناهضه، ويحوطه بكل مظاهر الشرف والإعجاب والاحترام وهذه الحرب هي حرب الغريزة، حرب الزنجي الشجاع للزنجي المقدام المغوار، حرب السبع للسبع، والنمر للنمر، كل منهما يجالد الآخر ليقتله، ولكنه يمجد في عدوه قوته، لأن القوة تحترم القوة التي مثلها، لأنها تخشى أن لا تحترم نفسها، والكفوء لا يحتقر الكفوء وإن كان يحقد عليه أو ينفس، والحقد غير الاحتقار، لأن الاحتقار ينحدر من ذروة الرجل الأشم العظيم إلى وهدة المخلوق الضعيف الهزيل، والحقد هو أكبر مظهر من مظاهر الإعجاب بالقوة والتمجيد لشأنها، وهو من أكبر فضائل الغريزة، وهو من أسمى منعشات الصحة ومقوياتها، لأنه يرسل الحرارة في نواحي الروح وأجزاء النفس ويبعث النشاط إلى الجسم ويزيد في خفقات القلب ويشد الساعد ويحرك اليد ويلهب الذهن، ولهذا يقول نيتشه: أحبوا أعداءكم وخير منه أن تكرهوا أصدقاءكم. وخلاصة هذا أن الانكليزي يحمل في قلبه الاحترام للألماني وأن الألماني لا يستطيع إلا احترام الانلكيزي، وإن كان هذا الضرب من الاحترام قاسياً مخيفاً مرعباً، وكل منهما ولا ريب يحترم في عدوه قوته، وإن كان يريد أن يصرعها ويزهق روحها ونحن الضعفاء المهازيل لا يسعنا إلا الاحترام للجميع، نحن نقف على مشهد من القتال الناشب بينهما المستحر صارخين كما يفعل الأطفال والولدان عند رؤية الشجار العنيف معولين، مهيبين بالمتقاتلين متوسلين، نصيح بهما أن يكفا عن القتال المستميت، ونضرع إليهما أن يزجرا هذا الصراع الدموي الرهيب، لأننا نخشى ان يميت أحدهما الآخر، لأننا نريدهما جميعاً. لأننا لا نريد أن يفقد العالم قوتهما أو قوة أحدهما. لأن حياة الإنسانية ومدنية العالم تطلبهما معاً، إذ كنا نعيش في كل ألوان العيش من عقل الانكليزي ودأب الألماني، نحن في البيت وفي الشارع وفي القهوة وفي المنتدى وفي القاطرة وفي العجلة وفي الملهى نتنعم بمبتكرات الانكليز ومنشآت الألمان، نحن نمرض ونجرح ونصاب فنشفى ونعافى ونصح بعقول ارلخ

وكوخ ورونتجن وليستر وجنر مساي، نحن نبتهج بأن الإنكليز أعطتنا شكسبير، وأن الألمان وهبونا جوت، نحن نتهذب بأذهان شيللر وهايني وشوبنهور وكانت ونيتشه وواجنر الألمانيين ونحن نسمو بعقول هوبز ولوك وجبون وكارليل وديكنز وولز وبرنارد شو. نعم لا يسع الانكليز إلا احترام الألمان وليس في أعماق قلوب الألمان إلا احترام الانكليز، وإن كل منهما يريد أن يفترس الآخر ويرديه، ذلك لأن مدنية كل منهما تمس الأخرى وتلاحقها وتتشبث بها والمدينتان في كل فروع الحياة والآداب متداخلتان متلازمتان، فإن أرنست هيكل الألماني هو وليد دارون وخريج وُلّلس وجوت وشيلر ابنا شكسبير، وهكسلي وجالتون ولييل وفراداي ودالتون وهامفري دافي هم الذين أنتجوا أكبر علماء ألمانيا وكيماوييها وحشرييها وبيولوجييها، وانجلترا استفادت من ألمانيا كذلك أكبر أساتذتها وجبابرة عقولها في السياسة والمال والجغرافية والهندسة والطب والفلك واللغة وغيرها، فإن آل بارنج - ومنهم لورد كرومروهو من أكبر أقطاب السياسة في الغرب - يمتون إلى أصل ألماني، وكذلك روتشلد أكبر ماليي هذا العصر وأرنست كاسل المحسن المالي العظيم وسر ويليم هرشلي الفلكي الكبير وماكس موللر المستشرق الفيلولوجي الذائع الصيت وسير موريس دي بونزن سفير انجلترا في برلين قد نزلوا جميعاً من سلالة ألمانية، وكثيرون غيرهم يخطئهم الحصر والعد قد أفادوا انجلترا أكبر الفائدة في الاكتشافات الجغرافية وفي البيولوجيا وفي التصوير والموسيقي والصحافة والمصارف والتشريع والجندية والبحرية، وكانوا من الألمان دماء، وإن كانوا من الانكليز جنسية وموطناً. ولقد كان العالم الإنساني قبل نصف قرن الماضي يغتبط بالألمان ويبتهج بألمانية جوت وشيللر وهيجل وكَنْت وشوبنهور، لأنها كانت ألمانية إنسانية رفيقة صامتة حلوة وديعة تعمل للعالم في هدوء وتلقى بنظرياتها وفلسفاتها وعلومها وآدابها بين أهل الأرض، وهي في لباس الأستاذ الهادئ الحدب المخلد إلى العزلة العلمية المطربة، وهي في بردة لافوازييه وهو يحنو على الدرس العلمي في مكتبه، وضوضاء الثورة الكبرى ضاجة في الفضاء صخابة متعالية، ولكن حرب السبعين جاءت فأسكرت ألمانيا وأثارت عزتها وزهوها فماتت ألمانية كَنْت وشوبنهور، وطلعت ألمانيا الصخابة المزهوة المتعاظمة، نظرت إلى حاضرها ثم التفتت إلى ماضيها فرأت كل شيء أمامها بهيجاً، حاضر المنتصر الثمل وماضي

الفيلسوف الساكن المعتزل، وإذ ذاك قالت في نفسها. . . هذا أنا حاربت فرانسة البديعة، فرانسة الفلسفة والشعر والقانون والمودة والمجد والزهو والحمية، فرانسة الجمال والرقة والحرية وحقوق الإنسان، فرانسة لويس الرابع عشر وريشيليو وروسو وفولتير وميرابو ودانتون ومارات وروبسبير ونابليون وموسيه. . وهذا أنا انتصرت، وربحت الموقعة. . إذن فلأغزون الأرض وأملكن عين الشمس. . أيها الناس. كونوا ألماناً. كونوا ألماناً. . . تعالوا يا ألمان نطلب السيادة على الأرض. . وأما السقوط - عند ذلك بدأ العالم الإنساني يكره ألمانيا وينفر منها وكان يحبها من قبل ويجلها، ومنذ ذلك اليوم راحت ألمانيا تحول كل قوتها إلى خدمة نفسها ومصلحتها، وكل فلاسفتها ومفكريها وعلمائها ومخترعيها أصبحوا منذ ذلك اليوم يحملون فوق صدورهم ماركة واحدة وهي صنع في ألمانيا ولا جل ألمانيا ولم نعد نحن العالم الإنساني نسمع من ألمانيا التي كانت مهد الفلسفة الإنسانية الجميلة إلا صوت تريتشكي الصخاب الأصم يصرخ فينا. . أيها العالم الإنساني. . نحن الذين هذبناك ورفعناك وربيناك. . نحن أنبياء هذا الزمان. . . نحن العنصر المختار من الله. والشعب المجتبى. أن كلتورنا هو أسمى آداب العالم وأرفعها. . السيادة على العالم أو السقوط ولم نعد نرى غير القائد المتفلسف فون برناردي يعد ويحسب، ويضع الخطط لحرب العالم وغزاته وامتلاكه، بعد أن كنا نسمع نيتشه الإنساني السبرماني المهذب، وكَنْت الفيلسوف النظري الوديع، وشوبنهوَر السوداوي الحزين، وهيجل الخيال الرقيق، وجوت الشاعر الجزل المستفيض، وعند ذلك انقبضت صدورنا عن الألمان، ونفرنا من ألمانيا، لأنها جاءت تمن علينا بمدنيتها وتؤذي إحساسنا بتعداد صنائعها علينا وفضائلها، لأنها تريد أن تقتل حرية العالم. . تريد أن تبتلعه، وتأكله كما يأكل القط الفأرة. إن الألماني رجل عصبي قوي حاد المزاج والانكليزي رجل هادئ الأعصاب متين الخلق وصلب الروح، وما أظن الألماني عند المدفع إلا صاخباً لاعناً شاتماً، وهو يحرك إدارة المدفع ولولبه، ولكن الانجليزي يدير المدفع ولفافته في فمه وهو في أتم هدوءه، حتى لقد وصف القائد الانكليزي بأنه ليقف أمام فوهة المدفع العظيم كما يقف عند باب حجرة الحسناء الناعمة. وهذه الأعراض الأخلاقية تتجلى في آداب الأمتين ووجوه تفكيرهما ومبادئهما، فإن الآداب

الألمانية تشبه نوعاً من الشجار الحار المضطرم، كل ما فيها ينم عن نفس جياشة متوثبة متجهمة، وكل آدابها في هذا العصر التسليحي الأخير يتبع فكرة واحدة. . . فكرة القوة والشدة. . . فكرة ترتشكي المتلخصة في كلمة كونوا حكوميين ونصيحة نيتشه كونوا قساة يا صحابتي. وهذه الحدة المزاجية تبدو في حب الشعب الألماني للكلمات المنتفخة الفخمة الغليظة وكل طفل في المدرسة لابد من أن يحفظ كراسة مطولة منها، يحفظ عن ليست وبسمارك ومكيافللي وكلوسويتز ومولتكي وترتشكي والإمبراطور، وكل من يزيد في مجموعة هذه الكلمات الكبيرة يغدق عليه المجد والاحترام والشرف والتبجيل، كما أعطى الشاعر ليساور وسام الصليب الحديدي من أجل قصيدة نظمها هي قصيدة الحقد. وهذا الضرب من الآداب في نظر الفلسفة الحرية الصحيحة ليس من الآداب في شيء. . . هو نظام عسكري متين أكثر منه أدباً وشعراً وتصويراً ونقشاً وموسيقى. . هو خطة إسبارطية خشنة. يختفي فيها الفرد في جوف المجموع، وينزوي الفكر الإنساني عند أقدام الحكومة والإمبراطور، ولكن الألمان أنفسهم لا ينكرون هذه الحقيقة ولا يجحدون، لأنهم يعتقدون أن الفكر الجنديّ المنظم هو خلاصة التاريخ الألماني، إذ كانوا يعيشون على الطاعة والنظام منذ أبعد حدود الماضي وعهوده، هم لا يعرفون إلا أن الطاعة منهم وأن الأمر والنظام من الإمبراطور، وهذا الأسلوب التفكيري، وإن كان قد خلق الوطنية الألمانية، لا تقره الإنسانية ولا تمتدحه، ولا تعترف به غريزة الإنسان، لأنها تعيش على الحرية الشخصية وتغتذي من حرية الرأي والكتابة والتفكير، وتسخير كل قوى التفكير والعلم والآداب والحضارة لغاية أهلية واحدة ليست من مطالب مدنية الأرض، لأن الأرض لا تريد أن تحكم بأمة واحدة، أو تساد بعقل واحد، أو يسيطر عليها سيف واحد، والفكر الذي يسخر نفسه لخدمة فكرية جنسية مستقلة غير عامة، لا يسعنا إلا أن ننحني له احتراماً وإعجاباً. ولكنا لا نكتب اسمه في سجل مصلحي الأرض، ولا نضعه في قائمة الإنسانيين الناهضين بحضارة الدنيا، والشعب الذي يطمع في أن يسود العالم ويقوده، هو شعب حيوي وثاب مطماع، ولكنه غير خليق منا بالحب والاحترام، لأنه يريد أن يقتل في الإنسانية فكرة الحمية للجنس وروح العصبية للعنصر، والحب الغريزي للوطن.

وعلى نقيض آداب الألمان تعيش آداب الانكليز، فإن كل انكليزي يأبى إلا أن يكون عالماً مستقلاً من الأدب والتفكير، ودولة مترامية من الرأي المطلق الحر، وليس للانكليز شعار واحد أو فكرة واحدة يتبعونها ويسخرون قواهم لها، بل إنك لتلتقي عندهم بضروب من الشعائر المتباينة والأفكار المتضاربة المتعارضة، فإن للارستقراطية شعاراً ومبادئ تختلف عن شعار البحرية ومبادئها وهذه تختلف عن الجندية، والجندية تختلف عن التجار. وشعار التجار ومبادئهم لا تشبه شعار الدينيين ومبادئهم. والدينيون لا يتبعون في ذلك أصحاب الألعاب الرياضية، حتى لقد بالغوا في هذا الأسلوب التفكيري الحر المستقل فأصبح شعار لندن ووجهة تفكيرها غير أدنبرج، وأدنبرج تباين منشستر، ومنشستر لا تحكي بلفاست وهلم جراً، بل إن للشرطة من ذلك غير ما لموظفي الحربية والأشغال والمستعمرات، وليست هناك حكومة حقيقية - بالمعنى التام الذي يفهم من هذا اللفظ - يحس الانكليزي بها أو يشعر بوجودها، اللهم إلا في دائرة القضاء والقانون وسوى المحاكم، والتاج في كل مظهره وقوته صورى لا سيطرة له على الفرد ولا أمر ولا نهي. والمدنيون يرأسون الجيش ويتقلدون المناصب العسكرية والوظائف البحرية كالعسكريين، ولو سألت الانكليزي العادي أن يعرف لك انجلترا لقال لك في الحال هي الفوت بول لأن وطنية الانكليزي أرضية صامتة تستمد قوتها من الغريزة والإحساس الداخلي العميق، ومن ثم لا تجد لانجلترا شعاراً أهلياً ولا وجهة تفكير أهلية واحدة عامة، وليست لها فلسفة حياة خاصة بها، والانكليز يفخرون بذلك ويعتزون، لأن وطنيتهم وعصبيتهم الجنسية مستأصلتان في أعماق قلوبهم، لا يتعلمها إنسان منهم ولا يلقنها معلم ولا يستحث عليها كاتب أو خطيب. اه. منقولة عن كاتب انكليزي منصف كبير، بعد أن حذف منا وزيادة وتصرف كثير.

المساكين

المساكين للنفوس الكبيرة وثَبات في شوط النبوغ تقطع في الوثبة الواحدة منها ما يقضى غيرها العمر في التعلق بأسبابه وبلوغ الغاية منه ولهذا لا يعجب النوابغ بأعمالهم بعض ما يعجب الناس من قدرتهم على هذه الأعمال، والنابغة هو الذي يستطيع أن يجعل كل سنة من عمره أو كل طائفة من العمر أثراً ظاهراً في التاريخ الذي يعاصره لأنه أحد الأفراد المعدودين الذين ينشأ من أدمغتهم هذا التاريخ. على هذه القاعدة يجري نابغة الأدب العربي الشهير مصطفى صادق الرافعي فلا يكاد يصدر كتاباً حتى يأخذ في غيره فهو أبداً يبحث ويفكر وينظم وينثر كما تعرفه الأمة وإنما هي نفسه المضطرمة تحاول أن تبعث من أشعتها في الأفق لتظهر على الأرض قطعة من جمال السماء. وقد وضع أخيراً كتاب المساكين - وهو تحت الطبع - يكشف به عن الحقيقتين الغامضتين في الحياة حقيقة الغني وحقيقة الفقر، لا يقرؤه الفقير حتى يرحم الغني ولا الغني حتى يرحم الفقير فكأنه مؤاخاة بين الخصمين المتنافرين في الإنسانية. وقد أسند الكلام فيه إلى رجل اسمه (الشيخ علي) والشيخ علي هذا رجل أنعم الله عليه بالبلاهة والراحة والمَترَبة وليس في الأرض أشد منه على ذلك مرحاً واغتباطاً. وسننشر في عدد آخر الترجمة الخيالية البديعة التي وضعها له الرافعي وربما نشرنا صورته. والآن نقدم للقراء هذه القطعة من فصل عنوانه التعاسة - وأسعد الله قراءنا. قال الشيخ علي: وأنت يا بنيّ ما إن تزال تصبغ الدنيا بلون لا أدري كيف أسميه، فلا هو من وجوه أهل الحسد فأقول أصفر ولا من قلوب أهل البغض فأقول أسود ولا من صدور أهل الدم فأقول أحمر ولا من شيء أعرفه لأنه ليس شيئاً يسمى. وعلم الله أن من يهوي في جهنم سبعين خريفاً وعيناه تدوران في رأسه لا يبصر من حيث ابتدأ إلى حيث ينتهي شراً من وجه دنياك. إنك يا بنيّ تصور الأرض لا أرضاً ولا ماءاً بل قلوباً ودموعاً وتراها لا دوَلاً ولا أمماً بل آلاماً وحوادث فكأن هذه الأرض العظيمة تحتاج إلى نارين من قلبك ومن الشمس وإلى

نفحتين من خيالك ومن الفضاء وإلى قدرين من حزنك ومن الأبد. ومن ثم فلا عجب يا بني إن كان مركز الثقل فيها على وهمين: على محورها وعلى. . . ظهرك. لقد أسرفت على نفسك الضعيفة وجعلت هذه الحصاة تحت مطرقة الزمن فما تزال رخواً منبعثاً مسترسلاً في اندفاق ولين، كأنك ترى رجل من العجين. وكم تقول لي (فلانن) وجاهه العريض، ودهره المريض، وانظر إلى (فلان) كيف جعله الكبر يذكر منا وينسى، وكيف أصبح من الغني وأمسى، (وفلان) كيف تمر من فُرَج أصابعه سفن الآمال، في تيار المال، كأن يده قنطرة على نهر الأقدار، أو جسر تعبره حظوظ السماء إلى أهل هذه الدار، أو (فلان) قبحه الله كيف سار شيطانه في إنسانه، وطول عمره في لسانه، وكثرة ماله في قلة إحسانه، وأخزاه اله فما برّ ولا نفع، بل تفرّق بالحرص على ما جمع، وطمع في كل شيء حتى في الطمع، (وفلان) الذي جمع وعدّد، وخلقه الله واحداً وهو في الرذائل يتعدد، وقد انتفخ كأنه شدق إسرافيل، وامتد كأنه يد عزرائيل، واستلقى كأنه فرعون على النيل، (وفلان) وما أدراك ما فلان: جبل شامخ والناس في سفحه رمال، ومجد باذخ ولا مجد لمن ليس له مال، وهو في أهل الغنى الألف والباء، وإن قيل في غيره (ابن نعمة) فهو في أهل النعمة أو الآباء، على رأس كأنه من الرجل ركن الكعبة الذي يتوجه عباد الغني إليه، وقامة كأنها لجاه صاحبها قطعة من المحور الذي تدور هذه الأرض عليه، وهناك أنف أما في السماء فله منزله، وأما في الأرض فعطسته زلزلة، ينفض الناس من رهبته نفضاً، ويفرش الوجوه من هيبته أرضاً، وكأنه في تلك الكبرياء ميزان معلق يرفع من ناحية ويخفض من ناحية، بل كأنه في ذلك الوجه القفر جحر للنحس تختبئ فيه الداهية. قال الشيخ علي: وما أنت يا بني وهذه (الفلانات) وأمثالها؟ إن هؤلاء الناس بعض أعمال الله في أرضه فهو يخلقهم وينشئهم ويديرهم لتعلق طائفة من الأقدار بنتائج أعمالهم طرداً وعكساً فما أشبههم بدابة الطاحون تلزم دائرتها ولا تفتأ تدور إلى غير انحراف ثم هي لعلها تسمع الجعجعة تحسبها نشيد الاحتفال بها. فهو قوم مسخرون وقد يسرهم الله لما خلقوا له فضربهم بالحرص والطمع ضربة جبار ولو نالت السماوات والأرض والجبال لأشفقن منها، وجاءهم الحرص بهذا المال أما الطمع فجاءهم بماذا جاءهم بماذا؟ يا بني؟ لو قلت بصدأ القلوب وهرم النفس ودناءة الطبع، لو

قلت بكل ما في الحشرات من القذر وبكل ما في السباع من الضراوة وبكل ما في الدبابات من السموم لكنت عسى أن أقارب الوصف ولكن المعنى الذي يتلجلج في نفسي أكبر من ذلك كله. ولكني أقول لك يا هذا إن ثلاثة من المتشابهات يفسر بعضها بعضاً الحرص مع الطمع، ثم المال ورذائله، ثم ما في المعدة وما في الأمعاء. . . أنحسب أن هذا العالم يحفل برجل من الأغنياء قد أجحف به الدهر وطحنته النوائب بأرحائها. وتركته الأقدار أسود الحظ لا بيضاء ولا صفراء؟ فلم لا يعدون الغني شيئاً دون المال ويحسبونه كل شيء مع المال؟ لعل الحقيقة أيضاً ذات وجهين في الناس. المال. المال وحده لا غيره فنحن نحتاج إلى الغني صاحب المال كما نحتاج إلى بائع الملح. وما أشبهنا في إطرائه وفي الزلفي إليه بأطفال القرية إذ يتزلفون إلى بائع الحلواء التي تلف على العصا وإذ هو واقف بينهم بعصاه وحلوائه كأنه الهبل الأعلى. وهو من تعلم دس الثوب ترب اليد قذر التفصيل والجملة يصلح أن يكتب على وجهه متحب المكروبات المصري ولو رآه طبيب لجعل عصا الحلواء على رأسه تفاريق، ولكن أين لا أين الطبيب في هذا الاجتماع؟ كل أطباء الاجتماع ألسنة وأقلام ومحابر؟ أما اليد التي تزيل المنكر أو تغيره فلا أراها تمتد إلا من جانب الأفق ولا تعمل إلا بعون من الله وملائكته وقد انقضى عصر الأنبياء. قال الشيخ علي: فإن لم يكن الغني إنساناً من الناس يواسيهم ويسعدهم ويتخذ من المال سبيلاً إلى أفئدتهم بالإحسان والمساعفة، ويأخذ لنفسه بقدر مالها ويعطي من نفسه بقدر ما عليها، وإن لم يكن وجهه عند قدمي الفقير وعند رأس المريض ولم يكن ذهبه عند دموع البائسين وعند أنفاس المحزونين ولم يكن اسمه في دعوات المحتاجين وفي ألسنة الشاكرين فقد أصبح عندي كأنه لا شخص له، وإن كان اسمه (فلان باشا) مثلاً فلا فرق بينه وبين صندوق من صناديق الحديد يسميه صانعه استهزاء (فلان باشا). . . . فالمال آلة من آلات القتل لأنه يميت أكثر من أصحابه موتاً شراً من الموت - إلا من عصم الله - موتاً يجعل أسماءهم قائمة على ألواح من العظام ويرسلها كل يوم إلى السماء في لعنات لا عداد لها ثم يثبتها في التاريخ أخيراً لا بأعيانها ولكن بعددها أو كما تثبت الحكومة في كل سنة عدد المواشي التي نفقت بالطاعون. . . فهذا الشخص الميت وهو في

الأحياء لا يبلغ نفسه على الحقيقة أكثر من مقدار حجمه من. من. . من جيفة حمار. . . يا بني! ربما كان الرجل نبات نعمة الله لأنه سيكون حصاد نقمته فهذه منزلة من البؤس والخذلان يستعاذ الله منها. وكم رأينا من أناس تخصب أبدانهم حتى ليضيق بهم الجلد كدنةً وسمناً ويكاد أحدهم ينشق فرحاً ونشاطاً ثم لا يكون هذا الخصب الذي استمتعوا به شطراً من العمر إلا سبباً في أمراض مهلكة تستوفي الشطر الآخر فذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون. وإن خطأ كبيراً أن تحكم لفلان من (فلاناتك) بمتاع الدنيا فإنك لا تدري أشر أريد به أم الخير وكيف تحكم على غناه بفقرك وعلى آماله بيأسك وعلى شخصه بظلك وعلى نهاره بليلك وعلى عمره كله وهو بعد حي لا تدري ما عسى أن يكون له فيما بقي؟ دعه حتى يستنفد أيامه المكتوبة ويستوفي أنفاسه المقدرة فلعل مصيبته قادمة في الغيب وكان غناه من مقدماتها وعلى قوة المقدمة تقاس قوة النتيجة. فإذا مات الغني ولم تعرف في مجموع عمره هما ولا غما يعدل بؤس الفقر فكفى حينئذ بالموت، وإنما الحياة مدة ستنقضي فسواء انقطع الخيط من أوله أو من وسطه أو من آخره فقد انقطع. تقول لهم أن متاع الحياة ولو أنصفت لقلت أن لهم بؤسها الممتع. .! فإنهم يجمعون المال من طرق لا تؤتيه إلا نكداً ثم يرسلونه في طرق أخرى ليجمعوه أيضاً ثم يجمعونه ليرسلوه ثم يرسلونه ليجمعوه وهلم كما تدور دابة الطاحونة. وهب أنهم لا يألمون فإن يد الله قد غمزتهم من مكان قريب غمزة مؤلمة، وما أحسب الضجر من اللذات قد خلق إلا للأغنياء وحدهم وناهيك من بلاء يغمر النفس بالنعم صنوفاً وألواناً حتى يتنكر لها معنى النعمة فتراها وقد ثابر عليها الضجر متكرهة ولكن لا تريد الكراهة ومتسخطة ولا ترغب في السخط ومتألمة ولا تعرف مم ألمها ولا تبرح تتلمس نعمة لم يخلقها الله لتحدث منها لذة لم يعرفها الناس. ولولا هذا البلاء وأنه ما وصفت لك لما أصبت على الأرض غنياً كهؤلاء الوارثين تضرب به كل لذة وجه أختها فتسلمه الواحدة إلى الأخرى ويجذبنه بكل حروف الجر: من الكأس وإلى القمار وفي الإسراف وعلى الفسق وللمنافسة وهكذا حتى تسلمه اللذة الأخيرة إلى الفقر.

ولو أن (ضجر اللذات) يصنع بكل الأغنياء هذا الصنيع لفسد الكون بيد أن الله أراد عمر أنه فجعل في طباع أكثر الأغنياء لؤماً خاصاً. لؤماً ذهبياً يكسر من سورة هذا الضجر كما يفتأ الماء البارد من الماء الحار حين يمتزجان. فالقوم إما كريم يضجر فيسرف وإما لئيم يضجر فيمسك وكلاهما يجد لذته ويضجر من لذته. فلا تقل يا بني أن العصا لظهور الفقراء وحدهم فإن هناك السوط أيضاً وهو رتبة عالية فوق رتبة العصا ولذلك خص بشرفها. . الأغنياء. وانظر إذن هل ترى الفرق بعيداً بين الضجر من شيء لأنه موجود وبين الضجر من ذلك الشيء لأنه غير موجود. بين عدم الشعور باللذة وبين الشعور بعدم اللذة. بين ألم الغني الذي لا تجده أبداً إلا على شك في أنه سعيد وبين ألم الفقير الذي لا تجده أبداً يشك في أنه تعيس؟.

الأرق

الأرق فوائده - أسبابه - أنواعه - دواؤه نحن أهل هذا العصر مصابون بالأرق، حتى لقد كان يغلبنا الوهم أنا مصبحون عما قليل جيلاً مسهداً مؤرقاً وإن الأرق ومنهكة الذهن ومتعبة الأعصاب سائقتنا ولا ريب إلى مستشفيات المجاذيب، ولكنا في وهمنا مخطئون لأن الأرق الرقيق المتقطع الذي يعرض في الحين بعد الحين ليس مرضاً أو خطراً. إذ كان أكبر آراء الدنيا البدائع التي عملت على تهذيب الإنسانية ورقيها وأبهم مشكلات العلم ومستغلقات المسائل، لم تخطر ولم تحل إلا في ساعة يقظة غير محبوبة ولا مطلوبة وخلال سهد مكروه مسترذل، والذهن القوي الذي يأرق هو غالباً الذهن الحاد الفعال المفكر وإن كان ثمت أذهان لا تكاد تنام أو تهجع لأنها أذهان فارغة مختلة مجنونة. فإذا وجدت إنك لا تستطيع نوماً لأن ذهنك يأبى إلا أن يفكر ويسير في تفكيره فدعه مسترسلاً فيه ولا تقطع عليه عمله وثق أنه لن يصيبك أو يصيب ذهنك كذلك ضر أو سوء. ولعلك تخرج في هذا المأزق الملعون طائفة من الآراء الصائبة النافعة. فإذا تعب الذهن وأجهد قواه بعد حين فأنت واجده ولا ريب مذعناً عند ذلك إلى الرقاد والنعاس. هذا ولا ينبغي أن يضطرب بالك إذا رأيت أنك قد اعتدت أن تأرق مرة في الأسبوع ومرتين أو ثلاثاً في الشهر ولا تظن أنك مقدم على مرض، وإنك سوف تصاب بالميلا خوليا والاضطرابات العصبية العديدة فإن جميع الذين يسهمون في حركة العالم ويأخذون نصيباً ذهنياً من مشاغل النهار وأعماله ويعيشون على التفكير والتدبير معروضون ولا شك لأوقات تنبه فيها قواهم المفكرة وتأرق أداة تفكيرهم. وهم مع ذلك يطلبون الراحة والنوم. ومن ثم فلا ينبغي لهم أن يظنوا ذلك إعراض مرض أو ضعف أو اضطراب، بل على النقيض منها دلائل صحة وقوة وانتظام. ولا يجب أن يندهش القارئ إذا قلنا أن الأرق الرفيق المتقطع في الحقيقة لا يحدث أدنى ضر أو سوء، لأن للذهن القوي السليم من القوة الاحتياطية المختزنة ما يكفل له أن يحتمل خسارة ساعتين أو ثلاث أو أربع من النوم في الأسبوع، بل ليال معدودات في أوقات الشدة والكرب، دون أن يكون عليه من ذلك ضير أو شر، غير ضعف وقتي وفتور يذهبان بنوم

طيب هنيء مكتمل. ولا يخشى من الأرق إلا إذا كان عارضاً من أعراض مرض مقبل قادم، أو إذا جاء من ناحية نوع المعيشة نفسها ويكون الضرر منه محساً منه صاحبه بينا له. وهذا النوع من الأرق لا يحدث من فقد النوم، ولكن يرجع إلى أحوال خفية أخرى فإن الكلى المريضة والقلب الضعيف والجهاز الهضمي المختل الفاسد تذهب النوم وترنق العيش وتحدث الأرق. وسواد الذين نلتقي بهم في مستوصفات الأطباء من الذين يشكون الأرق هم في الغالب أصحاء البدن أقوياء لا يعتور صحتهم شيء من المرض أو الاعتلال ولكنهم إما أن يكونوا قد عرضوا بأنفسهم إلى انهماك شديد ثم لم يستعيدوا ما فقدوه وأما أن يكونوا قد اعتادوا أن يأخذوا بأسباب معيشة فاسدة غير صحية تمنعهم من أن يستوفوا قسطهم من الراحة والنوم الهنيء الرفيق، وفي هذه الحال لا يحتاج في تخفيف آلامهم إلا إلى معالجة هذه المعيشة نفسها وردهم إلى معيشة صحية صالحة، من ناحية الطعام والعمل واللهو والرياضة. ثم هناك طائفة من المصابين بالأرق يكون أرقهم عارضاً من أعراض مرض من الأمراض إما من ناحية الأعصاب أو المخ وغالباً الكلي أو القلب أو الهضم. وهم لا يحتاجون إلى معالجة أرقهم وإنما إلى وسائل تمنع ازدياد الأرق واشتداده. ويلي هؤلاء جماعة هم أشد عناداً وإصراراً وإرهاقاً من بقية الشاكي الأرق، لأن أرقهم لا وجود له إلا في أذهانهم وهؤلاء لا وسيلة للطبيب معهم إلا أن يداويهم بأذهانهم نفسها، وذلك بأن يجعلهم يعتقدون أنهم ليسوا مصابين بالأرق. وهذا الضرب من العلاج يدخل في حدود علاج الوهم. هذا وتصور إنك في ليلة صاحية أضحيانة وقد اضطجعت في فراشك وأسندت رأسك إلى وسادتك واستقبلت طائف النوم. ثم مكثت كذلك بضعة دقائق، ثم أوفت الدقائق على نصف الساعة، تنتظر وفادة النوم ولم يفد. إذن فماذا أنت صانع؟ لقد دلت طبيعة الأرق على أن الوقت المناسب الواجب لمعالجة الأرق وتلافيه ينبغي أن يكون قبل حدوثه لأن الأرق ليس إلا نتيجة اضطرابات ومتاعب وأسباب حدثت قبله بساعات بل بأيام - وفي هذه الحال لا يفيدك أن تعد جدول الضرب أو تحسب على

أصابعك عدد ما في كيسك من النقود أو ما في مكتبتك من الكتب أو تقوم إلى أدوات الزينة فتصلح من شعرك أو تشرب قدحاً من الماء وإنما يجب عليك أن تلتمس الأسباب التي أرقتك وأسهدت جفنيك إما في كثرة العمل أو قلة الرياضة واللهو أو في فساد هواء الحجرة أو في خلو المعدة من الطعام، فإذا وجدته في شيء من ذلك فاعمل على إصلاحه وتلافيه من غدك، وأما في الحالة الراهنة فتحمل عقوبة إفراطك أو تفريطك بسكون الفيلسوف، واثقاً من أن الأرق لن يحدث لك ضرراً. فإذا لم تجد سر الأرق في هذه فالتمسه في الأشياء التي حولك، وانظر إذا كان فراشك موضوعاً في موضع غير صالح، كأن يكون في زاوية من الحجرة بعيدة عن مجرى الهواء محتبسة عن التنفس، كما هي الحال في وضع السرر في المنازل، وفي هذه الحال يجب أن تضطجع بحيث تستقبل بوجهك النافذة حتى تحس علائل الهواء تجري فوق جبينك الملتهب، ولا تخف فلن يصيبك برد من ذلك أو رطوبة. والكثيرون منا لا يعنون العناية الواجبة بالوسائد والمضاجع وفراش السرور وإن كنا نصرف في مضاجعنا ثلث يومنا، وكم من وجع وألم مستطيلين يحدثهما الاضطجاع فوق فراش خشن صلب غير ممهد، ولذلك كان خليقاً بك أن تتحرى مضاجعك وتتناولها بالإصلاح والتنجيد والتوثير كل سنة وتغيرها كل خمس فإن إغفال وثارة المضاجع ولينها يفسدان على كثير النوم ويحدثان الأرق. ويلي ذلك في الأهمية الاحتفاظ بتوازن مجرى الدم بين طرفي الجسم، وطرفا جسمك هما رأسك وقدماك، وكأن بين الرأس وبين القدمين ضرباً من المنافسة والمزاحمة لأن كلاً منهما يحاول أن يجتذب إليه جزءاً من الدم أكثر من الآخر فإذا كانت قدماك باردتين فأنت واجد رأسك في الأكثر ملتهباً حاراً والعكس بالعكس ولا يحدث الاضطراب في هذا التوازن إلا من الرأس غالباً ولاسيما عقب الاشتغال أو القراءة أو التفكير في مسألة معضلة، فإذا أويت إلى مضجعك لم تلبث أن تجد أن رأسك قد اجتذب إلى أوعيته كثيراً من الدورة الدموية ولم يترك القدمين فقط باردتين بل اليدين كذلك والجلد وكثيراً من أطراف البدن وأجزائه، وقد يحدث غالباً أن تكون القدمان قد اعتمدتا على بلاط الحجرة أو كانتا حافيتين أو في جوربين خفيفين وإذ ذاك ينسحب الدم إلى أوعية المخ فيلتهب الذهن وتشتد حرارته، وهنا يجب

تدفئة القدمين بأية الوسائل الممكنة حتى ينزل الدم من الدماغ ويعود إلى القدمين. ومن أكبر الأسباب المجلبة للأرق خلو المعدة من الطعام ونحن قد حذرنا كثيراً من أن ننام ونحن ممتلئون بالطعام، مخافة أن يعتور نومنا الأحلام المخيفة والأشباح المرعبة والرؤيا المفزعة. ولكن خلو المعدة كذلك يحدث اضطراباً في النوم يفضي إلى الأرق ولهذا ينبغي أن تدرأ عنك عواقب الطرفين. الامتلاء بالطعام والخلو منه. وحركة الهضم تنتظم في خلال النوم على شريطة أن تكون كمية الطعام التي تناولتها صغيرة حتى تتمكن المعدة من هضمها، وإن يمكث الإنسان ساعتين متيقظاً قبل أن يأوي إلى مضجعه إذا كان المقدار كبيراً. حتى يتيسر للمعدة أن تأخذ من الدم ما يكفيها، وحتى يسير الهضم بانتظام قبل الاضطجاع. والسبب الوحيد للامتناع عن الرقاد عقب الطعام أن الرقاد يجعل المعدة الممتلئة تضغط على الرئتين والقلب فتعطل عمل التنفس وحركة الدورة الدموية. وكثرة العمل - ولاسيما الذهني منه - وما يكون ضيق المضطرب مترادف الوتيرة يجلب الأرق لأن سموم التعب السارية في الدم تقتل النوم كما يقتل السم الحقيقي، وشغل الساعات الطوال يحدث الأرق، لأنه يجهد ناحية واحدة من المخ أو نواحي واحدة من البدن، والملاذ العمومية كالمراقص والتمثيل وحفلات الغناء والملهى من أبدع المنومات، لأنها ترقد الناحية المتعبة من الذهن وتشبع الناحية الجائعة ومن ثم ينبغي لك أن لا تجعل عملك يحول بينك وبين ملهاتك الصالحة الطاهرة، لأن الدأب على العمل والسكون له والانقطاع عن الرياضة تؤدي إلى الأرق وتطرد النعاس ليلاً أو نهاراً، ومن هنا اندفع كثيرون من أصحاب الأعمال الكبيرة الشاقة إلى اتخاذ العقاقير المنومة وآخرون إلى الإدمان على الشراب ومعاقرة الكأس. والناس اليوم يتشددون في التساؤل عن مقدار الساعات الكافية ولكن لا يجدي التساؤل عن المقدار لأنه لا يقاس إلا بنتائجه فالسواد الأعظم من الناس يجدون الراحة في نوم ثماني ساعات، ولكن كثيرين من كبار الرجال والمفكرين والعلماء يكتفون بساعات قلائل من النوم فإن توماس أديسون أكبر شيوخ العلم في هذا العصر يصرح بأنه لا ينام أكثر من أربع ساعات، ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها هو أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف بالضبط

الوقت الحقيقي الذي نام فيه وأخذ النعاس عينيه، فقد ذكر كثيرون ممن يشتغلون تحت أديسون أنه كثيراً ما يكون في ذهول ذهني شديد مغمض الجفنين مُهوماً مما يدل على أنه في سِنة. وأما العقاقير التي يستعان بها على قتل الأرق فيجب أن يحكم عليها بالإعدام لأنها أقتل للبدن من الأرق ومتاعبه وآلامه.

قطعة من كتاب رسائل الحب

قطعة من كتاب رسائل الحب تأليف الكاتب الأديب عبد الرحمن شكري (مقدمة) إن العواطف لا الآراء هي القوة المحركة في الحياة ومن أجل ذلك ينبغي أن لا يكون أدب اللغة ألفاظاً ميتة بل ينبغي أن يكون كالكهرباء يسري في النفوس فيزيدها قوة. إن أدب الأمة في دور قوتها يظهر لك صفات القوة التي في عواطف نفوس أفرادها ولكن أدب الأمة في دور ضعفها ميتة وتصنع فاتر ومن أجل ذلك كنا أحوج الناس إلى أدب يزيل عن نفوسنا ما يعلوها من صدأ الدهور ويقوي عواطفها. هذا الذي دعاني إلى تأليف كتاب رسائل الحب وشرح عاطفته. (رسائل الحب) لقد رأيتك أمس أول رؤية فصرت أعتقد أن المعجز غير مستحيل الوجود لأني ما كنت أعتقد وجود مثل جمالك ولا مثل ما أحس به من الحب، لقد كان لي عينان فصار لي بعد رؤيتك ألف عين وكان لي قلب فصار لي ألف قلب وكان لي سمع فصار لي ألف سمع. إن أسمع نبضات قلبي وكنت لا أكاد أحسها قبل رؤيتك وصرت أحس الدم يتدفق في عروقي وأسمع له خريراً وصرت أجد في الهواء الذي أنشقه حرارة الحب، آه أنت جميل مثل النجوم الزاهرة والأزهار الناظرة أنت جميل مثل ضوء القمر على صفحة الماء جميل مثل الفجر جميل مثل الشمس جميل مثل النسيم جميل مثل الغدير بل أنت أجمل من هذه الأشياء لأنك جمعت في شخصك جمال الشمس والقمر والماء والفجر والنهار فأنت عنوان جمال الطبيعة وآيتها الكبرى وما يدريك لعل هذه الكواكب المضيئة إنما تضيء كي ترى فيها لمحة من جمالك وهذه الأزهار إنما تنضر كي تعرف فيها طرفة من حسنك وهذا النسيم إنما يرق كي ترى فيه شيئاً من رقتك وهذه الطبيعة إنما خلقت كي تكون مرآتك. إني أحبك في كل دقيقة من حياتي وفي كل نبضة من نبضات قلبي وفي كل نظرة من نظراتي وفي كل كلمة من كلماتي وفي كل حركة من حركاتي، أنا تمثال حبك تقرأ فيه آية الحب والولاء والشقاء واللذة والألم. أنت كالزهر جميل وأخشى أن تقتلك لفحة من لفحا حبي فإن حبي مثل ريح السوء التي

تذبل الأزهار وتذهب بنضارتها، لا تخف يا حبيبي فإن أستزيد بهذا القول من رحمتك وإشفاقك وأضحك فإن الحياة نكتة باردة غثة قبيحة جميلة يضحك المرء من برودتها وغثاثتها، اضحك فإن في ضحكك ألحاناً وأنغاماً، إني أسمع في كل ضحكك نغمة تهتز لها أوتار القلب فأسمع فيه تغريد العصافير وأنغام العود والمزمار وغيرها من آلات الطرب، إني أتمنى أن أنشئ من أنغام ضحكك أنغاماً تفوق أنغام بيتهوفن وفردي ووجنر. لقد كنت أستمد وحي الشعر من الهواء والماء والضياء وغير ذلك من مظاهر الطبيعة ولكني صرت أستمده من حبيك الذي صار لي بمكان الهواء والماء والضياء فهو الهواء الذي أنشقه والماء الذي أروى به ظمأي والضياء الذي يملأ عيني، إن حبك هو عندي حجر الفيلسوف الذي ما مس معدناً خسيساً إلا جعله نفيساً وكذلك حبك ما مس نفساً خسيسة إلا جعلها نبيلة، إن حبك ليريق ضياءه على ظلمات عيشي وظلمات نفسي كما يريق القمر ضوءه على الماء فيضيء ذلك النور أمواج العواطف التي تتضارب في صدري، إن حبك يسري فيّ مسرى الكهرباء في الأجسام، إن حبك هو العين التي أبصر بها واليد التي أبطش بها والسلاح الذي أصول به والعزيمة التي أناهض بها الأمور، آه ما أتعس الحياة لولا الجنون جنون اللذة والألم جنون الحب والبغض جنون العواطف والمطامع جنون الأمل واليأس والثبات والجبن والجود والبخل، يا حبيبي أنت سبب من أسباب الجنهون، إن الله لم يخلقك عبثاً، إن الله خلقك كي يزين بك الحياة ويجعلك سبباً من الأسباب التي تثير العواطف وتستفز المطامع وتبعث الجنون وتوحي بالشعر، إن حبك قد علمني الرحمة ولكنه علمني أيضاً القسوة وقد علمني الشجاعة ولكنه علمني الجبن وعلمني الأمل ولكنه أيضاً قد علمني اليأس وقد بلغ بي جنون اللذة ولكنه بلغ بي جنون الألم، إنك لا يمكنك أن تعرف مقدار جمالك لأن ذهنك لا يقدر أن يحيط به كما أن البصر لا يمكنه أن يرى من أول الفضاء إلى آخره، إنك لو عرفت مقدار جمالك لأصابك الجنون وسكرت منه وقمت ترقص سكراً وجنوناً، أنت جمعت في شخصك بين جمال السماء والأرض وجمال الجنة والنار وجمال الحياة والموت وجمال الخير والشر وجمال الصحة والسقم وجمال الصباح والمساء وجمال الليل والنهار، أنت جمعت في شخصك بين جمال الملائكة وجمال الأبالسة بين الجمال الإلهي المقدس والجمال الذي يحرك الشهوات، أنت جمعت في شخصك بين

جمال الأطفال والفتيان والفتيات والرجال والنساء، أنت جمعت في شخصك بين جمال البرق في السحاب وجمال المصباح بين الأشجار وجمال النجم في السماء وجمال الحريق الهائل والشرارة الصغيرة وجمال الفكر وجمال العاطفة وجمال التقوى والورع وجمال الخالعة، أنت جمعت في شخصك جمال الأشكال كلها والمطاعم اللذيذة والأشربة الحلوة المسكرة وجمال الفواكه وجمال الأزهار وجمال الأشعار والآداب وجمال سائر الفنون الجميلة، أنت جمعت في شخصك طرفة من كل شيء جميل، سمعته أو قرأته أو رأيته أو فكرت فيه أو هفا إليه قلبي ونبضت له أوتاره فأنت تارة مثل الربيع عليل النسيم كثير التغريد وتارة مثل الصيف المكسال ذوي اللفحات والحر الذي يغلي له الدم في العروق، ومن أجل ذلك أشعر بحبك كما أشعر بالصيف، وتارة أنت مثل الخريف الكثير الثمار، ولكنك أحياناً كالشتاء البارد القلب من عواطف الحنان والرحمة والحب، أنت كالسراب فالسراب جميل مثلك مطمع مثلك ولكنه مثلك يغر ويخدع. سأوحي إلى البلابل بأشعاري وأرسل الطيور المغردة إلى نافذة غرفتك في الليالي المقمرة التي تروق فيها الأحلام فتمتزج في روحك أحلام الصيف التي تراها في نومك أو يقظتك بأشعاري التي هي مثل أحلام الصيف وأناشيد البلابل التي هي مثل أشعاري وأشعة القمر الفضية التي تشبه أناشيد البلابل ولكن خيراً من ذلك كله سحر جمالك الذي هو أجل من أشعار الغزل والنسيب وأحلام الصيف وأناشيد البلابل وأشعة القمر الفضية فاذكرني في أحلامك فإني ليس لي نصيب من يقظاتك وأرسل إلي في تلك الأحلام شعاعة من أشعة نور وجهك كي تضيء ظلمات نفسي وظلمات عيشي وإذا قرأت في شعري شيئاً يسرك فاعلم أنه مستمد من جمالك وإذا رأيت فيه ما لا يسرك فاعلم أنه من نظم تلك الساعات من عمري التي لم تضئها شعاعة من أشعة نور وجهك فإن نفسي في تلك الساعات كظلمات فوقها ظلمات تجري في سمائها السحب التي تحمل الويل والدمار ومن تحتها لج متلاطم كله أشلاء ورمم وبين السحب واللج رياح هوج تعوي عواء الثكلى المجنونة وأكثر حياتي مثل هذه العاصفة لولا ما يضيؤها أحياناً من أشعة نور وجهك ما يتاح لها أحياناً من السكينة الكاذبة الخادعة التي هي أشبه الأشياء بالسكون والكاذب الذي يأتي قبل العاصفة وينذر بها.

انظر إلى النجوم فإني أنظر إليها عسى أن تلتقي روحاناً هناك في لحظة من تلك اللحظات البطيئة التي نرسلها إليها، إني أحب النجوم وأحب الليل وسكونه وجلاله، إني أحب أن أقف وحدي أنا والليل فأحس كأن الليل مخلوق حزين كبير الروح واسعها عظيم القلب وإنما سكون الليل وإطراقه إطراق المفكر الذي ينظر في الكون وأحواله وما يعتوره من التغيير، أيتها النجوم أما بعتورك حزن أو ملال، يا عيون الليل أما آن لليل أن يفيق من حزنه وتفكيره وإطراقه، أيتها العيون النعسانة أنت تطلين من سمائك علينا فتقع لحظاتك على ما نعانيه من الآلام والجرائم والمصائب، أيتها العيون أبريقك بريق القسوة والغلظة أم بريق الحزن والرحمة وأنت ماذا يهمك يا حبيبي من بريق النجوم وسواد الليل أنت أخو الفجر الباسم والعصافير المغردة والضياء والأزهار فانتهز فرصة جمالك وامرح فإن الدنيا جميلة بك ولا تفكر في جمال الحياة فإن من كان يضيء لنا الحياة بجماله خليق أن تكون الحياة في عينه جميلة.

جبريل داننزيو

جبريل داننزيو مثير إيطاليا إلى الحرب مع الحلفاء من أكبر العوامل التي بعثت إيطاليا على الخروج من شملة السلم وارتداء لباس الحرب - بعد أن لبثت أشهر لا تدري ماذا يراد بها ولا ماذا تريد - قول شاعر، والشعراء لا يزالون يحفظون عظمة الماضي في هذا العصر العملي الغريب، يثيرون الشعب بالقصيد ويوقدون سعير الحرب بالقصيد، لأنهم سادة القلوب، وسلاطين العواطف، والعواطف البشرية نزاعة وثابة خوارة، وإذا كان ذلك هكذا فليس إذن من الغرابة أن يكون السنيور جبريل داننزيو، شاعر الطليان في هذا العصر، هو الذي دفع الجنود إلى البنود، وأقام إيطاليا وأقعدها، وأرسل نبض المملكة في أشد خفقانه وضربانه، وذلك لأنه مولع بفرنسا ومدنيتها ورقتها، ومن أكبر المدافعين المتحمسين للمدنية اللاتينية، إذ قال بعد أن ظفر بتحريك إيطاليا إلى الحرب. . لقد دق ناقوس الحرب. . . وصيحات الجماهير تصيح في فضاء السموات الحلوة الجميلة. . إني الآن أكاد أجن من الفرح. إن معجزة النهضة اللاتينية ستعاد. الآن سيشهد العالم معجزة إيطالية. والشاعر داننزيو اليوم في الثانية والخمسين، وقد ولد في بصقرة في شمال إيطاليا، وهو ابن دوقة، وربيب النعمة والترف والرقة والأبهة، وقضى عهد طفوليته يمرح في الحقول يمرح في الحقول والمراعي والمزارع والأمكنة العراء، ولعل هذا هو الذي أحدث شاعريته، فلما كان في السادسة عشر دفع إلى الجامعة في ولاية تسكانيا، ولم تمض سنة حتى نشر ديوان أشعاره الأولى، وسماه الشعر الجديد، وكان يحتوي عدة مترجمات من الأدب اللاتيني القديم. وكان أسلوبه فيها على الرغم من حداثة سنه طيباً رائقاً، حتى أن أحد كبار كتاب ذلك العهد نشر عنه مقالاً مستفيضاً في الصحف. وذهب داننزيو بعد ذلك إلى رومة وبدأ ينشر قصائده ورواياته وكان أسلوبه الخفيف الروح، والعاطفة الشهوية الحيوانية المتجلية في شعره قد بدآ يدهشان نقادي الشاعر ومقرظيه، وقد أعرض عنه أولئك الذين قد التفوا حوله بادئ بدء واستمعوا لأغنياته، ذاهبين إلى أن شعره يحمل أكبر مفسدة لآداب العصر، ولكن الشهويين أخذوا يمجدونه ويحيونه ويصفقون له ويحيون فيه الشاعر الجديد الذي جاء يرسل روحاً جديدة في الآداب.

ودخل بعد في الصحف فاشتغل في جريدة التريبونا الإيطالية فكان عهده فيها أكبر العهود، ولئن كان شعر في دانونزيو محبوباً اليوم من هذا الجيل مقدساً من أهل العصر، لأنه يمجد اللذة والشهوة ويتغنى بهما، إلا أن دانونزيو قد ظفر بأكثر مما يستحق، وأما رواياته فتدور حول النفسيات وهو قد استمد أبحاثه النفسية من الكتاب البسيكولوجيين من الفرنسيين والروس والاسكندناويين والألمان، وقوة الابتكار في تواليفه كبيرة فياضة، ولكنها لا تستمد نفسها إلا من المعلومات الشخصية ولذلك فهي ضيقة الحدود. والشاعر يميل إلى فرنسا ويتعشقها، لأن كل شاعر يميل إلى فرنسا ويعبدها، ودانونزيو، ومعناها في الإيطالية الرسول يعيش في إيطاليا كأمير، ويحب اللذائذ والمناعم، ولا يشتغل إلا ليلاً، ومن عادته أن يتعشى في الساعة السابعة عشاء فاخراً منوعاً غالياً، فإذا جاءت الثامنة جلس إلى مكتبه منزوياً إلى تأليفه، وهو من أشد الكتاب سرعة في الكتابة واستفاضة، فلا يترك مكتبه حتى التاسعة صبحاً من الغداة فإذا تناول القهوة واستحم أوى إلى مضجعه فلا يصحو حتى الأصيل، ولا يكتب إلا إذا ارتدى في شملة مزركشة بالذهب، وقد جمع بيته بين القصر والمتحف معاً.

السينما توغراف

السينما توغراف في الفاتيكان البابا لم يشهد الصور المتحركة إلا في سنة 1914 لقد عدوها إحدى الغرائب يوم صرح أحد علمائنا بأن التصوير محرم ممنوع شرعاً ولكن أغرب من ذلك أن البابا - الرئيس الديني للمسيحية كلها - لم يكن شهد السينما توغراف حتى العام الفائت، وكان هذا اللهو العلمي البريء قد لحقه شيء من سخط رجال الدين ككل المسائل التي استحقت سخط ساكن الفاتيكان. . ولهذه الحيلة التي دخلت بها آلة الصور المتحركة هذا القصر الديني الحرام قصة لذيذة نرويها عن أحد الأمريكيين كان قد أنفذ من ناحية إحدى الشركات الكبرى للحصول على عدة صور للبابا أجمعت على إبرازها فوق لوحة السينماتوغراف. ذلك أنه في فبراير سنة 1913 أنفذ جيمس سلفن من قبل بعض الشركات الأميركية إلى مدينة رومة مزوداً بأموال طائلة وتوصيات عديدة من أساطين رجال السياسة والدين في أميركا، وكان سلفن هذا يعرف عن البابا كراهية شديدة لدور التمثيل وما يتصل بها وإن كثيرين حاولوا أن يظفروا بصورته فخابوا، فلما نزل هذا الرجل رومة وجد أنه يستحيل عليه أن يظفر بطلبته أو بعضها من قصر الفاتيكان إلا إذا حذق اللسان الطلياني، لأن العقبة الكؤود الوحيدة التي كانت تقوم في وجهه هي إفهام البابا أن الصور المتحركة طاهرة بريئة وأنها خليقة بأن لا تنال منه هذه القسوة الدينية المؤلمة، فتوفر على تعلم الطليانية حتى أتقنها، وهنا قامت في وجهه عقبة أخرى وهي كيف يتوصل إلى البابا في حين أن الدخول على ملوك أوروبا كلهم أسهل من اقتحام باب واحد من أبواب الفاتيكان، ففكر في استئذان وزير خارجية الفاتيكان في أن يعرض بعض المناظر الطبيعية والتاريخية أمام البابا ولكي يحصل على مشاهد طبية تستحق عناية البابا ذهب إلى مدينة فينسيا - البندقية - وكانت مسقط رأس البابا فأخذ مشاهد كثيرة من صفوة مشاهدها ثم سافر إلى مالطة فأخذ صورة مجمع كاثوليكي كان منعقداً هناك ثم انحدر إلى بلاد الانجليز فأخذ صورة الملك جورج ثم عاد آخر الرحلة إلى رومة فطلب إلى الكاردينال القائم بمنصب وزارة الخارجية الباباوية أن يقدمه إلى حضرة الرئيس الديني الأكبر لكي يعرض أمامه بعض المناظر الشائقة وكان

هذا الوزير الكردينال رجلاً متعلماً على شيء من توقد الذهن وحدة الخاطر فسأله أن يعرضها أمامه هو أولاً وكذلك فعل الأميركاني واستطاع أن يظفر بثقة الوزير الأول لخليفة المسيح في الأرض! وصادق البابا أخيراً على الطلب وكان يوم 11 يونيو من العام المنصرم يوماً مشهوداً في رومة البلد الخالد، واهتزت لهذا الحادث التاريخي العظيم كل دوائر السياسة والعلم وطلب كل عظيم أن يشهد الحفلة التي فيها سيقف الزعيم الديني على إحدى غرائب العلم، ولكن البابا لم يشأ أن يأذن لأحد أياً كان بأن يطأ الفاتيكان وقرر أن تكون الحفلة الأولى مقصورة على موظفي بلاطه الكبير وأن لا يشهدها من النساء إلا أختاه الراهبتان وابنة أخيه ليس غير. وبدأت الحفلة. . فتقدم سلفن الأميركي وركع فقبل أطراف ثوب البابا ثم بدأ يخطب وقد أظهر كل عواطف الرجل المتدين فقال إن أعظم منحة يمكن أن تعطي الكاثولكيين في العالم أن يشهدوا صورة زعيمهم المقدس الأكبر وتكون هذه المنحة أكبر تعزية لهم عن آلام الحياة وقسوتها ثم أفاض في هذا المعنى، وابتسم البابا لهذا المديح ابتسامة واهنة وأمر أن تعرض الصور. فلما عرضت أمامه صورة البلد الذي ولد فيه صفق بيديه طروباً أشد الطرب وهو يصيح - مرحى. . . مرحى. . . إنها لإحدى الغرائب. . . إنها لمناظر متقنة كما لو كنا نشهدها من نوافذ بيوتنا. وظل صاحب الصور يعرضها عليه صورة صورة حتى أدهش الحضور وختم الصور بأن عرض صور إمبراطور الألمان وملك الانكليز وبعض كبار رجال الغرب. وعاد الرجل بعد هذا الفصل إلى خطبته فقال أن ثلثمائة مليون من الكاثوليك ينتظرون أن يروا عظيمهم وقائدهم وكيف يعيش وظل يتكلم مدة طويلة في حرارة وإخلاص وقد استطاع أن يخفي نيته التجارية وراء برقع الكثلكة والعقيدة الدينية. وانصرف البابا صامتاً. . . وانقضت أشهر طويلة ولا جواب. . وسئم الذين في أمريكا غياب رسولهم فطلبوه، ومن ثم سافر وقد خاب الخيبة كلها، ولكنه استطاع أن يقنع الأميركيين بوجوب الانتظار والثبات،

وألف شركة بلغ رأس مالها ألوفاً من الجنيهات ورجع إلى العاصمة الدينية الكبرى، فظل ينتقل بين الأندية السياسية الخطيرة ويتعرف إلى رجال الكنيسة، فلما ذاع في أوربا أن شركة أميركية تحاول أن تحتكر صور البابا فوق لوحة السينماتوغراف، أوفدت شركات كثيرة رسلاً لها ومبعوثين لهذا الغرض وكذلك صعبت الوسائل في الحصول على رسوم البابا، وخابت الشركات كلها وأخيراً خطر للأميركي أن يهدي مجموعة ثمينة من المناظر والآلات السينماتوغرافية، ليستطيع رجال الفاتيكان أن يتمتعوا بشيء من اللهو داخل قصرهم، وبهذه الهدية استطاع الرجل أن يظفر بصور البابا وأن يقدم إلى العالم للمرة الأولى في سنة 1914 عدة مناظر لرب الفاتيكان واستطاعت الشركة أن تربح ملايين الجنيهات!!!

مختارات

مختارات قال الصحفي الوزير الأندلسي يصف الخمر صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لاذع خفيت على شرابها فكأنهم ... يجدون ريا من إناء فارغ وقال صُرّدُر يصف جارية سوداء علقتها سوداء مصقولة ... سواد قلبي صفة فيها ما انكسف البدر على تمه ... ونوره إلا ليحكيها وقال ابن قلاقس السكندري في سوداء أيضاً رب سوداء وهي بيضاء معنى ... نافس المسك عندها الكافور مثل حب العيون يحسه النا ... س سواداً وإنما هو نور وللمأسوف عليه أمام المعبد وسوداء كالليل البهيم عشقتها ... لأجمع بين الحظ واللون في عيني إذا ضمنا ليل تبسم ثغرها ... فلولا سناه بت في جنح ليلين وقال القاضي الفاضل من كلمة له في قلعة نثر وهي عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة، لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة. وقال ناصح الدين الأرجاني شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماوان كنت من أهل المروآت فالعين تنظر ما منها دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة وقال بعضهم يقصد أهل الفضل دون الورى ... مصائب الدنيا وآفاتها كالطير لا يحبس من بينها ... إلا التي تطرب أصواتها وقال أبو الفتح البستي وقد يلبس المرء خز الثياب ... ومن دونها حالة مضنيه كمن يكتسي خده حمرة ... وعلتها ورم في الريه وقال ابن الرومي

رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذي شيم شريفه كمثل البحر يغرق فيه حيي ... ولا تنفك تطفو فيه جيفه وقال لولا علاج الناس أخلاقهم ... إذا لفاح الحمأ اللازب وقال التهامي قالت أسود عارضاك بشعر ... وبه تقبح الوجوه الحسان قلت أشعلت في فؤادي ناراً ... فعلى وجنتي منها دخان وقال وإذا جفاك الدهر وهو أبو الورى ... طرا فلا تعتب على أولاده وقال أبو نواس ألا كل حيي هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق وقال أعرابي يصف الليل والنهار نثر الليل والنهار، فرسان يركضان بالبشر إلى انقضاء الأعمار.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة الخريطة التاريخية للممالك الإسلامية والفتوحات العربية كنا نقرأ في الكتب وفيما انتهى إلينا من آثار الغرب أن اللور هولدين وزير الحربية الانكليزية نقل تآليف الفيلسوف شوبنهور الألماني إلى اللغة الانكليزية فيبهرنا هذا الأمر ويتركنا حائرين نتلدد لا ندري من أي عنصر كريم خلق هؤلاء الناس ومن أي طينة خلقنا نحن حتى نرى رجالات الحرب فيهم يُعنَوْن بالنقل والتأليف وليس بشاغلهم عن ذلك مدفع ولا سيف، ثم ننظر فنرى الرجل منا يكون منهوماً بالعلم معروفاً بأنه في طليعة أهل الفضل حتى إذا ما انتظم في سلك الحكومة طلق العلم وجعل حبله على غاربه فكأن المنْصب في الحكومة ابنة الكرم لا يزدردها المؤمن حتى يطير طائر الإيمان من قلبه، وكأن الحكومي منا يرى قرارات الحكومة ومنشوراتها هي آخر ما وصل إليه العلم والأدب على أن أداة اليبريتر قد تغنى عنه في ذلك الغناء كله وكل أولئك اللورد هولدين وكلنا والأسف ملء قلوبنا ذلك الرجل! اللهم إلا أفراداً منا معدودين هم في الحقيقة من النوابغ الذين لو ظهروا في بيئة من تلك البيئات لعدوا من نوابغ العالم وأبطال الدنيا وإلا لما استطاعوا أن يخالفوا سنة القوم، وفي طليعة هؤلاء فتحي زغلول وقاسم أمين ومحمد عبده وأمين واصف بك مفتش وزارة الأوقاف اليوم ومدير الجيزة بالأمس، فقد رأينا من هذا الرجل الحكومي نابغة يواصل ليله بنهاره في وضع الكتب الأخلاقية والاجتماعية وفي التوفر على كل ما هو بسبيل من العلم والأدب على أنه من رجال الحكومة المعروفين بالحذق والمهارة وحسن الإدارة، ولكن نفسه الثائرة الطموح تأبى عليه إلا أن يكون قوة في هذه الدنيا مفكرة عاملة تترك وراءها آثاراً خالدة، فقد أهدى إلينا أخيراً خريطة تاريخية كبيرة صور فيها الممالك الإسلامية والفتوحات العربية فسد بذلك ثلمة في العربية كان تركها من أكبر العار علينا. ولعل القراء يعرفون أنه وضع بالأمس كتاباً نافعاً جليلاً قررته وزارة المعارف على طلابها وكذلك سيرى العالم العربي من نابغتنا المصري ما يكون من رجل العقل كبير الزوج لا يهدأ أو يملأ الدنيا ذكراً ومجداً وخلوداً - أما ثمن هذا المصر التاريخي فهو. وهو يطلب من إدارة هذه المجلة. ديوان شكري

أهدى إلينا صديقنا الكاتب الشاعر الأستاذ عبد الرحمن أفندي شكري الجزء الثالث من ديوان شعره، أما الأستاذ فهو كما نعتقد من أدبائنا الأفذاذ الذين لا يكادون يبلغون أصابع اليدين عدا غير أنا نأخذ عليه بعض المعاني الغريبة التي ينبو عنها الذوق العربي وينكرها الإنكار كله وإن كانت ليست محالاً وكان لها متأوَّل نبيل، وذلك مثل تشبيهه النهدين بالجبلين وجعله صنماً للحب وقوله يخاطب حبيبه في رسائل الحب التي نشرنا منها قطعة في هذا العدد وفيك جمال الأبالسة إلى أشباه من ذلك على أنه كفى المرء نُبلاً أن تعد معايبه. والديوان يطلب من إدارة هذه المجلة. تقويم مسعود ظهر تقويم الكاتب الفاضل المشهور محمد أفندي مسعود لهذا العام الهجري وقد تصفحنا تقويم اليوم فأصبناه مفعماً بالموضوعات المتنوعة الممتعة المفيدة كسائر التقاويم الماضية، والحق يقال أن تقويم مسعود هو موسوعات عربية ودائرة معارف كبيرة على صغر حجمه. فنحث كل قارئ على اقتناء هذا التقويم النافع الذي قلما يتيسر لإنسان أن يظفر بما فيه من الفوائد الأدبية والتاريخية والفلكية والصناعية وما إلى ذلك في كتاب أو خمسة أو عشرة. ومع هذا كله ومع أنه يقع في 400 صفحة فإن ثمنه 5 صاغ وهو يطلب من إدارة البيان ومن سائر المكاتب. الإسعاف الطبي وأهدى إلينا كذلك الدكتور الفاضل عثمان لبيب عبده كتيباً أسماه الإسعاف الطبي - وموضوع الكتاب يدل عليه عنوانه وهد كتيب لابد منه في كل بيت ولذلك نحث كل إنسان وكل إنسانة على اقتنائه وثمنه خمسة قروش وهو يطلب من إدارة البيان.

مذكرات بكويك

مذكرات بكويك لأكبر الروائيين شارل دكنز اشتهر دكنز بتفوقه على سائر الروائيين في باب الفكاهة والمراد بهذه اللفظة هنا المضحك فليس من رواية له إلا وتتخللها المضحكات كالبستان تشقه الجداول والأنهار على أن أثري. ولذته من الفكاهة هو الكتاب المسمى مذكرات بكويك فهذا بلا خلاف أضحك كتاب في الإنكليزية وحسبه أنه في باب المضحكات هو ثاني دون كيثوت الإسبانيولي - أضحك كتاب أخرج إلى الناس منذ بدء تاريخ البشر إلى وقتنا هذا. وأبطال الكتاب الإنكليزي خمسة أسماءهم منزلة الخادم صموئيل ولر (مختصر سام ولر) والثاني هو سيده المستر صموئيل بكويك رئيس نادي بكويك. ثم الأعضاء الثلاثة ناثانيل ونكل تراسيي تبمان وأغسطس سنودجراس وأساس هذه القصة هو أن النادي المسمى باسم رئيسته نادي بكويك نظراً إلى ما قد عهده في الرئيس صموئيل بكويك من الفطنة الثاقبة والذكاء الحاد والخبرة التامة بأخلاق البشر والغيرة الشديدة على نصرة العلوم ورفع منارها ولما عرف في تلاميذه الثلاثة الآنفى الذكر من جليل المواهب والمزايا كطبيعة الشعر في المستر سنودجراس وعبارة الجنس اللطيف في المستر تيمان والفتوة والفروسية في المستر ونكل قد أسند إلى الرئيس الجليل وتلاميذه الفضلاء مهمة عظيمة الخطر وهي عمل سياحة طويلة في أنحاء إنكلترا لإستكشاف الخفى المجهول من آثار القدماء ومن طبائع النفس وغرائزها فيمن يصادفون أثناء هذه التجولات من مختلف صنوف الناس وشتى ضروبهم. وإرسال التقارير بذلك إلى إدارة النادي من حين إلى آخر. المدهش العجيب في ذلك هو أن أولئك الأربعة الذين عهد إليهم النادي بهذه المهمة الكبرى ووصفهم بهذه الصفات الجليلة النادرة هم أعجز خلق الله عن القيام بالمهمة المذكورة لحملهم من الصفات عكس ما نسبه إليهم النادي فالمستر بكويك الذي وصف بالفطنة الثاقبة والخبرة التامة بأخلاق البشر هو في الحقيقة أجهل الناس بأخلاق البشر لشدة غفلته الناشئة عن سلامة النية والسذاجة المتناهية والمستر سنودجراس الموصوف بالنزعة الشعرية هو رجل رقيق الشعور ولكنه أسخف من نظم قافية والمستر ونكل المنعوت بالفروسية والألعاب الرياضية رجل نحيف ضعيف ثقيل الحركة يصلح لكل شيء إلا لما ألصق به من تلك

التهمة الكاذبة والمستر تيمان زير النساء هو في الحقيقة لا تتجاوز منزلته عند النساء منزلة زير قناوي تمر به الواحدة عطشى إلى الضحك حتى إذا أخذت منه نصيبها من المضحكات تركته أزهد الناس فيه. ولكن البطل الأول أعني الخادم سام ولر هو غير هؤلاء البتة. فهو وإن كان خادمهم لكنه في الحقيقة سيدهم. وذلك أنه أمرؤ لم تمنعه عاميته من أن يكون سريع الخاطر حاضر الجواب نادر الذكاء مزاحاً ثاقب المعرفة عظيم البصر واسع التجربة شديد الدهاء حتى لقد قال عنه جماعة النقاد أنه هو في الحقيقة صورة شارل دكنز نفسه لو كان أمياً. وقد صحت عزيمتنا على أن نتحف القراء بفصول عدة من هذه القصة العجيبة ولن نقيد أنفسنا بترتيب فصول الكتاب بل نختار من ههنا وههنا حسب ما نراه أوفق للقراء وبالله التوفيق (1) المستر بكويك في فراش إحدى السيدات نزل المستر بكويك في بعض جولاته بفندق من فنادق لندوة وكان من المباني القديمة الكثيرة الدهاليز والمتائه، الجمة السلالم والدرج. فبعد أن أقام ساعة في غرفة الجلوس العامة بأسفل النزل صعدت به الخادمة في عديد من السلالم والدهاليز مما يضل في متاهاته الجن إلى غرفة كانت أعدتها لنومه في الدور الأعلى من الفندق فأدخلته تلك الغرفة وتركته وعادت أدراجها. فلما بدأ بكويك ينزع ثيابه رأى أنه قد نسى ساعته بغرفة الجلوس ولم يشأ أن يزعج الخدم فعزم على أن يأخذ الشمعة وينزل وحده ليبحث عن ساعته. فخرج من الغرفة والشمعة في يده وهبط في السلام وكلما انتهى من سلم بدا له سلم وكلما سلك دهليزاً اعترضه دهليز. وما زال تتقاذفه الدهاليز وتتلقفه السلالم ويطل من ثقوب الأبواب حتى عثر أخيراً بطريق الصدفة على الغرفة المنشودة وهنالك وجد ساعته. وبدأ يصعد من حيث نزل. ولا غرو إذا قلنا أنه وجد المرتقى أصعب ألف مرة من المنحدر. لقد جعل عشرات المرات يلوى أكر الأبواب بمنتهى الرفق والخفة يحسب أنع عثر بباب غرفته فيصيح به من الداخل صوت أخشن أبح ماذا تريد! باسم أبليس من الطارق، فينقلب على مشطي قدميه مثلاً بأسرع ما لديه. ومازال ذلك شأنه حتى قطع الأمل من العثور على

حجرته فإنه لكذلك إذ جذب بصره باب مفتوح فأطل فقال في نفسه. لقد اهتديت إلى الغرفة أخيراً. وذلك أنه وجد السرير بالموضع الذي يتذكر جيداً. ووجد الموقد لا يزال يتقد. فدخل وأغلق الباب وكانت شمعته لكثرة ملاعبتها للريح قد أشرفت على النفاذ ولكنه قال في نفسه لا بأس أن في ضوء النار ما يكفي ثم أنه رفع كلة السرير وجلس على كرسي أمامه وأقبل فصاحت المرأة صيحة مذعورة رجل! قال بكويك في نفسه قضى الأمر! وصاحت المرأة رجل غريب! قال بكويك في نفسه وابلواه! - صرخة أخرى وأجد أهل الفندق على الباب وأحس بكويك خشخشة ثياب المرأة وهي تهرع ناحية الباب قال بكويك وأخرج رأسه وهو في أسوأ حالات اليأس والجزع سيدتي! سيدتي! وقد كان لظهور رأس المستر بكويك خارج الأستار أحسن الأثر وذلك أن منظر هذا الرأس في قبعة النوم ذات الزر أزعج المرأة وهي في طريقها إلى الباب فأثبتها في منتصف الطريق كأنما قد سمرت في الأرض قدماها. فوقفت تنظر إلى هذا المنظر العجيب فاغرة فاها (فاتحة فمهاـ وهو شأن المندهش) المنظر العجيب (أعني المستر بكويك) ينظر كذلك إليها فاغر فاه وصاحت المرأة مغطية عينيها بيديها (أيها الشقي! ماذا يدههنا؟) قال بكويك بإخلاص وتضرع (لاشيء يا سيدتي لا شيء مطلقاً) قالت السيدة رافعة بصرها (لاشيء!) قال بكويك وهز رأسه بما ترك زر قبعته يدور في الهواء يرقص (لاشيء يا سيدتي وشرفي! إني ليكاد يغمى علي يا سيدتي وتكاد الأرض تخف بي من مضاضة مشافهتي سيدة نبيلة وأنا لابس قبعة النوم (هنا أسرعت السيدة إلى نزع قبعة النوم من فوق رأسها وكانت لابستها) ولكني لا أطيق نزعها (وهنا جذبها جذبة شديدة برهاناً على مقالته) الآن قد وضح لي يا سيدتي أني أخطأت غرفتي فدخلت غيرها. ولم تمر علي خمس دقائق ههنا يا سيدتي حتى حضرت أنت على بغتة قالت السيدة وقد خنقتها العبرة إذا كان هذا القول الذي لا يكاد يصدق هو في الواقع حقاً فأخرج من ههنا في الحال قال بكويك سأفعل بكل سرور يا سيدتي قالت السيدة في الحال

قال بكويك بكل سكينة وتؤدة (بلا شك يا سيدتي بلا شك - ولكن اسمحي لي أن أبدي لك عظيم أسفي واستيائي يا سيدتي - وهنا ظهر خارج السرير - لما سببته لك عن غير قصد من هذا الرعب والأسى. لم تفه السيدة بشيء ولكنها أومأت بإصبعها نحو الباب في هذه الظروف الحرجة لم تخن المستر بريك مزاياه الجليلة من رقة الآداب ومعرفة واجبات التحية والتسليم فرغماً من أنه كان في هذه اللحظة يسير حافي القدمين حاملاً خفيه في يده مع الجوربين واضعاً كسوته وصديريته فوق كتفه كدلالي الثياب وباعة الخرق القديمة في الأسواق. جاعلاً قلنسوته فوق قبعة النوم على رأسه - نقول بالرغم من كل ذلك لم يكن شيء قط ليمنع المستر بكويك من تقديمه إلى السيدة واجب تحية الوداع بإحنائه رأسه بكل أدب واحترام وقوله بأرق لهجة وأرخم نغمة (اسمحي لي يا سيدتي أن أظهر عظيم أسفي واستيائي وجزيل شكري) فقاطعته السيدة قائلة (إن كان ذلك حقاً فاخرج في الحال يا سيدي) قال بكويك في الحال يا سيدتي في الحال ثم فتح الباب فسقط الخفان من يده على الأرض بصوت شديد فتناول الخفين وبعد خروجه من الباب التفت إلى السيدة فقال (أملي وطيد يا سيدتي في أن ما يؤثر عني في جميع أنحاء العالم المتأدب من العفة والنزاهة ومن إجلالي جنسكم اللطيف ومغالاتي بقدره سيشفع لي عندك ويقوم ببعض) ولكن السيدة لم تمله حتى يكمل خطبته بل قذفته في الدهليز وأغلقت الباب في وجهه يخلع نعليه وجوربيه على رسله ثم نضا ثوبه وصديريته ووشاحه ولبس قبعة النوم ذات الزر الطويل وربطها جيداً من تحت ذقنه بزناقها. وبعد ذلك أخذ يتذكر ما كان أصابه من الحيرة والإرتباك عند إضلاله غرفته وشرع يضحك من نفسه لنفسه ما أعجب ضلالي بين هاتيك السلالم والدهاليز التي كأنها أبدية لا مبدأ لها ولا نهاية. عجيب عجيب عجيب ثم عاد إلى الضحك وشرع ينضو بقية ثيابه وإذا بحادث فجائي أوقفه وسط عمله. وما أدراك ما هو؟ دخول إنسان من الباب يحمل في يده شمعة. وهذا الطارئ بعد إغلاق الباب سار إلى منضدة اللبس فوضع الشمعة عليها. فاختفت ابتسامة المستر بكويك تحت ما غشي وجهه إذ ذاك من سيما الإندهاش التام. لقد كان دخول هذا الطارئ بمنتهى المباغتة والخفية والخفة حتى أن المستر بكويك لم يجد

أدنى فرصة للإستغاثة أو للمقاومة. من ترى هذا القادم؟ لص؟ شرير بصر به صاعداً وفي يده ساعة بديعة قيمة؟ ربما كان ذلك ماذا يصنع؟ رأى المستر بكويك أن أحسن طريقة لرؤية الطارق دون أن يراه الطارق هو اختفاؤه في السرير والنظر من خلال الستائر. ففعل ذلك وضم فرجة الكلة بأصابعه بحيث لم يظهر منه سوى وجهه وقبعته. ثم لبس نظارته واستجمع قواه وجعل ينظر. وهنا كاد يغمى عليه من الخوف والدهشة إذ أبصر أمام المنضدة سيدة نصفاً (متوسطة السن) تسرح ضفائرها وقد ظهر له من حركاتها أنها تنوي البقاء في الغرفة طول ليلتها لأنها وضعت الشمعة التي كانت معها في إناء خاص بذلك. قال بكويك في نفسه أعوذ بالله الرحمن الرحيم ما أهول ذلك وما أفظعه! هنا تنحت السيدة فاختفى وجه السيد وراء الستائر بسرعة البرق اللامح. وقال في نفسه ما رأيت أهول من هذا الموقف، وتحلب العرق البارد من جبينه. ما أخوف وما أهول!، لم يكن في طاقة بكويك أن يمنع نفسه من تأمل هذا المنظر فأخرج رأسه ثانياً فأبصر ما هو أفظع وأبشع. فرغت السيدة من تمشيط شعرها ولبست قبعة النوم وأقبلت تتأمل النار مطرقة تفكر. قال بكويك في نفسه الأمر يزداد بشاعة وهولاً ليس في وسعي أن أدع الأمر يستمر في مجراه هذا. يلوح لي منن ثبات هذه المرأة وهدوء بالها أني دخلت غرفتها بطريق الخطأ. فماذا أفعل؟ إني إذا ناديتها صاحت فأزعجت الفندق. وإذا سكت كانت العاقبة أسوأ. لا حاجة بنا أن نذكر هنا أن المستر بكويك كان من أرق الناس عاطفة وأطهرهم ذيلاً وأحسنهم أدباً. وإنه يرى في مجرد ظهوره أمام إحدى السيدات لابساً قبعة النوم المصاب الأكبر والخطب الأجل. ولكنه قد عقد زناق قبعته عقدة لا تحل. ثم لا بد له من كشف هذا الأمر. إذن فليس أمامه إلا طريقة واحدة. فاتخذ هذه الطريقة وذلك أنه انكمش وراء الستائر وصاح بملء فيههوه! هوه!. لا حاجة بنا أن نقول أن السيدة ذعرت من هذا الصوت فتقهقرت نحو الشمعة. غير أنها نسبت هذا الصوت إلى تأثير الوهم والخيال الكاذب. وكان المستر بكويك حسب أن صوته هذا سيفقدها الصواب فاختفى وراء الستار ولكنه لما عاد فأطل رآها جالسة أمام النار

مطرقة تفكر كحالتها من قبل قال بكويك ما أعجب شأن هذه المرأة هوه! هوه لقد كان الصوت هذه المرة أبين وأوضح حينئذٍ صاحت المرأة واخطباه! ماهذا؟ قال بكويك من وراء الستارهذا - هذا - رجل يا سيدتي

الأخلاق والاجتماع

الأخلاق والاجتماع مختارات من آراء ليوباردى الكونت جيا كوموليوباردى من أكبر كتاب الدنيا الذين قسموا الناس شيعاً بعدهم وأحزاباً. وهو اليوم أمام نصف العالم أو أكثر. لأنه يقود وراءه جميع المتشائمين في الأرض وهو في آرائه في الحياة والموت والناس أبدع من المعري وشوينهور. بل أنهما ليعدان متفائلين بالنسبة إليه. وكانت وفاته عام 1833 في التاسعة والثلاثين. وقد عاش أكثر عمره مريضاً حزيناً متألماً. وسننشر تباعاً في البيان مختارات آرائه. إن العالم ليس إلا مؤتمراً من الأشرار حرباً للأخيار. وطائفة من اللئام أعداء للكرام. وإذا تلاقى شريران للمرة الأولى في حياتهما لم يلبثا أن يعرف أحدهما الأخر على حقيقته في صمت وسكون، كأن بينهما دلائل لا تبدو لغيرهما، ولم ينويا أن يصبحا أخوين حبيبين في التو والساعة، وإذا لم تسمح مصلحة كل منهما بالإخاء والحب، فلا يسع أحدهما إلا الإحترام صاحبه والإطمئنان إليه. وإذا كان لشرير شأن مع جماعة من الأشرار أو وقعت بينه وبينهم معاملة، فلا يكون ملكه معهم إلا الإخلاص والصدق، ولا يفكر يوماً في خديعتهم، ولكنه إذا ارتبط بمثلها مع نفر من أهل الشرف والخير، فيستحيل عليه أن يتركهم دون الغدر بهم. وإذا رأى الفرصة سانحة له، خرب بيوتهم تخريباً، وإن يكن يعلم مع ذلك أنهم من أهل البأس والشهامة وأنهم قديرون على أن يثأروا لأنفسهم، لأنه يعلل نفسه إذ ذاك بأنه سيهزم بحيله وخدعه شجاعتهم وبأسهم ولقد رأيت كثيرين من الضعفاء الجبناء وجدوا أنفسهم في مأزق بين شرير أضعف منهم وبين رجل خير شهم، فآثروا أن ينحازوا إلى الشرير مخافة منه ورهباً، لأن الحياة أهل الوفاء والشهامة ظاهرة واضحة، وأما الأشرار اللؤماء فشأنهم الأسرار والغموض، والمجهول أبداً أدعي إلى أحداث الرعب من المعلوم والإنسان يستطيع بكل سهولة أن يحتمي من ثأر الأخيار. ولكن لا تستطيع الحيل والألاعيب والمكامن أن تدفع عنك شر غموض اللؤماء من أعدائك، وكذلك ترى الشهامة في العالم قلما يخاف منها أو يحذر شرها، لأنها تحتقر الخداع والكذب والغش، ومن ثم لا تحاول أن تتخذ مظهراً مخيفاً مرعباً، على حين ترى الأشرار مخوفين، يظن بهم الشهامة لأن الناس ينخدعون بهدوئهم الرهيب.

وأنت قلما ترى الأشرار اللؤماء في نكد من العيش، وإذا وقع شهم في الفاقة فلا ترى إنساناً يمد يد العون والغوث، بل كثيرون يبتهجون بفاقته، ولكن إذا تعثر لئيم يوماً في شدة، فلا تلبث أن تنهض المدينة كلها لإنقاذه وإغاثته والسبب بلا ريب بين واضح، وهو أننا بطبيعتنا نحزن لمصائب رفيق لنا، لأن متاعبه لا تزال في نفسها تهديدات لنا ونذراً، وحيث أن الأشرار هم الفريق الأكبر من العالم، وهم الذين في يدهم القوة، ويعدون غيرهم من اللؤماء الأشرار - وإن لم يعرفوهم - رفاقاً لهم وأحباباً، فهم يجدون من الواجب عليهم أن يتعاونوا في الشدائد، إذ يظنون من الفضيحة في حقهم أن يري الناس لئيماً في شدة! لا يجد الإنسان قط في المحادثة لذة أو بهجة إلا إذا انطلق يتحدث عن نفسه أو مهنته أو ما يشغله من شؤونه ومزاياه، فإذا انحرف الحديث عن هذا السبيل انقبض وثارت في نفسه السآمة والملل، وإن كان السرور الذي يداخلنا ونحن نعلن عن أنسفنا هو البلاء كله على المسامع، فإذا أردت أن نشهر بأن تكون محبباً مؤنس العشرة فاعلم أنك ولا شك ستقاضى عن هذه الشهرة أشد الصبر والألم، لأن الذي يشهر بلطف العشرة هو من يصبر على أنانية الناس في حديثهم، ويؤثر الصمت على الكلام، وهذا لعمري شديد الوطأة على النفس وفيه البلاء والعذاب. فإن جلست إلى إنسان فاجتهد في أن تسوقه إلى الكلام عن نفسه. وعن شؤونه ما شاء حتى يفارقك وهو راضٍ عن نفسه كل الرضى، وأنت ضائق الذرع مقتول مما عانيت. إن الرجل الذي يظفر بحاجة كان يطلبها بعد متعبةٍ أو طول عناءٍ أو مضض تطاول وتسويف، يحس بأشد الغضب والسخط إذ يري غيره ظفر بها في سهولة ورفق، وإن كان ذلك لم يفقده شيئاً من حاجته، ووجه غضبه وحقده أن حاجته تبدو له كأنها قد خسرت شيئاً من قيمتها إذ يراها قد وقعت إلى رجل لم يكدح كدحه، ولم يشق شقاءه. لا مناص للإنسان من أمرين، فإما أن يضيع شبابه تضييعاً وإن كان الشباب هو الزمن الذي يدخر فيه الإنسان شيئاً لشيخوخته وعجزه عن العمل - وإما أن يقضيه تأهباً وكدحاً على أمل أن ينعم ويبتهج في زمن لا يستطيع فيه النعمة والبهجة. مركز المرأة الإجتماعي 1

الضعيف لدى الجمعيات الساذجة مهضوم الحقوق وذلك لضعف العاطفة الأدبية في نفوس المتوحشين وفقدان السلطة العمومية أو عجزها - إن وجدت - عن كبح جماح القوى. وعلى قدر رقي الأمة يحترم الضعيف، والمرأة أضعف من الرجل تسوء معاملتها بين المتوحشين ويعلو قدرها بين المتمدنين ومن معاملة الرجل للمرأة نقدر أن نحكم على نصيب الأمة من التقدم والتأخر. ولو تصفحنا الأمم لوجدنا أقلعا مدينة أشدها قسوة على المرأة. وكلما ارتقت الأمة ارتخت قيود المرأة وخف عبؤها ففي أستراليا حيث الوحشية ضاربة أطنابها بين السكان الأصليين تقاسي المرأة أشد أنواع العذاب، تكاد تكون حيواناً داجناً ومتاعاً للرجل، يلهو بها ويسخرها في أشق الأعمال وأكثرها تعباً ونصباً. فهي التي تحمل الأثقال العظيمة وتقوم بجميع مهام الحياة ما عدا الصيد والقتال، لا تأكل حتى يمتلئ الرجل شبعاً ويرمي لها فضلات طعامه. هي والكلب في مستوى واحد. إذا مات زوجها تصبح بعد ثلاثة أيام من موته ملكاً لأخيه. قل أن تموت ميتة طبيعية إذ في الغالب يعجل عليها ويقضى على حياتها من قبل أن تشيخ وتصير عالة تستنفد طعام القبيلة من غير مقابل. وإذا انتابت القبيلة مجاعة تذبح النساء لتقتات بلحومهن. وفي فيجى للرجل أن يبيع زوجته، وإن شاء فله أن يقتلها. وغالباً ما ترى مشدودة على خشبة أو مصلوبة على شجرة وزوجها نازل عليها بالسياط. وفي كلدونيا الجديدة لا يحق للمرأة أن تؤاكل زوجها أو تساكنه. ويحل بها كل يوم من الآلام والعذاب ما يبغضها في الحياة ويحملها على الإنتحار فتنتحر غير آسفة على عيش عبوس. وفي إفريقيا لا تقل المرأة تعاسة عن أختها في أوستراليا غير أنها لا تؤكل إلا نادراً لكثرة الصيد في إفريقيا. بيد أن السير بيكر شاهد في جوندوفرو وليمة كبيرة كبيرة من لحوم الجواري والفتيات تعامل المرأة في إفريقيا بأشد أنواع القسوة وتلاقي من الظلم ما يفتت قلب المتمدن ويقشعر منه جسمه. يحتقرها جميع الناس حتى أولادها لا يطيعونها ولا يصغون إليها. لا تأكل مع زوجها وينهال عليها بالرفس واللطم لأقل هفوة. ترفق بالبقر ودواب الحمل. وتستخدم في حرث الأرض وحمل الأثقال من غير أن يكلف الرجل نفسه مؤونة مساعدتها. مسكينة المرأة تنصب من غير حمد ولا شكر. وينهال عليها زوجها وسيدها ضرباً ولكماً

من غير أن يرثي لحالها أو يصغي لأنينها أحد. يعدها الرجال من سقط المتاع فلا تستحق منه رأفةً. ويظهر أن هذه حالها لدى جميع المتوحشين مع تفاوت في الشدة حسب الطبائع والأمزجة. ففي (بولونيزيا) لا يسوغ للمرأة أن تنضج طعامها مع طعام زوجها على نار واحدة ولا يحق لها أن تأكل في الكوخ الذي يأكل فيه ويحرم عليها بتاتاً أن تلمس قبعته وسلاحه بيدها لئلا تدنسها ويجب عليها أن تطيعه وتسلم نفسها لمن يريده من ضيف أو صديق وتحمل أجر عفافها. ولا يقل متوحشو أمريكا قسوة وفظاعة عن بقية المتوحشين ففي (فيجي) إذا شاخت المرأة تقتل خنقاً بدخان خشب أخضر ويؤكل لحمها. وإذا سئل الرجل لماذا لا يبقى على امرأته ويذبح كلبه قال الكلاب أنفع لنا من النساء فإنها تجلب إلينا الصيد. وهذا هو جزاء المرأة على شقائها ونزولها الماء الزمهرير لصيد السمك والمحار وتعرضهن لجميع الأخطار والمتاعب لخدمة زوجها مدة شبابها. أما في بقية القارة الأمريكية حيث العيش أقل ضنكاً لا تؤكل كل النساء ولكن مقضي عليهن طول الحياة بأشق الأعمال فهن اللاتي يحملن الأطفال والأمتعة حينما تنتقل من مكان لأخر ويحرثن الأرض ويحصدن الزرع ويهيئن الطعام ويسحبن العربات إذا لم تتوفر الخيل. أما في آسيا فأرق طباعاً من القارات التي سبق ذكرها. والمرأة فيها أحسن حالاً ولكنها لا تعد سعيدة على كل حال ففي الصين حيث المدينة أرقى وأرسخ فدماً تساس المرأة بنوع من الشفقة غير أنها أقل قدراً واحتراماً من الرجل. إذا ولد لأحدهم بنت ولم يكن له ابن حزن وأعد نفسه عقيماً، وتباع الفتيات الصينيات في الأسواق كالسلع. ولا يسوغ للصينية أن تأكل مع زوجها وأبنائها الكبار ويجب عليها أن تقف في أدب وسكون لخدمة زوجها أثناء طعامه. وفي (برماني) شهادة المرأة وحدها غير كافية وإذا طلبت الشهادة أدتها على باب المحكمة من غير أن تدخل خوفاً من أن تدنس المحكمة. والأب بمقتضى شريعة (مانو) قيم على ابنته إلى أن تتزوج فإذا تزوجت أصبح زوجها القيم عليها فإن مات فإبنها أو أحد أقارب زوجها فإن لم يوجد واحد من هؤلاء فالملك. ويتحتم عليها كلما قابلت زوجها أن تقابله ببشر وبشاشة ويجب عليها أن تحترمه وتقدسه ولو خانها ولا تذكر اسم رجل آخر إذا

ترملت وما زالت هذه الشريعة إلى الآن أس التشريع في الهند. وفي غرب (أفغانستان) تعد البنت وحدة النقود وفي كثير من الشرائع القديمة (كشريعة مانو) لا ترث المرأة. وفي روسيا إلى يومنا هذا لا ترث البنت من أبيها إلا جزءاً من أربعة عشر من العقار وسبع المنقول. للكلام بقية

أفكار بليدة لمفكر بليد في أوقات بليدة

أفكار بليدة لمفكر بليد في أوقات بليدة للكاتب الأخلاقي الفكه جيروم ك. جيروم الحياء إن جميع كبار الكتاب والمفكرين حييون، وأنا لهذا السبب رجل حي خجول، وإن كان الناس لا يفتأون يقولون لي أن حيائي لا يكاد يبين، ولكني والحمد لله مسرور بذلك الآن مثلج الصدر، إذ كان حيائي شديداً لدي، وكان لي يومذاك مدعاة شقاء وتعب، ولأصدقائي وصحباتي باثع ضيق واستثقال، ولا سيما عند صديقاتي السيدات، وصواحبي الآنسات، فقد كن يشكون من حيائي أمر الشكوى. إن نصيب الرجل الحيي في هذه الحياة نصيب سيء مرير، فمعشر الرجال يكرهونه، والنساء يحتقرنه، وهو أيضاً يكره نفسه ويحتقرها، ولكن الرجل الحيي مع ذلك يثأر لنفسه من المجتمع بعض الثأر، فهو يستطيع أن يخيفهم كما يخيفونه لأنه لا يكون في الحجرة الممتلئة بالسمار والأصحاب إلا كصمام المدخنة يخنق نفسه، ويمنع سريان الهواء، فيترك أمرح الأرواح وأبهج الصدور بوجوده حزينة، ضائقة، مضطربة الأعصاب وهذا الضيق الذي يعرو الناس من حضرة الحيي في وسطهم، لايبعث عليه إلا سوء التفاهم، فكثيرون من الناس يخطئون فهم الحيي فيحسبونه زهواً وكبرياء، ولهذا يشعرون بأنهم يتلقون منه إهانة لا تسعها المغفرة، وإذا رأوه وقد أخذه الرعب لأول كلمة توجه إليه منه، وقد تصاعد الدم إلى رأسه، وخذلته الألفاظ والعبارات، وفقد قوة النطق، عدوه مثالاً فظيعاً على نتائج الإنهماك في الشراب والملذات. وهو لا يصيب إلا سوء التفاهم في كل مجلس ومكان، ومهما حاول أن يظهر من التأثير، فالناس لا تدرك إلا نقيض المعنى الذي يريد، فلو أرسل نكتة في المجلس، أخذوها نوعاً ثقيلاً من الجد، وحكموا بها على ضعف قوته في قول الجد، وإذا ألقى دعابةً تلقوها منه رأياً من أرائه، وعدوه من أجلها حماراً، وإذا أراد يوماً أن يستعطف بعض القوم فأنشأ يقول شيئاً من المديح، فظنوه منه تهكماً، وكرهوه من جراء ذلك. هذه وغيرها من آلام الحي كانت أبداً باعث الضحك والمجون عند كثيرين من الناس، وكثيراً ما أمدت الأدباء بموضوعات طيبة للتفكهة، ولكنا إذا نظرنا بعد نظراً أبعد من

مرمى، وجدنا لهذه الصورة ناحية محزنة، بل قل مبكية، فإن الرجل الحيي يعني رجلاً واحداً، قطع ما بينه وبين الرفقة، وحيل بينه وبين الجماعة، يمشي ويتحرك في العالم، ولكن لا يختلط به ولا يمتزج، يقوم بينه وبين الناس سور منيع شاهق، يحاول أن ينفذ منه، فلا يصيب منه إلا البطح فهو يرى الوجوه الصبيحة، والمطالع المتهللة، ويسمع الأصوات الغريدة، من الناحية الأخرى التي تقوم وراء هذا الجدار الخفي، فلا يستطيع أن يمد ذراعه ليلمس ذراعاً آخر،، ويقف يشهد الجماعات المبتهجة الفرحة، ويود لو يكلمها، وينعم بحديثها، ويطالبها بحقوق القربى، ولكنها تمر به غير ملتفتة ولا آبهة، يكلم بعضها بعضاً، ويضاحك رجالها نسائها، فلا يجد في نفسه القدرة على أن يستوقف أحداً منهم، ويحاول أن يصل إليهم، ولكن سجنه يتحرك معه حيث ذهب، فهو يمكث عن كثب من القوم كالمجذوم أو المبروص، وإن صدره ليفيض حباً وحناناً ورقة وعطفاً، ولكن العالم لايشعر بذلك ولا يدري ولا يعلم، لأن قناع الحياء يحجب وجهه، ويدع الناس لا يبصرون منه الرجل الحقيقي المسكين، وقد تثب الكلمات الرفيقة والتحيات الصديقة إلى شفتيه. ثم تتبدد فجأة في خفوت وهمس، والناس بعد يرون في المخلوق الخجول اللاهث المرتعش الركبتين المتشنج الأطراف، منظراً مؤلماً لهم، وإذا لم يستطع هذا المخلوق أن يطيب من هذا المرض فخيرٌ له أن يذهب ويشنق نفسه. على أن العزاء الوحيد الذي يستطيع أهل الحياء أن يتعزوا به بينهم وبين أنفسهم هو أن الحياء ليس ولا ريب دليل الحماقة، ومن السهل جداً للمجانين المغفلين المعاتية أن يهزأوا بالأعصاب واضطرابها، ولكن الطبائع السامية لا يجب أن تكون هي التي تحتوي مقداراً كبيراً من هذا النحاس الأخلاقي الذي يوجد في وجوه المتبجحين، فالجواد ليس حيواناً أقل مكن الخطاف، وليس الغزال أقل من الخنزير، وليس معنى الحياء إلا تناهياً في الإحساس، ولا علاقة بينه وبين الزهو والكبرياء، وإن كان الثرثارون من مدرسة الفلسفة يصرون على القول بأن العلاقة بينهما متينة. وفي الحقيقة أن الزهو هو أحسن الأدوية للشفاء من الحياء، فإذا أنت يوماً خطر لك أنك أبدع وأفضل وأشطر من غيرك فلان وفلان وفلان، فلا يلبث الخجل أن يمتنع عنك ويتركك، وتصبح متبجحاً، وأنت إذا استطعت أن تدير بصرك في الحجرة الغاصة

بالجلوس، وتظن أن كل واحد من هؤلاء القاعدين ليس إلا طفلاً من الذكاء بالنسبة إليك، فلن تشعر بشيء من الحياء إزاءهم، اللهم إلا إذا كنت تستحي من مجلس من الأورانج تانج أو الغوريللا!! والفضيلة الكبرى للحيي إخلاصه في الحب، وأنا مستعد للسماح له بهذه الفضيلة، لأنه ثابت أبداً في حبه، ولكن السبب ليس خفياً دقيقاً، فإن إخلاصه لم ينشأ إلا لأن النظر إلى امرأة واحدة في وجهها يستفد منه كل شجاعة، ويستحيل عليه بعد ذلك أن يكرر العملية نفسها مع امرأة ثانية، حسبه امرأة واحدة وأنت ترى الناس أبداً لا يفتأون يقولون للشاب الحيي احتثاثاً له وتشجيعاً أنه خليق بأهن يتخلى عن حيائه، وينكرون عليه أنه أشبه بالفتاة في حيائها ولكني لا أعرف شيئاً يقال له إمرأة حيية، أو على الأقل لم ألتق يوماً بواحدة، ولن أحول عن اعتقادي هذا حتى ألتقي بها، وأنا أعلم أن هذه العقيدة المتفق عليها هي عقيدة مخطئة معكوسة، والناس يتصورون أن النساء جميعاً يتغلب عليهن الحياء، وأنهن يجفلن وتتورد وجنتهن وتتراخى أجفانهن، إذا نظر إليهن، وإنهن ينطلقنا مفلتات إذا خوطبن، وإننا نحن الرجال معشر متبجحون جسورون - هذه نظرية جميلة يا سادة، ولكنها ككل النظريات المتفق عليها، كلام فارغ ليس إلا، فإن الفتاة في الثانية عشرة تكون هادئة النفس، مطمئنة الأعصاب، بينما أخوها ذو العشرين يتلعثم بجانبها ويتمتم، والمرأة تدخل الملهى والرقص متأخرة تعطل التمثيل وتعكر سكون الجمهور، ولا تهتز منها شعرة واحدة، وترى الزوج في أثرها، يتعثر من حياء، ويتمتم بالمعاذير، ويهمس بالشفاعات.

الأدب والتاريخ

الأدب والتاريخ الشاعر جوت أغلقوا بيرونكم وتعالوا نسمع جوت الجديد كارليل 1ـ مكان جوت من تاريخ مات جوت عام 1832، أي منذ ثمانين حولاً وأربعة أحوال، مات في السنة التي قضى فيها الروائي والتر سكوت، وقبل عامين من وفاة الشاعر كولوريدج، وقبل ثمانية عشر عاماً من نعي الشاعر وردسورز، وبعد عشرين عاماً من ذهاب بيرون، وسبعة وعشرين عاماً من متوفى صديقه شيللر، فلما مات، كان ملك الشعر الألماني، وسيد الأدب الغوطي، ورأس الأدب الغربي، وكان كارليل القيثار الحلو لاغاريد الذي يتغنى باسمه، وينشد الأرض بطولته، ويترنم الناس بشاعريته، وكان يصيح في العالم أن في جوت الدواء الناجع من أمراض الحياة، والأشفية الصالحة من علل العصر، وأن جوت أمير الأدب والشعروالفلسفة والفكر، وغن الشباب الذين لا يزالون في دور الحيرة من أمور حياتهم، والذين يعانون من هموم العصر ومساوئه، ينبغي لهم أن يتبعوا هذه الوصفة الطبية، وهي أغلقوا بيرونكم وافتحوا جوتكم ومنذ ذلك اليوم أصبح جوت رأس كتاب ألمانيا، وفي طلائع كتاب الغرب بأسره، وإن ثنا كثيرون من الكتاب يتغنون في أثر كارليل باللحن الجوتي ويضجون بأنشودته وأنت تعلم أن جبابرة الكتاب وعظماء الذهن يمرون في طريقهم إلى الخلود بأدوار عديدة بين موتهم وبين ظفرهم بهذه الخاتمة، إذ يتسآءل الناس بعدهم عما إذا كان الجيل الذي جاء في أعقاب وفاتهم. سيحبهم كما أحبهم الجيل الذي شهد موتهم. وعما إذا كانت كتبهم وتواليفهم ستصلح بعد الجيل قد تطورت أراؤه في الحياة والدين والعلم والفلسفة، ووثب فيه إلى مكانهم شعراء مغلقون غيرهم، ونحن نرى أنه قد لا تمضي عشرون عاماً أو ثلاثون على وفاة الشاعر الكبير، أو الكاتب المبدع، حتى ينساه الناس، ويجهله العصر، إذ تخرج إلى العالم صحيفة جديدة من الفكر تذهب برواء صفحاته، وتفقده البهجة والجدة والبهاء التي كانت جميعاً في كتبه، وإذا بك ترى الكاتب الذي كنت تظنه موفضاً في سبيله إلى الكواكب قد عاد فهوى إلى الأرض، وغاب في غمار الناس، واختفى

في مقابر العامة - وإذا كان الناس لا يفتأون يشبهون الشعراء والكتاب بالكواكب، فنحن نطرد معهم في تشبيههم فنقول أنهم في أدوارهم الأولى لا يظلون في سماء الشعر كواكباً ثابتة بل إنهم ليختفون حيناً وحيناً يظهرون، شأن الكواكب والنجوم ويعد عليهم ما يعد عليها من الكسوف والخسوف والأبدار والمحاق، ولا يزال الخلود بين هذا معلقاً غير محقق. وكذلك نقول عن الشاعر جوت فقد مضى الآن ثمانون عاماً وتزيد على العهد الذي كان ينادي فيه ملك الأدب الألماني وسيده، فهل تراه كذلك إلى اليوم بعد أن أخرجت ألمانيا كثيراً من الشعراء، وأخرجت جمعاً عظيماً من الكتاب والفلاسفة، وهل يظل كذلك بعد أن طلع في الغرب غيره من الشعراء الجبابرة وبعد أن تغير العصر وتغيرت أمراضه وعلله. إن هذه المسائل تستحيل إلى سؤالين وهما، ماذا يرى الألمان أنفسهم في جوتهم بعد أن انصرم ثمانون عاماً وأربعة. وماذا يرى العالم فيه الآن، أما عن الأول فإن جوت عانى بعد وفاته بسنتين شيئاً من النقض والطعن والإنتقاص، فقد انطلق الشاعر هايني العظيم يعيبه ويتزري عليه ويتناوله بالنقد ولكن هايني عاد فأبدى لنا الباعث الذي ابتعته على ما كان منه إذ قال أما البواعث التي بعثت على هذه المطاعن التي قذف الناس جوت بها فإني أعرف على الأقل سرها من ناحيتي. . . . . وقد كان الحسد! ولكنه لم يلبث الناس أن نهضوا إلى إعلاء شأن جوت والتنويه باسمه، وانطلق أهل ألمانيا يمجدونه ويكبرون ذكره، لأن نهضة الأمة الألمانية منذ عام 1870 حملت معها اسم شاعرها الأكبر إلى مكانة أسمى من سابقة مكانته، وصار الكتاب يمدحونه وينوهون به ويعدونه من بين شعراء الإنسانية والأبد، أما أهل الغرب فلا يزالون يحبونه ولا يزال عند ذاكرتهم، يطالع إلى اليوم كأنه كتاب قائم على الزمن، جديد لا تضيع جدته، ولا يذهب رواؤه (انتظروا الباقي من تاريخه وحسنات أدبه في الأعداد القادمة).

مذكرات شبلي شميل

مذكرات شبلي شميل الدكتور شبلي شميل معروف مشهور لإخفاء به، وهل يخفى القمر؟ والدكتور - وليس يدافع في ذلك اثنان - ذو عقل كبير جبار كعقول الفلاسفة، وذو قلب سليم طاهر كقلوب الأطفال. لذلك نحبه جداً ونحترمه جداً. والدكتور خليق منا نحن الناطقين بالضاد بالحب والإحترام، وأن ننافس به الغربيين رافعين أصواتنا إذا كان عندكم معشر الغربيين أمثال هيكلوولس ودارون فعندنا شبلي شميل، وليس ينقصنا أن يكون عندنا أمثاله ولكن ينقصنا فقط أن جمهورنا ليس كجمهورهم في تقدير النوابغ والعبقريين. والدكتور وان كنا نحبه ونحترمه كما أسلفنا بيد أنا لا نتفق وإياه في كثير من أرائه الدينية وبعض آرائه الأخرى وهذا لا ينافي حبنا احترامنا وأن ننتفع بعمله وأدبه وبكل ما يفيض علينا عقله وتجاربه وملاحظاته - ونحن نقدم اليوم إلى قرائنا مما لم ينشره الدكتور مذكراته التي رأيناها كالمرآة يرى فيها الناظر تاريخ مصر ونهضتها العلمية والأدبية والسياسية والإجتماعية منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم مما لا يكاد يظفر بمثله في كتاب أو مجلة، ذلك إلى كثير من تعليقات الدكتور التي لا نغالي إذا قلنا أنها جماع فلسفته وآرائه وسننشرها تباعاً في البيان إن شاء الله. اليوم الأول حتى سنة 1875 وهي السنة التي اتخذت فيها مصر موطناً لي بعد تخرجي من المدرسة الكلية في بيروت ورجوعي من فرنسا لم يكن في كل القطر المصري جريدة عربية عمومية سوى جريدة أسبوعية اسمها (الإسكندرية) لمنشئها سليم حموي وكان مركزها مدينة الإسكندرية. وهي التي انتقلت بعد ذلك إلى القاهرة وتحول اسمها إلى (الفلاح) ثم ماتت. فسليم حموي شيخ الصحافة العربية في القطر المصري لو برَّ الصحافيون. وفي هذه السنة قدم إلى مصر سليم تقلا وأخوه بشارة تقلا من كفرشيما من أعمال لبنان وأنشأ جريدة الأهرام في الإسكندرية أسبوعية أولاً ثم يومية ثم انتقلت إلى القاهرة ولا تزال حية حتى اليوم. ولقد أظهرا من الثبات وحسن الإدارة وصادفا من المساعدة ما سهل لهما النجاح وحبب للآخرين الإقتداء بهما. وفي هذه السنة عينها قد الإسكندرية أديب إسحق وسليم نقاش من مدينة بيروت وفي

عزمهما أن يمارسا فن التمثيل وقد مثلا بعض الروايات في تياتروزيزينيا في الإسكندرية وأثنى الجمهور عليها كثيراً لأنهما كانا مقتدرين في فن الإنشاء والتمثيل معاً. ومن الروايات التي شخصاها رواية أندرومارك لراسين المؤلف الفرنسوي نقلها إلى العربية أديب اسحق واقتفى مؤلفها في كل ما التزمه من المحسنات اللغوية فجاءت في العربية محكمة كما هي في الفرنساوية. وكأنهما رأيا كثرة نفقات التمثيل وليس لهما سند مالي فانفصل أديب ونوى أن يلحق بالصحافة ففي ذات يوم ورد لي كتاب من أخي أمين شميل المقيم في الإسكندرية يقول فيه أن أديب اسحق متوجه إلى القاهرة وفي نيته أن يشترك مع أنيس خلاط صاحب جريدة الجريدة العربية الوحيدة التي كانت تطبع فيها. وقد وصف لي براعته وكنت قد سمعت بها. فلما تعرفت به فتنت بمقدرته في فن الإنشاء مع اتساع مقتبساته مما كان له شأن عظيم في تلك الأيام والنهضة اللغوية في أولها. ومما قرأه لي حينئذٍ مقالة في غاية الإحكام كل عباراتها مقتبسة وليس له فيها غير التنسيق والربط فأسكنته معي وعرفته ببعض نوابع تلك الأيام كالشيخ محمد عبده واللقاني ولطيف سليم وغيرهم ممن كانوا يجتمعون كل مساء تحت لواء الشيخ جمال الدين الأفغاني في قهوة بالقرب من البوستة القديمة. ولما أبدى لي أنه آتٍ ليشترك في تحرير جريدة أنيس خلاط لم أستصوب رأيه لعلمي أن الجريدة المذكورة ليس لها شأن فخفت أن تؤثر على مطلعه فلا تبدو حينئذٍ مواهبه كما يجب. ووددت له الإستقلال في العمل. فأشرت عليه أن ينشئ جريدة باسمه وكأنه استصعب الأمر جداً فقال ومن أين لي المال اللازم وذكر لي أن تقلا كلفته الرخصة نحو مائة ليرة. فشجعته وقلت له لعلي أستطيع أن آخذ لك رخصة بلا نفقة تذكر. وأما الطبع فيكون في أول الأمر بالأجرة المؤجلة. وفي الحال قمت معه إلى نظارة الداخلية وكانت الأعمال يومئذٍ تجري بالنفوذ أكثر منها بالنظام. وقابلنا أدوار اليأس من مفتشي الداخلية فعرفته به وأوصيته أن يساعده للحصول على الرخصة فوعدنا الرجل خيراً وبراً بوعده. فقدم أديب حينئذٍ طلباً بإنشاء جريدة أسبوعية اسمها (مصر) ومركزها القاهرة. ثم تركته يمشي وحده لأني رأيته في أمر المداخلة مع الناس أقدر مني جداً فحيث أخطو أنا خطوة يخطو هو خطوات. ولم يمض أسبوع حتى جاءني يقول أن الرخصة جاهزة ويلزم نصف

جنيه فقط لدفع الرسم في المحافظة فنقدته القيمة وكنا حينئذٍ في الطريق متوجهين إلى المطعم للغذاء ومعنا أخي أمين وكان قد قدم إلى القاهرة زائراً في شغل. قلت عن أديب أنه كان مقتدراً جداً في أمر الإختلاط بالناس واجتذابهم إليه فكان يفتن من يجانسه ممن يجالسه فتعرف في هذه المدة القصيرة بكثير من أهمهم له كان بلا ريب عبد السلام المويلحي وكان في إبان نفوذه يومئذٍ فأعجب بأديب جداً وأصبح له صديقاً حميماً وسنداً مالياً عظيماً كما كان له بعد ذلك جبرائيل مخلع من وجهاء التجار السوريين في الإسكندرية فلم يصادف صعوبات كثيرة في إصدار جريدته في القاهرة ولا في نقلها بعد ذلك بأشهر قليلة إلى الإسكندرية. ومن أول ما ظهرت جريدة مصر انتشرت انتشاراً عظيماً والتف حولها أشهر كتاب مصر في تلك الأيام من مصريين وسوريين. وقد تمكنت الصداقة بين أديب وجمال الدين ورجاله حتى صارت جريدة مصر لسان جمال الدين وحزبه بل صارت معروفة بين الجميع أنها لسان الحزب الوطني. وهذه أول مرة ذكر فيها اسم هذا الحزب في مصر فيما أعلم. وكانت مرامي هذا الحزب ضد. وهي التي انتهت بعد ذلك بالثورة العرابية.

أمالي أدب

أمالي أدب بين ظهرانينا أديب فضل لا يكاد يتخلف عن كثير من أدبائنا الذين ملأو الدنيا شهرة، وهو محمد عزت أفندي الذي تكفل للبيان بأن يوافى كل عدد من أعداده بقطعة وافية الأدب العربي يضمنها أطيب ما عثر عليه اختياره من منظوم المتقدمين ومنثورهم مع الشرح والضبط والتعليق، وقد قدم لهذا العدد نبذة طيبة افتتحها بالقول على تفشي العجمة بين الناطقين بالضاد لعهدنا هذا وأن ذلك إنما نشأ من أعراض القوم عن فصيح اللغة والاحتفاظ بالمأثور من بلاغات العرب التي بإدمان النظر فيها والدربة عليها تستقيم الألسنة وتتهذب ملكات البيان ويبقى هذا الدين كتابهم وسنته وشرائعه ومدنياته قائماً محفوظاً معمولاً به، إلى كثير من الأفكار الصائبة التي أودعها مقدمته ثم هجم بعد ذلك على ما قصد إليه من هذا الأملى. قال فمما هو غاية في الإبداع وجمال الأسلوب قول الحارث بن خالد في طول الليل تعالوا أعينوني على الليل أنه ... على كل عين لا تنام طويل ويقال أنه أول من ذكر العلة في طول الليل ذم تبعه الشعراء فقال الفرزدق واسمه همام بن غالب وكنيته أبو فراس يقولون طال الليل والليل لم يطل ... ولكن من يهوى من الوجد يسهر واحتذى أبو معاذ بشار بن برد حذوه فقال أظن الدجى طالت وما طالت الدجى ... ولكن أطال الليل هم مبرحِ وقال الوليد بن يزيد لا أسأل الله تغييرا لما صنعت ... سعدي وإن أسهرت عيني عيناها فالليل أطول شيءٍ حين أفقدها ... والليل أقصر شيءٍ حين ألقاها فذكر العلة في طول ليله وزاد عليها العلة في قصره وجاراه مؤيد الدولة الطغرائي فقال ليلي وليلي نفي نومي اختلافهما ... حتى لقد صيراني في الهوى مثلا يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالوصل ليلي وإن جادت به بخلا ثم جاء من امتثل قول الفرزدق وثنى بقول الوليد فقال أخو الهوى يستطيل الليل من سهر ... والليل من طوله جار على قدره ليل الهوى سنةٌ في الهجر مدته ... لكنه سنةٌ في الوصل من قصره أما علي بن العباس الرومي خواص الشعراء فقد رمي الغرض الأقصى في طول يوم

الهجر فقال: يحول الحول في الوصل ... ويبقى لي تذكاره ويوم الهجر والبين ... كيوم كان مقداره يشير إلى قوله تعالى (كان مقداره خمسين ألف سنةٍ) وربما ضربوا صفحاً عن ذكر العلة في طول الليل أو اليوم وقصره لأن الحال تقتضيها أو أن ذكرها من قبيل الإتيان بما لا يشك فيه ما دام الإجماع على سرعة انقضاء ساعات السرور وبطء مرور مضاداتها واقعاً في النفوس ومن ذلك قول امرئ القيس بن حجر الكندي ألا أيها اليل الطويل ألا انجلي ... بصبحٍ وما الأصبح منك بأمثل فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل كأن الثريا علقت في مضائها ... بأمراس كتان إلى صم جندل ويذبل اسم جبل ببلاد الحجاز وكثيراً ما يسمى بيذبل الجوع لأنه مجدب أبداً. والأمراس جمع مرس. وهو الحبل. وصم. صلاب واحدها أصم والأنثى صماء والجندل الصخرة والجمع جنادل. وهذا معنى لطيف ظريف لم يتفق لكثير بعده أما بلاغة الأبيات فهي النهاية في الإبداع. فإنه لما توهم أن النجوم مشدودة بالحبال في الجبل جعل الحبال محكمة الفتل وأنها من الكتان ليدل على متانتها وعجز النجوم عن قطعها وخص الجبل بيذبل لأنه صخري والصخر قوي يصعب نزع الأمراس المشدودة عليه. ثم أفرد الثريا بالذكر من بين النجوم ليدل على شرفها وتقدمها. وكانت هذه عادة العرب في تعظيم الثريا وأنهم إذا ذكروا جملة أن يفردوا أشرفها عندهم وأعظمها وقعاً في نفوس ويخصون بالذكر كما في قول إمرئ القيس. وقد جاء في القرآن الشريف مثل هذا ومنه قوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان والنخل والرمان من جملة الفاكهة. أما أصرم بن حميد فقد جعل الكواكب مقيدة ولم يتعرض لبيان نوع القيد كما فعل إمرؤ القيس. قال وليل طويل الجانبين قطعته ... على كمد والدمع تجري سواكبه كواكبه حسرى عليه كأنها ... مقيدة دون المسير كواكبه

ومن الشعر المليح الخفيف الروح قول كشاجم في قصر الليل وليلةٌ فيها قصر ... عشاؤها مع السحر صافيةٌ من الكدر ... تقضي ولم يقض الوطر في مثلها ألتذ السهر ... تمحو إساآت القدر وتترك الدهر أغر وقول كشاجم - عشاؤها مع السحر - من قول ابن المعتز ملك الشعراء في التشبيه يا ليلةً كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر وأبلغ ما قيل في سرعة انقضاء ليلة السرور قول محمد بن أحمد العلوي المشهور بابن طباطب وليلةٌ مثل أمر الساعة اقتربت ... حتى تقضت ولم نشعر بها قصرا لا يستطيع بليغ وصف سرعتها ... كانت ولم تعتلق وهماً ولا نظرا

تاريخ سعد زغلول باشا

تاريخ سعد زغلول باشا سنستأنف من العدد القادم تاريخ رجل مصر العظيم ووكيل الأمة الأوحد حضرة صاحب المعالي سعد زغلول باشا - وقد كنا نشرنا كلمات إضافية من هذا التاريخ - الذي كأنه روح تاريخ مصر الحديث والذي تكفل البيان بكتابه - في عدة أعداد من البيان الشهري - وسنستمر في نشر هذا التاريخ حتى يتم بعون الله ثم نظهره بعد ذلك في سفرٍ قائمٍ بنفسه إن شاء الله. دقات قلب المرء قائلةٌ له ... إن الحياة دقائق وثواني شوقي رأيت الدهر يرفع كل وغدٍ ... ويخفض كل ذي شيمٍ شريفه كمثل البحر يغرق فيه حيٌ ... ولا تنفك تطفو فيه جيفةُ ابن الرومي

العلم والفلسفة

العلم والفلسفة ميت يصف العالم الآخر السر أوليفر لودج علم من أكبر علماء هذا العصر. وكان رئيس المجمع العلمي البريطاني. وهو الآن مدير جامعة برمنجهام وقد أحدث في هذه السنين ضجة كبرى بين أساطين أهل العلم الحديث. وانتصر للمتدينين والمؤمنين. إذ لا يزال يؤيد مذهبه الجديد في وجود الروح والعالم الآخر وتحضير الأرواح ومخابرة الموتى. وقد استطاع إلى الآن أن يقف أمام أعدائه العلماء الآخرين ويناضل إزاءهم بحجج قوية وأدلة مدهشة. وقد وضع في هذه الأيام كتاباً أسماه (رايموند أو الحياة والموت) فكان للكاتب رجفة أخرى بين العلماء الطبيعيين - ورايموند هذا هو ابن أوليفر لودج نفسه. مات قتيلاً في هذه الحرب في ميادين فرنسا في شهر سبتمبر من العام - 1915 - والكتاب يدور حول رسائل ومخابرات تلقاها أوليفر لودج من ابنة في العالم الآخر. على لسان (وسيط) من الأحياء نومه تنويماً مغناطيسياً. وكان بدء تلقيه هذه الرسائل في الثالث والعشرين من سبتمبر أي بعد انصرام عشرة أيام من وفاة نجله وفحوى هذه الرسالة أن حياة رايمون لم تنته بموت جسمانه بل قد أنبأ أباه أنه نام بادئ ذي بدء بضعة أيام ثم أخذ يتبين شيئاً فشيئاً أنه في عالم جديد وأنه اندهش لأول وهلة أن رآه يشبه في مظهره مظهر العالم الذي تركه ولم يكن يظن أول الأمر عن ما تيقظ من سباته أنه سيكون سعيداً بعيشه. ولكن هذا الإحساس لم يلبث أن زال بتة وألفى له عملاً يقوم به. وقال أنه التقى بأصدقاء كثيرين له وأنهم جعلوا بعينونه على عمله الجديد. أما عن وصف هذه الحياة فقد قال أنه كان أولاً في حيرة واضطراب فلم يستطع أن يدرك أين هو. ولا المكان الذي وجد فيه ولكنه لم يلبث أن شرح له ذلك وقال أن القادمين الجدد من الكوكب الأرضي يؤخذ أولاً في تفهيمهم ومواساتهم وتهدئة اضطرابهم. وعرف بعد ذلك أن عمله الجديد هو أن يعين في ميادين القتال لا الجرحى ولكن المنتقلين من الأرض إلى عالمه. وقد رأى أن المقاتلين الذين ينتقلون إلى العالم الآخر يظلون بادئ الأمر بإحساسهم الأرضي. وإن بعضاً منهم عند يقظتهم يتقاتلون ويتضاربون أو يريدون ذلك. قال رايمون بعد ذلك ما نصه. والذي هدأ من اضطرابي وجعلني آلف مكاني الجديد هو أن الأشياء كانت تبدو لي حقيقة مادية محسوسة بل إن الأشخاص الذين التقى بهم ظاهرون

يلمسون وأول شخص ألتقي به جده ثم آخرون عرفهم في هذه الحياة وآخرون سمع بهم وقال أن الليل لا يتبع النهار. كما هي الحال في الأرض بل أن الظلام لينتشر إذا أحببنا أن يكون ظلام. وليس الوقت الذي بين النور والظلام واحداً في جميع الأحوال. وقال رايمون أنه يسكن بيتاً مبنياً من الأجر. وإن هناك أشجاراً وأزهاراً وكتباً وموسيقى. وقال أنه لا يأكل لأنه لا يريد ذلك. ولكن هناك كثيرين يأكلون متى يريدون وهم يطاف عليهم بما يلوح شبيهاً بأطعمة الأرض. وكان ريموند هذا في الدنيا ماجناً مزاحاً، ولذلك لا يزال يمزح في بعض رسائله، فقد جاء في إحداها ما يأتي جاءنا شخصٌ منذ أيام. فلم يلبث أن افتقد السجاير وكان يدخنها في الأرض، فظن أن ذلك قد زال الآن وأنهم لا يستطيعون هنا أن يجيؤه بلفافة من التبغ. ولدينا هنا مصانع ومعامل يصنعون فيها أشياء كثيرة. ولكن ليس من المادة كما تفعلون بل من الأبخرة والأثير والهواء. وهكذا جيء إليه بما يشبه السيجارةوإذا رآها الرجل وثب فرحاً بها. غير أنه لم يكد يدخنها حتى طابت نفسه، وبعد السيجارة الرابعة لم يعد إلى طلب التبغ مرة أخرى. والأجسام لا تزل كما كانت. لأنه يتحرك ويمشي كما كان هنا بيد أن الأجهزة الداخلية في البدن قد تغيرت وتبدل نظامها عن نظام جسومنا في هذا العالم. وقال أنه لم ير إلى الآن دماً، وأن له وجهاً وحاجباً وهدباً ولساناً وأسناناً، وأنه قد نبت له سن جديد في موضع السن التي كانت فاسدة في الدنيا. وقد عرف رجلاً كان في هذا العالم مقطوع الذراع. ولكنه الآن ذو ذراعين صحيحتين، وأنه إذا كان البدن مهشماً عند الوفاة، فلا يلبث حتى يستقيم ويعود تاماً مكتملاً. وأنه أحب في أول الأمر أن يلبس أثواباً تشبه الأُواب التي كان يرتديها في الدنيا، فكان ذلك. ولكن الناس هنا تلبس سرابيل بيضاء. فلم يسعه إلا أن يحتذي حذوهم. وقال أخيراً أن الناس في العالم الجديد لا يتزوجون ولا يلدون، وأن العاطفة بين الرجال والنساء قد تغيرت، ولاسيما بين المرء وزوجه، ولكن لا تزال العاطفة باقية بين الأم وابنها والأب وابنته. وأنبأ ريموند أباه كذلك أنه يسكن في الطبقة الثالثة وتسمى أرض الصيف وفي هذه الطبقة طرق ومنازل وأشجار وأزهار، وأنه يوجد طبقات فوقها وأخرى دونها، وأن أرض الصيف هذه قريبة من الكوكب الأرضي، وأن النجوم لاتزال ترى كما كانت

ترى في الأرض، ولكنه فقط يحس أنها أقرب إليه وأوضح مما كانت، وكذلك الشمس وأن الإنسان يساق إلى المكان المعد له. فإذا أردت أن تنتقل إلى حال أحسن من الحال التي أنت بها، فعليك أن تظهر الكفاءة لإحرازها.

الزراعة والصناعة

الزراعة والصناعة حتى تتوفر في هذه المجلة جميع مطالب القراء فتحنا هذا الباب - باب الزراعة والصناعة - فبادر أستاذان أخصائيان في هذا الفن هما الأستاذ نعمان محمد مدرس علم الحشرات في مدرسة الزراعة العليا والأستاذ محمد مختار الجمال الموظف بوزارة الزراعة وكتب لنا الأول موضوع الدودة القارضة وكتب الأستاذ مختار موضوعاً في الألبان سننشره في العدد القادم. الدودة القارضة أو دودة البرسيم الدودة القارضة - وهي الدودة المعروفة عند الزراعيين باسم دودة البرسيم وسميت بالدودة القارضة تبعاً لعاداتها لأنها تقرض النباتات وتتغذى بالأجزاء المقروضة منها، والإسم العلمي لهذه الدودة هو هي إحدى الحشرات الضارة التي تفتك بمزروعاتنا فتكاً شديداً فتصيب القطن الحديث الزرع وتقرض سيقانه عند سطح الأرض وكذلك تصيب البرسيم والذرة الصفراء. وقد انتشرت الدودة القارضة هذا العام انتشاراً عظيماً وفتكت بمحصول البرسيم فتكاً ذريعاً حتى اضطر الفلاحون لإعادة زراعته أكثر من مرة وفي بعض الجهات استعاضوا عنه بزراعة مخروط من البرسيم والشعير أو الشعير وحده حتى لا يعدموا غذاء للمواشي زمن الشتاء. وقد كثر الكلام في الجريدة اليومية عن وصف هذه الآفة وما تسببه من الضرر فوصفها بعضهم بأن لها فمين تلتهم بهما المزروعات وبالغ في طولها لدرجة كبيرة. وسآتي في هذه الرسالة الصغيرة على وصف الحشرة في أطوارها المختلفة وتاريخ حياتها وطرق إبادتها. تتولد الدودة القارضة من فراشات كبيرة الحجم نوعاً يبلغ طول جسمها سنتيمترين وهي أكبر من فراشات ديدان القطن المعروفة، ولون هذه الفراشات أسود مسود وكذلك لون أجنحتها الأمامية أما أجنحتها الخلفية فهي بيضاء مسمرة، تظهر هذه الفراشات بالليل وتضع إناثها بيضها مفرداً على النباتات فيوضع على سيقانها والسطح الأسفل من أوراقها

وتضع الأنثى مئات من هذا البيض، ويفرخ البيض بعد أربعة أيام أو خمسة وتخرج منه يرقات صغيرة ذات لون مخضر تتغذى بأوراق النباتات في الإبتداء فإذا كبرت أخذت تقرض سيقانها وتتغذى بها، وتظهر اليرقات في الليل لتتغذى وتختفي بالنهار بين كتل الأرض والحشائش النامية وغيرها وتستمر اليرقة في عملها المتلف مدة عشرين يوماً حتى يتم نموها ويبلغ طولها إذ ذاك أربعة أو خمسة سنتيمترات ويكون لونها أخضر معتماً وعند ذلك تنزل إلى باطن الأرض وتصنع حول نفسها شرنقة من الطين وتتحول داخلها إلى عذراء وهي صغيرة الحجم يبلغ طولها سنتيمتراً ونصفاً ولونها أحمر غامق ويمكن الحصول عليها بالبحث تحت النباتات على بعد ثلاثة أو أربعة سنتيمترات من سطح الأرض وتمكث الحشرة في هذا الطور أسبوعين تقريباً إلى أن يخرج منها الفراش السابق الذكر فتتزاوج الذكور والإناث وتضع الأخيرة بيضها كما سبق الوصف. للدودة القارضة عدة أجيال في السنة أي أنها تظهر في أوقات مختلفة تصيب النباتات كالقطن والبرسيم والذرة وغيرها من المحصولات. ولمقاومة هذه الآفة تتخذ الطرق الآتية: (1) عند إصابة البرسيم يجب أن يحش ويروى أو تمرر مندالة على الأرض أثناء الليل لقتل اليرقات، ويجب قبل ذلك أن تحاط الأرض المصابة بخنادق صغيرة تملأ بالماء ويوضع عليه قليل من غاز البترول لمنع اليرقات من الإنتقال من قطعة لأخرى وإذا لم يتيسر وجود البترول فيرش على الحافة الخارجية للخنادق قليل من الجير حتى إذا عبرت اليرقات الماء ووقعت في الجير ماتت حالاً. (2) عند ظهور الإصابة في غيط يمكن حصره كما سبق القول وتوزيع طعم سام به لقتل اليرقات عندما تتغذى به. ويتركب الطعم السام من جوهر سام كزرنيخات الرصاص يخلط مع مادة أخرى كالنخالة وبعد عجنهما بالماء يضاف إلى المخلوط قليل من العسل الأسود ثم يوزع المخلوط في الغيط وعندما تظهر اليرقات بالليل تتغذى به أولاً لأنها تحب المواد العسلية فتموت قبل أن تحدث تلفاً. ويمكن الاستعاضة عن النخالة بنبات أخضر كالبرسيم أو الذرة بعد تقطيعه قطعاً صغيرة ويتركب الطعم السام بهذه النسبة: - رطل من الجوهر السام وخمسةٌ وسبعون رطلاً من النخالة وقليل من العسل الأسود.

وعند استعمال هذا الطعم يجب الاحتراس من وجود المواشي والأغنام بهذه الجهة. (3) إذا كان البرسيم التحريش (القلب) مصاباً فيحسن حشه وحرث الأرض جيداً لتعريض اليرقات والعذارى للنظر حتى يسهل إلتقاطها باليد وكذلك تتعرض للطيور فتلتقطها، وللمؤثرات الجوية كالشمس تأثير عليها كذلك.

الطب وتدبير الصحة

الطب وتدبير الصحة من بين أبواب البيان الأسبوعي كما بينا في المقدمة باب الطب وتدبير الصحة. وقد أحسنت إلينا الأقدار وهدتنا إلى حضرة النابغة الدكتور محمد عبد الحي الطبيب بالمستشفى العباسي والأخصائي في الأمراض الباطنية والعصبية والأطفال فتعهد حفظه الله وأكثر من أمثاله الصادقين المخلصين أن ينهض بهذا الباب وأن يقدم لكل عدد من أعداده شذرات مفيدة في تدبير الصحة وأخر ما وصل إليه الطب الحديث. فتاوى طبية وزادنا الدكتور معروفاً وعم قراءنا جميعاً بفضله بأن أخذ على نفسه أن يجيب في البيان على كل سؤال طبي يرسل إلى البيان مهما كان موضوعه ومصدره. نصيحة إلى القراء ومن هنا ننصح إلى جميع قراءنا أن لا يتأخروا عن إرسال أي سؤال طبي يريدون الاستفتاء عنه ومتى وصل إلينا السؤال عرضناه على الدكتور ونشرنا السؤال والجواب معاً في عدد واحد - وهنا ننشر النبذ الأولى التي أهداها الدكتور إلينا. تأثير عصير الفاكهة في الأطفال يصل الأطفال في بعض الأحايين بل في كثير منها إلى حال من الضعف والهزال ليس معها رجاء إذ يبدو الطفل هيكلاً عظمياً يكسوه جلد رقيق متجمد مندمل فغي أكثر من موضع ومع الضعف الشديد إسهال أشد وأرق ملازم وسهد. ولقد جرب الدكتور جلادستون أخيراً عصير الفواكه في هذه الأحوال المستعصية فأتى بفوائد جمة ونجح في تجربته نجاحاً تاماً وقرر أن جزأين من عصير البرتقال وجزءاً من عصير التفاح يعطي الطفل من مزيجهما ما يقارب ثلثي اللتر يومياً مع إضافة غذاء صالح بعد اليوم الأول يحوي قليلاً من الزلال والدهن وكثيراً من السكر هو خير علاج، وقال في إحصائيته أن الطفل ربما فقد قليلاً من وزنه في المبدأ ولكنه سرعان ما يستعيض ذلك في أواخر الأسبوع الأول من العلاج، وقال أن تأثير العصير يرجع إلى حمضيته التي تمنع الميكروبات من النمو في الأمعاء إذ هذه لا تنمو إلا في وسط قلوي وقال أن العصير مقوي ومنظف للأمعاء ومدر للبول ومعرق، وطريقة تحضير العصير سهلة للغاية إذا وجد البرتقال فيؤخذ عصيره

ويضاف إليه عصير التفاح الذي يؤخذ فيغسل ثم يقشر ويضغط حتى يخرج العصير إذا لم يوجد البرتقال يستعاض عنه بعصير البطيخ وإن يكن الأول أفضل ولقد جرب أيضاً عصير الشليك والكرز والموز بنجاح أيضاً لكن يستحسن في هذه الحالة إضافة قليل من عصير الليمون لعمل الحمضية اللازمة ولقد جربت هذه الطريقة مع كثيرين فنجحت تماماً. الدواء تحت اللسان كثيراً ما تدعو حالة المريض إلى الحقن تحت الجلد أو في العضلات وتلك طريقة لا شك أن في سبيلها بعض الصعوبات ولقد شوهد أخيراً أن الإستعاضة عن الحقن بوضع أقراص من الدواء المطلوب استعماله تحت اللسان حيث يذوب ويمتص قد أتت بنفس الفوائد التي تنجم عن الحقن كالسرعة وحسن التأثير. البيضة السليمة السامة ذكر الدكتور أدلستون أنه عرف فتاة شاهدها لأول مرة وعمرها سنة واحدة وظن ما عندها نزلة معدية حادة فأمر لها بماء زلال البيض حدث عن أثره هبوط عام فأدرك أن السر ربما كان في البيض وإن التسمم نتج عنه لاستعداد خاص فأوقفه ولم يعط غذاء لبضع ساعات ثم أعطاها مرق فرخة صغيرة فتحسنت حالتها وشفيت ومن ذلك العهد منع عنها البيض وما يصنع منه حتى حدث أنها تناولت قطعة كعك بالبيض (روانه) فانحطت قواها وأغمي عليها في الحال وهكذا تكرر ذلك كلما حدث أنها تناولت بيضاً عن خطأ أو من غير قصد. وحكى الدكتور فقال إنها تبلغ الآن (أكتوبر سنة 96) أحد عشر عاماً ولا تزال حالتها كما هي كلما أخذت نوعاً من البيض. كل هذا ليس بالغريب إذا علمنا أن لكل شخص استعداداً خاصاً لكل شيء فما يكون علاجاً لشخص قد يكون سماً لآخر ولقد ذكر الطب كثيراً من أمثال هذه الشواهد.

تقويم العالم

تقويم العالم نبي زيلنده وأورشليم الجديدة إن أعجب ما في الأرض اليوم أنها لاتزال في عدة أصقاع منها تحتفظ بصورتها القديمة التي خلقها الله فيها. فنحن اليوم أهل القرن العشرين، ولكن لا يزال على وجه هذه الأرض التي تحملنا أمم وشعوب وقبائل لم تبلغ بعد في التقدير التاريخي حدود القرن الأول: إن هذه الذوائب مقدسة، وإنها لم تقص إلى الأبد، وستبقى متراخية آخر الحياة، ولهذا أعد غلاماً خاصاً به يمشي ورائه دائماً للعناية بضفائره، وهو يقول أنه في ذلك مثل يوحنا المعمدان (يحيى بن ذكريا) إذ كان يعيش في البرية، مسترسل الشعر، مرخى الذوائب، وإنه مثل شمشون الذي كانت قوته في شعر رأسه، ثم عمد إلى تقليد سليمان فأعلن أنه يريد أن يكون له أكثر من زوجة واحدة وجاء بدليل من التوراة وهو الإصحاح الرابع من سفر أشعيا إذ جاء فيه أن سبع نسوة يمسكن رجلاً واحداً، وأنه هو هذا الرجل، وأن هؤلاء النسوة يجئنا إليه دون أن يبحث هو عنهن، وكذلك جاء إليه القوم بهن، ومن كل قبيلة واحدة. وطلب إليهم كذلك أن يكون له معبد، لأن سليمان كان له معبد. ويجب أن يكون مكانٌ لحرمه ومقامه، فبنى المعبد والمكان والحرم وأحضرت إليه أموالٌ طائلة لنشر دعوته وتوطيد دعائم ملته. وله الآن إثنا عشر من أئمته وصحابته، يتخذون حذوه في إرسال شعر رؤوسهم، ولا يشربون مثله التبغ، والذي من أمره أن اعتاد أن لا يخرج يده اليسرى من جيبه. وهو يقول أن قوته في هذه اليد، ومن ثم ينبغي أن يحميها من أعين الناس. وهو يعيش في أورشليم الجديدة عند سفح جبال روكى في أبهة الإمارة والسطوة والجلال الديني، وقد حاول كثيراً أن يجيء بمعجزات له، فقد حدد منذ سنين يوماً إدعى أن الملك إدوارد السابع سيزور فيه زيلنده وينزل ضيفاً عليه، فلما لم يحضر الملك بالطبع عرف النبي روا كيف يعتذر لأصحابه إذ قال أن إدوارد السابع كان سيحضر بالتأكيد. ولكنه منعه لأنه شهد أن إيمانهم به لم يصر بعد قوياً كما يريد.

ووعدهم يوماً بأن يمشي على الماء فاجتمع خلق كثير عند البحر ليرقبوا المعجزة. فلما كان الميعاد جاءهم فقال أتعتقدون أنني أستطيع أن أمشي على الماء؟. . فأجاب الجميع نعم فلم يكن منه لا إن قال حسن جداً. إذاً فلا لزوم لذلك ما دمتم تعتقدون أنني سأفعل وامتطى صهوة جواده. وانطلق عادياً.

تفاريق

تفاريق كم عدد أجدادك؟ لا أظنك من النبلاء فتستطيع أن تفخر بسلسلة طويلة من الأجداد والآباء، ولكننا جميعاً في الحقيقة من الرفيع إلى الوضيع متساوون في عدد أجدادنا، وهناك سؤلا يدهش صحابتك وأصدقائك إذ تسأل يوماً كم عدد أجدادك الذين انحدرت منهم مباشرة منذ عشرين جيلاً؟ وجواب ذلك أن لك في الجيل الأول أبوين (أمك وأبيك) وفي الجيل الثاني أربعة آباء (جدان من ناحية الأب وجدان من ناحية الأم) وفي الجيل الثالث ثمانية وفي الجيل الرابع ستة عشر. وهلم. وإذا استرسلت في حساب ذلك وجدت أن عدد أجدادك في هذه المدة هو 1. 048. 586 وإذا اعتبرنا أن كل قرن يحتوي ثلاثة أجيال - وهذا تقدير على التقريب - نتج من ذلك أنه كان لك حول عام 1250 من الميلاد مليون وثمانية وأربعون ألفاً وخمسمائة وستة وسبعون من الناس تجري دماؤهم لآن في عروقك. إحدى خرافات اليابان إذا حدث يوماً أن رجلاً متزوجاً وقع في حب امرأة غير زوجته وتملكته فتنتها، حتى ثارت الغيرة في فؤاد امرأته، فماذا يظن هذه مانعة؟ إنها لا تلبث أن تصنع صورة عشيقة زوجها من القش فتأخذها في صميم الليل إلى المقابر أو غيرها من الأماكن المقفرة النائية وتصلبها في جذع شجرة، ثم تعاودها كل ليلة فتدخل في الصورة مسماراً وهي ضارعة إلى الآلهة أن يجعل بموت مزاحمتها، وأهل اليابان يعتقدون أن وضع هذه المسامير في الصورة لا يلبث أن يأتي بالمرض للعشيقة، وأنها تأخذ بعد ذلك في الضمور والهزال والمرض حتى تفارق الحياة.

حوادث الأسبوع

حوادث الأسبوع مات اليوم فيلسوف الشرق مات الدكتور شبلي شميل. مات اليوم فيلسوف العرب بل الشرق كله في القرن التاسع عشر. مات الرجل الحر الذي صدع أغلال الجمود وأمعن في حرية الفكر وحرية القول بين أقوام عرفوا بالجمود والتنطع في المحافظة على القديم، الأمر الذي سبب مغالاة هذا الرجل الكبير في تمرده على الذين فإن الضغط الشديد يحدث دائماً الانفجار الجديد الشديد. مات الدكتور شبلي شميل والموت حتى وكل من عليها فان ولكنها الأثرة وحب الإنسان نفسه وخوفه من الغيب كل ذلك جعله يتثبت بهذه الحياة الدنيا على الرغم من تزاحم كدارها، وأعماه عن هذه الحقيقة الملموسة (الموت) التي نراها بأعيننا وآذاننا كل يوم بل كل ساعة بل بين كل غمضة عين وانتباهتها ومع ذلك لا تعتبر ولا تنفع الذكرى فمثلنا في ذلك مثل قطيع من الغنم تهجم عليه الذئاب من حين إلى حين وكلما هجمت ذعرت الأغنام وطارت شعاعاً حتى إذا توارت الذئاب عنها تضامت واطمأنت ومضت لطيتها كأن لم يكن ثمت شيء. غريب مع ذلك أمر هذه الحياة التي هي أشبه برواية تمثيلية مرسخها الأرض وليلها الستر والنهار الملعب. غريب أمرها جداً - أمرها المضحك ولكنه الضحك الذي كالبكاء فقد لقينا الدكتور قبل نعيه بيومين - يومين فقط - وقد كان ممتلئاً صحة وعافية ومرحاً على الرغم من شيخوخته وإسناده في حدود السبعين. وأخذ يسمعنا إحدى روايات الشاعر راسين وقد نقلها إلى العربية شعراً منسجماً يقطر عذوبةً وقد كان في عزمه أن يطبعها ويقدمها إلى الأجواق العربية لتمثلها في مراسحها ثم انتقلنا بعد ذلك إلى حديث مذكراته التي وضعها في أيامه الأخيرة وضمنها كل شيء وأبى إلا أن ينشرها في البيان الذي كان يحبه ويحترمه ويعجب به الإعجاب كله ويحنو عليه حنو الأم الرؤم على وحيدها فأخذنا منه المذكرات التي يرى قراؤنا اليوم الأول منها منشوراً في هذا العدد - وأول الغيث قطر ثم ينهمل - ثم فارقناه على أن نتقابل اليوم الاثنين أول يناير سنة 1917 فما جاء اليوم حتى كأنا أحسسنا موته واستحالة لقياه فصادف أن حال عملنا دون مقابلته وكان ذلك حوال الساعة العاشرة صباحاً فاكتفينا بأن نكلمه بواسطة التلفون فما كدنا نضع السماعة على الأذن ونسأل عن الدكتور حتى سمعنا هذه الكلمة لقد توفى الدكتور الساعة فما كان

أهولها من ساعة، وكان ذلك بعد أن طبعت المذكرات وجميع موضوعات العدد وكانت الملزمة الأخيرة في المطبعة فما كان إلا كلاً ولا حتى أوقفنا العمل، وكتبنا هذا النعي على عجل والنية إن شاء الله أن نعيد الكرة ونوفي هذا النابغة حقه.

النقد

النقد أرسطو ولطفي السيد بك نحن نعلم وكل الناس ولا ريب يعلمون، أن العلم الجديد قد نسف جميع آداب القديم. وأن الفلسفة العصرية قد جاءت فهذبت فلسفات اليونان. وإن أرسطو وأفلاطون وتلاميذهما قد اضطجعوا الآن فوق رفوف المكاتب، ولا نهضة لهم إلى الأبد، وأنهم لا يجدون فتيلاً في تهذيب حياة هذا الجيل الذي خرجت فيه عدة من الأذهان القوية التي جمعت في أدمغتها جميع أدمغة الذين جاؤوا قبلها، وإن شوبنهور وسبنسر ونيتشه وروسو وفولتير وستندال وأضرابهم من الفلاسفة المتأخرين قرأوا أرسطو وجميع أدب اليونان وفلسفتهم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً مما وضعوا من الآراء والفلسفات. هذه قضية لا تحتاج إلى الجدال، ولكن لطفي بك السيد، الذي يجلس في وسط أكثر من مائة ألف مجلد من الكتب الحديثة والقديمة، أبى إلا أن يذهب فينبش عظام رجل ميت رضي بنصيبه من التاريخ ونام إلى الأبد، وأصر على أن يذهب على رفوف كتبه فيسحب أول كتاب من كتب الدنيا ليطلع به إلى آخر ناس وجدوا اليوم على الأرض، ونسي الكتب البديعة التي تحف من حوله والمؤلفين العصريين الذين يطلون عليه من الدواليب، يتلهفون على نظرة منه. إن ترجمة أرسطو يا سيدي البك أو محاولة ترجمته فقط فضيحة كبرى للعصر الذي نعيش فيه، وسيخرج أرسطو للناس على يديك فيصيح بالقراء. . معذرة أيها السادة. إنني لم أكن أبداً أريد أن أطلع إليكم، ولم أكن أريد أن أفارق أكفاني. ولكن صاحبكم هذا أبى إلا أن يقلقني في ضجعتي، وينتزعني من مكمني لفرجة الناس علي. أنا لا أفيدكم الآن شيئاً يا سادة. لأنني قديم. قديم. جداً. وكنت أهذي في أول عهد الناس بالهذيان فسموني فيلسوفاً. إذن أقفلوني أيها القراء وافتحوا تلاميذي فلاسفة المدينة والنور.

اسمعوا أيها الأطباء

اسمعوا أيها الأطباء نحن نحترمكم أيها الأطباء ونؤمن بضرورة صناعتكم، وكثيراً ما لزمنا الفراش ثم أبللنا على أيديكم، وكانت لنا نساء وصبية وأفراخ نخاف عليهم الموت فآمنتمونا من خوفنا بحقائبكم ومشارطكم وسماعاتكم وأدوات طبكم، وكنا نصر على أن لا تظهر أزواجنا وفتياتنا وقريباتنا على الغرباء، فاضطررنا إلى أن نأذن لكم في دخول مقاصيرنا وخدورنا ومخادعنا لثقتنا بنفعكم، واطمئناننا إلى عونكم، ولكن ماذا تقولون يا سادة إذا كنا قد سمعنا اليوم عنكم كلاماً سيئاً، وقرأنا في حقكم نقداً مؤلماً، ورأينا لكم اليوم عدواً رهيباً، لا من السوقة، ولا من العاديين، ولا من المتفلسفة الكاذبين، عدواً يستحق الإعجاب والإكبار، عدواً يهاجمكم جميعاً على كثرة عديدكم، ويثب إليكم في وجوهكم، وأنتم قوةٌ لا يستهان بها. أتعرفون من هو هذا العدو الجديد؟ هو اكبر كتاب إنجلترة في هذا العصر، هو فيلسوف من مشورى الفلاسفة، وروائي من خيرة الروائيين، هو برناردشو صاحب رواية الإنسان والإنسان الأعلى، وقيصر وكيلو بطره، ورجل الأقدار وغيرها، وقد اجترأ على أن يضع عنكم رواية مسرحية، تمثل غي دور التمثيل، وتقدم لتفكهة الجماهير، هي رواية ورطة الطبيب ولم يكتف بذلك بل وضع عنكم كتاباً صغيراً شرحاً لروايته، ونقد المسائل كثيرة تخصكم. فماذا أنتم صانعون يا سادتي الأطباء؟ أتظلون صامتين، مادامت عياداتكم حافلة بالمرضى، وجيوبكم ممتلئة بالفوزيتات والجراثيم والعدوى والإهمال والطبيعة تعمل لصالحكم، أم نراكم غاضبين من هذا الرجل الذي يريد أن يفقدكم ثقة الناس بكم. وتاركين المشرط ساعة واحدة، تتمسكوا بدله القلم فتدافعوا عن أنفسكم وصناعتكم الشريفة وتحطموا حجج شو وسفسطاته، وتخرجوا من المعركة منتصرين مبتهجين. هذا ما هو خليق بكم يا سادة. والآن. نحن نقتصر على أن نقتطف شذرات من الكتاب، وإذا أحببتم نقلناه برمته. وإذا شئتم عربنا الرواية بجملتها. اسمعوا الآن ماذا يقول برناردشو الطب وضمائر الأطباء أسمع أصواتاً مغضبة تتمتم أمثالاً قديمة في نبل صناعة الطب وشرف أهلها. وضمائرهم،

وأنا أجيب هؤلاء أن صناعة الطب لا تظفر بالمكانة العالية، بل إن لها مكانة مذمومة ممقوتة، وأنا لا أعرف رجلاً واحداً أوتى نصيباً من العقل والخبرة لا يشعر بأن متعبة المرض اليوم تسلمك إلى أيدي صناعة أنت في أعماق نفسك تشك فيها كل الشك، لأنها تستعمل أشد أنواع القوة والفظاعة سعياً وراء المعرفة والعلم والتحقيق، وتبرر ذلك بحجج واهية كما قد تبرر أنت إحراق لندن بأسرها لاختبار نوع جديد من المطافئ، ثم لا تكتفي بذلك بل إنها لتزعج الناس ثم تواسيهم وتهدئ روعهم بأكاذيب من السخافة والحمق. هذه هي حال صناعة الطب اليوم، وقد نستحقها وقد لا نستحقها، ولكن هذا هو مكانها وحسب، والأطباء الذين لم يعرفوا ذلك بعد، في غفلة من أمرهم. أما عن شرف الأطباء وضمائرهم فيهم قد أصابوا منهما ما أصاب بقية الناس، لا زيادة ولا نقصان، وهل تظن أحداً من الناس يستطيع أن يدعي الإخلاص والبعد عن الغرض في أمر له فيه الفائدة المادية الكبرى وإنه لفوق احتمال الطبائع البشرية أن تقدم إلى طبيباً أدفع إليه ثمن فحصه على شريطة أنه إذا أخطأ موضع الداء أو غلط في الدواء لا يمكن أن يمسك إليه شيء، ومن الخطأ العلمي أن تعتقد أو تذهب إلى أن الأطباء لا يعمدون إلى عمل عمليات جراحية لا لزوم لها ولا حاجة، ويختلقون أمراضاً لا توجد بالمريض، ويمدون في عمر المرض ما شاءوا، ثم لا تنسى هذه الحقيقة النفسية الغريبة، وهي أن مرضاً خطيراً أو موتاً يعلن عن الطبيب كما يعلن الشنق عن المحامي الذي كان يدافع عن المشنوق. تصور أن ملكاً أو فرداً من الأسرة المالكة تألم يوماً من حنجرته أو من معدته، فإذا وصف الطبيب له دواء بسيطاً مثل أقراص من النعناع أو مكمدات باردة، فلن ترى أحداً يحفل به، وأن يذكر الناس كلمة عنه، ولكنه إذا فتح له ثغرة في حنجرته أو قتله، أو استأصل عضواً داخلياً من أعضائه، وجعل الأمة بأسرها متلهفة ليالي وأياماً، هذا والمريض يعاني الأمرين، بين الحياة والموت، فقد ضمن السعادة إلى الأبد، فإن كل غني ينسى أن يستدعيه إذا ظهرت أعراض المرض نفسه في أهل بيته، يعد في نظر الناس أنه لم يؤد الواجب لمريضه. والعجيب بعد هذا أن يترك على الأرض ملك أو أمير حياً إلى الآن.

ماجدولين الجديدة

ماجدولين الجديدة الفصل الأول المرأتان في ليلة ممطرة شديدة الظلام، وقد تولى المساء، وانحدرت المغرب مبعدة، التقت فرقة من الفرنسويين على غرة بفرقة من الألمان على مقربة من قرية لاجرانج، بلد صغير يداني الحدود الألمانية. هناك استحر بينهما القتال واشتدت الملحمة، وخدم التوفيق الفرنسويين وتراجع الأعداء إلى حين منكفئين إلى تخومهم. هذا وقد جلس الضابط أرنولد قائد الفرقة الفرنسوية في كوخ من أكواخ القرية كان لطحان الناحية، وكان في تلك الساعة يقرأ على ضوء مصباح ضئيل عدة رسائل ومخابرات انتزعوها من العدو، وكانت الموقدة مخنوقة الأنفاس هادئة اللهيب، وعلى أرض الحجرة بعض غرائر الطحان وأكياسه، وفي ناحية منها سريره الخشبي الخشن. وبين الحجرة والمطبخ باب قد انتزع خشبه، واستعيض عنه ستر من الخيش، وقد أفرد المطبخ لتمريض الجرحى بعناية جراح الفرقة وممرضة إنكليزية من نسوة الصليب الأحمر، وكان للحجرة باب آخر يفضي إلى فناء الدار فأغلقوه، وعمدوا إلى النافذة فأوصدوا خشبها، وقامت الحراس على منافذ القرية ومناحرها ترقب وتحرس، ولم يترك القائد وسيلة من وسائل الحذر إلا أقامتها ليكفل له ولرجاله ليلة راضية هادئة. وبينما هو مستغرق في تلاوة أوراقه وكتابة ملاحظاته عليها، إذ دخل الجراح سيرفيل وتقدم إلى مكتب القائد فابتدره الضباط في لهجة خسنة، ماذا تريد؟ فأجاب الجراح - سؤال أريد أن ألقيه إليك - أنحن في أمان الليلة؟ قال الضابط مستر بيا ولماذا تريد أن تعلم؟ فأشار الجراح صوب حجرة الجرحى ثم أجاب إن هؤلاء المساكين في خوف ورعب من الساعات الباقية من الليل، وهم مشفقون أن تطلع علينا داهمة من العدو ويسألون لا ما كانت لهم الليلة ضجعة هانئة طيبة، فهل تعلم من الأمر شيئاً؟ فهز القائد كتفيه

قال الجراح وهو يصر أنت ولا ريب تعلم أجاب الضابط إني لا أعلم إلا أننا أصحاب القرية هذه الساعة، ولا أعرف أكثر من ذلك، وهذه أوراق العدو ورفع الأوراق بيده وهزها مستطرداً في حديثه لا أكاد أرى من خلالها ما أستطيع أن أعتمد عليه وإذ ذاك قام القائد وأرخى عصابة معطفه فوق رأسه وأشعل لفافته من المصباح وتمشى يريد الإنصراف. قال الجراح إلى أين أنت ذاهب؟ أجاب لكي أزور مرابط الحراس! قال الجراح وهل أنت في غنى عن هذه الحجرة برهة من الزمن؟ فأجاب القائد بل ساعات طوالاً. فهل تريد أن تنقل إليها نفر من جرحاك؟ فأجابه الجراح إني كنت أفكر في أمر السيدة الإنكليزية فإن المطابخ ليس بالمكان الخليق بها ولعلها تكون أنعم حالاً في هذه الحجرة وستجالسها الممرضة الإنكليزية. فابتسم الضابط أرنولد وغمر بعينيه ثم قال. إنهما لغادتان جميلتان والجراح سيرفيل عافاه الله بالغانيات شغوف، إذن فدعهما يقيمان هنا إن كانتا جريئتين إلى حد الثقة بالجلوس إليك وحدهما. ثم تحفز للذهاب ولكنه التفت وراءه إلى المصباح متخوفاً وهو يقول وحذر السيدتين أن يطمعا في معرفة ما وراء هذه الجدران؟ قال الجراح لم أفهم ماتريد. فأشار القائد إلى النافذة الموصدة وقال إن النساء يتقن إلى فتح النوافذ، فقل للسيدتين أني لا أريد أن ينم نور المصباح عن مرابضنا فيهتدي إليها الألمان. . . وما حال الجو الآن. ألا تزال السماء تسح بالمطر؟ قال الجراح نعم بل إنها لتعصف بع عصفاً أجاب القائد. ذلك خير لنا. فلن يستطيع العدو اكتشاف مقرناً. وانطلق ففتح الباب الموصد المؤدي إلى فناء الكوخ وخرج، وإذ ذاك رفع الجراح طرف الستر ونادى قائلاً يا مس مريك. ألديك وقت للراحة الآن؟ فأجابه صوت ناعم يختفي في نبراته حزن عميق. نعم لكما وحدكما. وأزاح الستر، فظهرت المرأتان وكانت الممرضة أولهما، تمشي في رفق ممشوقة القد

متثنية رائعة الجمال في لبسها الأسود وأكمامها البيضاء، وعلى كتفها شارة الصليب الأحمر. وكانت شاحبة اللون واجمة الوجه تنم هيئتها عن ألم وحزن صامتين، وفي إطراقة رأسها الجميل ورنوة عينيها النجلاوين السوداوين شيءٌ من السمووالنبل. نريك تقاطيع وجهها وتناسب معالمها جمالاً رائعاً فاتناً، حتى ليدور في خاطرك أنك لتتطلع عليها بهذا الجمال، في أي لباس تلبس وأي موطن تقف وأما رفيقتها فكانت أقصر منها قداً ولا تكاد تدانيها في صباحتها، عليها فواتن من الجمال كانت كافية لأن تحدث هذا الإهتمام الشديد الذي ظهر على الجراح. كانت متشحة في رداء أسود كبير يعم جميع جسمها ورأسها، وكان يدور من ضعف صوتها وتراخي مشيتها أنها متعبة فلما دخلتا قال الجراح، عليكما أن تتذكرا أمراً واحداً أيتها السيدتان، وهو أن تحذرا من فتح النافذة مخافة أن ينفذ منها نور الصباح. وأما بعد ذلك فنحن هنا في راحة طيبة ودفئ، ألا تمالكي يا سيدتي العزيزة جأشك واعتمدي أعلى حماية رجل فرنسوي مخلص إليكي وراح يؤكد كلماته الأخيرة بأن رفع بكل جسارة يد السيدة شفتيه فطبع عليها قبلة حارة. وفي تلك اللحظة أزيح الستر وظهر أحد الممرضين فقال إن ضمادة من الضمادات انفكت وإن الجريح في حالة تنذر بالخطر، فوضع الجراح يد السيدة كمن يستسلم إلى أمر القضاء وانطلق ليباشر واجبه في المطبخ وخلت الحجرة للسيدتين. قالت الممرضة، هلا أخذت لك مقعداً يا سيدتي؟ فأجابتها رفيقتها بلطف لا تدعيني بالسيدة، إن اسمي جريس روزبري وأنت فما اسمك؟ فترددت الممرضة ثم قالت ليس لي اسم جميل كاسمك وترددت ثانيةً ثم عادت فقالت بعد تفكير. نادني بهذا الإسم مرسي مريك! قالت مس روزبري في لهجة حلوة كيف أستطيع أن أشكر لك حنانك وبرك بإمرأة غريبة مثلي؟ فأجابت مس مريك بشيءٍ من البرود لم أعمل غير واجبي فلا تتكلمي عنه قالت الأخرى كيف لا أتكلم عنه. . ما كان أسوأ حالتي يوم لقيتني لما طردت الجنود الفرنسوية الألمان، فقد أوقف العدو مركبة السفر التي كنت فيها وأخذوا الجياد وسرقوا نقودي وأمتعتي وابتلت أثوابي من المطر، وإني لمدينة لك بوجودي في كنف هذا المكان

وها أنا مشتملة في ثيابك. لقد كنت ولا شك سأقضي من الخوف والبرد لولاك. فأي جزاء أستطيع أن أجزيك! فوضعت مرسي مقعداً لرفيقتها بإزاء مكتب القائد وجلست هي عن كثب، على صندوق قديم كان في زاوية من الحجرة ثم قالت ألا تسمحين لي أن أسألك سؤالاً عن نفسك؟ ولم يكن من خلق جريس أن تفتح قلبها لكل غريب، ولكن الموطن الذي التقت فيه بالممرضة والأخطار التي تشاركتها في احتمالها ووجودهما معاً وهما من بلد واحد في موطن غريب كانت أدعى إلى أن لا تكتم عنها شيئاً ولذلك أجابتها عن ود ولطف، وبلا تردد، بل مائة سؤال إن شئت - ثم نظرت إلى المصباح الخافت وقالت إن هذا المصباح الضئيل لايكاد يرسل نوراً، وما أظن أنه سيستمر كثيراً، ألا نستطيع أن نجعل المكان أبهج منظراً، تعال من مجلسك هذا البعيد ومري لنا بوقود ونور. ولكن مرسى ظلت في مكانها وهزت رأسها قائلة إن المصابيح والوقود من الأشياء النادرة هنا، وعلينا أن لا نجزع وإن تركنا في الظلام. ثم استمرت قائلة في صوت أرفق من الأول ألا أنبثيني كيف أقدمت على اجتياز الحدود في زمن الحرب. وإذ ذاك تغيرت ملامح الفتاة وذهبت عنها البهجة ثم أجابت. كان يبعثني على العودة إلى إنجلترة بواعث شديدة. فقالت الأخرى وأنت هكذا وحيدة، لا رجل ولا رفيق معك يحميك. فأطرقت جريس برأسها حزينة وقالت لقد تركت نصيري الوحيد. والذي. في مقبرة الإنجليز برومة وأما والدتي فقضت نحبها منذ سنين في كندا. فتحركت الممرضة في مجلسها عند الصندوق وقد ارتجفت عند سماع الكلمة الأخيرة التي خرجت من بين شفتي مس روزبري. قالت جريس وهل تعرفين كندا؟ فأجابت متململة جيداً ولم تزد قالت مس روزبري ألم تسكني يوماً قريباً من بورت لوجان قالت نعم عشت دهراً على بضعة أميال منها فسألتها ومتى كان ذلك؟. قالت منذ زمان وكأنما أحزنتها الذكرى فخرجت بالحديث إلى موضوع آخر. قالت إن أقاربك الذين في إنجلترة ولا ريب في جزع عليك اليوم

فتنهدت جريس ثم قالت ليس لي فيها قريب، وأنا أوحد الناس في هذا العالم وقد انحدرنا من كندا يوم مرض أبي إلى إيطاليا وذلك بإشارة الطبيب - وأحزاناه أن موته لم يتركني وحيداً فقط بل فقير أيضاً، وتوقفت هنية فأخرجت من جيب معطفها الفضفاض محفظة جلد صغيرة. ثم قالت. ولم يبق لي من أمل في هذه الحياة إلا هذه المحفظة الصغيرة. هذا هو الكنز الذي اجتهدت في إخفائه عندما سرقني الألمان كل شيء. فسألتها مري وهل يحتوي شيئاً من النقود؟ أجابت كلا. إن هي إلا بضعة أوراق شخصية ورسالة من أبي يقدمني بها إلى سيدة كهلة في إنجلترة كانت بينه وبينها علاقة مصاهرة، ولم تقع عيني عليها إلى اليوم وقد رضيت السيدة أن تقبلني في خدمتها كوصيفةٍ لها ومقرئة فإذا لم أرجع الآن إلى إنجلترة على أجنحة السرعة فقد تهجم على المكان امرأة سواي. قالت مس مريك. أوليس لك من مورد آخر للحياة غير هذا المورد. أجابت الأخرى. كلا. لقد أغفلوا في زمان طفولتي أمر تعليمي وتربيتي. كنا نعيش في العالم الجديد عيشةً خشنة موحشة فلست بالتي تصلح لشيء إنما أنا أركن إلى عون هذه السيدة فهي التي ستدخلني في خدمتها من أجل أبي. وهنا أعادت المحفظة إلى جيب المعطف وختمت قصتها بهذه الكلمات إن قصتي لفاجعة محزنة، أفهل ترينها كذلك؟. فأجابتها الممرضة في صوت شجي محزن مرير إن في الحياة لقصصاً أفجع من قصتك. وإن في هذا العالم لألوفا من التعيسات المنكوبات لا يسألنا من علالة أو سعادة إلا أن يبادلنك مكانك. . . فارتجفت جريس وقالت وأي شيء يغبطن في حظ كحظي فانطلقت رفيقتها تقول يغبطن اسمك العف الطاهر، يحسدن خلقك النقي البريء. ينظرن إلى مقامك شريفةً في بيت شريف فتحركت جريس في مجلسها ونظرت إلى ناحية الممرضة نظرة عجب ودهشة وهي تقول ما أعجب ما تقولين. فلم تجب الأخرى ولكن جريس أخذت تدني مقعدها من مجلس الممرضة وقالت أفي حياتك

من سر غريب. وما أعجب إلا من تضحية نفسك واندفاعك إلى هذا الموطن المفزع المخيف، إنك لتثيرين فيَّ اهتمامي، فمدي إليَّ يدك. فانزوت عنها مرسى منقبضة ورفضت أن تعطيها يدها فقالت جريس مندهشة أولسنا صديقتين. فأجابتها كلا. فلن نستطع أن نكون يوماً صديقتين قالت ولم. فظلت الممرضة صامتة. فتذكرت جريس ترددها في ذكر اسمها ففكرت قائلة ألست مصيبة في حدسي إذا قلت أنك لا بد من أن تكوني سيدة نبيلة جئت متخفية؟ فضحكت مرسى في سريرتها. ولكن كان ضحكها مراً صامتاً مبكياً ثم عادت تقول هازئة وأنا سيدة نبيلة، لك الله. دعينا نأخذ في حديث آخر. فازداد فضول جريس وثارت دهشتها فقلت وهي تصر لنكن صديقتين يا عزيزتي. ثم وضعت يدها البضة الناعمة على كتف مرسى من لطف ورقة فنزعتها الأخرى عنها من خشونة وغلظة. وأغضب ذلك رفيقتها فنفرت عنها مغضبةً وهي تقول يا لك من قاسية! فأجابت الممرضة في لهجة أغلظ من الأولى. إني لرفيقة ولست بقاسية فردت عليها الأخرى أليس من القسوة أن تنفري عني وتبعديني هكذا عنك. لقد خرجت لك عن قصتي فاخرجي عن قصتك. فازدادت خشونة الممرضة فرفعت صوتها وقالت بقسوة لا تصري على إغرائي على الكلام وإلا كنت نادمة! فلم يفلح هذا التحذير بل استرسلت جريس في إلحاحها تقول لقد وثقت بك أول أمري، أفضيت إليك بسري فهل تغفلين بعد ذلك أبواب قلبك في وجهي!. قالت مرسى مريك أما وقد أصررت على إغرائي فستعملين إذن كل شيء. ستعلمين كل شيء فاجلسي. وإذ ذاك بدأ قلب جريس يشتد في خفقاته توقعاً لما سيهجم على مسمعها وأخذت مقعدها على مقربة من الصندوق الذي اقتعدته الممرضة - ولكن مرسى مدت يدها فأرجعت المقعد بعيداً عنها قائلة بغلظة لا تقتربي كثيراً مني!. قالت ولماذا! أجابت. انتظري حتى تسمعي ما سأقول فأطاعت جريس دون أن تنبس ببنت

شفة. وكان سكوت. وطفر من المصباح المختنق شعلة ضعيفة كانت آخر أنفاسه فتجلت على أشعته مرسى وهي فوق الصندوق وقد دفنت وجهها في راحتيها ولم تلبث الحجرة أن راحت في ظلمة حالكة. ولما غابت المرأتان في أحناء هذا الظلام انطلقت الممرضة في حديثها. الفصل الثاني مجدولين هذا العصر كان أول ما فاهت به مرسى من قصتها هذا السؤال لما كانت أمك على قيد الحياة ألم تكوني مرة معها بعد منتصف الليل في طرق المدينة. فأجابت جريس إني لا أفهم ما تريدين؟. وإذ ذاك تغير صوت الفتاة وعاد شجيَّ النبرات فياض الأسى. قالت. أنت ولا ريب تقرأين الصحف كبقية الناس فهل قرأت يوماً عن أولئك النسوة الشقيات المكدودات، طريدات المجتمع وشريداته، أولئك النسوة اللاتي ساقتهن الحاجة إلى الخطيئة. فقالت جريس وهي لا تزال في عجب ودهشة أنها قرأت عن ذلك كثيراً في الصحف وفي الكتب. فاسترسلت الفتاة تقول وهل سمعت بأمر الملاجئ التي تحمي هذه النسوة وترعاهن؟ وإذ ذاك بدأت الدهشة تتبدد وتتقلص من ذهن جريس ويحل مكانها ريبة مخيفة ولذلك أجابت تلك أسئلة غريبة فماذا تعنين؟ فعادت الفتاة إلى سؤالها الأول قالت أجيبي هل سمعت بتلك الملاجئ، وهل علمت بأمر أولئك النسوة؟ أجابت جريس نعم قالت في حزن. إذن فأزيحي عني مقعداً قليلاً. وهنا تمهلت هوناً، ثم رجعت إلى الحديث في صوت خافت ساكن فقالت بهدوء، فقد كنت أنا يوماً إحدى أولئك النسوة. وإذ ذاك وثبت جريس من مجلسها وقد خرجت من بين شفتيها صرخة ضعيفة - ووقفت جامدة - لا تستطيع كلاماً واسترسل ذلك الصوت المحزن المبكي يقول، نعم أنا ربيبة

الملجأ وكنت من قبل رهينة السجن. فهل لا تزالين تودين أن تكوني صديقة لي. ألا تزالين تصرين على أن تجلسي قريباً مني وتأخذي يدي في يدك، وانتظرت الجواب فلم تسمع جواباً فاستطردت مترفقة، ألا فانظري الآن. لقد كنت مخطئة إذ دعوتني قاسية وكنت مصيبة إذ قلت لك أنني لرفيقة. وهنا تمالكت جريس جأشها فقالت ببرود، أني لا أود أن أنقبض عنك أو أهينك؟ قالت مرسى متلطفة، لقد اعتدت أن احتمل فضيحة الماضي من حياتي وقذارته، لطالما سألت نفسي أعليَّ تقع جريرة سقطتي، ولطالما سألت ألم يكن لي حق على المجتمع يوم كنت طفلة أجوب الطرق، أبيع أعواد الكبريت ثم يوم كنت فتاة دؤباً أنكب على إبرتي مهزولة من الجوع. وهنا اهتز صوتها فوقفت عن الكلام ولكنها لم تكن أن عادت تقول، ولكن قضي الأمر. أن المجتمع يستطيع اليوم أن يجمع المال لإصلاحي. ولكنه لا يستطيع أن يردني كما كنت. واللآن أنت ترينني في هذا المكان أعمل الخير صبوراً دؤوباً غير جازعة. ولكن ضلة لي وبعداً. ماذا يجديني الخير وماذا يغني عني. إن في كل مكان من هذه الأرض لا يستطيع حاضري أن يمحو ما كان من ماضيَّ. لقد تلاحقت ثلاثة أعوام وأنا أصنع كل خير ومحمده ولكن لا سقياً لخيري ولا رعياً، في لحظة واحدة يستطيع ظل الماضي أن يغثاني أنا وكل خير سقته، إذ ذاك ينزوي عني من كان أحدب الناس علي وينقبض عن ناحيتي أعطف الأكباد وأحن الأفئدة وتمهلت قليلاً، أمن كلمة طيبة أو لفظة عطف تجئ عزاء لها وتأسياً من شفتي رفيقتها. كلا، فقد ظلت مس رزبري مذهولة حائرة لا تعرف ماذا تقول، وبعد جهد تمالكت نفسها فقالت إني آسفة لك، ثم لم تزد. فقالت الممرضة، وكل إنسان يأسف لي وكل إنسان علي حدب رفيق ولكن مكاني مفقود من المجتمع لن يرد علي، لن أستطيع أن أعود كما كنت، لن أستطيع أن أعود كما كنت. وعند ذلك انفجر حزنها بكاءً حاراً مؤيساً ثم مضت تقول أتريدين أن أنبئك بما عناني من شقوة الحياة، أتريدين أن تسمعي قصة ماجدولين في هذا العصر. فتارجعت جريس خطوة واحدة أدركت رفيقتها معناها فقالت لا تنزوي ولا تتراجعي لإغن

سيدة في مكانتكي لن تستطيع أن تدرك معنى الآلام والمتاعب التي عانيتها. إن قصتي تبدأ من الملجأ فقد سرحتني مديرة الملجأ يوماً إلى العمل خارج الدار كخادمة في أحد البيوت فحققت ثقتها بي فكنت خادماً أمينة برة مخلصة ففي ذات يوم نادتي ربة الدار وكانت إمرأة حنوناً صالحة فقالت لي مرسى - إنني أسفة لك. فقد انتهى إلى أنك من أهل الإصلاحية وسأسرح كل خدمي فاذهبي. . فعدت إلى مديرة الملجأ وكانت إمرأة رقيقة كذلك فتلقتني كما تتلقى ابنتها فقالت لي لنحاول مرة أخرى يا مرسى فلا تحزني ولا تيأسي. ثم ألم أقل لك أنني كنت في كندا؟ وشعرت جريس أنها بدأت تهتم لحديث المرأة على الرغم منها فأجابتها بالإيجاب في لهجة حادة مشجعة وعادت إلى مقعدها القريب من الصندوق. وأخذت الممرضة في قصتها. كان مقامي بعد ذلك في كندا في خدمة ضابط وزوجته وكانا من قوم صالحين انحدرا من البلاد الإنكليزية، فنزلت رحماً ولقيت رحمةً وحدباً، وتفتحت فرحة الحياة لي فجعلت أقول لنفسي يا نفس هل رد إليك مكانك المفقود، هل رجعت إلى سيرتك الأولى واختطفت المنية سيدني وجاء الحي قوم جديدون وكانت بينهم سيدة شابة حسناء فبدأ يفكر سيدي في الزواج وقد قضى علي سوء الحظ أن يعدني الناس امرأة حسناء فثار فضول الغرباء فجعل سكان الحي يسألون عني الأسئلة ويتغامزون ويتسارون ولم تكن تشفي غلة فضولهم أجوبة سيدي، فانتهى فضولهم إلى أن اكتشفوا حقيقة أمري فجاءني رب الدار فقال. إني آسف لك جد الأسف يا مرسى. إن ألسنة الناس ترتع اليوم في لحمنا والناس بالأقاويل مفتونون. إننا بريئان ولكن لا حيلة ولا مرد، فيجب أن نفترق، فتركت المكان في الحال. فسألتها جريس وهل رجعت إلى لندن؟ فقالت مرسى بحزن وإلى أين أذهب وفضيحتي في أثري، وعدت إلى رئيسة الملجأ فرأيت المرض قد نزل بأهله فأقمت بينهم ممرضة فوقع أحد الأطباء في حبي وكان يوشك أن يتزوج بي ولكن ربة الملجأ أبى عليها شرفها لا أن تكاشفه بحقيقتي فانصرف ولم يعد بعدها أبدأً فتوالني اليأس، ذلك اليأٍس الذي يوصد مغاليق القلب ويرسل الخشونة في تضاعيف الروح وقد كنت أهم بالإنتحار أو أندفع إلى حياتي القديمة لو لم يعرض لي رجل واحد.

وإذ ذاك ارتجف صوتها قليلاً كأنما أشجتها الذكرى فسألتها جريس، ومن الرجل، وكيف تودد إليك؟ قالت تودد إلي؟ إنه لا يدري حتى الآن بأمري ولا يعلم بوجود امرأة مثلي. قالت عجباً وكيف ذلك؟ فانطلقت مريك تقول في يوم أحد تغيب القسيس الذي كان يعظنا في الملجأ فناب عنه رجلٌ غريب وكان شاباً في عنفوانه وقد أخبرتني الرئيسة أن اسمه جوليان جراي فلما جاءت ساعة الوعظ انتبذت مجلسي في الصف الأخير من المقاعد تحت ظل الصور المعلقة على الجدران بحيث أستطيع أن أراه ولا يراني. ولو سألتني عما يكون من شعور السعيدات لو يسمعنا إلى موعظته لما استطعت أن أعرف عنه شيئاً ولكني أقول أنه يبق في الملجأ من عين لا راحة ثرة بالدموع متفجرة. وأما أنا فقد بلغ صوته أعمق أعماق روحي حتى لقد جعل يأسي يذوب في كل نبرة من نبرات جرسه الممتلئ العميق ومنذ ذلك اليوم وأنا بالحياة راضية قانعة، بل لقد كنت أكون سعيدة راغدة العيش لو كنت استطعت أن أكلم جوليان جراي. فسألتها جريس ما الذي حبسك عن مكالمته؟ قالت كنت خائفة فسألتها جريس ومم خفتي أجابت كنت خائفة من أن أجعل بحديثي إليه حياتي الخشنة أخشن وأفجع. ولو كانت المرأة التي نسمع لها تشاركها في حزنها ونكتبها لاستطاعت أن تفهم معنى ما قلت ولكن جريس لم تدرك غرضها فما زادت على أن قالت أني لا أفهم ما تريدين. فلم يسع مرسى إلا أن تفضي بالحقيقة فتنهدت قائلة كنت خائفة أن أجعله يهتم لأحزاني فأجزيه على ذلك قلبي وحبي. قالت زميلتها في دهشة وبرودة أنت. وهنا نهضت مرسى من مجلسها وهي تقول إنني حقاً أدهشت ولكن لك الله يا سيدتي الشابة الجميلة فأنت لا تعرفين أن القلب وإن يأس وتعذب يأبى لا أن يخفق أبداً وينبض، كنت قبل أن يقع بصري على جوليان جراي لا أعرف الرجال إلا مخوفين مرعبين ولكن لنأخذ في شجون أخرى من الحديث، إن ذلك الواعظ ليس إلا الذكرى الحلة المعسولة بين ذكريات الحياة المؤلمة. والآن ليس عندي ما أقوله لك أكثر مما قلت فقد أصررت على

معرفة قصتي وها أنت قد عرفتها فقالت جريس بوقاحة ولكني لم أسمع كيف استطعت أن تجدي عملك هنا. فتمشت مرسى إلى النار المشبوبة في الحجرة فحركت رمادها ثم أجابت أن لرئيسة الملجأ أصدقاء في فرنسا وصاحبةً لهم علاقة بالمستشفيات الحربية فلم يكن من الصعب أن أجد مكاني هنا ولا سيما في حربٍ عصيبة كهذه. إن المجتمع ليستفيد مني في هذا الموطن، إذ يجد في اليد الناعمة والراحة الحنون والكلمة الرفيقة لهؤلاء المساكين، وأشارت بيدها نحو حجرة الجرحى، فإذا أصابتني رصاصةٌ هوجاء قبل أن تخمد نار الحرب، فمرحباً بها وأهلاً - إن المجتمع يكون قد تخلص مني بأسهل الوسائل. .! وشعرت جريس بأن الإنسانية تقضي عليها بأن تقول كلمة عزاء فظلت هنيهة تفكر ثم تقدمت خطوةً واحدة ولكنها وقفت فعمدت إلى أتفه العبارات العادية التي تقال في أي موطن بأن قالت إذا كان ثمت شيء أستطيع أن أصنعه لك. . ولم تتم جملتها. وإذ ذاك رفعت الممرضة رأسها الجميل ودلفت إلى الستر تريد أن تعود إلى عملها، ووقفت مس روزبري عن كثب لا تدري أي عبارة تقول. وأغضب مرسى هذا الإحساس البليد فقالت وماذا تستطيعين أن تفعلي لأجلي؟ أتستطيعين أن تغيري أمري أتستطيعين أن تعطني اسم إمرأة نقية ومكانها. وأهالي لو كان لي في الحياة حظك. وواهلي لو كانت لي سمعتك وآمالك؟ وعند ذلك وضعت يدها على صدرها متأوهة ثم تمالكت جأشها وعاودت الحديث تقول والآن فامكثي هنا حتى أعود إلى عملي. وسأرى إذا كانت أثوابك قد جفت وستشتملين بثيابي برهة من الوقت. وبعد أن فاهت بهذه الكلمات المحزنة الرقيقة تحفزت للانصراف ولكنها لم تكد تبلغ الستر حتى استوقفتها مس روزبري بأن سألتها هل ترين الجو تغير فإني لا أكاد أسمع صوت المطر على لوح النافذة. . وقبل أن تستطيع الممرضة أن تمنعها خطت إلى النافذة ففتحت ألواحها. فصاحت مرسى بها أغلقي النافذة. لقد حذرنا من فتحها عندما جئنا إلى الحجرة. ولكن جريس أصرت على أن تطل منها.

وكان القمر ينهض في صفحة السماء خافت الوجنة مظلمها وقد انقطع انهمار المطر والظلام يتبدد رويداً في ظل الفجر المقبل، فبعد ساعات تستطيع مس روزبري أن تواصل سفرها وفي ساعات قلائل يطلع السحر على الأرض. وجرت مرسى فأغلقت لوح النافذة بيديها ولكنها لم تكد توصد مزلاجاً حتى صرخ في الجو صوت رصاصةٍ داوية بلغت الكوخ من ناحية أحد المرابض، وأعقبتها رصاصة أخرى أشد دوياً منها. فوقفت مرسى تستمع مرتقبة دوي رصاصةٍ ثالثة. الفصل الثالث القنبلة وانطلق في كبد الليل صوت رصاصة أخرى قريبة من الكوخ فذعرت منها جريس وتراجعت عن النافذة مشفقة خائفة قالت. . ما هذه الطلقات؟ فأجابتها الممرضة في هدوء هي إشارات من المرابض. قالت الآنسة. . أمن خطر يحدق بنا. أترين الألمان قد عادوا؟ وقبل أن تجيب الممرضة ظهرت جراح من خلال الستر فتطلع إلى الحجرة فأجاب إن الألمان يتقدمون نحونا وقد ظهرت طليعتهم للإبصار. فسقطت جريس في مقعدها مرتجفة وتقدمت مرسى إلى الجراح فسألته وهل نحن مستطيعون دفاعاً عن مكاننا؟ فهز الجراح رأسه ثم قال ذلك يستحيل فهم أكثر منا عديداً. وارتفعت أصوات الطبول فقال الجراح وهذه أصوات الطبول تأمر بالقهقرى والقائد رجل صريم العزيمة فقد مضى بفرقته وتركنا نحن نهتم بأنفسنا ويجب علينا الرحيل من المكان. وضاع صوته في وسط الطلقات العديدة الداوية فتشبثت جريس بذراع الجراح وقالت متوسلة ألا خذني معك. ويلاه يا سيدي لقد عانيت من الألمان كثيراً. فنشدتك الله أن لا تتركني إذ هم أقبلوا. وكان الجراح رجلاً خليقاً بالموطن فوضع يد المرأة فوق صدره ثم قال لا تخافي شيئاً وكأنما خيل إليه أنه بذراعه مستطيع أن يصرع جيش العدو عن آخره - ثم عاد يقول. إن

قلباً فرنسوياً يا سيدتي يخفق الآن تحت كفك. اطمئني يا آنسة فإن إخلاصي سيحميكي. وعند ذلك مال رأس جريس إلى كتفه فشعر سيرفيل أنه قد أحسن تزكية نفسه فدار بعينيه يلتمس رفيقتها، وطاب له أن رأى إزاءه حسناء أخرى وله كتف آخر تتطلب إطراقة رأسها. وكانت الحجرة قد أظلمت فلم يستطع أن يتبينها، وكانت واقفة تفكر في أمر الجرحى فقالت تذكره بواجبه. وماذا سيكون من أمر المرضى والجرحى؟ فهز سيرفيل كتفه، ثم قال نأخذ معنا الأقوى فأما الآخرون فيتركون وأنت يا سيدتي لا تخافي شيئاً فسيكون لك في مركبة الأمتعة مكان. قالت جريس متلهفة، ولي أنا أيضاً؟ فامتدت ذراع الجراح حول خصر الفتاة وأجابها عن سؤالها بضمه. قالت مرسى. خذها معك فإن مكاني سيكون بقرب الذين تتركهم! فقالت جريس مندهشة ولكن فكري في أي خطر أنت مقبلة عليه لو أنت تخلفتي عنا! فأشارت مرسى إلى ذراعها اليسرى وقالت لا تجزعي علي فإن هذا الصليب الأحمر يحميني. ودوى صوت طبلة أخرى لتنذر الجراح بأن يتولى عمله دون تأخير فأخذ جريس إلى مقعد هناك ووضع هذه المرة يديها الإثنتين فوق فؤاده لمكي يعزيها عن غيابه ثم همس إليها انتظري هنا حتى أعود إليكي ولا تخافي شيئاً يا صديقتي الفاتنة. قولي لنفسك إن سيرفيل هو روح الشرف، إن سيرفيل سيحميني - ثم ضرب صدره بكفه ورنا لي فتاته رنوة الإخلاص والجلال ثم قبل يدها وهو يقول الوداع إلى القريب واختفى. وما كاد يغيب وراء الستر حتى تلاحقت طلقات البنادق بقنابل المدافع ولم تمض هنيهة حتى سقطت قنبلة في بستان الكوخ منفجرة على بضعة أمتار من النافذة. فسقطت جريس على ركبتيها وصرخت صرخة رعب ووجد وأما مرسى فخطت هادئة السرب إلى النافذة فأطلت منها قالت إن القمر قد ارتفع والألمان يدمرون القرية فنهضت جريس ووثبت نحوها مذعورة تطلب النجدة صارخة. . خذيني من هذا المكان لنبتعد. نحن

ولا شك مقتولتان لو مكثنا هنا - ونظرت إلى رفيقتها فوجدتها واقفة في مكانها ساكنة هادئة فاسترسلت تقول وأنت أفلا تخافين من شيء. فتبسمت مرسى ابتسامة حزينة وقالت لماذا أخاف فقدان الحياة وليس لي شيء يستحق الحرص عليه. واهتزت القرية على صوت قنبلة سقطت في ساحة الكوخ من الناحية المقابلة. واشتد الفزع بالفتاة فتشبثت بنحر الممرضة تضمها إليها من وجل ورعب، وكانت منذ دقائق قد أنفت من إعطائها يدها وصاحت أمن عاصم نعتصم به، وفي أي مكان تختفي فأجابت مرسى بهدوء وكيف أستطيع أن أعلم أين تقع القنبلة الثانية؟. . وكاد سكون الممرضة يذهب بلب الأخرى فتخلصت منها وجعلت تجري في الحجرة تلتمس طريقاً للنجاة والفرار من الكوخ واندفعت في المطبخ ولكن أوقفتها حركة نقل الجرحى الأقوياء وضوضائهم فعادت في الحجرة تريد مخلصاً فوقع بصرها على الباب المؤدي إلى الفناء فطفرت نحوه ولكنها ما كانت تبلغه حتى دوى صوت قنبلة أخرى. فتراجعت على عقبها خطوة واحدة وقد وضعت أصابعها في أذنيها، وفي تلك اللحظة انقضت القنبلة فنفذت من سقف الكوخ فانفجرت في بهرة الحجرة قريباً من الباب فجرت مرسى من موقفها عند النافذة فلم تمس بسوء وأصابت شظاياها النار الخابية فأشعلتها وعلى نورها أبصرت مرسى رفيقتها طريحة لا حراك بها. فوثبت إلى ناحيتها فركعت بجانبها ورفعت رأسها أتراها جرحت. أم تراها ماتت. ورفعت مريك يدها لتجس نبضها وبينما هي تتحسس مكان النبض إذ أطل الجراح سيرفيل من خلال الستر ليعلم ماذا ألم بالسيدتين الجميلين. فأشارت إليه مرسى أن يقترب وقالت وهي تخلي له مكانها إني أخشى أن تكون القنبلة قد أصابتها فانظر هل الجرح مميت. فوثب صوبها وهو يلعن العدو ويشتم وصاح بالممرضة وقد رفع يده إلى جيد الغانية فقال انزعي عنها معطفها - وأحر قلباه عليك يا ملاكي العزيز. لقد التوى حول جيدها خيط المعطف. فنضت عنها الممرضة المعطف فقذفته جانباً وأخذ الجراح الفتاة بين ذراعيه وقال وهو جارع علي بمصباح. اذهبي إلى المطبخ تجدي مصباحاً هناك.

وأحس النبض فارتجفت يده وصاح يا إله السموات إن عواطفي لتتفجر حزناً عليك يا غاليتي وأسفاً. وجاءته مريك بالمصباح فرأى على الضوء فعل القنبلة في رأس الفتاة. فتغيرت في الحال ملامح وجهه وأظلم جبينه وإذ ذاك شعر انه لا يحمل بين ذراعيه الآن إلا جثة هامدة. وظلت مرسى ترقبه ثم قالت أترى الجرح قاتلاً فأجابها الجراح في صمت وحزن أزيحي عنها المصباح فلست بحاجة إليه بعد. قضى الأمر. . . لن أستطيع شيئاً قالت - وهل ماتت؟ فأطرق الجراح رأسه وهز قبضته في الفضاء صوب المرابط وصاح لعنة الله على الألمان، ثم نظر إلى الوجه الخامد الساكن الذي يطل من بين ذراعيه فهز كتفيه مستسلماً خاضعاً وقال وهو يضع الجثة فوق السرير الخشبي هذه سنة الحرب ومن يدري يا صديقتي الممرضة فلعلنا مقتولان في أثرها من ذا يعلم يا الله. أن مسألة القضاء والقدر لتذهب بلى. وليس لنا إلا أن نتركها هنا. وقلباه. لقد كانت بالأمس حسناء فاتنة والآن ليست شيئاً مذكور. لننصرف يا صديقتي قبل أن تأزف الآزفة. ومد ذراعه إلى الممرضة وفي تلك اللحظة سمع صوت عجلات مركبة لأمتعة وهي تهم بالرحيل ودقات الطبول تخفق في الجو تؤذن بأن القهقرى قد بدأت. فرفعت مرسى الستر فرأت الجرحى الضعفاء لا يزالون في أسرتهم بعد أن تخلي عنهم إخوانهم. فرفضت ذراع الجراح قائلة لقد قلت لك من قبل أنني سأمكث هنا فرفع مسيو سيرفيل يده محتجاً ولكن مرسى عمدت إلى الستر فرفعته. وأشارت إلى باب الكوخ وقلبت فلتذهب فقد صحت إرادتي. وإذ ذاك دنا الرجل منها وبكل احترام وخشوع وأدب رفع صوته قائلاً سيدتي أنت امرأة عظيمة! وهنا أخذه شغفه بالنساء فانحنى واضعاً يده على قلبه وترك الكوخ. وانسدل الستار على الجرحى فخلت الحجرة بالممرضة والقتيلة. وأخذت أصوات العجلات ومواقع الأقدام تتبدد عن بعد في ظل السكون وانقطع عزيف

القنابل إذ عرف العدو أن الفرنسويين يعودون أدراجهم. وكان السكون مخيفاً موحشاً. وقفت مرسى وحيدة في وسط تلك الحجرة الهادئة وفي الحال استقر بصرها على السرير. فمشت إليه والمصباح في يدها فوقفت عند زاوية منه تنظر في وحشة ذلك السكون إلى ذلك الوجه الذابل الهادئ وكان وجهاً فتاناً في الحياة والموت، ذلك الجبين لا يزل كما كان عريضاً متهللاً وهاتان العينان لا تزالان نجلاوين والفم صغير حلو رقيق. يا للرحمن! ورفعت مرسى يدها فهذبت شعر الجثة المنتثر الأشقر وأصلحت ثوبها المتجعد الملتوي، وهي تقول لنفسها منذ لحظات كنت أمني النفس أن أبادلك مكانك؟ وإ ذاك تولت عن السرير متنهدة. والآن لوددت كذلك أن أبادلك؟. . . واستوحشت من السكون السائد حولها. فتمشت إلى الناحية الأخرى من الحجرة وكان المعطف لا يزال مطروحاً فوق الأرض، ذلك المعطف الذي أقرضته مس روزبري، فالتقطته من مكانه وألقته فوق أحد المقاعد ثم وضعت المصباح فوق المكتب ودلفت إلى النافذة تنصت إلى صوت تقدم الألمان. ولكن لم يقع في أذنها إلا حفيف الشجر فعادت عن النافذة فجلست إلى المكتب تفكر. تذكرت مرسى الحديث الذي جرى بينها وبين رفيقتها المسكينة وأن مس روزبري حدثتها عن غرضها من العودة إلى إنجلترة وأنها كلمتها عن سيدة كان بينها وبين أبيها رابطة نسب وإن لم تكن قد رأتها من قبل وهي في انتظار وصولها. وإذ ذاك دار في خاطر الممرضة أنه لا بد من الكتابة إلى السيدة بنبأ فاجعة الفتاة ووفاتها. فمن ترى يقوم بذلك. ليس لأحد أن يكتب عن الحادثة إلا من كان شاهدها. ولم يكن هناك شاهد إلا مرسى نفسها. وعند ذلك رفعت المعطف إليها فأخرجت من جيبه المحفظة التي رأتها مس روزبري إياها ورأت مرسى أنه لا بد من معرفة عنوان السيدة وأنه لا بد لذلك من فض المحفظة ففضتها ولكن لم تلبث أن توقفت وقد شعرت بشيءٍ من الأنفة والإستنكار لإقدامها على أسرار غيرها ولكن لم يطل ترددها لأنها بعد التفكير لحظة واحدة اقتنعت بأنه لا داعي إلى الإستنكار والتردد فأفرغت جميع ما في المحفظة.

وكذلك كان هذا العمل التافه هو الذي مهد لها الطريق إلى حياتها المقبلة. الفصل الرابع التجربة كان أول ما أخذ عينها من أوراق المحفظة عدة رسائل مربوطة بشرائط حريرية وكان المداد الذي كتبت به قد جف وذبل وكان بعض الرسائل معنوناً باسم الكولونيل روزبري والبعض الآخر بعنوان مسر روزبري زوجته، رسائل دارت بينهما يوم كان الزوج يغيب عن زوجته في أسفاره الحربية، فأعادت مرسى الرسائل إلى رباطها وتناولت الأوراق التي تليها. فوجدت بضعة أوراق مشبكة بعضها في أذيل بعض وفي رأسها مكتوب بقلم امرأة مذكراتي في رومة فتصفحتها فعلمت أن هذه المذكرات كتبتها من روزبري لنفسها دونت فيها حوادث الأيام الأخيرة من حياة والدها. فبعد أن أعادت الرسائل والمذكرات إلى المحفظة لم يبق إلا خطاب واحد وكان الغلاف مغلقاً قد كتب عليه إلى اللادي جانيت روى، دارمابلثورب بلندن فأخرجت مرسى الخطاب من غلافه ولم تكد تقرأ السطور الأولى منه حتى علمت أنه خطاب التوصية الذي كتبه والد الفتاة إلى السيدة المقيمة بلندن. فقرأت مرسى الخطاب إلى آخره وقد وصفه الكاتب بأنه آخر مجهود رجل يجود بنفسه على سرير الموت، وقد كتب الكولونيل بحرارة عن ابنته، ثم ختم رسالته بهذه الكلمات إني الآن أقضي نحبي هادئ البال من أمر مستقبل ابنتي العزيزة - إلى حمايتك وكنفك وظلك أدفع بكنزي الوحيد الذي خلفته في هذه الأرض. كذلك كان ختام الوصية. فوضعت مرسى الرسالة بقلب محزون. أشد ما فقدت تلك الفتاة المسكينة امرأة من أهل النبل والثراء كانت ترتقب قدومها. امرأة حنوناً كريمة يطيب الوالد نفساً من ثقته بعطفها وهو على فراش الموت. والآن هذه هي الفتاة طريحة هامدة الأنفاس دون منال اللادي جانت وعطفها. ولم يبق بها حاجة إلى حنانها أو برها! وكانت أدوات الكتابة التي كان يكتب بها القائد لا تزال فوق المائدة فعمدت إلى صفحة بيضاء لتكتب فيها خبر وفاة الفتاة، وبينما هي تفكر في العبارات التي تثبتها في خطابها إذ

بعولات الجرحى الضعفاء تضج من ناحية المطبخ وهم يصرخون ويبكون جزعاً واستنجاداً. فانطلقت إلى المطبخ فتلقاها الجرحى بالتهليل والفرح، مطمئنين لمقامها معهم فمشت بين الأسرة تشجعهم وتواسيهم فجعلوا يقبلون أطراف ثوبها ويتوسلون إليها ويتضرعون. وهي تحنو على وسائدهم بوجهها الرحيم وصفحتها المشرقة العاطفة وهي تنادي فيهم الشجاعة يا صحابتي. عزاء يا أخوتي وصبراً فلن تهجركم ممرضتكم. فضج الرجال في أثرها. . . نعم عزاءً وصبراً. وليباركك الله، والآن فلو أن قنبلة تنطلق من مدافع العدو فتنقض على تلك المرأة فتضرجها بدمائها، إذن باركتها الإنسانية وأعدت لها مكاناً في السماء، أما إذا خمدت نار الحرب وهي لا تزال في الحياة باقية فأي مكان لها في الأرض. أي أمنية لها في العيش. أي وطن لها. أي معصم. وعادت إلى الخطاب ولكن بدلاً من أن تجلس للكتابة ظلت واقفةً على مقربةً من المائدة شاردة البصر في أنحاء الرسالة وسطورها. وفي تلك اللحظة فقط ثارت في خاطرها فكرة غريبة لم تنو أن ابتسمت هي نفسها من غرابتها، وهي ماذا يكون لو هي سألت اللادي جانيت روي أن تحل منها محل مس روزبري. إنها التقت بالفتاة في موطن مخيف ومركب خشن ولقد أحسنت إليها وأعانتها وواستها بل هي خير وصيفةٍ لها وقارئة ولكن ماذا يكون من اللادي إذا كتبت إليها ترجوها هذا الرجاء إذن أفلا تجيبها قائلة ابعثي إلي بشيءٍ عن سيرتك وماضيك ومزاياك وسأرى بعد ذلك رأييسيرتها. يالله. وماضيها ومزاياها. . . . .! وهنا ضحكت مرسى ضحكةً مرة ثم جلست تكتب بضعة أسطر موجزة تصف فيها نكبة الفتاة. كلا. . . لم تستطع أن تكتب حرفاً واحداً. إن تلك الفكرة الغريبة لم تزل تدور في خاطرها وتغريها. والآن بدأ ذهنها يتخيل جمال دار مابلثورب، وحسن ذلك المغنى الزاهر وحديقته الأنف الغناء، ولذاذة الحياة وبهجة العيش وفخامته، في ظل اللادي جانيت وتحت سقف دارها، وأذكرها ذلك مرة أخرى حظ مس روزبري الضائع. يا لها من تعيسة. أية دار كانت مفتحة

الأبواب في وجهها، وأي عيش نضير كان في انتظارها. لو لم تقض عليها شظايا القنبلة. وعند ذلك رفعت مرسى الخطاب بعيداً عنها ونهضت تخطر في الحجرة جازعة قلقة. وتلاحقت الأفكار في خاطرها وتزاحمت، ففكرت بعد ذلك في المستقبل الذي سيهجم عليها. أية آمال لها ومطامع إذا الحرب وضعت أوزارها؟ وهنا عادت مآس الماضي وآلامه تطال إلى ذاكرتها في ذلك الموقف الخشن الصامت، في أي طريق تذهب أو بلد تقيم أو عمل تعمل، ستكون النتيجة واحدة، الإعجاب بجمالها يؤدي إلى الفضول. والفضول ينتهي بالبحث والبحث يهتك حجاب الماضي، سيقول الناس كلهم نحن آسفون لك ثم يطردونها من رحمتهم نافرين. هي الآن لم تتم بعد الربيع السادس والعشرين. إنها اليوم في غلواء شبيبتها، ممتلئة صحة وقوة ولعل الأقدار تمد في صفحة أجلها فتعيش خمسين عاماً كذلك. إذ ذاك وقفت مرة ثانية بجانب السرير ونظرت نظرة أخرى إلى وجه المائتة. يالرحمن. أية حكمة قضت أن تصيب القنبلة المرأة التي كانت تحمل في قلبها آمال الحياة وتترك المرأة التي ليس في قلبها ظل أمل؟ هنا عادي إلى ذاكرتها الكلمات التي قالتها للفتاة لو أن لي في الحياة حظك. لو أن لي سمعتك وآمالك؟ ولكن هذا هو حظها ملقى ضائعاً مبدداً وهذه آمالها قد أصبحت طريحة منثورة. وكاد هذا الخاطر يذهب برشدها وهي في موقفه، وإذ ذاك انحنت بابتسامة اليأس فوق الجثة وألقت إليها هذه الكلمات كأنها تهمس بها إلى أذن واعية واأسفاه. . ليتك تكونين مرسى مريك. وليتني أكون جريس روزبري الآن!. . وفي ومضة البرق أخذ فكرها يجري إلى ناحية أخرى نعم في ومضة البرق سرت إليها فكرة أخرى كما تسري الكهرباء في الأجسام. قالت في نفسها أنت تستطيعين أن تكوني جريس روزبري إن أقدمت. نعم أي حائل يمنعها من أن تقدم نفسها إلى اللادي جانيت روي باسم جريس وشخصيتها. ولكن أين الموضع الضعيف من هذه التجربة الخطيرة لقد قالت جريس نفسها أن السيدة لم ترها في حياتها، وأن ليس لها أقارب في إنجلترة، بل انحدرت من كندا حيث كانت تسكن بورت لوجان. ومرسى تعرف المكان جداً. إذن فلم يبق عليها إلا أن تقرأ المذكرات والرسائل لتعرف كيف تجيب لو سئلت عن وفاة

الكولونل روزبري في رومة وما يتعلق بذلك من الحوادث والمعلومات. ثم إن جريس لم تكن خليقة بأن تصبح وصيفة لسيدة نبيلة مهذبة ولا أن تكون لها صاحبة وقارئة وذلك باعترافها واعتراف أبيها في خطابه بأنها لم تأخذ بحظ كبير من التربية والتهذيب فكل شيء إذن في جانبها ورجال الإسعاف قد ارتحلوا ولن يعودوا وهذه ثيابها قد اشتملت جريس فيما هو عليها اسم مس مريك. وأما ملابس مس روزبري المطرزة بدمها ففي الحجرة الثانية جافة من أثر الأمطار! إن طريق الفرار من شقوة حياتها الحاضرة قد ظهر الآن لعينيها متفتحاً ممهداً ما أبهج ذاك الأمل. وما أحسن هذه الصدفة. اسم جديد لا ريبة فيه بل دون منال كل ذم وقدح وماضٍ جديد يقرؤه العالم بأسره فيرحب به ويبارك طهارته!!. هنا تورد وجهها وتلألأت عيناها. لم تكن يوماً أفتن منها في تلك الساعة عندما تفتح في وجهها المستقبل الجديد المشرق البهجة الوضاح الأمل. . . . وظلت هنيهة تفكر عساها ترى موضعاً آخر ضعيفاً من هذه المجازفة الهائلة ولكن أين الضرر الذي يكون منها، وماذا يقول في ذلك ضميرها؟ أما عن جريس فأي ضر وأي أذى لإمرأة مائتة. لا أذاة ولا ضر. بل أي ضر لأقاربها. لاضر كذلك ولا سوء فإن أقاربها كذلك ماتوا. أما من جهة اللادي جانيت فلعلها إن أخلصت في خدمة سيدتها الجديدة وعاشت عنها في ظل الطهر والشرف وأبدت لها النشاط والأمانة والحب، فأي ضر يلحق اللادي جانيت من رواء ذلك وأي مساءة؟ فأجابها صوت ضميرها ليس من ضر ولا مساءة، فلعلها ستنزل من اللادي جانيت منزلاً تحمد به اليوم الذي أدخلتها فيه دارها وعند ذلك أخذت خطاب الكولونل روزبري فوضعته مع الأوراق الأخرى في المحفظة. الفرصة أمامها سانحة، والصدفة في جانبها، وضميرها لا يؤنبها ففكرت هنيهة ثم قالت. إذن سأفعل!. وتولاها شيءٌ من الإستنكار آذى طبيعتها الحلوة النقية عندما وضعت المحفظة في جيب ثوبها، فهي وإن كانت قد أجمعت عزيمتها على القيام بهذه الخطة لم تزل في حيرةٍ من

ناحية ضميرها، ولكن ماذا يحدث إذا وضعت المحفظة جانباً وانتظرت حتى يهدأ الإضطراب روحها ثم تبدأ عملها؟ فكرت مرة أخرى ولكن ترددت، لأنها لم تلبث أن سمعت صوت مواقع الأقدام وحوافر الخيل يقترب من الكوخ وفي بضعة دقائق يدخل الألمان القرية وسيأمرونها أن تكاشفهم بأمرها فلا سبيل إذن إلى الإنتظار. أي الحياتين خير لها، هل الحياة الجديدة باسم جريس روزبري. أم الحياة البالية القديمة باسم مرسى مريك؟ فنظرت للمرة الأخيرة ناحية السرير. إن مستقبل جريس الآن في يديها. وإن اسمها النقي البريء في خدمتها فماذا يمسكها. عند ذلك قررت عزمها فأصرت على أن تأخذ مكان جريس روزبري. . . . . وأخذت مواقع الأقدام تدنو رويداً رويدا وأمست أصوات الضباط واضحة. فجلست إزاء المائدة تنتظر ما سيكون ونبهتها غريزتها النسائية قبل كل شيءٍ إلى ثوبها فنظرت إليه فوقع بصرها على شارة الصليب الأحمر فوق ذراعها اليسرى فخطر لها في الحال أن لباس الممرضة قد يضعها في مأزق حرج إذ قد يؤدي إلى البحث عن أمرها فتكتشف حقيقتها. فنظرت حولها فاستقر بصرها على المعطف الأسود الذي كانت قد أعطت جريس إياه فتناولته واشتملت به فعم جميع بدنها. ولكنها ما كادت تنتهي من ارتداء المعطف حتى طرق أذنها صوت الباب الخارجي وهو يفتح وسمعت أصواتاً غريبة تتكلم وأسلحة تقعقع. أتنتظر حتى يهتدي إليها أم تظهر نفسها من تلقائها فأجمعت على أن تتقدم هي بنفسها فخطت نحو الستر تريد الدخول ولكن قبل أن تبلغ يدها طرفه أزيح الستر جميعه. وظهر من خلاله ثلاثة رجال. الفصل الخامس الجراح الألماني وكان أصغر الثلاثة يلوح من تقاطيعه وصفحة وجهه وهيأته أن إنجليزي الجنس، يلبس فوق رأسه قلنسوة حربية وينتعل حذائين من أحذية الجنود وأما بقية أثوابه فلا تختلف في شيءٍ عن ثياب السلميين، وقد وقف إلى جانبه ضابط في ردائه البروسي وعلى مقربة منه

كان الثالث وكان أكبرهم سناً، مرتدياً لباس الحرب وإن لم تبد عليه سمات الحربيين، وكان قصير القامة لا يكاد يبلغ أكتاف رفيقه يحمل في يده عصاً لا سيفاً. فبعد أن نظر من خلال منظاره إلى مرسى ثم إلى السرير دار بعينه في الحجرة والتفت إلى الضابط البروسي فقال هذه امرأة طريحة فوق السرير وامرأة أخرى بجانبها وليس في الحجرة أحدٌ غيرهما، فهل من ضرورة يا سيدي الضابط إلى وضع الحراس؟ فقال هذا لا ضرورة إلى ذلك. ودار على عقبه فغادر المكان إلى المطبخ أما رفيقه فتقدم قليلاً وكأنما قادته غريزة صناعته فعمد إلى السرير. وأما الشاب الإنكليزي فنظر إلى مرسى نظرة الإعجاب وخاطبها بكل تأدب بالفرنسوية. أتسمحين لي بأن أسأل هل أنا في حضرة سيدة فرنسية؟ فأجابت مرسى كلا. أنا إنجليزية الجنس. وبلغ الجواب أذن الجراح فوقف مشيراً إلى الجثة الطريحة فوق السرير وقال مخاطباً مرسى بالإنكليزية الفصحى وهل يحتاج إلى مساعدتي؟. وكان صوته خشناً فظاً يشعر الإشمئزاز والنفور فلم يسع مرسى إلا أن قالت لا حاجة يا سيدي إلى عونك. فإن السيدة قد سقطت قتيلاً تحت قنبلة من قنابل جنودكم. فارتجف الشاب الإنكليزي ونظر نظرة حزن وأسى نحو السرير وأدنى الشيخ عطاسه من أنفه وعاد يسأل وهل فحص أحد الأطباء الجثة؟. فلم تستطع مرسى أن تقول إلا كلمة واحدة وهي نعم ولم يكن الجراح يحفل بغضب امرأة أو برضاها فاسترسل في أسئلته قال ومن الذي فحصها؟. فأجابت مرسى قد فحصها الطبيب الملتحق بالفرقة الفرنسوية. فتسخط الشيخ وانتهز الشاب الإنكليزي سكوت الجراح فقال مخاطباً مرسى في رفق ولطف وهل السيدة من أهل بلادنا؟ ففكرت مرسى قبل أن تجيب ثم أجابت أظن ذلك. . . لقد التقينا هنا صدفةً ولا أعلم عنها شيئاً؟. فانبرى الشيخ الجراح يسأل حتى ولا اسمها؟. فترددت مرسى ثم اعتصمت بالتجاهل. فقالت ولا اسمها.

فتفرس الشيخ في وجهها متهجماً وأخذ المصباح فتقدم به إلى السرير وجعل يفحص الجثة في صمت. واستمر الشاب في حديثه دون أن يخفي الإهتمام الذي بدأ يظهر عليه نحو المرأة الجميلة الواقفة بإزائه. قال مغفرةً يا سيدتي وسماحة. إن شابة مثلك في ريعان العمر ليست خليقة بأن تكون في هذا المكان وحدها ونحن في زمان الحرب. وأنقذها من الجواب على سؤاله ضجيج قام في الحجرة الثانية إذ سمعت أصوات الجرحى ترتفع بالإحتجاج والشكوى وأصوات الضباط الخشنة تأمرهم بالسكوت، فأنساها ذلك موقفها وتملكتها الرحمة فرفعت الستر تريد أن تدخل المطبخ وإذا بها أمام حارس ألماني قد اعترض طريقها عند الباب يمنعها من الخروج. وتقدم الشاب الإنكليزي منها متأدباً فسألها عن غرضها من دخول المطبخ. فقالت بلهجة مؤثرة محزنة واهاً للجرحى المساكين. واهاً للجرحى المساكين وقبل أن يقول الشاب كلمة مشى الجراح الشيخ نحوها فواجهها بغلظة وخشونة لا شغل لك بالجرحى المساكين. فهذا شغلي أنا. إنهم أسرانا وسينقلون إلى مستشفياتنا. أنا اجنتياس ويتزل رئيس القسم الطبي. أقول لك هذا. فامسكي عليك لسانك، ثم دلف إلى الحارس فقال أسدل الستار وإذا أصرت المرأة على الخروج فادفعها بيديك. فحاولت مرسى أن تحتج ولكن الشاب الإنكليزي أخذ ذراعها بأدب وابتعد بها عن الحارس فقال لا تنفع المغالبة الآن يا سيدتي ولا ينشغلن بالك من أمر الجرحى الفرنسويين فسيعنى ولا ريب بحالهم. ورأى الدموع تفيض من عينيها فأخذ إعجابه بها يكبر ويزداد وهو يقول في نفسه رحيمة وحسناء معاص. يا لها من فاتنة. وحدجها الجراح بنظره من خلال زجاجته وقال والآن هل اقتنعت وهلا أمسكت عليك لسانك؟ فاستسلمت إذ عرفت أنه لا يجدي الإحتجاج فمشت مقطبة الجبين إلى مقعد هناك فجلست فوقه وتبعها الشاب مسترسلاً في حديثه. قال ولا تظني أني أريد أن أزعجك بل إني أكرر القول بأن لا حاجة إلى القلق على الجرحى الفرنسويين وموقفك أنت أدعى إلى القلق. . إن القتال ولا ريب قائم غداً على نور النهار فينبغي أن تكوني منه في معصم. إني ضابط في الجيش الإنكليزي واسمي - هو

راس هولمسكرفت - ويسرني أن أكون ذا نفع لك وأنا على خدمتك قادر لو كنت تسمحين، فهل تغفرين لي جرأتي إذا سألتك هل أنت مسافرة؟ فلمت مرسى شقتي معطفها المحتجب وراء لباس الممرضة وتجلدت لتعتزم أول خطوة من خدعتها فلأحنت رأسها علامة على الإيجاب. قال وهل كنت في طريقك إلى إنجلترة. فأحنت رأسها ثانيةً. قال إذا كان ذلك فإني أستطيع أن أمشي بك بين صفوف الألمان وأمهد لك الطريق إلى مواصلة السفر. فنظرت إليه متعجبة، فهل تراه جاداً فيما قال؟ قالت مندهشة أصحيح ما تقول - إن لك نفوذاً ولا ريب كبيراً إذا كنت تستطيع ذلك؟ فابتسم هوراس ثم قال نعم فهو ذلك النفوذ الذي لا يناهض ولا يغالب. نفوذ الصحافة يا سيدتي. إني مكاتب حربي لإحدى صحفنا وإني إذا سقت إلى القائد هذا الرجاء فلن يبخل علي به. وهو قريب الآن من الكوخ. فماذا تقولين؟ إذ ذاك أجمعت عزيمتها فلم تتمالك أن قالت إنني أقبل صنيعك مع الشكر يا سيدي وتقدم خطوة نحو المطبخ ثم وقف فقال لنا أن نسأل رجاءنا في خفية وصمت وإني ولا شك مسؤول إذا مررت من هذه الحجرة، فهل من مخرج آخر لهذا الكوخ فأرته مرسى الباب المقضي إلى الفناء فانحنى مودعاً وتركها. فيما بقيت وحدها مع الجراح نظرت إليه عن حقد وغضب وكان لا يزال عند السرير منحنياً فوق الجثة مشغولاً بفحص الجرح الذي أحدثته القنبلة، ولم تستطع أن تغلب اشمئزازها من منظر هذا الشيخ فتولت إلى النافذة فأطلت منها لترى القمر. هل أقدمت على كذبتها بعد. كلا. هي لم تقل أكثر من أنها تريد أن تعود إلى إنجلترة. إذن فلا يزال لديها الوقت الكافي لأن تكتب إلى اللادي جانيت بوفاة فتاتها وتبعث بالخطاب مع المحفظة. ولكن ماذا يكون إذن من أمرها إذا هي وجدت نفسها في إنجلترة ثانيةً. لا سبيل لديها إلا الرجوع إلى نصيرتها ربة الملجأ ولا دار غيره. الملجأ. . . وربة الملجأ. . . والماضي المظلم. البعيد. أية خواطر تجول الآن بذهنها، وفيمن هي تفكر في تلك اللحظة وهذا الموطن؟ تفكر في الرجل الذي لمس بكلماته أعماق

قلبها وواساها وضمد جرح فؤادها في مصلي الملجأ. في جوليان جراي وموعظته. لقد أفرد يومذاك قطعة من عظته في النهي عن الكذب والزور والخديعة. والآن عادت كلماته التي كان يلقيها إلى النسوة، كلمات الرحمة والجد والمواساة، إلى ذاكرة مرسى كأنما لم تكن سمعتها إلا من ساعة مضت. وهنا همست لنفسها وهي تفكر فيما عزمت على فعله. ويلاه ماذا فعلت ويلاه ماذا فعلت. وانصرفت عن النافذة تريد أن تتبع هوراس فترجعه فلما واجهت السرير التقى بصرها ببصر الجرح وكان يوشك أن يمشي إليها ليكلمها وفي يده منديل أبيض. المنديل الذي قرضت جريس إياه. قال: لقد وجدت هذا المنديل في جيبها. وهذا اسمه مطرز عليه. إنها ولا ريب إنكليزية مثلك. . وأخذ يقرأ الحروف المكتوبة على المنديل بصعوبة شديدة وأخيراً قال مرسى مريك. إن شفتيه هما اللتان نطقتا به. لا شفتيها. لقد أعطى جريس روزبري الإسم المطلوب. واسترسل الجراح ويتزل يقول وهو ينظر إليها هذا الإسم إنكليزي. أليس كذلك؟ وهنا بدأت ألفاظ جوليان جراي عن الكذب والخداع تتبدد وتضيع ولم يبق في خاطرها إلا سؤال واحد، هل ينبغي أن تصحح الخطأ الذي وقع فيه الجراح الشيخ؟ ها قد جاء الوقت الذي يجب فيه غما أن تتكلم فتعلن اسمها الحقيقي وإما أن تعتصم بالصمت فينسدل الستار على الماضي بفضيحته. وفي تلك اللحظة دخل الحجرة هوراس هولمكرفث ولم تزل عينا الجراح مستقرتين عليها ينتظر جوابها. قال هوراس وهو يشير إلى ورقة صغيرة في يده - لم يخب ظني. هذا هو الجواز. أليس لديك قلم ومداد لأملأ الفراغ الذي به. فأومأت مرسى إلى الأدوات الكتابية الموضوعة فوق المكتب. فمشى هوراس إليها وجلس في مقعد إزاءها وغمس القلم في الداوة وقال أرجو أن لا تظني أني أريد أن أهجم على شؤونك ولكني مضطر أن أسألك سؤالاً واحداً أو سؤالين ما اسمك؟ فولتها رعشة. فاعتمدت بإحدى أرجل السرير. إن مستقبلها يتوقف الآن على جوابها.

وكانت عاجزة عن النطق بكلمة واحدة. وإذ ذاك عاد ويتزل الجراح يكرر الإسم الذي تبينه على ظرف المنديل إن مرسى مريك اسم إنكليزي. أليس كذلك؟ فرفع هوراس رأسه عن الجواز فقال مرسى مريك! ومن تكون مرسى مريك. فأشار الجراح إلى الجثة الساكنة فوق السرير وقال إني وجدت هذا الإسم فوق طرف المنديل. وكأني بهذه السيدة التي أمامك ليست من أهل الفضول لأنه لم يخطر لها اسم رفيقتها. فأشاحت عن الرجل وجهها باحتقار ولم تستطع أن تصحح الخطأ الذي فاه به. ورجع هوراس إلى كتابة الجواز فرجه إليها هذه الكلمات مغفرةً وصفحاً إذا عدت فكررت السؤال. ما اسمك. فأجابته بدون إكتراث وبدون أن تشعر بما هي قائلة جريس روزبري. . . . . . على أنها لم تكد تفه بالكلمات حتى حاولت أن تسترجعها ولكن هوراس بدرها بسؤال آخر، قال وهو يبتسم ألا أكتب الآنسة. فلم تستطع أن تجيبه إلا بإيماءة من رأسها. فكتب مس جريس روزبريثم فكر هنيهة وعاد يسألها وهل أكتب عائدة إلى أصدقائها وأقاربها في إنجلترة؟ يا للرحمن. أصدقاءها وقرابتها في إنجلترة. إذ ذاك خفق قلبها. فأجابت في صمت بإطراقة ثانية. فكتب الكلمات في أثر الإسم وبدأ يجفف الماد ثم نهض فذفع بالجواز إلى مرسى قائلاً. أظن هذا كافياً وسأرافقك حتى تجتازي الصفوف واجتهدي في أن تسافري في القطار. فأين أمتعتك؟ فأشارت مرسى إلى باب الكوخ الخارجي ثم أجابت هناك تحت خميلة خارج الكوخ. وليست شيئاً مذكوراً وإني أستطيع أن أجيء بها لو تركني الحارس الحارس أنفذ إلى المطبخ. فأشار هوراس بإصبعه إلى ورقة الجواز وقال. بل تستطيعين أن تذهبي الآن حيث تشائين. فهل أنتظرك هنا أم خارج الكوخ فنظرت مرسى إلى الجراح أجنياس ويتزل

بنظرة مستريبة وفكرت ثم أجابت انتظرني خارج الكوخ يا سيدي. وتراجع الحارس محيياً التحية العسكرية عند رؤية الجواز فلما دخلت مرسى المطبخ وجدت الجرحى الفرنسيين قد نقلوا جميعاً وليس في الحجرة إلا بضعة جنود من الألمان بين مهوم ونائم ومضطجع فأخذت مرسى ملابس جريس روزبري من مكانها الذي علقتها عنده لتجف وانثنت تريد الخميلة خارج الدار فالتقت عن الباب بجندي آخر فأرته الجواز وسألته إذا كان يفهم الفرنسية فأجاب أنه يعرف طرفاً منها فنفحته مرسى بقطعة من النقود وقالت إني ذاهبة لأجمع ملابسي المنشورة تحت الخميلة فهلا حرستني حتى أنتهي من جمعها. وأدى الجندي التحية إشارة إلى أنه فهم غرضها. واختفت مرسى في صميم تلك الخميلة. فلما ترك هوراس وحده مع الجراح ويتزل لاحظ أن الشيخ لا يزال منحنياً فوق جثة القتيلة يفحصها بدقة وأدب فقال هل من شيءٍ يستحق هذا الإهتمام في مقتل هذه المرأة. فأجابه الجراح الخشن الفظ وهو لا يزال مسترسلاً في فحصه ليس من شيءٍ يصح أن يكتب في الصحف. فسأله هوراس. إذن. فلا يهم إلا الأطباء. أليس كذلك قال في لهجته الخشنة الموحشة. نعم. لا يهم إلا الأطباء وأدرك هو رأس الغرض المختفي في هذا الجواب الخشن فغادر الحجرة من الباب المغضي إلى الفناء وظل ينتظر الفتاة الإنكليزية الحسناء كما قال خارج الدار. فلما ترك ويتزل لنفسه نظر حوله نظرة فاحصة وانثنى ففك أزرار قميص الفتاة ووضع يده اليسرى فوق قلبها ثم أخرج بيده الأخرى من جيب صداره سلاحاً دقيقاً من أسلحة الجراحة وتحسس به في رفق مكان الجرح ثم رفع به قطعة من عظمة الجمجمة المتهشمة ولبث ينتظر ما يكون. وفي الحال صاح بفرح مخيف يخاطب الجثة الهامدة تحت يديه. وي! لقد قال الجراح الفرنسوي أنك ميتة فهل صدق يا عزيزتي. . . يا له من سخيف. الله لهذا الأحمق. ورفع رأسه فصاح منادياً ماكس وإذ ذاك أزيح الستار فظهر شاب ألماني متبالد قد وضع فوق صدره منشفة طويلة ووقف ينتظر أوامر سيده. قال ويتزل علي بجعبتي السوداء. فلما اختفى الخادم أخذ الشيخ يهز نفسه من فرح ونشاط كما يفعل الكلب ويفرك راحتيه عن

رضى وانطلق يقول ناظراً إلى السرير من وراء منظاريه الآن لشد ما أنا سعيد مسرور يا سيدتي الإنكليزية العزيزة. لكان أهون على أن أخرج عن أموالي كلها من أن أحرم من لقائك. أيها الجراح السخيف لقد سميته موتاً لجهلك وضعف بصرك. وأسميه أنا تغيباً مؤقتاً عن الحياة من تأثير الضغط الحادث فوق الرأس. وظهر ماكس يجمل الجعبة. فأخرج الشيخ منها سلاحين مخيفين فضمهما ضمة حارة إلى صدره وجعل يخاطبها في رفق بهذه الكلمات كأنما كان حقاً يخاطب صبيين صغيرين يا طفليَّ العزيزين. يا ولديَّ الصغيرين. هيا بنا نشتغل إلى العمل يا طفليَّ الجميلين والتفت إلى مساعده فقال أتذكر يا ماكس واقعة سالفرينو والجندي النمسوي الذي قمت له بعملية جراحية من أثر جرح في رأسه. ففتح المساعد جفنه المغمض وأجاب نعم أذكر ذلك ولا أنساه. فمشى الأستاذ الجراح إلى السرير والخادم في أثره بالمصباح قال السيد والآن أنظر يا ماكس إلى هذه السيدة الشابة العزيزة النائمة فوق هذا السرير فإنها قد كفلت لي اليوم ما كنت أطلب هذه حادثة سالفرينو مرة أخرى. فارفع المصباح جيداً يا فتاي الأمين وقف هنا وأنظر إليَّ وانتبه أني سأرى إذا كنت مستطيعاً أن أنقذ الحياة والعقل معاً في هذه المرة!. . وعند ذلك شمر عن ساعديه وبدأ علمه، وفي تلك اللحظة التي مس فيها سلاحاه رأس الفتاة سمع صوت الحارس يصرخ بالألمانية بهذه الكلمات التي أجازت لمرسى أن تخطو الخطوة الأولى في طريق السفر إلى انجلترة. وهي دع السيدة الإنكليزية تمر. وابتدأت العملية الجراحية، وانطلق في أثر ذلك الصوت صوت مثله ولكن كان خافتاً ضعيفاً دع السيدة الإنكليزية تمر. وهنا رفع يده ليسود السكوت ثم انحنى فوضع أذنه عند فم العليلة. وفي الحال بدأت شفتا جريس تتحركان. فصاح الشيخ وى! يا فتاة. أنت تتنفسين. أنت على قيد الحياة! وبينما هو يقول هذه الكلمات كان صوت الحارس يكاد يسمع وهو في أبعد حدود الخطوط الألمانية يقول - دع السيدة الإنكليزية تمر! (انتهى الجزء الأول)

باب الأخلاق والاجتماع

باب الأخلاق والاجتماع مختارات من ليوباردى الفيلسوف المتشائم أغنية الديك قالوا أنه يوجد بين الأرض والسماء ديك بري، ساقاه يلمسان أديم الأولى ومنقاره وعرفاه ينطحان صفحة الثانية، وقد أوتى هذا الديك العظيم قوة العقل والمنطق، ولقن كما يلقن الببغاء علم الكلام، وإن كنت لا أعلم الذي لقنه، ولا أدري عمن أخذ هذا العلم، ولقد إعتاد هذا الديك فغي نسمات السحر، ومقتبل هجمة الصباح، أن يصيح بأغنيةٍ له غريبة، وترنيمةٍ مدهشة. وقد عثرت بها مكتوبة بالعبرانية، فحدثت نفسي أن أنقلها إليكم. وأفكهكم بمعانيها، وقد نجحت في ذلك بعمد البحث الطويل والجهد الشديد، ولكني لم أستطع أن أعرف إذا كان هذا الديك لا يزال يغني كل صباح أغنيته، أم قد أمسك اليوم عنها. والآن هذه أغنية ديك الصباح فاسمعوا. أيها الناس، أفيقوا، أيها الأحياء انهضوا، هذا هو اليوم يعود إلى دورته، هذه هي الحقيقة تراجع إلى الأرض، إن الأحلام الكاذبة تختفي الآن وتحتجب، أنهضوا أبناء الموت إلى عبء الحياة، دعوا جانباً عالم الأحلام، وتعالوا إلى عالم الحقيقة. هذه هي الساعة التي فيها تذكرون آراءكم في الحياة وظنونكم، وتستعرضون في أذهانكم أمور عيشكم، وتستعيدون ما كان يجول في خواطركم من نياتكم وشؤونكم وآمالكم، وتتوقعون المسرات والمتاعب التي قد يسوقها يومكم الجديد إلى ناحيتكم، وإنكم لتودون جميعاً أن تستشعروا المشاعر السارة والأماني العذبة، والعلالات الفرحة الناضرة، ولكن هذه الرغبة لا توهب إلا للقليلين، لأن اليقظة مؤلمة للجميع، إذ لا يكاد المنكوبون المتألمون يفيقون من نومهم حتى يفيق معهم إحساسهم بشقائهم وعذابهم، ولئن كان لا شيء أعذب من ذلك النوم الذي يحبئ به الفرح والراحة والأمل، ويمتلئ بالرؤيا البديعة، ويبارك بالحلم الذهبي، فإن تأثيره لا ينى أن يضمحل ويزول برجعة اليوم ومهب الصبح. فلو أن نوم الناس كان دائماً، ولو أن الحياة كانت نوماً، ولو أن الأحياء تحت كوكب النهار يظلون في سبات عميق ساكن فلا أحد يذهب إلى العمل، ولا إنسان ينطلق إلى الكدح

والدأب، نعم، فلو أن لا ثور يخور في المرعى، ولا وحش يزأر في الأجمة، ولا أطيار تغني في الفضاء، ولا تطنين للنحل، ولا تمتمة للفراش، أجل، لو أن جميع الكائنات على الأرض كانت صامتة جامدة، وليس في العالم إلا المياه والرياح والعواصف والأنواء، إذن لأصبح الكون عقيماً تافهاً، ولكن أتكون السعادة أقل منها الآن، أو يروح الشقاء أكبر منه اليوم، أيتها الشمس، يا منشئة النهار والرقيب على الليل هل رأيت دوة القرون العديدة التي تقاس بمطلعك ومغيبك، إنساناً واحد كان سعيداً، وهل تعرفين من جميع أفعال الناس، فعلا واحداً ظفر بالغرض الأكبر الذي يطلبه صاحبه وهو الرضى والبهجة الدائمة، هل ترين اليوم أو رأيت بالأمس أو عثرت من قبل بالسعادة على الأرض؟ أنبئيني أين تسكن وأي مكان تحل، في أي حقل أو أي غاب وأي واد، وعلى أية ربوة وأي جبل، وفي أي إقليم كانت تقطن وفي أية صحراء، وفي أي كوكب من هذه الكواكب التي تستضيء بلهبك وسطعتك، ألعلها تختفي منك في أعماق الكهوف ومكامن البر، ومخابئ البحر، أي حي وأي نبات وأي مخلوق يتمتع بنصيب منها، وأنت التي تجرين النهار والليل دون نوم أو راحة أو ترفيه، عادية في الطريق المستطيل الذي أعد لك ووضع، أتراك سعيدة ناعمة البال أم تراك محزونة معذبة. أيها الناس. أفيقوا. أفيقوا. إنكم لم تتخلصوا بعد من الحياة، وسيأتي الوقت الذي فيه لا قوة ولا إحساس ولا نبأة تزعجكم من سكون النوم وهدأته، وإذ ذاك تهجعون إلى الأبد دون ملل أو سآمة، إن الموت منحة لم تمنحوها بعد، وهبةٌ لما توهبوها. وإنما تعطون من حين إلى حين شبيهاً له وصورة منه لأن الحياة بدون فترات من الراحة لا تستطيع احتمال نفسها ولا تستطيع الصبر والبقاء، ولذا كان الحرمان من النوم شراً مخيفاً وداعياً إلى النوم المستطيل الأبدي، وما أحقر الحياة وما أضأل، إنكم لأجل حفظها تضطرون إلى طرحها حيناً حتى تستجمع قواها، وتستردوها بعد أن تذيقوها طعم الموت. إن الساعات الأولى من الصبح لا تزال وإن لم تكن سعيدة أخف احتمالاً على الناس من بقية ساع اليوم ورحلاته. إن الناس جميعاً يحاولون أن يختلقوا لأنفسهم الفرح ويميلون إلى الشعور بالإبتهاج، وإن لم يكن لديهم من أمورهم ما يستحق ذلك، وفي الصباح يقل ألمهم من عبأ الحياة وأوزار العيش، فالرجل الذي كاد اليأس يلتهم روحه قبل أن يتولاه النوم في

الليلة الماضية، لا يلبث إذ يفيق أن يعود إلى التعلل والأمل، وإن كان تعلله باطناً، وأمله كاذباً طائشاً، وإن المتعب والمخاوف والأحزان والمناكد لتبدوا في مشرق النهار ومطلع الفجر أقل وحشة وإرعاباً منها في ليلة الأمس ومسائه، بل إن المرء لهزأ بالآلام التي عاناها البارحة، والأحزان التي أحسها العشية الفائتة وأنه ليضحك من نفسه لحزنه وألمه ويعدها أوهاماً كاذبة، ومخاوف تافهة. وإذا كان الماء أشبه شيء بالشيخوخة، فإن الصباح أقرب ما يكون إلى الشباب. لأنه أكثر ما يكون ضحوكاً مطمئناً واثقاً، على حين يكون المساء حزيناً كئيباً متوقعاً للشر مشفقاً من السوء. ولكن هذا الشباب الذي تشهدونه أيها الأحياء في مطلع كل يوم ليس إلا صورة من شباب أعماركم القصيرة المتعبة. وكما تسرع الحياة إلى خاتمتها يجري النهار إلى المساء. خواطر أخرى للفيلسوف على قدر حاجة الإنسان يكون شره، فإذا رأيت رجلاً يعيش هادئاً طيب السيرة، محمود السلوك، فثق بأنه مكفي الحاجة، لا يجد ضرورة للشر. ولقد رأيت أناساً من اطهر الناس قلوباً، وأعفهم طبيعة، وأرق القوم حشية، عمدوا إلى ارتكاب أفظع الكبائر لكي يتخلصوا من خطر كان محدقاً بهم أو حاجة كانت تمسهم. إذا رأى القوم في مجلس سمر جليسين يتحدثان ويضجان بالضحك في جذل غير عادي، دون أن يعلموا موضوع هذا الحديث وباعث هذه الضحكات المتطاولة، فلا يلبث أن يتولى الحضور طائفة من الخوف وينتشر في وجوه الندى ظل من الرعب، ولا تلبث أحاديثم أن تتغير فمنهم من يصاب بالصمت ويعتصم بالخرس والسكوت، ومنهم من يعمد إلى الإنصراف وترك المجلس، وأما أهل القلوب الجريئة فمنهم ينضمون إلى الضاحكين يسألونهما الإشتراك في هذا الضحك والإسهام في هذا الجذل المتدفع، كأنما هذه الضحكات قنابل انطلقت من مكان قريب، لا يعرف مصدرها، ولا يعلم الحضور أين تقع منهم هذه القذائف ومن تصيب، ومن تحطم وكذلك ترى الضحك يبعث على احترامنا وإكبار شأننا حتى عند الغرباء، ويلفت أنظار الحافين من حولنا، ويهبنا رفعة وتفوقاً وسمواً على الجالسين في مجلسنا، فإذا ألفيت نفسك يوماً في مجمع لا يحفل بك أهله، أو يتلقونك ببرود أو كلفة أو جفاء، فليس عليك إلا أن تتخير منهم الجليس الذي تظنه يلائم مقصدك، ثم

أهتف معه بالضحك. وانطلق من التهليل والاستخفاف والجذل، ولكن عليك أن تحاول جهدك أن تجعل ضحكك يبدو صادقاً غير متكلف، وإذا رأيت منهم قوماً يريدون أن يقابلوا ضحكك بمثله، فليكن ضحكك أطول من ضحكاتهم وأشد صيحة وارتفاعاً، فإنك لا تنوي أن ترى أشجع الحضور وأكبرهم إباء وأربطهم جأشاً. والذين كانوا من قبل يتهاتفون بك ويتضاحكون منك قد عادوا ينهزمون أمامك ويتراجعون إزاء قوتك، ويميلون إلى مهادنتك ومصالحتك، وعقد أولوية السلام معك، وتقديم آداب الصداقة والود إليك، وكذلك فلتعلم أن الضحك قوة كبرى لا يستطيع أشجع الناس أن يناهضها أو يستخف بها، فالذي يريد أن يكون سيد الأرض، فليضحك من العالم بأسره. إن الدنيا إزاء العظماء والأبطال أشبه بالمرأة، فهي لا تعجب بهم فقط، بل تحبهم كذلك، وتتعشقهم، إذ يفتنها منهم قوة خلقهم وشدة بأسهم، والدنيا المرأة، لا يكون حبها للعظماء، إلا على قدر ما يظهرون نحوها من الإحتقار والقسوة، والرعب الذي يدخلونه عليها. لقد كانت فرنسا تحب نابليون أشد الحب، وكان نابليون معبود القوم، ومع ذلك كان يسميهم طعاماً للمدافع، وغذاء للبنادق. كتاب المساكين هو الكتاب الفلسفي القيم الذي وضعه الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي وأشرنا إليه في بعض أعداد البيان منذ أشهر ونقلنا منه فصلين تركا الأدباء وأهل الرأي يستبطؤون دورة الفلك من شوقهم إلى هذا الكتاب. وقد كان أديبنا الرافعي عدل عن طبعه بعد أن صحت نيته على الطبع إذ وجد سوق الورق كلها تسوق بنفسها في هذه الأزمة ثم كان مع العسر يسر فأصبح هذا الكتاب النفيس وشيكاً أن يظهر. ونحن نتحف قراءنا الأفاضل بهذه القطعة الرائعة من مقدمة الكتاب وقد اختص الرافعي بنشرها البيان. وأنت فربما رأيت الرجل من الناس وبه من جمال الدنيا مسحة الدينار، وعليه من نضرة هذه الحياة ألوان الجنة والنار، وما تشك في أنه واسع البسطة عريض النعمة طيب المكسبة وهو على ذلك رقعة خلقة في أذيال الفقر يجررها على أقذار الحياة وأدناسها ولو نطق له الغني لقال دعني فما كل ذي متربة فقير ولا كل ذي مثراة غني والفضائل قائمة في الدنيا بالصغار والفقراء ولكن من نكد الدنيا أن عنوانها هم الكبراء وحدهم، على أن أكثر هؤلاء

لا تكون منهم في كل أمة إلا الطبقة المنحطة انحطاطاً. . عالياً. . . فالناس مخطئون فيما اعتبروا به معنى الفقر إذ حصروه من جهاته الأرضية وقد ترامت، وضيقوا من حدوده السماوية وقد تراجت وإنما هو طبقة معنوية فوق الأرض، وإنما هو أسلوب خاص في نظام الكون ولا سبيل إلى التنقيح والتحرير في أساليب لله نصرفها عن معانيها أو نتكذب في تأويلها أو نرد عليها ما ليس منها، وإنما الشأن كله أن نحسن الفهم عن أوضاع القدرة الإلهية بمقدار ما نستبين فيها من الحكمة فإن في ذلك صلاح أنفسنا، وما جعل الله سبيل المصلحة والمفسدة إلا من أفهامنا حتى أن الأدمغة لتعد من أكبر العلل في أمراض التاريخ الإنساني، وربما كانت العلة الكبرى في طائفة من الطوائف صورة أثرية لأكبر المثراة ما يكون سبباً لتكثير المال ترامت وتراجعت بمعنى اتسعت رأس. فيها فإن نحن أسأنا الفهم أو ذهبنا به المذاهب أو أفسدنا من تأويل حكمة الله أو غيرنا أو بدلنا فذلك واقع بنا لا يعدونا، وما يستولي على الكون من جهلنا اضطراب ولا تلحق به آفة في وضع من أوضاعه وإن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون. وما دام في هذه الدنيا شيءٌ من المادة أو المعاني يحتاج إليه أو يتوهم أحد أنه محتاج إليه ففي الدنيا الفقر. وما دام للناس رغبة يتنافسون فيها أو يرفعون من شأنها بالمنافسة فلم الحسد. وما دام في الغيب أيام وآمال وفي الدنيا فقر وحسد فهناك الطمع. وما دام هؤلاء الناس من أشيائهم ما تحملهم أخلاقهم على الظن به أو يكون سبيله من الطبيعة أو يضن به، وفيهم الفقر والحسد والطمع فلم خبء السوء والرذيلة الماحقة وثم البخل. وإن البخل وحده لفي حاجةٍ إلى نبي يصلحه. وهذه أخلاق أعرقت فيها الإنسانية ولا بد منها ومن فروعها حتى يظل الناس ناساً لا ملائكة ولا شياطين فإن من عجيب حكمة الله أنه لا صلاح للعالم إلا بالفساد الذي فيه. بيد أن في كل شر جهة من الخير أو جهة تتصل بالخير فإذا صلح فهمه صلح هو أيضاً أو كأنه صلح لظهور حكمته والوقوف به عند حد الشر الطبيعي وهو الشر الذي لا بد منه. فليكن الفقر والحسد والطمع والبخل ولكن برضاً يمنع السخط وسكون يكسر شرة النفس ورفق لا يعنف على الحق واعتدال يقر كل شيءٍ على حده. يومئذٍ يجد الإنسان في كل

نزوة من نزوات جنونه شيئاً من الحكمة أو على الأقل شيئاً يمكن من بعض الوجوه أن يسمى في باب المنفعة الإنسانية حكمة. ولقد كان الفقر عريان يوم كان آدم في الأرض وليس عليه إلا ما خصف من ورق الجنة وعاش دهراً تحت السماء يلبس من ضياء كل كوكب ويمرح في ثياب بيضاء من أشعة القمرين إذ لم يكن يعرفه أحد بعد ولا استطربه سماع السوء في الأحياء، بل كان عنصراً مجهولاً في غيب الطبيعة. ولم يكن لهذا الإنسان يومئذٍ من المعاني الفقرية. . . غير شعور طبيعي لا زيغ في تأويله عن الطبيعة وهو شعور المعدة القوية المعصوبة التي لا تحتمل الشعر والخيال وفنون الكذب العقلي ولا تشعر إلا لتطلب ولا تطلب إلا ما تجد، ومتى وجدت وإنطفأ نهمها فليس إلا قوة الجسم وانبساط النفس وحمد الله في كل ضرب من ضروب الجمال في الخليقة. ثم كانت عداوة ابني آدم إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وفتحت الصفحة الأولى من تاريخ الدم الإنساني في الأرض فكان البغض أول سطورها وجاء من بعده الفقر وخطت بعد ذلك سطور وسطور كلها يلتقي إلى هذين المعنيين. يومئذٍ عرف هذا الفقر وأصبح يتلبس في كل إنسان بمعنى يلائمه إذ لم تعد الحياة هي الحياة بل الوسائل التي يدفع بها الموت ومنها الموت نفسه، فصار البغض وسيلة والحسد وسيلة والطمع وسيلة والقتل وسيلة وكل ذلك لأن الإنسان فقير بمعنى من معاني الفقر وما البغض إلا فقر من المحبة ولا الحسد إلا فقر من الثقة ولا الطمع إلا فقر من الرضا ولا القتل إلا فقر من القتل. وإن أردت العجب فاعجب لهذه الطبائع الإنسانية إذ يحاول كل امرئٍ أن لا يفهم من معنى الفقر إلا ما يمكن أن يجريه على الناس كافة حتى هو وحده المبتلى في نفسه الممتحن في سعادته وحتى يجد مادة العزاء من حيث التمسها. فالفقر على ذلك هو العوز إلى المال، وهذه بلية عليها يحيى الناس وعليها يموتون. ولقد كان الفقر قبل أن يكون المال ثم وجد المال فما منع أن يلتقي أهله الأغنياء من هموم الدنيا وبأس الحياة ما لو استطاعوا لافتقدوا من عذابه بكل ما في أيديهم ولو أن لهم طلاع الأرض، ذهباً ووجدنا المال فما منع الفقراء أن يخولهم الله من رحمته التي لا تفارقهم

طرفة عين ما لا يحبون أن لهم به من الدنيا ولا الدنيا كلها. دخل بعض الفقراء على رشيد العباسي وتاجه يوم إذن سبيكة العصر الذهبي في تاريخ الإسلام والإسلام يومئذٍ ترتجف به دفتا الشرق والغرب وكأن الشمس والقمر يتلألآن عل أرجاء ملكه ذهباً وفضة، وكانت في يد الرشيد كأس ماء وقد رفعها إلى فمه فلما أبصر ذلك الملك الذي لا يملكه شيء أمسك ثم قال له عظني. قال أرايت يا أمير المؤمنين لو منعت عنك هذه الشربة التي في يدك أكنت تطلبها بكل ملكك؟ قال بلى. قال أفرأيت لو شربتها ثم امتنع خروجها منك أكنت تفتدي من عاقبة ذلك يا أمير المؤمنين ما قيمة ملك لا يساوي عند قدر الله شربة ولا. . . . ولا بولة! كذلك يحاول الناس أن لا يخطئوا الرأي فيما يستحبونه أو يطمئنون به وكأنهم لذلك يحاولون أن لا يصيبوا الحق فيما يكرهونه أو ينفرون منه، فكلهم سواء في ابتغاء السعادة المتوهمة التي لا يستحيل أن تتفق ولكنها لا تتفق إذ يزيدها كل امرئ على غير ما يناسب تكوينه الإنساني. وهم بعد على سواء من خشية الفقر لا تبرح أوهامهم تنتجي بمعانيه وهمومه ثم لا تبرح تنمي بها حتى صار الفقر في أنفسهم غير الفقر في نفسه وقد علم الله أنه ما من لسان إلا وفي تكوينه معانٍ كثيرة منه. لهذه القطعة بقية مركز المرأة الإجتماعي (2) من أحسن من نفسه الضعف لا يخجل من الدنايا، ومن تربى على الذل هانت عليه نفسه، ومن اعتاد احترام الغير له عزت نفسه عليه، واحترام النفس خير درع يقي الإنسان شر الخبث والرذيلة فإذا تربت البنت على الأنفة وإباء الضيم عميت عيناها عن السفاسف وغرست في أولادها مكارم الأخلاق، فخير حارس للآداب وأحسن شرطي يقي الناس الرذيلة هو احترام المرأة. إن مصير الأمة بيد المرأة فلا تستصغروا شأنها وأقدروها حق قدرها أماً وبنتاً وزجة، وأنزلوها مكاناً رفيعاً من الإحترام ترده لكم في أنفسكم وتكافئكم عليه بطيب العيش ومكارم والأخلاق.

يعامل الأوروبي امرأته معاملة حسنة يحترمها ويجل قدرها ولا يثقل عاتقها بالأشغال المتعبة. يحمل عنها حقيبتها في السفر ويساعدها على المشي وصعود القطار وهلم جراً، لا ينظر إليها بالعين التي يرمقها بها الشرقي، تؤاكل زوجها وتقاسمه الحياة ويستصحبها زوجها في النزهة وزيارة الأصدقاء ويستشيرها في مهام أعماله ويأتمنها على أسراره. للمرأة أثر في تربية الأطفال أطيب من الرجل فإنها لشفقتها وحنانها تسوسهم من غير عنف. أما الرجل وخصوصاً إذا كان قوي العزيمة فإنه يبطش بإرادتهم ويسلبهم الثبات إذا تولى تربيتهم لا ينفك عن إعلاء إرادته ولو بالقوة فلا يدع لهم مجالاً كافياً لنمو إرادتهم، فيحسن بالآباء إذا أرادوا بأولادهم خيراً أن يعهدوا بتربيتهم إلى الأمهات ليقوين فيهم الإرادة والعزيمة باستكانتهن الأنثوية، ويكتفوا بالإشراف فلا يتدخلون إلا إذا خافوا جموح الطفل. وهذا هو شأن معظم الأوروبيين فإن المرأة الأوروبية هي الآمرة الناهية في بيتها وأطفالها تدير شؤونها المنزلية على استقلال يحترمها أولادها ويطيعونها ويرجعون إليها في قضاء حاجياتهم ولكن لا تزال إلى الآن أقل قدراً من الرجل فإن الأوربي ولو أنه يحسن معاملتها إلا أنه لا يعدها مساوية له في الحقوق والكفاءة فلا يعتبر صنيعه معها احتراماً بمعنى الكلمة وإنما رأفةً بضعفها وإشفاقاً عليها. لو تطاولت إلى مقامه بعض ونازعته الحقوق والحرف المستأثر بها لظهر لها بثوبه الحقيقي مستخفاً بها وما برحت المرأة إلى يومنا هذا محرومة من معظم الحقوق السياسية وحجة القوم أنها أقل من الرجل علماً وقوة وإرادة، وتراها في وظائف الحكومة والأشغال التجارية والصناعية أقل مرتباً وأجراً من الرجل. والمرأة المتزوجة بمقتضى القانون الفرنساوي محرومة من بعض الحقوق المدنية ومحتم عليها أن تطبع زوجها. أولع الناس بحب المقارنة في كل ما يحيط بهم من علم وأرض وسماء وأشخاص فيفضلون هذا على ذاك ويحكمون بتفوق عالم أو شاعر على آخر ويوازنون بين الرجل والمرأة فمنهم من يتحيز للمرأة فيرفعها على الرجل. والمقارنة توقع المرء في أغلاط كثيرة وتعميه عن كثير من الحقائق فإنها تحمله على أن يجرد المفضول من كل الصفات الموجودة لدى الفاضل. والحقيقة أن من الرجال من يشبه النساء خلقاً وذوقاً ومن النساء من هن رجال في أميالهن وصفاتهن فكم من رجل رقيق العواطف هين الخلق يحب الزينة

والتبرج وكم من إمرأة شديدة البأس قوية المراس والمخنثون من الرجال غير قليلين كما أن من بين النساء كثيرات مترجلات وفي كل من النوعين الذكر والأنثى يوجد رجال ونساء في الأخلاق والقوى فلا معنى لحرمان الأنثى من بعض الحقوق بحجة أنها أقل من الذكر عقلاً وكفاءة. نعم إن النبوغ بين النساء أقل منه بين الرجال ولكن الوظائف والحقوق السياسية لا تسند خاصة إلى النابغ والرجال النوابغ قليلون أيضاً ومعظم الناس رجالاً ونساء وسط في المدارك ولا نقدر أن نسلم أن كل امرأة أقل إدراكاً من كل رجل. ولا معنى لتحتيم القانون الفرنساوي على المرأة إطاعة زوجها فإن الرئاسة في الواقع ونفس الأمر لا تكون إلا في جانب الأقوى فإن الزوج هو الأقوى كان هو الرئيس وإن كانت المرأة هي الأقوى كانت الرئاسة لها بطبيعة الحال. وإن كان أولا بد من النص في هذا الصدد فالأجدر بالقانون الفرنساوي من يحث المتزوجين على التشاور والتعاون في الرأي. لها بقية الدكتور عبده البرقوقي المحامي

باب الأدب والتاريخ

باب الأدب والتاريخ مذكرات شبلي شميل اليوم الثاني أما جمال الدين فكان من نوابغ عصره، عالماً واسع الإطلاع في علوم الأقدمين وفلسفتهم، ذا ذكاء مفرط وأدب رائع، مع شجاعة في القول لا تصدر إلا من نفوس مستقلة كريمة وكان ذا حديث طلى شهي لا يمل منه سامعه مع فصاحة عربية في التزام القواعد واختيار الألفاظ ولكنها ممزوجة ببعض لكنة أعجمية تنم عن أصله الغريب، وإنما وقعها على الأذن كان محبوباً ونظره كان جذاباً، وله عينان إلى إلى السواد غائرتان قليلاً تتقدان ذكاء. وهو لم يكن يعرف لغة من لغات الإفرنج الحافلة بالأفكار الجديدة والعلوم الحديثة ولكنه كان ذا مقدرة عجيبة في التحصيل حتى أنه ليستفيد منك الشيء الجديد ويصبه في قالب المعلوم المختمر ويوهمك أنه معروف له منذ زمان طويل. وجمال الدين لم يكتب فيما أعلم شيئاً وإنما كان يلقي على آخرين مقالات إضافية نشرت في جريدة مصر تحت أسمائهم. ولولا الشيخ محمد عبده يده الكاتبة لما كان لصوته صدى، ولبقيت تعاليمه في صدور أكثر الذين تلقوها منه وماتت معهم، إذ كانت كل تعاليمه حديثاً يلقيه حسب مقتضى الحال. فهو فيلسوف من الفلاسفة المشائين الروائيين ورواقه كان رواق القهوة التي بجانب البوستة القديمة المتقدم ذكرها. ولعل تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام أن يحيوا ذكره بينهم في ذلك المكان. وقبل جريدة مصر كانت شهرة جمال الدين مقتصرة على الأخصاء وأعماله محصورة في دائرة مريديه، وأما جريدة مصر فكانت سبباً كبيراً لإذاعة صيته ونشره في الآفاق. ولما عرفت أديب بجمال الدين كانت معرفتي بهذا الأخير حديثة العهد. فقد كنت أسمع به وأنا في الإسكندرية فلما أتيت إلى مصر وددت أن أتعرف به. وكان يتردد كثيراً على بيت حنا عيد قنصل دولة البلجيك. فلما أبديت رغبتي هذه لعيد المذكور ضرب لي موعداً للإجتماع به عنده في إحدى السهرات. ولما تعارفنا أخذنا ننتقل من حديث إلى حديث إلى أن ابتدرته بالسؤال الآتي (ولم يكن سبق لي كتابة أو تصريح في هذا الموضوع بعد) قلت - ما قول سيدي الشيخ (لفظة الأستاذ لم تكن قد جرت بعد على الألسنة كما هي اليوم) في

المعبود الأول الذي اتخذه الإنسان من بين أشياء هذا الوجود؟ وكأني لحظت أنه أخذ بهذا السؤال على غرة كأنه لم يخطر له ببال من قبل. فتقلقل قليلاً كأنه يريد أن يتمكن في مجلسه ولم يطل به ذلك حتى دخل في مقدمة مستفيضة أغنته عن التزام الصمت طويلاً للتفكير وأعانته على تصوير الحكم بما له من سرعة الخاطر وحدة الذهن. ولا أذكر شيئاً من هذه المقدمة وإنما أذكر أنه انتهى بها إلى القول إن المعبود الأول للإنسان الأول كان يقتضي أن يكون في ثنايا الغيوم المتلبدة أو هي نفسها. أما أنا فلم أكن من رأيه وكأني نظرت إلى الإنسان نظراً أعرق في الحيوانية. فاعتبرت الإنسان الأول لاصقاً بأرضه يتخبط فيما أمامه متخوفاً من كل شيءٍ إذ كان يجهل كل شيءٍ فاتخذ معبوده الأول من أشيائها ولم يرتفع ببصره إلى ما فوق إلا بعد ذلك بكثير. واعتبرت حينئذٍ العبادة الفتشية أول عبادات الإنسان وجعلتها في الغابات الكثيفة ذات الشأن في الميثولوجية القديمة وفي الاشجار الكبيرة المفردة القائمة في العراء يستظل بها. للمذكرات بقية أمالي أدب 2 وهنا يحس أن نأتي على بلاغات العرب في الليل وظلمته والكواكب والنجوم وما يتصل بهذا المعنى، فمن أعجب ما وصفت به ظلمة الليل قول عبد العزيز بن خلوف أحد شعراء إفريقية: واسود لا تبدو به النار حالك ... وبيداء لا يجتازها الريح مطلق فإن قوله - لا بدو به النار - أي لا يظهر ضوءها في سواده مبالغة فائقة مع اختصار اللفظ وجزالة المعنى ولا ينقص من قيمته أنه مأخوذ من قول محمد بن إبراهيم القيروان - بني القيروان عقبة بن عامر الصحابي رضي الله عنه ـ تأملوا ما دهاني تبصروا قصصاً ... ظلامها ليس يمسي فيه بالسراج فكلاهما أجاد وأحسن ابن خلوف كل الإحسان في تعميم قصور الضوء بذكر النار التي هي سبب كل ضوء ولم يخصه بالسراج حتى يقطع الوهم في ضعف نور السراج وحده عن الإضاءة في هذه الظلمة.

وإليك قطعة سنية من شعر إبن طباطبا في الليل والنجوم قال: وتنوفة مد الضمير قطعتها ... والليل فوق أكامها يتربع ليل يمد دجاه دون صباحه ... آمال ذي الحرص الذي لا يقنع باتت كواكبه تحوط بقاءه ... في كل أفق منه نجم يلمع زهر تثير على الصباح طلائعاً ... حول السماء فهن حسرى ضلع متيقظات في المسير كأنها ... باتت تناجي بالذي يتوقع متنفساً فيه جناناً واهناً ... في كل لحظة ساعة يتشجع حتى انزوى الليل البهيم لضوئه ... وقد استجاب ظلامه يتقشع وبدت كواكبه حيارى فيه لا ... تدري بوشل ريالها ما تصنع منها دلات النور في آفاقها ... مستعبرات في الدجى تسترجع وكواكب الجوزاء تبسط باعها ... لتعانق الظلماء وهي تودع وكأنها في الجو نعش أخي ولا ... يبكي ويوقف تارةً ويشيع وكأنما الشعرى العبور ورراءها ... ثكلى لها دمع عزيزٌ يهمع وبنات نعشٍ قد برزن حواسراً ... قدامهن إخواتهن الأربع عبرى هتكن قناعهن على الدجى ... جزعاً وآلت بعد لا تتقنع وكأن أفقاً من تلألأ نجمه ... عند افتقاد الليل عين تدمع والفجر في صفو الهواء مورد ... مثل المدامة في الزجاج تشعشع يا ليل مالك لا تجيب كواكباً ... زفراتها وجداً عليك تقطع لو أن لي بضياء صحبك طاقةً ... يا ليل كنت أوده لا يسطع يتبع محمد عزت قصيدة اغتصاب الضفيرة لزعيم شعراء الإنكليز في القرن الثامن عشر اسكندر بوب أكبر شعراء الإنكليز في القرن الثامن عشر اسكندر بوب ولد في 21 مايو 1688 ومات

30 مايو 1740 ودرة تاريخ شعره هي قصيدة اغتصاب ضفيرة التي نشرها عام 1712 وهو في الرابعة والعشرين من عمره. ولها أصل حقيقي وهو أن أحد السراة اللورد بطرس أساء أشد الإساءة إلى سيدة من الأشراف الآنسة فرمور بأن تربص للغانية المذكورة في إحدى ليالي اللهو فقص ضفيرة من شعرها غيلةً واغتصاباً. فشبت العداوة بين الأسرتين وحينئذٍ مشى بالصلح بينهما وسيط متلطف وهو صديق للساعر اسمه كاريل فتقدم إليه بأن يعمل قصيدة يحول بها الحادث عن طوره الجدي إلى طور هزلي حتى يمحو بذلك اسم ذلك الحادث وينتزع شوكته. فقام بوب بالأمر خير قيام وأظهر ملحة الملح - قصيدة اغتصاب الضفيرة التي فضلاً عن إتيانها بالغرض المقصود أعني الإصلاح بين الأسرتين كانت غرة شعر بوب وأبدع منظوماته وها هي: الفصل الأول كم حادث جلل جره الوجد والهيام، وصغير من الأمر أحدث الخطب الجسام، وكم السبب التافه حازب الشر. ومعظم النار من مستصغر الشرر. أيها الملأ عوا نشيدي. وامعوا سجعي وتغريدي. هاكم شعري أرفعه إلى كاريل. ولي الحسناء بيلندا عله يفوز بقبول. لا أكذب الله - موضوعي تافه. ولكن ما أجل حظه من هتاف الجماهير. إذا فزت من العذراء بالوحي ونلت الثناء من الرجل الطرير. شيطانة الشعر! خبريني ماذا يعزي السيد المهذب بإيذاء الحسناء. وماذا يحمل الحسناء على مقابلة السيد المهذب بالجفاء وكيف يجرأ ظرفا. الرجال على هذا الإثم الأكبر. بل كيف تحمل أفئدة الحسان مراجل الغيظ ذات السعير. لما حدر الصباح نقابه أرسلت الشمس شعاعاً رعشاً خلل بيض السجوف. ففتحت تينك العينين اللتين لا بد أن ترمي سراج الزرقاء بالكسوف. في هذه الساعة ينفض الكلب الأليف غبار الرقاد. وينفض من مضجعه حليف الغرام بعد طول السهاد. على مثل جمر الغضا أو شوك القتاد، ودقت الجرس ثلاثاً فلما لم تجبها الخادمة دقت بالحذاء على أرض المكان، ثم جست لولب الساعة فنطق بالوقت لسانها الرنان، كل ذلك والعذراء لم تزل ملصقة بالوسادة وردة خدها المصقول، وقد أغرى ملكها الحافظ بعينها سنة ذات حلم

معسول، فرأت فيما يرى النائم أن فتى أزهى من الطاووس، وأبهى من العروس، قد أدني من أذنها لسانه الخلاب فقال يا أجمل الحسان وأملح الغوان، وموضع عناية الآلاف المؤلفة من الملائكة البراقة سكان الهواء إذا كنت قد آمنت مرة في طفولتك بما كان يرويه لك الحاضنات والقساوسة من رؤيا الجان والعفاريت السائحات في ظلال القمرآء - إذا كنت آمنت مرة بآياتهم الفضية ومناطقهم الخضراء، وبزيارات الملائكة الأطهار مراقد الأبكار، وعلى رؤوسهن (أعني الملائكة) تيجان الذهب وباقات الأزهار، إذا كنت آمنت مرة بذلك فاسمعي مني وصدقي! فاعرفي رفعتك وعلو قدرك ولا تقصري نظراتك على الشؤون الأرضية ولكن ارمي ببصرك العالم العلوي فلربما انكشف ثمت لأعين الأطفال والعذارى من محجبات الأسرار ما ليس ينكشف لغيرهم من الباذخين بالعلم والعرفان. فاسمعي الآن وحي حافظك الكريم وأنزليه من صدرك منزل اليقين، مهما كذب أولو الشك من حضنة العلم البارعين، فاعرفي حرسك الله أنك محفوفة بما لا يحصى ولا يعد من طاهرة الأرواح - كتائب الجو السراع الخفاف، وجيوشه المتكاثفة اللطاف، هذه وإن خفيت عن الأبصار فإنها أبداً طيارةٌ في الفضاء تغشى دار التمثيل فترنق فوق اللوج وتحوم حول المسرح. وأقسم لو رأيت حاشيتك وبطانتك من أولئك الأرواح لحقرت وصيفتيك التين تخدمانك، واعلمي أنا معشر الأرواح أو الملائكة قد كنا حيناً ما بشراً مثلك وكنا نتقمص بديع صورة المرأة ثم تحولنا بقدرة لطيف خبير عن المطية الترابية إلى مطية هوائية الجوهر. فلا تحسبي أنه بموت المرأة يموت زهوها وتيهها، فهي وإن هجرت لعب الورق بعد الوفاء، لكنها لا تزال تشرف على اللاعبين ولا يزال يبقى لها شديد ولوعها بالمركبات المذهبة ولعبة الباشكاه ذلك أن النساء بموتهن تستحيل أرواحهن إلى عناصرها الأول. فروح المشاغبة الصخابة النارية المزاج تصعد فتندمج في زمرة الزبانية. والروح الهادئة المطمئنة تنساب فتنغمس في القناة الجارية. حيث ترشف مع أترابها بنات الماء شاي الجن من أقداح خافية. وروح الماكرة تهبط في صورة عفريتةٍ فتسعى في جوانب الأرض بالشر وتمشي بالنميم كدأبها أيام حياتها. وروح المتظرفة المغناج تسمو على هيئة ملك فلا تزال تمرح وتعبث في مراتع الهواء. واعلمي كذلك أن كل غادة طاهرة حصان لا يصيدها شرك الغواية ولا تحتلبها مصايد

الخداع. ولا يستخفها ثناء مفلق، ولا يزدهيها مديح مزوق، فلا فضل لها في ذلك وإنما الفضل لملكها الحفيظ الساكن بين جبينها، والملائكة تعلمين لتجردها من النواميس البشرية تلبس من أشكال البشر وأجناسهم ما تشاء، فالملك الحارس هو الذي يحفظ عفاف الغادة المشوقة المتيمة بين جدران المراقص والملاعب ويقيها شر خلسات اللحظ نهاراً وهمسات اللفظ ليلاً. في ساعة الخلوة حينما تشب الفرصة نار الشهوة، وينطق لسان الموسيقي فيذيب المهج ويرقق القلوب في مثل هذه الساعة إنما يحفظ الحسناء حارسها الأمين، وإن سماه أهل هذا الوجود الشرف الحصين. ومن الغانيات المتاح لهن الشقاء من تغرهن حارساتهن فتوهمن أنهن أجمل الأنس، وأملح من طلعت عليه الشمس، غيرة عليهن من الرجال واستئثاراً بهن، وكذلك ترى هؤلاء الحارسات يصغون قيم الرجال في أعين غاداتهن حتى يرفضن كل خاطب ثم يرخين لنفوسهن أعنة المطامع ويلقين بأزمة عقولهن في كف الخيال المخادع، والوهم المخاتل فيمنين النفس يتزوج الأمراء والسراة من الرؤوس والأعيان والأئمة والقادة، وتصوغ لهن أيدي المنى الكاذبة أزواج المستقبل رافلين في خلع الإمارة خفاقة فوقهم أعلام المج والسؤدد. بيض الوجوه كريمة أحسابهم. شم الأنوف من الطراز الأول تخشع الأبصار وتنكس الهام في حضرتهم، وتخرس الألسن وتلجم الأفواه في مجالسهم، ويخاطب أحدهم بلبيك وأبيت اللعن وسموك وفخامتك، هذه الأباطيل وأمثالها هي ما يلوث نقاوة قلب الغادة ويعلم لحظها الساحر كيف يعبث بالقلوب ويلعب بالنهي، ويعلم خدها الأسيل كيف يتصنع الخجل فيكتسي إحمراراً باطلاً، ويعلم قلبها المداهن كيف يتكلف الوجل فيتعمل خفقاناً كاذباً. والحارسات هن اللواتي يعصمن الغادة من الزلل في مزالق الأهواء ومداحض الشهوات فيدفعن عنها كيد هذا المخاتل بكيد ذلك ويرددن عنها قحة هذا المغازل بقحة ذاك. وأي فتاة ناعمة كانت تسلم من حبائل محاباة زيد لولا مجاملة عمرو، وأي غادة رود كانت تنجو من إيناس خالد لولا تودد بكر، وإذ نطق عبيد فأي حسناء تستطيع مقاومة خلابته لو لم تلهها غمرة من جانب زياد، وهكذا لا تبرح العفريتة الحارسة تنقل قلب الفتاة بين مختلف

الأضاليل - تنقل بين شتى الأباطيل هذه القلب الذي لشدة امتلائه بالسفاسف كأنه حانوت الألاعيب. ذها السلوك يسميه الناس خفة ونزقاً. ضلة لهم ولجهلهم! إنه في الحقيقة قضاء من الجنة وتدبير. قال العفريت. فأحد هؤلاء الجنة الحراس هو أنا - حافظك ورقيبك - واسمي آريل. فاعلمي أيتها الحسناء أني بينما كنت أطوف في صفاء السماء الصاحية قرب السحر نظرت في مرآة نجمك المشرق فرأيت في صحيفتها آية خطب مهدد وبلاء منذر يكون نزوله بك قبل مغرب شمس اليوم. ولكن ستر الغيب لم ينكشف عن كنه هذا الشر فلا أعرف ما هو ولا كيف يكون ولا أين. فتحرزي أيتها الغانية وحاذري. وتحذيري هذا يا غادتي هو كل ما أقدر عليه. فحاذري أيتها الحسناء وليكن معظم حذرك من الإنسان! هنا ختم الحارس الأمين كلامه. ووثب الكلب فأيقظ الغادة سيدته فهبت من المنام وكان أول ما فتحت عليه عينيها هو صندوق مضمن رسائل الحب الواردة من ضروب عشاقها ففتحته وفضتها وما كاد طرفها يستوعب ما قد حوته هذه الرقع من الوجاع والأسقام والقرح والجراح والسحر والفتنة إلا وكانت قد نسيت رؤيا الملك الحافظ فلم يبق لها أدنى أثر في دماغها. ثم تمشت الفتاة إلى المزدن (التواليت) حيث آنية الفضة مصفوفة. وأوعية البلور مرصوفة. وهنالك جلست الغادة وأقبلت تمتحن فضيلة كل دهان. وقوة كل طلاء. وتطالع في المرآة خيالها الفتان تقبل عليه وتصوب طرفها إليه. فكانت الناشطة جاثية بين أيدي ولاتها كأنها قسيسة هيكل الجمال بمحراب الحسن راكعة. ثم فتحت كنوزاً عدة وبدت للعيان تحف الأرض ونفائس الوجود مهداة لربة الجمال فأخذت الماشطة من كل صنف قبضة وزينت الفتاة بفنون شتى من الزخرف. فعلبة يتوهج بها لؤلؤ الهند اللامع. وجونة يفوح منها عطر دارين الساطع. وهنا تبصر السلحفاة والفيل قد مسخا أمشاطاً بين بيضاء ورقشاء، وصافية ورقطاء. وتبصر الدبابيس صفوفاً مشرقة والمداري سموطاً متألقة، هنا يلبس الجمال الرائع درعه ولامته ويتقلد الحسن سلاحه وشكته. وكلما ازدادت من الزينة ازداد جمالها شوكة وبأساً. وهي أثناء ذلك تثير كوامن المحاسن وتظهر مكنونات الفتن وتنقح من ابتساماتها. وترهف من نظراتها. والجنة الحراس في هذه الأثناء تحف الفتاة - قرة عيونها - فطائفة

ترجل وترطل. وطائفة تحسن وتجمد. صنع الجنة المهرة - هم يأدون هذه الوظائف. والناس جهال الحقائق يعزونها للوصائف. انتظروا بقية هذه القصة الغريبة في العدد القادم.

العلم والفلسفة

العلم والفلسفة غرائب العلم - العلم يدنو رويداً رويداً من الدين - وبعد ذلك - وبعد ذلك سيكونان شيئاً واحداً بعد أن يندمجا بعضهما في بعض ويتجليا في مظهر واحد هو الحقيقة. هل نستطيع مخابرة الموتى لا يزال سير أوليفرلودج، العالم الإنكليزي الكبير، يدافع عن مذهبه الروحاني العلمي الجديد بكل قوى حججه وأدلته، ويناضل معارضيه من العلماء بأسلحتهم، أي من ناحية العلم والتدليل العلمي، وقد نشر أخيراً في مجلة استراند المشهورة رسالة جديدة يريد أن يقنع العالم بأن الموتى يستطيعون أن يراسلوا الأحياء ويخابروهم، وأنهم فعلاً لا يزالون يرسلون إليهم الرسائل والمخابرات، وبين فيها الطريقة التي تتبع في ذلك، ولاكتشافات التي يهتدي إليها عن الحياة الأخرى وأحوالها ونظامها، وما يمكن أن يجدي ذلك على الحياة الدنيا وأهلها، ونحن نقتطف منها بعض فقرات صالحة. قال سير اوليفرلودج، إذا صح أن الموتى لا يعرفون شيئاً فلا يكون من ذلك إلا أن نقول أنهم قد فنوا وإنهم لا يوجدون ومن ثم لا نستطيع أن نخابر العدم، ونراسل ماهو في حكم الفناء ولكن هذه الطريقة في الجدل والبحث ليست منطقية وليست إلا طريقة معكوسة خلفية، والوجه الصحيح المعقول في البحث أن تحاول أولاً أن نثبت بالتجاريب والملاحظات إذا كان التراسل ممكناً، فإذا تقرر ذلك وثبت، خرجنا منه بأن الموتى يعلمون شيئاً وإن لهم وجوداً حقيقياً. وهنا يثبت في وجوهنا سؤال آخر، وهو كيف يستطاع مخابرة شخص ليس له أداة جثمانية لإخراج صورة الأفكار التي لديه، وليس في وسعنا إلا أن نحيل المتعرضين إلى رد جزئي وصلنا إليه اليوم، وهو اكتشاف علم التليبائي أي انتقال صور الأفكار من ذهن إلى ذهن بدون واسطة الحواس أو الوسائل الخارجية، ولكن هناك من يقولون أنه لابد من وجود ميكانيزم أي جهاز جثماني لنقل هذه الأفكار التي يبعث بها الموتى. ونحن نقول أننا نتمشى معهم ونوافقهم في وجوب وجود هذه الأداة ملكاً للقوة المراسلة (الميت) فإن الموسيقار الذي تحرمه من قيثاره، قد يستطيع أن يتعلم كيف يوقع على قيثار موسيقار أخر، وإذا عزت عليه الآلات، فلا تزال روحه حافلة باللغم، ممتلئة باللحن، ولكنها موسيقى صامتة غير

مفهومة، ولا محسوسة، ولا يستطاع نقلها من أضعاف روحه أو كتابتها، ولهذا يجب أن يكون هناك آلة أخرى يستعين بها على إخراج الموسيقى الكامنة فيه. وهناك أناس كثيرون يفيدوننا في توسيع معارفنا دون أن يشعروا، وهم يسمحون أن يستخدم جزءهم الجثماني في حمل الرسائل - وهم لا يشعرون ـمن أذهان غير أذهانهم، أما شخصيتهم فتظل في هذه الحالة معلقة أو معطلة أو في غيبوبة وذهول، بينما يظل جثمانهم وذهنهم عاملين نشيطين وهكذا تنتقل الرسائل بواسطتهم وهي تحوي معلومات لم يكونوا يعرفونها من قبل، ولا تترك بعد رجوع شخصيتهم أثراً في ذاكراتهم. ونحن نسمي هذا الشخص المستخدم أداة لذهن غيره وسيطاً وهذا هو السبيل إلى مراسلة الموتى، ونحن نرى أن المعلومات التي تتلقى بهذه الواسطة تكون في أغلب الأحيان حوادث عائلية تافهة، لا تفيد الجميع ولكن حسبها أنها تثبت شخصية الشخص اللذين يراسلونه، ولا نعتقد أن المعلومات الهامة الخطيرة تفيد فائدة كبرى، لأنها إما أن تكون مستحيلة الإثبات، وإما أن تكون معروفة للناس من قبل، ولكن الذي يهم من هذه المعلومات هي المعلومات التافهة المنزلية لأنها تظهر شخصيات الموتى للأحياء المحزونين عليهم. وأنا أشرح للناس أنواع الرسائل التي تتلقى من الموتى فمن هذه الرسائل ما يشرح الحقائق والمشاهدات التي ترى في العالم الآخر، كالحياة التي يعيشونها والمكان الذي يحوطهم، واهتمامهم بأحوال الأرض والصعوبة التي يجدونها في التراسل، ولكن هذه المخابرات لا يمكن أن تعرض في الكتب أو تنشر للناس لأنه ليس لدينا وسائل لفحصها والتأكد من صحتها، وحسبنا أن نقول أن هذه المخابرات تدور جميعاً حول نقطة واحدة، وهي أن الحياة هناك أشبه بحياتنا مما كان يظن المراسلون أو يتوقعون. وهم كثيراً ما يتكلمون عن الأزهار والحيوانات والكتب والجمال، ويؤكدون لنا أنهم لا يعرفون أكثر مما نعرف إلا الشيء النذر اليسير، وإنهم لم يتغيروا عنا في شيء كثير، ويقولون كذلك أن كل ما حولهم محسوس ملموس، وإن المادة التي كانت في الأرض أصبحت لديهم ظلاً مضمحلاً، ومن ثم لا يشعرون بما يجري في الأرض، إلا إذا وكل إليهم أن يعينوا الذين ينتقلون إليهم منها، وإلا إذا حاولوا أن يشرفوا على أحبابهم الذين تركوهم وصحابتهم الذين يعيشون بعدهم. وأما الرسائل الأولى فلا تحوي شيئاً من هذا الوصف وهم لا يحاولون فيها إخبارنا بل

إقناعنا بأن الذين نفقدهم لا يزالون أحياء فرحين سعداء، وأنهم ينعمون بالبهجة إذا نحن أردناها لهم ولم نقلقهم، وإنهم يحزنون لأحزاننا وإن كانوا يرون حياتهم الجديدة حافلة بالإبتهاج والغبطة والنعيم. ومن ثم تعلم أن الرسائل الأولى التي نتلقاها من الموتى، هي أكثر ما تكون رسائل عواطف، ثم يأتي بعدها الرسائل الحاوية لطائفة من الذكريات التي ترضي الذين يريدونها من أقاربهم الأحياء، أو تدور حول إزالة شك أو سوء فهم أو ريبة تتعلق بحوادث خطيرة وقعت للأحياء من ذوي قرباهم، وقد لاحظنا أن المراسلين في العالم الآخر يجتهدون في أن يرسلوا العزاء والراحة لأهلهم من هذه الناحية. ونحن لا نعرف كيف يستطيعون علم ذلك، ويلوح لنا لغزاً غامضاً، ولكن هذه الأشياء، لا تزال تقع لكثيرين في هذه الحياة، إذ يحدث لهم أن يهتدوا إلى أسرار غريبة بطريقة غريبة الهامية. وقد أصبحت هذه الرسائل ضرورية في هذا الوقت وهذا الزمن الحافل بالأحزان والآلام، وهذه الرسائل تأتي تباعاً من كل سبيل، فالشبان الذين قتلوا في هذه الحرب، وهم في غضارة الشباب، وطراءة السن، لا يستطيعون أن يستريحوا في العالم الآخر وهم يحسون حبائبهم في حزن شديد لفقدتهم، وإنهم في بادئ الأمر لا يرتابون في أماكن مخابرة الأحياء الذين خلفوهم ورائهم، فإذا حدث أنهم علموا أن السبيل ممكنة لهم، فلا يزالون يجتهدون كل الجهد في إثارة الرغبة الشديدة في أرواح الأحياء إلى مخابرة موتاهم.

باب تدبير الصحة

باب تدبير الصحة في الطفل يندر أن يبتسم الطفل قبل مضي ثلاثة أسابيع من عمره وفي الأيام الأولى تتحرك عيناه في جميع الجهات بدون أن تتعلق بشيء مما تراه إلى مضي شهرين. صياح الطفل يصيح الطفل في الأشهر الأولى من أقل مؤثر ويكفي لسكوته إزالة ذلك المؤثر وإذا لم يعلم السبب يعرض للضوء أو يمس على بطنه أو تمرر اليد على رأسه جملة مرات فإن ظل يصيح كان سبب الصياح ألماً لا محالة. الخوف الليلي قد يحصل لبعض الأطفال إنزعاج وفزع شديدان يستيقظون معهما بحالة خوف شديد ويحصل ذلك عادةً بعد نوم الطفل بساعتين أو ثلاث ساعات فيستيقظ صائحاً منادياً باكياً مغطى بعرق غزير غير ملتفت لمن حوله متأثراً بتصور كاذب أزعجه في نومه كرؤية كلب أو هر أو رجل بشع الهيئة ولا يمكن تسكين روعه إلا بعد جهد جهيد عندئذٍ يعرف من حوله فيرجوهم في بقائهم معه وأن لا يطفئوا النور ثم ينام إلى الصباح إذ يندر تكرر الخوف في ليلة واحدة وإذا ما أصبح الصباح استيقظ هادئاً خالي البال مما حصل في الليل - يعالج أمثال هؤلاء بتنظيم الهضم وتجنب الإمساك وكل ما يهيج عقل الطفل خصوصاً وقت النوم ويعود من ابتداء ولادته على النوم ف6ي الظلام. السل الرئوي يظن الكثيرون أن السل الرئوي مرض فتاك لا محالة ليس ينجو منه واحد ممن استضافه ونزل داره - هذا لا شك مبالغ فيه إذ ثبت من جملة إحصائيات أن السل الرئوي يصيب أكثر من عشرين في المئة من الأحياء يشفى من هؤلاء في ظرف ثلاثة أشهر من بدء المرض أكثر من تسعين في المائة وهم لا يعلمون مرضهم ويسمى النوع الإجهاضي أما الباقون والذين تظهر عليهم علامات السل منهم فيشفى منهم الكثير ممن يدرك العلاج الناجع في الدور الأول للمرض وربما في الدور الثاني إذا استعمل الطبيب شيئاً من ذكائه ومن هذا يظهر أن ليس كل سل قاتلاً.

فتاوي طبية فتحنا هذا الباب كما بينا في العدد الفائت بعد أن تكفل صديقنا النابغة الدكتور محمد عبد الحي بالإجابة على كل سؤال طبي ويصل إلينا من أي مشترك من مشتركي البيان - ولنا على السائل أن يبين اسمه ولقبه وبلده وعنوانه وأي حرفةٍ يحترف وله علينا أن نصرح باسمه أو نرمز إليه بالحروف إذا أحب وسننشر الأسئلة وأجوبتها حسب ترتيب وصولها إلينا وبالمقدار الذي يتسع له العدد. ـ سؤالان من حضرة صاحب الإمضاء أولاً ما هو الضرر الذي يسببه غشيان الرجل زوجه عقب الأكل مباشرةً وما هي الطرق التي يسلكها إذا عراه شيء من جراء ذلك حتى تنتظم حاله؟ ثانياً ما هي أسباب الإغماء وما هو علاجه؟ إبراهيم علي الشمردل بالفشن الجواب أما عن السؤال الأول فهو يتلخص في عمل مجهود جسماني وعقلي بعد الأكل وذلك أنه بعد الأكل مباشرةً يعرو الإنسان شيء من الخمول والتعب من جراء تحول الدم بكثرة إلى الجهاز الهضمي ويأخذ القلب في العمل بهمة وتتزايد دقاته ومن هنا كان الهضم مجهوداً قائماً بنفسه فإذا أضيف إليه مجهود آخر ترتب على ذلك أن القلب يؤدي مجهوداً مضاعفاً يتغلب على لوازم المجهود الجديد وهنا ضرر محقق عند المسنين الضعفاء ومن هم معدون لعلل القلب أو من هم مصابون بها إذن ربما نجم عن ذلك شلل عام أو موضعي أو سكتةٍ قلبية أو مخية أو ضعف عام - وفي الوقت نفسه بسبب عدم كفاءة القلب القيام بمجهودين في وقت معاً يتحول جزء من المجهود الهضمي للمجهود الجديد فينشأ عن ذلك عثر في الهضم وإذا تكرر ذلك حصل تمدد في المعدة ولعلاج هذه الحال يجب الراحة التامة بعد الأكل مباشرةً مدة ثلاثة أشهر مع تنظيم مواعيد الأكل بدقة وكذلك مواعيد قضاء الحاجة. وأما عن السؤال الثاني فسنفرد له مقالاً في العدد القادم لأن الكلام عن الإغماء قد يطول. الدكتور محمد عبد الحي

تفاريق

تفاريق نباتي غريب ونبات أغرب إذا فرضنا أننا نستطيع أن نزرع في حديقتنا شجرة من أشجار الفاكهة مختلفة الثمر متنوعته، حتى لنذهب فنقطف منها جميع أنواع الفاكهة والأزهار والخضروات التي نريدها لطعام الغذاء، ومائدة العشاء، فما أبهج ما يكون العيش. وما ألذ ما يكون الخوان. ولعل الناس يظنون هذا الغرض وهماً مضحكاً، ومستحلاً من المستحيلات، وتخيلاً من تخيلات الجوع، ولكن الحقيقة هي أنه يوجد في مدينة بنسلفانيا من أعمال الولايات المتحدة رجل نباتي يسمى مستر والتر، يثبت لمن في المكان زرع هذه الشجرة، وقد عمد إلى إثبات ذلك بالدليل والبرهان فإن لديه الآن في حديقته، أو قل في بستانه العلمي، شجرة لا تقل في الغرابة عن هذه الشجرة الذهبية المتخيلة. ولا يجب الذهاب لي أن هذا الرجل من المحتالين البلافين فإنه من العلماء المعروفين في الولايات المتحدة وقد وضع كثيراً من الكتب العلمية المختلفة، وهو يشتغل أستاذاً بالفلسفة في جامعة هارفرد وقد قصر كل اهتمامه ووقف أبحاثة منذ سنين على الاشتغال بما يسميه الفلسفة النباتية ولديه في بستانه أغرب ما شوهد من التجاريب النباتية وهي دائماً في سبيل النجاح. مثال ذلك أن لديه أكماماً من السوسن طعمت في شهر أكتوبر سنة 1915 بشجرة من الخوخ، فشوهدت حية يانعة مزهرة عليها في مايو سنة 1916 ويوجد فوق هذه الشجرة كذلك فروع من الورد كانت قد طعمت في ذلك التاريخ وعليها أيضاً أغصان من الدفلي والتوت ونوع آخر من الورد وهي ناضرة مثمرة ناحجة، ولشد ما تثور في صدر الإنسان البهجة والمسرة إذ تقع عينه على شجرة وهي تحمل جميع هذه الألوان، وهذه الطائفة المختلفة المتنوعة من الأزهار والأثمار. وأكبر مقاصد المسترولتر أن يتوصل إلى زرع شجرة يسميها فواكه المائدة وتعريشة تجمع كل أزهار الدنيا، والذي يزور هذا البستان العلمي يعتقد بأن الرجل لن يخيب في مقصده. الآلهة في الأسطحه في إحدى قرى اليابان اعتاد جميع السكان أن يضعوا فوق أسطحه منازلهم للإله شوكي

وهو في لباسه الحربي يحمل سيفاً في يده. يحرس أهل البيت. وليس هناك منزل يخلو سطحه من تمثال هذا الإله. وهم يعتقدون أنهم يظلون في مأمن من اللصوص والأمراض والأوبئة والنكبات، مادام هذا التمثال منصوباً على أسطحتهم. فماذا ترى يفعل لصوصهم؟

ماجدولين الجديدة

ماجدولين الجديدة يرى القراء في غلاف هذا العدد الصفحات الأولى من ماجدولين الجديدة وهي الرواية البديعة الرائعة الحوادث والأسلوب المغذي التي سننشرها تباعاً في البيان. وحسبنا أن نقول عن مجدولين الجديدة أنها إحدى بدائع الروائي الطائر الصيت ويلكي. كولنز صاحب رواية ذات الثوب الأبيض ولعل المطلعين على آداب الغرب يعرفون مقدار الجلال الفني الذي يبدو في جميع روايات كولنز وقصصه والروح الفلسفية الفياضة التي تتجلى في كل قطعة من أدبه، وإنه ليس من الروائيين العاديين الذين يقعون على التافه من الموضوعات فلا يزالون يدخلون به في شعاب متعرجة ودروب مترامية، ويزيدون في تعقيد الحوادث ومزجها حتى إذا بلغوا بها النهاية من التعقيد، عادوا يحلون عقدها، ويبسطون شعابها ثم لا يخرج القراء من ذلك إلا بلهو وقتي لا يبقى في الذاكرة منه شيء إذا انتهوا من تلاوة السطر الأخير منها، ولكن دأب كولنز أن لا يقتصر على الاحتفال بحوادث الرواية وإظهار كل قوى الفن الذي أوتيه في سبكها، وإنما يجتهد في أن يبث في روايته كل فكر جديد أو مغزى اجتماعي صالح، أو تحليل نفساني غريب. ولا نذكر أننا وجدنا من بين رواياته رواية خلت من هذه المزية الفريدة. ومجدولين الجديدة هذه هي الرواية التي أراد بها أن يظهر قسوة المجتمع في معاملة المرأة البغي ومطاردتها واحتقارها وإن عمدت بعد إثمها إلى التوبة والتكفير عن ماضيها، والإحسان إلى الناس كل جهدها، إذ لا يزال ظل الماضي يجري في أثرها أين ذهبت. وقد استعار لروايته اسم مجدولين من مريم المجدلية التي جاء ذكرها في الإنجيل، وكانت بغياً فجاء بها إلى عيسى يريدون أن يرجموها، فقال لهم السيد المسيح، من كان منكم بلا خطيئة فليأخذ حجراً وليرجمها فكف القوم عنها لواذا منهزمين. ونحن نطلب إلى القراء أن يصبروا ويتمهلوا لهذه الرواية البديعة. حتى يستطرد الموضوع وتنبسط الحوادث في الأعداد القادمة إذ كان ما نشر منها في الغلاف لا يكاد يجاوز سطوراً معدودات.

باب الأخلاق والاجتماع

باب الأخلاق والاجتماع مختارات من آراء ليوباردى لعل أندر الأمور في هذا العصر أن تجد رجلاً ظفر بمدح الناس، وشاع ثناؤه على أفواه الجماعة ولم يكن هو أول مادحيه، ولم يظهر الثناء أول مرة على شفتيه. ولقد اشتدت الأنانية بالناس. وطال التحاسد بينهم، حتى أنك إذا أردت أن تكسب لنفسك اسماً جميلاً، فلا يكفيك أن تقوم فقط بالأعمال الكبار، والمكرمات الجسام، ولكن ينبغي لك كذلك أن تمتدحها أنت وتغالي في الثناء عليها، أو أن تجد لك مطيباً أو بوقاً لا يسكت لحظة واحدة عن تفخيم أعمالك وتعظيمها والصراخ بها في أذان الجمهور، حتى يكرههم بالقحة والجرأة والمثابرة على ترديد جزء منها أو كلها، وأنت فلا يدور في خلدك أن إنساناً سيمدحك إذا أنت لم تستحثه على المديح، أو تغريه بالثناء، فإذا تركت ذلك، ألفيت أكثر الناس ينظرون إليك صامتين واجمين، بل قد يحاولون أن يمنعوا غيرهم من رؤية فضلك. إذن فمن أراد أن ينوه بنفسه أو يسمو باسمه، فلينفض عنه الحياء، وليمسك عن التواضع. فإن العالم أشبه في ذلك بالمرأة، لا تستطيع أن تظفر منها بشيء. لو جنحت إلى الحياء، والصمت والانزواء. إن أنجع دواء تستشفي به من اغتياب الناس إياك واتهامك والرتع في لحمك، هو الزمن، فإذا عابك الناس بمبادئك، أو تقول في سلوكك، واتهموك التهمة النكراء، فإن خير سبيل لك أن لا تأبه بهم، وأن لا تحفل بسبابهم، وأن تسترسل فيما أنت فيه مسترسل، وتأخذ فيما أنت فيه آخذ، ولذلك لا تلبث حتى تجد الموضوع قد أصبح تافهاً قديماً، والمغتابين المتهمين قد كفوا عنك منطلقين إلى البحث عن فضيحة جديدة لغيرك، وأنت كل ما أظهرت الثبات والمثابرة والإصرار في متابعة سبيلك، غير آبه بالإشاعات. ولا مكترث بالأقاويل ولا تلبث أن ترى سلوكك الذي قد عابوه عليك وشؤونك التي عدوها نزقاً منك وطيشاً ونكراً قد عادوا ينظرون إليها نظراً آخر. ويعترفون بسدادها وحكمتها ووجوبها. وهكذا شأن الناس أن يعودوا آخر الأمر إلى آراء الذين يصرون على متابعة سبيلهم، وينحازون إلى مبادئ العنيدين منهم، ومن هنا ترى الضعفاء يعيشون كما يريد العالم، وأما الأقوياء فكما يريدون هم ويشاءون. لا يخجل الناس من الأذى الذي يحدثونه أو يصيبون به غيرهم، وإنما أكبر خجلهم من

الأذى الذي يصيبهم، فالسبيل الأقوى لإخجال المسيئين وفضح الأشرار. أن تكيل لهم بصاعهم. إذا أردت أن تعلم مقدار الحب الذي وضعته الطبيعة في فؤاد الإنسان لأبناء جنسه، فعليك أن تنظر ماذا يفعل الحيوان أو الطفل الرضيع إذا لمح صورته في المرآة، إذ يظنه في الحال مخلوقاً مثله، ولهذا يجن جنونه، ويبلغ منه الغضب مبلغه، فيحاول جهده أن يؤذي هذا المخلوق الذي يطل عليه أو يقتله، أما الأطيار الأليفة الداجنة، على فرط رقة طبيعتها ونعومة أظافرها، فتلطم صفحة المرآة مغضبة، وتقذف بنفسها فوقها حانقة، ضاربة بأجنحتها، عارضة بمناقيرها، وأما القرد فيرمي بالمرآة إلى الأرض، ويحطمها تحطيماً، إذا مكنته الفرصة من ذلك. إذا قدموك إلى إنسان للتعرف به، فدع المعرف - إذا أراد حقاً أن لا يسيء إليك - أن لا يذكر شيئاً عن أكبر فضائلك، وأخص مزاياك ومواهبك، بل حسبه أن يقتصر على العرضى من شؤونك، والدنيوي من صفاتك، فإذا كنت ذا جاه عريض في الأرض، فليقل ذلك ولا يزد، وإذا كنت غنياً. فعليه أن لا ينسى ذكر غناك، وإذا كنت عظامياً شريف الأعراق فليذكر عظاميتك، ولكن إياك أن تأذن له في الكلام عن عظمة روحك، ونبل وجدانك، وفضائلك، أو نبل أدبك أو رقة حاشيتك، اللهم إلا قليلاً، أو من باب الإضافة إلى صفاتك العرضية الأخرى، أما إذا كنت أديباً وكنت قد ظفرت بالشهرة والصيت البعيد، فلا تدعه يمدحك بروعة معانيك. وبلاغة أساليبك، واتساع معارفك، وعمق تفكيرك، وجلال نبوغك. بل حسبه أن يقول عنك مشهوراً لأن الكفاءة في هذا العالم للشهرة لا للفضل. في كل بلد من بلاد الدنيا، وكل إقليم من أقاليم العالم، نرى الناس يعدون النقائص العامة والشرور الطبيعية التي تشترك فيها الإنسانية كلها، معائب خاصة مقصورة على بلدهم وحده، فما نزلت أرضاً إلا رأيت أهلها يقولون هنا النساء صلفات متقلبات، جاهلات، قليلات الأدب، والناس في بلدنا هذا فضوليون ثرثارون، مغتابون، نمامون. هنا السلطان للذهب، والنفوذ للوساطة، والقوة للدناءة واللؤم. هنا يسود الحقد، ويستبد الحسد، ولا تصفو الصداقة، ولا يخلص الود، وهلم جراً. كأن الحال ليست كذلك في البلاد الأخرى، وهكذا ترى الناس فاسدين لؤماء، بالضرورة

والحاجة والقصد، ويأبون إلا أن يعتقدوا أنهم فاسدون لئام. عرضاً وصدفة واتفاقاً. . . مركز المرأة الإجتماعي 3 أتينا في المقالين السابقين على مجمل أحوال المرأة في مختلف الأمم والشعوب المتمدنة وغير المتمدنة توطئة لما سنتكتبه على المرأة المصرية ولفتاً للقارئ إلى بعض عاداتنا ومنزلة المرأة عندنا من الرقي والإنحطاط. ولما كانت المدنية الإسلامية هي المدنية السائدة في بلادنا المصرية فلا يسعنا الكلام على مركز المرأة المصرية من غير أن نتكلم على حقوق المرأة في الإسلام. انتشل الإسلام المرأة العربية من وهدة الإنحطاط التي كانت فيها ورفع عن كاهلها كثيراً من المظالم ورد إليها بعض حقوقها المسلوبة وصعد بها إلى مستوى الإنسانية وخولها حقوقاً لم تحصل عليها بعد المرأة الأوروبية. وكفاه مجداً وفخراً أن انقضى على العادة الوحشية عادت وأد البنات التي لا تزل الإنسانية تقشعر منها فزعاً وتذوب منها ألماً وكمداً كلما مر بخاطرها ذكراها. وقرع الناس أشد التقريع على حزنهم وانقباض نفوسهم حينما تولد لهم بنت. ولم يهمل الدين الإسلامي شأن المرأة ولم يقض بفناء روحها بعد الممات بخلاف بعض الأديان الأخرى بل اعتبرها مثل الرجل وفرض عليها من الواجبات الدينية ما فرضه عليه وأعد لها في الآخرة من النعم والعذاب ما أعده للرجل. وأوصى الإنسان خيراً بوالديه على السواء فلم يميز الأب عن الأم بل على العكس خصها بالنصيب الأوفر من الرعاية والإحترام وزاد من قدرها حتى جعل الجنة تحت أقدامها. وسبقت الشريعة الإسلامية الشرائع الأخرى في منح الزوجة حق الإرث عن زوجها مع أنه إلى يومنا هذا لا تزال بعض القوانين الأوروبية تنكر على الزوجين حق التوارث بينهما ولم تحرم الشريعة الغراء البنت من أن ترث أبويها وأقاربها في العقار المنقول على حد سواء. غير أن الشرع الإسلامي لم يسو بين المرأة والرجل في مقدار الإرث بل ميز الرجل وجعل نصيبه ضعف نصيب المرأة وقدم في الإرث الأقارب الذين ينتسبون إلى الميت

برجل عن اللذين ينتسبون إليه بإمرأة. ولكن من جهةٍ أخرى أنصفت الشريعة الإسلامية المرأة حيث قضت على الرجل أن ينفق على زوجته ولو كانت غنية وأن يقوم بأداء كل ما تحتاج إليه ولم تكلف المرأة بخدمة زوجها ولا بالقيام بأي عمل من الأعمال إلا إذا كان ذلك برضاها وعن طيب خاطرها. وقد عمم الفقهاء قاعدة لإرث في كل شيء حتى في الدية والشهادة فقرروا أن دية المرأة نصف دية الرجل وإن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل بل ذهبوا في الشهادة إلى أبعد من هذا حيث قالوا إن شهادة المرأة وحدها غير كافية إلا فيما هو خاص بالنساء كالحيض وما أشبه وفيما عدا ذلك اشترطوا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين أي أن شهادة أربع نسوة غير كافية في نظرهم. ولا ينعقد الزواج إلا بإيجاب وقبول من الزوجين غير أن للرجل دون المرأة أن يحل عقدة الزواج ويطلّق زوجته بغير رضاها. والرجال قوامون على النساء. بيدهم الأمر والنهي وعليهن الطاعة والانقياد إلا فيما حرمه الله. فإن عصين فلهم حق تأديبهن ولو بالضرب ولكن الضرب البسيط الذي لا يترك أثراً على الجسم. وعلى النساء أن يلتزمن بيوتهن ولا يخرجن بغير إذن إلا إذا كان ذلك لزيارة آبائهن ومحارمهن بحيث لا تزيد الزيارة عن مرة واحدة في كل شهر بالنسبة للآباء وعن مرة في كل سنة بالنسبة للمحارم الآخر. وهذه الرآسة قاصرة على الشؤون الزوجية. فلا سلطان للرجل على المرأة فيما هو خاص بإدارة ثروتها فلها أن تتصرف فيها حسب ما تريد من بيع وشراء ورهن وهبة من غير أن يكون لزوجها حق الاعتراض عليها ولها أن تعين وصية أو قيمة وتوكل غيرها وتتوكل عن غيرها وبالاختصار لها كل الحقوق المدنية التي للرجل بخلاف المرأة الأوربية التي لا تتمتع من الحقوق المدنية إلا بالنذر اليسير ما دامت متزوجة فهي في مرتبة القاصرة أو المحجور عليها لا يسوغ لها أن تتصرف في مالها بدون إجازة وليها وهو الزوج. وسنرى في ما يلي أن الأمة المصرية وإن اتبعت الشريعة الغراء في كثير من هذه الأحكام إلا أنها ما زالت تغمط قدر المرأة وتعاملها في بعض الأمور معاملة سيئة لا تتفق مع ما اتصفت به من الوداعة واللطف وما لها من المجد المؤثل في المدينة.

الدكتور عبده البرقوقي المحامي

آراء في المرأة ومكانها من المجتمع

آراء في المرأة ومكانها من المجتمع (1) رأي فردريك نيتشه تريد المرأة أن تتحرر وتنطلق من سلطة الرجل، ولهذا تحاول أن تفهمنا نفسها على حقيقتها، وهذا لعمري أكبر وسيلة لتشويه أوروبا ومسخها، إذ ماذا أنت مستنتج من هذه المحاولات المنكرة السقيمة الشوهاء التي تريد المرأة بها أن تظهر لنا تفلسفها وتكشف لنا عن نفسها. إن المرأة يجب أن تخجل وتستشعر الخزي والفضيحة، لأن أكبر صفاتها الادعاء، والتظرف، والسطحية، والرياء، والخلاعة، والطيش الخفي، وهذه الصفات لم تستطع أن تكتمها أو تقهرها وتغالبها الأمن - خوفها من الرجل ولكن صيحاتها ولا ريب تبعث الآن على الخشية والخوف، إنها تريد أن تكون عالمة، ولكن العلم كان ولا يزال من شؤون الرجال وموهبة من مواهبه، ونحن يجب أن نشك في هذه الرغبة التي تنزع إليها المرأة، وهي أنها تريد التنوير والتهذيب والعلم، لأن المرأة إذا كانت تريد حلية جديدة لها، والحلي هي أبداً مطلب النساء - فلماذا إذن تريد أن تجعل نفسها مخوفة مرهوبة. ألعلها تريد أن تظفر بالسيادة. ولكنها لا تريد الحقيقة، بل إن الحقيقة هي أعدى أعداء المرأة وأشد الأمور إرعاباً لها - إذ كان أكبر فنونها الكذب. وأشد مزاياها التظاهر والجمال. ونحن الرجال يجب أن نعترف ونقر بأننا نحب هذا الفن منها، نعم ونعجب بهذه الغريزة فيها، نحن الذين علينا الكد والعمل والواجب الأشق نتطلب الرياضة والنزهة في رفقة مخلوقات، إزاء نظراتها وحماقاتها وخلاعاتها تبدوا رزانتنا ووقارنا وجدنا كأنها إحدى الحماقات، وأنا أسألكم أخيراً، هل رأيتم يوماً امرأة شهدت لامرأة أخرى بقوة الذهن ونيل الروح، أليس الواقع أن المرأة كانت ولا تزال تحتقر وتزدرى من المرأة نفسها، وليس منا نحن الرجال. لقد كانت المرأة - ولا تزال - تعامل من الرجال كالأطيار، التي فقدت طريقها فهبطت إليهم من حالق، وكانوا يعدونها شيئاً ضعيفاً سهل الانكسار، غريباً، حلواً مخيفاً، منعشاً، ولكنه يجب مع ذلك أن يقص جناحاه، حتى لا يستطع الفرار. إن من أكبر دلائل السخف وبساطة الذهن أن تجهل المكانة الطبيعية للرجل والمرأة وتتنامى العداء الشديد الطبيعي بينهما، وتتمنى أن تجد التساوي في الحقوق، والتساوي في التعليم، والمركز، والعمل، إن المفكر الذي يرى ذلك يعد سطحياً تافه الذهن، يجب أن يعد

متهماً مشبوهاً بل مخدوعاً مدخولاً في عقله، وأما الرجل العميق الروح. العميق الرغبات المحب للخير - وإن امتزاج هذا الخير بالقوة والشدة والجفاء - فينظر إلى المرأة نظر الشرقيين، يجب أن يعدها ملكاً من أملاكه، ومتاعاً محبوساً من أمتعته، ومخلوقاً قضت عليه الطبيعة بالخدمة وأداء واجبه الذي أعد له، يجب أن يقتدي في ذلك بحكمة آسيا العظيمة، وسمو غريزة آسيا، كما فعل اليونان القدماء - وهم أبدع ورثة آسيا وتلامذتها - إذ كانوا من زمن هوميروس إلى بركليز يشتدون في معاملة المرأة، ويظلون أبداً شرقيين إزاءها، فعلينا نحن أن نفهم ضرورة ذلك وحكمته وسداده. إن هذا الجنس الضعيف لم يعامل في العصور الماضية بمثل هذا الاحترام الذي يعامل به اليوم. وهذا بفضل مزاج الديمقراطية الحديثة. فلا غرو إذا كان هذا الجنس يريد أن يسيء استعمال هذا الاحترام. لأن النساء يطلبن أكثر منه. وقد تعلمن أن يسألن حقوقاً أخرى ومطالب. حتى لقد كادت ضريبة هذا الاحترام تصبح مخيفة مفزعة، وجملة القول أن المرأة قد فقدت الحياء. ويجب أن نقول أيضاً أنها فقدت الذوق. إنها ابتدأت تتعلم أن لا تخاف الرجل. والمرأة التي لا تخاف الرجل. والمرأة التي لا تخاف تضحى أكبر غرائزها النسائية، وعلى هذا ينبغي أن نفهم أن المرأة قد بدأت تتلف الآن وتفسد. إن تحرير المرأة الذي تطلبه النساء أنفسهن. ويصيح به معهن الفارغو الرؤوس من الرجال، ليس يراد به إلا إضعاف الغرائز النسائية وقتلها، إنها حركة طائشة بلهاء، حركة رجولية حمقاء، يجب أن تخجل منها المرأة الصالحة، لأن تركها الأسلحة التي أعدتها الطبيعية لانتصارها، واستباقها الرجل وتقدمها عليه وإزالة إيمانه بنسائيتها الأبدية فيها، واجتهادها في إغراء الرجل أن يجتنب عقيدته بأن المرأة يجب أن يحتفظ بها، ويحرص عليها ويرعى شأنها، ويتمتع بها كحيوان داجن، ضعيف ومفترس معاً، ليس ذلك كله إلا دليلاً على غرائز المرأة، ولا يقصد به إلا ترجيلها وتذكيرها!!

باب الأدب والتاريخ

باب الأدب والتاريخ مذكرات شبلي شميل قلت أن جمال الدين كان من الفلاسفة الرواقين أي أنه كان ينشر تعاليمه في طي المحادثات الإعتيادية ولكنها كانت محادثات خلابة في لذة المعنى وحسن الإنسجام، ولم يتهيأ له أن وقف خطيباً في قوم إلا مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوه أيضاً، وكان ذلك بمعنى أديب اسحق وفي تياتروزيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبني وجرأة وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو عليه أدنى تعب أو يتعلثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم كأنه رابطهم بسلاسل كلامه يلعب بهم كما يشاء وقد أعجبني منه قوله فيها وهو يتكلم عن استبداد الملوك واستماتة الشعوب. قال كأن الناس ليسوا شيئاً والملك هو كل شيء إن قام قاموا وإن قعد قعدوا. ولما بلغني أن جمال الدين بعد أن نفي من مصر ببضع سنين كتب رسالة باللغة الأفغانية في نفي مذهب الماديين ترجمها الشيخ محمد عبده إلى العربية دهشت لتصوري أن الرجل لم يكن من المتدينين. على أن جمال الدين كسائر الفلاسفة الأقدمين لم يكن يستطيع بمبادئه النظرية وفلسفته المجردة أن يجزم جزم الطبيعيين في استنادهم إلى العلوم الحديثة اليوم فكان يتعذر عليه إلا أن يكون من الشكوكيين أمثال المعري وفولتير الذين ينكرون الأنبياء ولكنهم يقفون مترددين في أمر الخلق هل هو حادث أو قديم فيكونون تارةً من الإلهين وطوراً من اللا أدريين لعم تمكنهم من ضابط علمي محسوس يضبط أحكامهم ويقوي حجتهم في ترددهم اللهم إلا أن يكون كفولتير من النفعيين وجمال الدين تنبوا أخلاقه العالية عن ذلك. فبقي أنه من المصافيين الحكماء الذين يكونون في اعتقادهم على هوى جليسهم تارة أقرب إلى المعطلين وطوراً أقرب إلى المؤمنين أي أنهم يكونون كما وصفهم الإمام الغزالي حيث يقول إن الآراء ثلاثة أقسام رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد ورأي يكون بين الإنسان ونفسه لا يطلع عليه الأمن هو شريكه في اعتقادي. ويصعب علي جداً بعد اختباري الرجل بنفسي من جهة ثم سماعي عنه بعد ذلك أن أبدي فيه حكماً جازماً ولكني أرجح جداً أنه لم يكن من

المؤمنين. اليوم الثالث وأما أديب فأول عدد أصدره من جريدة مصر أصدره في القاهرة. وقد أعدت له مقالة موضوعها العبادة الفتيشية لقرب عهد المذاكرة في هذا الموضوع على ما تقدم وجعلت لها توطئة من عندياتي تعبت فيها جداً حتى جاءت على ما أحب (وهي التي كانت غرضي في كل تلك المقالة) ودفعتها إلى أديب لينشرها في أول عدد يصدر من جريدته فلم يبد عليها أقل ملاحظة وكان يقيم هو في المكان الذي كنت فيه. وقد تأخر صدور العدد الأول أكثر من أسبوعين وكلما سألته عن ميعاد صدوره كان يجيب بأن أسباباً طرأت أخرت صدوره ولكنه لم يذكر لي شيئاً يختص بمقالتي. ثم قبل صدور العدد بأيام قليلة عزمت على ترك القاهرة والعودة إلى الإسكندرية. وبعد وصولي إليها بأيام وصلني العدد المنتظر من الجريدة وبالطبع أول ما بحثت عنه مقالتي وهي كانت أول مقالة نشرتها في جريدة مصر. ولقد دهشت جداً لما رأيتها منشورة ولكنها مبتورة والتوطئة التي كانت موضع إعجابي - لأنها كانت لي وكل فتاة بأبيها معجبة - محذوفة بلا شفقة ولم ينشر من المقالة إلا الحوادث المعروفة في الكتب والتي هي شواهد على حقيقة هذه العبادة في الأمم والقبائل المختلفة. فأخذتني سورة الغضب من صاحبي ولاسيما من تكتمه هذا وهو معي كل يوم فكتبت له كتاباً بأحرف من نار أظهرت له فيه مزيد استيائي من سلوكه هذا المسلك معي وحسبت ذلك آخر العهد بيننا لتبايننا في الأخلاق. أما أديب فكان إذا جرح يعرف كيف يؤاسي فما عتم أن وردني جوابه فكان لغضبي كالزيت الطافي فوق أمواج البحر الهائج فاسترضاني بذكائه أكثر مما أغضبني بحيلته وكان جوابه شعراً في أكثر من عشرين بيتاً من النظم الرقيق الخفيف لا أروي منها سوى الأبيات الثلاثة الأولى والكتاب فقد مني. قال: ـ العذر ثم العذر يا سيدي ... من حادث ما إن جرى عمدا قد ألزموني حذف ديباجه ... كانت لجيد صحيفتي عقدا قالوا تمس الدين في بلد ... كل له فيه غداً عبدا وهذا كان شأنه معي كلما طرأ طارئ أثارني ضده وأديب كان كاتباً مصوراً فإذا وصف شيئاً أراكه كأنه مرسوم أمامك وقد وقع لي مرة أني كتبت له كتاباً طويلاً في أمر تأثرت

منه جداً خططته بريشة دقيقة وبسرعة واحدة فائقتين وخطي الهيروغليفي معروف للمطلعين عليه فوردني منه جواب لم أطلع على فاتحته حتى كنت ألين من الشمع لقبول عذره فيه مهما كان. قال: ـ قرأتك بصعوبة وفهمتك بسهولة أما الأول فلتعرج خطك السرطاني وأما الثاني فلظهور حدتك على رؤوس أحرفك. للمذكرات بقية قصيدة اغتصاب الضفيرة الفصل الثاني ما نضار أشعة الغزالة فياضاً على بساط الماء. وغلالة الهواء بأبهى من جمال نظيرتها بيلندا الحسناء. ينساب بها على التاميز فوق لجينه المذاب. زورق سهو الأراجيح وثاب. لقد كانت هذه الشمس الآدمية محفوفة من الشباب إناثاً وذكراناً بأمثال النجوم الشوابك غير أن العيون لم تكن لغيرها ترنو. ولا النفوس إلى غيرها تصبو. وكانت تلبس على صدرها صليباً لا تستنكف اليهود إن تلثمه حباً وإكراماً. ولا تأنف المجوس إن تسجد له تجلة وإعظاما. وكانت حركات لحظها السراع تنم عن قلب ذكي وقاد. شبيه بطرفها في البريق وفي كثرة التقلب والترداد. وكانت الآنسة تجود للكل بغرور الإبتسام. وتبخل بصدق الإحسان والإنعام. وتعطي زور الموعد الهواء. وتمنع رعاية العهد والوفاء. ولطالما قابلت خاطب ودها بالإباء. وإن لم يشب إباءها قط إساءة ولاإيذاء. وكانت مقلتها كالشمس تبهر الإبصار بالضياء. وهي كذلك كالشمس تعم بنورها الكل على حد سواء. وكانت عذوبة شمائلها وحلاوة أنسها تستر عيوبها إن كان للحسان عيوب وكان من ساءه من صفاتها شيء نكر فحسبه إن ينظر إلى وجهها ليزول ذلك الأثر. وكانت هذه الغادة تحمل على متنها لإتلاف نفوس البشر ضفيرتين تحسن ربهما وتعهدهما فكانتا تنسدلان وراءها في حسن تماثل وتعادل متآزرتين على تزيين جيدها الحسان بحلقات فاحم ذي صقال. ففي ألغاز هذه الحلقات كان الغرام يسجن أسراه. ويقيد حسراه. فيا من أبصر صناديد الرجال. ترسف من خيوط الذهب في أغلال. وما زال ابن آدم يتخذ من الشعر شباكه. ومن الخيط أشراكه، يصيد بها السمك في الماء. والطير في السماء. غير أن

الإنسان سيد الأسماك والطيور تصيده ضفائر الفتيات والحسن يقود الرجال بشعرات. بهاتين الضفيرتين أولع البارون الجسور. فما هو إلا أن رآهما حتى تطاول إليهما سوم طاوية الضفور وضارية النور ولما أبى إلا نيل بغيته. شرع في أعمال حيلته. وتدبير خطته. سيان عنده الكيد ومخاتلة. والبطش والمصاولة. بحجة أنه متى كلل النجح سعى العاشق الملتاع. فليس يحفل الناس أكان ذلك بالغضب أم بالخداع. لذلك لما شابت ذوائب الظلماء. وهم نجم الصبح بالإغفاء ركع هذا البارون لربة الحب وتضرع إليها أن تنيل طلبته. وتقضي حاجته. وأقام لها قرباناً من اثنتي عشر قصة من غزليات شعراء الفرنس ذهبية الأغلفة ووضع على هذه المجلدات ثلاثة مناديل ووشاحين وقفازتين وغير هذه من آيات حوادث غرامه السالفة ودلائل معاشقه السابقة. ثم جاء ببعض ما لديه من رسائل الحب فأضرمها وبذلك اللهب أشعل القربان الذي هيأه. ثم أزكى الضرام بخمس زفرات من صدره الحران. وقلبه الولهان. وبعد ذلك سجد للربة وابتهل إليها أن تقدره على نيل بغيته. ثم تبقيها مدى العمر في حوزته. فسمعت الآلهة دعاءه فقضت له نصف حوجائه. ونصفها الثاني أطاره عاصف الريح في نكبائه. وانسابت السفينة الأنيقة في تيه وخيلاء وخفقت الأشعة على بساط الماء، وسرت أنغام الآلات في صفاء جو بديع. ورقت على الموج لطاف الألحان قد براها الشجا فكادت تضيع. وسالت الأمواج لينة المسيل. ولاعب سيالها كل نفس من لين المطرد عليل. في تلك الساعة السعيدة تبسمت من السرور بيلندا فابتسم لابتسامتها الوجود وسبح الماء والهواء بحمد خالق بيلندا الإله الموجود. ولكن الملك الحافظ حارس المليحة كان بحازب الهم مقهوراً وفي حومة الغم مغموراً. فأومأ إلى أعوانه وجنوده. فانضوت إلى ظل أعلامه وبنوده. وجعلت تتهامس من خافت أجراسها. بما ظنه أهل الأرض خفيف الرياح ودوى وسواسها وبعضها أقبل ينشر في بهاء الأشعة وشى جناحه. وأخرى أنشأت تهبط الماء كأنها سحب من العسجد وتارةً تركب من الهواء كواهل رياحه فيا لها من خلائق لطفت فغابت عن الأبصار وكأن أجسادها للخفاء جواهر مذابة في أضواء وأنوار. وقد طارت منها في الهواء أطراف الجلابيب والحلل. وما حللها إلا الشفوف حاكتها يد الغزالة من الندى والطل. ثم غمستها في أبهج أصباغ السماء.

حيث النور لا يزال من ضروب الألوان يلبس رداء وينصل من رداء. ويمزج ياقوتةً حمراء. بلا زوردةٍ زرقاء. والشعاع يطرح على الدنيا كل لون ناصع لماع. كالرشقاء تفرش الأرض من ثوبها المخلوع بصبغ أنواع. والحباحب تتداول من ألوانه التي يخلعها على الروض المجاور أطياف لماحة سراع وكان زعيمهم آريل يتبوأ قمة الدقل فاستقبل الشمس بجناحيه الزرقاوين ثم افتتح القول: أيها الملائكة والجنة والعفاريت والأبالسة أعيروني أنا زعيمكم وقريعكم آذاناً صاغية. وأفئدة واعية. كلكم يعرف ما قد أسند إلى كل طائفة منكم من الأعمال والوظائف فجماعة يمرحن في نسائم الأسحار. ويصلين جمرة النهار وفئة تهدي جحافل النجوم الزاهرة. وكتائب الكواكب الباهرة. وطائفة أكشف جوهراً. وأغلظ عنصراً. ترشف النطف من الدجنة المستهلة أو تغمس أطراف القوادم في الخضلة أو تنشئ الرواعد القاصفة أو تمسح حوالب المزنة الواكفة. وطائفة تحرس الإنسان في عالمه الأرضي وترعاه. وتمهد السبيلة وتسدد خطاه. ورؤوس هذه الطائفة وزعمائها تدبر شؤون الأقاليم والأمصار. وتحوط سدود المملكة في البر والبحار. أما نحن فإن لنا عملاً أدنى قيمة من ذلك وهو صيانة الملاح، وقاية الوجوه الصباح في الأمساء والأصباح. فنحن نقي مسحوق الطلاء. أن تطير الريح الهوجاء عن الخد الأسيل والعارض الصقيل. والأنف. الذي كأنه خد السيف. ونحن نحفظ الغاية أن تزول عن الغانية ونحن نستعير حلك الليلة الظلماء، لنزيد به كحل اللواحظ الوطفاء. ولمع السراب. لمنضودة الثغور العذاب. وحلاوة الشهد المشتار. لطلاوة اللفظ المختار. وحمرة الورود. لصبغة الخجل في الخدود واهتزاز الغصن الميال. لخطرات التيه والدلال. بل ربما أوحينا إلى المليحة في المنام. استبدال قلادة بقلادة أو حزام بحزام. وبعد فاعلموا أيها الجن والعفاريت والملائكة إن أشأم الفال يهدد اليوم بيلندا نخبة الخرد. الغيد. وصفوة البيض الرعاديد. لست أعلم ما كنهه وما حقيقته. بل كل ما أعلم أنه خطب سينالها اليوم بطشه أو خديعته. فلا ندري أذلك الخطب هو أن الغادة ستهتك اليوم ستر العفاف. أم ستكسر كوبة أو تخدش صفحة من الصحاف. بل لا ندري أهو أنها ستلوث الشرف الوضاح. أم المنطقة والوشاح وهل تفوتها الصلات في المحراب. أو موعد في

بعض مجالس اللهو والشراب. وهل تصاب اليوم بغارة على القلب. أو على الجيب. وهل تفقد في بعض المراقص حشاها. أو شيئاً من حلاها. فبادروا أيها الأعوان إلى المليحة وادفعوا عنها كل طارئ شر. وطارق ضر. ولتكن عناية العفريت نسيم بالمروحة الرجراجة. وعناية لؤلؤ بالجواهر الوهاجة. وليوكل (أبو دقيق) بساعتها العسجدية. وليستكف (الجعدي) أمر ضفائرها الذهبية. أما أنا فسأرعى كلبها المألوف. وأحوطه من المهالك والحتوف. فشمروا في مهمتكم هذه عن ساعد الجد وأنجزوها بعزيمة وحد. واعلموا أن من فرط أو قصر فليلقين أنكى العقاب، وأنكل العذاب. فما يسجن في القوارير. أو يسمر بالدبابيس على خرق الحرير. أو يغرق في محلول من البياض والحمرة. أو يعزز ألف عام في خرت إبرة. فإذا حاول الهرب عاقت سبيله الخطوط اللزج واللبان. فهو في حبالته مغلول الجناحين حيران. هنالك يلقى الويل من الشبه القابضة للجلود والأبشار. حتى يعود كالزهرة الرقيقة إذ بلها البرد والإعصار. أو يعلق في أبخرة القرفة والكاكاو. فهو من هول ما تحته من ذلك الزبد الخصم صارخ عاو. عند ذلك هبطت العفاريت من شرع السفينة فأحدقت بالفتاة طبقة فوق طبقة وحلقة دون حلقة. فجماعة تغلغلت في الغاز شعرها الوحف. وأخرى رفرفت منها حول قرط وشنف. وطائفة أحدقت بخصرها كأنها له دون النطاق نطاق. وأخرى بجيدها الحسان كأن أحداقها لزام وعناق. وفئة عند مستعذب الثغر. كأنها سرب من الحور حول الكوثر. قد وقفت من ذلك الفم على باب الخزانة الصدر. تسمح بالخروج لمعروف الكلام وتمنع المنكر وأخرى على باب الأذن تزيد محاسن القول الجميل. وتخفف وطأة الخشن الثقيل وتلطف ثماجة المستهجن المملول. وفرقة عند اللحاظ تحولها عن الصالح. إلى الصالح. وتغريها بالمليح. بصرفها عن القبيح. وأخرى لدى الكف تمنعها مصافحة اللثيم. وتمدها إلى الكريم وجماعة عند القدم تأخذ عليها سبل الفساد. وتخلي لها طرق الرشاد. وتسد مالك الشر. وتفتح مناهج الخير. كل ذلك حاوله العفاريت والجنة بأمر الزعيم آريل إذعاناً لرغبته. وأخذاً بطاعته. وهم أثناء ذلك ترعد أوصالهم وجلاً. وتخفق أحشاؤهم وهلاً. لهول ذلك الخطب المنذر. والمصاب المنتظر. ضارعين إلى الله أن يهديهم إلى سبيل رده. وطريق صده. لو كان يدفع قضاء

لهذه القصة بقية

باب العلم والفلسفة

باب العلم والفلسفة المسألة الكبرى مخابرة الموتى معلومات جديدة لا تزال مسألة مخابرة الموتى الحديثة الأكبر بين العلماء ولا يزال البحث دائراً، والجدال حاراً، والأدلة متواترة، وقد رأينا في مجلة لندن مقالاً مستطيلاً أنشأته سيدة من كبار الثقات في المسائل العلمية، جاءت فيه بمعلومات طريفة وتجربة مدهشة قامت بها فآثرنا أن ننقل للقراء شيئاً منها قالت: ـ كان أول لقائي بمسز ريت، الوسيطة الأميريكية الذائعة السيط في مايو عام 1914، وكنت أشد الناس تكذيباً لهذه المسالة، وأبعدهم عن تصديق الوسطاء وكان يوماً جميلاً صاحي السماء، مستهلاً، ولكن كان لا بد لنا في سبيل هذه الجلسة العلمية من الظلام، ونحن لا نعرف السبب الذي يدعونا إلى وجوب إيجاد الظلام، عندما نريد أن نظفر بنتائج طيبة في مخابرة الموتى، ولكنا نعلم بعد أن الظلام يزيد في تبيين الظاهرة، كما أن النبأ اللاسلكي الذي نرسله في الظلام (أي ليلاً) يصل إلى غرضه في زمن أقل مما إذا أرسلته في النور (أي نهاراً) لأن النور ينقص من سرعة الأثير ويزيد في ارتجاجه ومن ثم لا يجب أن نذهب إلى الشك والإرتياب في ضرورة الظلام عند مخاطبة الموتى، إلا إذا كنا نريد أن نشك في ضرورته عند إبراز الصورة الفوتوغرافية. ومسز ريت عندما تقوم بعملية الوساطة لا يصيبها الغيبوبة أو السبات العميق، بل إنها لتجلس بكل هدوء تحدثك وهي على سكونها الطبيعي، وكانت أول جلسة لنا في غرفتي وكان مجلسي يبعد عن مجلسها بسبعة أقدام أو نحوها وكان البوق عند قدمي وهذا البوق ضروري لأنه يعين على تجمع الارتجاجات الأثيرية، فقدمت إلي مسز ريت البوق لأفحصه فوجدته بوقاً عادياً من معدن الألمانويوم وقامت إلى الأستار فأسدلتها، وساد الظلام، وإذ ذاك ثار في فؤادي إحساس غريب، إذ وجدتني في جوف الظلمة جالسة مع سيدة غريبة ننتظر ظهور الأرواح. وأخذت مسز ريت في أحاديث عامة مألوفة، وهي في مجلسها البعيد عن مجلسي، ولكن لم تكد تمضي لحظة صغيرة، حتى أحسست بشيء يلمس ركبتي، وإن كانت مسز ريت لا تزال في مقعدها بعيدة عني وسمعت على أثر ذلك صوتاً يتكلم من

البوق، وأنا أقول لكم إنه صوت طبيعي بين، صوت لا يختلف عن صوتي وأصواتكم ويسمعه كل إنسان، ولو كانت الحجرة حافلة بالناس لسمعوه جميعاً ويجب أن لا تذهبوا إلى أنه محض خيال مني ووهم، بل كان صوتاً مسموعاً لا يخطأ في فهمه، ولم تكن مسز ريت قد لاحظته، بل طفقت تجري في حديثها العادي، والصوت لا يزال يتكلم، فسألتها الصمت، وأعلمتها أي أسمع صوتاً مسموعاً. وتبينت في الحال جلية الصوت، فتولتني الدهشة، لأنني أحسست أنني أمام عجيبة أغرب من الآلات البخارية والطيارات وجميع مخترعات العالم، وإنني إزاء أكبر حادث في جميع تاريخ حياتي. وكان الصوت يناديني باسمي العادي، وكان متهيجاً أجش مضطرباً، وجعل يتكلم بضع دقائق وتبينت أنه أحد أصدقاء زوجي عندما أنبأني باسمه وكانت وفاته منذ عدة سنين، ولذلك ازدادت دهشتي، لأنني لم أكن أتوقع محادثته، فسألته عما إذا كان يشعر بالسعادة والغبطة فقال بل كل السعادة، إنني أدرس علم النشوء الآن وأهتم الآن بجميع هذه المسائل، ولكن لم أكن أتوقع وجودك هنا، فسألته السبب قائلة إن مخابرة العالم الآخر كانت تبدو لي دائماً من المسائل الممكنة، فأجاب، نعم، ولكنك الفرد الوحيد الذي حاول أن يكلمنا من الأسرة كلها وخلاف ذلك أصوات آخرين، وكان من بينهم صديقة لي كنت أحبها في هذا العالم، قبل وفاتها، ولكي تدلني على علامةجاءت إلي بمصباح مضيء، مصباح بين ظاهر، في حجم مصباح الدراجة البسكليتوجعلت تلوح به في وجهي في برة الظلام، وكان من الوضوح والبيان بحيث أنني مددت ذراعي فأمسكت بالمصباح من وسطه. وتركت مسز ريت غير مقتنعة، وهجمت على ذهني الشكوك والريب وجعلت أدير في هذا الحادث كل وجوه التكذيب والإنكار، وآخر ما عمدت إليه من إقناع نفسي بكذب الحادث أن أخذت أقول أن هذا الصوت هو ترتيب آلي دقيق عملته مسز ريت، يعين إنساناً في خارج الحجرة على أنفاذ الصوت إلى جوف البوق، ولكن الجلسات الأخيرة التي جلسناها أظهرت خطأ هذا الظن، لأن الجلسات كانت في حجرتي، ثم ذهبت بعد ذلك إلى أنه من المحتمل أن تكون مسز ريت علمت شيئاً من تاريخ أسرتي واستطاعت بذلك أن تذكر لي أناساً بأسمائهم

وحوادثهم، وكذلك جعلت أضرب في بيداء الظنون والريب. والحجة الكبرى التي كنت أريدها لتصديق الحادث هو أنني جعلت أقول، إذا كان هناك شخص يستطيع أن يكلمني من العالم الآخر فهو زوجي ولو استطاع زوجي أن يكلمني لتكلم، ولكن كان الصوت الذي كلمني في الجلسات الأولى غير بين، ولم يكن هناك ما يؤيد شخصيته، وظننت من السهل محاولة تغيير الصوت واللهجة، وكنت أريد لتحقيقه شيئاً من الأمور التي تثبته لدي. ووليت عن مسز ريت شاكة مستريبة، ولكني في اليوم التالي قابلت صديقاً لي هو الكولونل جونسون فأنبأني أنه يحمل إلي رسالة ولم أكن التقيت به في ذلك العهد إلا مرة أو مرتين ولم يكن يعرف شيئاً عني أو عن زوجي فبلغني أنه زار مستر ريت وصباح اليوم وأنه تلقى رسالة إلي كتبها في التو واللحظة - لأنه كان يجيد الكتابة في الظلام. وتفصيل الخبر أن صوتاً مضطرباً كلمه من البوق وذكر له اسم زوجي ولقبه وقال أن زوجته (يعنيني) كانت هنا في اليوم الفائت وذهبت دون أن تعتقد بوجودي وأنها لم تفهمه، وطلب إليه أن يؤكد لها شخصيته، وإن أبى سير كوبزكي سعيد وأنه يصرف كثيراً من الساعات معه وسأله أن يذكر لي لفظة جلاتون (هكذا سمعها الكولونل جونسون) وقال ما نصه على المحطة الأوسترالية فهي ستفهم ذلك ولا تستطيع أيها القارئ أن تتصور الدهشة الكبرى التي ثارت لدي عندما سمعت هذه اللفظة، حتى لقد أحسست أن الحجرة تدور بي دوراناً، وجعل قلبي يخفق بشدة ويثب لأنني علمت أنه لا يوجد في أنحاء الكون كله أحد يعرف سر هذه اللفظة إلا زوجي، وهذه اللفظة التافهة كانت تحمل أكبر قوى الإقناع. وصحة هذه اللفظة جلاتياوهو أسم السفينة التي كان يقودها الدوق أوف إدينبرج، وكان زوجي في أيام شبيبته في المحطة الأوسترالية على ظهر هذه السفينة، وكثيراً ما قضى أياماً حلوة مع الدوق فوق سطحها، حتى لقد كان يعيد تذكرها الحين بعد الحين ويحدثني عن لذائذها ومباهجها، ولدي منها ذكريات أخذها زوجي قبل غرقها. وأنا أعتقد أكبر الاعتقاد بأن مسز ريت لا تعلم شيئاً من هذا وأظن من السخف أن اتهمها بأنها راجعت قوائم البحرية وسجلات السفن، لأني أعلم أن ذلك لا يتيسر لها، ولو استطاعت الظفر بها، فما الذي حداها إلى ذكر جلاتيادون غيرها من أسماء السفن العديدة

التي قضى زوجي عمره فوق ظهورها، فلما زال ما كان يجول بخاطري من الظنة والوساوس، أجمعت على أن أجلس جلسة أخرى مع مسز ريت، فكان ذلك. وجاء قبل زوجي شقيقه، فقال أن الرسالة التي أرسلها إلي وهي جلاتيا أرسلها ليثبت شخصيته وحقيقته، لأنه كان يعلم أنها تكفي لإفهامي، وأنه كان حزيناً لهذا الشك الذي انتابني ثم حضر بعد هذا الصوت صوت زوجي فجعل يسميني الأسماء الخصوصية التي كنا نتنادى بها، ولا يستطيع أن يعرفها غيرنا. ثم عاد إلى ذكر جلاتيا، وانطلق يكلمني عن أمور سرية بيني وبينه، فلما قال أنه سيعود، شهقت بالبكاء في الظلام، وإذ ذاك سمعته بكل أذني يقول لا تبكي!!

باب الفكاهة والملح

باب الفكاهة والملح مذكرات بكويك (2) المستر ونكل على الثلج كان المستر بكويك وتلاميذه وخادمه ضيوفاً عند أحد سراة الأرياف - المستر واردل - برهة من الزمن وجاء يوم عيد الميلاد أثناء هذه الضيافة فاجتمعوا للطعام ولما رفع الخوان اقترح عليهم صاحب الدار أن يقضوا ساعة باللعب على الثلج فارتاح الحضور للاقتراح إلا رجال النادي لعجزهم عن أمثال هذه الألاعيب وكان في القوم خلاف أصحابنا الأربعة طالبان من طلبة الطب وجماعة من النساء - من أهل بيت المستر واردل صاحب الضيعة، وأقارب أحد الطالبين. قال المستر واردل ماذا قولكم في ساعة على الثلج؟ قال بنيامين ألين أحد الطالبين هذا أصوب شيء ورب هذا اليوم وقال بوب سويلر (ليس بعد ذلك شيء) قال واردل (أنت تجيد اللعب على الثلج ولا شك يامستر ونكل؟) المستر ونكل (أ - أ - أظن ذلك - ولا - ولا - ولكني بعيد العهد به) السيدة اربيلا (أخت بنيامين) بل تلعب يا مستر ونكل أني أبتهل إليك أن تفعل. إني لأشتهي ذلك من صميم قلبي وتقول آنسة أخرى (لله ما أبدع هذا اللعب وما أحلاه) وتقول غادة ثالثة (أجل والله ما أرشقه) ورابعة تقول (ما أشبهه بخفة الغزلان وتمايل الأغصان) ونكل ما أشد حرصي على إتيان كل ما يسركن ويحمر خجلاً ولكن ليس لي مزلقان (خفان للتزلق على الثلج) فسرعان ما أزيل هذا العائق بإحضار مزلقين وحينئذ عبر لسان ونكل عن مزيد السرور والفرح وثم وجهه عن مزيد الكمد والترح. ثم أن المستر واردل والطالبان لبسوا المزالق ونزلوا إلى الساحة الثلجية فأتوا منفردين ومجتمعين من عجيب إلا لاعب ما أدهش الحضور. كل ذلك والمستر ونكل يحاول لبس

خفيه وقد عكس وضعهما وعقد الأربطة تعقيداً لا يرجى حله مستعيناً في عمله بصاحبه سنودجراس الذي لعله لا يعرف من أمر هذه اللعبة أكثر مما يعرف زنوج أفريقيا. وأخيراً بمعونة سام ولر توقف المستر ونكل إلى أحكام وضع الخفين المشئومين على قدمه وربطهما ثم أنهضه سام قائلاً انطلق يا سيدي وأر القوم كيف يكون اللعب. قال ونكل مهلاً يا سام مهلاً! قف سام قف! قال ذلك وهو يرجف ويرتعد وقد أمسك ذراعي سام بقبضة الغريق ما أشد بلل هذا الثلج يا سام وما أزلقه للقدم! سام (ليس هذا بمستغرب من الثلج يا سيدي ثبت قدمك واستمسك يا سيدي! نطق سام بهذه العبارة بمناسبة حركة عجيبة حدثت من المستر ونكل إذ ذاك وهو أنه هم بطرح رجليه في الهواء والاستلقاء فوق الثلج. قال ونكل (هذان - هذان الخفان ثقيلان جداً - أليس كذلك يا سام) قال هذا ورجلاه تضطكان من الرعشة. قال سام (أخشى أن يكون الثقل صفة لابسهما لا صفتهما وهنا صاح المستر بكويك ولم يكن يعرف من نكبة صاحبه شيئاً هلم يا ونكل! السيدات كلهن تطلع لرؤية حذقك ومهارتك قال ونكل وعلى وجهه ابتسامة حزينة (سأفعل يا سيدي) قال سام وهو يحاول التملص من قبضة ونكل سيبدأ يا سيدي. انطلق يا سيدي انطلق! قال ونكل تشبث بسام تشبث المعشوقة بالعاشق ساعة الوداع مهلاً يا سام! لحظة يا سام أصغ لي يا سام أن عندي كسوتين جيدتين في المنزل لا حاجة لي إليهما يا سام. هما تحت تصرفك يا سام قال سام (شكراً لك يا سيدي) قال ونكل (لا داعي لأن تخلص يدك من يدي لتؤدي لي تحية الشكر يا سام. لا داعي لذلك يا سام. لقد كان في نيتي منذ أمس أن أعطيك خمس شلنات هبة العيد يا سام. وسأعطيكها هذا المساء يا سام قال سام (ما أحسن تعطفاتك يا سيدي) قال ونكل (ساعدني في مبدأ هذه المشقة يا سام. لا تتركني وحدي يا سام. هذا حسن يا سام. أراني سأعرفها قريباً يا سام لا تسرع يا سام لا تسرع)

وبينما كان ونكل يسير فوق الثلج مطوقاً بذراعيه ساماً منحنياً فوقه بهيئة تخالف رشاقة الغزلان وتمايل الأغصان (كما وصفت إحدى السيدات شكل لاعبي هذه اللعبة في بدأ هذا الحديث) احتاج المستر بكويك خادمه لبعض شؤونه فصاح به عن غير تعمد إساءة (سام؟) قال سام (لبيك يا سيدي) بكويك (أنت هنا. إني أُريدك) سام يخاطب ونكل (أطلقني يا سيدي، ألا تسمع المستر بكويك يدعوني) وهنا نزع سام نفسه من قبضة ونكل بأشد ما في طاقته فانزلق ونكل فوق الثلج بسرعة الشهاب المنقض فاصطدم بالمستر بوب سويار عندما كان هذا الشاب يبهر الأبصار بأبدع ما يأتيه أستاذ في هذا الفن فهوي الاثنان على الجليد. وحينئذ أسرع بكويك إليهما. فأما بوب سويار فكان قد نهض إلى قدميه وأما ونكل أعقل من أن يفعل مثل ذلك في هذه البقعة المهلكة. فقعد فوق الثلج يبذل أقصى الجهد في محاولة التبسم. ولكن وجهه كان ينم عن غاية الكمد والكربة. قال بنيامين ألين هل أصابك أذي يا مستر ونكل؟ قال ونكل (ليس بالأذى البليغ) وأخذ يحك ظهره قال بنيامين (ليتك تدعني أفصدك) ونكل (كلا! شكراً لك) قال بنيامين (في اعتقادي أنه أولى لك) ونكل (أشكرك. أولى لي ألا أفعل) فالتفت بنيامين إلى المستر بكويك وقال (ما رأيك يا مستر بكويك؟) وكان على وجه بكويك تلوح دلائل الأسف الشديد الغيظ فالتفت إلى سام وقال (انزع خفيه في الحال). قال ونكل (كلا! كلا! أنا لم أكد أبتدي دعني أحاول ثانياً). قال بكويك مشدداً (انزع خفيه). إنه لم يكن في طاقة ونكل عصيان أمر أستاذه لذلك أذعن ومد رجليه إلى سام فخلع الخفين وقال بكويك (أنهضه فأنهضه سام).

فتنحى بكويك عن القوم مسافة وأومأ إلى ونكل فدنا منه. ثم إن يكويك وجه إلى صاحبه نظرة حادة قاسية وقال بصوت منخفض جلي: (إنك لسفيه يا سيدي) فاندهش ونكل وقال (إنني ماذا؟) قال بكويك (سفيه يا سيدي. وإذا شئت أن أزيدك تبياناً وإيضاحاً فأنت دعي يا سيدي خادع غشاش). وبعد هذه الكلمات ولى صديقه كتفيه وعاد إلى زمرة أصدقائه.

باب تدبير الصحة

باب تدبير الصحة الإغماء الإغماء عبارة عن توقف مؤقت للمراكز الحيوية يحصل كما يظهر من أنيميا (فقر دم) المخ التي تحصل عن عارض فيه نفسه أو خارجه كفقر دم عام - ويحصل الإغماء عادةً في أمراض القلب وأمراض الدم وضربة الشمس وبعد التخدير العام بالكلوروفورم - وحصوله إما أن يكون فجائياً أو يصيب المريض تدريجياً فيشعر بعدم راحة عمومية في جسمه ثم يشعر بدوار وطنين في الأذنين وظلمة في البصر ثم يبهت وجهه ويعرق عرقاً بارداً ثم يغمى عليه أي يفقد الإدراك فيكون الإغماء حينئذٍ تاماً فيصير الشخص ممتداً باهت اللون ساكن الحركة والحس ويكون التنفس والقلب واقفين تقريباً ثم بعد ثوان أو دقائق تعود دقات القلب وحركات التنفس شيئاً فشيئاً وتنتهي النوبة، واستمرارها إلى الموت نادراً وهذا غير الغثيان (السخسخة) فهو إغماء غير تام لأن التنفس وضربات القلب يبطئان ولكنهما لا يقفان ومدة الغشيان أطول من مدة الإغماء بكثير. ولعلاج هذا الطارئ تخفض الرأس عن الجسم ويرفع الجذع أو توضع الرأس بين الركبتين إذا كان جالساً وينشق منعشاً كالنوشادر ويعطى متى أمكنه قليل من المنبهات كالكونياك أو حقنة الإستركين تحت الجلد ويستريح باقي النهار لأن المرض ربما عاد وإذا استمر الإغماء يعمل للمريض التنفس الصناعي ويستدعى الطبيب. مرض غريب ينتقل إلى الإنسان من الببغاء مرض يسمى بستاكورس وهو مرض نادر يشبه الحمى التيفودية في أدورها ويصعب على الطبيب جداً تشخيصه ومن غريب الأمر أن فحص دم المصاب بهذا المرض تشبه تماماً نتيجته فحص دم المصاب بهذه الحمى فيظهر جلياً مقدار الصعوبة في معرفة حقيقة المرض ولا يساعد على التشخيص شيء أكثر من الإستفهام عما إذا كان المريض يخالط ببغاء أولاً والمرض مجهول من أغلب الأطباء فلا عجب أن يكون غريباً. الزهري الوراثي يعتقد الكثيرون أن الطفل المولود من والدين مريضين أحدهما أو كلاهما بالزهري لا يصح

غمره في الماء قبل الأربعين يوماً وهذا خطأ محض يجب أن يراعيه كل الناس إذ مثل هؤلاء أحق الأطفال بالتنظيف والحمام. غرابة غذاء المريض بالحمى التيفودية تنتشر الحمى التيفودية الآن ويعتقد الكثيرون أن غذاء المريض بها يجب أن يكون قاصراً على اللبن فقط ويعتقد كل الأطباء تقريباً أن هذا هو طريق السلامة الوحيد ولكن الأستاذ كولمان ويشاركه كثيرون في رأيه ينادون بوجوب تغذية المريض بهذه الحمى كما يشاء فهل يعجب هذا الرأي جماعة الحانقين على الأطباء والكارهين لهم كراهة في اللبن وهل آن لحضرات الأطباء أن يعدلوا رأيهم ولو قليلاً رعاية لخاطر المريض؟

تفاريق

تفاريق رئيس حكومة مجهول من أكثر رعيته بلاد سويسرة الجمهورية غربية في كل شيء، ولكن أغرب غرائبها أن كثيرين من الرعية والشعب لا يعرفون اسم رئيس الجمهوررية. وقد ينتخب لمقعد الرآسة ثم يمضي عنه، ويتولى إليه غيره، وهم لا يعلمون عن ذلك إلا لنذر اليسير. وذلك أن رئيس الجمهورية الصغيرة في حجمها، الكبيرة الشأن في حياتها، يكاد يكون أشد رؤوس الحكومات والملوك تواضعاً. وأبعدهم عن ضوضاء السلطة والحكم، وهو ينتخب لمدة سنة واحدة، تبتدئ من يناير وتنتهي في آخر ديسمبر وهو لا يتقاضى مرتباً كبيراً، يعينه على عيشة الترف، والبذخ والأبهة، إذ ليس مرتبه إلا خمسمائة جنيه وأربعين في العام، أي 45 جنيهاً في الشهر، وهو مرتب يتقاضاه لدينا رئيس قسم أو مصلحة صغيرة في فرع من فروع الحكومة، وله مجلس وزارة يتألف من سبعة وزراء، ووزير سويسره يتناول 40 جنيهاً في السنة، أي لا يزال في الرتبة الثالثة من البكوية المصرية. فانظر كيف تكون مرتباتهم، إزاء مرتباتنا. أرباح الكتاب الروائيين في إنجلترة إن الرواية التمثيلية التي تنجج في إنجلترة تكفي لأن تمد كاتبها بالثروة الكبرى والغنى العريض، وحسب الكاتب أن يضع رواية واحدة. فيربح ما يكفيه طول حياته، فقد اكتسب مستر بانيلي في رواية واحدة، من نوع (الفودفيل) وهو أحط أنواع الدراما وأسهلها في التأليف نحواً من مائتي ألف جنيه، أما رواية (ملك الفضة) التي وضعها سير آرثر جونس وهو من كبار كتاب المسرح في إنجلترة فقد كانت له منجماً من مناجم الذهب. بل إن ممثل رواية (كزمت) أو (القضاء والقدر) والممثلة التي أخذت الدور الأكبر فيها. أضافا إلى حسابيهما في المصرف من وراء تمثيلهما أربعين ألفاً من الجنيهات. على أن السير هنري جيلبرن وهو من الأسماء المتألقة في المسرح الإنجليزي لم ينل أو أمره في الرواية الأولى التي هجم بها على المسرح إلا ثلاثين جنيهاً، ولكنه لم يصادف بعد ذلك مثل هذه الخيبة، لأنه لم ين أن اكتسب من رواياته (الأوبرا) بالإشتراك مع سير آرثر سيلفان نحو من 180000 من الجنيهات في وقت قصير. وكانت رواية (صديقة الله) التي وضعها الكاتب

القصصي روبرت هيكنز في أول الأمر قصصية، فطلب إليه أن يجعلها تمثيلية. ودفع إليه في سبيل ذلك عشرون ألفاً، على ما ظفر به من المطابع التي طبعت النسخة القصصية: وقد ظل مستر بري يكسب من روايته (الوزير الصغير) أربعمائة جنيه في الأسبوع سنين عدة.

الرئيسان

الرئيسان مستر لويد جورج رئيس الوزارة الإنكليزية - دولة الرئيس حسين رشدي باشا رئيس الوزارة المصرية ليس هناك أشد أثراً في نفوس الناس من قراءتهم سير العظماء، وليس أروح للأفئدة من معرفة أسرار النبوغ، وأخلاق العبقريين، لأن كل إنسان، مهماأسف إلى الحضيض الأوهد، ومهما بلغ من الضعف ووناء الهمة، يريد أن يكون بين الناس عظيماً، ويود لو ارتفع إلى مصاف العظماء، فهو أبداً يسأل نفسه لماذا لم يترك له مقعد من مقاعد الإمارة والسلطان ولماذا يظفر غيره بمقاعد الوزارات ومنصات الحكم، وهو أبداً يأبى أن لا يعرف الأسرار الخفية التي هوت به إلى مهاوي الضعة والخمول، وعلت بغيره إلى سماء المجد والعلاء. ولهذا كان الكلام عن العظماء بليغ الوقع من نفس الإنسان لأن صفات العظماء هي نماذج للناس، وكل رجل يريد أن يجد له نموذجاً جميلاً يحاول أن يحتذي حذوه، ويكمل منه ما يراه من نفسه ناقصاً مبتوراً ونحن لذلك نرسم للناس هنا صورتين من صور العظماء، ونشرح لهم أسرار شخصيتين من كبار شخصيات العالم اليوم، ونقارن بين رجل يدير دفة دولة من أكبر دول الأرض، ورجل يرأس حكومة على صغرها لا تزال في أعظم خطب من خطوب التاريخ، رجل في أمة كبرى تريد أن تطفئ لهيب الحرب، ورجل يريد أن يبتعد بأمته الصغيرة عن منال الرحى الطاحنة، رجل عظيم في إنجلترة العظيمة، ورجل خطير في مصر الخطيرة، مصر المملكة الصغيرة في نفسها، الكبيرة في أهميتها، مصر - هذا اللولب الذي يحرك عجلة الحرب، والزنبلك الذي يجري لعبةالسياسة. إن كل رجل في الحياة العمومية شخصيتين، شخصيته الأصلية، والشخصية التي يراها له إعجاب الأصدقاء والمحبين والأشياع والمنافسين، وكذلك شأن مستر لويد جورج، ودولة الرئيس حسين رشدي باشا، فهما لا يزالان عظيمتين في نفسيهما، عظيمين في نفوس الناس، ولعل ذلك يرجع من جهة إلى أنهما قد وئبا الطليعة في أشد مشاكل الحياة العمومية، وفي أعصب الأزمان، وإلى مزاجهما الطبيعي من جهة أخرى ولا نظن أن هناك رجلين يحملان في السياسة قلباً أنصع من قلبيهما، لأنهما في أحرج مواقف السياسة أشد السياسيين إخلاصاً، وأبعدهم عن الإحساس الشخصي، أو الغرض الذاتي، بل إنهما ليعدان الإحسان

الشخصي شر العوامل الرجعية في السياسة، حتى لقد قال مستر لويد جورج يوماً إذا أنا وجدت الإحساس الشخصي يريد أن ينازع ضميري حطمت هذا الإحساس تحت قدمي تحطيماً. ومستر لويد جورج يميل إلى الحدة في التعبير، والحمية في الأسلوب، وإنك لواجده في حجرته من دار مجلس العموم يحسو الشاي مع البرلمانيين، وهو في أشد لهجات الحديث، وأحر أساليب القول، ولعل المصريين كذلك يتبينون من تصريحات دولة الرئيس رشدي باشا حرارة في الأسلوب، وغرابة في اللهجة والتعبير، لأن رشدي باشا يضع جميع أعصابه في كل كلمة يقولها، وكل كلمة يكتبها، وإنك لتقرأ تصريحاته الخطيرة فكأنك تقرأ صفحة روحه ظاهرة للعين بينة، لأنه لا يستطيع أن يمنع الفيض الجياش المندفع من فؤاده، أو أن يمسك عليه إخلاصه المنحدر، وأنت تعلم أن الرجل المخلص هو دائماً رجل حاد المزاج، حار اللهجة لأن من أكبر أكبر أعراض الإخلاص الحرارة والتأثر، أما الرياء والكذب والخداع فتخفي نفسها دائماً وراء الهدوء والبرود والصمت والسكون. ومستر لويد جورج رجل صريح، وأكبر أعدائه المواربة والنفاق، وهو أجرأ الناس على قول جميع ما يجول في نفسه، وهذه المزية المحمودة هي من أكبر صفات الرئيس رشدي باشا فهو لا يمتنع عن إبداء رأيه الصريح الخالص في أخشن مواطن السياسة وأعظم المسائل المتعلقة بشؤون الحكومة لأنه يؤثر أن يفقد الدنيا بأسرها على أن يفقد قطعة صغيرة من ضميره، ويرى أن المنصب على خطورته لا يتطلب أن يخسر صاحبه وجدانه من أجله، وهو يعلم أن الحياة - وإن ارتفع الإنسان إلى مقاعد الملوك - لا تستحق أن يعيش الرجل يوماً واحداً وضميره محبوس في أدراج مكتبه مع الخاتم الذي يوقع به على أوراق الحكومة ومكاتباتها. هذا والرئيسان يميلان إلى التواضع، فقد روى مستر أوكونور العضو البرلماني المشهور عن مستر لويد جورج ما يأتي: هو لا يحب المجتمعات بل يأخذه منها الملل، وتعتريه السآمة، وإذا أراد يوماً أن يتمتع بمساء جميل، جمع إليه أصدقاءه، وصرف أكثر الليل مصغياً أكثر منه محدثاً، وهو يجنح إلى البعد عن أنظار الناس والاختفاء عن عيون الجماهير، وقد شهدته يوماً في أشد الاضطراب إذ رأى جمعاً من الناس ينظرون إليه

بشغف عند خروجه من إحدى المآدب، وقد سمعته مرة وقد ألفى نفسه في مطعم صغير بباريس، بنجوة من مرأى الناس ومسمعهم، يبدي دلائل الراحة والرضى أن أصبح بعيداً عن أبصار الجماهير وتحديقاتهم، - وهذه الصفات تنطبق كل الانطباق على الرئيس رشدي، فهو رجل متواضع جناح إلى العزلة، متباعد عن الكلفة والأبهة، وكثيراً ما شوهد يمشي على قدميه، غير محتفل بالمظاهر الرسمية، ولا مكترث بأبهة الرآسة، لأنه يعلم أن تلك الأبهة المصطنعة، والكبرياء المتعمل، والنفخة الجوفاء التي يعمد إليها كثير من الحكام وأهل السلطة ليست إلا دليلاً بيناً على نضوب قلوبهم من نبعة العظمة الحقيقية، لأن العظمة الصادقة ليست في المظهر، ولكنها في الصميم، والعظمة تعلن عن نفسها ولو كانت في الأطمار والأثواب البالية، ولو رأيت نابليون يوماً في ملابس الخادم الذي يشتغل في بيتك لظل يروعك ويكرهك على الوقوف أمامه خاشعاً متهيباً، كما لو رأيته في لباس الإمبراطورية، ولقد كان ابن الخطاب في ردائه وثوبه الشطرنجي أشد روعة وجلالاً مما لو جئت إليه بأفخر بدلة من ديفس براين نعم لأن العظمة تطل عليك من عينيه، وتهجم عليك من وجهه، وتصدمك من كلامه ومشيته، ومن النور المنبعث من كل ناحية من النواحي. وجملة القول، إذا كان مستر اوكونور عضو البرلمان قد قال عن لويد جورج إنه إذا لم يستطيع هذا الرجل أن ينتصر لإنجلتره وينجح الإنكليز فلن يوجد رجل بعده يستطيع ذلك إلى الأبد، فما أجدرنا أن نقول نحن أيضاً أنه لا يوجد غير الرئيس رشدي باشا، يستطيع أن يسمو في تاريخ العالم الحديث بمكانة مصر والمصريين!!

جنون الأنانية الايجومانيا

جنون الأنانية الايجومانيا وسر خيبة المصابين به في الحياة مجنون الأنانية شديد المبالغة في قدر قيمة نفسه ومبلغ أهمية أعماله مهما صغرت وذلك لأنه لا يشغله شيء غير نفسه والعالم أجمع ليس له في قلبه إلا أضيق مجال بل ربما لم يكن له ثمت مجال قط. فلا غر وأن يظل وهو لا يدرك ما هنالك من الصلات والعلائق بينه وبين سائر الناس والوجود ولا يحسن فهم الوظيفة التي يجب أن يؤديها في مجموعة النظامات الاجتماعية. وقد يخشى أن يخلط القارئ بين جنون الأنانية وجنون العظمة ولكن بين الاثنين فرقاً مميزاً، أجل لا خلاف في أن جنون العظمة ناشئ عن اختلال في الأجهزة الحيوية مؤد إلى دوام اشتغال الإنسان بنفسه فترى أن ما يصاب به صاحب هذا الداء من التهيج الكيماوي البيولوجي في الأجهزة الحيوية هو الذي يحدث تلك التخيلات الفاحشة التي تجعل المرء يتصور أنه ملك أو أمير أو قائد أو نبي أو بطريق. فجنون العظمة مشابه لجنون الأنانية من حيث أن المصاب يكون في كلتا الحالتين مشغولاً بذاته. ولكن الجنونين مختلفان في النقطة الآتية وهي أنه لما كان جنون العظمة يستثير في ذهن المريض تلك الصور اللذيذة التي توهمه أن له في المجتمع مركزاً عظيماً ومنزلة جليلة فذلك يستلزم أن المريض مع شتغاله بنفسه لا بد أن يشتغل كذلك بالمجتمع الذي (حسب تخلياته) قد أصبح أميره أو وزيره أو قائده أو نبيه. أما جنون الأنانية فعلى العكس من ذلك يعزل المصاب عن الجماعة ويحجبه داخل ذاته احتجاب القنفذ في شوكه والسلحفاة في قشرها. ففي جنون العظمة ترى المصاب يحسب حساب المجتمع ويعرف مقداره ويعترف بأهميته مخطورته ويعلق أهمية عظيمة على خضوع ذلك المجتمع له (أي لذلك المريض) واحترامهم له وإجلالهم إياه. أما في جنون الأنانية فلا يرى المصاب ضرورة إحرازه مركزاً اجتماعياً عظيماً (موهوماً بالطبع) ولا يريد إجلال الناس له وإكبارهم إياه ليبرروا له شدة عنايته بنفسه وتفانيه في حب ذاته بل هو لا يرى المجتمع البتة. والناس في نظره غير موجودين. والكون بحذافيره لا يتراآى له إلا كشبح مبهم أو ضبابة رقيقة. كلا بل لا يخطر بباله أنه فرد من الجماعة أو أنه مخلوق أسمى درجة من سائر المخلوقات وإنه لهذا السبب محمود أو محسود. والذي يراه هو أنه منفرد في الدنيا بل هو نفسه الدنيا.

وكل ما عداه من الناس والحيوانات والأشياء إنما هي وسائط وأسباب (موصلة إليه) عديمة الأهمية لا تستحق الذكر. وكلما كانت الأجهزة الحيوية - الأعصاب الموصلة والمراكز العصبية لأعضاء التغذية والحس والإرادة - كلما كانت هذه الأجهزة أقل اعتدالاً كان جنون الأنانية أقل شدة وكان الضرر الناشئ عنه أقل مقداراً. فأدنى مظاهر هذا الجنون وأخفها أذى هو ما يشاهد أحياناً في المصاب به من شدة الإفتخار بحرفته أو صناعته. فإذا كان مصوراً لم يشك في أن عماد الدنيا ومقدار نظام الكون هو الصور ولاسيما صوره هو. وإذا كان كاتباً أو شاعراً اعتقد أن الدنيا لا تعني إلا بالشعر والكتابة. ولا يعترض معترض بأن هذا العيب ليس خصيصاً بجنون الأنانية بل هو عيب شامل لا يكاد يسلم منه إنسان إذ الحقيقة أن هنالك فرقاً عظيماً بين الإنسان العادي وبين مجنون الأنانية في هذه النقطة. فالإنسان العادي مع عرفانه بأهمية عمله يعرف أيضاً منزلة هذا العمل بالنسبة لغيره مما هو أعلى درجة وأعظم خطورة. ولكن مجنون الأنانية لا يخطر بباله قط أن أي عمل يقوم به يمكن أن يكون قليل الأهمية في نظر الناس. فالإسكاف الصحيح العقل الذي يقضي عمره في ترقيع النعال القديمة بيناً تراه يبذل منتهى جهده الجسماني والعقلي في مزاولة عمله تراه مع ذلك يقر ويعترف بأن هنالك أعمالاً أعظم قيمة بكثير وأجل فائدة ولذة للمجتمع من ترقيع نعل قديم. ولكن مجنون الأنانية على عكس ذلك، يعتقد - إذا كان كاتباً مثلاً - أن الدنيا لم تخلق إلا لتتعان على إخراج كتاب بديع. فإذا اشتد اعتلال الأجهزة اشتد الجنون الأناني حتى لا يقتصر في الكتاب على مجرد التناهي في تفضيل صناعته على سائر أعمال الحياة بل يتجاوز هذا الطور البريء إلى طور الإجرام الأدبي الذي ربما بلغ درجة الجنون الأدبي. ففي هذا الطور تتولد في المصاب الرغبة في ارتكاب الأعمال الضارة به وبغيره. وقد يعترض معترض بأن هذا يحدث أيضاً للصحيح العقل ولكن الصحيح العقل عنده من قوة الإرادة ما يدفع به الميل إلى الإجرام. أما المجنون الأناني فإنه أضعف إرادة من أن يرد نزعاته وشهواته فهو لا يستطيع أن يضبط أفكاره وأعماله بواجب مراعاة مصلحة المجتمع وذلك لأن المجتمع معدوم الوجود في نظره. فهو منعزل عديم الإدراك للنواميس الأدبية المسنونة للحياة في

المجتمع لا للفرد المنعزل. فحالة هذا الإنسان أشبه شيء بحالة روبنسون كروسو (المزعوم في القصص أنه عاش حقبة من الدهر منفرداً في جزيرة أفضى إليها مفرده عقبة عاصفة أودت بكل من كان معه من ركاب سفينة كانت تسير في المحيط الهادئ الجنوبي) إذ يعيش وحده في جزيرته. فلا شك في أن روبنسون هذا كان لا وجود قانون العقوبات في نظره فهو لا يعمل غير الطبيعة ومهما صنع من قتل حيوان أو سرقة بيض طائر أو عشه فعمله هذا لا يعد من الوجهة القانونية قتلاً أو سرقة. فالمجنون الأناني هو روبنسون كروسو يعيش تخيلاً وتوهماً في جزيرة منفرداً وهو مع ذلك عاجز عن ضبط نفسه فهو لا يرى الناموس الأدبي العام وكل ما يحتمل أن يراه ويعترف به - ولعله يأسف على حدوثه - هو خرقه القانون الأدبي بالنسبة لنفسه - أعني عجزه عن قمع نزاعاته فيما يعود بالضرر على ذاته خاصة. وهناك حالات من المرض يكون الجنون الأناني فيها مقروناً بفسائد الحواس والغرائز، إذ لإخفاء أن الحواس والغرائز إذا فسدت أدت أعمالها على عكس قوانينها المعهودة وفي عكس مناهجها القويمة. ففي حالة فساد الذوق ترى المصاب يشره إلى إلتهام الأشياء التي ينفر منها السليم الذوق بمنتهى الإشمئزاز والكراهية أعني الأشياء المعترف بأذاها والتي تنبذ من أجل ذلك - كالمواد العضوية العفنة والروث والسرجيم والبصاق والمخاط وهلم جرا. وفي حالة فساد الشم ترى المصاب يفضل روائح العفونة على نفحات الريحان والأزاهير. وفي حالة فساد الشهوة للنساء ترى المصاب يشتهي الأمر المنافي للفطرة والحكمة أعني المنافي لإبقاء المثل. وفي حالة فساد الشعور الأدبي ترى المصاب يألف ويلتذ الأعمال التي تملأ الرجل الصحيح اشمئزازاً وكرهاً. نقول فإذا كان الجنون الأناني مقروناً بهذا الفساد من الحواس والغرائز فإن المصاب لا يقتصر أمره على مجرد قلة الشعور بالخير والشر وعدم التمييز بينهما بل يتعدى ذلك إلى ما هو أخبث وأرذل أعني الميل المتعمد إلى الشر بإعظام شأنه في الغير وإتيانه إياه بذاته كلما استطاع إليه سبيلاً ثم يجد فيه من الحسن والجمال ما يجد الرجل الصحيح في الخير. والجنون الأناني - مقروناً بفسائد الغرائز أو غير مقرون - تختلف مظاهره بإختلاف البيئة والدرجة الإجتماعية المنسوب إليها المصاب، وكذلك بإختلاف مشاربه الخاصة وخصاله

الممين فإذا كان في الرعاع والطغام فلن تراه إلا أمرأ ساقطاً مخالطاً غير شريفة أو تراه مجرماً عادة وصناعة. أما إذا كان موسراً متعلماً أو كان ذا منصب عظيم فإنه يرتكب في هذه الحالة جرائم الطبقات العالية فيكون دون جوان الملاهي والمراقص وحجرات السمر والمؤانثة وتبيع الغواني وزير النساء. يرفع لواء الفجور أنى نزل ويحمل الخزي والعار إلى بيوت صفوة أخدانه. ونخبة من صحابه وخلانه. أو أن يكون صياد الوارثات من النساء وقناص الأرامل الموسرات. وخواناً حيثما أؤتمن. وهمازاً مشاء بنميم، مناعاً للخير معتدياً أثيماً. وزراعاً للفتن بثاثاً للمكايد وأفاً كالكذابا. وغذا كان من أرباب العروش فربما استفحل فيه الداء حتى يصير سبعاً ضارياً ووحشاً مفترساً وقائداً غازياً فاتحاً مدوخاً لشعوب الأرض وممالكها. فإن كان محدود السلطة كان من قبيل شارل الخبيث والكونت دي فريه وملك نافر وجيل دي ريه وقيصر بورجيا. وإذا كان مطلق السلطة كان مثل نابليون بونابرت. هذا وإذا كان جهازه العصبي أضعف من أن يولد عنده البواعث المغرية بمحاولة ضخم الأعمال والمساعي أو كانت عضلاته أوهن من أن تستطيع تنفيذ ما توحي به تلك البواعث فإن هذه الأميال الجنائية تبقى غير مقضية. وتبقى هذه المطامع الإجرامية غير مكفية. وتلك الغلة المتأججة غير مشفية ولا مروية. وإذ كان لا بد لها من منفذ ومخرج فإنها تجعل مخرجها من طريق التصور والخيال. في هذه الحالة يكون المجنون الأناني مجرماً نظرياً أو أفلاطونياً ليس إلا. فإن كان من حملة الأقلام شرع في وضع النظريات الهادمة للنواميس الأدبية والقوانين الإجتماعية مما ينطبق على فساد عقله وغرائزه ويلائم جنونه الأناني. أو أخذ يقرظ فاسد النظريات بأبدع القول وأخلبه، يزين زور الكلام بآنق حلى البلاغة وأبدع زخارف البيان. فأمثال هؤلاء الكتاب هم في الحقيقة مجرمون ولكن الفرق بينهم وبين سكان السجون هو أنهم لم يأثروا في قوة الإرادة ومضاء العزيمة ولا يستطيعون به الذهاب إلى السجن على أجنحة الجرائم الفعلية. بل كل ما يستطيعون تزويق اللفظ وتنميق العبارة. وهنالك خاصة يستوي فيها جميع المجانين الأنانيين وتلك هي عجزهم عن التوفيق بين أنفسهم وبين الظروف التي يعيشون فيها سواء أكانوا ممن يظهرون عداواتهم للنواميس الإجتماعية في صورة فكرية أو فعلية - بالكتابة أو بالإجرام فهذا العجز عن الملائمة بين

النفس والظروف المحيطة بها هو من أوضح خواص مجنون الأنانية، وهو لهم مصدر عذاب دائم مآله الخراب التام في النهاية. بيد أن هذه الخاصة هي نتيجة لزومية لبنية جهازه العصبي الأوسط. فإن أول شروط إمكان الملائمة أن يكون الجهاز المذكور من الصحة بحيث يؤدي إلى الذهن صورة صحيحة للحقائق التي يلزم المرء أن يطابق بينها وبين نفسه (أي أن يسير على سننها ومناهجها) مثال ذلك أنك أيها القارئ لا تستطيع تجنب الحفر التي في الطريق إلا إذا كنت تبصرها. وإنك لا تستطيع أن تتقي اللطمة الواقعة عليك إلا إذا كنت تبصر مصدرها ومأتاها. ولا يمكنك أن تولج النصاح في خرت الإبرة إلا إذا كنت تتبين خرتها بطرف جلى وتحمل نصاحها بكف ثابتة غير رعشة. والحقيقة إن ما نسميه سلطاناً على الطبيعة إنما هو خضوعنا للطبيعة. وإن من خطأ التعبير أن ننسب الخضوع للقوى الطبيعية إذ الحقيقة هي أننا نحن الذين نلاحظ تلك القوى ونعرف خواصها ثم نوقع الملائمة بين صفات القوى المذكورة وبين رغباتنا وأغراضنا. فنحن مثلاً نعرف أن الكهرباء تسري في الأسلاك النحاسية فترانا نحتال بدهائنا فنضع تلك الأسلاك في المكان الذي نريد وصول الكهرباء إليه حيث نلتمس نفعها وفائدتها. أفليس ذلك خضوعاً منا لخواص الكهرباء وطباعها. فبلا خبرة بأحوال الطبيعة لا تتأتى الملائمة وبدون الملائمة لا يمكن الانتفاع بقواها وفضائلها وبعد فمجنون الأنانية لا يستطيع التوفيق بين الظروف المحيطة وبين نفسه لعدم استبانته حقيقة تلك الظروف أما عدم استبانته لحقيقة تلك الظروف فلأنه مريض الأعصاب الموصلة، بليد المراكز الإدراكية ضعيف ملكة التأمل. والسبب الباعث على الملائمة وعلى كل مجهود يبذله الإنسان - والملائمة كما يعلم القارئ ليس سوى نوع من المجهود - هو الرغبة في قضاء حاجة حيوية أو الفرار من ألم ما. أو بعبارة أخرى القصد من الملائمة هو اكتساب الوجدانات اللاذة ودفع الأليمة. وعليه فالمريض العاجز عن إحداث الملائمة أضعف كثيراً عن اجتلاب إحساسات اللذة ودفع إحساسات الألم من السليم القادر على إحداث الملائمة. فلا غرو أن ترى هذا المريض (مجنون الأنانية) لا يزال يصطدم بالعقبات والعثرات لأنه لا يعرف كيف يتجنبها. ولا غرو أن تراه تتقطع نفسه حسرة على التفاحة اليانعة لأنه لا يدري كيف يتوصل الفرع الذي منه تتدلى. فمثل ذلك الإنسان خليق أن يشقى بالحياة وبالناس وإن يكون كثير التسخط

سريع الغضب سيء الخلق حانقاً على الكون والطبيعة ناقماً على المجتمع ونظاماته مغتاظاً منهما متأذياً بهما لعدم قدرته على التأليف بينهما وبين نفسه. فهو في ثوران مستمر على جميع النظامات والكائنات يحاول هدمها أو على الأقل يتمنى هدمها ويحلم به. ولكن هذه الانقلابات التي يتشوف إليها ويحرص عليها بل التي ربما أفلح في إحداثها بالفعل هي انقلابات عقيمة مجدبة من الثمرة من حيث الرقي والتقدم. فهو باعتباره مصلحاً أشبه شيء بالطوفان أو الإعصار باعتبارهما أداتين من أدوات الكنس. إذ الطوفان والإعصار لا ينكسان الطريق ولكن ينسفانه. فكذلك هذا التأثر على النظامات الاجتماعية لا ينظف المجتمع من آفاته وينقيه من عاهاته ولكنه يهد ويهدم بطريقة عمياء هوجاء مجنونة. وهذا هو الفرق بينه وبين المصلح الحكيم الخبير الذي شأنه الإصلاح يقود الإنسانية المتألمة المتقهقرة حينما يرسله القدر إليها من الظلمات إلى النور بسبل خفية صعبة وعرة. نعم إن المصلح الحكيم قد ينسف بمنتهى العنف والقسوة تلك الرسوم القديمة البالية الخربة التي قد أصبحت عقبات في سبيل التقدم - ينسفها ليقيم النظامات النافعة على أطلالها. أما المجنون الأناني فإنه يطعن على كل ما يراه سواء أكان نافعاً أم غير نافع. ثم إذا هدم وخرب لم يفكر في تنظيف الأرض من أنقاض ما هدم. بل كل لذته في أن يرى كثبان الأنقاض تعلوها الأعشاب الفاسدة نابتة حيث كانت الجدران والسقوف التي هدمها. إن هناك لبوناً شاسعاً بين المصلح العاقل وبين الثائر المصاب بجنون الأنانية. وذلك أن الأول يكون ذا غايات ومقاصد وليس للثاني غايات ولا مقاصد. إذ الثاني أقصر نظراً من ذلك وهو لا يفكر قط فيما يجب أن يكون عوضاً من الأشياء متى يريد إزالتها ومحوها. بل كل ما يعرف هو أنه يكره جميع الأشياء على الإطلاق ويريد إرسال صواعق غيظه على كل ما يراه حوله. ومن ثم ترى أن مثل هذا المتهوس ربما حول تيار غضبه إلى شرور خيالية وأضرار وهمية. وربما رمى إلى غرض حقير ومقصد تافه بل لا يبعد أن يشن غارته على النواميس النافعة الحكيمة فتراه تارة يوجه الطعن إلى مسألة رفع القلنسوة بالتحية فيعتصب مع أعضاء حزبه ضد ذلك وتارة يوجه نقمته إلى مسألة التطعيم الجداري الإجباري. وطوراً إلى مشروع إحصاء عدد الأهالي. وأعجب الأشياء أن مجنون الأنانية في قيامه ضد هذه المسائل يظهر من الاهتمام والتحمس ويلقي من الخطب وينشر من

المقالات أمثال ما يصدر عن أرباب الانقلابات العظيمة الذين يحاولون إبطال تجارة الرقيق أو يطالبون بتحرير الأفكار وحربة النشر - ماكس نوردو.

صور هزلية

صور هزلية من أخلاق الناس يأبى العالم كله إلا أن يكون مضحكاً، لأن الحياة نفسها هي أضحوكة الأضاحيك، والناس لا يستطيعون أن يكونوا كاملين، لأن الحياة تأبى إلا أن تكون شوهاء ناقصة، بل إن الرزالة والوقار والكمال لتبدو جميعاً أزاء سخافة الدنيا أبدع أنواع المجون، وأغرب ضروب الرياء، وأنت لا تستطيع أن تجد رجلاً واحداً في هذا الأوقيانوس المزدحم، رزين الروح من كل نواحيه، خالياً من الشائنة، بعيداً عن المعابة، وقد تقع يوماً على رجل يبعثك منظره على احترامه، ويريدك خلقه على إجلاله، ولا ترى فيه إلا صورة رائعة من تلك الصور الخلقية بالنسخ والرسم تلك الصور الجميلة التي حاولت الأديان والشرائع والفلاسفة والخياليون والشعراء والمفكرون أن توجد لها مطبعة من مطابع البالوظة لكي يطبع الناس جميعاً أنفسهم عليها، فتظن أنت إذ ذاك أن هذا الرجل الجليل مادة واسعة للكلام عن الفضيلة وخطوة طيبة في سبيل قتل الحيوان الذي يطل دائماً من أثواب الإنسان، ووسيلة ممكنة لتقليد الملائكة، وتظنه جميلاً من كل ناحية التمست رؤيته منها، ووقوراً رزيناً من كل عاطفة أردت الإشراف عليه من صوبها، ولكنك لو رأيت أشعة خلقية على نحو الأشعة الرنتجنية، واستطعت بها أن تبصر كل أجزاء روحه ودخيلة نفسه، إذن لما لبثت أن تهتدي إلى ركن مضحك غريب منه، ولألفيته بعدها مفارقة عجيبة لا يسعك إلا أن تقهقه ضاحكاً منها، ولأدهشك هذا الضعف الإنساني الذي شاءت الطبيعة أن يظل إلى الأبد أكبر فضيلة الإنسان وأكبر عيوبه، ولعلمت أن الرجل العظيم أشبه بتمثال ضخم من الحديد يقوم على ساقين من الطين أو الفخار. وكذلك ترى أن العظيم لا يزال مضحكاً، والحقير مادة الضحك كلها، وإن الحياة ليست إلا نكتة من نكت الطبيعة ولكنها تعد نكتة قاسية تبكي أكثر مما تضحك، ثم يجيء الموت فيختم هذه الطقطوقة الهزلية، وتكون الطبيعة قد شبعت عند ذلك من الضحك من الإنسان والهزؤ به. وأغرب شؤون الطبيعة أنها قد تجعل إنساناً نهاية في الجد وآخر ما يمكن أن يتصور من الرجل الصالح الرزين العاقل التقي الورع، ولكنها تأبى إلا أن تضع له زراً خفياً في خلقه،

إذا حركته تغير المنظر، وتوارى هذا الستار، وجد ستار آخر على فصل من أغرب فصول الفودفيل الخليع، وأنت قد تلقى رجلاً يحب الصلاة، ولكنه يميل بطبيعته على السكر، وهذه مناقضة لا تغيب عن ذهن الطبيعة، ولكنها تريد أن تلعب بالناس وحسبه، ولهذا ترى حيرة الرجل بين هذين الميلين مجونية مضحكة، إذ تجده يسقط فوق ركبتيه ركوعاً لله، في ميقات من مواقيت الصلاة، ويسقط مترتحاً ساجداً للكأس في موعد من مواعيد الشراب، ثم لا تنسى أن الصلاة هي محاولة التقرب من الله، وإن الشراب أيضاً هو محاولة إخماد الحس، أي أنه محاولة الإقتراب من الموت، والموت هو من نفسه اقتراب من الله. الحياة أضحوكة أيها الناس، وأبدعكم من كان أشد إضحاكاً من الجميع، والهازئ بالحياة أصلح لها من المقطب لها الجاد في الحرص عليها، والإبتسامات ألطف من العبرات، وخير للإنسان أن يكون مضحكاً من أن يكون كايوسا وأن يكون مفرقعاً من أن يكون سائلاً لأن الضحك ليس إلا فرقعة من مفرقعات العواطف، وهو انفجار أشبه بانفجار النيازك في الأعياد، لأنه انفجار كثير الألوان، زاهي الأصباغ، أما الدموع فهي العواطف ذائبة، والأحزان سائلة، فإذا جاشت بنفسك دمعة وأرادت أن تهجم على عينيك، فلا تدعها تسيل وتنحدر، لأنها ماء الروح، وخير لروحك أن تظل بمائها، حتى لا تجف وتنصب، ولكن عليك أن تحيل هذا البكاء ضحكاً هستيرياً متشنجاً، حتى تدع الذي يراك يبتسم لك ويكون صدى ضحكتك، إذ ينبغي أن تحاول جهدك أن لا تظهر أمام الناس حزيناً، لأن حزنك ثقيل الظل على الناس، مكروه المظهر في المجلس والرجل الحزين لا يلتفت إليه إلا من قبيل التهكم به وبحزنه معاً، لأنه يريد أن يقطع مادة الضحك من قلوب الحاضرين. أيها الناس، إن الحياة سخيفة، ودمعة واحدة تطفر من عين إنسان يجب أن تقدر بالعالم كله، فدعوا البكاء جانباً لأن الدموع غالية، وما أرخص ثمن الضحكات، كل عشر ضحكات بقرش، أيها الناس، فاضحكوا ملء أفواهكم. نعم. لنضحك، ولنجتهد في أن نضحك كثيراً من بعضنا، وأنا موافيكم بعد اليوم بصوركم المضحكة، وبادئ صورتي الهزلية قبل كل صورة فإلى الملتقى. ع. ح

مذكرات شبلي شميل

مذكرات شبلي شميل ومن المقالات التي لي ونشرت في جريدة مصر الفتاة مقالة نقدت فيها قانون المطبوعات وهو القانون المعمول به اليوم والذي وضعت مواده حوال سنة 1880 ولكن لم يعمل به في ذلك الحين، ومضمونها أن الآلات التي يخترعها الإنسان ليست إلا أعضاء متممة لأعضائه الطبيعية فلا يجوز أن يسن لها قانون غير القانون المسنون لنفس هذه الأعضاء وهو القانون العام. فإذا كنا نستطيع أن نسعى بأرجلنا إلى الشر وأن نعمله بأيدينا فهل تقيد أرجلنا وأيدينا بالقيود قبل العمل. فالذي يطلق على الأعضاء الطبيعية يجب أن يشمل الأعضاء الإضافية والطباعة من هذه الأعضاء فيجب أن تترك لها الحرية كما تترك لليدين والرجلين حتى إذا جنت أخذت بجنايتها. وكأنه بلغني أن واضع بنود هذا القانون رجل فرنسوي طريد الحرية في بلاده أو طريد أكثر منها يدعى بورلي هذه المنشورة في مصر الفتاة وقد أرسلت إليه نسخة منها. ثم ختمت كتابي بقولي: ـ إني لأعجب كيف أن رجلاً نظيرك طريد الحرية يقبل أن يضع بنود مثل هذا القانون. ولكن يظهر أن لسماء مصر تأثيراً خاصاً على العقول. ولم أزد على ذلك. والظاهر أن صاحبنا وهو في أبان نفةذه في قلم قضايا الحكومة في ذلك الحين يوم مسألة مقاطف جبل الزيت وظهور العملة (المزيفة التي أثري بها ناس تحني لهم الرؤوس اليوم وترفع لهم القبعات) لم يألف عندنا مثل ذلك فكبر عليه أن يخاطب بمثل هذه اللهجة من رجل مجهول وهو في هذا المقام من النفوذ فهاج وماج وتوعد وأخذ يسأل من أكون أنا كما بلغني بعد حين من الموظفين في مصلحته وبعضهم وهو نجيب عنحورى لا يزال حياً يسعى حتى اليوم. والظاهر أنه حاسب نفسه بعد ذلك فعرفأن الحق أغلب وأن صاحب هذا القول لا يخشى تهويلاً فصمت وانفض هذا الإشكال ولكن من دون رد على خطابي كما كان يفعل أكابر القوم في بلاده وكأنه جرى في ذلك مجرى أكابرنا في بلادنا لأن كل شيء يعدي والقبيح عدواه أسرع من عدوى الحسن. ومذكراتي هذه خدمتني كثيراً في مجلة الشفاء بعد ذلك وقد فقدت مني اليوم ولم يبق في ذاكرتي منها إلا أهم حوادثها ولم أحفظ من أسماء الأطباء إلا الذين لازمتهم كثيراً ووقعت لي معهم حوادث تحفظ ولاسيما أن ذاكرتي في الأسماء والتاريخ في غاية الضعف ولكنها

قوية جداً في الحوادث نفسها وذلك يدل على ما بي في كل أموري من الميل الخاص المنطبع في من أصل فطرتي من النظر إلى الجوهر والإعراض عن الأعراض. وقد رافقني هذا الضعف في كل أعمالي العملية والدنيوية حتى كنت أشعر به عندما كنت أريد أن أبسط مسألة جوهرية علمية أو أدبية تلزمني فيها المصاحبات المحسنة والمؤيدة مما هو ضروري في كل كتابة. وكان شره الأكبر علي في أشغالي المالية ذهبت كلها طعمة سائغة لقلة تدبيري وعد احتياطي وكثرة تسليمي واعتمادي فيها كثيراً على سواي ولقد كان لهذا الإضطراب في أموري الدنيوية صدى وأي صدى على سائر حياتي العلمية والفكرية بعد ذلك ونزع مني كل لذة كنت أشعر بها وأنا منصب عليها كل الإنصباب بجملتي قبل هذا التاريخ.

مركز المرأة الإجتماعي

مركز المرأة الإجتماعي (4) إن الأمة المصرية على الرغم من رسوخ قدمها في المدينة وعلو كعبها في الحضارة لا تزال متمسكة ببعض العادات القديمة التي أورثتها إياها القرون الغابرة. وهذه العادات غير ملتئمة مع بعضها لاختلاف المصادر التي استقيناها منها وغير منسجمة مع المدينة الحديثة لاندثار الظروف الإقتصادية والبيآت الإجتماعية التي ولدتها وقيام ظروف وبيآت أخرى. فلا نزال إلى الآن نقابل البنت ساعة ميلادها بانقباض وكسوف بال ونعتبر المرأة التي لم ترزق بذكر عاقراً وإن كان لها من البنات عشر. وكلما كثر عدد بناتها خجلت من نفسها وعيرتها أترابها بذلك ويرثي الناس لحال زوجها كأنه أصيب بداهية دهماء. ولهذا الشعور أصل تاريخي وذلك أن القبائل المتوحشة التي تعيش على النهب والصيد لا تكسب قوتها إلا بشق الأنفس ولا تحصل منه إلا على القدر الضروري ولا يفيض عن قوت يومها شيء وإن فاض فنزر ضئيل. والمرأة لضعفها ورقة تركيبها عاجزة عن معاونة الرجل في أعمال الصد والقتال. فهي بطبيعة الحال عالة تعيش من كسب غيرها. وبقدر عدد النساء تقل أقوات القبيلة ويشتد الضيق على أفرادها. فلا عجب إذا رغب المتوحشون عن المرأة وكرهوا وجودها وعملوا جهدهم على تقليل النساء بوأدهن. أما الآن فلا مبرر لهذا الشعور حيث انفتحت أمامنا سبل الحياة ونبذنا الصيد والقتال إلا اللهو أو حرب ضرورية واحترفنا بمهمة أخرى كالزراعة والتجارة والصناعة وتوفرت لدينا طيبات الحياة وأصبحت المرأة قادرة على معاونة الرجل في أعماله بل أصبحت خير معين له كلما سمحت لها العادات والظروف بإظهار كفاءتها. ولا تلبث البنت تثمر وتنتزع حتى تشعر بضعة مركزها وتمييز أخيها عنها في الحقوق. إن اختصت معه لا تجد لها منصفاً بل ينقلب عليها أبواها يعنفانها وينصرانه عليها ولو كان ظالماً. يهشان في وجهه ويفرحان بلقياه ويخصانه بلذيذ الطعام وجميل الثياب وهي تنظر إليه عن كثب بحسرة تفتت قلبها من غير أن تجرأ على الشكاية. بل تثور في نفسها وتذرف الدمع غيرة وانكساراً.

وكلما تقدمت في الحياة ازداد مقامها انحطاطاً واتسعت الفروق التي بينها وبين أخيها انفراجاً حيث يذهب هو إلى المدرسة ليتلقى علوماً تثقف عقله وتهذب نفسه وتزج هي في سجن الحجاب فلا تخرج منه إلا إلى القبر. وإن حاولت الهروب والخروج حيث الهواء الطلق والطبيعة الجميلة تعاد إليه مع الضرب والزجر حتى تنصاع وتألف رجلاها القيد فتلازم بيت أبيها غارقة في غياهب الجهالة لا تدري من أمر الحياة ما لا يزيد عن السليقة والإلهام بالشيء الكثير. تحيا وتموت من غير أن يتعهدها معلم يهذب نفسها ويقوي مداركها. فما أشبهها بالشجرة الشيطاني التي تنبت في الفلاة ولا تجد من يعني بأمرها ويرعاها بالسقي والحرث ويشذب أغصانها ويقوم إعوجاجها فتنمو سقيمة ويأتي ثمرها كالعلقم تعافه النفوس وتتقزز منه الطباع. وإذا ما بلغت البنت سن المراهقة انقطعت عن الأكل مع أبيها وإخوتها خجلاً من نفسها وشعوراً بضعف مركزها ولأنها في الغالب تتولي بدل أمها خدمة أبيها على الطعام. والزوجة في أغلب عائلات الطبقة الوسطى لا تأكل مع زوجها وتقوم بخدمته فتناوله الماء وألوان الطعام وذلك إذا لم يكن عنده خادمة أو بنت كبيرة. ولا تأكل عادةً إلا بعد فراغه. فيا لها من عادة قاسية تكسر أنف المرأة وتذهب بكبريائها وتغرس في قلوب الأبناء احتقار الأمهات والإستخفاف بهن. للكلام بقية الدكتور عبده البرقوقي المحامي

باب تدبير الصحة

باب تدبير الصحة اللسان ودلالته على المرض اللسان يدل دلالة صريحة على حالة الجهاز الهضمي وتتغير حالته تغيراً مدهشاً مختلفاً في كثير من الأمراض فمن أحمر رطب نظيف إلى ما يأتي من الأشكال. (1) في النزلة المعدية المزمنة - باهت اللون رخو مغطى بطبقة بيضاء ومحاط بانخفاضات من ضغط الأسنان. (2) في الإمساك المزمن - مغطى بطبقة سميكة ضاربة إلى الصفرة. (3) في القلاع (من أمراض الفم) - مغطى بنقط بيضاء. (4) في الحميات - جاف ومغطى بطبقة. (5) في القرمزية (حمى طفحية) - في لون الشليك وشكله. (6) في التيفودية - رطب في الأول وعلى جانبه سلك أبيض بجوار حافتيه الحمراوين وفي الأيام الأخيرة يجف اللسان ويتشقق. (7) في البول السكري - متسع وذو لون كلون اللحم العجالي. (8) في الإدمان على الخمر والشلل العام الجنوبي مرتعش بلطف إذا مد. (9) في التجمد المنتشر (مرض عصبي) وفي الرقص الزنجي - مرتجف بشدة إذا مد. (10) في الكربتنزم (ضعف في النمو) اللسان كبير بالنسبة للفم. (11) في الشلل النصفي - اللسان ملقى في زاوية الفم (12) المرض النخامي - إسوداد في اللسان. الأسئلة الطبية وأجوبتها السؤال الأول ما هو الدواء الناجع لمن يوجد في بوله 0. 0249 من مجموع البول من حمض البوليك وما هو الطعام الواجب استعماله أثناء الغذاء وإذا كان اللحم ممنوعاً فهل يجوز أن يستعاض منه السمك أو بعض الطيور. السؤال الثاني هل لحمض البوليك تأثير على الأعصاب ولاسيما الأقدام، وهل يحدث ورماً في أصابع الأقدام والتهاباً كما يحدث ذلك الزلال للمصاب به؟

السؤال الثالث ما هي الأعراض الأولية التي يشعر بها المريض أول إصابته بالسل الرئوي ومم ينشأ هذا المرض وما هو العلاج الأولى الذي يلجأ إليه للوقاية منه أو لتخفيف وطأته إلى أن يعرض المريض نفسه على طبيب أخصائي؟ أحمد عبد المحسن عثمان المخزنجي بالسكة الحديد السودانية بعطبره السؤال الرابع شاب يتمشى في السابعة والعشرين يظنه الرائي بديناً صحيحاً بيد أنه يشعر بضعف الأعصاب ورعشة اليدين وفي بعض الأحيان تؤلمه المفاصل وهذا يجعل جثمانه يتدرج في الهزال تدرجاً غير محسوس ويتركه يئن من آلام متقطعة فما رأي حضرة الدكتور في هذا المرض؟ أحمد كامل بمديرية طنطا الأجوبة (1) يقول حضرة السائل أن البول يحوي 0. 0249 من مجموع البول والمفهوم من كلمة مجموع البول أنه بول 24 ساعة فإذا تقرر ذلك كان المقدار الذي يقول عنه حضرة السائل قليلاً جداً بالنسبة للحالة الطبيعية إذ يجب أن يحوي البول على الأقل من 0. 55 إلى 0. 70 جرام فيظهر جلياً أن المقدار المقول عنه إنما هو لمريض بحمض البوليك أو بالنقرس، والأدوية المفيدة التي قر عليها الرأي الطبي هي الأدوية المقوية للهضم والمساعدة للأمعاء خصوصاً الملينات الملحية (لا المسهلات) وعادة يصف الطبيب بعض أملاح البوتاسيوم والليثيوم وكذلك حمض الثيمينيك أما الببرازين الذي اعتاده الكثيرون ففي نظري لا قيمة له. أما الغذاء والعناية به فمهمة جداً فيجب أن يكون خلوا من الأطعمة النيروجينية والأطعمة السكرية العالية والتي تحوي البيورين فمن التي لا تحويه - اللبن. البيض. الزبدة. الجبن. الخبز الأبيض. الأرز. الفواكه. الكرنب. الخس أما البطاطس والفول السمك والفراخ واللحم الضان والعجالي ولحم الخنزير والكبد فتحوي مقادير مختلفة ولكن أخفها السمك فلحم الضان، كذلك يجب الإمتناع عن المشروبات الروحية بتة، ويستعاض عن السكر بالسكارين كما في البول السكري. (2) يسأل حضرة السائل عما إذا كان لحمض البوليك تأثير على الأعصاب خصوصاً

الأقدام إلخ. ولعل حضرة السائل يقصد أن يقول تأثير على الأعضاء لأن الأقدام ليست من الأعصاب وفي كلتا الحالتين الجواب نعم له تأثير هام على سائر الأعضاء خصوصاً أصابع الأقدام وفي الغالب تكون أو مظاهره، وكذلك له تأثير على الأعصاب خصوصاً ما يتعلق منها بالنخاع الشوكي. (3) يصعب جداً أن يعرف المريض بالسل الرئوي حقيقة أمره في المبدأ وعلى كل حال فالمرض قد يبدأ بعنف وسرعة وغضب كما قد يبدأ بلطف وبطء فبعض الحالات يبدأ بسعال وبصاق ربما كانا قليلين إلى درجة لا تدرك وبعضها يبدأ بالنفث الدموي أو بالنزيف الصدري وبعضها يبدأ بالتهاب رئوي يذهب ويترك أرضاً خصبة للسل كما أن البعض ربما بدأ عنده المرض وليس عنده من الأعراض إلا ارتفاع قليل في الحرارة بعد الظهر أو ألم متقطع بين الكتفين أو أسفل الضلوع والبعض لا يشعر بشيء إلا بضيق قليل في التنفس والبعض يهزل ولا يدري لهزاله سبباً والبعض لا يدرك شيئاً مطلقاً. أما المرض فينشأ عن عدوى المريض بباسليوس كوخ ويساعد على ذلك التزاحم وعدم تهوية الأماكن - والجلوس في غرف ملىء بالغازات - وضعف التغذية - والشغل المتعب - والتعرض للرطوبة والبرد - والحمى التيفودية - والمشروبات الروحية - والبول السكري - والضعف الزهري - ومخالطة المصاب به - وتتطاير ذرات بصاق المسلولين متى جفت في الهواء، فإذا كانت هذه هي الأسباب أمكن التفادي منها جهد المستطاع. (4) يلوح لي أن هذا الشاب عصبي أكثر مما هو مريض لو صح أنه مريض وأن كل ألامه هذه وتصوراته عصبية أكثر مما هي مرضية على أني أنصحه أن يبتعد عن الدخان والمشروبات الروحية والمكيفات الأخرى والعادة المضرة لو كان ممن يقترفونها فإن لم تتحسس حالته فأنا مستعد لأن يستشيرني كتابةً أو بشخصه كلما أراد ومتطوع جهدي لهذه الإستشارة. الدكتور محمد عبد الحي

تفاريق

تفاريق غرامات الحروب الحرب لعبة غاية الثمن، باهظة القيمة، وأغرب ما يذهب في سبيلها ما يسمونه غرامة الحرب، إذ لا يكفي المنهزم نكبة هزيمته، والنفوس التي ذهبت فدى لفكرة وهمية قامت برأس ملك أو برلماني أو جماعة من السياسيين، والملايين المنثورة التي خرجت من الجيوب لتدخل رصاصاً وقنابل وقذائف في جسوم القطعان الإنسانية المسوقة إلى المجزرة، بل ترى سنن الحرب تطالبه بعد كل ذلك بالغرامة، وشروط الصلح تلزمه المكافأة للغالب، والجائزة للمنتصر، فهو على حد المثل العلمي السائر موت وخراب ديار. ولا أدري ماذا كان يقول أجدادنا الذين شهدوا الملايين العديدة التي ذهبت في حرب القرم أو الحروب النابولونية، إذا هم علموا أن كل ما ضاع في تلك الحرب يكفي إنجلترة في هذه الحرب أسبوعين لا غير، وإن جميع الملايين من الجنيهات التي صرفتها بريطانيا في حربها مع البوير لا تعدو أن تبلغ قيمة فاتورة واحدة من الفواتير التي يعمل حسابها لسبعة أسابيع فقط. ولقد كان من ارتفاع ثمن هذه اللعبة الخطرة في العصر الأخير، إن ارتفع أيضاً ثمن الغرامة التي يدفعها المغلوب في ميدان هذه اللعبة. ولعل القراء يذكرون أن الحرب السبعينية قررت الغرامة على فرنسا، وقد ظن الناس إذ ذاك أن مقدار هذه الغرامة كان قاسياً باهظاً ظالماً، إذ طالبتها بروسيا، بعد تسليم الألزاس واللورين، بغرامة مقدارها خمسة بليونات من الفرنكات فوق البيعة وإن يظل الجنود البروسيون محتلين الأرض الفرنسية حتى يومذاك إن فرنسا لن تستطيع ـن تفيه إلا بعد عشرين عاماً على الأقل. وإنها ستضطر كذلك إلى البقاء تحت قبضة الغالب. ولكن العالم لم يلبث أن أخذته الدهشة الكبرى إ رأى أن فرنسا استطاعت أن تدفع آخر فرنك وتجلي عن أرضها آخر جندي ألماني، في خلال سبعة أعوام. ولكن هذه الغرامة العظيمة، وإن كان حمل زنتها من الذهب يستلزم ثلاثين كتيبة من الجنود، أو ثلاثين طابوراً لا تزال أقل مقداراً مما تنفقه الدول المتحاربة اليوم في إثني عشر يوماً!! على أنه لم تدفع أمة قبلها غرامة مثلها. فإن روسيا لما انتصرت على تركيا منذ أربعين

سنة، قدرت النفقات التي صرفتها في سبيل هذا الإنتصار مائة وخمسة وأربعين مليوناً من الجنيهات، ولكنها لم تطالب تركيا إلا بغرامة قيمتها 32 مليوناً وهو وإن كان مبلغاً صغيراً كما يظن، يؤلف تسعة أكوام من الأوراق ذات الخمسة جنيهات، وكل كوم منها أطول من برج لندن. أما الغرامة التي دفعتها النمسا عندما انتصرت عليها بروسيا عام 1866فلم تبلغ أكثر من ثلاثة ملايين، والغرامة التي دفعتها الصين لليابان فكانت 35 مليوناً وقد دفع آخر قسط منها بشيك واحد، ولعله أكبر شيكات الأرض إلى اليوم، إذ كان مقداره 11. 0080887 جنيهاً و15 شلناً وتسعة بنسات هذه غرامات الماضي، فماذا تظن أن ستكون غرامة هذه الحرب، وماذا تتوقع المقدار الملائم لها، إذا علمت أن مقدار النفقات التي سينفقها الحلفاء إذا ظلت الحرب ثلاث سنين ما يربي على عشرة بليونات من الجنيهات وهو مبلغ يتطلب لجره ثلاثة آلاف قطار من القطارات السريعة. (وبعد) فماذا تقول لو أعطيت بنساً واحداً من كل جنيه منها؟؟ مقياس جديد للأمانة خطر لإحدى المجلات النيويوركية أن تعلم مقدار إحساس الأمانة في نفوس أهل الولايات المتحدة. فاخترعت طريقة تعد من أبدع ما تخيل المتخيلون. وذلك أنها أرسلت مائة خطاب، كل خطاب منها يحتوي ورقة من ذات الريال الواحد، واختارت لهذه المائة رسالة طوائف معينة من الناس وأعدت لكل طائفة خمسة خطابات، ثم أرسلت الرسائل جميعاً إليهم، بحيث تدل المرسل إليهم أن الرسائل قد وقعت إليهم خطأً واتفاقاً، وكانت تريد أن تعلم كم شخص سيرد الرسالة التي أرسلت إليهم غلطاً، فكانت النتيجة إن 60 في المائة هم الذين ثارت في نفوسهم الأمانة، وبلغ منهم الوفاء أن ردوا الرسائل إليها. وإليك البيان: ـ قائمة النساء 5 نسوة من ذوات البسطة في العيش 4 نسوة هن اللاتي رددن 5 ممثلات 3 5 من العاملات على التايبرريتر 3

5 مدرسات 4 من أصحاب المحلات التجارية الناجحة 5 5 من نساء مختلفات 3 5 من فتيات المصانع 3 5 من الطبيبات 3 5 من المشتغلات بالمحاماة 3 5 من المراضع 3 فتكون النتيجة أن 33 امرأة هن الأمينات من 50 امرأة الرجال الذين ردوا لم يردوا خمسة رجال من ذوي البسطة في العيش 3 2 خمسة من المحامين 4 1 خمسة من الأغنياء 4 1 خمسة خمارين أو أصحاب حانات 1 4 خمسة من المرشحين (بالكسر) 3 2 خمسة من أعضاء البرلمان 3 2 خمسة من الصحفيين 4 1 خمسة من الأطباء 2 3 خمسة من الشرطة 3 2 خمسة من الممثلين 4 1 حقائق غريبة عن الإنسان والبيض قد دلت الأبحاث الأخيرة على أن ألفاً من البيض ومائتي بيضة تحتوي جميع العناصر الكيماوية الموجودة في الإنسان الذي يزن مائة وخمسين رطلاً، وهو الوزن المتوسط للرجل الكامل، ولكن هذا ليس معناه أنك إذا صنعت قرصاً من 1200 بيضة، أحدثت بذلك إنساناً، ولكنا نريد بذلك أن العناصر الكيماوية الموجودة في ذلك القرص تعادل قيمة الموجود منها في الإنسان. فإذا أصر إنسان على أن لا يأكل في حياته إلا البيض استطاع أن يحصل منه

على الأحماض الكيماوية المطلوبة للحياة ولكن الجهاز الهضمي لا يستطيع أن يهضم طعاماً كهذا دائماً، ولذلك لا يلبث أن يتعثر هذا الإنسان في المرض، ولا يني أن يموت، إذا لم يتغير هذا الطعام. وإذا تحول الإنسان سائلاً، أمكن لك أن تظفر منه بنحو 3630 قدماً مكعباً من غاز الإستصباح والهيدروجين، أو ما يكفي لأن يملأ بالوناً يحمل 155 رطلاً. وإذا أمكنك أن تستخرج كل عنصر من العناصر الموجودة في الجسم الإنساني. استطعت أن تظفر منه بحديد يكفي لصنع عدة من المسامير الكبيرة الحجم، وشحم يصلح لصنع 14 رطلاً من الشمع. ومن الرصاص ما تستطيع أن تخرج به 9360 قلماً من الرصاص أو 65 قاروصة - والقاروصة اثنا عشر دوزينة - ومن الفوسفور ما يفي لعمل 820 ألفاً من أعواد الكبريت، وفوق ذلك تجد عشرين ملعقة من الملح وخمسين رأساً من السكر و42 لتراً من الماء. وكذلك تعلم أن الجسم البشري ليس إلا معملاً كيماوياً كبيراً. ولكن 120 بيضة تكفل هذا المقدار، وبعد فإذا علمت أن الدول بحاجة شديدة اليوم إلى الحديد والرصاص والفوسفور والشحم وجميع هذه الأصناف، فأنت ولا ريب ترى أن تستخرجها من البيض - على ارتفاع أثمان البيض في هذه الأيام - خيراً من أن تستخرجها من الناس، أليس كذلك؟؟

مسكينة مسكينة

مسكينة مسكينة قال الشيخ علي: واسمع الآن يا بني ما أقص عليك فإني محدثك بخبر ليتني إذ علمته ما وعيته وليتني إذ هذا الفصل الروائي البديع هو أحد فصول كتاب المساكين للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي - آثر البيان بنشره فرحب به البيان - والكلام كما ترى موضوع على لسان الشيخ على بطل هذا الكتاب، والشيخ على المذكور - كما شرحنا ذلك في آخر عدد من البيان الشهري - رجل مجذوب سعيد بالدنيا والدنيا سعيدة به - وهذا الفصل قائم بنفسه لا علاقة له بما قبله ولا بما بعده. والكتاب سيظهر قريباً وهو يطلب من إدارة البيان وعيته ما أثبته ولا نفذت فيه كما نفذ في. ولكن الحياة كما تقضي علينا أن نشهد أموات الأحياء ونحملهم إلى أبواب الآخرة من تلك الحفر، تقضي علينا كذلك أن نشهد أحياء الأموات من أهل الرذائل وتحمل من أخبار ضمائرهم الميتة إلى أبواب السماء في أنفسنا. فواها لك أيتها الحياة الدنيا تقتلين بالشر وتجرحين بأخباره ولا تؤتين عسل الحكمة إلا بعد لسع كثير. . .! وقد علمنا أن كل شيء يسير فإنما هو يذهب في طريق يهتدي أو بعنف وكأن الأسف على أهل الشر لم يجد له طريقاً في هذه الحياة إلا من ضمائر أهل الخير. كانت لنا يا بني في هذه القرية النضرة فتاة بائسة ضاق بها العريض من هذا البر فخرجت إلى بعض المدن تستطعم الحياة. فحدثتني أنها استضاقت حتى كأنما كانت تنفذ إلى رزقها من شق في صخرة في غر في جبل. ثم استضاقت فكأنما ولجت هذا الغار فانحدرت تلك الصخرة فسدت عليها عليها فلا وراء ولا أمام وأعجزها حتى المعاش الملفق. وخرجت يوماً على الناس وكأنها لقذارتها قطعة من الحياة البالية مدرجة في بعض الأطمار، أو روح من الهواء تمشي ساكنة في أردية من الغبار، وما تحصي العين تلك البقع المنتشرة في ثيابها، كأنها أرقام للفقر يعد بها ليالي عذابها، وهي علم الله بقع، أشأم منها أنها في رقع، وقد أغبر شعرها الفاحم وتلبد، فكأنه بعض ما وقع على رأسها من حظها الأسود، ولاح من تحته وجه كالدينار الزائف في صفرته ورده، وكالقمر المحقوق في استطالته تحت الظلام ومده، وهي فتاة عليلة قد أخذ السقام من حجمها، كما أطفأت الأقدار من نجمها، وخفي من المرض في صدرها، أكثر مما خفي بين الناس من قدرها، وما تعرف من أسماء

الأموات والأحياء غير أسماء أهلها، ولا تملك من الأرض كلها أكثر من غبار نعلها، وقد خرجت تتحامل فكلما خافتت في مشيها قليلاً خافت العثار، فاستندت إلى جدار، فإذا رأيت ثم رأيت صورة البؤس ولكن في غير إطار، وإنها لتمشي وليس فيها دم ينتهي إلى قدميها فهي تجرهما جراً وتقتلعهما بين الخطوة وما تدري من الألم أهما على الأرض أم في الأرض يسوخان، وقد تزايلت أعضاؤها فما تحس أن فيها حياة متماسكة، وهي ما فتئت تحسب أن جسمها قد خلق نعشاً لقلبها فلا هذا القلب يحيا كما تحيا القلوب ولا ذلك الجسم ينمو كما تنمو الأجسام. وفي رأسها عقل زاد فضل الله ورحمته في جهة منه ونقص عنف الناس وقسوتهم من جهة أخرى، فبينا هي على ذلك نحمد الله إذا هي مع ذلك تلعن الناس. وهي مرة تنظر إلى الحياة فترى كل شيء في الحياة إلا نفسها ومرة تنظر إلى الموت فلا ترى في الموت شيئاً إلا نفسها ولم يكن يمسك روحها بين الإثنين إلا خيطان أحدهما من السماء وهو الأمل في رحمة الله والآخر من الأرض وهو إشفاقها على جدتها التي كانت تكدح منذ الصغر لقوتها. تلك الجدة الفانية التي كبرت وبلغت من الكبر حتى حسبتها الفتاة قد كبرت عن سن الموت. . . أما الآن فقد تبين لها الخط الأبيض من الخط الأسود وانصدعت حفرة جدتها المسكينة ولم يبق لها إلا رحمة الله. قال الشيخ علي: وكان خروج هذه البائسة أصيل يوم من أيام الصيف ذهبت فيه طاوية على الجوع كما تغدو الطيور من وكناتها وملء بطونها هواء. غير أن الطيور تهزأ بالناس جميعاً وهي على ضعفها أقوى من الشرائع والقوانين إذ تنبعث وكأن كل طائر منها إرادة متجسمة تقذف بها السماء فما تبالي على أي أرض تقع ومن أي حب تلتقط ولا نعرف إلا أن هذا الإنسان يعمل على السخرة ليخرج لها من الأرض رزقها رغداً. أما الفتاة فكل الناس يهزأ بها وهي ترى كل إنسان على ملكه كأنه قانون وضع لعقابها إذا حدثتها النفس حديثاً فقد بلغت من الضعف والمرض والفاقة إلى حال لا تجعل يديها تصلحان لعمل غير الأخذ فإن اختلست قيل سارقة فعوقبت، وإن سألت قيل متشردة فكذلك. ويا ليت في قلب هذا الإنسان من معاني الصفح بعض ما في لسانه من ألفاظ القصاص

ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسها التي تبطش بها وكلا النوعين سواء في الإفتراس. والكلب والتوحش فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة. . . وقلما يؤذي الإنسان، قبل أن يؤذي بهذا اللسان. ولم تر المسكينة أروح لنفسها المكدودة من الإنتحار وكأنما يخال لها أن في الموت عيشاً فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يعيشونها. ولئن كانت لم تسر بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت ولا أقول وهي حية ترزق فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهب الرزق حتى لم تترك لها في الناس وجهاً وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليد الواحدة التي تأخذ ولا تعطي وهي يد الموت. وإنها لتنفتل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع وما تأخذ عينها من الناس إلا من يحمل بطنه حملاً من شبع وري فكان نظرها إلى الناس أمض عليها من الفكر في نفسها وكأنها تقتل من وجهين. وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر وأمضت نيتها على الموت غرقاً لتموت نظيفة وتكون لنفسها غاسلة وترسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء. ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرة ركناً أو كأنه كتب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت. وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشد منها كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه. وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة وكلما امتد بها السير قصرت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئٌ بها من عينيها. وإنها لكذلك إذ لمحها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء وكان يعتمل طوال يومه في بعض المصانع وهو يحمل طعامه الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يوماً كاملاً. على أن المسكين لا يحس من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع أداماً ورغيفين وقطعة من الحلوى. قال الشيخ علي: وبصر هذا الطفل بالفتاة وأدرك أن روحها تخطو في أنفسها وإنه الجوع لا غير، وهو من أبنائه طالما شد عليه حتى انطوى. ولأن لغمزاته حتى التوى، وما يعرف

أنه ابن أبيه وأمه، أكثر مما يعرف أنه ابن فقره وهمه، فابتدر إلى المسكينة وكانت حركة الحياة فيها أسرع من حركة أضراسها في طعامه ثم ذهب لا يعرف ما نصنع لأنه طفل أو لأنه فقير. لا أدري. غير أني أعرف أنه لا يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف وتطويل المن به وتعريض الحديث فيه إلا الأطفال وإلا الفقراء. أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير، وهؤلاء لأن الخير منهم غير كثير. وانطلق الطفل وهو يلوي رأسه ويفكر في أي خديه تقع عليه اللطمة الأولى من أمه لأنها لا محالة ستحسبه اقترف إثماً فطرد من عمله، وانقطعت به طريق أمله، وإلى أن يأتي الله بالصباح الذي ينير برهانه، ويثبت لها إحسانه، يكون هذا الليل، قد صب عليه الويل، وهكذا جعل يشهد الله على ما سيلقاه في سبيل الخير بدلاً من أن يشهد الناس على ما لقي غيره منه في هذا السبيل من إحسانه وإيثاره. لأنه طفل أو لأنه فقير؟ لا أدري. أما الفتاة فأرسلت في أثره نظرة حية ولم تجزه غيرها بل جعلت جزاء عمله من عمله نفسه لأن ثرثرة الفقراء في الشكر على المعروف كهذيان الأغنياء في التبسط على المن به كلاهما لا يكون الأمن خبث أو لؤم وهي فتاة أقدمت على الموت ولم تقدم على السرقة. وإنها لتعلم أن من أحياها فكأنما أحياء الناس جميعاً ولكنها رأت الطفل غير أهل لأن يعرف إحسانه من نفسها. لأنه طفل أو لأنه فقير: لا ادري. ولما أمسكت عليها النفس وراجعت الحياة بدا لها فيما اعتزمه من الانتحار فترددت وجعلت تساورها الظنون وخلق لها من معدتها عقل جديد يبصرها فرق ما بين الجوع والشبع وكذلك تعرض لبعض الناس حالات من الحرص يعقلون فيها يبطنوهم حتى أن أحدهم لو تحسس رأسه وهو يفكر لحسبه بطناً صغيراً من العظم. . . فأنشأت الفتاة تستقيم على طريقها وهي تؤامر نفسيها على الحياة والموت وقد بدأت تهضم في معدتها الطعام والعزيمة جميعاً. وبينما هي تسير نظرت في عرض الطريق سيدة لولبس معنى الغنى لفظاً مابس غير اسمها، ولو كان للكبرياء رسم ما رأيته غير رسمها، وقد أورثها الغني ذلك الغرور بنفسها، حتى توهمت أنها في الأرض أخت شمسها، وبلغت في النعمة من الحمق والبطر، بحيث جعلت نفسها كالسماء متى تعبس وجهها استهلت لعنتها المطر، وهي من أولئك اللواتي

يخرج الغنى معهن في الطريق لا حارساً ولا منعاً ولكن للكيد والفتنة. فتنة المساكين وكيد الحاسدين فخرجت في زينتها وكأنها حانوت جوهري. . . وهي نصف من النساء ولكنها تتصابى فكأن في سامتها وابتسامتها شباب عشر فتيات جميلات. . . وقد ذهبت في أوضاع جسمها مذاهب هندسية بين المستدير والمستقيم والمنحني. . . حتى ظهرت كأن نصفها من الله ونصفها من الخياطة. . . وإذا رأيت جملتها رأيت روضة الجمال بألوانها وأزهارها ولكن. . . مصوره، فإذا انتهيت إلى وجهها رأيت للحسن هناك شهادة على الله ولكن. . مزورة. . . وعلى الجملة فقد جعلها حسنها المالي في رأي نفسها كالشرائع لا جدال فيها إلا من زنديق. . . ورأتها الفتاة كما تنظر المرأة إلى المرأة بعين جامدة ليس فيها لغة ولا فلسفة ولا شعر، فقالت يا لها سعادة أن تكون هذه العجوز. . . لا تتقدم في عمرها إلى الأمام ولكنها ترجع إلى الوراء، وأن تظهر بين الناس حسناء وإن كانت من القبح بحيث ذهب نصف نهارها في التحسن، وأن لا تجد من هموم الدنيا أكثر من هم الألفاظ أن قال الناس غير حسناء أو قالوا غيرها أحسن منها. ويا له شقاء أن تكون هي كما هي وأكون أنا كما أنا. ثم رمت بعينيها إلى السماء وانحرفت تواجه تلك السيدة فما تبينتها هذه وألمت بما نفسها حتى انقبضت كأنما أثارت الأرض في وجهها دابة جامحة، وجعلت تتحاماها وتلوذ ههنا وههنا وتحتث قدميها كأنها لقاء خطر شديد. غير أن الفتاة ملأت عليها الطريق بحركاتها فكانت وجهها كيفما يمنة أو يسرة وكأنما تطاردها مطاردةً. فلما عيت السيدة بأمرها وغاظ الفقر نعمتها وهاج الفضول الفتاة حنقها وكبرياءها. وقفت لها وقفة القضاء عابسة الوجه شامخة الأنف يكاد يستنفض الناس طرفها وتكاد تميز من الغيظ وتدل هيئة وجهها على أن وراء شفتيها المرتجفتين كلمات أحد من أنياب الوحش. فلم تبال الفتاة وبقيت رئتاها واسعتين للهواء إذ ليس بعد الفقر خوف، ودلفت إليها باسطة اليد وهي تكاد تزلقها ببصرها حتى إذا وقفت بإزائها خفضت رأسها وقالت: سيدتي! أدام الله نعمته عليك وهنأك هذه النعمة بدوامها. ـ هي دائمة وما أنت والنعمة؟ سيدتي! وقاك الله ما أنا فيه من بأساء الحياة ولا كتب عليك أن تعرفي ما هي.

ـ فلماذا أنت وأمثالك في الحياة إذن أيتها الحمقاء وهل يكتب تاريخ البؤس إلا في صفحة من مثل هذا الوجه؟ سيدتي! هبيني خادماً أحسنت إليها. ـ فلتكوني خادماً طردتها إن بلغت أن تكوني خادماً لمثلنا. ـ يا ويلتا! إلا رحمة في قلبك فتجودي علي بما لا بأس عليك منه؟ ـ ولماذا أفضلك على سائر الفقراء؟ ينبغي أن أجود عليهم جميعاً إذا أنا وجدت عليك ولو فعلت لطلبت بعد ذلك من يجود علي. سيدتي! ألا فاجعليني من نصيبك في الإحسان وغيري من الفقراء له غيرك من الأغنياء على الموسع قدره وعلى المقتر قدره. ـ إذاً فكوني أنت من نصيب غيري ودعي غيرك لي سيدتي! ليس فقري عن خطأ مني وليس غناك عن صواب منك وما الرزق يا سيدتي من فضل الحيلة. ـ وهل أنا أريد أن أعاقبك فتنتفي من الخطأ. ـ رجماك واتقي الله في الإنسانية فلعل في قصرك الباذخ كلبة جعلتها أحسن حالاً مني. ـ حينما تصيرين مثلها فتعالي إلينا ويومئذٍ تعرفين كيف تطرد الكلاب. قال الشيخ علي: فكبر ذلك على الفتاة وانتبهت في نفسها فضيلة الفقر فرأت أنها تنظر من ضمير تلك السيدة في مرآة مقلوبة من مرائي الإنسانية مهما جهدت أن تستقيم لها لم تزدها إلا مسخاً. هنالك غلبتها عيناها وانطلقت وراء دموعها ولم تجد لها عزماً. أما السيدة الكريمة - كما يقال فابتلعت ما بقي في فمها من تلك الفلسفة وافتر ثغرها قليلاً عن ابتسامة السخرية وسرها أن يكون في لسانها كل هذا النطق. . . ثم أنغضت رأسها بكبرياء وقالت: مسكينة مسكينة ومرت بعد ذلك لا تلوي. وسمع الله قولها إذ تجادل الفتاة وقد ربت في ثيابها من الغيظ وتنفشت كالإسفنج فأطلق عليها دموع البائسة وإن هذه لتأنس راحة في البكاء لم تعهدها من قبل فانزوت جانب الطريق وجعلت تبكي ثم تبكي ثم تبكي حتى لو جمعت دموعها لغمرتها وقد جمعها الله وأرصدها من أقداره لتلك الإسفنجة وقضى ربك ألا تعصر بعد اليوم إلا دموعاً. كانت السيدة فتاة كطلعة البدر في الرابعة عشرة لا تصفها إلا مرآتها وهي الدنيا مجموعة

في قصرها. وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيماً ولكن شذت معها الطبيعة لأمر أراده الله فولدت لها فتاة وكأنما انشق لها القمر. ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحاور تلك المسكينة بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى. ومن شؤم الغنى على أله أن لا يذكرهم في الشر إلا بأنفسهم ولا ينسيهم في الخير إلا أنفسهم فلا يعلمون أن الفقر أواع كثيرة وأن الغني نفسه نوع من الفقر إلى الله. وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر كأن الألوهية درجات جعلهم الغني في واحدة منها. فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟ وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتاتها تنتفض من وعكة الحمى وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه وما تعلم من أين اتصلت بها الحمى ولكن الله يعلم ولئن كان البعوض مما يعد في أسباب هذا المرض فلقد كان كلامها للفتاة ينفر منها كما ينفر البعوض من مستنقع. فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رحبت ولقد تكون المصيبة جنوناً وإن لم يكن من أسمائها الجنون. على أنها لم تر ملجأً من الله إلا إليه فابتدرت تدعوه وضرب الذهول بينها وبين اللعنة فلا تردد غير هذه الكلمات: يا رب. يا رب. ابنتي. ماذا جنت. مسكينة مسكينة. وجاء الطبيب كأنما أطلق في قنبلة مدفع ضخم. . . . . فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب مسكينة مسكينة. ثم مرت الأيام وابنتها مريضة وهي مريضة ببنتها فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاوية لم يجر الله على لسانها غير هذه الكلمات: أه يا ابنتي مسكينة مسكينة. قال السيخ علي: وضرب الدهر من ضرباته خرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملاً فتردم جانب من حالها وبينما هي تمشي مطمئنة رفع لها شبح أسود في عرض الطريق فجعلت تدانيه حتى حاذته فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لونها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظل منتصب في سواد، وظهرت من الخزن كأنها تمثال منصوب للحداد، وهي تلوح من الذلة والإنكسار، كأنما مات بعضها، وبقي بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار، فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها. فما تبينتها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزناً ثم رفعت عينيها إلى السماء

وقالت: يا رباه مسكينة مسكينة. . . . اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع من تشاء ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قدير.

مركز المرأة الإجتماعي

مركز المرأة الإجتماعي 5 المرأة في أغلب العائلات المتوسطة أسيرة زوجها وخادمه المطيع. تهب واقفة كلما أقبل أو أدبر. ولا تجلس ما دام واقفاً على مقربة منها ولا تخاطبه إلا بخشوع واستكانة وإن نادته فلا تناديه باسمه ولكن تناديه بلفظ السيادة، وكذا هو لا يناديها باسمها ولكن يدعوها بألفاظ لا تدل على الإحترام بل على العكس تدل على الإمتهان وإن كانت دلالتها غير صريحة. حدثني صديقي بأنه بقي إلى سن العشرة يجهل اسم والدته وذلك لأن الناس ينسبونها إليه ويدعونها بأم فلان ولم يسمع أباه يناديها باسمها وإنما (ياهوه) أو (ياللي هنا). لا يستشير الرجل زوجته ولا يشركها في الرأي ومن العيب الفاضح أن يقال عنه أنه (مشورة مرة) وإن شاورها فإنه يعمل بضد ما تقول (شاوروهن وخالفوهن). ولا يخجل الرجل من أن يمد يده إلى المرأة بالضرب ولا يتأفف الجمهور كثيراً من أن يرى رجلاً يضرب امرأة. ولكنه تثور ثائرته حينما يجد امرأة تهين رجلاً أو تضربه. غير أن عادة ضرب الرجال النساء فاشية على الخصوص بين الطبقات السفلى. وهذه العادة الذميمة لحسن الحظ آخذة في الإنقراض. أجل. إن الفلاحة مطلقة السراح تخرج حينما تريد سافرة الوجه إلى المزارع والحقول وزيارة جاراتها وتساعد زوجها وتشاركه في الرأي وتؤاكله وتجالسه ولها دراية تامة بمهام الأعمال الزراعية. غير أنها ما زالت دون الرجل بمراحل في الإحترام، وحظها من الإحتقار الجنسي حظ أي امرأة أخرى. ومن أكبر المساب وأبلغها في القحة أن يقال لإنسان لأنه امرأة.، اذكر يومأً أني كنت سائراً في شارع شبرا فسمعت حوذياً يحث حصانه على المشي ويبالغ في إذلاله بقوله له (شيه يا مره) إلى هذا الحد بلغ احتقار المرأة بيننا حتى صار اسمها مسبة للإنسان والحيوان. ولكن مع هذا لا ننكر أن في الأمة المصرية عوامل اجتماعية واقتصادية تعمل ببطء. ولكن باستمرار على رفع شأن المرأة وإعلاء مركزها الإجتماعي وإنالتها الحرية والحقوق التي تصلح لها.

ومن هذه العوامل جوار الأوربيين لنا في بلادنا واختلاطنا بهم واقتباسنا بعض عاداتهم وسفر بعض الأغنياء مع عائلاتهم إلى أوروبا مدة الصيف وإقبال الشبان على التعلم في الجامعات الأوروبية والمدارس المصرية وتفتح أذهانهم بنور العلم والمدينة بفضل انتشار الكتب والجرائد. والتعليم الأنثوي من خير هذه العوامل فإنه يرفع من شأن المرأة ويعلي قدرها ويكسبها ثقة نفسها ويفتق ذهنها فتعرف حقوقها فتدافع عنها وتطمح إلى الإستزادة منها وترغم الرجل على احترامها. فأشد ما تكون الحركة الأنثوية وجهاد المرأة في اكتساب حقوق جديدة في البلاد التي بلغ فيها التعليم الأنثوي ذروة الكمال وكادت المرأة تماثل الرجل في قوة المدارك كإنجلترا وأميركا. غير أن هذا التعليم مازال ضعيفاً بيننا قليل الإنتشار وذلك لحداثة عهده وتسلط الأوهام والخرافات على كثيرين ولكن على الرغم من هذا فإنه سائر إلى الأمام يتخطى هذه العقبات بقدم ثابتة. وأتى بفوائد لا بأس بها وإن كانت لا تزال بذوراً لم تنتج بعد. فمن آن لآخر تسمعنا المرأة صوتها طالبة إصلاح شأنها ومن قبل كانت صامتة لا تنبث بكلمة ولا تجرأ على التذمر. وبدأت تسترجع حريتها وتحمل الرجل على احترامها. ولحسن الحظ لم تجمح ولم تلجأ إلى الطعن وهذا ما يبشر بحسن المستقبل. غير أن الجمهور لا يرى في النساء المتعلمات هذه الرزانة ويرميهم بالرعونة والخفة وهو معذور في ذلك لأنه لم يتعود بعد أن يرى المرأة عالية الرأس طامحة إلى الحرية وعهده بها الإستكانة والخضوع ولأن بعضهن وهن قليلات جداً أسأن فهم الحرية لحداثة عهدهن بها. وقد أدى التطور الإقتصادي واستزادة الناس لأسباب الرفاهية إلى تحسين حال المرأة. إذ عدل كثير من رجال الطبقتين العليا والوسطى عن الإكثار من الزواج والطلاق ومن قبل كان الواحد منهم لا يكتفي بزوجة واحدة بل يتخذ عدة زوجات ولأتفه الأسباب يطلق زوجته ليتزوج بغيرها وذلك لأن حاجيات الحياة كانت قليلة جداً. بحيث كان رب العائلة لا يهتم بكثرة أولاده ونسائه أما الآن فحمل الحياة ثقيل لكثرة ما يحتاج إليه الإنسان وما تتطلبه الأطفال من الرعاية والتربية. ولا ننس ما للإصلاح القضائي خصوصاً القضاء الشرعي من الفضل في وقاية المرأة من

عبث الرجل. فمن قبل كان يعبث بها طلاقاً وزواجاً ولا ينفق عليها ويتركها هي وأطفالها عرضة للبؤس والشقاء ولا تجد من ينصفها. وقد تغيرت هذه الحال نوعاً ما. وأصبحت المرأة تلجأ إلى المحاكم الشرعية لتقرر لها نفقة ولا يهمل قرار المحكمة مثل الأول بل ينفذ على الزوج بالقوة وإذا امتنع يحبس. ولابد أن هذه الشدة تحمل الرجل على التردد والتفكير من قبل أن يقدم على طلاق زوجته أو الزواج بإمرأة ثانية. وبعد فإن إصلاح المحاكم الشرعية قد أفضى إلى تقليل الطلاق وتعدد الزوجات. الدكتور عبده البرقوقي المحامي

فكاهات ونوادر ومختارات في الأدب والتاريخ

فكاهات ونوادر ومختارات في الأدب والتاريخ نبل أرواح العرب كان معن بن زائدة الشيباني من سادات العرب وكان نادرة الفلك في الكرم والجود. وكان في أيام الدولة الأموية يتنقل في الولاية من الآية إلى الأية، وكان منقطعاً إلى يزيد بن عمر الفزاري أمير العراقيين أزمان الأمويين فلما دالت الدولة إلى العباسيين وجرى بين أبي جعفر المنصور وبين يزيد المذكور من محاصرته بمدينة واسط ما هو مدون في كتب التاريخ أبلى يومئذٍ معن مع يزيد بلاءً حسناً فلما قتل يزيد خاف معن من أبي جعفر المنصور فاستتر عنه مدة وجرى له مدة استتارة غرائب فمن ذلك هذه الحكاية التي تشف عن نبل أرواح العرب سواء في ذلك أميرهم وحقيرهم، حدث الشاعر مروان بي أبي حفصة - وكان مروان شاعر معن خصيصاً به - قال: أخبرني معن وهو يومئذٍ متولي بلاد اليمن أن المنصور جد في طلبي وجعل لمن يحملني إليه ممالاً فاضطررت لشدة الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي وخففت عارضي ولبست جبة صوف وركبت وخرجت متوجهاً إلى البادية لأقيم بها فلما خرجت من باب حرب - وهو أحد أبواب بغداد - تبعني أسود متقلد سيفاً حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه وقبض على يدي فقلت له وما بك فقال أنت طلبة أمير المؤمنين فقلت ومن أنا حتى أكون طلبة أمير المؤمنين فقال أنت معن بن زائدة فقلت له يا هذا اتق الله وأين أنا من معن فقال دع هذا فإني والله لأعرف بك منك فلما رأيت منه الجد قلت له هذا عقد جوهر بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي فخذه ولا تكن سبباً لسفك دمي قال هاته فأخرجته إليه فنظر فيه ساعة وقال صدقت في قيمته ولست قابله حتى أسألك عن شيءٍ فإن صدقتني أطلقتك فقلت قل قال إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت مالك كله قط قلت لا قال فنصفه قلت لا قال فثلثه قلت لا حتى بلغ العشر فاستحيت وقلت أظن أني قد فعلت ذلك قال ما ذاك بعظيم أنا والله راجل جندي بياده ورزقي من أبي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماً وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس ولتعلم أن هذه الدنيا من هو أجود منك فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كل جود فعلته ولا تتوقف عن مكرمة ثم رمى العقد في حجري وترك خطام الجمل وولى

منصرفاً فقلت يا هذا والله لقد فضحتني. ولسفك دمي علي أهون مما فعلت فخذ ما دفعته لك فإني غني عنه فضحك وقال أردت أن تكذبني في مقالي هذا. والله لا أخذته ولا آخذ لمعروف ثمناً أبداً ومضى لسبيله فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن يجيئني به ما شاء فما عرفت له خبراً وكأن الأرض ابتلعته. كيف كانوا يكرمون العلماء ويكافئونهم حدث النضر بن شميل العالم اللغوي المشهور قال - كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات ليلةٍ وعلي ثوب مرقوع فقال يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان قلت يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحسر مرو شديد فأتبرد بهذه الخلقان قال لا ولكنك قشف ثم امتد بنا نفس الحديث فأجرى هو ذكر النساء فقال حدثنا هيثم عن ابن عباس قال قال رسول الله إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز - فأورده بفتح السين - قال النضر فقلت صدق يا أمير المؤمنين هيثم حدثنا عوف ابن أبي جميلة عن الحسن عن علي قال - قال رسول الله: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز - قال. وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال يا نضر كيف قلت سداده قلت لأن ههنا لحن قال أو تلحنني؟ قلت إنما لحن هيثم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه قال فما الفرق بينهما قلت السداد بالفتح القصد في الدين والسبيل وبالسر البلغة وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد. قال أو تعرف العرب ذلك قال نعم هذا العرجي يقول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فقال المأمون قبح الله من لا أدب له وأطرق ملياً ثم قال أنشدني أخلب بيت قالته العرب قلت حمزة بن بيض يقول في الحكم بن مروان: تقول لي والعيون هاجعةٌ ... أقم علينا يوماً فلم أقم أي الوجوه انتجعت قلت لها ... وأي وجه إلا إلى الحكم متى يقل صاحباً سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات أدخل أو وفني سلمي فقال أحسن ما شاء. أنشدني أنصف بيت قالته العرب.

قلت ابن عروبة المدني حيث يقول إني وإن كان ابن عمي واغراً ... لمزاحم من خلفه وورائه وممده نصري وإن كان أمرأ ... متزحزحاً في أرضه وسمائه وأكون وإلي سره وأصوله ... حتى يحين علي وقت أدائه وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه وإذا دعي باسمي ليركب مركباً ... صعباً قعدت له على سبسائه وإذا رأيت له رداءً ناضراً ... لم يلفني متمنياً لردائه فقال أحسن ما شاء. أنشدني أقنع بيت للعرب قلت الحكم ابن عبدل الأسدي حيث يقول: أطلب ما يطلب الكريم من الرز ... قلنفسي فأجمل الطلبا وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعةٍ رغبا والنذل لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا مثل الحمار الموقع الظهر لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا ولم أجد عدة الخلائق إلا الد ... ين لما اعتبرت والحسبا فقال المأمون أحسن ما شاء: ما مالك يا نضر، فقد أريض لي بمرو أنصأبها وأمزرها. قال - أفلا تفيدك مع ذلك مالاً - قلت إني إلى ذلك محتاج. قال - فأخذ القرطاس وكتب وأنا لا أدري ما يكتب ثم قال كيف تقول من التراب إذا أمرت أن تترب. قلت أتربه قال فهو ماذا قلت مترب قال فمن الطين قلت طنه قال فهو ماذا قلت مطين. قال هذه أحسن من الأولى ثم قال يا غلام أتربه وطنه ثم صلي بنا العشاء. ثم قال لخادمه تبلغ معه إلى الفضل بن سهل فأتيته فلما قرأ الكتاب قال يا نضر - إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فأخبرته ولم أكذبه فقال لحنت أمير المؤمنين فقلت كلا إنما لحن هيثم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه فأمر لي الفضل بثلاثين ألفاً - فأخذت ثمانين ألفاً بحرف استفيد مني. شيء من نوادر أشعب كان أشعب بن جبير التابعي المدني من أظرف الناس وأكثرهم نادرة وأبدعهم فكاهةً

ومجوناً - وكان شرهاً لهماً دباغي المذهب طفيلياً جد بخيل. وكان لذلك كله حبيباً إلى النفوس كأنه مخلوق من كل نفس فكان مقرباً من الخلائف والأمراء وأهل بيت النبوة وأشراف العرب - وكانوا يتنافسون في طلابه والإختصاص بسمره ومجونه ونحن نختار هنا بعضاً من نوادره تفكهةً للقراء - حدث الرواة قالوا - قالت صديقة أشعب مرة لأشعب هب لي خاتمك أذكرك به قال أذكريني أني منعتك إياه فهو أحب إلي: وحدثوا أن أشعب صلى يوماً جانب مروان بن إبان بن عثمان - وكان مروان عظيم الخلق والعجيزة فأفلت منه عند نهوضه بعض ما يقبح. . . وانصرف أشعب من الصلاة فظن الناس أنه هو صاحب تلك الفعلة. . فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب وقال له الدية فقال دية ماذا فقال دية. . . التي تحملتها عنك وإلا شهرتك والله فلم يدعه حتى أخذ منه شيئاً صالحاً. وحدث رجل من الأشراف قال - قلت لأشعب يوماً لو تغديت عندي العشية فقال أكره أن يجيئ ثقيل قلت ليس غيرك وغيري. قال فإذا صليت الظهر فأنا عندك فصلي وجاء فلما وضعت الجارية الطعام إذا بصديق لي يدق الباب فقال ترى قد صرت إلى ما يكره قلت إن عندي فيه عشر خصال قال فما هي - قلت أولها أنه لا يأكل ولا يشرب. قال التسع لك أدخله. . . . وسمع أشعب امرأة تقول اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنوبي فقال لها يا فاسقة أنت لم تسألي الله المغفرة إنما تسألينه عمر الأبد يريد أن الله لا يغفر لها أبداً. . . وحدثوا: أن لولين بن يزيد بعث إلى أشعب يوماً بعد ما طلق امرأته سعدة فقال له يا أشعب لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدة فقال له أحضر المال حتى أنظر إليه فأحضر الوليد بدة فوضعها أشعب على عنقه ثم قال هات رسالتك يا أمير المؤمنين قال - قل لها يقول لك: أسعدة هل إليك لنا سبيل ... وهل حتى ألقياته من تلاق بلى ولعل دهراً أن يؤاتي ... بموت من حليلك أو طلاق فأصبح شامتاً وتقر عيني ... ويجمع شملنا بعد افتراق فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه فأمرت ففرش لها فرش وجلست فأذنت له فدخل فأنشدعا ما أمره فقالت لخدمها خذوا الفاسق فقال يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم قالت والله لأقتلنك أو تبلغه كما بلغتني قال وما تهبين لي قالت بساطي الذي تحتي قال قومي عنه فقامت

فطواه ثم قال هاتي رسالتك جعلت فداءك قالت قل له: أتبكي علي لبني وأنت تركتها ... فقد ذهبت لبني فما أنت صانع فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت فقال أوه تلتني والله - اختر إما أن أدليك منكساً في بئر أو أرمي بك من فوق القصر منكساً أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربةً فقال ما كنت فاعلاً بي شيئاً من ذلك قال ولم قال لأنك لم تكن لتعذب رأساً فيه عينان قد نظرتا إلى سعدة فقال صدقت يا بن الزانية أخرج عني.

أفكار بليدة

أفكار بليدة لمفكر بليد في أوقات بليدة الإنقباض إني أستطيع أن أتلذذ من الحزن. وأجد الإبتهاج في التعب والشقاء، ولكني لا أرى أحداً يحب أن تصيبه نوبة الإنقباض، ومع هذا تأبى هي إلا أ، تصيبهم وتدنو منهم، ولا يستطيع أحد منهم أن يعرف سبباً لها أو تفسيراً، فأنت قد تصيبك النوبة في اليوم التالي لليوم لذى رزقت فيه الثروة الكبرى والغنى العريض، كما قد تنتابك في اليوم الذي تفقد فيه مظلتك في القطار، وترى تأثيرها على مزاجك أشد من التأثير الذي تشعر به عندما تصاب بوجع الأضراس وعسر الهضم ورطوبة الرأس في آنٍ واحد، إذ تصير قلقاً أحمق متهيجاً خشناً مع الأضياف والغرباء. خطراً على الأصحاب والأًصدقاء مشاغباً مشاجراً ثقيلاً على نفسك، وثقيلاً على كل من حولك. وأنت في هذه الحال لا تستطيع أن تفعل شيئاً ما وتفكر في شيءٍ وأن كنت مضطراً إلى أن تقوم بعملك. ثم أنت لا تستطيع أن تجلس هادئاً، لذلك تضع قبعتك فوق رأسك تهم بأن تتنزه ولكنك لا تكاد تشرف على رأس الشارع، حتى تود لو أنك لم تخرج وإذ ذاك ترجع أدراجك إلى البيت. فتفتح كتاباً تحاول أن تقرأ، ولكنك تجد شكسبير مبتذلاً سوقياً. وترى ديكنز بليداً ثرثاراً. وتكري ثقيلاً، وكارليل متصنعاً متكلفاً. فلا تلبث أن ترمي الكتاب بعيداً وتأخذ في شتيمة المؤلفين. ولمن الكتاب، ثم تطرد الفظه من الحجرة وتغلق الباب في أثرها وعند ذلك يخطر لك أن تجلس لكتابة خطاباتك ولكنك لا تكاد تنتهي من هذه اليباجة. . . عزيزي فلان. . . . من بعد مزيد من السلام والسؤال عن صحتكم التي هي غاية المراد من رب العباد. . .، حتى تمضي نصف ساعة ولم تزد عليها حرفاً واحداً، فتقذف بالخطاب في الدرج وتطرح الريشة الممتلئة بالمداد فوق غطاء المائدة، وتنهض بعزيمة جديدة وهي الذهاب لزيارة آل فلان. . . . ولكنك وأنت تدخل قفازتيك في يديك يخطر في ذهنك أن آل فلان هؤلاء مغفلون ثقلاء، وأن لا عشاء عندهم وأنك ستضطر إلى مناغاة طفلهم الصغير وملاعبته فتلعن آل فلان هؤلاء وتنوي المكث والبقاء. وعند هذا الحد تحس أنك قد انهزمت، فتدفن وجهك في راحتيك. وتظن أنك تود لو مت

واسترحت، ولهذا تبدأ تصور لنفسك سرير مرضك والأصحاب وهم حافلون من حولك والأقرباء وهم مجتمعون حول فراشك يبكون جميعاً وينتحبون، وأنت تباركهم أجمعين ولاسيما الأوانس والفتيات منهم وتروح تقول لنفسك أنهم سيقدرونك حتى قدرك إذا أنت ارتحلت، ويفهمون الخسارة العظمى التي خسروها، وتمكث تقارن بألم شديد بين احترامهم إياك ميتاً. وقلة اعتبارهم إياك الآن حياً وتجعلك هذه الخواطر هادئاً بعض الهدوء، ولكن لا يلبث هذا الهدوء أن يذهب، إذ لا يني يدور في رأسك بعد ذلك أنك لا بد أحمق معتوه إذ تتصور لحظة واحدة أن إنساناً سيحزن عليك أو سيتألم لمصابك، وتمضي على هذا تقول لنفسك من ترى يعني بي إذاً أنا: انفلقت: أو: شنقت: أو تزوجت: أو غرقت: لأنك لم تر من احترام الناس ما تستحق، ولم تجد من تقديرهم ما أنت به خليق، وتنطلق تراجع ماضيك وأيامك الأولى: فيبدو لك أنك أسئت من الناس منذ كنت في المهد. ولا تكاد تمضي نصف ساعة عليك وأنت في هذه الخواطر المحزنة حتى تنهض خائفاً متوحشاً متسخطاً على كل إنسان، ومغضباً من كل شيء، ولاسيما من نفسك، ولو لم تكن الأسباب: التشريحية: تحول بينك وبين رفس نفسك إذن لفعلت، يجئ بعد ذلك أوان النوم فتثب إلى منامتك، فتخلع كل قطعة من ملابسك وتقذف بها في كل ناحية، ثم تطفئ الشمعة وتقفز إلى السرير، وهناك تتلوى وتنقلب ساعتين أو نحوهما، تضع الغطاء حيناً وحيناً ترفسه برجليك، وأخيراً يغلب عليك النعاس. فتحلم أحلاماً سيئة ولا تصحو الغداة إلا متأخراً. هذا هو ما نعانيه نحن العزاب المساكين على الأقل في مثل هذه الظروف، أما المتزوجون فيهددون زوجاتهم، ويتسخطون على الأكل، ويصرون على ذهاب الأطفال إلى النوم!!

باب تدبير الصحة

باب تدبير الصحة معلومات عامة وضرورية طول الرجل يقرب كثيراً من طول ذراعيه إذا مدا مضافاً إليهما طول ما بينهما من الجسم أما طول المرأة فأقل من طول ذراعيها وما بينهما وذلك لقصر ساقيها نسبياً. يبلغ طول الفخذ 28 ر من طول الجسم ويبلغ طول الرجل تسعة عشر مرة طول الإصبع الوسطى ويبلغ طول الذراع من طرف الإصبع الوسطى إلى طرفه عند تثنيه مع الساعد خمسة مرات طول الإصبع المذكور. ويبلغ طول الطرفين السفليين (الفخذين والساقين) مجتمعين طول الرجل السليم. التسنين تظهر أسنان الطفل في المواعيد الآتية القواطع السفلى الأمامية الشهر السادس العليا السابع الجانبية الثامن السفلى الجانبية العاشر الأضراس الأولى الرابع عشر الناب الثامن عشر الأضراس الثابتة الرابع والعشرين أما الأسنان الدائمة فتظهر في المواعيد الآتية: الأضراس الأولى السنة السادسة القواطع الأمامية السابعة الجانبية الثامنة الناب الثانية عشر الأضراس الثانية الرابعة عشرة الأضراس الثالثة (ضرس العقل) من الثامنة عشرة إلى الخامسة والعشرين

الدكتور محمد عبد الحي

تفاريق

تفاريق هل خطر لك أيها القارئ وأنت تبتاع كتاباً جديداً أن تعرف كم أنفق المؤلف من الوقت في وضع كتابه قبل أن تبرزه المطبعة وتذيعه المكتبة بين الناس. إن مما لا شك فيه أن كثيراً من الكتب التي نقبل عليها ونحتفل بها عند ظهورها ما كانت لتقابل منا بالإحترام لو عرفنا تاريخها الحقيقي. فإذا قيل لنا أن مؤلفاً صرف كذا من السنين يضع رواية أو كتاباً أو تاريخ رجل عظيم فإن الجانب الأكبر من محصولات المطبعة عمل يدوي سخيف ولا أثر فيه للذهن. لما قضى الملك إدوارد السابع ملك الإنكليز وأذيع الخبر مشى أحد الوسطاء بين المؤلفين والناشرين إلى عدة التلفون وأخذ يتعاقد مع ناشر على وضع تاريخ للملك الراحل قال الوسيط - ما قولك إذا قدمت لك هذا التاريخ بعد خمسة عشر يوماً. قال الناشر - أقبله منك. وأخذ ناشر آخر يتحادث مع مؤلف على أن يقدم له هذا التاريخ بعد أسبوع. وبعد ساعة كان المؤلف يبدأ تاريخه وفي نهاية الأسبوع كانت الأصول بين يدي الناشر. ولا يزال هذا التاريخ رائجاً في السوق. ولما نشبت هذه الحرب كانت الكتب التي صدرت في الأسبوع الأول أكثر من القنابل التي أطلقت. قال أحد الكتاب قيل أن يستوثق الناس من أن الحرب أعلنت بين إنكلترا وألمانيا أخذ بيت كبير للطباعة يرسل الرسائل التلغرافية والتلفونية إلى المؤلفين والمترجمين فمن مؤلف طلب كتاباً عن الجيش الألماني على أن يقدمه بعد عشرة أيام وطلب من آخر أن يترجم من الألمانية كتاباً عن الأساليب الحربية الألمانية وآخر ليضع كتاباً عن الجيش الروسي. وآخر ليؤلف كتاباً عن الحياة السرية في بلاط الإمبراطور غليوم. ولا تزال هذه الكتب رائجة ومعدودة عمدة يرجع إليها!!! إن اكتشاف الحكومات للمؤامرات التي تدبر ضد وزرائها لا يقع صدفة بل هو نتيجة نظام متين ففي كل دار للبريد غرفة خاصة بالحكومة وفيها تفتض رسائل الذين تشتبه فيهم ثم تصدرها إليهم بدون أن تترك عليها أثراً ينم عن عملها وهذه الغرفة في ألمانيا والنمسا وتركيا سوط نقمة هائلة لكثيرين يغيبون في السجون أو يختفون من الوجود بدون أن يعرف مقرهم ويكون هذا العقاب نتيجة عثور الحكومة على رسالة في هذه الغرفة السرية.

وهذه الغرفة في إيطاليا وروسيا نقمة الفوضويين والنيهليست وقد استخدمها نابليون الثالث قبل سقوطه لمطاردة خصومه فكان يقبض على المئات ويزجهم في السجون لأن حكومته اكتشفت أسرارهم من مراسلاتهم في الغرفة السرية. وافتضاض رسائل المرتاب فيهم يتم بمهارة ودقة فائقة ويقبض عليهم بدون أن يحذروا أو يعلموا أنهم موضع الظن والريب. وطريقة فض الرسالة التي من هذا القبيل بسيطة جداً وذلك أن يدخل طرف آلة معدنية دقيقة في زاوية الغلاف اليسرى من وجهه الآخر وتتمشى الآلة ببطء وحذر بين الطرفين المصمغين حتى يفتض الغلاف وتقرأ الرسالة وتعاد ويصمغ الغلاف مرة أخرى. فإذا وجد القائمون بهذا العمل أن صمغ الغلاف كثير ولا سبيل إلى افتضاضه بدون ترك أثر عرضوا الغلاف لبخار متصاعد من آنية فيها ماء يغلي فيلين الصمغ ويسهل لصق الغلاف مرة أخرى. فإذا وقع ما أفسد هذه العملية يوكل إلى خبير يضع غلافاً مماثلاً نصوص الرسالة تماماً وتختم الرسالة وتسلم إلى المرسلة إليه. يظن الكثيرون أن بنك إنكلترا تابع للحكومة الإنكليزية والواقع أنه بنك أهلي تديره شركة إنكليزية وقد عهد إليه سنة 1906 أن يتكفل بشؤون الدين الأهلي البريطاني وجعلت له عمولة على ذلك قدرها 325 جنيهاً عن كل مليون حتى 500 مليون جنيه و100 جنيه عن كل مليون فوق هذا المبلغ وعلى هذه القاعدة يدير شؤون قروض الحرب الحالية فتربح الشركة من مجموع القروض إذا قدرناها بمليارين وخمسمائة مليون جنيه 250 ألف جنيه. لملوك أوروبا اليوم مكاتب صحفية خاصة بهم ففي كل مكتب موظفون يطالعون أكبر صحف العالم ويقطعون منها ما يعجب الملك الإطلاع عليه فملك الإنكليز يحب الإطلاع على الأخبار الخارجية وأخبار الدوائر العليا السياسية. وجلالته من أكثر الملوك إطلاعاً وإلماماً بأخبار العالم. فإذا سافر استصحب هؤلاء الصحفيين. وعنده مجموعات بالأخبار والمعلومات المتقطعة من الصحف للرجوع إليها عند الحاجة. ونحن نعلم أن عظمة السلطان حسين يتبع هذه الطريقة ففي كل صباح يقرأ إبراهيم بك رمزي رئيس قلم الترجمة الصحف المصرية ويقتطع منها ما يهم عظمته الإطلاع عليه. يجدر بالقارئ أن يلم بهذه المعلومات عن الولايات المتحدة.

ـ تضم 49 ولاية مستقلة استقلالاً داخلياً. ـ نيويورك يقطنها 5 ملايين وهي ثاني مدينة في العالم. ـ يقدر سكان الولايات المتحدة بمئة مليون منهم 16 مليوناً من أصل ألماني. ـ هي الدولة البحرية الثالثة في العالم وسفنها الحربية أربع مدرعات كبيرة من الطبقة الأولى وعشر نسافات مسلحة و25 نسافة من الطبقة الأولى والثانية والثالثة. ـ الجيش الأميركي العامل لا يزيد عن ربع مليون ولكن الحكومة تستطيع أن تستخدم احتياط وافر العدد. ـ لما شبت الحرب بين الولايات المتحدة وإسبانيا طلب رئيس الجمهورية المستر مانكلي 300 ألف متطوع فلبى طلبه مليون رجل. ـ الرئيس ويلسون يعد قائد الجيش العام وهو الذي يعين القواد والضباط. ـ في حالة الحرب تتألف رئاسة الجيش بعد الرئيس ويلسون من وزير الحربية ومساعد له ورئيس أركان الحرب. ـ لا يجوز للرئيس ويلسون أن يعلن الحرب وإن كان هو صاحب الكلمة العليا في شؤون البلاد الخارجية وله أن يعقد المعاهدات مع الدول الأجنبية. ولا بد لإعلان الحرب من موافقة الكونجرس وهو المجلس النيابي الأميركي. ـ يعد الضباط الأميركيون في مقدمة ضباط العالم كله من جهة عظمة المرتب فالميجر جنرال ينقض 1700 جنيه في السنة والكولونيل 800 جنيه والضابط 500 جنيه وفي صفوف الضباط يدفع للأنباشي 6 جنيهات وللجندي جنيه أسبوعياً. ـ جلبت إنكلترا من الولايات المتحدة منذ أن نشبت الحرب ذخائر حربية بمبلغ 100 مليون جنيه. ـ يقدر عدد الذين يشتغلون في صنع الذخائر في الولايات المتحدة بخمسة ملايين عامل وعاملة. ـ يؤخذ من الإحصاء الأخير أن ثروة أمريكا تبلغ 30. 459 مليون جنيه. يشتغل من سكان الولايات المتحدة في الزراعة عشرة ملايين ونصف مليون وأكثر من سبعة ملايين في الأعمال الصناعية.

تمد الولايات المتحدة العالم بثلث مقطوعيته من القطن وبلغت قيمة ما جلبته إنكلترا من أمريكا في سنة 1915 - ما قيمته 45 مليون جنيه ويزيد. صحيفة المتسولين ولم لا يكون للمتسولين صحيفة يومية خاصة بهم. إذا جئت باريس أيها القارئ وحمل إليك البريد رسائل كثيرة كلها مطالب قوم محتاجين فاعلم أن اسمك الكريم قد دون في صحيفة المتسولين. فإن متسولي باريس ككل هيئة منظمة في العالم يصدرون جريدة يومية خاصة بهم وحدهم يوزعونها على كل متسول في المدينة. هذه الجريدة مقصورة على نشر أخبار الوفيات والمواليد والأفراح والولائم والزيارات الكبيرة والحفلات الخاصة ولا يطبع منها إلا عدد محدود فيستطيع المتسول أن يقصد المصادر التي يستجدي منها بدون أن ينفق الوقت عبثاً. ولا تكون هذه المصادر إلا عرماً أو مأتماً أو مسكن رجل غريب عرف بالإحسان وإسداء الخير. الملوك يشغلون أموالهم ويفتح أحدهم محلات للحلاقة يظن أكثر الشرقيين أن الملوك لا عمل لهم في هذه الحياة إلا التربع في أريكة الملك والتحكم في رقاب العباد وأكل أطيب الأطعمة والتمتع بكل ما لذ وطاب ولكن الغربيين يعلمون الكثير عن ملوكهم ولا تفوتهم حركاتهم، وكما خلق الغربي ميالاً بطبعه إلى العمل وكسب المال كذلك لا يأنف أن يعمل ويتاجر ويضارب ويرابي ويفتح الأرض وغير ذلك من الوجوه التي تواتيه بالأرباح والمكاسب. فملك إسبانيا صاحب مصنع للدراجات والسيارات وإمبراطور ألمانيا يملك قهوة في بوتسدام قريبة من قصره الملكي وجلالته يخصه حظ وافر من أرباح معمل الجعة في هانوفر وهو الصاحب الوحيد لدار صنعة الصيني الموجودة في كادنين وربحه منها 9 في المائة لرأس مال قدره 100000 جنيه وبطرس ملك الصرب صاحب صالون للحلاقة وإجزاخانة في بلغراد وكان جلالته قبل الحرب عميلاً لمصنع فرنسي شهير يصنع السيارات وملكة هولندا تحصل من معمل اللبن على كميات عظيمة تبيعها لبائعي أمستردام وملك ورتنبرج يستثمر فنادقه في (بيتس فورست) بما يجاوز 10000 جنيه في السنة الواحدة.

أما ملكة رومانيا الحسناء فإنها شرعت منذ سنين قليلة في فتح معمل لصنع الخلال وقد راجت هذه الصناعة قبل الحرب حتى كان ربح الملكة عظيماً مستغرباً وقيصر روسيا تاجر أخشاب شهير ودون ساكس جزار وهو كأغلب بني جنسه يعمل ويستثمر. أما الأرشيدوق فريدريك ملك النمسا فإنه أوقف للفائدة المالية مبلغ 5000. 00 جنيه فتح بها داراً لعمل الشمع وملك الدنمرك تقتصر أعماله على المضاربات وملك أسوج يأخذ في مائدة عظيمة من معمل الجعة في استوكهلم وقد أغنت صناعة تقطير المشروبات الروحية امبراطور النمسا السابق فوضع مقداراً عظيماً من المال أدار هذه الصناعة وكان يربح منها قبل موته ربحاً طائلاً في هذه الأيام العصيبة. وألبرت ملك البلجيك كان يربح ربحاً مضطرباً لا يزيد عن ثلاثة جنيهات في الأسبوع من مكاتبته لجريدة أمريكية أما ملك بلغاريا فهو أمهر وأقدر الملوك الذين يعملون ويربحون فهو صاحب ملاعب ودور صور متحركة ومعامل الدخان ومعمل للبن وقد ربح ربحاً عظيماً في الأيام الأخيرة من مضارباته في بورصة النمسا ـ

كتاب القرن العشرين

كتاب القرن العشرين أو كتاب مصر والمصريين كتاب تربية الإرادة كان يشكو ضعف الإرادة، وكما ألب على أن هذا المرض الذائع الخبيث هو علة العلل والكل في الكل وإليه يحور كل خلق مرذول فينا، وقضيتنا تصدي العلماء للبحث في هذا الموضوع، ونقبوا وأمعنوا في البحث ووضعوا المقالات والرسائل والأسفار فما قاربوا وقد جهدوا، ثم جاء المتأخرون وزادوا عليهم وأبروا مستظهرين يعلم النفس، وغيره من العلوم التي لم يكد يعرفها المتقدمون وحلموا حول الحمى، وأوشكوا أن يصيبوا الغرض وما زالوا حتى قام أخيراً العالم البسيكولوجي جول بابو رئيس كلية شامبيري بفرنسا ووضع كتاباً سماه تربية الإرادة وما كاد هذا الكتاب يفلت من المطبعة حتى طار في الآفاق كل مطار ونقل إلى أكثر اللغات الأوروبية كالألمانية والروسية والبولونية والسويدية والإسبانيولية وكثير من اللغات الأخرى وقابلته صحف الغرب بما يستأهله من الإحتفاء والترحاب وكتبت عليه الفصول الصافية وأثنت على واضعه الثناء اللائق بمثله وتهافت عليه القراء تهافتاً شديداً حتى أعيد طبعه في غضون ثلاثة عشر عاماً سبعاً وعشرين مرة وقد أبت الأقدار لا أن لا تحوم لغتنا العربية من هذا الكتاب القيم الذي نحن أحوج الناس إليه ونحن أولى به وهو أولى بنا فقد فطن إلى هذا الكتاب وضرورة نقله إلى العربية أربعة من أفاضل المصريين أحدهم وقف عن تمام العربية بعد أن علم شروع الآخرين والثاني لخصه تلخيصاً أما الثالث والرابع فقد عالجا ترجمته كله وقد أهدياه إلينا قصد أن نقوم بنشره بين قراء العربية بيد أن أحدهما لم يتمه والثاني أهداه إلينا مترجماً كله. تصفحنا هذا الكتاب وأخذنا في قراءته فلم نكد نقرأ منه بضع صفحات حتى اضطرينا إلى قراءته كله فقلنا هذا هو الكتاب هذا هو كتاب القرن العشرين هذا خير ما يهدى إلى المصريين ولاسيما شباب اليوم ورجال المستقبل ولاسيما (طلبة المدارس العالية وسائر المشتغلين بأشغال عقلية) كما قال الأستاذ بايوه نفسه. والكتاب إذا نظر فيه الناظر منا خيل إليه أن واضعه إنما وضعه لشبابنا اللذين نال منهم ضعف الإرادة وملك عليهم أمرهم

وسبب لهم هذه الفوضى الأخلاقية المخيفة التي حار أمامها الكتاب والمصلحون حتى لم يجدوا ملجأ إلا هذا السكوت الأخوف. وقد كفانا مؤونة الإفاضة في هذا المعنى مؤلف الكتاب وتلك الشروح المستفيضة التي أتى عليها في مقدماته وفي القسم النظري من مؤلفه فقد شطر المؤلف كتابه هذا إلى شطرين فشطر نظري تمهيدي وآخر عملي تحقيقي هو بيت القصيد في الكتاب - وأن كان كل ما فيه بيت قصيد - ووضع للجميع ثلاث مقدمات كما سترى، هذا وقد نهج مترجم الكتاب بلغته منهجاً سهلاً عادياً يتفق وموضوع الكتاب ومباحثه العلمية فلم يحفل بالتنوق في العبارة ولا باختيار الألفاظ التي هي أليق ما تكون بموضوع أدبي. ومن هنا مضافاً ذلك إلى سهولة طريقة المؤلف في أبحاثه كان الكتاب قريب التناول جداً بحيث لا يدق عن فهم الجمهور، وقد رأينا خير وسيلة إلى تقديم هذا الكتاب للناطقين بالضاد أن ننشره تباعاً في مجلة البيان مستقلاً بنفسه على أن ننشر منه في كل عدد ست عشرة صفحة وقبل أن نختم هذه الكلمة نقول أن مترجم الكتاب هو من أفضلنا المضطلعين باللغة الفرنسية الدقيقين في الترجمة وقد طلب إلينا أن لا نذكر اسمه الآن. وقد نشرنا مع هذا العدد ملزمتين من الكتاب مبتدئين بمقدمات المؤلف مرجئين كلمة المعرب وكلمتنا نحن وفهرس الموضوعات إلى ما بعد تمام الكتاب - سدد الله خطانا إلى الخير أجمعين.

مركز المرأة الإجتماعي

مركز المرأة الإجتماعي ـ 6 ـ النتيجة مما تقدم يتضح جلياً أن المرأة في جميع أنحاء العالم أحط قدراً وأقل حقوقاً من الرجل غير أنها في الأمم المتمدنة أحسن حالاً وأكثر حرية منها في القبائل المتوحشة. وفي مصر لا تزال العادات القومية آخذة بعنق المرأة مانعة إياها من الرقي والوصول إلى الدرجة التي تليق بوظيفتها الإجتماعية ولا يكفي لتحريرها خروجها سافرة الوجه فإن أمامها عقبات كثيرة خلاف الحجاب. وليس بكافٍ لتذليل هذه العقبات جيل أو اثنان بل لا بد لذلك من أجيال عديدة. فإن المرأة لا تعاني فقط ظلم الرجل واستبداده بها بل تعاني أيضاً جهلها واحتقارها لنفسها واستخفافها بحقوقها. لا يكفي السجين الذي أقام جل حياته في السجن والأغلال أن تفك قيوده ويخلى سبيله بل يجب مع هذا مساعدته بالتعليم والتهذيب ورفع شأنه في نظره ومحو الأثر الذي علق بنفسه من جراء السجن والإذلال. فالواجب علينا إزاء المرأة أن نعيد إليها كبرياءها ونبدد غياهب جهلها وننتشلها من الأوهام والخرافات الآخذة بتلابيبها وسواء علينا أخرجت المرأة بعد ذلك سافرة الوجه أو مؤتزرة بالسواد إذا كان هذا بمحض إرادتها وكانت مصونة الجانب رفيعة القدر. إنا لا نحارب الحجاب لذاته فإنه لا يعنينا كثيراً وإنما نحاربه لأنه عنوان ذل المرأة والعلم الذي يستظل به الرجال وتجتمع حوله اللافتيات على حرية النساء. لا يقتتل الجنود من أجل علمها لذاته فإنه خرقة يمكن الإستعاضة عنها بأخرى كلما بلى أو فقد. وإنما يذبون عنه لأنه عنوان الأمة ومثال قوتها وعظمتها ففي الدفاع عنه دفاع عن بيضة الأمة وصون لمجدها ومحافظة على حقوقها. كذلك شأن خصومنا مع الحجاب فإنهم يدافعون عنه لأنه علم على قوتهم ومثال تسلطهم على المرأة وسيادتهم عليها. فإن فقدوه تلاشت قوتهم وذهب بأسهم مع طول الزمن. وما دام باقياً فهم مطمئنون على مجدهم الذي قد دبت في عظامه عوامل الفناء من زمن غير بعيد ولكنها لا محالة ستقضي عليه ولا يبقى لهم منه إلا إطار فارغ لا يحوي شيئاً.

لا تبتكر النظريات الإجتماعية ولا تخترع ولا تخلق من عدم وإنما تتنبت عن جذور لها في الأمة. هذه الجذور هي الحوادث التي تمر على الهيئة الإجتماعية والتقلبات التي تصيبها في طريقها. ولا تقف الأمة إزاء هذه الحوادث والتقلبات جامدة ساكنة بل لابد أن تغير من نظامها وتعدل من سيرها بحيث تصبح على وفاق مع هذه الحوادث. وهذا ما يسمون بالتطور الاجتماعي. فمعنى التطور الاجتماعي ترك نظام قديم غير ملائم لما أصبحت عليه الأمة بسبب ما أصابها من الطوارئ والسير نحو نظام جديد يلائم الحالة الجديدة التي صارت بها الأمة. والعالم البصير الذي يرقب هذه الحوادث ويحلل أجزائها ويعرف كنهها يمكنه أن يقف على مجرى طريقها فيرسمه سلفاً ويحث أمته على إتباعه كالرياضي حينما يقع نظره على قوس يعرف مركز القوس بعد الاختبار والامتحان ثم يطيل القوس ويمد حتى بصير دائرة. وما يستخلصه العالم الاجتماعي من الحوادث وما يرسمه قياساً على ما مر فيها هي نظريته الاجتماعية التي إن جاءت الحوادث مصدقة لها كانت صحيحة والتف حولها الأتباع وتوافر المدافعون وإن كذبتها الأيام تخاذل عنها أعوانها وتلاشي أمرها. ونظرية السفور هي بنت الزمان ووليدة الحوادث أظهرها قاسم أمين بقوة فكره وبعد نظره. ومن ثم أخذت تنمو وتشتد ويتهافت عليها المتعلمون من كل حدب ويفر أمامها أعداؤها لائذين بالعادات القديمة مستصرخين إياها مستنجدين بها طالبين المعونة من كل شارد ووارد ولم يجدهم الاستصراخ شيئاً فإن الطبيعة قاسية القلب تجهز على الضعيف ولا تبقى لا على القوي الصالح. والسفور خير نظام يكفل للأمة الهناء والسعادة في حيانها المنزلية. وستنتهي إليه الأمة ولو كره أصار الحجاب. ومن العبث أن يعارضوا حركته أو يناهضوها أو يعرقلوا من سيرها فإنهم لن يفوزوا بغرضهم ولن يرجعوا بطائل إذ من المحال أن يسبق الإنسان الحوادث ويقف في وجهها ومن الهذيان أن يعترض عليها فإنها لا تصغي لأحد. وإذا كان مآل المرأة المصرية إلى الحرية والسفور كما هو واضح من استقراء أحوال الأمم التي سبقتنا في الحضارة ومن مجرى الحوادث بيننا فما الداعي إلى الكتابة في هذا الموضوع وسيتم التاريخ دورته من غير احتجاج إلى معونة إنسان.

أجل سيتم التاريخ دورته من غير معونة ولكن لو وقف الإنسان على سير التاريخ وأدرك حقيقة الحوادث ونبه الأفكار إليها لتكون في علم واستعداد لملاقاتها فقد دفع عن أمته ألم البغتة والمفاجأة وقصر عليها زمن الانتظار ولطف ما تعانيه من المتاعب والآلام أبان التطور والانتقال، ومن عارض التاريخ فحاول الوقوف في وجه الحوادث استفز غضبها وأزكى أجيجها وضاعف من أتعابه وآلامه. وهذه حال أنصار الحجاب فكل ما فعلوه أن استشاطوا غضباً وألماً غيظاً وحرقوا علينا الأرّم. الدكتور عبده البرقوقي

صور هزلية

صور هزلية من أخلاق الناس أنا هل سمعتم أيها القراء بنبأ رجل نصفه من الفخار الذي صنعه الله منه، ونصفه الآخر عفريت من شر ما جاء في دفاتر مواليد العفاريت، عفريت ملتهب الرأس تتطاير منه نار ساطعة تتطاول إلى السماء، وإن كان نصفه الأسفل، هذا النصف الذي تجتمع فيه فضيلة الأنبياء برذيلة المجرمين، يجر نفسه على الأرض، ويمشي بين الناس، بيناً نصفه الأعلى، هذا النصف الناري الملتهب، يطل من عالم الجان والملائكة، على عالم الطين والوحل. وهذا التركيب الذي ركب به هذا المخلوق العجيب هو الماركة المسجلة التي طبعها الله فوقه ليدل مخلوقاته على أنه قادر على أن يجعل من الكائنات مزيجاً واحداً، ويخلق من جميع العقاقير والعناصر والسموم - التي يركب منها في معمله أجزاء كونه - مادة مفردة، وإن مثل هذا المخلوق هو ضرب من السلطة التي صنعتها القدرة الإلهية للناس لتكون وسيلة لأجل فتح نفسهم قبل أن يأكلوا الحياة أكلاً، وهو من مقويات الشهية، لأن كثيرين من الناس خلقوا في هذه الحياة ليكونوا لها فاكهة ونقلاً، ولعل الأولين خير للناس من الآخرين، لأن الذي يبدأ بأكل الفلفل والحريف يستطيع أن يلتهم طعامه ويئنيه بالفاكهة، ولكنه إذا بدأ بالفاكهة لم يستطع أن يستمرئ طعامه، أو ينال منه المقدار الكبير، لأن الفاكهة في نفسها مغذية، وكل فصيلة التوابل في مرارتها، وكل ما اشتدت لذعتها في الفم، وحرارتها في المعدة. اشتد هجوم الآكل على الطعام، وفتك بجميع ما في خوانه من المخلوقات التي لا يزال كل فخره وزهوه في أنه فضلها بقوة النطق، ومن الأعواد الخضراء التي وثبت من المصدر الذي وثب هو منه - وهو التراب! أيها القراء إنكم لم تسمعوا ولا ريب بخبر هذا المخلوق الخرافي، ولم تقعوا على فتوغرافيتهفي معروضات الصور، ولم تروه في صندوق الدنيا الذي يطوف في الأزقة لفرجة الصبية والأولاد، وتودون ولا ريب أن تسمعوا طرفاً من أخلاقه، وتقرأوا نزراً من مزاياه وخصائصه، وتفهموا شيئاً عن هذه المناقضة الغريبة التي جاءت لتعارض قوالبكم الجميلة التي خرجت من يد الطبيعة في كل هدوء ولين - إذن فليكن ما تريدون أيها القراء

إن هذا العفريت الإنساني هو أنا - أنا الذي أعيش الآن معكم وأكلمكم، وأخرج بعض الأحيان في الظلام لتخويفكم، وأختفي حيناً عن أنظاركم، حتى لا تروا سر التركيب الذي ركبت، والهيئة التي فيها صورت، وكثيرون منكم رأوني وشهدوا دلائل كثيرة من عفريتيتي. وبينات واضحة من إنسانيتي، ولكنهم يصرون مع ذلك على إنكاري، ويمرون مغمضي الجفون بقوتي، ويقولون إنني تزوير على الطبيعة، وأكذوبة على الحياة، وإنني رسم فقط لا حقيقة، وتسويدة لصورة بني آدم، وإنني مصور بمقياس 1 من الطبيعة 1000 البشرية الصحيحة، إلى آخر ما يقولون من الأقاويل التي يسمع أمثالها العفاريت في الليل من أفواه العجائز عند ما يجلسن حول الموقدة مع الأصبية الصغار يلقين إليهم حواديت الغول وأبو رجل مسلوخة. . . فلا يسع العفاريت إلا أن تضحك، لأنها تعرف نفسها أكثر من العجائز. وأنا أيها الناس أحدثكم الآن عن نفسي فأقول إنني خلقت بكل سرعة، ولم يكن هناك وقت كاف لتنظيف قالبي منعكارة الطين الذي صنعت منه، فخرجت يفوح مني - كما يقول ابن الرومي - الحمأ اللازب. وربما تراني يوماً أهب عليك بشذى الملائكة، وأنت واجدني تارةً أسموا إلى مقام سكان الدور الأعلى من الجنة، وطوراً أنحط فأكون من أسفل أضياف جهنم. ولعل هذا التناقض هو السبب الذي جعلني عن الناس غامضاً، وتركني في الحياة أدق سراً منها. أنا أيها الناس سيد الكفار، ومع ذلك أنا رأس المؤمنين، وأنا لم أدخل في حياتي مسجداً، ولم أهبط يوماً مصلى أو معبداً، ولكن لي صلاة وحدي، وعبادة بمفردي، وهذه الصلاة هي خلاصة الصلوات الخمس، واختصار جميع كتب الأديان. وهي ضرب من الصلاة الإختزالية التي يراعى فيها الحرص على الوقت، والسرعة في التناول. وقد ترونني يوماً متسخطاً متمرداً على الشرائع متطاولاً على سكان السموات، غير راضٍ بحظي في الدنيا. ولا مبال بالأوصاف المخيفة التي ذكرتها الأديان عن نار جهنم ووقوها، فتظنون ذلك مني كفراً، وتحسبونه مروقاً وزيغاً، ولكن ما يدريكم لعلها كما يقول الشاعر موسيه نوع آخر من أنواع العبادات، وصيغة أخرى من صيغ الصلوات، لأن تسخط المؤمن في بعض الأحيان

قد يكون عند الله نوعاً من غضب العاشق، وانحرافاً من انحرافات المتيم العابد، وعارضاً من حسن النية وبلاهة القلب، واذكر أنني يوماً تسخطت وتمردت، فشاءت الأقدار إلا أن أقع في المرض غداة الغد، وأخذت الحمى مني مأخذها، ورأيت طائف الموت يدنو من فراشي، فهجمت عيني الدموع، وتحدرت مني العبرات، وصحت بجميع قوتي. . . يا رب. أنا صغير. أنا أحبك كل الحب. وإنني كنت من أقبل أمزح فقط. أنا ا، بك ولكني لا أريد أن أترك دنياك الآن. أي ربي. اصفح عن عبدك الذي شاءت نزعة المجون التي خلقتها معه. إلا أن يستعملها معك أيضاً، ولعل ملائكة السموات ضحكت إذ ذاك من هذه الهزيمة السريعة التي انهزمتها، وصفح الله عن مجوني، لأنني شفيت في اليوم التالي من المرض! وأنا أيها القراء أحياكم جميعاً، ومع ذلك أنا أشدكم قحة وجرأة، ولعل فيكم من رآني وأنا في نوبات حيائي، فعدني المثل الأعلى للحياء النسائي وود لو كان نصف هذا الحياء في زوجته أو عشيقته، ثم لم يلبث أن شهدني بعد ساعة أسلط لساناً من نسوة الزرائب، وأحد لفظاً من الحطيئة، ولكن حيائي لا يزال حياء حراً لا صنعة فيه، وقحة نقية لا تعمل فيها، وليست جرءتي وقحتي إلا لغة العفريت الذي يكمن في عواطفي، وأسلوب الشيطان الذي يمرح في ذهني، وأما حيائي فهو صفة من صفات الجزء النقي من وجداني، وهما أبداً في حرب، ودائماً في تنازع، وكثيراً ما يغلب الشيطان، لأنه يحمل علم الشر، والشر أقوى جنوداً، وأشد ساعداً، وأمتن عضلاً من الخير، لأن الخير رجل متسامح، مستضعف، يتمسك أبداً بالمبدأ القائل إذا لطمت على خدك اليمين فأدر خدك اليسار، وقد انتهز الشر هذه الفرصة فألهب خد الخير ضرباً ولطماً! وكثيراً ما يتفق حيائي مع جزائي، فيضع كلٌ يده في يد صاحبه، ويعقدان الهدنة، ويرضيان بالسلام، وهما لا يظهران متصاحبين مختلطين إلا في رسائلي وخطاباتي، وأنا أرجو الله أن لا يصاب أحد القراء بأن يكون لي حق أو حاجة لديه. لأنه إذا نكب بهذه النكبة، رأى من مذكراتي ورسائلي ما يرى على المجلدات الضخمة، والدفاتر العريضة. وأنا أشد الناس افتتاناً بالنساء، ومع ذلك أراني أجبن المغازلين وأخوف ما أكون من النظر إلى عيني امرأة. ولا أعرف لماذا كلفتني شياطين الجن والإنس أن أحمل عنها جميع غرورها، وأتكبد نفقات

هذا الغرور وخسائره، لأن الغرور كالشراب يعطيك طرفاً من حلاوة النشوة. ثم هو يثأر بعد ذلك لنفسه منك فيأخذ من عرضك ومالك وبدنك، ويأبى أخيراً إلا أن تعترف له بأنك تحبه ولا تستطيع له سلوا - والغرور في نفسه فضيلة. ولكنها فضيلة تسكن في كوخ صغير على حدود الشر، وقد يطغى عليها مد الشر يوماً فيسحبها إلى ساحله، ويسكنها طابقاً عالياً في أسمى منازله القائمة على ضفافه والحق أقول لكم أيها الناس أنا أشد الشياطين غروراً وغروري يمتاز بأنه غرور فلسفي مبتكر قوي المنطق، ولكنه بعد غرور صخاب أجش الصوت، ولعله خلق معي في يوم راعد، لأنه كثيراً ما يصطدم مع سحابة كبيرة من غرور رجل آخر، فيكون منه دوي شديد ثم ينجلي الصوت عن ماء منبثق كالمطر بعد الرعود، وهذا الماء الغزير هو دموع صاحبي الذي صادم غروري غروره فصرعه. وأشد ما يكون غروري وأنا في صرعة الشراب وحميا الكأس إذا أصبح بأهل البيت، وأنا أقذف بالحذاء في ناحية وبالطربوش في ركن، والبنطلون في زاوية انظروا إلى أيها السفلة الجاهلون هذا أنا الأديب العظيم، أنا من سادة من حمل الريشة. . . . أنا نابليون القلم. أنا ابن شكسبير وجوت وينتشه. . أنا. . أنا الأديب العظيم!!. . . . وهنا تثور نزعة الدعابة والتهكم بعمتي العجوز عند سماع كلمة أديب لأنها تظنني أريد بها التربية والتأدب والأخلاق الجميلة. وفي بعض الأحيان تخطئ سماعها، فتظنني أقصد أن أقول أدباتي فيضج الجميع بالضحك. ولكنهم لا يلبثون أن يجدوا هذا الأديب العظيم غداة الغد ملقي طريحاً، نصفه فوق السرير، ونصفه الآخر مدلى تحته!! وأما فؤادي أيها القراء فمختلف التربة، متنوع الأديم، منه أقليم قد تعثر فيه بمناجم الذهب والألماس، وأقاليم باردة متجمدة كبحر البلطيق، وفيه قطع متجاورات خصيبة الأرض يانعة الثمر، فارغة الأزاهر، ومنه جزء صخري، حجري، قد لا تعمل فيه المطارق، ولا تستلين منه الفؤوس، ولا تؤثر فيه المعاول، ولكنه قد يلين يوماً فتكون منه دموع سخية وعبرات متحدرة، ولعل الله لم يخلق هذا الجزء الصخري في فؤادي إلا ليكون مصداقاً لقوله جل شأنه وإن من الحجارة لما يشق فيخرج منه الماء. ع. ح.

حديقة أبيقور

حديقة أبيقور أبيقور فيلسوف يوناني قديم، مات عام270 قبل مولد المسيح، وكانت فلسفته تدور حول اللذة، وأنها أكبر غرض في الحياة، وأن إشباع الشهوات يجب أن يكون أول مقاصد الناس، وأن الحياة حلم وأنها وهم الأوهام، وقد كان يسكن أبيقور هو وتلاميذه وأشياعه في حديقة ناضرة، وحائط بديع الأزهار، وقد ابتاعه هو بنفسه، وانطلق يزرعه ويفلحه ويحرثه بيده وجهده، ويقوم على تعليم تلاميذه الحكمة، وتدريس الفلسفة. وقد استعار كاتب عصري من أكبر كتاب الجيل الحديث وأديب من أقدر أدباء فرنسا، ونعني به أناتول فرانس، العضو بالأكاديمية، هذا الإسم حديقة أبيقور عنواناً لكتاب ممتع من كتبه، وضع فيه طائفة من خواطره السامية، وحشد فيه جماعة من آرائه ومبادئه، وألقى فيه زروعاً فارغة من الأفكار الجميلة وأفناناً من الفلسفات البديعة. ونحن نختار للقراء شيئاً من هذا الكتاب. فضيلة الشر لا بد من وجود الشر في العالم، ولا غناء للأرض عنه، وإذا لم يوجد الشر، لم يوجد الخير، والشر هو السبب الوحيد الذي يحث الناس على الخير، وليت شعري ماذا تكون الشجاعة إذا لم يوجد الخطر، وما الرحمة إذا لم يكن ثمت حزن ماذا تصبح التضحية، ويحدث للإيثار وإنكار الذات إذا كان العالم في سعادة عامة وشاملة، وهل تستطيعون أيها الناس أن تتصوروا فضيلة ولا شر بجانبها، وحباً ولا بغض إزاءه، وجمالاً ولا قبح. حمداً للشر والعذاب والآلام والهموم، لأنها جعلت المقام في الأرض ممكناً محتملاً، وتركت الحياة تستحق أن تعاش، ثم ألا يجب علينا أن نشكر للشيطان شيطانيته، لأنه فني من أكبر أهل الفنون، وحكيم من أبلغ الحكماء ولأنه هو الذي صنع نصف العالم وهذا النصف لا يزال مندمجاً في النصف الآخر بحيث يستحيل عليك أن تحطم الأول دون أن تسئ إلى الثاني، وكل رذيلة تقتلها تجد أمامها فضيلة قتلت معها. إننا عندما نقول أن الحياة طيبة، وعندما نقول أن الحياة رديئة، إنما ننطق بكلمات لا معنى لها، إذ يجب أن تقول أن الحياة طيبة ورديئة في آنٍ واحد، لأننا منها وحدها وبفضلها استطعنا أن نستمد فكرة الطيب والرديء، والحقيقة أن الحياة جميلة ومخيفة وفاتنة ومريعة

وعذبة ومريرة وأنها كل شيء، وهي في ذلك أشبه بالثوب الكثير الرقع، المختلف الألوان، الذي يلبسه البهلوان المهرج، فمنا من يرى من الحياة الجزء الأحمر، ومنا من يرى الجزء الأزرق وهم جميعاً يرون الحياة كما هي، لأنها حمراء وزرقاء وجميع الألوان الأخرى، وقد كان هذا أدعى لنا إلى أن نتفق ونتهاون ونعيش على الوئام ونرضى بحظوظنا وأقدارنا، ولكنا قد فطرنا على أن نريد أن نكره غيرنا على أن يفكر فكرنا ويحس إحساسنا ولا نسمح لجارنا بأن يكون فرحاً مسروراً عندما نكون نحن متألمين محزونين. عناد الشيخوخة الشيوخ يصرون دائماً على رأيهم، ويستبدون بفكرتهم، ولهذا قد اعتاد سكان جزر فيجي أن يذبحوا آباءهم عندما يصيرون شيوخاً، وبذلك يمهدون سبيل التطور ويسهلون طريق الإرتقاء. وأما نحن فنؤخر أنفسنا بأن نلقي جميع مقاليد أمرنا في أيدي الشيوخ! غرض الأدب ليست الحقيقة مقصد الفنون، ونحن يجب أن نطلب الحقيقة من العلوم، لأنها غرضها الأول، ولكن لا يجب أن نطلبها من الأدب، إذ لا غرض للأدب غير الجمال.

الإدانة والمسؤولية

الإدانة والمسؤولية مبحث قيم جليل للعالم دانتك يقوم بترجمته للبيان الدكتور عبه البرقوقي المحامي. من كتاب اسمه آثار السلف. ـ 1 ـ من الأمور الهامة المطروحة على بساط البحث والمناقشة صفة العقوبة وشدتها وذلك أنه إذا كان الإنسان حراً في اختيار أفعاله فالأمر سهل لا يحتاج إلى مناقشة وإن كان الأمر على العكس وكان الإنسان مقيداً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فيجل بنا أن نبحث عن المسؤولية وكنه أمرها وهل هي موجودة حقيقة أم غير موجودة من قبل أن نبدي رأينا في وصف المجرمين بالعنف واللين. الإنسان صنع الورثة والتربية. وأعني بالوراثة مجموع خواص وصفات البويضة التي خلق منها الإنسان وبالتربية مجموع الظروف والحوادث التي مرت بهذه البويضة منذ أن نشأت وتكونت إلى الآن. ومن المسؤول عن الوراثة؟ الصدفة، فإن البويضة وإن كانت ترث عن الأب والأم معاً إلا أنهما لا يمكنهما أن يعرفا سلفاً نتيجة امتزاجهما بعض ببعض فإن صفات البويضة لا تتوقف على ما ترثه من الأب والأم بل تتوقف أيضاً على طريقة امتزاج الميراثين بعض ببعض ونسبة ما تأخذه عن كا منهما. تزوج رجل بامرأة فولد لهما طفل حائز جميع الميزات الجميلة. فلهما أن يلدا أخاً له. هذا الأخ لو أتى ربما يكون دميم الخلق أو أبله وعلى الرغم من أنه ليس لهما ضلع ولا إرادة في كلتا الحاليتن فإنهما يتيهان عجباً وافتخاراً بابنهما الأول ويذوبان خجلاً ومعرة من الثاني، وهذا غريزي في الإنسان. ومن المسؤول عن التربية؟ التربية هي مجموع الظروف التي مرت بالبويضة منذ تكوينها كثيرة التعقيد والتركيب بحيث يستحيل تحليلها ومعرفة جميع أجزائها. وهي تتكون من تأثير الكائنات الحية وغير الحية في الإنسان. ولا تقل الكائنات الثانية عن الأولى أهمية فلو جلست بجانب حائط فسقط منها حجر على رأسك فأدماه كان هذا درساً نافعاً لك.

ومن البديهي ألا يسأل أحد عن فعل هذا الحجر ولو كان بالقرب منك إنسان يمكنه أن يلفت نظرك ويحذرك من سقوط الحجر عليك. ولما كانت قوة التقليد في الإنسان عظيمة كان تأثير الكائنات الحية في تربيته عظيماً وكلما كان أقرب الشبه ببعضها كان تأثير هذا البعض فيه أشد وأعظم حيث يسهل عليه التقليد والتشبه. لهذا كان الفضل الأول في تربية الناس راجع إلى تأثير بعضهم في بعض ولقصور اللغات البشرية عن التعبير بدقة وإيثار السهولة والإيضاح على الحقيقة غالينا في تقدير فضل الإنسان على الإنسان وقصرنا لفظ التربية على ما يكتبه المرء من الناس وأغفلنا ذكر العناصر الأخرى وتناسينا فضلها. وهذا خطأ فاحش يؤسف له ولا يسع العلم أن يغض الطرف عنه كل قرين بالمقارن يقتدي مغالاة كبيرة في فضل الإنسانية على تربية الإنسان ونكرات لفضل العوامل الأخرى التي من بينها الوراثة. من شابه أباه فما ظلم مثل يقرر الوراثة وأثرها الهائل في الإنسان ولكن من غير دقة ولا تحقيق كما هي الحال في المثل الأول. وعلى الرغم من تضارب المثلين وتناقضهما بعضهما لبعض لا نفتر عن التمثل بهما واستعمال الواحد تلو الثاني حسب الظروف والأحوال. لا تتوقف أفعال المرء على الوراثة والتربية فقط بل تتوقف أيضاً على مزاجه والظروف المحيطة به، والبيئة العائش فيها وهو غير مسؤول عن كل هذه الأمور لأن البيئة والظروف خارجة عن إرادته ولأن الأمزجة نتيجة الوراثة والحوادث التي مرت بحياته وإذن فلا مسؤولية ولا إدانة. بيد أني لو عثرت بقدم إنسان سهواً أو خطأ لا ينظر إلي بالعين التي يرمقني بها فيما لو كنت متعمداً فإنه في الحالة الأولى لا يحفظ لي في قلبه ضغينة ما حتى ولو أصابه أذى عظيم وفي الحالة الثانية مهما كان ألمه تافهاً يستاء مني ويعتبر أني مذنباً ويعاملني معاملة المذنبين مع أن الحالتين سواء لأني في كلتيهما مقود بقوة خارجة عن طوق إرادتي. إذا رآني قادماً عليه وشاهد مني أني ذاهل عنه ولم يسحب قدمه من طريقي فهو المخطئ فإن لم يرني هو أيضاً فكلانا غير مخطئ ولكن مع هذا هناك أذى قد وقع. وفي حالة تعمدي نظرته عن بعد وكنت إذ ذاك مدفوعاً برغبة خفية إلى المشي على قدمه

وقد توالدت هذه الرغبة عن العوامل المكونة لتربيتي. فقد أحفظ له ضغينة في قلبي وبمجرد ما لمحته عيني تحركت الضغينة ودفعتني إلى الإساءة إليه والإنتقام منه بالمشي على قدمه. وقد أكون لا أعرفه ولم أقابله من قبل ولكن سحنته لم تعجبني ودمه لم يتفق مع دمي بحيث أن جهازي العصبي ساقني إلى إهانته بالمشي على قدمه. ولو سرنا في هذا التعليل إلى النهاية وهو تعليل صحيح لحكمنا بأنه مخطئ مثلي لو فرض وكنت أنا مخطئاً حقيقةً لأنه لو ابتعد عن طريقي لما وقعت له إهانة غير أنه قد يلطمني على وجهي عقاباً لي على ما آتيته معه. وقد تنفعني هذه اللطمة فتمنعني من أن أناله بأذى فيما لو تقابلت معه مرة ثانية وكان أثر الحزن الذي أصابني من جراء اللطمة باقياً في ذاكرتي. ولو كان غرضه من هذه اللطمة تهذيب أخلاقي وتقويم معوجي فقد أحسن إلي. ولكنه على الأرجح لا يرمي إلى هذا الغرض الفلسفي السامي وإنما ينبغي الإنتقام وأن يشفي غليلي كأني مسؤول عن عملي ولكن لم أكن مثله قصير النظر قليل الحكمة في المشي على قدمه كراهة مني لسحنته وهو غير مسؤول عن قبح خلقته. إن المجتمع الإنساني سائر في ضلال وبغير هدى ولا حكمة فإنه يعاقب المجرمين انتقاماً منهم لا تهذيباً لنفوسهم وتقويماً لجهازهم العصبي الفاسد. بيد أن بين الغرضين الإنتقام من المجرمين وإصلاح نفوسهم صلة تقارب وتشابه. إذا سقط رجل من أعلى فقتل أحد المارين من غير أن يصاب هو بأذى فلا نعاقبه لأنه غير مسؤول. وبعبارة أخرى لأنه لم يرد القتل ولم يكن لجهازه العصبي ضلع فيه إذن فلا معنى لإصلاح هذا الجهاز بالعقاب والتعذيب لأنه لم ينم عن فساد واعوجاج - إذا كان ولا بد من الإصلاح والمعالجة فلنعالج ثقل الرجل حتى يكون خفيفاً بحيث لو سقط مرة أخرى فلا يؤذي أحداً. وإذا ارتكب مجنون القتل فلا نعاقبه لأنه غير مسؤول عن عمله ونكتفي بوضعه في مستشفى المجانين حتى نأمن شره ونمنعه من أن يصيب نفسه بضرر. وبعبارة أخرى إن العقاب لا يقوم جهازه العصبي وإن جنونه لا يسمح له أن يتخذ من العقاب رادعاً يزجره عن الإجرام. وكذلك حاد المزاج غير مسؤول. فإنه لو أقدم على القتل إبان ثورته فذلك لأنه لم يكن لديه

العقل ما يكفي لردعه. ومن الحمق أن نعاقبه قانوناً لأن القانون لا يكبح جماحه ولا يأخذ بشكيمته. إني أعرف كلباً وديعاً ساكناً غير أنه يحمل لكلب آخر حقداً لا يغلب وضغينة لا تنتزع كلما رآه ثب عليه ليفتك به. ولم يردعه عنه زجر ولا رهب ولا أي نوع من أنواع التعذيب والتأديب وأخيراً قرر رأي صاحبه على تأديب الكلب الآخر بمنعه من الإقتراب منه وبذا استقر السلام بينهما. هذه هي الأحوال التي يسمونها باللامسؤولية وحكم القانون فيها هو نفس الحكم الذي فرغنا الآن من شرحه غير أن الأسلوب القانوني يخالف الأسلوب الذي اتبعناه فالقانون يذكر دائماً الإدانة والمدانين والإجرام والمجرمين ولا يجد في الأحوال التي سردناها إدانة تستحق العقاب وحيث قد انتهينا من هذه الأحوال فلنبدأ بسرد أحوال الذين يقال عنهم أنهم مسؤولون عن أفعالهم وبعبارة أخرى الذين لا عيب في جهازهم العصبي.

تفاريق

تفاريق ثمن السكوت ليس السكوت كبير القيمة غالي الثمن في الروايات فقط وفي الحكم والأمثال والمواعظ. بل إن كثيراً من أكبر مخترعات الدنيا قد اضطرت الحكومات إلى ابتياعها من أصحابها لكي لا تذيع أسرارها بين الناس. من ذلك إن حكومة الولايات المتحدة تدفع عشرة آلاف جنيه في كل عام إلى أسرة حقيرة تسمى أسرة فرانكس، وتفصيل الأمر أنه كان منذ عشرين سنة رجل منها يدعى جوستاف فرنكس استطاع أن يخترع طريقة يتمكن بها من إزالة الأثر الذي يتركه خاتم مصلحة البريد على الطوابع الموضوعة فوق الرسائل والخطابات بدون أن يفسد الطوابع نفسها، بل يردها جديدة كأن لم تختم بخاتم البريد، وكان هذا المخترع كافياً لأن يجلب لهذا الرجل أكبر مقدار من الثراء، وكان يكون له مادة واسعة للربح والإغتنام. وذلك بأن يجدد الطوابع المستعملة ثم يعود إلى بيعها، ولكن لحسن حظ الحكومة أنه كان رجلاً أميناً. وكان ثمن أمانته عشرة آلاف جنيه في السنة. وذلك أن الحكومة دفعت إليه هذا المقدار لكي يعدم هذه الأداة التي اخترعها ويظل على سكوته ويبقى صامتاً جامداً على سره، وسيكون هذا المبلغ معاشاً لأولاده من بعده. وهناك حادث شبيه بهذا جرى للحكومة الإنكليزية وذلك أن رجلاً يدعى بلدوين طلب منذ سنين أن يجتمع بمدير بنك إنجلترة فلما أدخل عليه قدم له ورقتين من الأوراق المالية متفقتي الشكل، متماثلتي الصورة، وأنبأه بأن البنك لم يصرفهما خطأ ولكنه هو الذي اخترع آلة تستطيع أن تقشر من الورقة المالية ورقة مثلها على الرغم من ضعف سمكها المتناهي فيكون من ذلك ورقتان ماليتان متشابهتان أتم الشبه، فلم يسع مدير البنك إلا أن يشتري السر منه، ولم يخرج الرجل من حجرة المدير إلا مالياً متمولاً من كبار الأغنياء. ومنذ عشرين ستة استطاع كيماوي يدعى سويريدج أن يخترع مفرقعاً أسماه الفولمنيت، استطاع به أن يمد مسافة مرمى المدفع إلى نحو خمسة أميال، ولكن الحكومة الإنكليزية لم تشتر منه المخترع، لأنها لم تكن تفكر يومذاك في فائدته، وقد حاولت ألمانيا أن تشتري من الرجل سره بأي مبلغ من المال يطلب، ولكنه ظل على رفضه، وشاءت الأقدار إلا أن

يطير جسم هذا المخترع بدداً صغيرة من أثر انفجار مخترعه وهو يشتغل في معمله، فمات السر، ولم يستطع العلماء أن يعرفوا له أثراً. ثرثرة البرلمانات كثرة الثرثرة ولا ريب في مجالس البرلمان في هذه الأيام، واشتدت حرارة الأسئلة، وحمي الإستفهام بأذهان الأعضاء، فقد دل الإحصاء البرلماني لا خير عن محاضر جلساته أن مستر جنيل العضو المعروف سأل الوزراء 869 سؤالاً في ثلاثة أشهر فقط، ويليه في كثرة الأسئلة مستر هوج فقد سأل ستمائة سؤال وستة أسئلة، وإذا علمت أن مندوب وزير الحربية في المجلس هو الهدف الأول لهذه الرمايات العديدة، فلا تعجب إذا علمت أن مستر تيانت الذي كان مندوباً للوزير الحربي في المجلس أجاب في دور واحد من أدوار إنعقاد البرلمان 2111 سؤالاً ثم ناب بعده مستر فورستر فكان عدد الأسئلة التي وجهت إليه1685 سؤالاً ثم ناب بعدهما مستر اسكويث فأجاب على 1652 سؤالاً. ولعل أكثر المتكلمين ثلاثة في البرلمان الإنكليزي أولهم مستر والترلونج فقد تكلم في دور واحد بما ملأ 229 عموداً من محاضر الجلسات ثم مستر هوج بنحو 219 نهراً ومستر اسكويث 202 غني كبير واشتراكي متطرف في آنٍ واحد أغرب ما يمكن من متناقضات الحياة أن يكون الإشتراكي هذا الرجل الرحيم القلب الذي يدافع عن العمال الفقراء، ويناضل في سبيل إصلاح شأن المساكين والصغار والقاعدي الحال، متمولاً يربح المقدار الطائل من الجنيهات، وأغرب منه أن يكون أديباً، وأن يكون كاتباً. إذن فهل تعرف من هو هذا الإشتراكي المتمول، هو برنارد شو الروائي المشهور فهو يكسب الآن من كتبه ورواياته والضرائب التي يضربها على المطابع وشركات التمثيل أربعمائة جنيه في الأسبوع!! ولكن يجب أن لا يحسد مثل برناردشو على مقدار مثل هذا وهو الآن قد بلغ الستين، وكان في أول حياته يعاني أشد ضروب الفقر، ونكد الطالع إذ بدأ حياته العملية محصل ضرائب

أو (جابياً) كما نسميه نحن. وإن كان الآن من ذوي الأطيان والعقار، ويدفع للحكومة في السنة أكثر مما كان يجنيه لها من قبل، ثم لم يجد حظاً في الجباية فانحدر إلى لندن واشتغل عاملاً بسيطاً في شركة التليفون، ولكنه لم يلبث أن سئم هذه الصناعة، فكان بعد ذلك أول عهده بالكتابة، ولكن أول كتابته كانت شؤماً على الصحيفة اليومية التي نشرت مقاله فإن جميع المشتركين والقراء رفضوا الصحيفة، ولم تلبث أن أفلست بفضل قلم برناردشو، ثم بدأ يكتب في نقد الموسيقى فأقفلت عدة مراقص في المدينة، ثم صادفه بعد ذلك حسن الطالع فأصبح اشتراكي اليوم يكسب 400 جنيه من الورق. كيف تكتب معاهدات الصلح عندما ينتهي عمر هذه الحرب، ويتبدد في الفضاء صدى آخر قنبلة، سيكتب المتحاربون بينهم معاهدات الصلح ولا ريب وسيكون هذا الكونتراتو الدولي غريباً في نوعه، مدهشاً في قيوده، والمتفق عليه في كتابة عقود الصلح أن يكتب العقد بخط اليد من أوله لأخره ثم يختم بأختام كثيرة ثم يجلد ويلف في لفائف وأشرطة من الحرير الأخضر وهم قد اصطلحوا على أن يبدأوا العقد بهذه الكلمات باسم الثالوث الأعظم المقدس! ولعل ذلك ضرب من التناقض المضحك الغريب. إذ يعودون آخر أمرهم إلى أوامر الدين وكلماته بعد أن أساؤوا إليه بالدماء التي سفحوها والنفوس التي طاحوا بها. والشباب والولدان والأيامى واليتامى الذين مضوا إلى الله في سبيل وحشية السياسة. ولما كانت تركيا ستدخل نهاية لحرب ضمن المتهادنين، فسيكتب لها في نسختها بدلاً من هذه الفاتحة بسملة السلام وتوضع بسم الله الرحمن الرحيم في رأس العقد. ويكتب من العقد صور بعدد الدول التي ستضع إمضاآتها في ذيله ثم تحفظ الصور الأصلية في دفتر خانات الحكومة وتؤخذ منها صور أخرى للرجوع إليها ونشرها بين الناس. وهذه العقود لا تكتب كما تكتب العقود الإعتيادية، أعني على طول الصحيفة، وإنما في أنهار متوازية، وبعدد اللغات التي تتكلمها الدول المتصالحة، ويراعى في الترجمة كل مجهودات الذكاء اللغوي في تقريب اللفظ والمعنى المرادفة في اللغة الأخرى. أسرة تتألف من 66 فرداً يفخر الصينيون بكثرة عدد أهل الأسرة الواحدة، والأسرات الكبيرة العدد هي التي تظل

رافعة الرأس، تياهة العطف، لأنهم يعدون وجود أفراد كثيرين تحت سقف واحد، يحتويهم بيت واحد، دليلاً على سلامة القلوب، وحسن التربية ومن أكبر فخرهم أن يكون في البيت الواحد خمسة أجيال من الأسرة أعني أن يكون هناك أجداداً وآباءً وأحفاداً وأحفاد الأحفاد، وقليلون من يظفر بهذه المزية. وهم على نقيض ذلك يعدون الأسرة التي تتألف من أربعة أفراد أو خمسة دليلاً على الفساد والسوء والشؤم، وإن كانت من أغنى أغنياء المملكة كلها، أو من أكبر أصحاب السلطة فيها. وفي مستعمرة واى هاي واى امرأة عجوز تتألف أسرتها من ستة وستين شخصاً، وأعجب من ذلك أن ليس لهؤلاء الستة والستين إلا خادم واحد يخدمهم، ولعل هذا الخادم أشقى جميع خدم الأرض حظاً، وأنكدهم حياةً. الأيتام في أوستراليا يصح لنا أن نقول أنه لا يوجد في أوستراليا أيتام. وذلك ليس لأن هناك آباء يموتون، ولكن لأن كل والد يموت ويترك وراءه يتيماً لا نصير له، تتقدم الحكومة فتتبناه، فالأيتام إذن أولاد الحكومة، إذا لم يكن هناك أقارب لهم يأخذون على عاتقهم رعايتهم. والحكومة الأوسترالية تأخذ الطفل اليتيم فتعهد به إلى مصلحة تسمى مصلحة الأيتام، وهذه توجد له مكاناً في بيت من بيوت الريف، وتدفع بهم إلى المربين، وتنتقي له أحسن المواقع هواء وجوا وأوفق للصحة حتى إذا بلغ الثالثة عشرة ورأت أنه قد أصبح صالحاً للعمل، أجرته لمربيته، وأخذت هي أجوره، فوضعت ثلاثة أرباعها في صندوق التوفير وأعطت إليه الربع ليأكل منه، وعندما يتقدم في سني الشباب، تعطيه جميع ما وفرته له، ليتحصن به في حياته المستقبلة، وإذا كان الطفل بنتاً كفلت الحكومة لها بائنة أو دوطة جميلة لأنها تعتبر نفسها إذ ذاك حماة العريس. وطوبي لمن تكون الحكومة حماته!!. السجون البديعة لعل حكومة نيوزيلنده أرفق الحكومات بالمساجين ففي سجون الجزيرة الجنوبية يسمح للمسجون أن يكون لديه جواد من جياد السباق وأن يراهن في الحلبة إذا أحب رهاناً، وفي سجون أخرى من المملكة يؤذن للودعاء من المساجين أن يخرجوا يوماً في الأسبوع للرياضة في المكان الذي يشاءون، وأصحاب السلطة في الحكومة النيوزيلندية يؤمنون

بتأثير الهواء الطلق على الأخلاق. ومن ثم كل رجل يحكم عليه بالسجن يخيرونه بين أن يعيش داخل السجن أو أن يكون خارجه، وهم يضربون وراء السجون خياماً، وقد حدث مرة أن ظهر خطر هذه الفكرة إذا اتفق أن غضب المساجين من سجانيهم فعمدوا إلى سجنهم فضربوا جدرانه وانطلقوا هاربين بالخيام إلى صميم الغابات. وفي بعض السجون مدرسة ليلية لتعليم المساجين العلوم العصرية. وهم ينتخبون الأساتذة من المساجين أنفسهم. حب المشي كان شارلز دكنز القصصي الإنكليزي الكبير من أكبر المشاة وكان يمشي عشرين ميلاً في اليوم وولترسكوت اعتاد أن يمشي في النهار 30 ميلاً على الرغم من عرجه، أما الشاعر وردسورث فكان يستطيع أن يمشي على قدميه 20 ميلاً بعد أن بلغ الستين من عمره وقد حدث للفيلسوف الطائر الصيت هربرت سبنسر وهو في الثالثة عشرة أن مشى ثمانية وأربعين ميلاً في اليوم. ثم سبعة وأربعين في اليوم التالي. وقد رؤوا أن الفيلسوف تولستوى مشى وهو في الخامسة والخمسين 13ميلاً في ثلاثة أيام وكان هؤلاء العظماء يسمون أمثال هذه المشيات البعيدة، كما يسميها أهل الصعيد في مصر (فركة كعب!).

باب تدبير الصحة

باب تدبير الصحة تعاطي المسهلات كثير جداً من يتعاطى المسهلات (الشرب) بسبب وبغير سبب وأكثر منهم من يتعاطاها عند الشعور بأي مرض وهذا نظام لا يخلو من خطر على المتعاطي قد ينتهي معه الأجل ولذلك أريد أن أنبه إلى الأحوال التي يجب انتظار رأي الطبيب فيها دون سواه منعاً لهذا الخطر. (1) كل حمى تبتدئ بألم في الرأس والمفاصل والظهر مع بطء في السير سواء أصبحت بإمساك أو إسهال تفادياً من أن تكون الحمى تيفودية أو باراتيفودية حيث الخطر أكيد لا يمكن دفعه إلا بشق الأنفس. (2) الآلام بطنية حيث يخشى من وجود التهاب الزائدة الدودية (الأعور) أو من التواء الأمعاء وانسدادها إذ المسهل في هذه الأحوال خطر مدلهم. (3) الضعف العمومي حيث يخشى على المريض من الإغماء أو خمود القلب. (4) والحمل - حيث يخشى من الإجهاض فالنزيف. إهمال الجروح (1) كثير من الناس من يهمل إصبعه إذا جرح وذقنه إذا أدمتها الموس وقدمه إذا قرحها الحذاء اتكالاً على أن الأمر ليس بذي بال ولو علم المجروح أن جرحه الصغير الضئيل الهين ربما جر عليه ما لا يستهان به كالحمرة ومرض التيتانوس حيث يدخل مكروبهما من ثغرة الجرح مهما صغر. والحمى مرض يأتي بقشعريرة وحمى واحمرار وورم حول الجرح أو قريباً منه ولو كانت في الوجه لكان أمرها في غاية الخطورة والتيتانوس مرض تشنجي تتوتر معه العضلات الجسمانية كلها مبتدئة بعضلات العنق مع صعوبة في الإزدراد وتخشب في الجسم يصبح معه المريض كتلة جامدة لا حراك بها وهو من أشد الأمراض خطراً وفتكاً فيجب العناية بالجروح عناية تامة كإدمائها قليلاً عند حصولها وغمر الجرح في الكؤل النقي أو صبغة اليود ووضع شاش معقم عليها وتغطيتها من الملامسة والهواء. البول البول في حالة الصحة يكون مقداره في مدى أربع وعشرين ساعة شتاءً من 1200جرام

إلى 1400 وصيفاً أقل من ذلك بكثير بسبب العرق ولونه يضرب إلى الصفرة رائقاً خالياً من الأوساخ والرواسب. أما في الأحوال المرضية فإما أن يزداد مقداره وإما أن ينقص فيزيد في الأحوال الآتية: - البول السكري - البول العصبي - بعض أمراض الكلى والإمساك والخوف - الإدمان على الخمر. ويقل في الأحوال الآتية: - الحميات - الإسهال - أكثر أمراض الكلى - أمراض القلب - أمراض الرئتين - أمراض الجلد العامة - بعض الأمراض العصبية - التأثرات النفسانية. الأمراض تصل الأمراض إلى جسم الإنسان بطرق مختلفة أهمها كما يأتي: (1) بواسطة الماء: - الكوليرا - الحمى التيفودية - البلهارسيا - الديدان. (2) الهواء: - السل الرئوي - القرمزية - الجدري - الحصبة - التيفوس - الدفتيريا. (3) الغذاء: - التيفودية - الدفتيريا - الديدان - الدوسنطاريا - التدرن المعوي. (4) الحشرات (الناموس - البق - البراغيث - الذباب) الحمى الراجعة - الحمى الصفراء - داء الفيل - الملاريا - التيفوس - الطاعون - مرض النوم. (5) الملامسة: - أكثر الحميات - الحمرة - التيتانوس - الأمراض الجلدية - الزهري - السيلان. الطفل وفساد الهضم من أسباب فساد الهضم عن الأطفال الرضع الفطامة المعجلة (قبل 14 شهراً) وحمل الأم أثناء الإرضاع والرضاعة الصناعية والتعرض للبرد وسوء خلق المرضع وعد انتظام الرضاع وأيام التسنين وإطعام الطفل أي طعام غير لبن الأم ويبتدئ المرض عند الطفل بتكرار الفواق الزغطة فالميل إلى القيء فالقيء فعلاً فتشنجات موضعية عامة والقيء يحتوي عادةً على لبن متجمد وتنتفخ البطن ويحصل إسهال أخضر رائحته منتنة كريهة ويحصل للطفل مغص يجعله يصيح من آنٍ لآخر. العلاج - يرجع الطفل للرضاعة إن كان اسبب الفطام وتنظم مواعيد التغذية إن كان السبب

عدم نظامها بأن يرضع الطفل في الأشهر الثلاثة الأولى كل ساعتين وفي الليل مرتين وفي الثلاثة الثانية كل ثلاث ساعات وفي اللي مرة ثم كل أربع ساعات إلى الفطام. ويعطى مسهلاً من الزئبق الحلو إن كان من التسنين وإذا لم يتحسن يكره الطفل على الحمية الإمتناع عن الأكل ولا يعطى له غير ماء الشعير مدة يومين فإذا لم يتحسن يعرض على طبيب.

باب النقد

باب النقد حوال الشيخ الدباغ لعل قراءنا يذكرون أنا أتينا على شيءٍ من نوادر أشعب الماجب المشهور في العدد الخامس عدد 5 مارس وقلنا ثمت في سياق وصفه أنه كان دباغي المذهب وفسرنا هذه النسبة بأنه كان طفيلياً وعلقنا على هذه الكلمة دباغي بهذا - نسبة للدباغ المشهور في عصرنا هذا بنوادره الطفولية ولكن أين نجوم الغبراء من نجوم الزرقاء. هذا ما جاء بالحرف في ذلك الموضع ولكن لم يكد يظهر هذا العدد ويذيع بين قرائنا حتى جاء إلينا هذا الخطاب ـ. . . . صاحب البيان تحية طيبة. وبعد فقد قرأت في باب النوادر والفكاهات من مجلتكم الكريمة عدد 5 مارس عند شيءٍ من نوادر أشعب تعريضاً بالشيخ الدباغ إذ قرفتموه اتهمتموه بالتطفل وقلتم فيما قلتم ولكن أين نجوم الغبراء من نجوم الزرقاء فحدا بي حب الإستطلاع إلى أن أستعلم هل قصدتم بذلك إلى اللف والنشر فعنيتم أشعب بنجوم الغبراء والشيخ الدباغ بنجوم الزرقاء فإذا كان ذلك هو ما تقصدون إليه فقد نصرتم الحقيقة فإن الناس ليعلمون من أشعب من سوء المع وقبح التطفل ما لا يمحو ذكراه ويشفع له أدبه ومجونه أما دباغنا الظريف فما علمنا عليه من سوء وما أطلعنا منه على شيءٍ من خلائق الطمع والتطفل وإنما هو تظنن واقتيات من بعض الوريقات السوقية تلقفها بعض الهازلين من أولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين بذوهم وأبروا عليه بأدبهم وكياستهم - وإني لأشهد بين الله والناس - وأنا أحد عارفيه - إني لم أرى طوال حياتي - وقد أربيت على الخمسين وقتلت البحث في أخلاقنا علماً - أعف ولا أمراً أكرم نفساً من هذا الشيخ الذي لا عيب فيه سوى أنه لا يجيب دعوة الداعين كبراً مآبه كبر ولكنه الشمم وإباء النفس. وكفى بهذا الخلق مدحضةً لما يزعمون والسلام عليكم ورحمة الله. المخلص محمود صادق ونحن فنقول أنا قبل كل شيءٍ لم نقصد التحرش بصديقنا الأديب الشيخ إبراهيم الدباغ ولا أن نصفي إناءه وننتقضه لأنا نعرف منه ماجناً ظريفاً حلو الفكاهة والمحضر فضلاً أنه أديب لا يتخلف عن كثير من أدبائنا المعروفين أما قولنا أنه مشهور بنوادره الطفولية فإن

كلمة مشهور ليس معناها كذلك على الحقيقة ولكن هذا مما شاع عنه وإن كان غير مطابق للواقع وقصدنا بذلك تقريب أشعب إلى أذهان القراء بضرب الشيخ الدباغ مثلاً له وحسب دباغنا فخراً أن يلز مع أشعب في قرن فإن أشغب بن جبير فضلاً أنه ماجن في طليعة مجان العرب كان إماماً من أئمة الحديث وكان في الغناء في طبقة معبد والغريض وكان فقيهاً وكان أديباً ومن هنا قلنا ولكن أين نجوم الغبراء من نجوم الزرقاء لأن الشيخ الدباغ مهما علت منزلته في الفضل والأدب فلن تبلغ منزلة أشعب وهو من علمت وبعد فهذا هذا وقبل أن نختم هذه الكلمة يجمل بنا أن نقدم صاحب هذا الكتاب إلى حضرت قرائنا حتى يعرفوا مقدار نبله ولطف إحساسه وغيرته على الأدب والأدباء فصاحب هذا الكتاب هو محمود صادق بك بن المرحوم محمد صادق باشا ومن ثم ترى أنه رجل جمع بين الغني الكبير والمجد التليد وأمثال محمود صادق بك في بلدنا هذا أبعد الناس عن الأدب والأدباء كأنهم وإياهم أبناء علة فإذا رأينا اليوم محمود صادق بك يعني بالنصح عن أديب كان ذلك دليلاً محساً على نبل إليك وإحساسه المتفضل وعطفه على الأدباء وتوفره على القراءة والإطلاع وجملة القول على أنه غني منقطع النظير ولهذا اغتبطنا بدفعه هذا كل الإغتباط وكدنا اخرج من أديمنا فرحاً بهذا الرجل الكبير الروح فنشكر له هذا الصنيع الجميل ونعتذر إلى أديبنا الدباغ عن طغيان القلم.

وفاة عمر سلطان باشا

موت رجل كبير وفاة عمر سلطان باشا في شهر فبراير الماضي، مات رجل كبير من الأفراد الذين هم في التعداد التاريخي بألوف من الناس، وفي تقدير الحياة أفضل من ربع سكان المملكة، مات عظيم من المصريين كانت له نفس كبيرة، وروح كريمة، وأثر مذكور، وسكن نبض خفاق في جسم أمة هامدة، وتعطلت حياة نشيطة نبيلة من صور مختلفة من الموتى، مات رجل بكل معنى الرجولة، في زمن نحن فيه أحوج إلى نصف رجل، لأن الفرد النافع في أمة مثل أمتنا يعد عنصراً غريباً ظاهراً بينا إذ كنا لم نعتد بعد أن نكون على شيءٍ من النفع، مات المرحوم عمر سلطان باشا وهو اسم مجيد من الأسماء الكبيرة التي تطل صورتها من مجموعة صور الماضي، وسلسلة ذهبية من أسرة معروفة في تاريخ هذه البلاد. بل هو ذكرى حلوة عظيمة الأثر في نفوس المصريين هو نسخة أخرى من رئيس أول مجلس من مجالس النواب في تاريخ هذا البلد لأن كلمة سلطان باشا لا تزل تهز فؤاد كل مصري، لأنها تعود إلى ذكرى سلطان باشا الكبير، والد فقيد اليوم، رئيس مجلس النواب القديم. ومن ثم كان سلطان باشا الصغير يحمل في نفسه دستورية سلطان الكبير وعظمته وفضله إذ كان اسمه في تاريخ المآثر الأهلية والمكرمات العمومية في رأس القائمة، وطليعة الصحيفة، ونحن نعد موته خسارة كبرى، ونكبة عظيمة للفقيرين والمعوزين، وضربة للخير، ومصاباً نزل بالرحمة، لأن كل ثروة في الأمة من ثروات الأفراد الكبار هي حجر صلب متماسك في بنائها. وركن متين من أركانها، لأن حياة الأمم الجيوب، وفي المصارف وفي الخزائن. ثم هي بعد ذلك الأيدي، ثم في الأعمال الكبيرة والمفاخر العظيمة. لأن كل رجل غني ينفق من ماله على غير مناعمه يعد رجلاً نادراً ملائكي النزعة، لأن للغني عدة من الطبائع يكتسبها صاحبها من ورائه، وكل ورقة مالية تدخل في جيب الغني الحريص تنزع ورقة من صحائف كتاب الشفقة، حتى لقد كاد كتاب الشفقة لا يبقى منه إلا غلافه، ولعل الأقدار تهب بعض الناس نعمة الغنى، ثم تصيبهم بعدها في قلوبهم بكل مادة القسوة لكي يمشوا في الدنيا بقلوب ذهبية. وإذا كان ذلك كذلك فحليقٌ بكل مصري أن يحزن لفقد هذا الرجل التقي الصفحة، في وسط

كثيرين سود الصحائف.

استدراك

استدراك جاء في صفحة 16 سطر 11 من كتاب تربية الإرادة الذي نشرنا منه ملزمتين في هذين العددين ويهجمون منه على حين طيب وصحتها ويهجمون منه على جني طيب

أمس واليوم

أمس واليوم مقال بديع للكاتب الأشهر السيد مصطفى لطفي المنفلوطي كتبه خصيصاً لهذه المجلة ووعد أن سيوالي البيان بكل ما يكتب من الآن. . عندي أن الفضيلة والرذيلة كالجمال والقبح أمرين اعتباريين يختلفان باختلاف الأمكنة والأزمنة. فكما أن الجمال في امة قد يكون قبحاً في أمة أخرى. كذلك الفضيلة في عصر، قد تكون رذيلة في عصر آخر. ليست الرذائل والفضائل أسماء توقيفية كأسماء الله لا يمكن تغييرها ولا تبديلها. وليست الفضيلة إلا لأنها طريق السعادة في الحياة ولا الرذيلة رذيلة إلا لأنها طريق الشقاء فيها. فحيث تكون السعادة في صفة فهي الفضيلة وإن كانت رذيلة اللؤم. وحيث يكون الشقاء في صفة فهي الرذيلة وإن كانت فضيلة الكرم. لقد اعتاد علماء الأخلاق في كل زمان زفي كل مكان من عهد آدم إلى اليوم أن ينشروا لنا في كل كتاب يؤلفونه أو رسالة يدونونها جدولين طويلين ثابتين لا ينتقلان ولا يتحلحلان. . يكتبون على رأس أحدهما عنوان الفضائل وتحته كلمات الجبن والبخل والخيانة والغدر والطمع والدناءة والكذب والظلم والقسوة. وأرى أنه قد آن لهم أن يعلموا أن الناس اليوم غيرهم بالأمس. وأن أساليب الحياة الحاضرة غير أساليب الحياة الماضية وأن كثيراً من الصفات التي كانت في عهد البداوة والسذاجة رذائل يجتويها الناس ويتبرمون بها ويستثقلون مكانها قد أصبحت في هذا العصر عصر المدنية المادية المؤسسة على المنافع والمصالح حالة واقعة مقررة في نظام المجتمع البشري. وأسساً ثابتة تبنى عليها جميع أعماله وشؤونه فلا بد للناس منها. ولا غناء لهم عنها. ولا مندوحة لهم أن أرادوا أن يخضوا معترك الحياة مع خائضيه من أن يتعلموها تعلماً نظامياً ويدرسوها مع ما يدرسون من علوم الحياة التي يتوقف عليها نظام عيشهم ويتألف منها شأن سعادتهم وهنائهم. كان الكرم فضيلة يوم كان الناس يحفظون الجميل لصاحبه ويعرفون له يده التي يسديها إليهم. فإذا هوى به كرمه إلى هوة من هوى الشقاء وجد من بين الذين أحسن إليهم أو جل في نفوسهم شأن إحسانه من يمد إليه يد المعونة ليستنقذه من شقائه أو يرفهه عليه. أما اليوم وقد أنكر الناس الجميل واستثقلوا حملهعلى عواتقهم بل أصبحوا يشتمون بصاحبه يوم تزل به قدمه ويصفونه بجميع ما ورد في كتب المترادفات من أسماء الجنون وألقابه فليس الكرم

فضيلة وليس من الرأي الدعاء له والحض عليه. وكانت الرحمة فضيلة يوم كان الناس صادقيين في أحاديثهم عن أنفسهم فلا يعترف بالبؤس إلا البائس. ولا يلبس الأطمار إلا من يعجز عن لبس الجديد. أما اليوم وقد ذلت النفوس وسفلت المروءات فلبس ثوب الفقير غير الفقير. وانتحل البؤس غير البائس. وأصبح نصف الناس كسالى متبطلين لا عمل لهم إلا التلجوأ إلى ظلال القلوب الرحيمة يعتصرونها ويحلبون درتها حتى تجف جفاف الحشف البالي فالرحمة هي الفقر العاجل والخسران المبين. وكانت الشجاعة الأدبية فضيلة يوم كان الناس ينصرون الشجاع ويؤازرونه. ويتتبعون خطواته في جميع مذاهبه التي يذهبها. فلا ينقطعون عنه حتى يظفر أو يموتوا من دونه. أما اليوم وقد ضعفت همم الناس ووهنت عزائمهم. وماتت في نفوسهم الحفائظ والغير. ووكل بعضهم أمره إلى بعض. فإن رأوا قائماً يمينهم بدعوة أغروه بالمضي فيها ثم وقفوا على كثب منه ينظرون ماذا يفعل فإذا ظفر قاسموه غنيمته وإن فشل خذلوه وتنكروا له فالشجاعة جنون لا يجد صاحبها من ورائها إلا التهلكة والشقاء. وكانت القناعة فضيلة يوم كان الفضل هو الميزان الذي يزن به الناس أقدار الناس وقيمهم وكان الفقر مفخرة للشريف إذا عفت يده. والغني معرة للدنيء إذا سلفت مساعيه وأغراضه أما اليم وقد مات كل مجد في العالم إلا المجد المالي وأصبح الناس يتعارفون بأزياءهم ومظاهرهم. قبل أن يتعارفوا بصفاتهم وأعمالهم. فالقناعة ذل الحياة عارها وبؤسها الدائم وشقاؤها الطويل. وكان الغضب رذيلة يوم كان الناس يعرفون فضيلة الحلم ويقدرونها قدرها. ويطأطئون رؤوسهم بين أيدي صاحبها إجلالاً وإعظاماً. أما وقد أصح الناس أشراراً يحملون شرورهم على أيديهم ويدورونبها في كل مكان يطلبون لها رأساً يصبونها عليه ولا يجرؤون على غير الرأس الضعيف اللين. فلا خير في الحلم والخير كل الخير في الغضب. الحياة معترك أبطاله الأشرار وأسلحتهم الرذائل. فمن لم يحاربهم بمثل سلاحهم هلك عن الصدمة الأولى. يجب أن يكون الناس جميعهم فضلاء ليسعدوا بفضيلتهم فإن عجزوا عن ذلك فليكونوا

جميعاً أدنياء ليتقي بعضهم بأس بعض. أما أن يتقلد سوادهم سلاح الرذيلة والنزر القليل منهم سلاح الفضيلة وهو أضعف السلاحين وأوهمهما فليس لذلك إلا معنى واحد. وهو أن يهلك أشراف الناس وفضلاؤهم في سبيل حياة أدنيائهم وأنذالهم. إن الدعاء إلى البر والإحسان والرحمة والشفقة والعدل والإنصاف والصدق والإخلاص في هذا العصر إنما هو حبالة ينصبها الدهاة الماكرون للضعفاء الساذجين لخدعوهم بها عن مائدة الحياة التي يجلسون عليها. فيستأثروا بها من دونهم. فلا يدعو الداعي إلى الكرم إلا لينل ما في جيوب الناس إلى جيبه. ولا إلى العفو إلا ليصيب بشره من يشاء دون أن يناله من الشر شيء. ولا إلى القناعة إلا ليتعلل من سواد المزاحمين له على أغراض الحياة ومطامعها. ولا إلى الصدق إلا ليستمتع وحده بثمرات الكذب ومزاياه. كلنا يكذب فلم يعيب بعضنا بالكذب بعضاً. وكلنا يبسم لعدوه وصديقه ابتسامه واحدة فلم نستنكر الرياء، وكلنا يطمع في أن تكون له وحده جميع خيرات الأرض وثمراتها من دون الناس جميعاً فلم نستفظع الطمع. وكلنا يتربص بصاحبه الغفلة ليختتله عما في يده فلم نشكو من الظلم؟ إنا لا نفعل ذلك إلا لأنا نريد أن نستخدم الفضيلة في أغراضنا ومآربنا كما استخدم رؤساء الدين الدين في العصور الماضية. وكما استخدم رجال السياسة الوطنية في العصر الحاضر. يجب أن يتعلم الطفل من أول يوم يجلس فيه أمام مكتب مدرسته أن الموجود في الحياة غير الموجود في الكتب وأن قصص الفضائل التي يقرؤها ونوادر المروءات والكرم والإيثار وأحاديث الشهامة والشجاعة وعزة النفس وإبائها إنما هي روايات تاريخية قد مضت وانقضى عهدها حتى لا يصبح ناقماً على العالم يوم ينكشف له وجهه ويرى سوآته وعوراته. وحتى لا يضيع عليه عمره بين التجارب والإختبارات. ولو كنت أعلم من أصول الرذائل وقواعدها فوق القدر الذي أعلم منها لألفت للناشئ كتاباً دراسياً أبين له فيه كيف يكذب التاجر. ويغش الصانع. ويلفق المحامي. ويدجل الطبيب. ويختلس المرابي. ويرائي الفقيه. ويصانع السياسي. ويتقلب الصحفي. ثم أقول له هذه هي الحياة وهذا سبيل العيش فيها إن أردتها. فإن لم تردها فدونك مغارة موحشة في قمة من قمم

الجبال العالية فعش فيها وحدك بعيداً عن العالم وما فيه. وكل مما تأكل حشرات الأرض واشرب مما تشرب منه حتى يوافيك أجلك. أنا لا أدعو إلى الرذيلة بل إلى سعادة الحياة وهنائها وهو ما أسميه الفضيلة. لأني أعتقد أن الشر لا يقاوم في العالم إلا بالشر. وإن حامل السيف لا يغمده إلا أمام حامل سيف مثله. والسيل الجارف لا يقف عن جريانه إلا إذا وجد في وجهه سداً يدفعه. وإن الظالم لا يظلم إلا إذا وجد بين يديه ضعيفاً. والمحتال لا يحتال إلا إذا وجد أمامه غبياً. وأن الناس لا يتحامون ولا يتحاجزون ولا يأمن بعضهم بأس بعضهم إلا إذا برزوا جميعاً في ميدان واحد يتقلدون سلاحاً واحداً في فضاء واحد. ما أجمل الفضيلة وما أعذبها. وما أجمل العيش في ظلالها لولا أن شرور الأشرار قد حالت بيننا وبينها. فرحمة الله عليها. ووا أسفا على أيامها وعهودها.

الآداب وتطورها

الآداب وتطورها للكاتب الاجتماعي الدكتور عبده البرقوقي اختلف العلماء والفلاسفة في تعريف الآداب. وسبب الخلاف راجع إلى أنهم غير متفقين على معرفة الأصل الذي نشأت عنه وتشعبت منه. وقبل أن ندلي بتعريفنا يجب أن نتساءل عن منشأ الآداب وكيفية وجودها. وهل هي غريزية في الإنسان أو اكتسابية، وإن كانت إكتسابية فمن الذي أكسبه إياها؟ الدين أو الإجتماع أو هو الذي اخترعها من نفسه تسهيلاً لأعماله؟ يرى فريق من العلماء أن الآداب غريزية في النفس وأن الإنسان مفطور على تمييز الخير من الشر وأن الآداب قائمة بذاتها غير متصلة بالدين ولا متفرعة عن الصالح العام. فالخير خير لذاته لا لأنه نافع أو لأن الدين أمر به والشر شر لذاته لا لأنه ضار أو لا لأن الدين نهى عنه. ولو كان هذا الرأي صحيحاً للزم أن تكون الآداب جامدة ولا يعتورها التغيير والتبديل مهما تغيرت الأحوال وتبدلت الشؤون. فالشر شر والخير خير منذ وجد الإنسان إلى ما شاء الله. بيد أن الواقع يخالف ذلك. والمشاهد أن الآداب مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والشعوب وإن كان اختلافها بطيئاً لا يلحظ إلا إذا كان المدى بعيداً. أما إذا كانت المسافة قصيرة فيخيل إلى الناظر أن الآداب ثابتة لا تتغير. ويرى العلماء الروحانيون ومن على شاكلتهم أن مصدر الآداب الدين. فإن الدين هو الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأعد للمتقين جنات النعيم وللأشرار عذاب الجحيم. ولولا الدين لكان الإنسان كالعجماوات خلوا من كل فضيلة يرتكب المنكرات من غير حياء ولا جزع ومن لا دين له لا يرتجى منه خير ولا يتقي شره. غير أن من بين المتدينين الذين لا يتطرق الشك إلى يقينهم ولا يتوانون في تأدية واجباتهم الدينية من يرتكب الشر ويقترف الجرائم من غير أن يكون لديه سلطان عليه. يذوب أسى وخشوعاً إذا ذكر الله وإذا فرغ من صلاته هب إلى خطف الأرواح واختلاس الأموال ونهش الأعراض مستعيناً بالله وملائكته ورسله على تحقيق آماله. وهل يصعب على الإنسان أن يوفق بين دينه وشهواته ويتلمس لجرائمه ما يبررها في نظره ويخلق لنفسه

المعاذير التي تطمن باله وتريح ضميره. وجدت الآداب ممتزجة بالدين امتزاج الماء بالعود فلا ترى ديناً خلوا من الحث على الفضيلة والنهي عن الرذيلة ولا تجد آداباً قائمة بذاتها منفصلة عن الدين إلا في الندرة. ولقد اختلطت الآداب بالعقائد حتى تشاكلت وتعذر التمييز، ومن هنا نشأ القول بأن الدين هو أصل الآداب - ومن أمد غير بعيد كانت القوانين متصلة أيضاً بالدين فانفصلت عنه فهل تنفصل الآداب عن الدين أيضاً وهل امتزاج القوانين فيما مضى يسمح لنا بأن نقول أن الأديان أصل للشرائع والقوانين. إن منشأ الدين الإجلال والإعظام وشعور القلب بالرهبة والخوف. ومنشأ الآداب كما سنبينه بعد هو الإجتماع وحب الذات وضرورة التوفيق بينهما، ولقد وجدت الآداب والدين معاً فامتزجت الآداب بالدين والإنسانية في أول عهدها لا تعرف توزيع الوظائف على الأعضاء وقسر العضو على وظيفة واحدة بل كان للعضو الواحد عدة وظائف فكان من شأن الدين أن يراقب الآداب ويسن القونين ويستخلص النظريات العلمية ولكن سارت الإنسانية بعد ذلك بأزمان بعيدة استقل القانون واختلاف الدين والآداب في الأصل والمنشأ يوضح لنا جلياً ما أشكل علينا في أول الأمر من وجود أناس متدينين وهم في الوقت نفسه قارورة خبث وبؤرة فساد. وهناك رأي آخر يقول بأن الإنسان هو الذي أوجد الآداب وأنه هو الذي اخترع الخير والشر تسهيلاً للعلاقات الإجتماعية وتحديداً لها فسمى ما يفيده خيراً وما يضره شراً وفي الواقع وننفس الأمر لا خير ثمت ولا شر. حقاً لا خير ولا شر فإن الأمور كلها لسببه مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد وما هو خير عندنا قد يكون شراً لغيرنا وما نعتبره أدباً ربما اعتبره سوانا سفالةً ولكن لا تصدق بأن هذا محض اختراع من الإنسان. يعتقد الإنسان وجود خير وشر ويحكم على بعض الأمور بأنها خير وعلى البعض الآخر بأنها شر ويجوز أن يكون مخطئاً في حكمه أو واهماً في اعتقاده ولكنه وهم طبيعي منشأه حياة الإنسان الأولى وتداول النفع والضر عليه مما يحيط به وارتكازهما في جهازه العصبي.

ولقد لبثت البيئة الأولى التي كان الإنسان عائشاً فيها قروناً عديدة لم تتغير تغيراً محسوساً فأكسبته آداباً مخصوصة لازمته طوال هذه القرون فارتكزت في أعضائه وصار لها في بنيته جهاز خاص فتوارثها عنه أعقابه وأصبح الإنسان يعتقد بحق أنها آداب مطلقة. فطر الإنسان على الأثرة وحب الذات حفظاً لحياته وبقاء نوعه، والأثرة خميرة صالحة لكثير من المزايا الإنسانية غير أنها قد تلقي بالمجتمع الإنساني إلى التهلكة لو أطلق لها العنان وتجردت من كل قيد. وهو من جهة أخرى مدني بالطبع يجب الإجتماع ولا غنى له عن الوئام والإتحاد مع العائلة أو القبيلة التي كان عائشاً بينها ليكون قادراً على درء الخطوب ومقاتلة الأعداد والتغلب على الوحوش الضارية التي تنازعه البقاء خصوصاً إذا كانت العائلة أو القبيلة قليلة العدد كما كانت الحال في مبدأ الإنسان ولم يسد الإنسان على العالم ولم يتغلب على أعدائه إلا بعد جهاد طويل نشأ عنه حب الغير وتآخي الناس واعتبار كل منهم للباقين بمثابة حلفاء تحافظ على حياتهم ويحافظون على حياته وإذا حميت الأثرة الفردية بأحدهم ودفعته إلى التعدي على آخر فقد أخل بالمجتمع كأنه تعد على المجموع مهما كان تعديه تافهاً واعتبر عمله مخلاً بالآداب، فالآداب قواعد اجتماعية أوجدتها ضرورة الإجتماع منعاً للأثرة الفردية من الجموع وحثاً للناس على عمل النافع والإمتناع عن المضار، وبعبارة أخرى قواعد اجتماعية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وهذا الحد واسع جداً غير قاصر على الآداب بل يشمل أيضاً القوانين ولتصحيحه يجب أن نخرج منه القوانين التي لا يدخل في دائرتها الأكل تعد يظنه المجتمع الإنساني بليغاً ومهدداً لكيانه ويفرض لمقترفه عقاباً زاجراً. وكانت الهيئة الإجتماعية في أول الأمر قاصرة على أعضاء العائلة أو القبيلة لا تتعدى ذلك إلى غيرهم من الأجانب الذين كانوا معتبرين كأعداء ألداد لا يرعى لهم ذمار ولا يعترف لهم بحق بل يجب مقاتلتهم أينما وجدوا فالآداب إذ ذاك كانت قاصرة على حماية العائلة أو القبيلة فقط ومن عداها فهو مهضوم الحقوق. ولم يكن الإنسان عائشاً في سلام واطمئنان بل كان قلق البال على حياته يكافح الوحوش الضارية التي كانت تنازعه البقاء والسيادة ويقاتل القبائل الأخرى إما دفاعاً عن نفسه أو

طلباً للسلب والنهب فالخطر المحدق بالقبيلة كان عظيماً جداً ولا طاقة لها على دفعه إلا إذا كانت قوية ولا تكون قوية إلا إذا كان الأمن مستتباً بين أفرادها فكان كل ما من شأنه أن نحل بهذا المر يقع بالقوة مهما كان تافهاً ويعاقب مقترفه عقاباً صارماً لخطورة الحال كما بينا. فكانت الآداب إذ ذاك صارمة والقوانين قاسية وحرية الفرد معدومة ودائرة العقاب واسعة تشمل تقريباً كل شيء، قل أن توجد هفوة ولو تافهة ولا يكون لها عقاب، وجملة القول أن أسلافنا كانوا لا يميزون بين الآداب والقوانين وكانت قوانينهم كلها جنائية وكانت العقوبات شديدة للغاية. ولم تتلطف الآداب ولم تنقشع عنها غياهب القوة ولم تتهذب القوانين ولم تستنشق الأفراد الحرية إلا بعد أن قلت الغارات والحروب وأمن الناس جيرانهم واندمجت القبائل في بعضها وصارت أمماً - أما القبائل التي لبثت على حالها ولم يصادفها هذا التطور لفقدان أسبابه بينها فلا تزال شديدة البطش بأفرادها تأخذهم بالقوة والقسوة محافظةً على كيانها وليس للفرد إزاءها شخصية بالمعنى الذي نفهمه نحن الآن. وكلما ارتقت الأمة في مدرج الحضارة والمدنية ارتخت قيود الأفراد وزاد نصيبهم من الحرية الأدبية واتسع لهم المجال في القول والعمل وقل افتيات المجموع وتعرضه للفرد لها بقية.

الإدانة والمسؤولية

الإدانة والمسؤولية ـ 2 ـ إن سليم العقل من يقدر على فهم الأمور ولا يشذ في عمله عن دائرة الحكمة. وبعبارة أخرى من كان له في سلوكه قائد من التروي يتبصر في الأسباب ويوازن بين العلل التي تدفعه إلى العمل وتنهاه عنه ليختار لنفسه الطريق الذي ينبغي له أن يسير فيه. غير أن اختياره هذا متوقف على الظروف والمؤثرات وعلى طبيعته وتركيب جسمه الذي يتأثر بعلة دون أخرى. ولكن أليس التركيب الجثماني نتيجة الوراثة والتربية، وعلى ذلك يكون سليم العقل هذا غير مسؤول أيضاً عن عمله. إن الغرض الذي تنشده القوانين وتسعى إليه الشرائع هو تربية صحاح العقول وتهذيب نفوسهم وحملهم على التأني والتروي وزنة الأعمال بالحكمة حتى تكون على وفق ووئام مع صالح الهيئة الإجتماعية. ولو كان المرء خالياً من كل شيء ماعدا خوفه من القانون واحترامه إياه لكان الناس جميعاً كالمعتوهين الذين مر ذكرهم آنفاً. ولو كانت القوانين صالحة لكانت معرفتها وراثية ولصار المجتمع الإنساني كخلايا النحل يؤدي كل وظيفة بدون ملل ولا ضجر. غير أنا لم نصل إلى هذه الدرجة ولم نزل بعيدين عنها بمراحل عديدة. وكل فرد يتخذ من تربيته ووراثته (خصوصاً وراثته فإنه يوجد كثيرون متفقون في التربية غير أنهم مختلفون) محكمة باطنية يسميها بالضمير ويحكمها في كل شيء. قال حكيم إذا أردت ألا تقاضي فلا تقض على أحد غير أن هذا الحكيم نفسه لم يسعه أن يتبع حكمته وينهي نفسه عن مقاضاة الناس والحكم عليهم بل استمر في محاكمتهم بدون هادة ولا انقطاع حيث وعد الذين يتبعون حكمته ويسيرون على مقتضاها بخير الجزاء ولكن ألم يأت دوره أيضاً في المحاكمة وحكم عليه بالصلب. أما نحن فلا ندعي أننا أعقل منه أو أكثر منه حكمة ولذلك لم نفتر عن مقاضاة الناس والحكم عليهم فإن هذا طبيعي في النفس. يقضي العدل بمكافأة كل إنسان على قدر قيمته. ولكن أليست ضمائرنا هي الميزان الوحيد الذي نزن به أقدار الرجال ونحكمها في أعمالهم، وحكمها بات لا يقبل نقضاً؟ ومن المحال

أن نرضي الناس جميعاً والمحاكم الباطنية أي محاكم الضمير والوجدان مختلفة غير متماثلة. وجدير بهذه الحقيقة أن تحملنا على عدم التعويل على ضمائرنا وعدم الإعتداد بأحكامها ولكن أنى لنا ونحن لا نذعن إلى الحق بسهولة. العدل أجمل وأرقى شعور في الإنسان. وقد ألبسنا الإله ثوباً نفيساً من هذا العدل غير أن الإله بدأ عمله بتفضيل هابيل على قابيل. وهذا هو عين الجور الظلم فإنه هو الذي خلق الإثنين بما فيهما من فضل ونقص وخير وشر. إلا أن هذا لبشري محض. يرشدنا المنطق إلى أن المسؤولية غير موجودة وإن الأولى والأعدل محو العقاب والثواب من معجمات لغاتنا وكتب شرائعنا غير أنا نحب أفراداً ونمقت آخرين وشعورنا أعز لدينا من العقل يقول أن طول فرانس لو كنا نعقل أو نفهم لكانت النفوس البشرية لدينا كالأشكال الهندسية لدى الرياضيين فلا نبغض إنساناً لقصر عقله وخبث طويته كما لا يكره الرياضي الزاوية إذا قل انفراجها عن الزاوية القائمة أو زاد عنها ومع هذا تنطوي قلوبنا على الحب والكراهة وهذا ألد عدو للحكمة. يحاول بعض الفلاسفة ذوي العواطف الشريفة والإحساسات الرقيقة أن يلينوا من قلوب القضاة ويحملوهم على أخذ المجرمين الرأفة والشفقة بأن يقولوا أن المجرمين غير مدانين فيما اقترفوه من الإثم والعدوان. وإنما الهيئة الإجتماعية هي المذنبة الأثيمة وهي المسؤولة عن إجرام هؤلاء المساكين وإن هؤلاء الفلاسفة لمحقون في رأيهم غير أهم لا يريدون الإستمرار فيه إلى النهاية وليسوا بالمثال الصالح ولا الأنموذج الحسن في أحكامهم لأنهم يحتقرون القضاة قساة القلوب ويسلقونهم بألسنة حداد مع أن هؤلاء القضاة لا يخرجون عن كونهم مجرمين كالمجرمين الآخرين غير مسؤولين عن أعمالهم ولقد يمكن معالجة هؤلاء الفلاسفة وإرجاعهم عن خطئهم لو لم يكن نتائج رأيهم (وهذه النتيجة طبيعية ولكنهم لا يقبلونها) اعتبار القاضي طيب القلب كالقاضي القاسي لا يفضله في شيء ولا يستحق مدحاً ولا ثناء، يريدون إلغاء العقاب ولكنهم يحتفظون بالأجر والثواب وهذا لا يمكن إزالته من النفوس إلا بإزالة الإنسانية نفسها. وهل هذا غير منطقي! أو هل المنطق الذي أضلنا عن الحق! وهل لم يكن رائدنا الدقة! أو هل هذه الدقة وهم وخيال.

لا ينفك الإنسان عن التغير والتبدل في كل آونة ولحظة. وما الإنسان إلا سلسلة تراكيب جثمانية مختلفة يأتي بعضها في تلو بعض ويعقب أحدها أثر لآخر ولا يمكن سرد أعمال إنسان من غير أن نلاحظ أنه في هذه اللحظة غيره في اللحظة التي سبقتها وأنه ليس هو الآن نفس الرجل الذي كان منذ هنيهة مضت. وإذن فمحال على المنطقي المدقق أن يشكر إنساناً على عمل اشترك في تركيب جثماني غير تركيبه الحالي. نحب قائداً ونجله ونغدق عليه الألقاب والنياشين فنسميه البطل المقدام والقائد العظيم لأنه انتصر على أعدائه وأنزل بهم المحن ولا نذكر المدفع الذي حاز به الفخر ونال بواسطته النصر مع أن المدفع أقل تغيراً من القائد وأدوم على كيانه منه. إن الأسماء التي تعطى للأفراد وتلازمهم طول الحياة من تغيير ترابط أعمال الفرد بعضها ببعض ماضيها وحاضرها ومستقبلها بحبل متين لا تنفك عقدته أبداً. ولكن من منا لم يشعر بألم عظيم وحزن عميق حينما سيق فرديند ديلاسبس العظيم إلى محكمة الجنايات بصفة منهم أثيم. هل من كان يوماً عظيماً يبقى دائماً عظيماً! وهل من أجرم ولو مرة يصير طول الحياة مجرماً أو هل من المحال أن ينقلب اللص القديم رجلاً نزيهاً! إن هذا ينبغي أن يكون لو كانت القوانين لا ترمي إلى معاقبة المجرمين وإنما تقويم نفوسهم قدر المستطاع. إن اللص الذي يعود إلى الإجرام بعد ما اقتص منه القانون على جريمة سابقة يظهر للملأ ننقص هذا القانون وعواره. ولا يكون القضاء حسناً - قلت حسناً ولم أقل عادلاً لأنه لا وجود للعدل والظلم ولا أساس لهما من الصحة - أقول لا يكون القضاء حسناً إلا إذا كان غرضه مداواة المجرمين مما ألم بهم وأضر بجهازهم العصبي فأفسده. ولكن القضاء للأسف لا يعني بهذه المسألة ولا يعتبرها التفاته بل يعاقب المجرمين باسم العدل الذي لا وجود له ولا أثر له من الصحة وإنما هو محض خيال ووهم ويترك في نفوسهم ذكرى قد تزيد من شرهم وترصد في وجوههم باب الأمانة فيما لو حدثتهم نفسهم يوماً بالتوبة. ولكن من منا يقبل على نفسه أن تكون شخصيته متغيرة غير ثابتة على حال وأن يكون أعجوبة غريبة لا تنفك عن التلون والتبدل. ينسى المرء سيئاته التي تزري بشرفه ويذكر دائماً حسناته التي ترفع من قدره. ولا يحفظ

من سيرة غيره إلا القبيح معتقداً أن الحط من قيمة رفعة له وإعلاء لشأنه. ولولا الأشرار ما وجد الأخيار. إن اللغات البشرية لغات شعور وإحساس وليست بلغات علم وفلسفة. وإذن فليس من المستغرب القول بوجود إدانة ومسؤولية ولا نسبة العقاب والجزاء إلى العدل ولا تسمية الأفراد بأسماء لا تفارقهم طول الحياة وإن كانت الحقيقة خلاف ذلك فإن اللغات لا تعبر عن الحقيقة وإنما تعني بالإفصاح عن علاقات الناس بعضهم ببعض ومن العبث بل من الحمق أن تكون هذه العلاقات قائمة على الحقيقة وإنما تعني بالإفصاح عن علاقات الناس بعضهم ببعض ومن العبث بل من الحمق أن تكون هذه العلاقات قائمة على الحقيقة فإن قوامها الأغلاط والأوهام. وخليق بمن ينكر المسؤولية أن ينكر الثواب ولا يدعي لنفسه فضلاً ما. ولكن أني لنا ذلك وقد فطرت نفوسنا على العكس ويتضح مما مر من تاريخ الإنسانية أننا بعيدون جداً عن الحكمة والفلسفة. إن الناس ليسو بحكماء وقد يكون هذا من حسن حظهم فإنهم لو كانوا كذلك لكانت الحياة مملة.

الحرب

الحرب كلمة شعرية نثرية بديعة في وصف الحرب الحاضرة من كتاب المساكين رقعة من الأرض كأن فيها شيئاً من الطينة التي خلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله فلا يكاد ينزل بها الجيشان. حتى تعيد أرواح أكثرهم إلى سمائه، ينجذب إليها الجندي لأن فيها ترابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب منيته في اقترابها، ولا تزل تصرعه وكأنها من شوقها تضمه. وتلقيه على صدرها ميتاً أو جريحاً كأنها تعلمه بذلك أن الأرض أمه. وهي مزرعة الموت نباتها الرؤوس، فمنها قائم وحصيد، وثمراتها النفوس، فمنها داني القطاف ومنها بعيد، وقد رواها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد. بل هي ساحة لحرب ترفع عليها القوة راية وتنزل راية، ويحشر في مسرحها الناس لتمثيل لهم الموت كل يوم رواية، وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر ناخره، وتناثر فيها الرجال فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخره. وظهرت تلك الساحة وقد كشرت عن أنياب من السيوف وأسنان من الأسنة كأنها لأهل الدنيا فم الآخرة أما الجنود فإذا رأيتهم يلتحمون قلت زلازل الأرض قد خلقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحمون خلت نفوس الكرام قد حملت على دهرها، وقد أيقنوا أنهم إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومن لم يبن منهم على الفتح بنى على الكسر وما منهم إلا من يحمل رأساً كأنه لا يمكنه على عنق لا يدري كيف يمسكه، في بدن لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه، فهو لا يبالي أظلته الشمس. أم أظلم عليه الرمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس، وإذا كان من صفة الميت أنه اسم في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسم يعيش بغير اسم. وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه الطرح أم أخذه الضرب وإنما هو حيث يتهيأ له انتظار الأقدار، فليس إلا الصبر، ولو في بطن القبر، وحيث يطبخ له النصر على النار. فثم المكان ولو في جوف البركان، وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنة تعمل بلا عقل فلا يخشى الحيف، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكائه أن يكون من صحة الذهن. . . بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من خفة الروح بحيث تحمله

اللفظة الخفيفة على جناح الأمر. وما الحرب إلا أن يتنازع الناس على الحياة فيقيموا الموت قاضياً، ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حكماً على الحياة ماضياً، فكلا الفريقين يقدم الحجج، من المهج، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه بكل ضرب ويجري الحياة مجرى الإستعارة في بيان الحرب. وقد توقف الرجال في يوم أطول من يوم العرض، وتقاذفوا بالآجال حتى أوشكت السماء لكثرة ما ينزل منها أن تقع على الأرض، فالخيل منقضة كأنها صواعق أرسلها الموت في أعنه، أو نوازع من السحاب بروقها الصورم والأسنة، مسرعة كأنها تسابق تلك المنايا التي جرت بها الأقدار، جائلةً كأنما تحيرت كيف تفر من ساحة الموت بما حملت من الأعمار، وعلى ظهورها كل فارس كأنه بين الرماح أسد في غاب، وكأن الموت من سيفه سم خلق في ناب، وكان العنان في يده سوط ولكنه سوط عذاب، لم يعد في الفرسان، حتى لم يعد من الإنسان، فإذا صاح بقرنه عرفت وحوش ذلك الصوت، وإذا هاجته الحرب لم يفته من ضروب النقمة فوت، وإذا نظر إلى مقتل عدوه حسبت عينيه نقطتين على تاء الموت. وقد ثار الغبار كآفة طريق يمتد من الأرض إلى السماء، أو كأنما أراد أن يمثل السحاب وقد رأى المطر تمثله الدماء، أو كأنه لما رأى الحرب تتوقد هب مستجيراً من الرمضاء، أو هو قد فر من الأرض لما خشي أن تنفلق الأرض من حوافر الخيل، أو كأنه أنف أن يأتي الناس أعمال اللصوص في نور الشمس فضرب عليهم قبة من الليل، أو حسب عقول الجند في أيديهم وأرجلهم. . . فطار ينظر أين تلك الهام، أو هو لما رأى المطر أحمر خشي على الأرض فثار ينظر ماذا دهى الغمام. والمدافع قد رمت الأرض بزلزالها، وألقت على الجند من شر أفعالها، فتركنهم كالغابة الملتفة إذا استطار فيها الحريق وانحط فريق من أشجارها على فريق، وكأنما انقض عليهم من قنابلها جدار من الجحيم. وكأن كل مدفع في صيحة الحرب إنما هو عنق شيطان رجيم. تحمل في بطونها أجنة من النار ترتعد الحصون لهول ميلادها، وتنحني القلاع مخافةً منها على أولادها، ولها صوت بعيد كأنها تنادي به السماء لترسل المنايا الطارقة، أو لتستقبل الأرواح المفارقة، أو كأنه نشيد فخم تفتخر به الأرض على الرعد والصاعقة، وهي القارعة

وما أدراك ما القارعة، أما يومها فيوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وهو إن لم يكن يوم النفخ في الصور. فإنه يوم تحصيل ما في الصدور، وإن لم يكن يوم يبعثر من في القبور فإنه يوم يبعثر الناس في القبور. وهو المدفع حسبه قوة أنه من الحديد، وحسب ما يحويه قول الله عز وجل فيه بأس شديد، وحسبه رعباً أنه شكل عصري من عذاب الخف القديم أعده الله لهذا الإنسان الجديد، فكم من حصن منيع إعتزبه أهله اعتصاماً، فتركهم فيه تراباً وعظاماً، وكم من قلعة شامخة اغتر الجند بقواها، فدمدم عليهم بذنبهم فسواها. وأما الرصاص فهو من سماء الموت حب غمامة، وله صفير كأنه ترنم الشيطان ببعض أنغامه، ولو أن عاصفة كنست أرض الجحيم لما شوت الوجوه بأشد من ناره. ولا حملت من من هناك إلا ما تحسب هذا الرصاص من حصاره وغباره، يثور كما تثور الأعاصير، ويندفع كما تندفع المقادير، ويقع على الأجسام بالأجل أو يطير، ويتناثر كأن في السماء نجماً تفتت فسقط، أو كأن قطعة ذابت من الشمس فألقت على وجوه الناس هذه النقط، أو هو فوج من ذباب النار، هبط إلى هذه الدار، فلا هم له إلا الجلود وإنضاجها بلذعه، والعيون وإخراجها بنزعه، والعروق واستخلاصها، والدماء وامتصاصها، والأرواح بعد ذلك واقتناصها. وكأنه زفرات غير أنها لا تخرج من الصدر بل تنزل فيه، ولولا أنها تشويه ولا تشفيه، وهو أوقع في الرؤوس من الأوهام، وأنفذ في الأغراض من مكائد الأفهام، وأحر على الأكباد من كل ما يضرم غضب الجبار المغيظ، وما هو إلا العذاب الرفيع إن كان المدفع هو العذاب الغليظ. . . وهناك من الروع ما لا يحصيه الوصف ولا يحصله، وإن عرفت آلة التصوير كيف تجمله فليس يعرف القلم كيف يفصله، ولعمري لو كان البحر الأسود في المحبرة، لما بلغ في وصف هذه المقبرة، غير أنها الحرب التي ابتدعها العلم لهلاك الإنسان، والقوة التي رزقها العقل فكانت بلاء على الأبدان. قوة المعجزات التي أركبت هذه الذبابة الإنسان على متن الغمام، وطوت لها من السماء بين جناحي النور والظلام، فإذا سمت الطيارةخفض لها السحاب جناح الذل، وأقبلت الملائكة تسأل ربها ما هذا الجزء من العالم بل ما هذا الكل، وما هذه الجرادة التي رأسها في ظهرها، وسرها في جهرها، بل ما هذه الحياة الأرضية

التي عرجت في السماء فخرجت من حدود دهرها، وماذا العقل الإنساني الذي لا يوزع جأشه، والذي يرفعه إلى السماء ارتعاشه، وهو مع ذلك يندفع على أهله بالويل اندفاع السيل، ويطلع نصفه كالبور على الأرض ليطلع نصفه الآخر كالليل؟ وهي الحرب العامة كأنها ثورة الدهر وقد ضجر من هذا العالم وطغيانه، ومل من سماجة إنسانه، واشتاق إلى عصر حيوانه، فزفر زفرةً أيقظت الموت وكان نائماً، وتركت هذا الإنسان من الفزع لجنبه أو قاعداً أو قائماً، واستنزلت من القضاء ما كان في علم الله غيباً، واشتعل من هولها رأس الأرض ببياض السيوف شيباً، وجعلت من البيوت قبوراً لأهلها، وساوت في معايش الناس بين صعبها وسهلها، وأظهرت لعقول العلماء أن أكثر علمها من فنون جهلها. . . فالأرض في بلاء منتشر لا يعرف له حجم، والشعوب في ظلام من اليأس ملتهب النجم، والدول في عصر كليل الشياطين كله رجم. .! تلك هي الحروب القائمة اليوم وليكن كما ترى خيال النار في الماء، أما الحقيقة فكل حرف منها جيش وكل كلمة أمة، ووراء ذلك معنى رائع هو استجماع الحياة الأرضية لمقابلة الموت. ولو أن لهذا الكون مرضاً يعتريه كما نعتري الناس أمراضهم لقلت إن شق الأرض قد ضرب بالفالج فأصبح شقها الآخر لا يكاد يجر ظله حول الشمس لأن الحركة مقسومة بينه وبين ذلك النصف الميت، فقد اشتبكت العلائق بين دول الأرض جميعاً إذ لا تعرف دولة بين الناس ترعى شعباً من البهائم، ولما بدأ الإنسان يعرف نفسه في عصر العلم والمدنية عرف أخاه لأن أكثر حقيقته الإنسانية فيه ومن ثم اتصل به اتصال اليد بأختها في المعاونة على ما يسرت له كلتاهما، وجمع العلم بين هذه الأمم لأنه لا ينتسب لواحدة منها وليس له في الأرض خال ولا عم ولا يعرف شيء يقول للعلم يا بني ويقول له العلم يا أبت إلا التاريخ الإنساني. ولهذا سفر بين أمم الأرض كل من يخرج من رأس الإنسان وما ينتج من يده واتصل ذلك واستفاض حتى كأنما دارت الأرض دورة جديدة من داخلها فما إن يقع الإضطراب في ناحية منها إلا دخلها من الأثر في سائر نواحيها من هزة ترجف إلى زلزلة تهدم إلى الخسف الذي يجعل عاليها سافلها. وإني باسط لك شيئاً من الرأي في كلمات قليلة ولكنها كالمعركة الأخيرة التي يحق بها

النصر فتكون هي تاريخ الحياة ولا يكون ما سبقها إلا تاريخاً للموت. ألا فلتعلم أنه لو كان لحوادث الدهر منذ نشأ الدهر تاريخ صحيح يصف لنا ما كان سبباً في كل حادثة وما صارت كل حادثة سبباً فيه لأثبت يقيناً أن ليس في الأرض شيء من خير أو شر غير ما يلزم لبناء هذا التاريخ الأرضي على الوجه الذي يتفق مع بناء الإنسان، والتاريخ يطرد حيناً ثم يعطف ههنا وههنا في مجراه من الغيب فلا يتحول إلا انشقت له ناحية من العالم. فإن خربت دولة أو سقطت أمة فما هي بصاحبة الدهر كله وقد كان لها قسمها منه ثم عاد الدهر يطلب قسمه منها. ولن يجدد البناء القديم حتى يكون الهدم أول العمل في تجديده. فالحرب شر لا بد منه لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية وهي بذلك سبب من أسباب استمراره، وكل شر لا بد منه فهو خير لا غنى عنه. وهل يبتغي الإنسان أن تضرب العصور والدول كما تضرب الدنابير والدراهم من معدن معروف على وجه معروف ولغاية معروفة! وإذا لم يكن لنا مستقبل التاريخ وكنا في عمر محدود فما نحن والرأي في بناء هذا المستقبل، وكيف نقدم لله آلات البناء ثم نحكم الشرط أن لا يكون في هذه الآلات ما يحتفر أو يكسر أو يرض! أنما يجعل للحرب ذلك الوصف الذي يطير لها في كل أرض صوتاً بالذم والسوء أنها لا تأتي إلا بغتةً ولا تطبق إلا في غفلات العيش وأنها تثور في بياض الأمن حمراء من لون الموت وتطلع في خطب النعمة سوداء من لون القحط وتنبثق بالشر مأموناً وتصب المحنة على من لا يطيقها ثم لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تلف من جانبي الحياة لفاً، وهي في كل ذلك الليلة المكشوفة التي تشتهرها الأحاديث وتضرب فيها الألسنة وتسيل عليها الأوهام بما في طباع الناس من طبقات الأخلاق ضعفاً وشدة وخوفاً وطمعاً وبخلاً وكرماً وحذراً واندفاعاً بحيث تصبح وكأنما ترتمي على رأس كل إنسان بالموت أو بالخوف من الموت أو بالخبر عن الموت أو بما يشبه الموت أو بما يكون الموت خيراً منه. وإلا فكم يترضرض الناس كل يوم وكم يجدون من صنوف الدمار، في الأعمار، ومن ضروب الأرزاء في الأرزاق، ما لو جمع بعضه إلى بعض في نسق واحد لطم على هذه الحروب كلها ولا ظهر لك أن في السلم ما هو شر من الحرب وإن لم يصرخ به صوت الموت.

وما البغي والظلم والكيد والفتنة والإستبداد ونحوها مما يشمل أكثر وسائل الحياة الإنسانية إلا ضروب من القتل الخفي وربما عد الموت في بعضها راحة من الموت. . ولكن ذهب باثمها في اصطلاح الناس أنها خطط موضوعة للمغالبة على الحياة وإنها لا تنالهم إلا فرداً فرداً، وكأن بطل الأمم غير باطل الأفراد لأن الإجتماع قضى منذ أول العهد به أن تكون الأمة مظهر الشرع وأن يكون الفرد مظهر العقاب. ولكن ليت شعري لم يكون الفرد كذلك من الأمة ولا تكون الأمة كذلك من أمة غيرها! فالحرب هي عقاب الجماعات وهي كذلك ضرورة اجتماعية ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمة واجدة في تركيب مستحيل لا يتهيأ معه أبد الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها، ولعمري أن ذلك التركيب الإجتماعي الذي يخلو من الحروب لزهد الناس في جنة الله ولا يدع للأديان محلاً على الأرض، يحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها فما هو إلا خيال خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية وما أرى الحرب إلا البرهان الذي تقيمه الطبيعة أحياناً على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الإنساني أن يتوهمه حقيقة. وإذا كان الله لم يخلق إنساناً من النور فلا تظلم نفسه ولا من الثلج فلا يحمى دمه ولا من الصخر فلا يهن كاهله ولا من الحق فلا يحيد على غيره ولا من الرضى فلا يطمع في سواه ولا من السكون فلا يتحرك في نزاع، فكيف لعمري يخلق بعض الكتاب والفلاسفة هذا الإنسان الجديد من عناصر السلم وحدها؟ إلا أن الإنسان لا يولد ساكناً ولا نظيفاً وإنما يخرج من بطن أمه في ثورة دموية تتفجر من حوله ههنا وههنا وما أرى الحرب أكثر ما تكون إلا ولادة للتاريخ على هذا الأسلوب فكأن من التاريخ ما يولد على أسلوب الأحياء في ثورة من الدم ومنه ما يوجد على أسلوب النبات في تحول ساكن غير منظور. والحركات المجهولة في نظام الأرض كثيرة بعضها يجري على الطبيعة وبعضها يجري على الإنسان، فكما يدك الجبل وتخسف الأرض ويطغي الماء وتثور العواصف وتنفجر الباراكين يجري على الإنسان من مثل ذلك في القحط والوباء والحروب وغيرها، لأن الإنسان في الحقيقة هو الطبيعة الرفيعة وما القوة المركبة فيه التي تخرج من مجموع غرائزه إلا تهيئة حربية في نفسه، فلولا أن هذا الإنسان مهيأ للحروب بأدواتها الطبيعية

وأن هذه الأدوات هي كذلك من أسباب بقاءه اللازمة له لما قامت في الأرض حرب أبداً، ولو أبعدنا في مطارح الفكر ونظرنا من وراء النفوس الإنسانية إلى ميادين الحروب لرأينا أن الحرب التي تقوم بين الأحياء إنما هي حروب قائمة بين مذاهب الحياة. وكما يجتمع العلماء وأهل السياسة لتنقيح الأنظمة والقوانين تجتمع الأمم المتحاربة لتنقيح الطباع والعادات وما أعجب أن يكون القتل تنقيحاً في قانون الحياة. . . فلا تنظر من الحروب إلا هؤلاء المساكين والمتوجعين والمحزونين فذلك كله إلى نهاية ولا يبقى منه على الأرض شيء قل أو كثر، ولا أحمق ممن ينظر ساعة الهدم إلى آثار الهدم ولا يعلم أن ذلك سبب لما بعده وأنه إذا لم يهلك يوم في سبيل الغد هلك المستقبل كله. ولكن متى تكون الحرب حقاً ومتى تكون باطلاً فهذا ما لا سبيل إلى وجه الرأي فيه وربما كان الجواب عليه سؤالاً آخر، وهو متى تعرض في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها. ومتى تكون الحركة العنيفة التي يتحول بها التاريخ الإنساني كلما وجب أن ينحرف ليتبع مجراه من الغيب؟ أليس ذلك هو السبب في أن العقل أحياناً يكون أول من ينهزم في الحرب كما نراه اليوم فيصبح الفلاسفة والعلماء والمتفننون ولاهم لهم إلا إدارة حركة الموت هجوماً ودفاعاً وترى الصلوات والأدعية تتصاعد إلى الله وفيها ريح الدم والنار كأنها قنابل صنعت من العواصف؟ وقد يقول بعضهم أن في الحرب إسرافاً اجتماعياً بما تأخذ من الموتى وما تترك من المرضى ولكن كم من الإسراف الطبيعي والأخلاق في بقاء الناس موفورين بعلومهم وفنونهم وشهواتهم ونعمهم ومصائبهم ونحوها مما يؤدي إلى انطواء هذا المجتمع الإنساني في الأدمغة والقلوب بما تبعث عليه تكاليف الحياة الإجتماعية السامية التي تحاول أن تجعل الإنسان حيواناً على شكل مخترع. .؟ فلا ترين هذه الوحشية التي تعتري الناس في حروبهم إلا سبباً في رجوعهم بعد ذلك إلى الإنسانية الخالصة التي أفسدوها بحضارتهم وضربوا عليها الحدود من مصطلحات التمدن ومن أصول المعاملة فأصبح الإنسان منهم يقضي العمر وهو يتعلم كيف يصير إنساناً. .! هو أنا ففي خاصة نفسي أكره الحرب لأني أراها تصور بكل ألوان الهلاك والخراب فكرة العدم المبهمة على قطعة من أديم الأرض، وأمقتها لأنها تلوث الحياة بدماء الرجال ثم لا

تغسلها إلا بدموع النساء والأطفال، وأبغضها لأنها تدفن تاريخها الصحيح للمستقبل ولا تترك للحاضر إلا تاريخها المشوه في أعضاء الجرحى، ولكن البغض يا بني لا ينفي الحكم مما تبغضه وما سرور نصف الناس إلا بما يكره النصف الآخر. وأكبر شخص اجتماعي وهو الأمة كأصغر شخص اجتماعي وهو الطفل كلاهما يبكي ويتألم حين يضرب لتأديبه.

حديقة أبيقور

حديقة أبيقور نعود في هذا العدد فنقتطف ثماراً حلوة من حديقة أبيقور للكاتب الذائع الذكر أناتول فرانس. فصل الجهل لا أقول لكم أن الجهل هو الضرورية الأولى للسعادة بل أقول كذلك أنه شيء لا بد منه للوجود، لأننا لو عرفنا كل شيء لما استطعنا أن نتحمل الحياة ساعة واحدة، والباعث على احتمالنا الحياة هو مجرد أكذوبة. والحياة لا تغتذي الأمن عصارة الوهم. فلو أننا ظفرنا بالحقيقة، وامتلكنا علم السماء، لهوت الحقيقة من بين أيدينا، وإذن لهبطت على العالم فدمرته تدميراً، وتقلص الكون أسرع من تقلص الظل، ولو سقط العلم الإلهي على الأرض لجعلها رماداً يذروه لريح في كل مكان. لذة الألم كنت أقرأ منذ أيام كتاباً لشاعر فيلسوف يريد أن يصور مجتمعاً من الناس خلوا من الفرح، متخلصاً من مادة الحزن، بعيداً عن عنصر الألم والقلق، ولكن كيف نحتمل أن نخرج من هذا العالم الذي ترى فيه الناس يتقاتلون ويحبون ويتألمون، فنحب حبهم، ونرضى بالألم معهم - هذا هو الفرح الحقيقي، وتلك هي اللذة الصادقة، لأن اللذة لا تزال في صميم الألم، كما يكون بلسم الجراح في جوف الشجرة الفينانة الكريمة. إن قراءتي هذا الكتاب قد جعلتني أرتضي هذه الحياة الحزينة السوداء الأليمة. وأغرتني على الرضى بالناس والشعور بالرحمة لهم، بل قد أحسن إلي هذا الكتاب إذ حببني إلى الحقيقة وحضني من الوهم، فقد دلنا من مجتمعه الخالي من الشرور والآلام على أن أهله السعداء لا يشبهوننا وإنه من الحماقة الكبرى أن نفارق أرديتنا لندخل في أرديتهم، ونخف من حياتنا لنستبدلها بحياتهم. لعمري ما أسوأها من سعادة،. . إننا إذا تجردنا من المشاعر تجردنا من الفن، وإذن كيف يكون من أمرهم. أنهم إذ ذاك لا يتذوقون الشعر الرهيب الفخم الرائع الذي يثير الخوف والبغض والحب، ولا الشعر الفرح البهيج الذي يضحك من شرور الناس، ويهزأ بنقائصهم، ويداعب آلامهم.

إن أهل ذلك المجتمع الخيالي عمى البصائر عن جلال هذا الشعر الذي لا يزال المادة المقدسة في الأرض، والعناصر الإلهي في العالم، وهذا المجتمع ليس لديه فرجيل وصحابة، وإنما لديه كل مخترعات العالم ومبتكراته، ولكن من يدري لعل بيتاً واحداً جميلاً من الشعر قد أحسن إلى العالم أكثر من كل علم المعادن ومستخرجاته. يا له من تقدم. . . ويا لها من سعادة. هذا المجتمع المؤلف من المهندسين والمخترعين لا يحمل شيئاً من العواطف، ولا الشعر، ولا الحب، وا أسفاه. . . وكيف يعرفون الحب، إذا كانوا في ظلال السعادة يعيشون. إن الحب لا يزهر ولا ينمو إلا في كنف الألم والحزن. ثم ما هي أقسام العشاق والمحبين ونجواهم لحبائبهم إلا أن يقال عنها صرخات حزن، وصيحات عذاب فلقد صرخ شاعر يوماً وهو في ثورة من ثورات الحب وهو إلى جانب حبيبته لو كان في مكاني هذا إله من الآلهة لأصبح شقياً حزيناً معذباً. إن الآلهة يا فاتنتي لا تتألم، ولا تستطيع أن تموت لأجلك. .!. إذن فمغفرة للحزن، ورضي بالألم، وصفحاً عن العذاب ولنؤمن بأنه من المستحيل أن تكون هناك سعادة هي أكبر من التي نملكها في هذه الحياة الإنسانية، الحلوة المريرة، الحسناء الدميمة، الخيالية الحقيقية، هذه الحياة التي تحوي كل شيء، وتضم كل الفروق والمتناقضات - هذه هي حديقتنا، ففيها يجب أن نعيش، وفيهل يجب أن نزرع ونحرث!

مصر

مصر منذ مائة وأربعة وخمسين عاماً قطعة مجهولة من التاريخ ظفرنا في هذه الأيام بكتاب غريب نادر الوجود، يربى عمره على المائة والعشرين عاماً، إذ كان طبعه عام 1792 أي يوم جن جنون الثورة الفرنسية واحتدمت نارها، والكتاب مترجم إلى الإنكليزية عن الألمانية وهو غريب الأسلوب، قديم التراكيب، تخالف لهجته ونطق حروفه اللغة الإنكليزية الحديثة، ولعل ذلك لأن اللغة الإنكليزية قد تنقلت في أدوار عدة وتطورت أطواراً شتى، ومشت في قوانين الطبيعة التي تأبى إلا التجديد، وليس تقدم الكتاب في العمر، وتراخيه في السن، هو الذي استأثر بدهشتنا، وامتلك عجبنا، ولكنا كنا بموضوعه أشد دهشةً، وأكثر عجباً، وذلك أن الكتاب يدور حول سياحة غريبة خطيرة قامت بها بعثة علمية في عدة أنحاء من الشرق، فجاءت إلى مصر عام 1761 من الميلاد أي منذ 154 سنة. ثم واصلت المسير إلى جزيرة العرب حتى بلغت الهند، وتفصيل الخبر أن فريدريك الخامس، ملك الدانيمارك في ذلك العصر - وكان للدانيمارك في العصور الماضية شأن وأي شأن - أنفذ طائفة من العلماء المقربين إليه، والسائحين المشهورين في ذلك العهد، واختار لهم رجلاً من كبار أهل الرياضيات والعلوم الهندسية لمرافقتهم وإعانتهم على استكشاف تلك البلاد، ومسح أراضيها، وتعرف طبائع ترتبها وجوهاً، وعادات أهلها وهذا الرياضي هو العالم الألماني نيبور جاء به من ألمانيا لهذا الغرض خاصة، فبدأت الرحلة عام 1716 من كوبنهاجن. عاصمة الدانيمارك فانحدرت إلى مرسيليا، ثم عرجت على القسطنطينية فأقامت فيها أياماً واجتازت البحر الأبيض إلى الإسكندرية. وقد آثرنا أن ننقل طرفاً من هذا الكتاب الغريب، وهو من قلم نيبور نفسه، ولعله كان على شيء كثير من الأدب والبحث ودقة الملاحظة والإستنساج، لأننا نشتم من مؤلفه روحاً أدبية خفيفة الظل، ولعل الذي أعانه على تفهم غرائب البلدان التي احتوته في سفرته. هو أنه قبل قيام البعثة، توفر على تعلم العربية وإتقان الكلام بها، واعرف ما في أمره أنه هو الفرد الوحيد الذي واصل الرحلة إلى بومباي في الهند، ولقى في سبيل ذلك الأهوال والمخاوف وعانى التهلكات والمخاطر لأن افراد البعثة جميعاً قضوا في الطريق، عندما اشتملت عليهم

بلاد العرب بحرها ووقدة شمسها وغرابة جوها، فلم يبق منهم حي غير نيبور هذا، وليس ذلك إلا لأنه عرف كيف يتحصن من الجو، ويأخذ لنفسه الحذر من أثر المناخ الغريب عن مناخه، إذ كان يرتدي اللباس العربي، ويتخذ الأثواب الملائمة لزي البلاد التي كان ينزل بها. وفي هذا الكتاب شذوذ من التاريخ المعروف، والوصف الجغرافي العادي الذي نعرفه نحن أكثر من نيبور، ومن ثم قد آثرنا أن نمر بذلك مراً، ونتحاشى نقله، ونأخذ في كل ما يفيد القارئ، ويبعث على الفكاهة والغرابة. بعد أن وصف الإسكندرية وآثارها القديمة المعروفة، استطرد يصف كنيسة الأقباط فقال وللأقباط كنيسة مقامة للقديس مرقس، وفيها قبره، ولكنها لا تفتح ولا تدخل، لأن بعض قساوسة الروم حاولوا أن يسلبوا رأس هذا القديس، وإن كنت أعلم أن أهل فينيسيا البندقية يدعون أن لديهم هذا الرأس المقدس. ولا أعرف أي الخبرين أصح وأقبل للتصديق، وقساوسة الكاثوليك يفخرون دائماً بأنهم استطاعوا أن يخدعوا العرب والأقباط بأن قطعوا الرأس وشحنوه في طرد سميك، ونجحوا في تسفيره بصفة طرد يحوي لحم خنزير. لأنهم عرفوا أنهم عندما يصفونه بأنه لحم خنزير لا يستطيع أن تدنوا منه الضباط الأتراك الموظفون في الجمرك، والأتراك يحرمون تصدير الجثث أو الموميات إلى الخارج، ولهذا كان من الصعب أن تنقل الجثث القديمة التي يعثر بها في أرض مصر، ولكن كانت الجمارك وشؤونها الكبرى إذ ذاك في أيدي اليهود، وبذلك استطعنا أن ننقل مومياء وجدناها في الإسكندرية على ظهر سفينة إيطالية، بعد أن رشونا عمال الجمارك، وحاولنا ترحيلها إلى أوروبا، ولكننا لم نلبث أن أعدناها على الرغم منا، لأن جميع البحارة الطليان في تلك السفينة هددونا بتركهم السفينة، إذا لم تقذف هذه المومياء بعيداً، إذ توقعوا أنها ستجر الشقاء عليهم. وقد كانت الإسكندرية تستطيع أن تكون أحسن حالاً من حالها الحاضرة لو لم تنتابها النكبات والعوائق من كل سبيل، لأن أهل الإسكندرية يحملون استعداداً طبيعياً كبيراً للتجارة، ولكن تأثير الحكومة يحول دون ذلك، ولم ألتق في أسفاري ببلد أهله أعرف باللغات الأوروبية من أهل الإسكندرية بل إنهم ليحسنون التكلم بلغات شمال أوروبا كذلك،

مثل الألمانية والدانيماركية والسلافية وغيرها، وكثيرون من الإسكندريين يشتغلون تراجمة، واللغة الأجنبية شائعة على ألسنة الإسكندريين هي الطليانية. ولكن جهل المسلمين فيها وبلاهتهم عاقتني عن كثير من أبحاثي وملاحظاتي، فقد حدث أن تاجراً تركياً شهدني وأنا أوجه أداة المساحة التي كانت معي ناحية المدينة، فثار في نفسه الفضول، ودنا فنظر إلي من خلال الزجاجة وإذ رأى البرج من خلالها عاليه سافله، تملكه الخوف، وذهبت نفسه شعاعاً من الفزع، فانطلق هارباً، وراح ينشر في المدينة خبراً غريباً مؤداه أنني أريد أن أقلب المدينة، وانتهى الأمر إلى الحاكم، ومنذ ذلك اليوم امتنع خادمي التركي عن المشي معي. واتفق مرة أنني وأنا في إحدى قرى الدلتا كنت أقيس بعض الزوايا وكان أحد الفلاحين واقفاً عن كثب مني فردت أن أمتحن شجاعته فجعلته ينظر من خلال الزجاجة، فراعه أن يرى قريته المحبوبة عاليها سافلها، فاشتدت رعدته، وزاد خوفه عندما أشرت إلى الخادم أن يقول له أن الحكومة قد غضبت على هذه القرية فأرادت أن تدمرها تدميراً، وقد جئت لهذا الغرض، ففزع الرجل، وتوسل إلي أن أنتظر بضع دقائق فقط حتى يستطيع أن ينقذ زوجته وبقرته، وإذ ذاك أفلت تاركاً ساقيه للريح يريد بيته قبل أن يخر عليه السقف وعدت أنا ثانية إلى الزورق الذي جئت فيه. وبعد أن أقامت الجماعة بالإسكندرية قليلاً سافرت إلى رشيد وقد وصفها نيبور وصفاً يكاد يجعل رشيد اليوم نجعاً صغيراً بجانب رشيد الأمس، إذ كانت في ذلك العهد ثغراً من أكبر ثغور البلاد المصرية - قال نيبور وقد حدث أن فرداً منا يسمى فورسكال، أبى إلا أن يسافر إلي عن طريق البر، وكان المسافر عرضة لسطوا العرب الأفاقين المتجولين في ذلك الإقليم، وقد كان من هذه المخاطرة أن جاء زميلنا وليس عليه إلا بنطلونه فقط، لأن العرب باغتته في الطريق فسلبته كل ما يملكه، ولكن هزتها أريحية الكرم، فأبقت له بنطلونه. وانحدرت البعثة بعد ذلك إلى القاهرة، فبعد أن وصف كثيراً من آثارها وأحوالها وموقعها وقلعتها قصر الباشا والإنكشارية قال كثيراً ما يخطئ السائحون في تقدير عدد سكان المدن في الشرق، وكذلك القاهرة لأن ضيق شوارعها وطرقها تدعو إلى التوهم أنها آهلة بالسكان مزدحمة بالأهلين، وفي عدة من الأحياء دروب ضيقة طويلة لا تنتهي إلى شارع. ولا

تحور إلى غاية ولا ترجع إلى طريق معين، وسكان هذه الأحياء يستطيعون أن يتحدثوا خلف بيوتهم، ولكنهم يمشون ميلاً كاملاً قبل أن يلتقوا، وهذه الحواري يسكنها الصناع، وهم يتركونها نهاراً إلى مصانعهم في الشوارع الكبرى ويغادرون نسائهم وأطفالهم في البيوت، ولهذا يندهش أهل الحارة وينزعجون عندما يرون رجلاً يمر بين بيوتهم ويظنونه قد ضل طريقه ويجتمعون حوله يمنعونه من المرور. والقاهرة حافلة بالبرك وتكثر عند فيضان النيل، فتكون بساتين ناضرة، وفيها يسكن أكابر البلد، وليست قصور الكبراء والذوات في شيء من الفخار والرواء وإنما تمتاز بجدرانها العالية، وحيطانها التي تخفي ما ورائها. يتلي - ومزايا الكتاب ستتجلى فيما يأتي

صور هزلية

صور هزلية من أخلاق الناس عمتي جئت أصف لكم الآن غريبة من غرائب الدنيا لعلها تعد الثامنة بعد العجائب السبع، ولكن تمتاز عنها جميعاً بأنها عجيبة حية متنقلة، تأكل وتشرب، وأما الأهرام وأخواتها فعجائب صامتة ميتة جامدة، لا تأكل وإنما تحطم أسنان الزمن عندما يريد أن يعضها، ولا تشرب اللهم إلا من أفواه السماء، ولكنه لا يدخل في فمها، وإنما يدهن ظاهر جسمها دهناً، ولعل الملك المتولي شؤون الرعد في السماء، والقربي الخازن للماء المقدس الذي تغتسل منه الملائكة، عندما يصدر إليه الأمر بترك حبال القرب ليهبط ماؤها على أهل الأرض، يكتب على القرب الواقعة على الأهرام وأمثالها يستعمل من الظاهر!. وأنا أخشى الآن أن يقع هذا العدد في يد كاتب من كتبة الفنادق فيدلي بأمر هذه العجيبة إلى النزلاء والسائحين والمنحدرين من العالم الجديد للفرجة فلا نلبث أن نرى بيتنا متحفاً من المتاحف، وأخشى أيضاً أن تصدق الحكومة فتكبس بيتنا بحثاً عن هذه الغريبة الطريفة، لكي تضمها إلى آثار مصر المعروفة. إن عمتي، أو العجيبة الثامنة، تعيش الآن، على التقدير الجغرافي في المنطقة المعتدلة الشمالية، ولكنك لو وضعت مقياس فارنهايت عند قلبها، تجمد الزئبق في الحال لأن لها فؤاداً جليدياً مقتطعاً من ثلوج جرينلاند أو الأرض الخضراء فظاهرها يشاركنا في حرارة المنطقة المعتدلة ولكن باطنها مع الأسكيمو في برودة القطب، ولهذا أعد نفسي أكبر من الكبتن سكوت، وأعظم من الكولونل بيري، لأنني استطعت أن أصل إلى فؤادها، وأغرب ما في سياحتي القطبية أنني استطعت أن أتحمل العيش في جو بارد مثل هذا، لأنها تأبى دائماً إلا أن أعيش في قلبها!! وأشد ما تظهر برودة فؤادها في معاملتها للأطفال، ولا أظن أن أجن أطفال الدنيا كلها يستطع أن يبقى على جنونه ساعة واحدة إذا جئت به إليها، وهي تكلم الرضيع الذي لم يحل الحول على تاريخ هبوطه إلى العالم كما تكلم رجلاً في الأربعين تهديداً ووعيداً وإنذاراً، وكثيراً ما سمعتها تخاطب طفلة لا تتجاوز سنها الأشهر في وجوب النظافة بكلمات

وعبارات يدق علي أن افهم نصفها، ولا يكون من الطفلة إذ ذاك إلا الصمت من الدهشة والذهول، ولكنها تسمي هذا الصمت من الأطفال إدراكاً وفهماً، فتنظر إلينا وعلى وجهها كل هلائم الإنتصار والإبتهاج، ولا أظن أن أحداً منا نجا وهو في طفولته من أسلحتها وهي الششم والفلفل والويل للطفل الذي يمرض في بيتنا، إذا لم ينته في توه وساعته عن مرضه، ويفارق الفراش في يومه، وإلا رأى من أساليب مداواتها كل ضروب القسوة والعذاب، وكثيراً ما يخفي الأطفال مرضهم، ويذهبون إلى المدرسة في الصباح، وهم أحوج إلى النوم في السرير خشيةً من البعبع وأنا لا أدري لماذا لا تأخذها وزارة المعارف فتجعلها مفتشة في الكتاتيب، فننقذ سيدنا من المتاعب التي يعانيها من أولاد كتابه، وكثيراً ما فكرت في أن أفتح لها مدرسة، وأقيمها معلماً ولكني خشيت من قضايا الجنح التي قد يرفعها علينا بعض الآباء من جراء قسوتها في تربية أولادهم، ولعل الباعث الأكبر على هذا النظام الإسبارطي في التعليم هو أنه لا بلد لها ولا بنين، وقد رزقت مع ذلك طفلاً منذ ثلاثين عاماً أو تزيد، ولكنه أحسن إلى نفسه بالموت قبل عمره، لأنه تنبأ بلذة الشطة وآلام الششم والقطرة، وهي منذ وفاة طفلها تعتقد أن لها آثاراً عن كل طفل، وترة عند كل والدة، ولعلها تود لو يخرج الناس كباراً من بطون أماتهم حتى ينسى العالم لفظة أطفال فتزول من ذاكرتها ذكرى طفلها. وهي أشد الناس كراهية للحب وتندهش كل الدهشة أن ترى في العالم شيئاً يسمى غناء وموسيقى وخمراً. وأغرب ما أقصه من أمر كراهيتها للحب إنا نسكن في شارع شعري ساكن هو خير ما يرتاده العاشقون. وكثيراً ما يختلف إليه الشباب وفتياتهم ليذوقوا من ثمرة الحب. وإنها لتبصر بهم يمشون في رفق وهدوء فلا تني تأخذ في اللقاء محاضرة طويلة تريد بها أن تثبت أن الحب لا يوجد في الدنيا وتحشد في سبيل ذلك حججاً وبراهين وتختلق حوادث وقططاً وتلفق كلمات وأموراً لا يستطيع أن يقف أمامها الفرد دي موسيه رئيس نقابة العشاق في العالم كله. وعمتي تدعي الخبرة الكبرى بالطب وترجع نسبها إلى أبقراط، ثم تقول أن الله لم يخلق إلى الآن طبيباً يستطيع الإنسان أن يسلم إليه حياته ولو في أتفه الأمراض. ولا تتكلم عن الأطباء إلا كما تتكلم عن القتلة والجزارين وقطاع الطرق وهي لا تضن على الناس

بنصائحها الطبية وتتنقل في منازل أقاربنا وأصدقائنا مدلية بالوصفات واللزقات والدهانات والمراهم وكل ما في جعبتها من أسلحة الموت، ثم تحرض الناس على أن لا يسمحوا لطبيب أن يدخل دورها وأن يكتفوا باتباع آرائها في علاج مرضاهم ولكن المرض لا يلبث أن يشتد بالعليل بفضل أدويتها ولا يجد إذ ذاك أهله مناصاً من استدعاء الطبيب وتكون عمتي بذلك قد أضافت عشر فوزيتات إلى حسابه قبل مجيئه. وأنا أنصح للأطباء أن يرشوها بمقدار من المئة من مجموع المبالغ التي يكسبونها بواسطتها، ولكني أخشى أن يزداد بهذه الطريقة عدد الوفيات في السنة فيكسب معهم الحانوتية والفقهاء والمكفنون والتربية وزملاؤهم. وهي أجهل ما تكون بالقانون، ومع ذلك تدعي أنها لو امتنحت في الليسانس لكانت الأولى في الإمتحان، وهي كثيراً ما تقسم أن سعد زغلول لا يكسب منها قضية لو كانت هي التي ترافع إزاءه ولكنها بعد هذا أشد الناس خوفاً وفزعاً من مواقف القضاء والتحقيق ولشد ما ترتعد فرائص هذه الأستاذة القانونية لأبسط سؤال يلقى إليها في ساعة المحكمة لو دعيت إلى الشهادة وقد حدث أن وقعت سرقة في بيتنا إذ ضاع لأحد الساكنين في طابق من طباق منزلنا ثوب فألقى الشبهة على الخادم ورفع الأمر إلى الشرطة فأنفذت جاويشاً لتحقيق القضية فجاء الرجل وسألها شهادتها مع بقية الشهود فكان من تلعثمها ورعدتها واضطرابها ما خفت أن يظنه الجاويش دليلاً على أنها السارقة!!!

متفرقات

متفرقات دائرة المعارف الصينية كل شيء في الصين غريب، حتى دائرة المعارف، فإن في القسم الصيني من المتحف البريطاني كتاباً واحداً يشتمل على خمسة آلاف مجلد وثمانية وعشرين مجلداً، وهذا الكتاب الصيني العجيب الذي خرج من المطابع الصينية ابتاعته الحكومة الإنكليزية منذ أعوام بنحو من ألف وخمسمائة جنيه، ولا يوجد منه الآن إلا نسخ معدودات، والكتب دائرة معارف أدبية تحتوي آداب الصين منذ ثمانية وعشرين قرناً وابتدأت من عهد الإمبراطور كنغ هي الذي كان على عرش الصين من عام 1662 إلى عام 1722 وكان مولعاً بالأدب مفتوناً بالعلم، فرأى فيما رأى في أبحاثه ودراسته الأدب الصيني القديم أن شيئاً كثيراً من التحريف والفساد وقع في النسخ الحديثة الطبع، ففكر في أن يعيد طبع الأصل ويحفظ في مجلد واحد، فجمع كنغ هي طائفة من العلماء ليختاروا ويفحصوا القطع التي يراد إعادة طبعها واستعان بالمرسلين الجزويت على سبك حروف من النحاس لجمع هذه الكتب، فلبثت الجماعة في سبيل إخراج هذه الدائرة فأوصى خلفه بأن يعمل على إتمامه فأنفذ الإمبراطور الجديد وصاة سلفه، والكتاب مقسم إلى ستة أبواب، وكل باب منها يختص بفرع من فروع العلم. المتسولون المتنعمون لعل البلد الوحيد الذي فشى فيه المتسولون حتى أصبحوا طائفة يعتد بها في تعداد السكان، هو مملكة هولانده، ويظهر أن للمتوسلين في هذه المملكة تاريخاً وماضياً، لأن الحكومة اضطرت منذ عشرين سنة إلى وضع قوانين صارمة في معاملتهم وقد أفردت لهم مستعمرات لنفيهم إليها وتشغيلهم في زرع أرضها وحرثها، وهذه المستعمرات مجدبة، قاحلة، تطلب جهداً وتستلزم الدأب والعناء الشديد، ولكن وباء التسول قد أصبح الآن أشد خطراً وأكثر تفشياً منه منذ عشرين عاماً، فإن الحرب قد ساقت ألوفاً من التجار الألمان إلى المملكة الهولندية وجمعاً كبيراً من الزوار والهاربين واللاجئين، جاؤوا يهربون بأنفسهم من مآثم الحرب في مملكهم ومجازر القتال في ديارهم، فعلمت الأطفال صناعة الحاويوبيع أوراق اللعب الكوتشينا والرقص والغناء فاكتسب المتسولون من ذلك مئات من الجنيهات،

وأصبحت أسرة المتسول منهم تعيش الآن في أرغد نعمة وأحسن حال، حتى عادت الحكومة فسنت قانوناً جديداً يعد بموجبه إعطاء المتسول شيئاً من الحسنة مخالفة من المخالفات المعاقب عليها في المحاكم وأصبح يقبض الآن على المتسول والمتصدق معاً. ونحن نقول إن ما وقع في هولانده لا يكاد يختلف في شيء عما يقع الآن في مصر، فقد غصت الطرق بالمتسولين من الأطفال والفتيات والشيوخ والشباب وأصبح الإنسان لا يطيق الجلوس في قهوة أو منتزه، فهل يرضى الجمهور أن يذعن إلى قانون مثل هذا يغل يده عن إعطاء المتسولين وتشجيع البلادة والكسل ويمسكه عن الإفراط في القروش التي تخرج من جيبه لتجعل من المتسول رجلاً مثرياً من أصحاب الأموال، أم تتنازعه الرحمة الشرقية التي أكثر ما تكون شراً وويلاً وضراً فيأبى إلا أن يكون في الدنيا سائلون ومستجدون ويصبح السؤال صناعة من الصنائع الفنية الناجحة؟؟. جريدة شفوية إن الشرط الأول في الجريدة أن تكون مكتوبة ومطبوعة، وموزعة في الطرق لتأدية مطالب الباحثين عن الأنباء والمشغوفين بتتبع شؤون المدينة وأحداثها وأخبارها، وهذا هو المبدأ الذي سارت عليه جميع صحف الأرض، وأكن في الولايات المتحدة الأمريكية الآن صحيفة غير مطبوعة قد أغنت عن وجود الجرائد والصحف السيارة، وهذا النظام هو بواسطة التليفون، وذلك أن شركة التليفون توزع نشرة شفهية على جميع خطوطها للمشتركين وغير المشتركين. ففي ساعة معينة من النهار يفتح المركز الرئيسي للشركة جميع خطوط التليفون في المدينة من أقصاها إلى أقصاها ويستدعى المشتركين فيدلى إليهم بجميع الأخبار الجديدة الخاصة بالولاية والأنباء السياسية والشؤون الدولية وكل ما يهم السكان من أحداث العالم، وكذلك الوفيات في الولاية والأعراس والطلاق والمواليد والملاهي وأحوال الجو وما إلى ذلك، وبذلك عطلت شركة التليفون على الصحفيين، وجعلت من بنات التليفون سياسات كبيرات. الساعات الخطرة من النهار اكتشف منذ أيام عالم من كبار علماء الجراثيم الذين قضوا أكثر دهرهم في دراسة الجراثيم وكل ما يختص بعلم البكتريولوجيا. . إنه في الساعة التاسعة من الصبح وفي مثلها من

الليل يكون عدد الميكروبات المتطايرة في الهواء أكثر من أية ساعة أخرى من ساعات اليوم، وإن مقدار الميكروبات في الساعة الثالثة من الصباح والساعة الثالثة من المساء (بعد الظهر) أقل من أية ساعة أخرى وطريقة ذلك أنه أخذ عينات من الهواء في ساعات مختلفة من النهار وأجرى فحصها أدق الفحص، واستطاع بالدقة أن يعرف مقدار الميكروبات الموجودة في كل بوصة مكعبة منها، وسرميل الجراثيم إلى الساعة التاسعة في الصباح وحبها للساعة التاسعة من الليل هو حركة الناس في هاتين الساعتين إذ يبدأ القوم في الخروج من بيوتهم من الساعة السادسة إلى التاسعة ويعودون في مثلها من المساء إلى دورهم من أعمالهم أو يمرحون في الشوارع بحثاً عن اللهو والرياضة وترويح النفس. وقد لاحظ أنه لا تكاد الساعة السادسة من الصباح أو المساء حتى تبدأ في الجو أعراض تنبئ بحلول هجوم الميكروبات، ثم تأخذ كتائبها في الزيادة، والازدحام حتى تملأ الفضاء في الساعة التاسعة وفيها الكتيبة الصالحة، وفيها الشرادم الخطرة المخيفة ثم تأخذ بعد ذلك في الإختفاء والغروب حتى تكون الساعة الثالثة. القرائح الفياضة والقرائح الناضبة من الكتاب والمؤلفين كثيرون مقلون، لا يكاد الكاتب منهم ينتهي من السطر الثالث أو الخامس حتى يتصبب جبينه عرقاً، وتنضب قريحته، ولعله لا يعاود الكتابة إلا بعد حين، وكثيرون مثلهم يستغرقون وقتاً طويلاً في التأنق وإكراه المعاني على الحضور إلى أذهانهم والتجويد في انتقاء اللفظ الفخم والعبارة الرقيقة، وقد يرتحلون عن الدنيا ولم يستطيعوا أن يخرجوا للعالم غير كتاب واحد أو نصف كتاب، ولعل القراء يذكرون الآن كتاب (عيسى بن هشام) فهو على تفاهته لا يزال الجزء الأول، وسيمضي هذا القرن، وتتتابع مراحل المستقبل، ولا يزل على حاله الأولى من النقص، وكثيرون من كتاب هذا البلد يعدون في الأدباء الكبار والكتاب المعروفين، ولم يكتبوا في حياتهم أكثر من بضع صفحات، ومنهم من لا يعرف إلا بقطعة واحدة، لا يزال الحكم فيها كذلك متبايناً، ولعلها أقرب إلى السخف والركاكة وبرودة المعنى، وأغرب منه أن رجلاً يعده الملتفون حوله أديباً وهو لم يكتب إلا قطعة صغيرة تافهة منذ خمسة عشر عاماً، وهو يقرؤها الآن على الناس من ذاكرته ويتلوها غيباً كما يقوا العامة. على أن هناك كتاباً كثراً لا تستطيع أن تحصي عدد ما خرج

لهم من المقالات والموضوعات لأنها تربي إذا جمعت على المجلدات الضخمة، ولكنك لا تظفر منها جميعاً بأكثر من أسطر قلائل تستطيع أن تقول عنها لا بأس بها. ولكن ماذا تقول إذا علمت أن السير كونان دويل، الروائي الإنكليزي الطائر الذكر، بلغ من سرعته في الكتابة أنه وضع رواية تحتوي 1200 كلمة، في جلسة واحدة ولا يفارق مكتبه، وإن ستيفلسون، وهو من كبار الروائيين، وضع رواية كبيرة من روايته في سبعة أيام. وإن الكاتب الكبير هول كيل أتم أكبر كتاب له وهو حياة الشاعر كول ريدج في عشرين يوماً، أما الرجل الإيديالي المفكر المشهور هـ. ج. وويلز، فيكتب عشرة آلاف كلمة بين الصبح والعصر وإن مسز ميد أتمت عشرين ألف كلمة في يوم واحد ولكن أسرع من كل هؤلاء ولعله أشد كتاب الأرض فيضاً، وأطولهم نفساً في الكتابة هو ديماس الكبير. فقد لبث سنة كاملة يكتب في كل أسبوع مجلداً كاملاً.

باب تدبير الصحة

باب تدبير الصحة ينتشر الآن في القاهرة أنواع جمة من الحميات فتجد في الأطفال الحصبة والقرمزية والتهاب الغدة النكفية والحميات المتقطعة وفي غيرهم حمى تمكث 24 ساعة ليس هناك من الأطباء من يجرأ على تسميتها أو تشخيصها وحمى تمكث ثلاثة أيام وأخرى تمكث سبعة أيام وليس في الأطباء من يمكنه الجزم بحقيقتها اللهم إلا جماعة من المطلعين يعدونها من قبيل حمى الثلاثة الأيام التي تنتشر في الصين وحمى السبعة الأيام التي تنتشر في الهند وهكذا نحن إزاءها لا نقطع بشيء لأنا غير واثقين لأنها حميات وافدة لم ترها بلادنا غير هذا العام بهذه الكثرة غير أنه مع انتشار هذه الحميات الحميدة العاقبة دائماً ينتشر التيفود والتيفوس ولذا أريد أن أنبه إلى طرق الوقاية من كل هذه: (1) غسل الأيدي جيداً مرات متعددة في النهار وكلما سنحت الفرصة وعلى الأخص قبل الأكل وبعدة. (2) غلي ماء جيداً لاسيما إن كان مما ينقله السقاؤون. (3) غلي اللبن جيداً أيا كان مصدره. (4) غسل الفواكه في ماء مغلي وتقشيرها. (5) وضع اللحم والحمض في ماء مغلي مدة دقيقتين أو ثلاث دقائق. (6) غسل الصحون والأطباق في ماء مغلي مضاف إليه حمض كبريتيك بنسبة 3 إلى المائة. (7) غسل الشوك والسكاكين والملاعق في ماء مغلي مضاف إليه قليل من بوتسا الغسيل حتى لا تصدأ. (8) مسح الأرجل جيداً قبل دخول المنزل وترك الأحذية خارج محلات النوم والغداء. (9) لا تصافح إلا للضرورة. (10) لا تطل في عيادة المريض أو المصاب بالحمى. (11) لا تجلس في مجتمعات عمومية أو في القهوات ولا تشرب شيئاً يقدم لك لا تثق بالأيدي العاملة فيه. (12) لا تعامل باعة الشوارع. (13) لا تضع الثلج على الماء.

(14) احترس من أكل الجلاطا والدندرمة. (15) نبه أولادك لخطر البسبوسة والهريسة والجرانيطة وكل ما تلمسه أيدي الباعة والصناع. (16) قصر ملابسك حتى لا تلامس الأرض. (17) امنع السيدات منعاً قهرياً من الذهاب للمآتم. (18) طهر المرحاض بماء الجير أو الفنيك. (19) لا تأكل ما يعسر هضمه. (20) لا تعرض نفس للرطوبة. (21) لا تأخذ مسهلاً أبداً إلا بأمر الطبيب. (22) احترس من الذباب وضع الحواجز دونه. (23) احترس من البراغيث والقمل والبق ما استطعت. (24) استحم بالماء الدافئ كل يوم وغير ملابسك كذلك. الدكتور محمد عبد الحي

طرفة أدبية

طرفة أدبية وفاء المرأة العربية حكي أن معاوية جلس بمكان بدمشق مفتح جوانب الأربع يدخل منها النسيم فبينما هو جالس في يوم قيظ وهو صاحي النهار ولفح الهجير إذ نظر إلى رجل يمشي وهو يتلظى من حر التراب ويحجل في مشيته رجلاً حافياً تتأمله ثم التفت إلى جلسائه وقال هل خلق الله أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في مثل هذا الوقت فقال بعضهم لعله يقصد أمير المؤمنين فقال والله لئن كان قاصدي سائلاً لأعطيته ومستجيراً لأجرته أو مظلوماً لنصرته، يا غلام قف بالباب فإن طلبني هذا الإعرابي فلا تمنعه الدخول فخرج الغلام فوافى الإعرابي فقال له ما تريد فقال أمير المؤمنين. فقال له ادخل فدخل وسلم على معاوية فقال له من أين الرجل فقال من تمين فقال له ما جاء بك في هذا الوقت قال جئتك شاكياً وبك مستجيراً فقال ممن فقال من مروان بن الحكم عاملك ثم أنشأ يقول: معاوي يا ذا الجود والحلم والفضل ... ويا ذا الندى والرشد والعلم والنبل أتيتك لما ضاف في الأرض مذهبي ... فيا غوث لا تقطع رجائي من البذل سباني سعدي وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل وغاضبني أهلي فلما سمع معاوية إنشاده والنار تتوقد فيه قال له مهلاً يا أخا العرب اذكر قصتك وأفصح عن أمرك قال كانت لي زوجة وهي ابنة عمي وكنت لها محباً وبها كلفاً وأنا قرير العين طيب العيش وكانت لي قطعة من الإبل أستعين بها على قيام حالي وكفا أودي فأصابتني سنة شديدة أذهبت الخف والظلف وبقيت لا أملك شيئاً قلما قل ما بيدي وذهب مالي بقيت مهاناً ثقيلاً على وجه الأرض أبعدني من كان يشتهي قولي وأزور عني من كان يرغب في زيارتي فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وقلة المال طردني وأغلظ علي فأتيت الملك مروان مستصرخاً به راجياً لنصرته فأحضر أباها وسأله عن حالي فقال لا أعرفه قبل اليوم فقلت أصلح الله الأمير أحضر ابنته واسألها عن حالي فبعث إليها فأحضرها مجلسه فلما وقعت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب وصار لي خصماً وعلي متكبراً ونهرني وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن وبقيت كأنما خررت من السماء بمكان سحيق ثم قال لأبيها هل لك أن تزوجني منها على ألف دينار وعشرة آلاف درهم لك وأنا ضامن

خلاصها لك من هذا الإعرابي فرغب أبوها في البذل وأجاب سؤاله لذلك فلما كان من الغد بعث إلي من السجن وأوقفني بين يديه ونظر إلي كالأسد المغضب وقال يا إعرابي طلق سعاد، فقلت متى قلت لا يسلط علي جماعة من غلمانه يعذبونني بأنواع العذاب فلم أجد بداً من ذلك ففعلت فأعادني إلى السجن حتى انقضت عدتها ثم تزوج بها ودخل عليها وقد أتيتك راجياً وبك مستجيراً وإليك ملتجئً ثم اضطرب واصطكت لهاته وخر مغشياً عليه فلما رأى حاله وسمع كلامه قال تعدى وظلم ابن الحكم ثم كتب إليه يقول قد بلغني أنك اعتديت على رعيتك وانتهكت حرمة من حرم المسلمين وينبغي لمن كان والياً أن يغض بصره عن شهواته ويزجر نفسه عن لذاته ثم كتب تحت ذلك يقول: فعلت ويلك أمراً لست تدركه ... فاستغفر الله من إمرءٍ زني أعطي الإله يميناً لا أكفرها ... نعم وأبرأ من ديني وإيماني إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنك لحماً بين عقباني طلق سعاد وجهزها معجلةً ... مع الكميت ونصر بن ذبيان ثم طوى الكتاب وطبعه بخاتمه واستدعى الكميت ونصر بن ذبيان وكان يرسلهما في المهمات من حوائجه فأخذاه وسارا حتى أتيا المدينة المنورة فدخلا على مروان وسلما عليه ودفعا له الكتاب فجعل مروان يقرأه ويبكي ولم تسعه المخالفة فطلقها بحضرة الكميت ونصر بن ذبيان وكتب إليه يقول: لا تجعل أمير المؤمنين فقد ... أوفي بنذرك في حسن وأحسن وما أتيت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى بلفظ الخائن الزاني فسوف تأتيك شمس ليس يعدلها ... عند الخليفة من أنس ومن جان ووقع الكتاب فأخذه الرسولان وسارا به حتى دخلا معاوية فدفعا إليه كتابه فقرأه وقال أحسن مروان في الطاعة ثم أحضر الجارية فلما رآها رأى منظراً عجباً من الحسن والجمال والقد والإعتدال فلما خاطبها وجدها عذبة الألفاظ شيقة الكلام فقال علي بالإعرابي فأتوا به وهو على غاية من سوء الحال فقال هل في سلوة عنها وأعوضك ثلاث جوار مع كل واحدة ألف دينار وأقيم لك في بيت المال ما يكفيك ويعينك على صحبتهن فلما سمع الإعرابي مقالة معاوية شهق شهقة ظن معاوية أنه فارق الحياة فقال له معاوية ما بالك قال شر بالي

وأسوأ حالي، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم فبمن أستجير من جورك ثم قال لو أعطيتني ما حوته خلافتك ما اعتضت بها بدلاً فقال معاوية أنت مقر يا إعرابي بأنك مطلقها ومروان مقر بأنه طلقها ونحن نخيرها فإن اختارت سواك زوجناها منه وإن اختارتك أعدناها إليك فقال افعل فقال معاوية ما تقولين أيما أحب إليكي أمير المؤمنين في عزه وسلطانه وشرفه أم مروان في عسفه وجوره أم هذا الإعرابي مع جوعه وفقره وسوء حاله فقالت منشدة: هذا وإن كان ذا بؤس وإقتار ... أعز عندي من أهلي ومن جاري وصاحب تاج أو مروان صاحبه ... وكل ذي درهم عندي ودينار ثم قالت ما أنا بخاذلته لحادث الزمان ولا لغدر الأيام وإن لي عنده صحبة لا تنسى ومحبة لا تبلى وأنا أحق بصبري عنده في الضراء كما نعمت معه في السراء قال فتعجب معاوية من قولها ومودتها وأمر لها بعشرة ألاف درهم وردها إلى الإعرابي بعقد جديد صحيح.

في شؤوننا المصرية

في شؤوننا المصرية الأكذوبة الكبرى المتاجرة بدعوى الإصلاح الديني ليس هناك أوقح ممن يفتري على الموتى. ويكذب على المضطجعين في مراقد الآخرة. لأنه يعلم أن الموتى لا يستطيعون كلاماً. ولا يصدرون دفاعاً. وإن الحجة صامتة. والفرصة سانحة. وأغرب ما في فريتهم أن تكون مقصداً من مقاصد التجارة وضرباً من ضروب الربح والإثراء. وأشد من ذلك أن تكون هذه الأكذوبة التجارية في سبيل من الدين والإصلاح وأن تروج عند بعض الناس. وتجد القبول عند طائفة من الجمهور. ولعل ذلك لأنها تجري على طريقة الأوكازيونات والفرص العظيمة والإعلانات الكبيرة والضوضاء العالية. مثل أستين وشيكوريل وتيرنج وإخوان شملا وهلما جر. وإن صاحب هذه الفرية أصبح من المتمولين وله أطيان وعقارات في هذا البلد. ولذلك يريد أن ينازع المصريين في التلقب باسمهم. أي - بوضع اليد - أو بموجب الأوراد التي في يده عن الخراج الذي يدفعه للحكومة. كأن كل بربري أو سيامي أو مالطي يشتري له في مصر قطعة من أرضها. يشتري معها جميع حقوق أبنائها. أصبح اسمه في دفاتر حساب البنوك والمصارف وكان من قبل في أول صفحة من صفحات كتاب الفقر!. ولكن إذا كان الموتى لا يتكلمون. فإن في الأحياء من يستطيعون كلاماً عنهم. ودحض أكاذيب اللذين يعيشون الآن على حسهم وإذا كان العالم المبجل. والفيلسوف النادرة في هذا العصر المادي المخيف. والكاتب المخلد الذي أعجز الأولين والآخرين السيد محمد رشيد رضا قد لزق نفسه بالإمام الأستاذ الشيخ محمد عبده لزقاً وادعى أنه هو الذي خرجه وأعطاه الشهادة وإنه كتب له وصية وقف له فيها الحق في اسم المصلح الديني وإن المرحوم الإمام ذهب عن الدنيا. وعلى وجهه ظل ابتسامة حلوة لأنه قضى مطمئناً على تفسيره للقرآن واثقاً من أن العم رضا تربيته سيأخذ في التفسير ويواصل الشرح على النحو الذي نحا، والسنن الذي استن فنحن نقول له ولمن يجهلونه - غير قاصدين إلى تحقيره عند بني وطنه لأن السكتة بيننا وبينهم مقطوعة - إن هذا التفسير الرشيدي إنما هو على الطريقة الجربية وإنه من أكبر الفضيحة لهذا العصر المهذب أن يفسر القرآن الكريم

بذهنية لا تفترق عن أذهان الأطفال والتلاميذ. وبأسلوب متهدم مريض يحمل جميع أعراض الهستريا أو التشنج العصبي. ولا يكاد يرتفع عن لغة المحضرين وكتبة العرائض ومترجمي إعلانات السينماتوغرافات. وإن روح الأستاذ الإمام لتخجل الآن أن ينسب إليها مجموعة من أبدع مجموعات السخف والركاكة واللغو وإنها أكبر إهانة لرجلٍ نقي الصفحة. جبار الذهن. عميق التفكير. مخلص النية. خرج من الدنيا فقيراً. شأن المصلحين والعظماء. ولكن لم يلبث المدعي التلمذة عليه أن أصبح بنكيرا ومن وراء الإصلاح الديني الذي يزعم أنه قائده الفرد. ووليه الأوحد كأن للإصلاح الديني أسهماً وسندات كالبنك العقاري اشترى السيد رشيد رضا منها ثلاثة أرباعها، وترك الربع في السوق لعلماء الأزهر. على حين أن في علماء الأزهر الشريف سادة أجلاء ومصلحين كبار الأذهان. يكاد يكون رشيد رضا إزاءهم بكل مجلدات مجلته في الصف الأول من الأميين. وجملة القول ليس لنا إلا أن نقول كما قال الفيلسوف نيتشه هو المنار الأعلى لإقيانوس الكلام الفارغ!!. . كاتب البيان كتب هذه الكلمة التمهيدية أحد كبار الكتاب بمناسبة تلك الضجة الكبرى التي أحدثها ذلك الشيخ زيادة في الإعلان عن نفسه - كتبها على الهامش تمهيداً لسلسلة كلمات يأتي فيها على منزلة هذا الرجل الحقيقة وسائر أعماله وما خفى من شؤونه والموعد قريب.

جمعية المواساة الإسلامية

جمعية المواساة الإسلامية ومبرات الإسكندريين من المشاهدات الطبيعية في الكثير الغالب أن سكان السواحل وأهل المدائن الواقعة على ضفاف البحار أنقى قلوباً وأرق نفوساً وأقرب إلى الخير من البلدان الداخلة في صميم المملكة ولعل ذلك لأن أمواج البحر تغسل عن أفئدتهم عيوبها، وتطهر وجدانهم مما يعرض لها من نقائص الأرض ومعايب الطبيعة البشرية الضعيفة، وعلى هذه القاعدة كان أهل الإسكندرية عظماء النفوس، يستمدون عظمتهم من عظمة البحر الضخم الكبير الذي يلعب عند مربض مدينتهم، وهم أشد حمية وأكبر نهضة. وأكثر براً وأنبل إحساساً من جميع سكان القطر، ولا نعلم كيف يقع القاهريون في الميزان إذا هم وزنوا بأهل الإسكندرية، وأين تكون مبراتنا وجمعياتنا ونوادينا بالقياس إلا مثلها عندهم، وهم لا يألون جهدهم في تهذيب مدينتهم ورفع شأنها، وإصلاح أمرها. ونحن أكسل ما نكون إذا دعينا إلى الخير. أو سؤلنا البر. وقد اقتنعنا من مفاخر المدن بأننا الحاضرة. واكتفينا بأننا العاصمة. وسرنا أننا التخت كأن البلاد الأخرى التي وراءنا فقط في تعداد السكان دكك بالنسبة إلى تختنا المطرب الشجي. وكأننا لم ننسى أننا عجزنا على أن نقيم نادياً واحداً لموظفينا. ونمده بما يطيل عمره. ويثبت قدميه. فلم يلبث شبه النادي الذي ألبسناه - على غير التقوى - أن وأدناه وشيعناه إلى المقبرة التي قبرنا فيها كثيراً من أعمالنا الخيرية ومبراتنا وجمعياتنا. إذ بيعت مقاعده وأثاثه في المزاد. على مرأى المشتركين والأعضاء. على حين لا يني النادي الإسكندري المزهر الكبير يعدو مسرعاً في التوسع والنماء والرسوخ والرقي. حتى أصبح ندوة علمية. وجمعية خيرية. ومدرسة عالية. ومجتمع خير وأدب وصلاح في آنٍ واحد وذلك لأن إخواننا الإسكندريين أشد منا تمسكاً وتلازماً ووحدة، وأندى منا يداً وكفاً، وأرق منا أفئدةً وأرواحاً. وهذه جمعية المؤاساة الإسلامية، لا تكاد نرى لها أختاً في بلدنا، ولا نشهد لها شقيقة في أي بلد آخر من بلاد القطر، كأن جمعية واحدة لمواساة المساكين اللذين تقطعت بهم أسباب الحياة في مصر، تكفي لأن تطل من ساحل البحر الأبيض على مسكين في الحدود الأخرى من القطر، مع أننا بحاجة إلى جمعيات كثيرة للمواساة، لأننا شعب نصفه من المساكين

والفقراء، ولكن حسب الإسكندرية فخراً أنها قامت وحدها بفضيلة المواساة، وتفردت بمحمدة التعزية، وليس ذلك إلا أن ليس بيتنا نحن القاهريين عظماء نفوس وكبار أفئدة، لأن كبار العاصميين مشغولون عن كل شيء بشؤون الحكومة وأحداثها، وأما كبار الإسكندريين فشغلهم الأكبر صالح المدينة، وخير الشعب وهم على رأسهم أمير جليل لا يزال اسمه في الخير والنيل والبر يعدل اسمه العظيم في سجل الإمارة وهو سمو الأمير الجليل عمر بن طوسون فهو لا يفتأ يمد الجمعية بالعون. ويشملها بالرعاية. بعد أن أوقف لها سبعة عشر فداناً من أجود أرضه تربة. ورجل عظيم مثل هذا في بلد واحد يكفي لان يجعل كل سكانها عظماء ثم لا يزال في رئاستها حضرة صاحب العطوفة الإسكندري الصميم محمد سعيد باشا. وهو خير خليق برعاية جمعية طيبة في مدينته التي ولد فيها لمواساة جيرانه ومواطنيه. ولعل أعضائها أبدع عقد من عقود الفضل وأروع قلادة من قلائد الكرم والحمية والغيرة. ووساطة هذا العقد والحبة الساطعة في هذه القلادة رئيسها العامل حضرة إبراهيم بك سيد أحمد وهو رجل خير محمود العاطفة. فياض الروح بمشاعر الرحمة والشفقة والغوث وإلى جانبه رجلٌ من أرق الناس حاشيةً وأعطفهم على الفقراء ومفتقدي العزاء والعون كبداً يكاد يذوب خفة روح، وكرم شمائل، ونعني به وكيلها الفاضل صاحب العزة محمد بك. لك رئيس كتبة الجمرك الإسكندري من قبل ثم هم جميعاً الأسماء الكبيرة المتألقة في الحياة الإسكندرية والشخصيات الظاهرة المتجلية في الشؤون العمومية ولذلك استطاعت جمعية المؤاساة بالإسكندرية أن تعيش وتتقدم وتزكوا ثمارها، بجانب أخواتها الجمعيات الخيرية الأخرى، لأن كل اسكندري كبير هو في نفسه جمعية بر كبرى.

إيمان الملحدين

إيمان الملحدين خاتمة الشاعر هايني لا يزال العالم حافلاً بالملاحدة، ولكنهم لا يزالون منتشرين في الأرض متفرقين في رحاب الدنيا، لا تجمعهم جامعة، ولا تؤلف بينهم وحدة، ولا يحتويهم معبد يعبدون فيه الصورة الجديدة التي يريدون أن يضعوها إزاء صور السماء، ولو اجتمعوا فرقة واحدة، والتأموا طائفة منظمة، لشهدت الأرض مرة أخرى حرباً مخيفة من حروب الأديان، ولحشد أهل الملل التي تحمل ألوية الأنبياء، وتعيش على شعائر السماء، كل قوة لقتالهم، وجاؤوا بكل سلاح لإبادتهم، ولكن المؤمنين والمتدينين يعتصمون بالصبر، ويرتضون وجود الملاحدة بينهم، لأنهم يعلمون أن الملاحدة لا يستطيعون لقلتهم ضراً، ولا يحدثون خطراً ولا ويلاً، وهم لا يكادون يظهرون في الجماعات إلا فرادى. ولا يخرجون إلا متباعدين، وقد تلتقي أنت في الطريق برج منهم وأنت تعلم في نفسك أن الإيمان راسخ في فؤادك وأن الدين هو قبلتك، فتشعر بشيء من الدهشة والفكاهة والروح عند رؤيته، وتروح تجيل البصر في هذا المخلوق الصغير الذي يهزأ بعشرة آلاف سنة من الدين، ويتطاول هذا القزم الضعيف، الذي لا يكاد يبلغ في طوله ركبة أحقر عفريت من عفاريت العالم الأسفل، إلى عرش الملكوت الأعلى، وتندهش أن ترى هذه الآنية الفخارية التي تتحطم من أقل عارض من عوارض الجو، تريد أن تنسى الصانع العظيم الذي أخرجها قالباً جميلاً من الطين، وقد يدخل عليك السرور كله أن تستمع إلى حديث هذا المتمرد الفار من الخدمة الإجبارية لله، هذا الجندي الضعيف الذي يريد أن يعصي أوامر القائد الجبار الذي يحرك خطواته في معركة الحياة، وإنك لتصغي إليه فتحس الإيمان الذي في فؤادك يريد أن يغضب ويخرج لمعارضته ومجادلته، ولكنك تعود فتشعر بأن هذا الملحد الذي أمامك خليق بالرحمة، قمين بالرثاء، لأنه في مرحلة قاسية من مراحل الفكر لا يستطيع أن يخرجه منها إلا الله نفسه، ولا يستطيع أحد إقناعه إلا الذي أرسل في فؤاده من قبل فكرة إنكاره، فتتولى عنه، وأنت حزين النفس لأنك لم تستطع أن تربط السلك الكهربائي بين فؤاده وفؤادك، حتى تصل إليه حرارة إيمانك، ونور يقينك، وأغرب ما في الإلحاد أنه لا يقع إلا عند أهل الفكر، ولا تجد جاهلاً في الملاحدة، لأن الجاهل لا يستطيع أن يناقش الإحساس العميق المؤمن الذي يجري

في فؤاده، وحسبه أن يشعر بروح الله فيه وهو لا يريد أن يكذب الملايين الكبرى التي سبقته وعرفت منشىء الأكوان قبله، ولكن المفكر الملحد ليس إلا رجلاً مزهواً بنفسه، معجباً بفكره، مغتراً بقوته، وهو يأبى إلا أن يعيش على المنطق، ولا يقبل أي فكرة أو إحساس إلا إذا جاءت في قطار العقل، وإكسبريس المرئيات، كأن هذا العقل هو الذي اخترع نفسه، وكأنه هو الذي وضع الكواكب، وكأنه هو الذي سن القوانين التي يكره على الخضوع لها، وكأن هذا العقل هو الذي ينطفئ بنفسه عندما تأتي ساعة الخمود الأبدي على أن هذا الزهو الذي يعيش إلى جانب الإلحاد ليس بعد إلا زهواً إنسانياً، وهو لذلك قليل العمر، متغير اللون، ضعيف الأعصاب، مريض القلب، ولا يلبث أن يسقط مغشياً عليه عندما تريد الطبيعة أن تداعبه، ولشد ما يفرح المؤمنون عندما يرون ملحداً مؤمناً، لأنهم يعلمون إذ ذاك أن الطبيعة قد انتقمت لنفسها ولهم، والرجل الملحد ينتهي دائماً برجل أعمق إيماناً من الذي عاش دهره في الحياة مؤمناً، وإيمان الملحدين لا يزال إيماناً قوياً مؤيداً بالإعتراف. قائماً على الإذعان والإستسلام أشبه بإيمن الرجل بقوة عده الذي حطمه في المعركة تحطيماً، ونكل به نكالاً أليماً، ولكنه وا أسفاه إيمان متأخر، كثيراً ما يجيء بعد الأوان، لأنه أغلب ما يكون على فراش المرض، أو في اللحظة التي يتشاجر فيها الأحياء والملائكة على جثته فيظفر بها مندوبهم، وهو صديقنا عزرائيل الكريم وينهزم الأحياء باكين معولين. كان هنريك هايني، الشاعر الألماني الكبير. ملحداً في رأس الملحدين، وكان زعيم الشعراء المزاحين الماجنين، لأنه يأبى إلا أن يرسل النكتة ولو في أحرج مواقف الحزن والألم - وفي تلك اللحظة التي يجهد الإنسان ذاكرته الذابلة المضمحلة لتلاوة اسم من أسماء الله، ويحاول بكل قوى الدرجة الأخيرة من الصحو واليقظة أن يستعيد آية من آيات الكتب السماوية - كان هايني لا يزال على شفتيه غمغمة نكتة حلوة من نكته، وهذا خلق غريب يكاد يكون لا مثيل له في تاريخ المحتضرين، ولكن هذا الملحد المزاح الذي لم يشأ أن تفلت السماء من مزاحه ودعابته، هذا الشاعر المتهكم بكل من حوله، الهزاء بكل صفة من صفان الحياة - الضاحك من أعدائه، الساخر من أصدقائه عاد آخر أيامه فأذعن إلى القوة العظيمة التي تركته في سريره لا يبرحه - وذهبت بنور عينيه، وأرسلت المرض يأكل سلسلة

فقاره، فأصبح مؤمناً بها، منهزماً إزاء جبروتها، وأغرب ما في الطبيعة المزاحية التي خلقتها معه، واكتفت منه بالإعتراف بها والإنقياد لسلطانها، وتركته يمزح ما شاء وهو مريض ويمجن ما أحب، وهو في الساعة الأخيرة من حياته، ولهذا كان إيمانه لا يزال ممزوجاً بالنكتة، مختلطاً بالدعابة، ولكن حسبه أنه إيمان فرح بهيج، بعد أن كان كافراً موحشاً قاسي المجون رهيب المظهر. وتفصيل قصة هذا الشاعر أنه أقام في باريس ستة عشر عاماً من سنة 1831 إلى سنة 1847. وكان يعيش أبهج العيش، ويمرح في الحياة الباريسية. محبوباً مصفقاً له، معجباً به، يكتب تهكماته الحلوة، ويضع شعره العذب الجميل، ولكن ما كاد يحل عام 1847 حتى بدأ يشعر بدنو مرض السلسلة الفقارية، وقد لبث بعد ذلك سبعة أعوام محبوساً في سريره، سجيناً في فراشه من أثر هذا المرض المخيف، وآخر مرة خرج فيها من البت كانت في مايو عام 1848. وقد وصف ذلك فقال جعلت أجر نفسي بعد لأيٍ وجهد إلى متحف اللوفر، وقد كدت أسقط عياءً وضعفاً عندما دخلت القاعة الفخيمة حيث تجلس الآهة الجمال العزيزة، سيدة ميلو المحبوبة، فوق عرشها، فسقت نفسي وحملت ساقي إليها فجلست عند قدميها، وانطلقت أبكي بكاء مراسخينا يشفق الصخر منه، فنظرت إلي الإلاهة في رحمة ورثاء ورفق. ولكن في يأس وحيرة واضطراب في الوقت نفسه، ولعلها كانت تريد أن تقول لي ألا ترى أيها الإنسان المعذب أنني ليس لي ذراعان، فأحتضنك فيهما، ولهذا لا أستطيع أن أمد إليك يد العون! ومنذ ذلك التاريخ لم يخرج هذا الشاعر الجميل من بيته، في الطابق الأعلى من منزل باريسي، وأصبح هذا الرجل الجائع الذهن المتطلب معرفة علم الكون محبوساً في حجرة صغيرة، بعيداً عن مراقبة الحياة، رهين محبسين مظلمين، إذ كان مرضه العصبي قد عدا إلى عينيه فذهب بلمعة يمناهما، وكان يرفع غطاء الأخرى بإصبعه ليرى العالم الذي حوله. وكان الأفيون هو النعمة الوحيدة التي ترسل إليه النوم، وتبعث إليه طائف الراحة والسكون. ولكن الغريب من أمره أن مرضه لم يستطع أن يؤثر على نزعته الشعرية، أو يعدو على شيءٍ من بهجة روحه. قال يصف نفسه إذ ذاك هل أنا حقاً أعيش، وهل أنا موجود. . .، لقد ذبل جسمي وتلاشى، حتى لست الآن إلا صوتاً. وفراشي قد أعاد إلي ذكري قبر الساحر مرلين، الواقع في غابة

بريتانيا تحت السروات الباسقات التي تحلق رؤوسها في الهواء كلهب خضراء متطولة في بهرة السموات. وا حزناه. يا صديقي مرلين إنني أحسدك على هذه الأشجار الناضرة، والنسيم البليل الذي يهز أغصانها وأفانينها، إذ لا شجرة ناضرة تنثني حول قبري أو وسادتي التي أضطجع فوقها في باريس، وإذ لا أسمع أبداً غير دحرجة العجلات ومطارق السنديان، وخفقات المعازف والعيدان، قبر ولا سكون، وضريح ولا راحة، وموت ولا مزايا الموتى وحقوقهم - ومنذ زمن طويل جاؤوا فأخذوا القياس لإعداد أكفاني وصندوقي، وتدوين اسمي في دفتر الوفيات. ولكني أموت بكل بطء، حتى أصبحت عملية موتي مملة لي ولأصدقائي ولكن صبراً يا صحابتي. كل شيء سينتهي، وستجدون يوماً الخميلة التي طالما لعبت أمامكم فيها عروسة مزاحي قد أقفلت أبوابها!. وهنا بدأت ثورة الإيمان تهب في فؤاده، ولعل ذلك راجع إلى شدة وطأة المرض، لأن كل لذعة من لذعات الألم تغسل قطعة من الإلحاد عن قلبه، وكل عضة من عضات العذاب تأخذ بين أسنانها جزءاً من طبقات الشك، وكذلك استطاعت الآلام أن تهضم كل فؤاده، ثم خلق الله له فؤاداً غيره، ولكنه أراد إلا أن يكون قليل المقام في جثمانه، فلم يلبث أن أخذه إلى جواره. قال هايني: - ماذا يفيدني من أن يتوج الشباب المفتونون بحبي، والعذارى المعجبات بي تمثالي الرخامى بأكاليل الغار، وتيجان الزهر، وأنا أرى يد الممرضة العجوز المهزولة تطرد الذباب عن وجهي وعيني، وماذا يغني عني أن تكون جميع ورود شيراز تعبق شذاها، وترسل أنفاسها وبخورها حولي. لا أشم بخوراً ولا عبقاً، غير رائحة المناشف الدافئة الموضوعة عن رأسي. أواه. . إن تهكم الله يحطمني: إن مؤلف الكون العظيم. أريستفانيس السماء قد أجمع نيته وحشد كل قوته على أن يفضح أريستفانيس الأرضي الصغير. إن أحسن مداعباتي وأبدع أمازيحي لم تكن إلا تجارب صغيرة لتعلم فن التنكيت، إذا هي قورنت بنكته ومداعباته، أنا دونه في صناعة المزاح وصغير بجانبه في فن السخرية!!. فماذا يقول المؤمنون عن هذا المؤمن الجديد الذي يعترف بضعفه واستخذائه ويقر بإيمانه بوجود الله وقوته، ولكنه مع ذلك يأبى إلا أن يكون مزاحاً حتى مع خالقه، ولكن الله أعرف

بفؤاده وسلامة مزاحه مع الناس، وقد نزع عنه روح الإلحاد وأبقى فيه على روح المجون، ثم ماذا هم قائلون إذا قرأوا الشذرة الآتية التي جعل يصف فيها اعتقاده في وجود الآخرة. قال يخاطب قراءه عزاء يا قرائي وسلوى، فسنلتقي ثانيةً في عالم أحسن من هذا. هناك حيث في نيتي أن أكتب لكم كتباً أبدع مما كتبت - إني آخذها قضية مسلمة، إن صحتي ستتحسن هناك وإن العم سويدنبرج لم يخدعنا. إذا أنبأنا بكل توكيد وثقة أننا سنسترسل في علمنا القديم الذي كنا نزاوله في ذلك العالم الآخر كما كنا نفعل هنا، حذوك النعل بالنعل، وإننا سنحتفظ هناك بشخصياتنا، فلا تتغير ولا تتبدل، وإن الموت لن يحيل شيئاً من نظامنا. إن سويدنبرج رجل شريف، طيب القلب، ولا يسعنا إلا أن نصدق كل ما قاله عن العالم الآخر الذي أبصر فيه بعيني رأسه الأشخاص الذين لعبوا دوراً كبيراً في الأرض، وقد قال عنهم أن أكثرهم ظل على حاله لم يتغير، ولكنهم أصبحوا هناك مودة قديمة وأصبحت طبعتهم متأخرة. فمثلاً الدكتور مارتن لوتر ظل متمسكاً بعقيدته التي لبث ثلاثمائة سنة يكتب عنها كل يوم الحجج والبراهين، ولكن كثيرين منهم لم ينجحوا ولم يبقوا على شخصيتهم، بل تهذبوا كثيراً وتحسنوا، وتطوروا إلى الشر أو الخير، ففريق منهم كانوا في الأرض أبطالاً وصناديد وقديسين فتدهوروا هناك فصاروا فجرة فسدة سفهاء لا يصلحون لشيء، وفريق آخر من الذين كانوا هنا أقوياء الإرادة، صارمي العزيمة، عادوا فأصبحوا الآن أشراراً مجرمين، وبالعكس صارت بنات لوط على ممر الزمن من بنات الفضيلة وعدت في العالم الآخر الأمثلة العليا للعفاف والحشمة والأدب. وكان هايني في أيام شبيبته لا يترك صديقاً أو عدواً إلا سخر منه وأخذه بمجونه ولكنه عاد فرأى خطأه، وتبين سوء ما فعل، فكتب قطعة تعد أحسن وصف للدنيا، فقال. . وا أسفاه الحق أقول لكم لا ينبغي أن يسئ إنسان إلى أحد في هذا العالم. كل منا مريض في هذا المحجر الصحي، ولكل منا علته في هذا المستشفى. ولقد ذكرتني تهكمات الكتاب بشجار غريب وقع في مستشفى كراكاو، وكنت أنا شاهده. وذلك أن المرضى انطلقوا يتهكمون بعضهم ببعض ويتباهلون ويتعايبون بأمراضهم وعللهم، فسمعت المسلول الذي أكل السل رئته وهضم لهاته يسخر من آخر أهزله الإستسقاء، وهذا ينكت على مريض بالسرطان، وصاحب السرطان يعيب على صاحب الجذام. حتى وثب أخيراً مريض محموم في أشد

صرعات الحمى طافراً من سريره فمزق كل الضمادات المقطعة الحاجبة جروح رفاقه وعللهم، فبدت السوءات والشناعات وكل أنواع الدمامة والقبح!!. . . .

الجنون والعبقرية

الجنون والعبقرية إن الطبيعة كثيراً ما تعمل على مبدأ الحرمان والتعويض، وكثيراً ما تهب النعمة، ثم تسترد من صاحب الهبة في سبيلها ثمناً غالياً، وتلزمه رهناً باهظاً، وتأخذ من سمسرة فاحشة وأنت لا تجد امتيازاً حبته الطبيعة، إلا رأيت وراءه تضحية، ولا تشهد الطبيعة حارمة من ناحية، إلا ألفيتها معوضة مجزية من الأخرى، وهذه الفلسفة الإلهية لا تزال السر الأكبر في بقاء الكون، وهي ضرب من التوازن حتى تتكافأ القوات التي تحمل الأرض، ولولاها لتحطمت الكواكب، وهوت الأفلاك وتدمرت الخليقة، ولعل الطبيعة أرادت بذلك أن لا تثير نزعة التحاسد بين الكائنات، وشاءت أن لا تهتاج الغيرة في الخلائق، فجعلت من الكواكب القصير الرأس - لأنه كان لا بد في الكواكب من قصار الرؤوس - ولكنها أشفقت أن يحزن الكوكب لقصر رأسه. وينظر إلى ضخامة هام أخوته. فجعلت له ذنباً مستطيلاً يجي وراءه في بهرة السموات، ويوم يتفاخر كوكب عليه بعظمة رأسه ويدل عليه سيار بشدة عدره، يوليه ظهره مزهواً متكبراً، باسطاً إليه ذنبه الجميل كأفخر ما تكون الطواويس بأذنابها. وإذا كان هذا هو القانون العام الذي تجري عليه كل العوالم التي خرجت من يد الصانع الأكبر. فلا تعجب إذن من أن يكون في الناس الجهلة وهم أغنياء، والبله وهم ناعمو البال والعقلاء وهم المحزونون المتعبون، والمرأة الشوهاء الطلعة ووراء لسانها قلب ملائكي مشرق الصفحة، ثم الحسناء المعارف، الصبوح المحيا. مندوبة. . القمر في الأرض وخلف هذا الحسن نفس ملوثة خبيثة يأخذ عنها الشيطان أوامره، في مصطبخ كل يوم، ويعود إليها بدفتر اليومية عند مغيب كل شمس!!. وعلى هذه القاعدة، لماذا يندهش الناس إذ يسمعون أن كثيراً من النوابغ، وطائفة كبرى من العظماء. وجيلاً عديداً من كتاب الدنيا وشعرائها وفلاسفتها وقوادها وأهل الذكاء المتوقد المفرط فيها، كانوا في حياتهم أحق بسكنى مستشفيات المجاذيب من كثير من البله والمجانين العاديين الذين دخلوها، ولماذا يأخذ المجتمع العجب، وتقع في قلوبهم الحيرة، إذ يرون رؤوسهم والصفوف الأول الصاعدة في طلائعهم، والأدمغة الجبارة الخصيبة التي تطل عليهم، أكثر ما يغلب عليها المرض، وتنتابها العلل، كأنهم لا يعلمون أن العظماء إنما يدفعون إلى الطبيعة ثمن أذهانهم الجميلة على طريقة التقسيط، وكثيرون منهم لا يزالون

يواصلون دفع هذه الأقساط من أجسامهم وعيشهم وكل ما حولهم، حتى يستنفذوا جميع ذلك. ولا تزال الطبيعة تطالبهم بالباقي، فلا ينون يأخذون من الهبة نفسها وهي أذهانهم ويعطون الطبيعة صاغرين، لأنهم يخشون من فضيحة الديون، ولا يحبون أن يكسر عليهم شيء من أقساطهم، وعندما ينقص العظيم من أطراف البقية الباقية لديه وهي ذهنه، يراه الناس مجنوناً ويعده المجتمع المتطلع إليه، مريضاً مأفوناً، ويأنفون أن يعيشوا وراء مجنون، ويتبعوا ظل رجل مريض، فيطرحونه، ويذهبون عنه متفرقين، ليبحثوا عن ذهن جديد يركعون عنده وإذ يرون النتيجة أبداً واحدة، ونوابغهم دافعين إلا أقلهم إلى هوة الجنون أو المرض، يعودون فيصلحون ما أفسدوا في عهد حياتهم، فينصبون لهم التماثيل، ويقيمون الأضرحة، ويضعون الكتب البديعة عنهم، ويود أكثرهم أن يصابوا بنعمة هذا الجنون الطيب الذي ينتهي بهذه الخاتمة المرضية، ولكنهم لا يعلمون أن جنوناً عن جنون يفترق، لأن جنون ألف معتوه في دار المجانين لا يكاد يعدل جنون رجل عبقري واحد. لأن هؤلاء الألف إنما يحطمون زجاج النوافذ، وينطحون الأبواب والجدران، ولكن جنون العبقري إنما يحطم الآداب القديمة، ويمزق الكتب العتيقة، وينسخ كل ما في المكاتب، ويترك لكل كلمة يقولها ألف ذهن حائراً، وألف فؤاد مذهولاً. وهكذا يصلون عدواهم إلى الذين يقرأونهم، وينقلون قطعة من هذا الجنون المبارك إلى أذهان الذين يعيشون وراءهم، وكل قارئ من القراء المعجبين برجل نابغة مريض، إنما يحترق تحت تأثير ذلك السيال الكهربائي النافذ إلى ذهنه. وإذا كان أغلب الناي يتبعون النوابغ على حسب ذهنياتهم واختلاف مشاربهم، فلك أن تقول أن السواد الأعظم من العالم مجانين وإن الأرض قد أصبحت صورة مكبرة من السراي الصفراء. إذن فليكن النوابغ مرضى، وليعش العبقريون على الجنون، فليس بضائر العالم جنونهم، ولعل جنونهم ومرضهم خير للناس وأبقى على نظام الأرض ولو كانت هذه القوة الجبارة تمشي على قانون منظم، ولو كانت عقول النوابغ تضطرد في مضطرد رقيق هادئ متناسق، إذن لطاحوا بالناس، وملكوا الدنيا أو قلبوها رأساً على عقب وإذ ذاك لا يسع القطعان الإنسانية إلا أن تهرب من وجوههم هروب الجرذان من أظلاف القطط. . ويومذاك يقفز هذا الكوكب ولا يبقى فيه إلا عفاريت آدمية تتضارب وتتجالد وتتنازع على

كرسي جمهورية العفاريت في الأرض! نقول هذا غير قاصدين إلى معارضة الأستاذ سيزار لومبروزو في أبحاثه التي بسطها في كتابه الرجل العبقري ولا ذاهبين إلى إنكار مذهبه من أن ليس بين الجنون والنبوغ إلا خيط ضعيف وإن أعراض العبقرية لا تكاد تختلف كثيراً عن مظاهر الجنون. ولكنا بعد نعدها حقائق مرة أليمة، ولكن العلم لا يسأل عن الألم، ولا يكترث بالعواطف، وإنما هويتهم بالنتيجة، وينظر إلى الغاية، وقد سرنا من لومبروزو أنه لم يستطع أن ينكر أسفه لهذه النتائج الخطيرة التي أنزلت أكبر مظاهر القوة الإنسانية إلى مستوى البلاهة والمرض والإنحطاط ولكن لا ترى الطبيعة نفسها أبت إلا أن ينبت الياسمين بجانب القراص، ويطلع الورد على مقربة من خانقة الذئب. وهل ترون العالم النباتي يستحق اللوم والتأنيب أن اهتدى إلى هذه النتائج، وهل تعد جريمة منه أن ينهي إلى الناس أمرها. وقد كان المؤرخون إلى هذا العهد قصاصين فقط ومحدثين، وكانوا مزامير ليس غير للأمراء والملوك وقادة الحروب، ومضرمي نيران القتال، ولم يهتموا بتحليل نفسيات النوابغ وتشريح أرواح العبقريين، فلم ينقلوا إلينا شيئاً عن اضطرابهم وأمراضهم وأعراض انحطاطهم. وأبت نزعة الكبرياء والزهو والغرور على هؤلاء النوابغ أن يبسطوا للعالم أسرارهم، اللهم إلا قليلون منهم كاردان وروسو وستورات ميل وموسيه ولامارتين، ولعمري من كان يظن أن ريشيليو كان مريضاً بالصرع، لو لم تزره النوبة، وهو في مجلس من مجالسه ومن كان يعلم أن كافور الطلياني الكبير حاول الإنتحار مرتين، لو لم يضع برتي ومايور كتابيهما عنه، ومن كان يعرف جنون كارليل لو لم تئن بالشكوى زوجته. ونحن هنا نقول أن كثيراً من أمراض النوابغ وجنونهم يرجع إلى الوراثة، وذلك في الذين ينحدرون من آباء سكيرين أو مزهورين أو معتوهبن أو مصدورين، وغير ذلك، أو من أسباب عارضة مختلفة، والأعراض التي ترى عليهم هي في الغالب فقد الحاسة الأدبية، والتجرد من العاطفة، والنزاع إلى الشك والوسوسة وفقد التوازن إما بزيادة في قوة من قوى العقل (كالذاكرة مثلاً أو الذوق الفني أو غيرهما) أو ينقص في غيرها (كقوة الحساب مثلاً) والتناهي في الصمت أو المغالاة في الثرثرة، والغرور، وتقلب الشخصية، والأنانية، وجعل

الأهمية الكبرى لأتفه المسائل واتخاذ ألفاظ خاصة يخرجونها عن معانيها إلى معاني أخرى يريدونها منها. هذه هي الأغراض الأخلاقية، أما الأغراض البدنية فمنها كبر حجم الآذان وقلة شعر اللحية وعدم انتظام الأسنان وفقد التناسب بين الوجه والرأس، بأن تكون الرأس في نهاية اصغر أو مفرطة الحجم، ونضوج الشهوة قبل أوانها، وصغر البدن أو ضخامته واستعمال اليد اليسرى دون اليمنى، واللعثمة والكساح والسل الرئوي والشهوانية المفرطة التي تخف حدتها بالعقم. ونحن هنا نذكر عدة من أسماء العظماء والعبقريين الذين ظهرت عليهم هذه الأعراض. أما صغر الجثة، وضؤولة البدن، فقد اشتهر بهما كثيرون مثل اسكندر الأكبر وأرسطو وأفلاطون وأبيقور وأرخميدس وديوجنيس والقائد تيلا. وبقطيط الذي كان يقول أبداً من أنا. . أنا لست إلا رجلاً صغيراً ومن المتأخرين جبون المؤرخ المشهور، وأسبينوزا ومونتان والموسيقي موزار والموسيقي بتهوفن والشاعر جولد سمث والشاعر الألماني هايني والكاتب شارلزلام وبلزاك الروائي العظيم ودي كونسي وأبسن والكاتبة القصصية العبقرية المعروفة باسم (جورج أليوث). ومن بين الذين كانوا طوال القامة مشذبي الأعواد، الشاعر جوت، والشاعر شيللر، والإمبراطور شارلمان، وبسمارك ومولتكي والخطيب ميرابوديماس الكبير وشوبنهور ولامارتين وفولتير وبطرس الأكبر وواشنطن وكارليل وترجنيف. ومن بين الذين كانوا مقعدين أو عرجاً أو حدباً أو حنفاً الشعراء بوب وليوباردي وولتر سكوت وبيرون والمؤرخ جبون وكثيرون من العبقريين وجبابرة العقول عاشوا وماتوا عزاباً وآخرون تزوجوا ولكنهم لم يتركوا نسلاً ولا جاءوا بذراري ولا بنين وفي ذلك يقول الفيلتوف ببكون. . أن أنبل الأعمال وأخطر الفعال إنما جاءت من رجال عقيمين وقد أرادوا بها أن يظهروا للعالم الصور الجميلة التي في أذهانهم بعد أن عجزوا عن إظهار صور أخرى من أبدانهم، وكذلك كان الإهتمام بالذرية والجيل المستقبل أشد ما يكون في قلوب من لا ذرية لهم. . ويقول لابريير إن هؤلاء الناس - يعني العبقريين - لا سلالة لهم ولا أعقاب. هم وحدهم ينشؤون من المستقبل المنحدر بعدهم ذراريهم وأطفالهم. .

وأغرب ما في ذلك أن جميع كبار شعراء الإنكليز لم يتركوا أولاداً ونحن هنا نذكر أسماء الشعراء الآتين - شكسبير. ملتون. دريدن. أديسون. بوب. سويفت. جونسون. جولد سميث. وكثيرون غيرهم اجتنبوا الزواج لكي يتفرغوا إلى الدراسة والأدب. وقد قال المصور العظيم ميشيل أنجلو يوماً إن لي في فني بعيشة الأسرة - كنت - ماكولي - بنتام - شوبنهور - فولتير - شاتوبريان - فلوبير - ماسيني، وهناك مجمع من النوابغ أقدموا على الزواج، ولكنهم عانوا منه العذاب، وساءت به حالهم، وأظلم عيشهم ومنهم شكسبير ودانتي وبيرون وكولوريدج وأديسون وكاريل وأوجست كونت وديكنز، وقد كتب فلوبير يوماً إلى الكاتبة القصصية الطائرة الصيت جورج ساند أن بنات الشعر أخف رحمة، من بنات حواء وقال شامفور لو عقل الرجال لما بقي في الأرض جميعاً رجل يتزوج، وأما عني أنا فإنني لا شأن لي بالزواج لئلا يخرج مني ولد مثلي!! وهناك عارض آخر يشترك فيه الجنون والعبقرية، ولاسيما الجنون الأخلاقي ونعني به النضوج قبل الأوان. فإن الشاعر دانتي كتب أول قصيدة في الحب وهو في التاسعة وكان باسكال وكونت مفكرين كبيرين رائعي التفكير وهما في الثالثة عشر، وكان فولتير كذلك وهو في هذه السن. وكتب الشاعر جوت قصة بسبع لغات، ولم يكن قد جاز بعد العاشرة، والروائي التمثيلي كوتزبي جعل يكتب كوميديات للمسارح وهو في السابعة، ونظم بيرون عدة أبيات وقصائد وهو في الثانية عشر، ونشر في الثانية عشر أول قطعة من ديوانه ونعني بها - عات الفراغ وأعجب من جميع ذلك أن ميرابو الخطيب العظيم خطب وهو في الثالثة ونشر مؤلفات له في العاشرة وإن موزار جعل يقيم الحفلات لكي يوقع موسيقاه الجديدة وهو في السادسة. ولكن هذا النضوج المبكر لا يزال بعد نضوجاً مريضاً عارضاً غير طويل العمر، وكثيراً ما يظهر في المتوحشين والبيئات التي تعيش على الغريزة، وهناك مثل سائر يقول إ، الذي يكون عبقرياً في الخامسة يصير مجنوناً في الخامسة عشر!. . . وقد يعترض بعض الناس على هذا العارض فيقولون إن هناك كثيرين من النوابغ والعبقريين لم تظهر عبقريتهم ولم يتجلى ذكاءهم المتوقد إلا بعد دهر طويل. وبعد أن جازوا من عمرهم سنين عدة، وهؤلاء يجاب عليهم بأنه لم توجد ثمت ظروف صالحة

مواتية لظهور ذكائهم، أما إن يكون ذلك راجعاً إلى جهل المعلمين والآباء إذ يحسبون العبقرية وهي في دور الذهول والبلادة في الطفل بلاهة أو غباء وحمقاً، وكثيرون من الأطفال كانوا يعدون في المدرسة أغبياء أو حمقى أو طائشين ثم أصبحوا بعد ذلك عظماء ونوابغ، ولم تلبث أن ظهرت عبقريتهم عندما سنحت الفرصة لإظهارها أو عندما اهتدت أذهانهم إلى الطريق الملائمة لعبقريتهم، ونذكر من هؤلاء بلزاك وديماس الكبير والدوق ويلنجتون القائد الإنكليزي العظيم والروائي الخطيب شريدان والشاعر بيرنز، وكان نيوتن مكتشف قانون الجاذبية آخر أقرانه في الفرقة، يوم كان تلميذاً، وكان ولتر سكوت غبياً مكسالاً في المدرسة، ولكنه ظهر بعد ذلك أكبر الروائيين، وأما جوستاف فلوبير فتعلم القراءة في طفولته بكل مشقة وجهد، ولكنه في الوقت نفسه كان يضع في ذهنه روايات تمثيلية كثيرة، وكان لا يستطيع كتابتها، فاجتزأ عن ذلك بأن أخذ يمثلها بنفسه ويقوم هو بجميع أدوارها. ويجئ بعد ذلك الذهول أو الغيبوبة، وقد وصف كثيرون من العبقريين أنفسهم وهم تحت تأثير الإلهام فقالوا أن حالتهم إذ ذاك تشبه حمى بهيجة مفرحة. تثير تفكيرهم وتبعث أذهانهم على التخيل والغياب في أبعد مراحل التصور والفكر. ومن ذلك يقول بول ريختر إن الرجل العبقري في نظري هو رجل منوم، يرى في حلمه الهادئ أكثر وأبعد مما يراه في صحوه ويقظته، وهو في هذا الحلم يبلغ أسمى جبال الحقيقة والرجل العبقري في ذلك مدفوع بإحساس لا يستطيع رده، وكما تدفع الغريزة الحيوان إلى إتيان عمل قد يكون فيه موته، تجد العبقرية كذلك عاجزة عن مدافعة ما يثيرها من الإحساس الداخلي الغريب. وقد غزا نابليون غزواته، وأغار الإسكندر غاراته. لا حباً في المجد ولا رغباً في الشهرة والفكاهة. ونما إطاعة إلى غريزة قوية ل قاهر لها، وكذلك العبقرية تخلق وتبتكر لا رغبة في الإيجار ولكن لأنه يجب أن تخلق وتبتكر.، حتى لقد قال نابليون إن نهاية وقائعه كانت نتيجة لحظة واحدة من التفكير، إذ تظهر اللحظة القاطعة، فتسطع شعلة الفكرة، فإذا به يرى نفسه منتصراً، وقال لامارتين لست أنا الذي أفكر، إن أفكاري، إن أفكاري هي التي تفكر عني وكثيراً ما كان يقول الشاعر جوت أنه لا بد للشاعر من التهاب الذهن، وقد نظم جوت أكثر شعره وهو في حال بين النوم واليقظة، وكتب فولتير جزءاً كاملاً من كتاب الهنريات

وهو نائم. ولعل أقرب ضروب الشبه بين العبقريين والمجانين، لا يقع لا عندما يكون أهل العبقرية تحت تأثير الإلهام، والأعراض التي تبدو على الرجل العبقري عندما يكون في هذه الحال هي سرعة النبض وإصفرار المحيا وبرودة الجلد والتهاب الرأس من الحمي وزيغ البصر من ظهور بريق موحش مخيف في العينين، وكثيراً ما يحدث أن الشاعر أالكاتب لا يدري ماذا كان يكتب أو ينظم عندما يفيق بعد ذلك من الحمى التي انتابته. فقد كان الشاعر تاسو نظهر عليه كل عوارض الجنون، عند ما كان يأخذ في نظم قصائده. . ومنهم من يضطر إلى إحداث الإلتهاب في ذهنه بأية وسيلة وسبيل لكي يقع له التفكير، ويواتيه الشعر والخيال، فكان شيللر يضع رجليه في الثلج، وروسو لا يفكر إلا إذا عرض رأسه لأشعة الشمس وهي في أشد وهجها، وكان الشاعر شللي يرقد ورأسه على مقربة من الموقدة وقد يتحول الإلهام في بعض الأحايين إلى الهذيان. فقد كان ديكنز وكليست يحزنان على الأبطال الذين يضعانهم في روايتهما، وقد شوهد الشاعر كليست باكياً متحدر العبرة، جازعاً كاسف البال، بعد انتهائه من كتابة إحدى رواياته التراجيدية، وهو يقول صارخاً لقد ماتت. لقد ماتت! وأشد ما يتجلى في النوابغ والعبقريين شدة الإحساس، حتى إن كارليل وموسيه وفلوبير كانوا لا يستطيعون احتمال ضوضاء الشوارع وأصوات النواقيس، ولهذا كانوا لا يقيمون في منزل واحد، وإنما يتنقلون من شارع إلى شارع، ومن مسكن إلى مسكن، هرباً من الأصوات. وقد تشنج الشاعر بيرون عندما رأى الممثل كين يمثل فوق المسرح. وقد رأى المصور فرانسيا يوماً صورة من صور روفائيل، فمات لساعته من شدة الفرح وتبدو لهم طعنات خناجر ومدى وسكاكين، ما يبدو لغيرهم وخزات الإبر، فإن الشاعر شاتو بريان لم يكن يحتمل أن يسمع مديحاً موجهاً إلى إنسان ما، ولو صانع أحذيته، دون أن يثور ثائره، ويهتاج حنقه، وقد شوهد الشاعر الروسي بوسكن في دار التمثيل والجمهور منصرفون في ختام الرواية، متزاحمون عند الباب يعض من الغيرة والحنق كتف إحدى السيدات، وكانت تمشي إلى جانب زوجها، وذلك لأنه كان إذ ذاك يميل إليها. وإن الفيلسوف شوبنهور كان رفض أن يدفع للدائنين الديون التي عليه إذا كتبوا اسمه بالباء المشددة بدلاً من باء واحدة وآخر ما نذكره من الأعراض التي تظهر على النوابغ السخافة،

وكثيراً ما توجد دلائلها في كتبهم وأحاديثهم فقد جمع جوستاف فوليير طائفة منها في كتاب أسماه ملف البؤساء وكانت لا تعرف اللاتينية، ولكنها كانت تفهمها جيداً، أو كلمة برناردان دوسان بيير صاحب الرواية الطائرة الصيت بول وفرجيني وهي أن الطبيعة قسمت البطيخة إلى شقق لكي تؤكل في العائلة ولما كانت القرعة أو اليقطينة أكبر حجماً، فإنها خلقت لكي تؤكل مع الجيران!!.

الآداب وتطورها

الآداب وتطورها ـ 2 ـ الأثرة الذاتية وحب الغير جبلت الكائنات الحية على الأثرة وحب النفس فالنبات يمد جذوره في الأرض إلى مسافات بعيدة ويخص نفسه بأوفر نصيب من الغذاء الضروري لحياته ويمانع غيره من أن يقتات بجانبه أو يعيش معه في بقعة واحدة، وإذ كانت المادة المغذية غير كافية للاثنين حاول كل منهما قتل الآخر، وتقتتل الحيوانات فيما بينها طلباً للحياة فتعدوا الضاريات على آكلة النباتات لتقتات بلحومها فتدافع هذه عن نفسها، وينشب بينهما القتال أو تطلق لساقيها العنان، وتتناجز الضاريات فيما بينهما للإنفراد بالبقاء، وكذلك تتناطح آكلة النباتات لتستأثر بالأعشاب وورق الأشجار. والإنسان مع كل هذه الكائنات في حرب عوان لا يفتر عن مقاتلها ليأمن شر بعضها وليستخدم البعض الآخر في منفعته، وهو مع بني جنسه في عرك مستمر أيضاً ليستقل بخيرات الأرض ونعيمها. فالأثرة الذاتية أساس كل حياة والعالم قائم على جهاد وقتال، القوي فيه فائز والضعيف مخزوم، وإذا لم يكن بد من أن يكون بعض الناس آكلاً والبعض الآخر مأكولاً فلتكن من الصنف الأول لا الثاني إن أمكن. ومحبة الغير وهي عاطفة طبيعية في النفس فرع من محبة الإنسان لذاته. فالمرء لا يريد لغيره الخير إلا إذا ناله أو ظن أن يناله خير من جراء ما أصاب هذا الغير. ولا يحافظ المتوحش على حياة أخيه المتوحش إلا لأن أخاه يذب عنه ويعينه على أعدائه. ولا يقف الإنسان إزاء مصائب غيره جامداً بل يحزن ويتألم، إن وقع نظره على جريح أو مبتور اقشعر بدنه وانتفضت أطرافه، ولو رأى مريضاً توجع له ورثى لحاله ويفزع من أخبار الموت ويجزع منها وذلك لأنه يتمثل نفسه في الحالة التي رأى غيره فيها فتطير نفسه شعاعاً من الألم وتنتابه هذه الحركة القسرية المسماة بالقشعريرة والتي كانت في الأصل حركة اختيارية يراد بها درء الألم. ألا تجد أنك لو رأيت إنساناً مبتور أحد الأعضاء سرت القشعريرة في العضو المقابل له من جسمك وربما تلمست هذا العضو

لتطمئن عليه. وأشد ما يكون فزع الإنسان من ذكر الموت حين مرضه وأيام الأوبئة المعدية. ولو مر بك فقير يقطر ذلاً ويتساقط جوعاً انقبض صدرك وانفطر قلبك ومددت يدك إليه بالصدقة لترد إليه مسغبته وفي الحقيقة لتدفع عن نفسك الألم الذي شعرت به حينما رأيته ووضعت نفسك مكانه فمثل الصدقة كمثل القشعريرة وانقباض اليد حينما نشعر بقرب النار منها تنزل إلى القلب الراحة والسكينة وتبعد عنه الألم. والمتصدق في الواقع ونفس الأمر إنما يحسن إلى نفسه من قبل أن يحسن إلى غيره. والفقير أبر الناس بالفقراء وأشفقهم عليهم ومعظم دخل الشحاذين من جيوب المعوزين الذين يتوقعون الفاقة من وقت لآخر وذلك لأنهم واقفون على حافة العدم ومهددون بالفقر فكل مظهر من مظاهر الفاقة يخيفهم ويهوي بمخيلتهم إلى جحيم الحاجة وسرعان ما يجدون أنفسهم مكان الشحاذ يستعطون، فيمدون أيديهم بالصدقة ليبعدوا عن أنفسهم هذا الخيال المفزع ولا يمكن أن يقال أن منظر المرض أو الفقر في حد ذاته مؤلم فكثيراً ما يمرض بعض الناس به ولا تجد الشفقة إلى قلوبهم سبيلاً ولا يتأثر الإنسان من التمثيل مهما كان متقناً والممثلون بارعين في محاكاة الطبيعة إلا إذا نسي الإنسان نفسه وظن التمثيل حقيقة وامتزج بأبطال الرواية. أما إذا أقام بمعزل ورجع إلى نفسه وأدرك أن ما يمر به محض تمثيل سخر منه وضحك في المواقع التي تستوجب البكاء. يجمع الإنسان بين جوانحه كثيراً من المتناقضات فبينما نجده شغوفاً بالعدل وحب الغير إذ تجده يحب نفسه حباً جماً ويؤثر مصالحه على مصالح غيره وتعترك في نفسه أميال شتى يرجع بعضها إلى حب الذات ويرجع البعض الآخر إلى محبة الغير. والإنسان بين هذين الفريقين مع الغالب فتارةً تفوز الأثرة الذاتية وطور ينتصر العدل الذي هو محبة الغير. وفوز أحد الجانبين على الآخر متوقف على مزاج الإنسان وبنيته وما ورثه عن أسلافه من القوة والضعف والشدة واللين وعلى ما يحيط به من الظروف والأحوال. وهذا العراك في أغلب الأحايين فاتر لحسن الحظ ولا يدوم طويلاً. غير أنه قد تصيب الإنسان في بعض الأحايين أزمة شديدة تتماثل فيها الأميال وتتساوى القوى المعارضة ويحار في الأمر فلا يدري ماذا يفعل ولا لأي الجانبين ينحاز.

أمر المؤمنين عمر بن الخطاب بجلد ابنه ولكن هل تظن أن هذا الأمر كان سهلاً عليه! وهل صمم عليه من أول وهلة حينما ظهرت له إدانة ابنه! إن دون الوصول إلى هذا الحل عراكاً شديداً بين حب الإبن وحب العدل وحاد للغاية، لا يصبر عليه إلا كل بطل شجاع كعمر بن الخطاب والفضل في فض الخلاف وترجيح إحدى الكفتين راجع إلى يقين عمر وإيمانه العظيم وإيثار الآخرة على الدنيا واعتقاده بأن العقاب يطهر النفس ويشفع في غفران الذب وبعبارة أخرى خوفه من الله سبحانه وتعالى وعذابه وإلى حبه لابنه وتوخيه الأنفع والأصلح بأن اختار له نعيم الآخرة لأنه أعظم وأبقى. وحب الإنسان لابنه شكل من أشكال حب الذات بل هو بعينه إلا أنه أوسع وأعم وكذا الخوف من الله نوع من أنواع الحب الذاتي. فالحب الذاتي هو الذي هيج عواطف عمر وأثار أشجانه وهو الذي هدأ روعه وأنزل السكينة وأملى عليه الواجب. وهو الذي حمل السمو أل على الوفاء بعهده وتضحية ابنه وإيثار الثكل على أن يشوه سمعته ويسلم شرفه ويسلم سلاح امرئ القيس لأعدائه. وهو الذي يحمل الجندي على الإستماتة في الدفاع عن بلده والاحتفاظ بترث أسلافه. إن منشأ حب الوطن آتٍ من تمتع الإنسان بخيرات بلاده ونعيمها - ووجود مصالحه فيها فهو إن دافع عنها فإنما يدافع عن نفسه وأهله وقوته وماله. وكلما كانت المصالح الشخصية أكثر التئاماً مع المصالح العمومية كانت الأمة أقدر على الدفاع عن نفسها والأفراد أشد تفانياً في حبها يدافعون عنها وكأنهم يدافعون عن أرواحهم ويلقون بأنفسهم في غمار الحرب لا طلباً للموت وإنما حباً في البقاء واحتفاظاً بحريتهم وحقوقهم. يقول جوستاف لوبون إن وطنية الإنكليز والأمريكان والألمان قوة عظيمة دونها قوة المدافع وكل أمة فقدت وطنيتها فعن قريب تفقد كل شيء. نسي جوستاف لوبون أمته ولكن نحن لا ننساها فإنها في طليعة الأمم التي تتقد حمية وتشتعل وطنية فقد دكت المدافع الألمانية حصون فردان وصيرتها أطلالاً بالية وغيرت معالم أرضها وجعلت عاليها سافلها ولكن فردان لم تؤخذ لأن الأمة الفرنساوية أبت أن تسلمها واستعاضت عن الحصون بصدور أبنائها الأبطال فثبتت هذه حيث لم تثبت تلك لأن

حشوها الغيرة والحماسة والوطنية وهل للمدافع سلطان على هذه العواطف. ولا غرو أن يكون الإنكليزي والفرنساوي بهذه الوطنية فإن حكومتيهما من خير الحكومات حرية وعدلاً وأكثرها عطفاً على أبنائها ورعاية لمصالحهم. لا توجد الوطنية إلا حيث توجد الحرية والعدل ولا يدعو إلى انقسام البلد وتفرقها أحزاباً وطوائف إلا اختلاف المصالح ولا تنشأ الثورات والفتن إلا عند وجود هيئة حاكمة متمتعة بخيرات البلد وهيئة محكومة تتقلب على الذل والفقر. وإذا ثبت أن الحب الذاتي أثاث كل عاطفة شريفة وإحساس راق كما أنه جرثومة الشرور ومدعاة الفساد فمن الحمق إبادته وإزالة أثره من النفس ومن المحال نزعه إلا بنزع الحياة ولولاه لما نشطت الهمم وتسابقت الأمم والأفراد في مضمار المدنية بل لماتت الإنسانية في مهدها وكل ما يستطاع عمله ويحسن بنا أن نفعله هو أن نتوخى له سبيل الرشاد قدر الإمكان ونبتعد به عن مهاوي الفساد، أما تطهير النفس منه فمحال وضار للغاية. وقد حاولت الإشتراكية من أول وجودها أن تبني نظامها الإجتماعي والإقتصادي على مبدأ نكران الذات فأخفقت إخفاقاً تاماً لا لأن مبادئها لم ترق في أعين الجمهور بل هي بالعكس خلابة تبهر الأبصار وتستهوي العقول وإنما لأنها لم تهتد إلى دافع غير الحب الذاتي يدفع الأفراد إلى العمل ولهذا رجعت بعض الفرق الإشتراكية عن مبدأ المساواة التي بدأت منه واعترفت بالحب الذاتي وإنما تحاول فقط تنظيمه وتنسيقه وتطهره من الشرور، وقد سعت الإنسانية إلى هذه الغاية بأديانها وقوانينها وشرائعها وما زالت تسعى فهل تصل إلى بغيتها وهل يصبح الإنسان ملكاً لا يتقاسمه الخير والشر! ولا تخالج نفسه الأفكار السيئة! لا أظن. عبده البرقوقي المحامي

مختارات

مختارات أدب الملوك من الكلمات المتداولة الكثيرة الذيوع والإنتشار قولهم كلام الملوك ملوك الكلام، وإن هذه الكلمة لتصدق على كثير من كلام الملوك ومن إليهم من الأمراء والعظماء وذوي السلطان ونحن ننشر هنا شيئاً مما عثرنا عليه من الكلمات الحكيمة والآداب الرفيعة التي أثرت عن بعض الخلائف والملوك والأمراء والعظماء من المتقدمين عسى أن يكون فيها لمن بقي اعتبار. حدث الأصمعي قال: لما عزم الرشيد على الأنس بي قال لي في أول يوم أحضرني للأنس والمحادثة يا عبد الملك أنت أحفظ منا ونحن أعقل منك، لاتعلمنا في ملأ، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلوة واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال فإذا بلغت من الجواب قدر استحقاقه فلا تزد، وإياك والبدار إلى تصديقنا وشدة التعجب مما يكون منا، وعلمنا من العلم ما نحتاج إليه على عتبات المنابر وفي أعطاف الخطب وفواصل المخاطبات، ودعنا من رواية حوشي الكلام وغرائب الأشعار وإياك وإطالة الحديث إلا أن نستدعي ذاك منك، ومتى رأيتنا صارفين عن الحق فأرجعنا إليه ما استطعت من غير تقرير بالخطأ ولا إضجار بطول الترداد - قال الأصمعي: فقلت يا أمير المؤمنين. إني إلى حفظ هذا الكلام أحوج مني إلى كثير من البر - ونهض هشام بن عبد الملك يوماً من مجلسه فسقط رداؤه من منكبه فتناوله بعض جلسائه ليرده إلى موضعه فجذبه هشام من يده وقال مهلاً إنا لا نتخذ جلساءنا خولاً - وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: إن قوماً صحبوا الملك بغير ما يحق لله عليهم فأكلوا بخلاقهم وعاشوا بألسنتهم وخلفوا الأمة بالمكروه والخديعة والخيانة، كل ذلك في النار، ألا فلا يصحبنا من أولئك أحد. فمن صحبنا بخمس خصال فأبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ودلنا على ما لا نهتدي إليه من العدل وأعاننا على الخير وسكت عما لا يعنيه وأدى الأمانة التي احتملها عامة المسلمين فحيي هلاً به. - وتناظر المأمون ومحمد بن القاسم في شيء ومحمد يغضي له ويصدقه فقال له المأمون أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك ولو شئت أن أقتسر الأمور بفضل بيان وطول لسان وأبهة الخلافة وسطوة الرآسه لصدقت وإن كنت كاذباً وصوبت وإن كنت مخطئاً وعدلت وإن كنت جائراً ولكني لا أرضى إلا بإزالة الشبهة وغلبة الحجة،

وإن أضعف الملوك رأياً وأوهنهم عقلاً من رضي بصدق الأمير - وسخط الرشيد على حميد الطوسي فدعا له بالسيف والنطع فبكى فقال ما يبكيك قال والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت فإنه لا بد منه وإنما بكيت أسفاً على خروجي من الدنيا وأمير المؤمنين ساخط علي فضحك وعفا عنه وقال: إن الكريم إذا خادعته انخدعا: وكتب علي بن عيسى الوزير عن المقتدر كتاباً إلى ملك الروم فلما عرض على المقتدر قال فيه موضع يحتاج إلى إصلاح فسألوه عن ذلك فكان قد كتب في الكتاب أن قربت من أمير المؤمنين قرب منك وإن بعدت عنه بعد عنك فقال ما حاجتي إلى أن أقرب منه. اكتبوا إن قربت من أمير المؤمنين قرب وإن بعدت عنه أبعدك - وقال أبو عبد الله ابن حمدون النديم: لقد رأيت الملوك فما رأيت أغزر أدباً من الواثق، خرج علينا يوماً وهو ينشد لدعبل بن علي الخزاعي: خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني النوم وهو مكين وإن امرأ قد ضن عني بمنطق ... يسد به من خلتي لضنين فانبرى أحمد بن أبي دؤاد كأنما انشط من عقال فسأله في رجل من أهل اليمامة فأطنب وأسهب وذهب في القول كل مذهب فقال له الواثق يا أبا عبد الله لقد أكثرت في غير كثير فقال يا أمير المؤمنين إنه صديقي: وأهون ما يعطى الصديق صديقه ... من الهين الموجود أن يتكلما فقال الواثق وما قدر اليمامي أن يكون صديقك، ما احسبه إلا من عرض معارفك فقال يا أمير المؤمنين إنه قصدني في الإستشفاع إليك وجعلني بمرأى ومسمع من الرد أو القبول فإن أنا لم أقم له هذا المقام كنت كما قال أمير المؤمنين آنفاً: خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين فقال الواثق لمحمد بن عبد الملك الزيات أقسمت عليك إلا عجلت لأبي عبد الله بحاجته ليسلم من هجنة الرد وكدر المطل. ـ ولما ولي أبو جعفر المنصور الخلافة نهد إليه إبراهيم بن هرمة الشاعر ممتدحاً فلما دخل عليه أنشده شعره الذي يقول فيه: له لحظات عن خفاء سريرةٍ ... إذا كرها فيها عقاب ونائل

فأم الذي آمنت آمنة الردى ... وأم الذي حاولت بالشكل ثاكل فاستحسن المنصور شعره وقال له سل حاجتك قال تكتب إلى عامل المدينة أن لا يحدني إذا أتى بي إليه وأنا سكران وكان ابن هرمة مولعاً بالشراب كثير السكر - فقال له المنصور هذا حد من حدود الله وما كنت لأعطله قال فاحتل لي يا أمير المؤمنين فكتب أبو جعفر إلى عامله بالمدينة من أتاك بإبراهيم بن هرمة وهو سكران فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين فكان الشرطي يمر به وهو سكران فيقول من يشتري ثمانين بمائة ويمضي لطيته ولا يعرض له بشيء. ليلة أكتوبر بقلم شاعر الشبيبة الخالد الفرد دي موسيه الشاعر لقد طار العذاب الذي عانيته طيران الحلم، وتبدد ألمي كالطيف. ولست مستطيعاً تشبيه ذكراه اليغيدة، وآثاره المتنائية، إلا بالسحائب الخفية، الرقيقة الوشائح والحجب إذ يرفعها الفجر، ويزيحها السحر، فتهرب مع الندى، وتختفي مع القطر. إلاهة الشعر ولكن أيها الشاعر أنبئني قبل أن تبسط لي ألمك، هل أنت منه أبللت، وهل أنت من الأسى قد تعافيت. ليكن كلامك الآن بلا حب ولا بغض، واذكر أنك أسميتني من قبل معزيتك، ومنحتني الاسم العذب الجميل وهو أنيستك إذن فلا تجعل مني شريكة في العواطف التي أساءت إليك ولا تحملني تهمة جرم الجانحة التي أضاعتك. الشاعر لقد شفيت من المرض، وخرجت من العلة، حتى لقد أشك في أنني كنت بها يوماً مريضاً، ولبثت دهراً بها عانياً مهموماً، وإذ أنا أفكر في الأماكن التي جازفت فيها بحياتي، والعهود التي خاطرت عندها بعيشي، لا أتصور في مكاني إلا رجلاً غريباً عني لا أعرفه، ووجهاً عني مجهولاً لم أنظر إليه. فلا تخافي إلاهة الشعر ولا تجزعي. وهلمي على خفقات أنغامك التي توحي إلي بها، وأنفاس لحنك التي تنفخينها، نتجاذب في هدوء أطراف الحديث

ونتسار بلا خشية أسرار الأفئدة ونبكي لذكرى الهموم، إذ البكاء جميل، ونبتسم لحديث الأحزان، إذ الإبتسامات عذبة مروحة مطهرة. إلاهة الشعر إني لأحتضن قلبك الذي أغلقته دوني، وأميل على هذا الفؤاد الذي حجبته عني، كالأم الرؤوم الحنون، تسهر عند مهد ابنها المحبوب، وسرير طفلها المعزز. تكلم يا صديقي وأفض. إن قيثاري المتنبه المستمع سيتبع نبرات صوتك في لحن خافت أجش حزين، حتى تتولى ظلمات الماضي في ظل خيط من الضياء أشبه شيءٍ بشبح عارض يمضي مسرعاً هارباً الشاعر أي أيام العمل. . . أي زمن الجهد والدأب أيتها الأيام التي أحسست فيها وحدها أنني أعيش، وحقاً أحيا. أيتها العزلة العزيزة المحببة، حمداً لك الله وشكراً، إذ عدت إلى حجرتي المهجورة، ورجعت إلى معهد درسي القديم المنبوذ، أيها المكان الفقير المعتزل الساكن، يا جدران بيتي الصامتة الفريدة المقفرة. يا مقاعدي التي عدا عليها التراب، يا مصاحبي الصادق المخلص الأنيس. . أي قصري وعالمي الصغير وأنت يا ربة الشعر. يا رفيقتي الأبدية الصغيرة، حمدك رب وشكرك، ها نحن عدنا نتغنى سوية ونصدح، وجئنا معاً نتباكى ونترنم. إذن فإليك الآن أفتح مغاليق فؤادي، وأمامك أرفع الحجب المخطرفة فوق جانحتي. وستعلمين كل شيء، وتعرفين أي ألم تستطيع المرأة أن تضرم ناره، وأي شر تستطيع أن تحدثه، لأن مصابي، يا صحابتي، كما تعرفون، من امرأة. امرأة واحدة صغرت لها وخضعت، صغار العبد لسيده، وخضوع الرقيق لمولاه. أيها السلطان المستبد. أيها النير المطلق، أيها السيد اللعين الجبار، إنه منك وحدك قد فقد فؤادي قوته، وأضاع لديك شبابه، وأسرف على نفسه. ولكن لا أكتمك إني قد رأيت السعادة على مقربتها، وشهدت البهجة في جنابها، وكنا عن كثب من الجدول الفضفاض نسير معاً، في هدأة المساء، فوق الرمل الفضي، نستهدي أشباح الحور البيضاء سنن الطريق، ونسترشد بها عن بعد منحدر السبيل، وإذ أرى على ظل القمر وخيوط البدر هذا البدن الجميل متثنياً بين ذراعي. ولكن حسبي وكفى كلاماً. . . . . . . . . . . . إنني لم أتنبأ بالخاتمة، ولم أكن

أعلم الغاية. ولم أتصور في أضعاف القدر خفي النية. إن غضب الآلهة ولا ريب كان يطلب فريسة، وحنقها كان يسأل فدية، إذا عاقبتني وعدتني مجرماً إن حاولت أن أكون سعيداً. إلاهة الشعر إن صورة الذكرى الحلوة قد عادت تتفتح لذهنك، وتتجلى لخاطرك. فعلام تخشى أن تعود إلى الأثر التي تركته في نفسك، والجزء الجميل الذي أحدثته في فؤادك. أإنكاراً للأيام الجميلة، وكفر بالعهود الناضرة، وأنت تريد أن تقص القصة صادقة، وتشرح همامة نفسك إخلاصاً وأمانة، أيها الإنسان الفتي الصغير إذ كان حظك قاسياً، ونصيبك محزناً آسياً. إذن فابتسم لحبك الأول، وليومض ثغرك للهوى القديم. الشاعر كلا. إنني أتباسم لآلامي، وأتضاحك لعذابي يا إلاهة الشعر. إني أريد أن أقص عليك خيبتي وأحلامي وهذياني، بلا تأثر ولا حزن، غير ذكر الزمن، ولا شارح المكان، ولا باسط الفرصة والعهد. . . في ليلة من ليالي الخريف، في ليلة قرة متجهمة، أشبه بليلتنا هذه وإليها أقرب، وأنة الريح، وحشرجة الهواء في رأسي الملتهب. وذهني المتعب. تشق صميم همي، وتنفذ إلى جوف حزني، وكنت لدى الناقدة على مرتقب عشيقتي، أتسمع في هذه الظلمة المنتشرة السائدة خفق قدمها وحفيف ثوبها وأنا أحس في نفسي حزناً غريباً. ومصاباً أليماً، إذ ثارت ريبة الخيانة في خاطري، ووسوسة الغدر في ضميري، وكان الشارع الذي أسكنه قفراً مظلماً. ورأيت أشباحاً تروح، وأبصرت أشباحاً تمر، وريح الصبا تنفذ من بين شقتي الباب، وكأن في عزيفها أنة إنسانية، وفي زفيفها آهة نفسانية، ولا أدري لماذا أحسست روحي تجري في سبيل الشك، وتندفع إلى توقع الشر، وأنا أجاهد شجاعتي، ولكن لم ألبث أن شعرت بالرعدة تسري في جميع بدني، إذ الساعة آذنت، وإذ دقات الزمن توالت، وهي بعد لم تعد، وطلعتها لم تقتبل، وجعلت أجيل البصر وحيد، مطرق الرأس، منكس الجبين إلى فسحة الطريق، ومرمى السبيل. وأنا لم أنبئك بعد أي هيام مجنون أرسلت هذه المرأة في نفسي، وأي نار طائشة هوجاء أضرمت في وجداني. ولم أكن أحب غيرها في نساء الدنيا، وكنت أتصور اليوم الذي أعيشه بدونها قدراً أروع من الموت،

وفاجعة أشد إرعاباً من الفناء وإذ ذاك جعلت أجهد نفسي إن أقطع بيننا الرابطة، واستحث فؤادي على أن أبدد العلاقة، ورحت في ضميري أدعوها مائة مرة الفاسدة، ونعتها الغادرة الخائنة، ورجعت إلى سجل آلامي التي عاينتها منها. أستعيدها ألماً ألماً، وأذكرها عذاباً عذاباً، واأسفاه!. . عند ذكرى جمالها المشؤوم. وحسنها المميت، أي ألم لم يهدأ، وأي حزن لم يسكن وأي غضبة لم تفتر وتهن. . .! وبدأ الصبح، وأشرق النور. . . وأنا لا أزال عند الشرفة متعباً من الإنتظار، ذابل الجفن من أثر التهويم، ففتحت عيني أستقبل بها الفجر الوليد، ورفعت محجري أشهد اليوم الواثب من مهده، وتركت بصري الزائغ يمرح في الطريق ويدور، ولكني لم ألبث أن سمعت وقع أقدام عند منعطف السبيل، وملتف الشارع الصغير. أي إله السموات. أي رب العظيم. إذ بي أراها هي بنفسها. أواه هذه هي قد دخلت بيتها. . . من أين كانت قادمة. . . ماذا كانت تصنع الليلة. . . أجيبي من الذي يقودك هذه الساعة، في أي مكمن رقد لي الصباح هذا البدن الجميل. وفي أي فراش امتد هذا الجسم البض الناعم وأنا عند الشرفة مسهد العين، وحيداً، ندي الجفن. أنبئيني في أي سرير، وأي خلوة، وأي مضطجع. من كان الساعة يشهد ابتساماتك، ويرى مشرفة أساريرك، إلى أي رجل كنت تضحكين، وأي فتى كنت تقبلين، أيتها المرأة الملوثة. أيتها الوقاح الفاسدة. أتراك جئت تعرضين فمك للثماتي، ورضابك لرشفاتي. . . ماذا تريدين مني، وماذا تسألين. أي ظمأ مخيف بعثك الآن على أن تأخذيني بين ذراعيك العاطشتين، وتحتضنيني بين ساعديك الظامئين الناضبين. أيتها المرأة الخائنة اذهبي عني. . . ويا شبح عشيقتي انطلق مبعداً قصياً. ادخل قيرك الذي منه نشرت، وحفرتك التي منها بعثت. دعني أنسى إلى أبد الأبدين شبابي، وإذا أنت يوماً هجت بي الذكرى، وعدت إلى الفكرة، فلا تصور أنني تصور أنني في منام، ولا تخيل إنني في حلم. إلاهة الشعر هون عليك يا شاعري إني استحلفك، ورفقاً بنفسك إنني أتوسل إليك. لقد أرعدني كلمك وأزعجني حديثك: حديثك. أي فتاي المحبوب. إن جرحك لا يزال يريد أن ينتقض. ولا يزال يطلب أن ينفتح. وا أسفاه. إنه جرح ولا ريب عميق، وطعنة ولا شك نجلاء وكذلك

جراحات الحياة ما إن تزل بطيئة البرء، وهموم هذه الدنيا متوانية الشفاء، فعليك إذن بالنسيان واطرد من روحك اسم هذه المرأة، وامح من صفحة نفسك أثر هذه الغادرة. الشاعر اللعنة عليك أيتها المرأة الأولى التي علمتني عذاب الهجر، ولقنتني نقيضة الخيانة والغدر. وذهبت بعقلي رعباً، وأطارت لبي حنقاً وغضباً، خزياً لك وعاراً يا ذات العين الظمياء التي قبر حبها المشؤوم فصل الربيع من حياتي - ودفن أيامي الحلوة الحسناء، يا من صوتها وابتسامتها ورنوتها الخادعة، ونظرتها الغاوية علمتني أن أذم السعادة، وألعن الراحة والهناء، ويا من شبابها ومفاتنها بعثتني على اليأس، إذا كنت الآن أشك في صدق الدموع وأستريب لغة العبرات، فذلك أني رأيتك تبكين وألفيتك تذرفين ماء الشؤون وتجهشين. خزياً وعاراً أيتها المرأة. إذ كنت أشد بلاهة من الطفل، وأنقى ذهناً من الوليد، وإذ كان فؤادي متفتحاً لحبك كالزهرة للفجر،. . . بعداً لك أيتها المرأة وضلة. . . أنت أم أحزاني وأنت والدة همومي أنت جعلت جفني للدموع عيناً وجعلت عيني للبكاء مصباً ومصدراً ولكن ثقي أنها الآن تسح وتنهمل، لا حاجز يحجزها، ولا مانع يكفكفها. إنها تخرج من جرح عميق لااندمال له، ولكني من هذه العين الثرة، والصدر المنهمر، والسيل السخين المر، سأغتسل الآن وأتطهر، ثم أنفض عني ذكراك المرعبة، وأنطلق من أثرك الكريه المرذول. إلاهة الشعر حسبك أيها الشاعر حسبك. إذا كان وهمك في هذه الخائنة لم يلبث إلا يوماً واحداً، فلا تفسده إذ تتكلم عنها، ولا تشنه إذ تنبئني نبأها. أيها الشاعر، أحترم حبك إذا أردت أن تكون محبوباً وإذا عز على الضعف الإنساني أن يغفر عن الآلام التي نالته من غيره، ووقعت به عن يد سواء، إذن فأغن عن نفسك ألم الحقد، وتحرج من الضغينة. وإذا لم تجد في نفسك القدرة على العفو والغفران. فاستقبل عنه العزاء والنسيان. إن الموتى يرقدون بسلام في جوف الأرض، ويضطجعون في أحشاء الغبراء، إذن فلترقد كذلك عواطفنا المنطفئة، وليدفن جبنا الخامد، فإن لرفات القلوب ترابها. ولأشلاء الأفئدة رغامها،

وخليق بنا أن لا نمس مضاجعها المقدسة أو نلمس بأيدينا مواقدها المباركة. أيها الشاعر، لماذا تريد، أن لا ترى في قصة عذابك الأليم إلا حلماً موهوماً، وحباً مخدوعاً، وهوىً كاذباً، أتظن العناية الإلهية لا غرض لها من تعذيبك، ولا باعث لها على ألمك، وهل ترى في نكبتك مسرة لله الذي نكبك، ألا تعلم أيها الطفل أن الضربة التي منها تشكو وتئن قد أفادتك وحفظتك، لأن فؤادك من الضربة تفتح، ومن العذاب نضج. أيها الشاعر. إن الإنسان طفل والحزن معلمه، ولن يتهذب حتى يحترق بنار الألم، ويخبز في موقدة العذاب، تلك شريعة صلبة قاسية، ولكنها سنة عالية سامية، قديمة كالعالم، عتيقة كالقدر، وكما ترى الحبوب لا تنضج إلا بالري والسقاء، تشهد الإنسان لا يعيش ويحس إلا بالدموع والبكاء. أيها الشاعر ألم تقل أنك من جنتك قد أبللت ومن نزقتك قد أثبت، ألست فتى في مطارف الشباب، ومنعماً في إبراد الهناء، ومحبباً مكرماً في كل مكان، فهل كنت تعرف هذه المباهج الناعمة، والمسرات الرفيعة، لو أنك لم تذرف قبلها دمعاً، وتسكب أول أمرك عبرات وشؤوناً. لعمرك نبئني، هل كنت من فرح ترفع الكأس المترعة إلى شفتيك، عند منحدر النهار، على ضفاف النهر، بجانب صديق قديم، في مائدة خمر وشراب، لو لم تدفع من قبل ثمن هذا الفرح، وتقضي حق هذا السرور، خبرني هل كنت ستحب الأزاهر وتهوى الحقول النواضر، وأناشيد بترارك وأغنيات الأطيار، وصور ميشيل أنجلو، والفنون الرفيعة، وشكسبير والطبيعة، لو لم تجد في خلالها أنات قديمة وشهيقاً، وتشهد في أضعافها نحيباً وعويلاً، وهل كنت مدركاً من طلعة السموات الإنسجام المعجز، والإئتلاف المدهش وسكون الليل، وخرير الموج، لو لم تسهد عينك ليلة فبت للنجوم راعياً، ولم لم تصبك الحمى فبعثتك على تخيل الراحة الأبدية. ليت شعري. أليس لديك الآن عشيقة حسناء، وخليلة فاتنة، وإذ تشد على يدها. عند الوداع، ألا ترى ذكرى آلام شبابك الأول تجعل ابتسامتها المقدسة أشد روعة، وأعذب تأثيراً، وأفتن نعمة، ألا تذهبان في أعماق الغابات المزهرة متنزهين، ألا تنطلقان الآن ذراعاً لذراع في صميم الأحراش اليانعة متصاحبين، ألا تمشيان فوق الرمل الفضي مختليين، ألست الآن وعشيقتك الحاضرة تسيران معاً وكما كنت العشيقة الأولى - في هذا الصرح الأخضر

الناضر، تستهديان أشباح الحور البيضاء سنن الطريق، وتسترشدان بها عن منحدر السبيل، ألا ترى الآن، كما كنت من قبل، على ظل القمر وخيوط البدر، بدناً جميلاً متثنياً بين ذراعيك، إذن فعلام الشكوى، ولم الصراخ والأنين وقد نشر بفضل العذاب أملك الخالد، وأبل على يد العذاب رجاؤك الأبدي، وعلام إذن تحقد على التجربة الأولى، وتكره شراً جعلك خيراً مما كنت، ومصاباً هذبك وسما بك. أي بني العزيز. لتشكر هذه الخائنة الحسناء التي أرسلت عبراتك، واحمدها أن أسالت ماء فؤادك. ألا أشكرها إنها امرأة، وقد قربها الله إليك لتحسن بعد العذاب سر العداء، وكان واجبها شاقاً، ومهمتها معذبة مؤلمة، ولعلها كانت تحبك، ولعلها كانت مولعة بك، وكانت تعرف الحياة، فعلمتك، وكانت بها خبيرة، فلقنتك، ثم جاءت امرأة أخرى فقطفت ثمر ألمك، وحظت منك بنتاج حزنك. أي طفلي العزيز. أشكرها. فإن حبك المحزن المخيب قد زال كالحلم، وثق أن دموعها لم تكن كذباً، وعبراتها لم تكن خدعة، أشكرها يا بني إنك تعرف إذ ذاك تحب. . . . الشاعر لقد قلت حقاً، إلاهة الشعر، ونطقت صواباً، إن الحقد شر، والبغضاء إثم، تثير رعدة مخيفة، ورجفة مرعبة، إذ ينتشر في الفؤاد دخانها، ويتصاعد في أعشار القلب بخارها، إذن فاستمعي إلي أيتها الإلهة وأنصتي، ثم لتقومي شهيداً على قسمي، عيناً ليميني. أقسم يا ربة الشعر بعيني عشيقتي الزرقاوين، ولون السماء المصحية، بتلك الشعلة المتوهجة، والشرارة الساطعة التي يسمونها نجمة الزهرة. . . بعظمة الطبيعة، ورحمة الخالق، بالضياء النقي الطاهر الذي يرسله النجم لهدى الساري، ومفتقد الطريق بأعشاب المرعى، وسرحات الغاب، بالحقول الخضراء، والمروج الفيحاء، بقوة الحياة، وجلال الكون،. . . . أقسم يا أشلاء حبي القديم، وبقية غرامي الطائش المجنون. إني سأباركك في ذاكرتي، ويا أيتها القصة المظلمة الموحشة الراقدة في مضاجع الماضي المنسي الذاهب، إني سأقدسك في ثنايا ذهني وخاطري ومخيلتي، وأنت يا من حملت من قبل اسم العشيقة، ولقبتك لقب الحبيبة الصديقة، لتكن اللحظة السامية التي فيها أنساك، لحظة العفو والغفران. إذن إلى الغفران، إذن إلى العزاء والصفح، إني الآن، أقطع رابطة الفتنة التي ربطتنا معاً

أمام الله. وبدمعة متحدرة، دمعتي الأخيرة، أقرئك الوداع المستديم، وأتلقى منك الفراق الخالد. والآن هلمي يا ربة الشعر، وتعالي أيتها الشاعرة الحسناء، نعود إلى الحب، ونتطارح ذكر الهوى. . . . وأسمعيني أغنية منك بهيجة مفرحة، كما كنت تطربينني في أيامي الأولى الراغدة، وزمني الماضي الجميل. وهذه نفحات الحقول، وعقبات الأزاهر، تنم عن مقرب الصباح، وتكشف الغطاء عن مطلع الضياء. تعالي يا ربة الشعر أيقظي الحبيبة الجديدة من منامها، واجمعي أزهار الحديقة، واقطفي ورود البستان، تعالي انظري الطبيعة الخالدة تخرج من كلة النوم. تعالي نعود إلى الحياة في منبثق أول خيط من خيوط الشمس. نصيحة للشاعر محمود باشا البارودي بادر الفرصة واحذر فوتها ... فبلوغ العز في نيل الفرص واغتنم عمرك إبان الصبى ... فهو إن زاد مع الشيب نقص إنما الدنيا خيال عارض ... قلما يبقى وأخباراً تقص تارةً تنجو وطوراً تنجلي ... عادةً الظلل سجا ثم قلص فابتدر مسعاك واعلم أن من ... بادر الصيد مع الفجر قنص لن ينال المرء بالعجز المنى ... إنما الفوز لمن هم قنص يكدح العاقل في مأمنه ... فإذا ضاق به الأمر شخص إن ذا الحاجة ما لم يغترب ... عن حماه مثل طير في قفص وليكن سعيك مجداً كله ... إن مرعى الشر مكروه أحص واترك الحرص تعش في راحة ... قلما نال مناه من حرص قد يضر الشيء ترجو نفعه ... رب ظمآن لصفو الماء غص ميز الأشياء تعرف قدرها ... ليست الغرة من جنس البرص واجتنب كل غبي مائق ... فهو كالعير إذا جد قمص إنما الجاهل في العين قذي ... حيثما كان وفي الصدر غصص

واحذر النمام تأمن كيده ... فهو كالبرغوث إن دب قرص يرقب الشر فإن لاحت له ... فرصة تصلح للختل فرص ساكن الأطراف إلا أنه ... إن رأى منشب أظفور رقص واختبر من شأت تعرف فما ... يعرف الأخلاق الأمن فحص هذه حكمة كهلٍ خابر ... فاقتنصها فهي نعم المقتنص طرفة تاريخية المساواة في الإسلام حديث جبلة بن الأيهم حدث المؤرخون قالوا: لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني - وكان من ملوك آل جفنه - كتب إلى عمر رضي الله عنه يستأذنه في القدوم عليه فأذن له عمر فخرج إليه في خمسمائة من أهل بيته من عك وغسان حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه فسر عمر رضوان الله عليه وأمر الناس باستقباله وبعث إليه بأن زال وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا السلاح والحرير وركبوا الخيول معقودة أذنابها وألبسوها قلائد الذهب والفضة ولبس جبلة تاجه وفيه قرطة مارية وهي جدته ودخل المدينة فلم يبقى بها بكر ولا عانس إلا تبرجت وخرجت تنظر إليه وإلى زيه فلما انتهى إلى عمر رحب به وألطف وأدنى مجلسه ثم أراد عمر الحج فخرج معه جبلة فبينما هو يطوف بالبيت وكان مشهوراً بالموسم إذ وطئ أزاره رجل من فزارة فانحل فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري فاستعدي عليه عمر رضوان الله عليه فبعث إلي جبلة فأتاه فقال ما هذا قال نعم يا أمير المؤمنين إنه تعمد حل أزراري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف فقال له عمر قد أقررت فإما أن ترضي الرجل وإما أن أقيده منك قال جبلة ماذا تصنع بي قال آمر بهشم أنفه كما فعلت قال وكيف ذاك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك قال إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضله بشيء إلا بالتقي والعافية قال جبلة قد ظننت يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية قال عمر دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك قال إذن أتنصر قال إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك فلما رأى جبلة الصدق من عمر قال أنا ناظر في هذا ليلتي هذه وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا

وحي هذا خلق كثير حتى كادت تكون بينهم فتنة فلما أمسوا أذن له عمر في الإنصراف حتى إذا نام الناس وهدأوا تحمل جبلة بخيله ورواحله إلى الشام فأصبحت مكة وهي منهم بلاقع فلما انتهى إلى الشام تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية فدخل إلى هرقل فتنصر هو وقومه فسر هرقل بذلك جداً وظن أنه فتح من الفتوح عظيم وأقطعه حيث شاء وأجرى عليه من النزل ما شاء وجعله من محدثيه وسماره. ثم أن عمر رضي الله عنه بدى له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى الله جل وعز وإلى الإسلام ووجه غليه رجلاً من أصحابه وهو جثامة بن مساحق الكناني فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى كل شيء سوى الإسلام فلما أراد الرسول الإنصراف قال له هرقل هل رأيت ابن عمك الذي جاءنا راغباً في ديننا قال لا قال فألقه قال الرجل فتوجهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة والحسن والسرور ما لم أرى بباب هرقل مثله فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم وفيه من التصاوير ما لا أحسن وصفه وإذا هو جالس على سرير من قوارير قوائمه أربعة أسد من ذهب وإذا هو رجل أصهب ذو سبال وعثنون وقد أمر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس فما بين يديه من آنية الذهب والفضة يلوح فما رأيت أحسن منه فلما سلمت رد السلام ورحب بي وألطفني ولامني على ترك النزول عنده ثم أقعدني على شيء لم أثبته فإذا هو كرسي من ذهب فانحدرت عنه فقال مالك فقلت إنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا فقال جبلة أيضاً مثل قولي في النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكرته وصلى عليه ثم قال يا هذا إنك إذا طهرت قلبك لم يضرك ما لبسته ولا ما جلست عليه ثم سألني عن الناس وألح في السؤال عن عمر ثم جعل يفكر حتى رأيت الحزن في وجهه فقلت ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام قال أبعد الذي قد كان قلت قد ارتد الأشعث من قيس ومنعهم الزكاة وضربهم بالسيف ثم رجع إلى الإسلام فتحدثنا ملياً ثم أومأ إلى غلامٍ على رأسه فولى يحضر فما كانت إلا هنيهة حتى أقبلت الأخونة يحملها الرجال فوضعت وجيء بخوان من ذهب فوضع أمامي فاستعفيت منه فوضع أمامي خوان خليج وجامات قوارير وأديرت الخمر فاستعفيت منها فلما فرغنا دعى بكأس من ذهب فشرب منه خمساً عدداً ثم أومأ إلى غلام فولى يحضر فما شعرت إلا بعشر جوار يتكسرن في الحلى فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله ثم سمعت وسوسة

من ورائي فإذا أنا بعشرٍ أفضل من الأول عليهن الوشي والحلي فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله وأقبلت جارية على رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة وفي يده اليمنى جام فيه مسك وعنبر وقد خلط وأنعم سحقهما وفي اليسرى جام فيه ماء ورد فألقت الطائر في ماء الورد فتعك بين جناحيه وظهره وبطنه ثم أخرجته فألقته في جام المسك والعنبر فتمعك فيها حتى لم يدع فيها شيئاً ثم نفرته فطار فسقط على تاج جبلة ثم رفرف ونفض ريشه فما بقي عليه شيء إلا سقط على رأس جبلة ثم قال للجواري أطربنني فخفقنا بعيدانهم يغنين: لله در عصابةً نادمتهم ... يوم بجلق في الزمان الأول بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم ... شم الأنواف من الطراز الأول يغشون حتى ما نهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل فاستهل واستبشر وطرب ثم قال زدنني فاندفعنا يغنين: لمن الدار أقفرت بمعانٍ ... بين شاطئ اليرمول فالصمان فحمى جاسم فأبنيةالصف ... رمغنى قبائل وهجان فالقريات من بلاس فداريا ... فكاء فالقصور الدوان ذاك مغنى لآل جفنة في الدار وحق تعاقب الأزمان قد دنا الفصح فالولائد ينظم ... ن سراعاً أكلة المرجان لم يعللن بالمغافير والصم ... غ ولا نقف حنظل الشريان قد أراني هناك حقاً مكيناً ... عند ذي التاج مقعدي ومكاني فقال أتعرف هذه المنازل قلت لا قال هذه منازلنا في ملكنا بأكناف دمشق وهذا شعر ابن الفريعة حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت إما أنه مضرور البصر كبير السن قال يا جارية هات فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج فقال ادفع هذا إلى حسان وأقرئه مني السلام ثم راودني على مثلها فأبيت فبكى ثم قال لجواريه أبكينني فوضعن عيدانهن وأنشأن يقلن قوله: تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفني فيها لجاج ونخوة ... وبعت بها العين الصحيحة بالعور فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قال لي عمر

ويا ليتني أرعى المخاض بدمنةٍ ... وكنت أسير في ربيعةٍ أو مضر ويا ليت لي بالشآم أدنى معيشةٍ ... أجالس قومي ذهب السمع والبصر ثم بكى وبكيت معه حتى رأيت دموعه تجول على لحيته كأنها اللؤلؤ ثم سلمت عليه وانصرفت فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل وجبلة فقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها فقال أورأيت جبلة يشرب الخمر قلت نعم قال أبعده الله تعجل فانية لإشتراها لباقية فما ربحت تجارته فهل سرح معك شيئاً قلت سرح إلى حسان خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج فقال هاتها وبعث إلى حسان فأقبل يقوده قائده حتى دنى فسلم وقال يا أمير المؤمنين إني لأجد أرواح آل جفنة فقال عمر رضي الله عنه قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه وأتاك بمعونة فانصرف عنه وهو يقول: إن ابن جفنة من بقية معشر ... لم يغذهم آباؤه باللوم لم ينسني بالشآم إذ هو ربها ... كلا ولا متنصراً بالروم يعطي الجزيل ولا يراه عنده ... إلا كبعض عطية المذموم وأتيته يوماً فقرب مجلسي ... وسقي فرواني من الخرطوم فقال له رجل أتذكر قوماً كانوا ملوكاً فأبادهم الله وأفناهم فقال ممن الرجل فقال مزني قال أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لطوقتك طوق الحمامة وقال ما كان خليلي ليخل بي فما قال لك قل قال إن وجدته حياً فادفعها إليه وإن وجدته ميتاً فاطرح الثياب على قبره واتبع بهذه الدنانير بدناً فأنحرها على قبره فقال حسان ليتك وجدتني ميتاً ففعلت ذلك بي. قطعة من فلسفة شوبنهور (1) الإستقلال الذهني مكتبة صغيرة منظمة خير من عظيمة مشوشة وكذلك مقدار صغير من الأفكار قد نظم وركب في ذهن صاحبه خير من أكبر كمية من أفكار مشوشة قد جيء بها من ههنا وههنا. الإنسان قادر باختياره على القراءة والتحصيل ولكنه غير قادر على التفكير. وإنما يشعل

التفكير ويشب كما توقد النار بتيار من الوحي وزكي لهيب التفكير بالرغبة كما يزكي لهيب النار بمنفاخها. وهذه الرغبة إما أن تكون خارجية أي غير ذاتية (ويراد بهذا النوع من الرغبة ذلك الذي يبعث الإنسان على الإهتمام بكل شيء خارج عن نفسه لاستطلاعه وبحثه والتفكير فيه والكتابة عنه) أو تكون رغبة باطنية أي ذاتية (وهي التي تغذي الإنسان بالتفكير في ذاته وأحواله الشخصية والكتابة عن تجاربه وأحواله وعواطفه) وهذه الرغبة الثانية هي التي عنها يكتب معظم الكتاب. أما الأولى فهي مزية الفئة القليلة منهم أعني الفحول الذين هم مفكرون بالفطرة فالتفكير فيهم غريزة كالتنفس لكل ذي رئتين. القراءة تدفع في الذهن أفكاراً قد تكون منافية لحالته أثناء القراءة منافية طابع الحديد للشمع اللين الذي يطبع بذلك الطابع. فترى أن الذهن يكابد في هذه الحالة أشد الإكراه والضغط من الخارج. وذلك أنه يرغم على التفكير في هذا المعنى ثم في ذلك مما لا رغبة له في ساعته. وعلى العكس من ذلك إذا شرع الإنسان يفكر لنفسه فإنه لا عدو مجاراة خاطرة ومسايرة وجدانه مما قد أثاره في نفسه إذ ذاك شيء من الأشياء المحيطة به أو هاتف من هواتف الذكرى. ونحن لا ندعي أن المناظر المحيطة بالإنسان قادرة أن تنقش على صفحات ذهنه فكرة واحدة معينة محدودة كما تنقش القراءة ولكننا نقول أن المناظر المحيطة تمده بالمواد والبواعث على أجله الفكر فيما هو مجانس لطبيعته مؤتلف مع مزاجه في تلك اللحظة وهذا هو السبب في أن كثرة القراءة تسلب الذهن كل ما به من صفات المرونة واللين والرخاوة التي تجعله طيعاً في قبضة صاحبه يصرف عنانه كيف يشاء وكالعجينة يكيف شكلها كما يريد. ويكون الذهن في حالة إدامة القراءة وعد التفكير كاللولب الذي تبقيه مضغوطاً على الدوام تحت ثقل عظيم وعلى ذلك فإذا كان أحد الناس لا يريد التفكير فأحسن طرقة هو أن يتناول كتباً فيقرأ كلما وجد نفسه خلواً من العمل. وهذا هو السبب في أن العلم يجعل أكثر أربابه أشد بلادة وحمقى مما كانوا بفطرتهم ويكلل مؤلفاتهم بالخيبة ويحرمها النجاح ويجعلهم كما قال الشاعر بوب لا يزالون يقرأون ثم لا تقرأ لهم كلمة. العلماء هم الذين أطلعوا على محتويات الكتب أما المفكرون والنوابغ والأعلام الذين قادوا

وأرشدوا فهم الذين قرأوا كتاب الكون وقلبوا صحائف الوجود. وواقع أنه لا صدق ولا روح إلا في الأفكار التي نشأت واختمرت في ذهن الإنسان نفسه. إذ أن هذه الأفكار وحدها هي ما يفهمها المرء تماماً ويحيط بكنهها. فأما قراءته أفكار غيره فهي كتناوله بقايا طعام غيره أو لبسه منبوذ ثياب شخص سواه. وأن نسبة الفكرة التي تقرأ إلى الفكرة التي تنبع من تلقاء ذاتها في ذهننا لهي كنسبة الأثر المتحجر من نبات كان في جاهلية الزمن (العصور السابقة للعصور التاريخية) إلى النبات الذي نراه بأعيننا غضاً مورقاً مونقاً. هذا وأن كثيراً من الكتب لا تعدوا كونها مجاهل ومتائه وأن من عمل بها فإنما يركب متن الضلال ويلج في سبل الباطل، أما من استرشد بعقله أعني من فكر لنفسه وكان ذا بصرٍ فذلك يملك البوصلة التي تهديه المنهج القويم فيجب على المرء أن يقرأ إلا إذا غاض ينبوع فكره. وهذا كثير الحدوث حتى لأكبر المفكرين. (2) المرأة قد قلدت الطبيعة المرأة وظيفة تربية الأطفال لأن المرأة بفطرتها صبيانية الذهن قصيرة النظر حمقاء. أو بعبارة أخرى هي طفلة طول حياتها - هي شيء بين الطفل والرجل (صاحب الرجولة التامة). انظر إلى الصبية كيف تقضي اليوم أثر اليوم في ملاعبة طفل صغير ترقص معه وتغني له. ثم تصور لو أن صبياً كان مكانها مع الطفل فماذا كان يصنع؟ أكان يصنع مثلها؟ الطبيعة تهب الفتاة حظاً وافر من الحسن والملاحة لمدة بضعة أعوام قلائل أثناء الشباب ثم تسلبها بعد ذلك الجمال والسر في ذلك هو أن الطبيعة تمد الفتاة في تلك البرهة بالسلاح اللازم لاقتناص رجل يكون عائلاً لها وقائماً بشؤونها وحافظاً لحياتها. حتى إذا تم لها ذلك نزعت الطبيعة عنها ذلك السلاح. فالطبيعة تبدي في ذلك مبدأها الإقتصادي المعهود. وهو تقديم ذخائرها لأبنائها وقت الحاجة فقط. فشأنها في ذلك كشأنها مع النملة الأنثى متى حملت الجنين فقدت أجنحتها إذ لا لزوم للأجنحة بعد ذلك بل ربما كانت عقبة لها في سبيل تربية النسل. وكذلك تفقد المرأة جمالها بعد ولادتها مرة أو اثنتين لعله لعين ذلك السبب.

وكذلك نرى أن الفتاة تعتقد أن شؤونها المنزلية والعائلية إنما هي مسائل ثانوية بل ربما عدتها تافهات يسخر منها ويهزأ أما المسائل الجوهرية والأمور الأساسية لديها فهذه هي الحب والمغازلة واقتناص القلوب وكل ما يدخل تحت ذلك من ضروب الحلى والزخرف وصنوف اللهو والرقص وما شاكلها. لا يخفى أنه على قدر عظم الشيء وشرفه وكماله يكون بطء تكونه وطول مدة نمائه فالرجل لا ينضج عقله قبل الثامنة والعشرين من عمره. أما المرأة فتبلغ ذلك في الثامنة عشرة. ولكن عقلها ضيق النطاق قريب النظر. وهذا هو السبب في أنها تبقى طفلة طول عمرها لأنها لا ترى من الأمور إلا ما بين يديها ولا تتعلق إلا بالحاضر وتغتر بالظواهر فتحسبها حقائق وتؤثر الحقير على العظيم والتافه على الجسيم. وإنما بفضل العقل الراجح ترى الرجل لا يقصر نظره على الحاضر بل يمده إلى المستقبل والماضي ومن ثم ينشأ الحزم والتبصر والتدبير مما يمتاز به الرجال على النساء. وقلة اهتمام المرأة بالمستقبل هي التي تغريها بالتبذير المجاوز كل حد - المشرف على الجنون. فهي تحسب أن الرجل ما خلق إلا ليكسب لها المال وإنها لم تخلق إلا لتبدده. المرأة مجردة من صفة العدالة والإهتداء إلى الحق ولذلك سببان - الأول هو ضعف الإدراك وقلة التبصير اللذان أشرنا إليهما آنفاً. والثاني هو أن الطبيعة لما وهبتها الضعف والوهن جعلت سلاحها المكر لا القوة. وهذا سبب ما ترى للمرأة من الكيد والحيلة وتأصل رذيلة الكذب في طباعها. وكما أن الأسود قد زودت بالمخالب والفيلة بالأنياب والثيران بالقرون فكذلك المرأة قد زودت من الطبيعة سلاحاً تدافع به عن نفسها - هذا السلاح هو الرياء - فالرياء في المرأة يقوم مقام قوة الجسم والعقل في الرجل. ولذا فالرياء هذا خلق غريزي في المرأة تستوي فيه الذكية والبليدة. فمن البديهي إذن أن تلجأ المرأة إلى الرياء عند الحاجة مثلما تلجأ الحيوانات الآنفة الذكر إلى أسلحتها التي أشرنا إليها عند الضرورة. ومن ذلك ينتج أن المرأة الصادقة التي لا ترائي هي إحدى المستحيلات. وينتج أيضاً ما قد عرف عن المرأة من سرعة استكشافها خلق الرياء في الرجل. ولا عجب فإن من يحاول إجازة الرياء على معدن الرياء لكمن يهدي المطر إلى السحاب فمن الحماقة والأمر هكذا أن يسلك الرجل مع المرأة سبيل الرياء ومن هذا الخلق (أعني الرياء) ينشأ ما يعرف عن

المرأة من صفات الكذب والغدر والخيانة ونكران الجميل وهلم جرا. وقد ثبت في سجلات المحاكم أن النساء أكثر ارتكاباً لجريمة الحنث من الرجال ومما يشك فيه جواز تحليفهن اليمين وقبول شهادتهن وتشهد سجلات القضاء أيضاً أن قد يصادف من حين إلى آخر المرأة الغنية الممتعة بكل ما تشتهي وهي مع ذلك تعمد إلى الأمتعة في حوانيت الباعة فتسرقها. وما كان قط لمن له مسكة من العقل أن يسند ذلك الإسم الجميل الجنس اللطيف لذلك الجنس الدميم الضئيل الضيق المنكبين العريض الكفل القصير الرجلين. فإن هذه المقابح هي جل محاسن ذلك الجنس. وأقرب إلى الحقيقة أن يسمين الجنس المعادي للجمال لجهلهن بالفنون الجميلة - الشعر والموسيقى وما يجري مجراهما. فإنهن لا طبيعة لهن البتة ولا استعداد ولا ميل ولا إدراك لشيء من هذه الفنون. فإن رأيت منهن تعلقاً بشيء منها فما هو إلا إدعاء باطل إذ يتخذن إحدى هذه الفنون ذريعةً للتقرب من الرجال قصد اصطيادهم. والحقيقة أن المرأة لا يهمها شيء سوى الرجل فميدانها الرجل وغايتها الرجل. والقلعة التي تريد مهاجمتها والإستيلاء عليها هي الرجل. ولذا فالرجل يجوز العلوم وهي تحوز الرجل. فإذا رأيتها تحاول إحراز شيء من الفنون فإنما تفعل ذلك لإحراز الرجل. فاشتغالها بالطلب والدراسة نفاقٌ ورياء ومن ثم قال روسو المرأة بوجه عام لا رغبة لها في الفنون ولا تفهم العبقرية ولا تملكها. . والذي لا يغتر بالظواهر لا بد أن يكون قد عرف ذلك في النساء. ومن لم يكن قد أطلع على ذلك الخلق فيهن فما عليه إلا أن يراقب حركاتهن في دار التمثيل أو في دار الموسيقى. فإنه إذا رأى اشتغالهن أثناء أبدع الفصول وأعجبها وطربها وأغربها بصنوف الأحاديث الصبيانية من فصول القول ولغو الكلام علم مقدار فهمهن للفن. . ولنعم ما كان قدماء اليونان يصنعون من منع النساء حضور التمثيل. فإن ذلك السبيل الوحيد لاستطاعهم سماع الموسيقى وألفاظ الممثلين. ولعله قد يحسن في أيامنا هذه أن يكتب على ستار المسرح ممنوع الكلام بحروف كبيرة. ولا عجب فيما قد أوردناه ههنا من سوء انصراف النساء عن محاسن الفن إذا ذكرنا أن أعظم مشاهير النساء لم يخرجن قط للعالم من المؤلفات ما هو حقيق أن يعد في الطبقة الأولى من نتائج الذهن البشري وأبين ما يشاهد هذا في فن التصوير الذي قد عرف أن

جزأه العملي هو سهل التناول على المرأة والرجل على حد سواء. فهن لهذا يتهافتن على الإشتغال بالتصوير. ومع ذلك فلست ترى لأنثى قط صورة مشهورة يصح مقارنتها بثمرات أنامل كبار الفن من الرجال. وذلك لتجردهن من الملكة التصويرية التي هي أس النجاح في ذلك الفن وإنما أقوى الملكات فيهن هي الملكة الوجدانية أي المنصرفة إلى ذاتية الإنسان ومتعلقاتها - وليس إلى تأمل الأشياء الخارجة عنه وتصورها (وهي ما قد سميناه بالملكة التصويرية). ولذا فالمرأة العادية لا إدراك عندها قط لمعاني هذا الفن (التصوير). وقد قال هويارتي في كتابه الذي لم يزل مشهوراً منذ ثلاثمائة عام أن النساء مجردات من الكفاءات العليا. على أن لكل قاعدة شواذ. ولكن النادر لا حكم له. فلا جرم إذا قلنا أن النساء بوجه الجمال ما زلن ولم يزلن سوقيات الأذواق (نسبة إلى السوقة وهم العامة) سخيفات الآراء ولذا لم يزل منهن محرضات لأزواجهن على كل خطة دنيئة وغاية سافلة. وكونهن سوقيات وسخيفات مع مالهن من السلطة والنفوذ في المجتمع هو سبب انحطاط المجتمع في هذا العصر الدنيء وفساده وما أصدق ما قاله شامفورت حيث قال إنما وظيفتهن العبث بحماقتنا وسفاهتنا وليس بعقولنا وأذهاننا فلا جدال في أنهن الجنس المؤخر. والذكور هم الجنس المقدم. فأقصى حقهن علينا هو أن نرمقهن بعين الصفح والتجاوز عن ذلاتهن. فأما إجلالهن واحترامهن فهذا بله منا وسخف وسفاهة لا ثمرة منه إلا أن يحقرنا في نظرهن والرجل مقدم على المرأة وهو أعظم شأناً منها وأرجح وزناً. وقد أحسن الشرقيون والقدماء في تفضيلهم الرجال على المرأة. لله درهم إنهم أنفذ بصيرة وأصح رأياً. وقبحنا الله إذ نقتدي بقدماء الفرنسيس في تقديسنا المرأة اتباعاً لمذهب الفروسية. . أسوأ العصور الوسطى وأسود بصماتها. وهل كان لهذا المذهب الفاسد - مذهب تقديس المرأة - من فائدة سوى أنه ملأ علينا ذلك المخلوق الضعيف خيلاء وغطرسة وطغياناً وعتواً. حتى صرنا يشبهن آلهة الهنود القردة المقدسة التي لشعورها بمنزاتها السامية عند عبادها قد أصبحت تظن أنها قادرة أن تفعل ما تشاء كما تشاء. أما مركز المرأة أعني السيدة في أوروبا مركز كاذب لأنها لا تصلح - وهذا رأي القدماء وما أصحه - لما أصبحنا نخصها به من آيات التشريف والتقديس حتى عادت تشمخ على الرجل أنفاً وتقعد فوقه وتقدمه إلى صدور الحفلات والمجالس وتنافسه في حقوقه

وامتيازاته. فحالتنا هذه قد أصبحت موضع استهزاء الشرق وسخريته. وأصبحنا نحن في نظر سكان آسيا أعجوبة وأضحوكة ولو بعث الله يونان وروما القديمتين لنظرتا إلينا كما ينظر الشرقيون الآن. وخلاصة القول أنه لا بد من إنزال المرأة السيدة عن منزلتها الباطلة المكذوبة إلى مكانها الحقيقي. أجل إذا كان هناك مخلوق يجب محوه من الكون فهو السيدة الأوروبية لأنها خارجة عن نظام الكون. نحن لا نريد السيدة وإنما نريد ربة البيت الخبيرة بشؤونها العلمية بطرق تدبيره، المأدبة المتواضعة الخاضعة العارفة وظيفتها ومنزاتها وقدر نفسها. غير الشامخة ولا المتغطرسة ولا المتكلفة ولا السخيفة التي أضحكت منا أهل العالم بالحمق والجهل والإدعاء الكاذب. ويعجبني ما قال اللورد بيرون في هذا الصدد وهو من بعض رسائله مركز المرأة في يونان القديمة معقول مستصوب - مركزها الحالي بقية من وحشية العصور الوسطى - عصور الإقطاعيات والفروسية - وذلك أنه مركز كاذب مصطنع - الواجب عليهن الإهتمام بشؤون البيت - وأن يطعمن الطيب ويكسين الجديد - ولكن لا ينبغي إختلاطهن بالرجال أو دخولهن في حومة المجتمع ويجب تعليمهن الدين ومنعهن من الشعر والسياسة - وأن لا يصل إلى أيديهن من الكتب إلا ما كان خاصاً بالفقه والطبيخ. وقد أبصرتهن يشتغلن في إصلاح الطرق في بلدة إيبيراس فرأيتهن يجدن هذا العمل أهم. (البيان) فماذا يقول دعاة السفور بعد كلمة هذا الفيلسوف الألماني الكبير؟

باب تدبير الصحة

باب تدبير الصحة فرس الليل أو الكابوس كثير من الناس يعرفون ما هو الكابوس وهو المعروف عند الإفرنج بفرس الليل وكثير من العامة عندنا يسمونه حمار الليل ويقولون لمن تملكه الأرق ركبه حمار الليل ولعله من الأمثال الحكيمة وخدمة لمن كانوا سعداء ولمن يزورهم فرس الليل أشرح لهم حقيقة غابت عن الكثيرين. فرس الليل هي حلم مزعج يصحبه إحساس بانقباض كأنه نشأ عن حمل ثقيل معيق للتنفس ومهدد بالإختناق ورغماً من جهاد النائم للتخلص من هذا الحمل وذلك الإختناق فإنه لا يقوى على التخلص ولكنه بعد جهاد عنيف يطول ويقصر تدركه رحمة فيستيقظ وكأنما أزيح عنه أثقل ما حمل الإنسان ثم يتمالك قواه ولكنه عادة يصاب بعرق غزير وخفقان في القلب وألم في الرأس وميل للنعاس. . ويرى العلماء أن هذا الطارئ ينتج عن اضطراب في الدورة الدموية الرئوية والحشوية (البطن) أكثر من اضطراب في المخ أما أنا فأقول وعن اضطراب في الدورة المخية أيضاً ويأتي عادة في الساعات الأولى للنوم أكثر مما يأتي في الساعات المتأخرة. - أما أسبابه فالنوم قبل تمام الهضم والنوم والوجه مغطى والأنف مسدود وعدم راحة الرأس على الوسادة وامتلاء المعدة بالأدوية المختلفة الضارة - ولعلاج هذا الأمر يبحث عن السبب ويزال. الجولان النومي الجولان النومي كثيراً ما يصيب بعض الأفراد ويكون مصدر انزعاج للمريض وعائلته وهو عبارة عما يحصل للنائم من استيقاظه وقيامه وعيناه مغمضتان أو مفتحتان (وفي كلتا الحالتين لا يبصر) بأعمال غاية في المهارة والدقة إما عقلية أو يدوية وعند استيقاظه تماماً لا يذكر شيئاً مما حصل على الإطلاق ولا يجب إيقاظ المتجول على هذا الشكل وهو سائر خوفاً من سقوطه ولا يترك المريض بهذا النوع ينام منفرداً إذ ربما قام وجال على عادته ودخل من نافذة على أنها باب فسقط وكثيراً ما يحصل هذا ويجب إغلاق أبواب الحجرة

والنوافذ جيداً خوفاً من هذا العارض. ولعلاج هذا الأمر تقوية المريض بكل الوسائل وعدم السماح له بامتلاء المعدة عند النوم والتبرز قبله مباشرة ولو بالوسائل الصناعية (الحقن الشرجية). الحمل ومدته مدة الحمل عند المرأة 272 إلى 273 يوماً هذا إذا عرف تاريخ بدأ الحمل بالدقة كأن كان ناشئاً على الوطء مرة واحدة أما إذا جهل فيحسب من آخر عادة 280 يوماً والمفهوم أن الحمل يحصل عادة قبل العادة دم الحيض بأيام أو بعدها ببضعة أيام وإذا عرف تاريخ آخر حيض أمكن معرفة يوم الوضع في الجدول الآتي: يناير 31 يوماًفبراير 28 يوماًمارس 31 يوماًأبريل 30 يوماًمايو 31 يوماًيونيو 30 يوماً775547أكتوبر (نوفمبر) نوفمبر (ديسمبر) ديسمبر (يناير) يناير (فبراير) أكتوبر (مارس) مارس (أبريل) يوليو 31 يوماًأغسطس 31 يوماًسبتمبر 30 يوماًأكتوبر 31 يوماًنوفمبر

30 يوماًديسمبر 31 يوماً767776أبريل (مايو) مايو (يونيو) يونيو (يوليو) يوليو (أغسطس) أغسطس (سبتمبر) سبتمبر (أكتوبر) ولعمل الحساب يؤكد من السيدة تاريخ آخر يوم انتهاء الحيض الأخير وعلى هذا التاريخ يضاف العدد المذكور بالجدول المبين أعلاه أسفل الشهر الذي انتهى فيه الحيض أخيراً. والعد الناتج يعطي التاريخ من آخر الأشهر الموجودة بأسفل كل عامود الذي فيه تضع المرأة فمثلاً - آخر حيض للمرأة انتهى في 14 يناير فيضاف 7 على هذا التاريخ أي 14 + 7=21 فإذن المرأة تضع في 21 أكتوبر. مثل آخر - لنفرض أن تاريخ آخر حيض انتهى في 29 يناير فيضاف سبعة على هذا التاريخ 29 + 7=36 أي في 5 نوفمبر. وهذا الجدول مؤسس على فرض أن الولادة تحصل بعد انتهاء عشرة أدوار حيض كل واحدة 28 يوماً وعلى ذلك يكون الحساب تقريبياً والفرق لا يتجاوز الخمسة أيام زيادة أو نقصان. وعلى ذكر الحمل والولادة أقول أن كثيراً من إخواننا علماء الدين سألوني رأيي في مسألة مدة الحمل وهل يمكن أن تطول أكثر من الزمن المعلوم فأقول بياناً لذلك أن الحمل بمعناه الحقيقي أي بوجود الجنين في حالة حيوية لا يمكن بحال من الأحوال إنما يمكن أن يحصل إجهاض في بحر مدة الحمل وعوضاً عن أن يقذف الجنين خارج الرحم يستمر في الرحم ويمتص أو تتكمش أجزاؤه وتتكلس وتبقى ما بقية المرأة إلا أن يزول بعملية جراحية أو خلافه وكذلك في الحمل خارج الرحم قد يقذف الجنين في البطن ويمتص أو تتكلس أجزاؤه أيضاً ويبقى في البطن في حالة غير حيوية بالمرة سنين طويلة ربما بلغت ثلاثين عاماً أو

أكثر. من ذلك يرى أن الحمل الحقيقي لا يستمر أكثر من الميعاد القانوني إلا في ظروف استثنائية لبضعة أيام أو لسنين عديدة ولكن في حالة غير حيوية بالمرة.

تفاريق طبية

تفاريق طبية (1) أسرع السموم فعلاً حمض الهيدروسنيك إذ ربما قتل في بضع ثوان. (2) الأطباء أقل الناس أعماراً. (3) الصداع من أسبابه الشائعة الإمساك. (4) إذا أردت أن لا تصاب بمرض الكاتب فعود نفسك أن تكتب معتمداً على كتفك أو على منتصف الساعد وإياك أن تعود نفسك الكتابة معتمداً على إصبعك الخنصر أو على الرسغ ومعنى ذلك إلا تجعل محل التثبيت الخنصر أو الرسغ ومرض الكاتب مرض ينتاب الكاتب وسائر ذوي الحرف اليدوية وله أدوار تبتدئ بارتعاش اليد وعدم القدرة على إمساك الآلة (القلم مثلاً) ثم الارتجاف ثم التراخي والشلل والعلاج الوحيد الذي توصل إليه الطب إلى الآن هو الراحة من العمل المسبب والكهرباء بقيود مخصوصة. (5) المراحيض على الطريقة الإفرنجية لها فوائد جمة منها الراحة المطلقة للجالس عليها حتى يمكنه أن يقرأ كتاباً بدون ملل أو كلل وهي في الواقع تعلم الأمعاء أن تؤدي وظيفتها بدون مساعد لها لا كما هو الحال في الكنف المصرية التي بضغط الفخذين والركبتين على البطن تساعد على التبرز ولتلك أيضاً ميزة هي أن تجعل المرء أقل عرضة لمرض الفتاق لأن الرجلين بتدليتهما تشدان جدر البطن فلا تسمح باتساع الحلقة الأوربية على عكس الجالس القرفصاء فإن العضلات ترتخي ويسهل تمدد هذه الحلقة وهي التي عادة يسقط فيها الفتق. (6) كثيرون يحبون الدوش بالماء البارد الآن - لا بأس به ولكن بشرط أن لا يكون بعد مجهود مباشرة أو عقب تناول الغذاء. أو قبل الخروج للرياضة. الدكتور محمد عبد الحي

صور هزلية

صور هزلية دباغ جديد أنا رجل أحب ما يكون إلي الطعام، وأشد الناس احتفالاً به، ولي في الولائم غارات، وفي الأفراح - بل وفي المآتم أن أردتم الحق، عند ما يطاف على المعزين بالصحاف المفعمة بسد الحنك، بعد السبحة - جولات وغزوات، ولا أظن أن عمتي ذاقت اللحم منذ سنين، وما كان ذلك منها زهادة فيه، ولا كان لأننا لا نشتريه، وإنما هي تأتي إلا أن تدافع القطع المتجاورة وغير المتجاورة في الإطباق إلى ناحيتي، وتفتح سككاً في الصفحة وطرقاً لكي ترسل إلي ما يدنو إليها من قطعة فخمة، أو ريشة طيبة، وتجتزئ هي بالسلطة، أو غيرها من الألوان التي تحبها، وأحاول دائماً أن يصنعوها بجانب ما أشتهيه من الطعام وأبتغيه من الأصناف لكي تكثر الأيدي على ما أكره، وتغيب يدي فيما أحب. ويبقى بذلك مبدأ التوازن قائماً بيننا، وفكرة العدل منفذة، ولكنه ولا ريب ضرب من العدل المعوي، وهو في ذلك يخالف العدل السماوي أو العدل الأرضي. لأنه صادر من فلسفة الأمعاء، وهي فلسفة خاصة مبتكرة تؤول إليها كل فلسفات العالم، بل هي نهضمها جميعاً وتأكل الأذهان التي أحدثتها. وهذه الأسلاك الدقيقة المتشعبة المتثنية هي أشد سرعة في تبليغ الإنسان أوامرها من أسلاك التلغراف وخطوط التلفون. . ولعل أيثار عمتي إياي على نفسها في مجالس الطعام، بعد الفضيلة الكبرى التي أعلمها عنها، لأنها فضيلة لها طعماً، ثم هي بعد حسنة منها تتحول دائماً إلى الدم. وهذا الدم العبيط وأسأل القراء المغفرة لعباطة دمي - يتصاعد إلى رأسي فيزيد في قوة خيالي وتفكيري، وبذلك تكون كل قطعة من اللحم تقذفها عمتي إلي، إذ نحن صافون حول المائدة، هي بمثابة فكرة ألهمتني إياها فالتهمتها. وعلى ذلك يصح للقراء أن يقولوا أن عمتي متعهدة مقالات للصحف والمجلات، وإنها شريكة لي في حتى الإعجاب الذي قد أصادفه من بعض القراء. ولكن وا أسفاه. لي في البيت عواذل، ولي في الأسرة منافسون، ونحن إذا جلسنا إلى المائدة، فكأنما نجلس أمام خريطة حربية في مؤتمر من مؤتمرات الصلح، إذ يتفاوض الأعضاء في تقسيم الأراضي، ويتحاورون في التوزيع، ولذلك إن لي قريباً رزقه الله مصيبة الولوع في الطعام، وهي بالطبع تعد في نظري مصيبة من ناحيته، ولكنها نعمة

كبرى من ناحيتي. وهنا يثبت فوق المائدة شبح العم دارون يحمل قانون تنازع البقاء، فيدهن بأنانيته أطراف الشوك والملاعق والسكاكين لكي تكون أحد في الحمل والقطع، فإذا امتد الخوان، ووضعت الصحاف والألوان، وجلس قريبي بجانبي، لا يلبث أن يجيل البصر في المائدة، فيعد قطع اللحم، ويعد الجلوس ويقيس القطع على حساب تواريخ الولادة، وبموجب قسايم الصحة، ويحاول لو استطاع أن يجيء بشهادات من الأطباء يعترفون فيها بأنهم يرون الضرر الأكبر في أكل اللحوم، وقد استطاع أن يهزمني من المبدأ الذي يسير عليه في عملية التوزيع، وأعني به مبدأ السن، لأنه أكبر مني عمراً، ويكاد يطوي طيتين من سني، وعبثاً كنت أحاول أن أقنعه بأن يعتبر السنة من عمري سنة ونصفاً على قانون الخدمة في السودان، المعروف بالضمايم ذهاباً إلى أنني أديب وأنه ينبغي لي مقدار كبير من الغذاء لكي أكتب كتباً جميلة، وأضع أفكاراً رائعة، ولكن مثله لا يخدع من هذه الناحية، ولا ينهزم بهذه السرعة، إذ ينثني يجادلني في الأدب، ويروح ويثبت لي أن من أكبر ما يفسد الذهن، ويحدث الغباء، ويظلم الخاطر، أن يكثر الأديب من الطعام، ويحيلني إلى قائمة طويلة من الصوفيين والزهاد والنباتيين والخلوتية فلا يسعني إلا أن أرضى بقطعتي صاغراً منهزماً. وأنا عندما تصلني رقعة دعوة إلى وليمة أو عرس، أبيت قبل ميعادها أياماً وأنا في ذهول ونشوة، ويزيد شكري لصاحب الدعوة إذا أرسلها إلي قبل موعدها بزمن يسير، لأنني أجلس إلى مائدته ست مرات أو تزيد في الحلم، وبذلك يشبع ذهني، ويأكل خيالي، بينما يكون طاهي الوليمة لم يبدأ بعد في تقشير بصلها، وأنا أنصح لصحابتي وأصدقائي قبل أن ينتهوا من ترتيب ألوان الوليمة، إذا فكروا يوماً في إقامة وليمة - إن يسألوني رأيي - لأنني أكون قد تخيلت في المنام أحسنها وأضمنها لاكتساب إعجاب المدعوين، وأعتقد أنني خليق بأن يركن إلى ذوقي، في مثل هذه المهمة، لأنها توافق. . . . مشربي. ولكني بعد أعجب العجب كله وأتساءل لماذا يأبى الناس إلا أن يخجلوا أو تثور العزة في نفوسهم إذا عرف عنهم أنهم يحبون الطعام ويستكثرون منه، ولماذا لا يأنفون من أن يكونوا مرابين ومحامين وصحفيين وممثلين وأشباه هؤلاء، ثم يموتون آنفة وخجلاً وحياء إذا قيل عنهم دباغين مع أنني أعتقد وأؤمن بأن جميع الناس دباغون وإنما تختلف درجات دبغهم وتتباين

قوة هجماتهم في الخوان، وكل رجل لا يريد أن يحتمل كلمة دباغ يجب أن نقول عنه دباغ سابقاً أو دباغ في الإجازة أو دباغ متقاعد أو دباغ تحت الإختبار لأنه إما أن يكون ولوعاً بالطعام فأسرف فيه حتى بشمت معدته، وتعطلت أمعاؤه، وأما أن يكون قد خلق ممعوداً مريضاً مهزولاً - يعيش في حسرة دائمة، وحزن طويل، ولكنه يحيل إقلاله من الطعام في الولائم والإكتفاء باليسير من المآكل في المآدب، إلى مظهر من مظاهر الحياء والقناعة والرضى بالقليل. وأنا أقول أن حياء الناس من هذه الوجهة هو ضرب من الرياء الإجتماعي والسفسطة الكاذبة، لأننا قد خلقنا لكي نأكل، ونعيش لكي نأكل، ولا نصدق أبداً أننا نأكل لنعيش. وإلا لما خلقت معنا الديوك الرومي والحمام والسمان وصيد البر والبحر، ولما فكر الطهاة في اختراع البفتيك والروستو والساندويش وكل ما لذ وطاب، ولو كان الأكل فقط لكي يسد الإنسان أرماقه، ويمسك على مادة الحياة فيه، لاكتفى كلنا باليسير من الطعام، وأصبحنا جميعاً معريين نخشى أن نرى الديك مذبوحاً، والعجل - ولا مؤاخذة أيها القراء - مهدور الدم، ولما تكالب الناس على الحياة تكالبهم اليوم، وطمع رجل في أن يأكل أبدع مبتكرات الطهاة، وأذ ما جاء في قوائم اللوكاندات وترك ملايين من الناس تأكل. . . . بعضها. . . مع أنه لم يصل إلى الظفر بطعامه الفخم، ومآكله الدسمة، إلا بعد أن فتح نفسه بأكل لحوم ألوف من الفقراء والذين تحت يده في عمله أو مصنعه أو مزرعته، ولعل الأغنياء يجدون اللذة الكبرى، والمذاق العذب اللطيف، في طعم اللحم الآدمي، لأنهم يريدون دائماً أن يستكثروا منه، ويظهر أن اللحوم الآدمية تقوي الأسنان، واللثة، وتفيد الأعصاب، وتحجر القلوب، وهذا هو السبب الذي بعث الأغنياء والأكابر على اعتياد تناول هذا الأبيراتيف قبل الجلوس إلى مائدة العشاء، بعد أن يكون قد دخل في جيوبهم وخزائنهم مئات الألوف، وخرج العمال من عملهم في مصانعهم وأشغالهم وشؤونهم بثمن الفول المدمس. والآن لغضب مني الدباغ القديم، وليصرخ في الشوارع، وليطلبني في ساحة المحكمة، لأني جئت أستلب منه إسماً يقال أنه ألقى إليه وهو لا يستحقه، لأنه نحيف، صغير المعدة، ومن المقلين في الأكل والأدب معاً، إذا تجاوزت معه في نصيبه من الثاني، وعلى أني لا أصدق أنه أديب ولو نظم ونثر - وأذن فلا مناص لنا من أن نسميه دباغ كؤوس أو دباغ وسكي

إذا كان يغضب من تهمة الإكثار من الصحون والألوان. والآن أدع القراء يهيمون مع الدباغ في تخيل سلطة الحاثي وكبابه وأعود عنهم إلى عمق لأنها في انتظاري عند المائدة، لتغيب هي في التوابل، وأمعن أنا في التهام اللحم، وإلى الملتقى.

معلومات نافعة مفيدة

معلومات نافعة مفيدة كيف تعالج أبن الرجلين المسامير تأخذ 30 قمحة من حامض السليسيك و10 قمحات من القنب الهندي و 4 دراهم من الكاوديان وتمزجها معاً وتدهن منها كل يوم صباحاً ومساءً. إذا كنت مهزولاً وتريد أن تسمن إذا كنت كذلك فاعمد إلى الحقنة تحت الجلد بمحقنة مخصوصة يرشدك إليها الطبيب بشيء من زيت الزيتون فلهذا النوع من الزيت خواص مغذية لا خفاء بها وقد علم بالإختبار أنه إذا دخل الجسم من طريق الجلد كان أسهل امتصاصاً منه من طريق المعدة وبهذه الطريقة تسمن وتتحسن تحسناً ما في سائر أحوال البنية. إطفاء لهيب البترول وعلاج الحروق من المعروف أن البترول إذا التهب لا يطفأ بالماء بل يزيد به اشتعالاً ولكن الأفضل أن يطرح فوقه تراب أو رمل أو رماد أو يلقي عليه نحو بساط أو وسادة حتى ينقطع عنه الهواء فينطفئ وقد علم بالإمتحان أن اللبن والحليب أنفع شيء في سرعة إطفائه فإنه يخمد لهيبه في التو واللحظة - أما أفضل معالجة الحرق فذلك أن يغمس المحل المحروق في محلول نترات البوتاس ملح البارود المشبع ويترك فيه مدة فلا يلبث الألم أن يسكن ومتى سخن المحلول من حرارة العضو المحروق يضاف إليه في كل فترة شيء من النترات ويترك العضو المحروق مغموراً به مدة ساعتين أو ثلاث إلى أن يزول الألم بالكلية وأما ما لا يمكن غمسه في المحلول من أجزاء الجسد فتستعمل له الكمادات أي الخرق مبلولة بالمحلول وتلصق على الموضع المحروق وسخنت نستبدل بغيرها حتى تحصل الفائدة. فائدة لغوية لكثير من كتابنا المشهورين الذين تثنى بهم الخناصر ويشار إليهم بالبنان كما يقولون أوهام وأخطاء لغوية لا ندري كيف تسربت إليهم مع ما عرفوا به من التدقيق وشدة التحري، ولكن العصمة لله وحده - فمن بين تلك الأوهام جمعهم الميل بفتح الميم، على ميول مع أنه لا يجمع إلا على أميال وأما الميول فهو جمع الميل بكسر الميم، وكذلك يجمع على أميال وإنا لنذكر أن أول من استعمل هذا الجمع هو أحمد لطفي السيد بك مدير الجريدة سابقاً وقد

قلده في ذلك جميع مريديه وطايفته تلك الطايفة التي أبى عليها التنطع في اللغة إلا أن تجعل النسبة إلى الطبيعة طبعي لا طبيعي مع غثاثة تلك النسبة ونبوء السمع بها ومع أن جميع علماء الإسلام من فلاسفة وفقهاء ولغويين درجوا على استعمال النسبة المألوفة طبيعي على الرغم من مخالفتها للقياس - وهذا من المفارقات العجيبة ولله في خلقه شؤون.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة أرجأنا الكلام على المطبوعات الجديدة من كتب ومجلات وجرائد إلى أول عدد يصدر من البيان الأسبوعي. ماجدولين الجديدة لم ننشر في هذين العددين ما ننشره عادةً من رواية ماجدولين الجديدة لضياع النسخة الإنكليزية وقد أرسلنا لإحضار نسخة أخرى ستحضر إلينا قريباً. حول المتفرقات وشؤوننا المصرية جارت مقالات هذا العدد على كثير من المتفرقات وعلى باب في شؤوننا المصرية الذي كان من موضوعاته المكتوبة المعدة للطبع كلمة عن المجمع اللغوي ومسألة الطربوش فنظرة إلى البيان الأسبوعي.

التطور الكبير

التطور الكبير لقد آن للبيان أن ينجز وعده لعل قراءنا أيدهم الله يذكرون أن قد كانت النية بهذه المجلة مذ عامها هذا أن نظهرها أسبوعية كما بينا ذلك في مفتتح العدد الأول من هذه السنة ولكن قامت حوائل إذ ذاك حالت دون إنجاز هذا العزم إلى الآن واليوم وقد زالت تلك الحوائل وتوفرت الأسباب التي تستدعي تحقيق هذه النية فإنا نعلن قراءنا بما يأتي: أولا ستظهر هذه المجلة من بعد هذين العددين بعد عون الله وحسن توفيقه ظهر كل خميس من كل أسبوع في طرازها هذا طولها والعرض. بيد أن صفحات كل عدد أسبوعي لا تتجاوز إثني عشرة صفحة بحيث يكون مجموع صفحات كل شهر تربى على صفحات البيان الشهري الحالي. ثانياً ما دام هذا البيان الأسبوعي سيكون في ذلك الحجم وما دامت أعصاب أهل هذا الجيل قلقة مضطربة بحيث لا نطيق المباحث الطوال والمقالات المستفيضة فسنبذل آخر مجهودنا في أن تكون جميع موضوعات البيان قصيرة منوعة كثيرة فضلاً أنها تكون زبدة المعارف وبحيث تربي موضوعات كل عدد أسبوعي على العشرين موضوعاً يتنقل فيها القارئ بين مبحث علمي وموضوع تاريخي ورأي اجتماعي وطرفة أدبية وملحة فكاهية ونظرة انتقادية وقصة قصيرة تامة تتلاقى فيها الفائدة باللذة والفكاهة وهلم إلى كل ما تستروح إليه النفس ويشرب بالضمير ويلتهمه العقل التهاماً. ثالثاً وإذا أصبح الورق من الغلاء بحيث لا يخفي ذلك عن جميع القراء وإذ أن إرسال هذا البيان الأسبوعي إلى جميع قرائنا سواء في ذلك من دفع الإشتراك سلفاً ومن لم يدفع يكلفنا من جراء أجرة البريد مالا قبل لنا به وما نحن في غنى عنه فقد عزمنا عزماً لا تخلخل فيه على أن لا نرسل البيان من الآن إلا إلى من يدفع قيمة الإشتراك سلفاً ولو سبب ذلك أن يهبط لكل مشترك لم يسدد ما عليه إلى الآن إذا أراد الخير لنا وله ولهذه الأمة أن يبادر من الآن بإرسال ما عليه كله أو بعضه حوالة على البريد المصري باسمنا - ومن هنا أيضاً فصلنا جميع وكلاء البيان المحصلين، وبهذه المناسبة نرجو حضرات مشتركينا الأفاضل أن لا يسلموا اشتراكاتهم إلى أي إنسان مهما أبرز من الإيصالات الممضاة منا ومنه والمختومة

بختم المجلة اللهم إلا إذا قدم إلى المشترك خطاباً خاصاً مكتوباً بصفة خاصة إلى حضرة المشترك أن يسلم اشتراكه إلى هذا المندوب المخصوص وكل ذلك يستثني منه حضرة الأديب الفاضل محمد أفندي حماد وكيل البيان في المينا. وما دامت نيتنا بالبيان هذه النية فإنا نعلن جميع كتاب العربية في مصر وجميع علمائنا وأدبائنا أنا معدون لقبول كل ما يكتبون كل فيما تخصص له بحيث لا تتجاوز الكلمة التي يكتبونها في أي موضوع العمود الواحد من أعمدة هذه المجلة ومعدون كذلك أن نقدم لكل كاتب الجائزة المالية التي تليق بما يقدمه للبيان. أما موعد ظهور هذا البيان الأسبوعي فقريب جداً وسنحدده على صفحات الجرائد اليومية والله الموفق والمعين.

أغلاط مطبعية

أغلاط مطبعية جاء في صفحة 26 سطراً من كتاب تربية الإرادة - ومنها أنها لا تجعلها - وصوابها - ومنها أنها لا تجعلنا - وفي هذه الصفحة سطر 3 - وأذكر من - وصوابها - وأذكرني - وفيها سطر 16 من العمود الثاني - ما تنتقص إحداهاالأخرى - وصوابها - ما تناقص إحداها الأخرى - وفي صفحة 35 سطر 17 من العمود الثاني - أن يحد الإنسان - وصوابها - أن يجد الإنسان ـ

تفاريق

تفاريق كم يوم يعيش اإنسان بلا طعام كم تظن الجنود والأهلين يستطيعون أن يعيشوا، إذا كانوا في حصار شديد، وقد نفذ الزاد، وقلت الميرة، وندر الطعام؟ يقرر العلم أن الإنسان يستطيع أن يعيش على الماء صرفاً بلا طعام ثلاثين يوماً أو نحوها، ولا تفسد أجهزة البدن بعد هذا المقدار، إذ في المكنة أن يسترد قوته ويستعيد نظام جسمه بالتحفظ الشديد في الغذاء. ويبلغ الدهن الذي في البدن مقدار ربعه، وفي حالة المجاعة يأخذ الجسم غذاءه من دهنه، وشحمه - وإذا تقرر ذلك، صحت الكلمة السائرة عندما يغضب أحد الناس من آخر فيقول له كل بعضك ونحن نستطيع أن نحرق ونمتص من عضلاتنا وشراييننا، حتى ستين في المائة من وزنها، ولا يبقى منها إلا الأربعون، ومن الكبد والجهاز الهضمي بين ثلاثين وأربعين في المائة من زنتها وعشرين في المائة من الرئتين، ويستطيع القلب أن نأكل منه عشرة في المائة، وأما المخ والجهاز العصبي فيستطيعان أن يخسرا حركة ونفعاً وحيوية، مثل الأعصاب والعقل والقلب، أقلها تحملاً للخسارة، وأشدها جزعاً، وأقلها صبراً على المجاعة وأما الدهن والعروق، والشرايين، فهي التي تؤكل أولاً. فكاهة قال رجل، لصديق له إنني لم أكن قبل اليوم أعتقد فيك الصدق والرجولة والتمسك بقولك، ولكني الآن اعتقدت ذلك وآمنت به. فسأله الآخرـ ولماذا. قال لأنك عندما اقترضت مني الجنيهين قلت لي هذه الجملة سأبقى مديناً لك إلى الأبد!.

كتاب تربية الإرادة

كتاب تربية الإرادة مقدمة الطبعة الأولى للمؤلف مما يدعو إلى العجب الإعجاب جماع الناس على شدة الحاجة إلى معلم يعلمهم شتى العلوم والفنون وإقبالهم على تعلمها بجد واهتمام إلا علم الحياة فإنهم لا يحفلون بتعلمه ولا تحدثهم نفوسهم بضرورة الجد في تحصيله (كلمة قالها نقولا في كتابه الموسوم: في أنه لا ينبغي للمرء أن يسير في هذه الحياة حسبما تجره إليه الظروف وتدفعه يد الإتفاق). كان للدين السيادة المطلقة على العقول أبان القرن السابع عشر وشطر من القرن الثامن عشر فلم يكن ثمت ما يدعو إلى فتح باب البحث في مسألة تربية الإرادة في أعم معانيها إذ القوى التي بأيدي الكنيسة الكاثوليكية - وهي القديرة جد القدرة على تربية الأخلاق - كانت وقتئذٍ كافية لهداية الناس وإرشادهم إلى أهم ما ينبغي لهم من شؤون حياتهم. أما اليوم فقد ذهبت هذه القوة وعفت آثارها من أغلب العقول المفكرة ولم تعوض بما يقوم مقامها فلا بدع إذا اصيبت الإرادة بالوهن والضعف والإنحلال في هذه الأيام وأخذت الكتب والجرائد والمجلات حتى القصص الموضوعة تشير إلى هذه الحال وتشكو من عواقبها وتستحث على تداركها. وقد أتاحت الأقدار لهذه الحال التي تمكنت من النفوس أساة وأطباء زعموا أنهم يعرفون الداء ويصفون الدواء ولكنهم وآأسفاه كانوا متشبعين بمذاهب علم النفس الشائعة في عصرهم فتوهموا أن لقوة الإدراك هيمنة وسلطان على الإرادة وظنوا أن وعن الإرادة نتيجة الجهل بنظرية فلسفية مؤيدة بالحجة والبرهان تتناول البحث فيما هنالك من مباحث ما وراء الطبيعة والأسرار المعنوية الخفية. وهم في جهلهم هذا معذورون إذ من القواعد المقررة في علم الإقتصاد السياسي أن الإنسان أول ما بدأ بزراعة الأرض اختار الأرض الموات الجرداء فبذها وحصد ما استطاعت أن

تغله تلك الأرض من غير أن يكلف نفسه عناء حرثها وفلاحتها ثم تدرج من ذلك إلى زراعة البقاع الخصبة، عن كان لا يصل إلى ثمرتها إلا بعد الكد والجد وعصب الريق. كذلك الحال في علوم النفس فإن أول ما بدأ الإنسان بالبحث فيه هي الظواهر الهينة اليسيرة التي لا كلفة ولا عناء في بحثها ودرسها وهي لا تفضي إلى نتائج ذات تأثير على أخلاق المرء وسلوكه في هذه الحياة ثم تدرج منها إلى دراسة النظريات الأساسية الجوهرية ذات النتائج الخطيرة الجليلة والآثار الصالحة المجدية وإن كان قد لقي فيها ما لقي من الجهد والعناء. وما وصل الباحثون في هذه العلوم إلى ما وصلوا إليه حتى استجلوا ما لقوة الفكر من الأثر الضئيل في الأخلاق واستيقنوا أنها ليست شيئاً مذكوراً إذا قيست بالأميال والعواطف والشهوات، وكل فكرة لها شيء من السلطان على الإرادة فإنما جاءها ذلك من اصطباغها بصبغة الأميال والشهوات. لو أن هؤلاء المتقدمين بحثوا بحثاً وافياً في الإرادة ودوافعها لعلموا أن الأفكار المجردة لا تغني شيأً في قوة الإرادة وإن عاطفة واحدة يختارها المرء ويأخذ نفسه بها ويروضها عليها خليقة أن تصير قطباً تدور عليه حياته على شريطة أن يعرف كيف يستخدم مصادر القوى والوظائف المكتنة في أعماق نفسه ويعلم كيف يصرفها مع وجوهها المعقولة. ألا ترى كيف استطاع البخيل أن يحرم نفسه من جميع اللذات الجسدية من طعام شهي ولباس فاخر وفراش وثير وأن يعيش في عزلة عن الناس بلا صديق ولا أنيس كل ذلك حباً في الدرهم والدينار حتى رسخ هذا الخلق في نفسه رسوخاً لا سبيل إلى زحزحته. فهل تستبعد أيها القارئ بعد ذلك أن يكون لعاطفة شريفة راقية من السلطان على نفسك ما يجعل حياتك كلها وقفاً عليها وجميع أعمالك رهينة بها. إن كنت تستبعد هذا الأمر فما ذلك إلا لأانك تجهل الوسائل الكثيرة التي يمنحك إياها علم النفس والتي بها يمكنك أن تكون كما تريد أن تكون. ولكن مما يدعو إلى الأسف أن الهمم لم تحم حول البحث في مصادر هذه القوى النفسية ووجوه الإنتفاع منها فإن العلماء الذين تولوا قيادة العقول في أوروبا في هذه الثلاثين عاماً الأخيرة قد انقسموا فريقين يرى كل منهما رأياً هو وتربية الإرادة على طرفي نقيض. بل ينكر كلاهما بتة إمكان هذه التربية ولا يسلمان بوجودها. وخلاصة المذهب الأول أن الأخلاق جملة ولدت مع الإنسان مكتنة في جبلته وغريزته فليس له من سلطان عليها ولن

يستطيع فيها تغييراً ولا تبديلأً. وسنعود إلى هذه النظرية في سياق هذا الكتاب فنبين ما فيها من الخطأ ونفندها تفنيداً. أما المذهب الثاني فهو القول بحرية الإختيار أي أن الإنسان حر يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء بمحض اختياره وهي نظرية يدل ظاهرها على أنها تؤيد تربية الإرادة وتقول بها وتحث عليها حتى أن (ستورات مل) ذهب به التغالي إلى القول بأن الآخذين بمذهب حرية الإختيار يتولد لديهم شعور بما للجد والسعي الشخصي من الآثار في نفوسهم. ولكنا على الرغم من هذا كله ومع علمنا بفكرة (ستورات مل) وهو من زعماء القائلين بالعلية أي ارتباط المسببات بأسباب وعلل لأنحجم عن القول بأن نظرية حرية الإختيار منافية لتربية الإرادة وامتلاك هوى النفس وإنها عقبة كأداء في سبيلها لا تقل شأناً في ذلك عن سابقتها أعني القول بأن الأخلاق لا تتغير ولا تتبدل وذلك لأانها تعد مسألة تربية الإرادة أمراً هيناً سهلاً وأنها من الأمور الطبيعية التي لا بد منها، مع أن هذه التربية عمل طويل بعيد الشقة ولا بد فيه من السعي الكثير والعناء الكبير والإلمام بقوى النفس ومعرفة مصادرها ومواردها. ولقد ترتب علي القول بحرية الإختيار أن كثيراً من أصحاب العقول الراجحة والآراء الصائبة لم يحفلوا بالبحث والتفكير في مسألة الإرادة ودراسة أحوالها وملابساتها فأضرت هذه النظرية بعلم النفس بل بالإنسانية جمعاء ضرراً لا كفاء له لهذا السبب رأينا أن نهدي كتابنا هذا إلى الموسيو (ريبو) أستاذنا القديم الذي علمنا حب البحث في علوم النفس بل الرجل الذي كان أول من نشر مباحثه النفسية في فرنسا بعد أن جردها من مباحث ما وراء الطبيعة فابتعد فيها عن البحث في ماهية الإدراك وأحوال النفس واقتصر - كما يفعل العلماء في مباحثهم - على درس الأمور السابقة والملابسة لأحوال الإدراك والحركات الإرادية وغير ذلك من حركات النفس. ومما يحب التنبه له أن طريقته لا تنفي وجود المباحث اللاطبيعية أي البحث فيما وراء المحسوسات بل تقول بوجودها وتعترف بأن علم النفس جزء من هذه العلوم وكل ما هنالك أنها تخرج هذه المباحث من علم النفس وشتان ما بين هذا وذاك ومدار طريقة الموسيو (ريبو) هي جعل البحث في شؤون النفس علماً من جملة العلوم الأخرى التي نهتدي بهديها ونسير على نهجها، والعلماء كما لا يخفى لا يتلمسون العلم لذاته ولا حباً في العلم ولكن

لمعرفة ما هو مقدر حدوثه من الظواهر والأحداث للنظر في اتخاذ الأهبة لها وتدبير ما يصلح نحوها وبالجملة فإن خطة العلماء هي تقدير الحوادث وتدبيرها. فمن ذلك مثلاً أن العالم الطبيعي لا يهمه أكانت نظرية التموجات الضوئية فرضاً من الفروض أم حقيقة من الحقائق ما دامت تؤدي إلى الغرض المقصود وكذلك العالم البسيكولوجي (النفسي) سواء لديه أكانت نظرية توافق بعض الأحوال العصبية مع بعض الحركات النفسية فرضاً أم حقيقة ما دامت تصح دائماً في مقدماتها وفي نتائجها. فالمعول عليه إذن هو معرفة ما ينتظر حدوثه في المستقبل على ما تريد ويكون على مقتضى ما نود أن يكون هذه هي خطة العالم وكذلك يجب أن تكون خطة المشتغل بعلم البسيكولوجيا (النفس). وقد سرنا على هذه الخطة في تأليف كتابنا هذا. فقد بحثنا فيه عن أسباب وهن الإرادة وضعفها في أيامنا الحاضرة. ومن رأينا أن الدواء الشافي يجب أن يلتمس في تربية وجدانات النفس وعواطفها وتقويتها وإنمائها. ولقد يصح أن نطلق على هذا الكتاب العنوان الآتي: مباحث في الوسائل التي بها نولد في نفوسنا العواطف الضارة بتلك التربية ونمحقها بحقاً. وسيرى المطلع على هذا الكتاب أنا قد وفينا هذا الموضوع حقه من الشرح والتبيين وبذلنا جهد الطاقة في هذه المباحث ذات الشأن الجليل والمكانة النبيلة. ولم نجعل بحثنا في الكلام على الإرادة من وجهة عامة مجردة بل قصرنا جل عنايتنا على الكلام في تربية الإرادة لدى المشتغلين بالأمور العقلية التي تحتاج إلى جهد طويل ودأب وصبر. وفي اعتقادنا أنه سيكون جزيل النفع جليل الأثر لدى طلاب المدارس وسائر من يشتغلون بعقولهم. طالما سمعت الشبان يشكون من عدم وجود كتاب يشرح لهم الأساليب الموصلة إلى قوة الإرادة وامتلاك زمام النفس فها أنا ذا أقدم إليهم اليوم ما أفادتنيه أربعة أعوام قضيتها في البحث والتفكير في هذا الموضوع الخطير. مقدمة الطبعة الثانية للمؤلف إن استقبال الصحافة الفرنساوية والأجنبية لهذا الكتاب بالترحاب والحفاوة التنويه بذكره

وإقبال القراء على اقتنائه وتهافتهم عليه حتى نفذت نسخ الطبعة الأولى في بضعة أسابيع كل ذلك يدل على أن هذا الكتاب جاء في الوقت المناسب وأنه قضى حاجة كانت في نفس الجمهور المستنير. ونحن نقدم خالص شكرنا إلى من كتبوا إلينا في هذا الصدد ولاسيما طلاب الحقوق والطب ولقد أيدت رسائلهم ما كشفنا عنه النقاب في الفصل الأول من الباب الخامس. غير أن كثيرين منهم اعترضوا علينا في سوء ظننا بالشبان وقالوا إن الشبان ما برحوا يعرفون مزية الجد والعمل ومالهما من الآثار الجلية. ولكن ما أبعد المسافة بين القول والعمل ويلوح لي أن الشبان كثيراً ما يخلطون بين القلق والإضطراب والضجيج وبين العمل النافع المثمر الذي قوامه الإفتكار والإبتكار. وزعم بعض الذين كتبوا إلى أن الشطر الأعظم من شبان هذه الأيام قد تملك فؤادهم حب الموسيقى نوعان من أمراض الإرادة يجب المبادرة إلى علاج الشبان حتى يبرأوا منهما ويتقوا غوائلهما. أما القسم العلمي من كتابنا هذا فلم يصادف نقداً ولا اعتراضاً بل قوبل بالثناء والإطراء. وليس الأمر كذلك فيما ارتأيناه في الفصل الثالث من الباب الأول والفصل الأول من الباب الثاني فقد كنا نتوقع نقداً شديداً لما دوناه فيهما من الآراء ولكنا وجدنا أن أكثر هذه الإنتقادات غير وجيهة لم تنل من تلك الآراء. لأننا لم نقصد إثبات أن الأفكار ليس لها أدنى سلطان أو تأثير على الإرادة. لأنا وإن كنا ارتأينا أن للدوافع الغريزية والعادات السلطان الأكبر على الحركات الإرادية بيد أنا قلنا أن الإرادة في أرقى أشكالها إنما تكون بجعل أميال الإنسان خاضعة لأفكاره صادعة بأوامرها وأثبتنا من جهة أخرى أن ليس للفكرة من تأثير على مزيج الشهوات والأميال الحيوانية المنحطة بحيث تتسلط عليها وتكبح جماحها حالاً ومن غير واسطة. وأن قوة الفكرة أمام أعداء أشداء أقوياء الشكيمة كهؤلاء الأعداء لا بد أن نستمدها من مواطنها وهي مشاعر النفس وإحساساتها. ولقد كنا نظن أن أصحاب مذهب حرية الإختيار سوف يعترضون أشد الإعتراض على ما ارتيأناه في الحرية وكنا نتوقع أن تقوم قيامتهم على هذه الآراء فإذا بنا نرى أصحاب القول

بأن الأخلاق ولدت مع الإنسان فلا سبيل لتغييرها هم الذين ثارت تائرتهم وحملوا علينا حملات شعواء. ويظهر أن نظرية حرية الإختيار قد تركها القائمون بأمر التربية في زوايا النسيان فلقد رأوا أنفسهم مرغمين على مواجهة حقائق ثابتة لا ظنون وأوهام وفروض. ومما يذكر في هذا الصدد أن الموسيو ماريون وهو الالثقة الحجة في مثل هاتيك المسائل شرح في محاضراته التي ألقاها ما بين عامي 1884 و 1885 الأضرار الجمة التي خلفتها لنا عملياً نظرية حرية الإختيار وهي من مسائل ما وراء الطبيعة فلا سبيل إلى البحث العلمي فيها وخلاصة هذه الأضرار أنها منعت الإنسان من التفكير في الحرية الحقيقية بشروطها وقيودها تلك الحرية التي يجب علينا أن نجد في نيلها والحصول عليها بمجهوداتنا الذاتية. وللموسيو ماريون في مقدمة كتابه التضامن الأخلاقي رأي وجيه عرض به رأي الموسيو فوييه وهو أن مجرد تفكيرنا في حريتنا يجعلنا بالفعل أحراراً. أما رأي الموسيو ماريون فهو أن تناهينا في الإعتقاد بحريتنا والإعتداد بها يحول دون السعي في الإحتفاظ بما نلناه منها والحرص على القدر الذي حصلنا عليه. وهو رأي أقرب إلى السداد وأدنى إلى المنفعة فإنا لا نكون أحرار إلا إذا جاهدنا في هذه السبيل حق الجهاد حتى نبلغ الغرض. وقد وجه بعضهم اللوم والتعنيف إلى المؤلف لأنه لم يحفل بالأخلاق الغريزية ولم يجعل لها مكاناً في مباحثه. ونحن نقول لهذا البعض أنهم مخطئون غاية الخطأ في فهم معنى الخلق. الخلق ليس مادة بسيطة بل هو مجموعة مركبة من أفكار وعواطف وشهوات وغير ذلك ومن ثم يكون ذهابهم إلى أن هناك شيئاً اسمه خلق بمثابة اقول بأمور مستحيلة لاتتفق والعقل السليم، ذلك لأن القول بوجود مجموعة عناصر متباينة كما وكيفما وقوى كثيرة متجمعة على وجه خاص وكيفية خاصة قد انحدرت مع الإنسان وغرست في جبلته قول لا يوافق ذو مسكة من العقل. والقول بهذا الرأي يكون معناه أن الإنسان قد يكون له بعض تلك الأخلاق الغريزية الفطرية في أنقى مظاهرها وأكمل أشكالها خالية من كل ما يحيط بها من مؤثرات الوسط والتربية. ولكن دلت التجارب على أن محاولة الوصول إلى تلك المرتبة ضرب من المحال ولا سبيل إلى الوصول إليها بحال من الأحوال فهذه الاستحالة لا

تدع مكاناً للاعتقاد بثبات الأخلاق والغرائز المولودة مع المرء. على أن القول هناك أخلاقاً غريزية وجدت في الطبيعة الإنسانية يؤدي طبعاً إلى القول بأن عناصر الخلق الأصلية الجوهرية أي الأميال لا سبيل إلى تعديلها أو تبديلها بوجه من الوجوه وأنه قد قضي عليها بأن تبقى كما هي إلى أبد الآبدين وهو قول ينقضه من أساسه ما نحس به في باطننا وما نستفيده من التجارب وما أحصاه المشتغلون بالتربية والقوام على النفوس ولا يتفق مع ما يقع كل يوم للناس جميعاً في أعمالهم ومعاملاتهم ولقد أقمنا الأدلة القاطعة في الفصل الثاني من الباب الثالث على أن شيئاً من ذلك لم يكن وإن في استطاعة المرء تعديل عاطفة من العواطف بتقويتها وإنمائها أو منعها وكبح جماحها ولو لم يكن الناس كلهم على هذا الرأي لما رأيت ثم حاجة إلى تربية الأطفال ولتركة لهم الحبل على الغارب ووكلت أمرهم إلى الطبيعة تتصرف فيهم على مقتضى نواميسها التي لا تتغير ولا تتبدل. هذه الملاحظات النظرية كافية في تفنيد ما زعموه من ثبات الأخلاق وعدم قابليتها التغير والتبدل. وإن شئت أيها القارئ الزيادة من النظر في هذه المسألة فعليك قراءة المؤلفات الحديثة عن موضوع الخلق ولاسيما الجزء الثالث من كتاب المسيو بوهان، أقرأ هذه الكتب والمباحث تجد فيها أن الأكثر الأغلب أن الإنسان كأنما ينطوي في أنحاء نفسه على أشخاص عديدين مختلفي المذاهب متنوعي المشارب وإن الإنسان كلما تدرج في سبيل الرقي الأخلاقي والتطور نحو الكمال انعدمت في نفسه أميال وقامت مقامها أميال أخرى جديدة وكثيراً ما تجد للإنسان أميالاً وأحوالاً لم تكن موجودة لديه من قبل كلما تقدم في السن، بل كثيراً ما يتبدل خلق بخلق آخر وصاحبهما واحد. أليس ذلك كله دليلاً على أن وجود خلق ثابت لا يتغير أمر أعز من بيضة الديك. نرى نفوس أكثر الأطفال حافلة بالأميال والأهواء المتضاربة المتناقصة المشوشة. وما وظيفة التربية غير إيجاد النظام في هذه الفوضى والعمل على تثبيت بعض الأميال في نفوس الأطفال حتى تمتاز عما عداها وتصير قوية الأركان راسخة الدعائم. وبيناً المربي آخذ في عمله وقد أدرك شيئاً مما يبتغيه من تثبيت بعض الملكات والأخلاق الصالحة ومقاومة الملكات الخبيثة المرذولة والجد في محوها إذ بالطفل وقد بلغ أشده وتخطى دور

البلوغ فلا يلبث حتى تهب في نفسه عواصف هوج تقتلع من نفسه ما غرس فيها من الملكات وتقلب ثمرة هذه المجهودات رأساً على عقب فتتبلبل أفكاره وعواطفه وينتابها الخلل والفوضى. فإذا لم يثب معتمداً على نفسه موجهاً وجهته إلى مكافحة هذه العواصف والجد في تكوين صفاته الأدبية وتجديد أخلاقه على أساس متين وقع لا محالة في تلك الحالة التي أفضنا في وصفها في الفصل الأول من الباب الثالث. ولو فرضنا صحة ما يدعون وسلمنا بأن الخلق يولد مع المرء كما هو هبة منحتها الطبيعة للمرء فتجعل حياته ممتازة بصفة من الصفات وخلة من الخلال لا يحيد عنها يمنة ولا يسرة لترتب على هذا الفرض وجود أناس تمكنت من نفوسهم بعض الأخلاق تمكناً شديداً حتى لا سبيل إلى زحزحتها منها. ولكنا نتلمس مثل هؤلاء الرجال فلا نجدهم وإلا فأين هم؟ أفي عالم السياسة ونحن لا نكاد نرى رجالاً وجهوا كل همهم إلى غاية واحدة سامية راقية اللهم إلا القليل النادر منهم. وأما أغلب المشتغلين بالسياسة فإن أفكارهم وعواطفهم متشردة مبلبلة يذهبون مع كل ريح ولا يستقرون على حال من القلق وتراهم كثيري الجعجعة والحركة والاضطراب وقلما ترى لأحدهم رأياً سديداً أو عملاً رشيداً بل ترى في الكثير منهم أحلام الأطفال في أجسام الرجال. أم في عالم الأدب؟ وأنت ترى أن أكثر أرباب الأقلام قد أجمعوا على تمجيد الوحشية البشرية واستخدموا أقلامهم في تزيين الشهوات الجسدية والانغماس في الترف والملاذ بعد النكبة التي أصابت فرنسا في صميمها عام 1870 ويدلك على صحة رأي (مانزوني) وأنه أصاب كبد الحقيقة فيما قال ما تراه في فرنسا من نقصان المواليد بقدر ما ازدادت دواعي أثارت الشهوات وموجبات الانفعالات. لم يهتم كتابنا بإيقاظ عوامل الشرف والنبل وطلب المعالي تلك العوامل الكامنة في نفوسنا المسكتة فيها بل عمدوا إلى تحريك غرائزها الفطرية البهيمية كأنهم اعتبروا الحياة البشرية منحصرة في النخاع الشوكي والنخاع المستطيل. ليس الذي يسطرونه بالأدب الذي يغذي العقول ويستصرخها إلى التأمل والتفكير بل أدب يستثير الشهوات ولا يحفل بالفضيلة ومكارم الأخلاق.

إنا نمسك القلم عن الاسترسال والإفاضة في القول ونكتفي بأن نقول أنه لكي يكتمل خلق من الأخلاق في الإنسان لابد أن تكون خلاله على وتيرة واحدة وليست كل يوم في شأن وأن تكون راسخة في النفس متمكنة منها جد التمكن حتى يكون صاحبها متطلعاً إلى غاية يوجه إليها كل همته وآماله. إذا تبين لك ذلك أدركت أن الخلق ليس وليداً مع الإنسان مغروساً في فطرته فقد رأيت أن المرء يولد وفي نفسه الأفكار والأميال والأهواء فوضى لا نظام لها وإنما ينظم شتاتها ويضم بين أطرافها العمل على نيل الخلال التي أشرنا إليها والسعي في تحصيلها. ويتلخص من كل ما تقدم أن الخلق كسبي لا طبيعي فمن قصرت همهم عن الطموح إلى تلك الحال والطمع في إدراكها فليس لهم حق فيما يعلى قدر المرء ويسمو بمكانته ويجعل له شأن في هذا الوجود أعني الحرية وامتلاك هوى النفس. مقدمة الطبعة السابعة والعشرين للمؤلف في غضون ثلاثة عشر عاماً ونصف عام أعيد طبع كتاب تربية الإرادة سبعاً وعشرين مرة إلى أكثر اللغات الأوروبية. وهذا وحده دليل على مقدار حاجة الناس إلى مثل هذا الكتاب. ولو نشرت الرسائل التي انهالت على المؤلف لتألف منها مجلد ضخم يدل بعبارة بليغة مؤثرة على حالة نفوس أكثر الشبان في هذا العصر. نعم فلقد أصبحت العقول في هذه الأيام تخامرها الشكوك والريب والشبهات وتضرب الحيرة حولها نطاقاً إذ لا تجد من المذاهب الفلسفية ولا من الأوضاع الاجتماعية ما تستروح له وتسكن عنده وتظفر منه بالحقيقة المنشودة. حتى الدين الكاثوليكي. وقد كان فيما سلف الحمى الذي تلجأ إليه الضمائر القلقة المضطربة أضحى في هذه الأيام وقد أقسم ذووه على أنفسهم وتفرقوا شيعاً وأحزاباً. ولا تجد رأياً أو مذهباً في السياسة أو الاجتماع أو الأخلاق وإلا وقد تناولته يد البحث بالنقد والطعن والتجريح. على أن التربية في المدارس الثانوية اقتصرت على تلقين الطلبة المعلومات العقلية البحتة ولا تعدو ذلك فالأخلاق التي تتكون في هذا الطور هي صلة مشوشة مضطربة ضعيفة الأثر بين العقائد القديمة المتوارثة وبين المذاهب الفلسفية الحديثة.

فهل تعجب بعد ذلك إذا طرق الشبان أبواب الحياة وهم ضعفاء الإرادة قاعدو الهمة تسير بهم الحوادث رغم أنوفهم كيف شاءت. لم يدر بهم أحد على الصبر وطول الأناة والتجرد من الهوى والغرض والنظر إلى الأمور نظر الباحث المشكك والشك أول مراتب النظر الفلسفي. تضيق صدورهم عن قبول الآراء المستحدثة التي لم يألفوها لأن الغرور متمكن من نفوسهم فلا يكادون يفقهون أن ما يعملونه بالنسبة إلى ما يجهلونه كالقطرة بالنسبة للبحر أو الذرة إلى الصخر ولم يتشبعوا بالحرية الحقة ولم يتعودوا على تحري روح الحقيقة والتماسها في مباحثهم، تلك الروح التي تعيش في ظلها المذاهب المتضادة وتحيا تحت كنفها الآراء المتناكرة المتنافرة. بل تراهم يتعصبون لمذهب دون مذهب وينصرونه على ما عداه من غير ما تدبر ولا تفكير فيضلون سواء السبيل وتعجز مداركهم عن فهم المباحث الراقية أي عن خدمة الحقيقة. والحقيقة أحق ما ينبغي على المرء أن يشد إليها الرحال ويبذل دون الحصول عليها نفسه ونفيسه لأن أقصى أمانيه أن يكون حراً والحرية لا تعدو معرفة الحقيقة وكشف الغطاء عنها. فإن شئت أن تكون حراً فاجعل كل ما يصدر عنك من الأعمال مطابقاً لحقائق هذا الوجود. ويتلخص مما تقدم أن الحرية تستلزم حتماً الوقوف على النواميس التي تسير عليها أمور هذا الوجود الظاهرة أو الباطنة وأن يطلع الإنسان على أسرار قوى نفسه أي معرفة ذاته ومن غير هذين الشرطين أي العلم بنواميس هذا الكون والعلم بأسرار قوى النفس يستحيل رقي شخصية المرء ووصولها إلى درجة الكمال. ولا يتيسر الوصول إلى هذين العلمين إلا بالعمل والسعي بإدراكهما. وللعمل آثار على المرء إذا راقبها عن كثب واستطلع طلعها نفذ فكره من ذلك الحجاب الكثيف الذي يغطي أمياله ومنازعه المكتنة في أعماق نفسه وامتد نظره إلى ما وراء المعتقدات الشائعة والمؤثرات الناشئة من أحوال الناس وعاداتهم ومصطلحاتهم التي تقسر المرء على مجاراتهم من غير روية وتسدل على نفسه ذلك الحجاب الكثيف. فإذا نفذ فكره وامتد نظره إلى ما وراء ذلك تجلت له ذاتيته الصحيحة مجردة من كل شائبة.

قال أيمرسون: إن الذي يجب علي أن أفعله هو ما يوحيه إلى وجداني وما أرى أنه صالح لشخصي لا ما يراه الناس أنه الأفضل والأولى بالإتباع. وهذه القاعدة على ما في تطبيقها من العناء والصعوبة سواء في ذلك الأمور العملية والشؤون العقلية هي بمثابة الحد الفاصل بين الهمة والمروءة وبين فتور العزم والنذالة. فإن شئنا الاحتفاظ بشخصيتنا وأن نؤدي في هذه الحياة ما هو مقدور لنا وجب علينا أن ندرك تمام الإدراك نفوسنا وما تنطوي عليه من القوى فإنا إن جهلنا ذلك أصبحنا لعبة في أيدي الحوادث والطوارئ تعبث بنا وتقلبنا كيف شاءت وعدت علينا المعتقدات الفاسدة والأوهام الشائعة بين الناس فعطلت تطورنا نحو الكمال وتدرجنا في مدارج الرقي وحولت ذلك إلى وجهة غير التي تقتضيها طبيعتنا وأميالنا الأصلية الغريزية. وأما إذا وقفنا على أسرار نفوسنا واطلعنا على حقائق هذا الكون الذي فيه نعيش وفي أرجائه نتخذ ميدان الحركة والعمل هان علينا أن نربي إرادتنا ونحكم نفوسنا وذلك بأن نهيئ الأسباب فتنتج حتماً نتائجها. كذلك يفعل ربان السفينة: يعلم أن اللجة تحاول أن تبتلع سفينته في جوفها وأن الرياح تهب بغير ما يشتهي ويهوى فيهيئ من الأسباب والوسائل ما يضطر الأمواج أن تحمل سفينته طوعاً أو كرهاً والرياح أن تدفعها وتسير بها إلى بر السلامة. وهذا العمل والسعي في إعداد الوسائل وتهيئة الأسباب القائمة على الروية والتفكير وإدراك حقائق الأمور لا تقتصر فائدتها على كشف ما في جوانب نفوسنا من الأميال والمنازع الأساسية الأصلية فقط بل أنها ترينا أيضاً بمرأى العين حقيقة الروابط الكامنة بين الناس في هذا العمران وتميط لنا اللثام عن القواعد والأصول التي تقدم عليها هذه الروابط. فاعلم أن وجود شخصية للمرء واكتمالها حتى يكون له قسط ونصيب من خدمة هذا المجتمع إنما يتوقف على ما لدى غيره من بني الإنسان من المدارك والصفات والأخلاق. وأن أقصى ما يبلغه من القوة في هذه السبيل تكون مطابقة لأكبر ما يكون بينه وبين أهل عصره من صلات التضامن والعدالة وعلى مقدار هذه الصلات والروابط تكون حالته بلا زيادة ولا نقصان. وهذا العلم الذي يحصل للمرء تدريجياً ويتناول معرفة ما هو منطوٍ بين جوانحه من الأميال

والغرائز، وتكوين إرادته وتكويناً قوامه الفهم والإدراك خاضعاً لأحكام ناموس العلة والمعلول أي أن الأسباب تنتج نتائجها، كل ذلك لا يتم إلا على شريطة الهدوء والسكينة حتى يكتمل المطلوب ويبلغ غايته. وإنه لمن أوجب الواجبات علينا أن نحرص كل الحرص على إبعاد كل ما من شأنه شرود الفكر وتبلبل البال وتقسم العقل، تلك العيوب التي خلفها في نفوسنا التعليم في المدارس حتى كأن الغاية التي ترمي إليها برامج التعليم ومناهجه هي الإحاطة بجميع المعارف البشرية في أقصر زمن ممكن. وكذلك يجب علينا أن لا نكد أنفسنا ونجهدها في قراءة ما لا يفيد ولا يثمر بل يلهي الذهن ويشغل العقل على غير طائل ولا جدوى. وأن نتجنب جهد طاقتنا المشاغل الكاذبة والقلق والاضطراب التي هي من مستلزمات الحياة في هذا العصر وكما أن السائل إذا أذيبت فيه بعض الأملاح وترك ساكناً من غير تحريك رسبت فيه بعد زمن أجرام متبلورة لطيفة الشكل فكذلك الإنسان إذا استجمع نفسه وظل ساكناً هادئاً تكونت شخصيته شيئاً فشيئاً وتولدت في نفسه ملكات راسخة من الحزم والعزم والإقدام. الباب الأول تمهيدات الفصل الأول ما هو ضعف الإرادة وأشكاله المختلفة لدى طلبة العلوم والمشتغلين بأشغال عقلية كان كاليجولا أحد طغاة ملوك الرومان يود لو تجتمع رقاب عداته في رقبة واحدة فيحزها بضربة بكر من سيفه. أمنية حمقاء كما ترى تشف عما وراءها من ضعف الإرادة فضلاً عن أنها لا ترد ولا تجدي. وأنت فإذا استقصيت أسباب ما يعرض للمرء من الخيبة والفشل فيما يحاول من المطالب وما يلحقه من جراء ذلك من الويلات والخطوب لرأيتها تحور جميعها إلى سبب واحد هو ضعف إرادته وسقوط همته وفتور عزيمته وخوفه من عناء السعي والجد. شطر المؤلف كتابه هذا إلى شطرين الشطر الأول القسم النظري وهذا هو الباب الأول منه (1) قال أبو تمام:

من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا واستنامته إلى الأحلام والأماني فيما ينشد، وجزعه من الشقة وبعد الشقة. إن المطالب لا ينالها إلا بعيد الهمة، ذاك الذي يبذل في سبيل غرضه الجهد يعقبه الجهد لا يثنيه حب الراحة ولا يلويه عن قصده المجاشم وطالما كان الكسل عقبة كأداة في سبيل إدراك ما يبتغيه المرء لأنه يجذبه إلى الراحة كما تجذب خاصة الثقل الأجسام نحو الأرض. ولا يمكن أن يقوم في وجه الإرادة ويعرقل سيرها ويشل حركتها ويخمد جذوتها إلا قوة ثابتة مستمرة. فإن قيل أنها الشهوات قلنا أن الشهوة من طبيعتها سريعة الزوال فلا تثور حتى تسكن بل إنها كلما اشتدت كانت أسرع إلى الهمود والخمود اللهم إلا في بعض أحوال شاذة تستبد فيها الشهوة الإنسان وتتسلط عليه فتكون شغله الشاغل آناء الليل وأطراف النهار وهذه الحالة قريبة من الجنون. فإذا تقرر ذلك وكانت الشهوة ليست دائمة البقاء فلا يصح اعتبارها من العوائق الكبرى في سبيل الإرادة وقد يستطيع صاحب الشهوة في أثناء ركودها وسكونها أن يأتي بأعمال كبيرة ويقوم بمهام عظيمة. أما العقبة الكبرى في سبيل الإرادة فهي حالة نفسية طبيعية ذات آثار فعلية بادية للعيان تسمى الكسل أو قعود الهمة فكلما حاول الإنسان مجهوداً في عمل من الأعمال كان عليه أن يقاوم هذه الحالة النفسية الثابتة ويشهر عليها حرباً عواناً وربما لا يكون الفوز مضموناً فيما يحاوله من التغلب عليها وقهرها. وإنما قلنا أن هذه الحالة النفسية طبيعية لأن الإنسان في مبدأ الخليقة لم يندفع إلى العمل والسعي إلا بعد أن استحثته الحاجة وساقته إلى ذلك مكرهاً. ولقد أجمع رجال الأسفار ممن جابوا الآفاق ودرسوا حالة الأمم الهمجية على أن هذه الشعوب مرتطمة في حمأة الخمول والكسل ولا يبدو منها ما يدل على أنهم يبذلون أي مجهود. وقد أصاب الموسيو ريبو في قوله أن قوة الانتباه الإرادي لا بد أنها أول ما ظهرت كان ذلك لدى نساء الأمم الهمجية لأن الرجال كانوا يحبسون نساءهم ويكلفونهن القيام بشاق الأعمال بينما هم يتفيأون ظلال الراحة والكسل. ولماذا نذهب بعيداً وننظر إلى الماضي وأمامنا اليوم زنوج أمريكا يبيدون وينقرضون يوماً بعد يوم ولا يحرك ذلك عزائمهم ويستحثهم على معالجة أي عمل يعود عليهم بالسعادة

والثراء. ومن الشواهد على ما نذهب إليه أيضاً ما نعانيه من قسر الأطفال على المواظبين على عمل من الأعمال. وأنظر إلى الصناع والزراع فهل نجد منهم من حاول إتقان عمله وابتكر فيه من ضروب الإيجاد ما لم يسبقه إليه أحد ألا تراهم محتذين حذو من تقدمهم مقتفين آثارهم ناسجين على منوالهم. وإذا استعرضت في ذهنك جميع ما نستعمله في بيتك من آنية وغيرها لرأيت أكثرها خداجاً ناقصاً وأنه لو كان بذل في سبيله شيء من الجهد العقلي لكان أوفى بحاجة الناس مما هو الآن وأدنى إلى الغاية. إذا تبين لك ذلك أدركت صدق ما قاله الفيلسوف هزبرت سبنسر في هذا المعنى: يخيل إلى أن الناس جعلوا وجهتهم أن يقضوا هذه الحياة من غير أن يبذلوا في سبيلها من الفكر إلا أقل ما يستطيعون، نعم فإننا إذا رجعنا إلى ماضي حياتنا وتمثلنا بذاكرتنا أيام المدرسة لما وجدنا بين رفاقنا جميعاً من كان يكد ذهنه ويأتي بما يدل على جهد عقلي بل كان أكثرهم يعتمد على ذاكرته في استظهار بعض ما يمكنه من النجاح في الامتحانات. وعندما ينتقلون إلى المدارس الخصوصية يزداد نفورهم من كل درس يحتاج إلى أعمال الفكر والروية وكل آمالهم ومطمح أنظارهم اجتياز الامتحان بإجهاد الحافظة ثم بذل ما في وسعهم لنيل وظيفة في إحدى المصالح يرتزقون منها ولا يتطلعون إلى ما هو أبعد من ذلك غاية ولا يطمحون إلى معالي الأمور. ولقد أجاد الموسيو رنوفيه كل الإجادة في وصفهم حيث قال: إن الذي يتطلع إليه الشباب ويجعله قبلة آماله وظيفة يحصل عليها قليلة لأجر قليلة لا احترام ولا مستقبل لها ولا أمل في التدرج منها إلى ما هو أرفع. تمر الأيام وتكر السنون ولا يزال حتى يدركه الهرم وهو على كرسيه معنى بأعمال عادية تافهة ويرى في كل يوم انحطاط قواه عقلاً وجسداً ولكنه يروح عن نفسه بالانصراف عن كد الذهن وإجالة الرأي والتصرف في الأمور لأن النظامات واللوائح أغنته عن ذلك وحددت حركاته وأعماله وجعلتها على مثال آلة الساعة في وقتها وانتظامها وأغنته عن مشقة السعي والحياة الحقيقية على أنا لا نلوم الموظفين وحدهم وننعي عليهم هذا النقص الذي أشرنا إليه فإن المهن الأخرى مهما تكن درجتها من الرفعة والسمو لا تكفي لحفظ شخصية صاحبها ولا تضمن له قوة إضافته واستقلال رأيه فإن المرء أول ما يمارس عملاً من الأعمال يجهد عقله في

المران عليه للإحاطة بدقائقه وخفاياه ثم لا يمضي حين من الدهر حتى يقل عدد ما يعرض له من الأمور التي تتطلب درساً وبحثاً وتنقيباً وحيلةً واستنباطاً. حتى المهن السامية التي يرى من ظاهرها أنها تحتاج إلى أجهاد عقلي عظيم لا تلبث أن تصير بالمران والاعتياد أمراً يسيراً لا كلفة في أدائه ولا عناء. فالمحامي والقاضي والطبيب والأستاذ يعتمدون في ممارسة أعمالهم على معلومات اكتسبوها ولا يجدون في إنمائها إلا في القليل النادر لأن ميلهم إلى بذل المجهودات يقل سنة فأخرى فتضعف من جراء ذلك وظائف العقل كالانتباه والتروي والاستنتاج بسبب قلة المسائل التي ترد عليها وتحتاج في حلها إلى وظيفة من تلك الوظائف العقلية. فإذا لم يجد الإنسان في أن يجعل لنفسه بجانب مهنته أو وظيفته عملاً عقلياً يشغل به نفسه ويشحذ به قوى عقله كان جديراً بالوقوع فيما ذكرناه من العيوب فيخبو ضوء ذكائه وتخمد نار عزمه. ولما كان هذا الكتاب قد ألفناه خصيصاً لطلبة العلوم وللمشتغلين بأشغال عقلية كان خليقاً بنا أن نشرح الأشكال المختلفة لهذه الحالة التي يجب مقاومتها بكل قوة. فأصعب الأشكال مراساً وأشدها بأساً انحلال عزيمة الشاب وسأمه وكلال نفسه وهي الصفات التي تبدو جلياً في جميع حركاته، ينام نوماً طويلاً ثم يقوم متكسر الأعضاء مسترخي العزم فاتر الهمة لا يرى لذة في أداء أي عمل من الأعمال حتى لا تقرأ سأمه في وجهه، ينهض متثاقلاً متثائباً لتنظيف وجهه وارتداء ملابسه فيقطع في ذلك وقتاً طويلاً ثم يتناول طعام الفطور ويتوجه في التو والساعة إلى القهوة حيث يقرأ الجرائد اليومية ويتصفحها جميعها ولا يفوته منها كلمة واحدة حتى ولا إعلاناتها ذلك لأن مثل تلك القراءة تقطع وقته ولا تتطلب منه عناءً ولا جهداً. ويعود إليه شيء من النشاط آخر النهار ولكنه لا يغتنم فرصة ذلك النشاط فيثب إلى عمل ذي شأن بل يصرف الوقت في أحاديث لا فائدة منها ومناقشات عقيمة سقيمة في نقد الناس وتجريح أعمالهم وإظهار معائبهم لأن كل كسول حسود ولا يكاد يسلم من لسانه أحد من رجال السياسة أو العلم والأدب ثم يذهب إلى فراشه منقبض الصدر وإن كان قد قضى سهرته في اللهو واللعب ولكنه له مشوب بالانقباض وضيق الصدر لأن اللذة لا تنال إلا بالتعب والراحة لا تدرك إلا بالكد والعناء. من أنواع اللهو واللذات ما هو مباح ومفيد كقراءة الكتب النافعة وزيارة المتاحف

والرياضة في الغابات فإنها لذات لا تبرم بها النفس أبداً وفي وسع الإنسان أن يعود إليها كلما أراد ولكن الكسول لا يعرف الطريق إليها والاستفادة منها والاستمتاع بها لأنه في شغل عنها بلذات أخرى تجعل حياته خالية من كل معنى. وبالأعراض عن تلك اللذات النافعة تفلت من يده لأنه لا يعرف كيف يقبض عليها بكفه. ولقد صور سان جيروم هذا الكسول فقال إن مثله مثل الجندي الذي صور شاهراً سيفه فإنه يظل طوال حياته رافعاً سيفه في الهواء لا يهوي به. كذلك الكسول تتردد الأماني والرغائب في إنحاء نفسه ولا يستطيع تحقيق شيئ منها ما بقي حياً. عاى أن الكسل الطبيعي المغروس بالفطرة في النفس لا يمنع من أن تهب النفس أحياناً وتندفع إلى العمل بقوة وعزيمة. فليست المجهودات العنيفة هي التي تجزع منها الأمم الهمجية بل العمل المذكور المتكرر والثبات والدأب لأن ذلك يستنفد من القوة ما لا تستنفده المجهودات الشديدة. ولعمري أن إنفاق الأموال القليلة التافهة يربى مع الإستمرار والتكرر على المقادير الطائلة التي تنفق مرة ثم يعقب ذلك إمساك وشح. فالكسالى يصيرون على كل نضال يفتقر إلى جهد عنيف مؤقت تعقبه راحة وسكون. ولقد أسس العرب دولة واسعة الأطراف غير أنهم لم يستطيعوا الإحتفاظ بها نظراً لما ينقصهم من أخلاق الثبات والدأب في بذل المجهودات لتنظيم إدارة تلك البلاد التي افتتحوها وإنشاء الطرق بها وتأسيس المدارس وتعضيد الصنائع. وكذلك ترى الكسالى من طلبة المدارس عندما يقترب موعد الإمتحان يأخذون في مراجعة دروسهم بقوة وعزم ولكن الذي يزعجهم ولا يستطيعون إليه سبيلا هو الدرس المعتدل المنتظم المتكرر في كل يوم وليلة مدى عدة شهور وأعوام. لا طاقة لهم بمتابعة هذه لخطة المثلى، يسترسلون في خمولهم وكسلهم ثم يهبون دفعة واحدة عند اقتراب الإمتحان. فالعزيمة الحقة ذات الآثار النافعة إنما تنحصر في المجهودات المعتدلة المستمرة المتكررة، وكل عمل يخرج عن هذا الضرب من المجهود من المجهود يعد من أعمال الكسالى. ثم إن كل عمل مستمر يستلزم بالضرورة وجهة له أو غاية معينة. فليس إذن في تعدد الأعمال التي يقوم بها المرء وكثرتها ما يدل على قوة إرادته بل الإرادة الصحيحة تكون بتوجه العقل بجميع وظائفه وقواه إلى غاية واحدة. وإنا واضعون لك نوعاً من أنواع الكسالى تجده

أينما سرت: تري شاباً يلوح عليه النشاط وتترقرق في محياه البشاشة والعزم ويندر أن تراه غير منهمك في عمل من الأعمال تجده في يوم واحد قد قرأ رسالة في علم طبقات الأرض وفضلاً في النقد الأدبي وتصفح بعض الجرائد وألقى نظرة على بعض المحاضرات وكتب مقالة في بعض مسائل العلم والفلسفة وترجم قطعة من اللغة الإنكليزية فتعجب بذلك الشاب كما يعجب رفاقه غاية العجب بمقدرته وعزيمته على الإتيان بكل هذه الأعمال الكثيرة المتنوعة على أننا لا نعده إلا كسولاً لأن هذه الأعمال المتنوعة لا تعد في عرف العلوم النفسية إلا دليلاً على بقاء الذهن على حالته الطبيعية الغريزية وعدم ارتقائه إلى درجة الإنتباه الإرادي حيث يكون لسلطة الإرادة يد في توجيهه حيث يرخي الخير والمنفعة. وهذه المقدرة العجيبة على الإتيان بأعمال متنوعة متعددة ليست إلا ضعفاً في الإرادة وهذا الشاب الذي وصفناه نوع من أنواع الكسالى وهو نوع نسميه النوع المشتت الذهن نعم إن تنقل الذهن بين هذه الأعمال المتنوعة والفنون المختلفة يلذ العقل ويروح عن الخاطر ولكنه لا يعد إلا نزهة لذيذة فقط أي لا منفعة فيها ولا ثمرة لها. ولقد شبه نقولا أولئك الذين يتنقون بين الأعمال المتنوعة من غير أن يستقروا على حال بعقول الذباب وقد شبههم فنيلون بشمعة تضيء مكاناً معرضاً لهبوب الرياح من كل جانب. وأكبر عيوب توزع قوى العقل في مجهوداته وتشتتها أنها لا تدع للفكرة أو العاطفة من الوقت ما يكفي لاكتمالها ورسوخها في قرارة النفس وبذلك تمر كل فكرة بالذهن مروراً لا تستقر حتى ترحل ولا تسلم حتى تودع كأنما هي مسافر نزل في فندق ثم زايله ورحل عنه في التو واللحظة. وبذلك تظل الأفكار والعواطف والوجدانات غريبة عنا وليست منا فلا تلبث أن تهمل في زوايا النسيان. أما العمل العقي الصحيح فإنه يتطلب حتماً توجيه القوى العقلية في طريق واحد كما سنرى ذلك مفصلاً في الفصل الآتي. وهذا النفور من المجهود الحقيقي أي من ربط جميع القوى العقلية وتوجيهها جميعاً إلى غاية واحدة واضحة يزداد صعوبة ويشتد بنسبة افتقار المرء إلى مجهود ذاتي فإن الفرق شاسع بين إتيان عمل مبتكر واستنباط وسائله واختراع السبيل إلى إيجاده جديداً لم يسبق له نظير وبين شحن الذاكرة بنتائج العقول وآثارها ومبتكرات الأذهان وأثمارها فإن لأول

مفتقر إلى مجهودات متعبة مضنية والثاني عمل هين يسير لا كلفة فيه ولا عناء. كل عمل فيه اختراع وإنشاء فقوامه هذان الأمران معاً أي توجيه قوى العقل إلى غاية واحدة وربط بعضها ببعض ويدلك على أن ذلك شا قمتعب جزع أكثر طلبة المدارس العليا من كل عمل من هذا القبيل وهم الذين سيكونون في مستقبل أيامهم الطبقة الرقيقة التي يلقى على عاتقها تدبير الأمور بالحكمة وسداد. أنظر مثلاً إلى طلاب الفلسفة ترهم أنجب الطلاب وأوفرهم ذكاء وأشدهم مواظبة وتشميراً في تحصيل دروسهم على أنهم لا يسلمون من ذلك العيب الذي أشرنا إليه وهو الخمول العقلي ووقوفهم في تحصيل الفلسفة عند حد الألفاظ وحده دون أن ينفذوا إلى المباحث التي تنم عن أعمال الطالب فكرته. ومثال ذلك أنهم عند دراسة علم النفس لا يخطر ببال أحدهم أبداً أن كل إنسان في الحقيقة مشتغل بهذا العلم على وجه عملي وأن مظاهر قواه النفسية من أفكاره ووجدانات وازدادت تتجلى في كافة حركاته وسكناته طول حياته. هل خطر ذلك لأحدهم فعمد إلى نفسه يراقبها ويميز خطرات فكره وخلجات وجدانه فيستنبط منها ما يصلح أن يكون شاهداً ومثالاً للنظريات التي هو متوفر على دراستها وألا تراهم يقتصرون كلهم في ذلك على المثل والشواهد المذكورة في الكتب التي بين أيديهم. إنهم إلى الإستظهار أميل منهم إلى البحث وهذا العبء الثقيل الذي يبهظون به ذاكرتهم لا يخيفهم ولا يزعجهم كما يزعجهم بذل أقل جهد ذاتي فهم يتأثرون بغيرهم وليس لهم أثر صدر عن أنفسهم اللهم إلا بعض أفراد منهم يشذون عن رفاقهم فتراهم أذكى فؤاداً وأمضى عزماً ولكنهم أفراد قليلون. ومما يدلك على نفور الطلبة من بذل أي مجهودات ذاتية تلك الإختبارات التي تجري كل ثلاثة أشهر لمسابقة الطلبة في الحصول على درجة الأول في فرقته فإن أكثر الطلبة يرهبونها ولا تقع موقعاً حسناً من أفئدتهم ذلك لأن تلك الإختبارات وإن كانت لا تضطرهم إلى مجهودات شخصية إلا أنها عبارة عن إنشاء موضوع جديد مادته الدروس المتفرقة التي تلقوها وتشترط فيها سهولة التراكيب ووضوحها وفي ذلك من الكلفة عليهم ما فيه. ينتقل الطالب الذي مني بهذا الفوز من العمل الذاتي إلى المدارس العليا ومعه هذا الفوز، وذلك لأن الكسل العقلي لا يحول بينه وبين التدرج من مدرسة إلى أخرى أرقى منها إذ لا يعبأ أحد من الممتحنين يقيمة الطالب الحقيقية ومقدار كفاءته الذاتية بل كل ما يعنى بشأنه

هو الذاكرة وما هي عليه من وفرة المعارف المكتسبة أو قلتها. ولو سألت طالباً ذكياً مفكراً من طلبة الطب أو الحقوق أو العلوم الطبيعية أو التاريخ لصرح لك بأن المجهودات الشخصية التي يبذلونها في تحصيلهم والتي تفتقر إلى أعمال الفكر والروية أقل من القليل بالنسبة لمجهودات الحافظة لذلك يعجب الإنسان من تفشي هذا العيب عيب الخمول العقلي حتى لدى العلماء وهو خمول تستره الظواهر الباهرة من تأليف المؤلفات الضخمة وتكلف العناء البالغ في سبيل جمع مواردها والتأليف بينها فيعجب الرائي كيف يرمي من هذه معارفه وهذا عمله بالخمول العقلي والجواب على ذلك يسير فإن الكمية لا تقوم مقام الكيفية بل كثيراً ما تكون كمية العمل عائقة عن إبلاغه الدرجة المرومة من ألغجادة والكمال والإتقان وفرق كبير بين من يجمع بين أقوال غيره وبين من يبتكر ويبتدع. يهزأ أصحاب الإطلاع الواسع بالفلاسفة وهم أنفسهم خليقون أن يشبهوا بالجرذ الذي أضحى بين الأدباء كناية عن سعة الإطلاع وبيان ذلك أنهم زعموا أن جرذاً رأى يوماً موقداً فيه بعض الثمرات تشوى على الجمر فكلما مد يده وحاول أن ينال من تلك الثمرات وهي مستورة بالرماد لذعته النار. وما زال يعالج هذا الأمر حتى وفق إلى أخذ واحدة ثم ثانية تلتها ثالثة. فهذا مثل المنقطعين إلى الإطلاع: يبدأون عملاً ويأخذون في الجد في إتمامه فإذا أعياهم البحث وأنهكهم التعب كفوا ثم عادوا بعد قليل إلى سيرتهم الأولى. معتمدين في عملهم هذا على الكتب والرسائل التي دونت في الموضوع الذي يعالجونه وليس أن تبتدع أو تنشئ شيئاً جديداً. نعم إن العقل قد يستفيد من هذه المطالعة ولكنه يضيع كثيراً من مضائه ونفاذه إلى صميم الحقائق. ولعل الزمن الآتي يحقق آراء الفيلسوف رينان في مستقبل العلوم التي هي لمحض الإطلاع فحسب. فإن تلك العلوم فضلاً عن حقارة نتائجها وكثرة ما فيها من الخطأ والخلط والتناقض سوف يأتي زمن لا تقوم فيه لها قائمة ولا تروج لها سوق. وإليك مثالاً لذلك الكتب التي تؤلف وتهدى في كل عام إلى المكتبة الأهلية بباريس فإنها تبلغ عشرين ألف مجلد عداً. فإذا أطرد ذلك فقد اتمضي خمسون عاماً حتى تربى مجموعة الكتب الموجودة في عهدنا الحاضر على ألف ألف مجلد، عدا الجرائد والمجلات والنشرات الدورية وهو عدد عظيم من الكتب حتى لو ركمت فوق بعضها لأربى علوها على قمة الجبل الأبيض. فكيف يمكن

أن يحتوي التاريخ بين دفتيه على أسماء الأعلام بل لا بد أن تمحي منه شيئاً فشيئاً ولا يذكر فيه غير الحوادث الإجتماعية الكبرى على أن تلك الحوادث نفسها مثار للغرض والهوى والظن والتخمين في أسبابها وفي نتائجها. وليس في مقدور الإنسان أمام هذه المواد الكثيرة الهائلة أن يحيط بها علماً ويقال عندها أنه واسع الإطلاع. أما أصحاب العقول المستنيرة الرشيدة فلا يرون في هذا العمل إلا عملاً آلياً بحتاً وهو الرجوع إلى المعاجم ودوائر المعارف والسجلات والكتب وذلك كله ليس من الأعمال العقلية في شيء لأن الأعمال العقلية إنما تنحصر في أعداد المواد اللازمة لبناء فكرة من الأفكار وتجنب كل تفصيل تافه ليس له شأن في تركيب بنيتها. وإنشاء موضوع هو تصوير روحه وجوهره تصويراً واضحاً للعيان وترك التفاصيل التي تشوه الحقائق. ومن تأمل بعين الناقد البصير لرأى أن تلك الحواشي والتفاصيل تسربت إلى الموضوع على غرة من العقل أثناء اشتغاله وكده في البحث وعنائه في الإستنتاج والإستنباط لما هو مغروس في الطبيعة البشرية من الخمول العقلي: تستريح المفكرة وتغفو غفوة فتمدها الحافظة بما هو مخزون فيها. نقول والحسرة ملء فؤادنا أن مناهج التعليم الموضوعة في أيامنا هذه تزيد في هذا الخمول العقلي في شدته وتثقل في وطأته حتى كأنما يراد بها تخريج تلاميذ مشتتي الأذهان بتكليفهم بأن يلموا بكل شيء إلماماً ويمروا به مروراً من غير أن يعلق بعقولهم منه شيء أو يتسع الوقت لتمنعهم في الدرس والبحث لسبب ما فرضته تلك المناهج من المواد الكثيرة المتنوعة. وإن للطالب أن يفقه عنهم طريقة التعليم هذه وهي تهدم من نفسه كل قوة للإستنباط وكل إرادة في العمل الجدي. لقد أتى زمن على المدفعية الفرنساوية كانت فيه ضعيفة فزيدت اليوم عشرة أضعاف قوتها. كانت القنبلة في الزمن القديم تنفجر عندما تصدم الهدف فلا تصيبه بكبير أذى. أما اليوم فقد اخترعوا آلة خاصة تدفعها إلى الإستمرار في السير بضع ثوان بعد اصطدامها بالهدف لتغلغلها في أحشائه وتمكنها من جوانبه ثم تنفجر فتسحقه سحقاً ولا تبقى فيه ولا تذر. ولقد نسوا في طرق التربية أن يخترعوا للذهن آلة تدفعه إلى الإمام حتى يتمكن من المعلومات وكان القائمين بأمور التربية يقولون للعقل: أتريد أن تقف؟ كلا. كلا. لا بد لك من الجد في السير. فيقول لهم: ولكنني لم أع شيئاً مما قرأت وتلك الوجدانات التي تولدت لدي من

القراءة ما كادت تمر بي مروراً حتى ذهبت وأمحي أثرها فأصبحت أثراً بعد عين. فيقال له: لا بأس. لا بأس. لقد مضى عليك أيها المسكين أن تظل سائراً لا تلوى على شيء ولا نصيب لك من الراحة. لا بد أن تمر على الرياضيات والطبيعية والكيمياء وعلم الحوانات والنباتات وطبقات الأرض وتاريخ جميع الأمم وتخطيط البلدان ويجب أن تتعلم لغتين أجنبيتين وتدرس أدبيات بعض الأمم وتدرس علم النفس والمنطق والأخلاق وما وراء الطبيعة وتاريخ المذاهب الفلسفية. فسر في طريقك فإنك صائر إلى حالة من أتعس الحالات وعادة من أقبح العادات وهي الإطلاع على كل شيء إطلاعاً سطحياً لا تنفذ منه إلى بواطن الأمور وتعرف كنهها وتكون عرضة للإنخداع بالظواهر. وليت الطلبة بعد خروجهم من المدارس والتحاقهم بالجامعات يتئدون في سيرهم الحثيث بل يسيرون أيضاً بخطى واسعة وبعض فرق من الجامعة أعجل في سيرها وأبلغ في غوائلها من الآخرين. أضف إلى هذا القلق الذي تولده الدراسة ما تبعثه الحياة في عهدنا الحاضر في أنفسنا من الآثار السيئة فإنها تشتت الذهن وتبلبل الأفكار على صورة لا مفر للإنسان منها ولا طاقة له بالخلاص منها فإن سهولة النقل وكثرة الأسفار في البر والبحر والتنقل بين السهول والجبال والأنجاد والأغوار كل ذلك يلهي الذهن ولا يدع للمرء متسعاً من الوقت لقراءة ما يفيد أو التفكير فيما ينفع حتى يحق لنا أن نقول أننا نعيش عيشة مضطربة لا خير فيها أو عيشة كثيرة الحركة قليلة البركة. والصحف اليومية بما لها من الأساليب الشائقة التي تستهوي النفوس وتجتذبها إلى ما يقع من الحوادث في كافة بقاع الأرض استمالت أكثر الناس إليها وجعلتهم يفضلون قراءتها والإستمتاع بأحاديثها على قراءة الكتب القيمة المفيدة. فكيف يمكن اجتناب تشتت الذهن الذي يولده الوسط إذا لم تتخذ العدة اللازمة لدفعه ودرء شره بواسطة التربية ولكن أين الإهتمام بتربية الإرادة إذا كان لم يفكر أحد من القوام على الناشئة في وسائل إنمائهاوتقويتها بل لم يجعلوها غرضاً مقصوداً وإنما جعلوها واسطة يستعين بها الطالب على الجد في تحصيل دروسه فإذا انقضت لبانته واجتاز الإمتحان عادت قوة إرادته إلى الخور وعزيمته إلى الضعف.

تزعم المدارس أن مهمتها تقوية عقل التلاميذ لاكتساب شتى المعلومات فلا تسعى في تقوية إرادتهم إلا على قدر ما هو لازم لكسب تلك المعارف ومن الوسائل التي نستعين بها في هذا السبيل تأنيب الأستاذ تلميذه سراً أو علانيةً والثواب أو العقاب وغير ذلك من الآلات التي تستخدم للوصول إلى شحذ همة الطالب واستفزازها إلى الجد والإجتهاد. ولكن ليت شعري ماذا يكون حال الطالب في غده عندما لا يرى شيئاً من تلك الوسائل لا يرغب في ثواب ولا يرهب عقاباص ولا هو خاضع لمؤثر من تلك المؤثرات التي تبعثه على الجد. لقد ضل أولو الأمر في مسائل التربية سواء السبيل إذ جعلوا جل عنايتهم بالحاضر وغفلوا عن المستقبل فلم يحسبوا له حساباً وكان خليقاً بهم أن يحفلوا بتربية الإرادة ويجعلوها تربية صحيحة دائمة البقاء لا أن يمحوها بالصناعة قوة عارضة لا تلبث أن تزول متى تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور. لا يبقى للطالب في المدارس العليا من دواعي الجد والمثابرة في التحصيل غير تلك الأمنية التي تتلجلج بين جوانحه وهي اجتياز امتحان الليسانس في الحقوق أو الدبلوم في الطب وهي إجازات قد يصل إلى إحرازها أبلد التلاميذ وأكثرهم خمولاً فترى مما تقدم أن ليس لتربية الإرادة نصيب وافر من الإهتمام مع أن قوة الإرادة أو العزيمة هي كل شيء في الإنسان وهي التي تجعل له قيمةً وشأناً ولولاها لظلت أجل المواهب وأسنى الملكات عقيمة لا تثمر ثمراتا بل الإرادة هي التي دفعت الإنسان إلى إبراز ما تم على يديه من جلائل الأعمال وعظائم الأمور. من العجب أن يقول كل إنسان في نفسه ما نحن قائلون الآن وما من أحد إلا ويتألم ويشكو من شدة الإهتمام بتثقيف العقل وتربيته بأنواع العلوم والفنون وإهمال الإرادة وتركها ضعيفة خائرة. ولكن مع هذا الشعور العام بشدة الحاجة إلى تربية الإرادة لم يعن أحد للآن بتأليف كتاب واحد في هذا الموضوع الخطير. لذلك أخذنا على عاتقنا تأليف هذا الكتاب بأسلوب لم يسبقنا إليه أحد ولم نكن فيه من المقلدين. سل بعض الطلبة الذين اشتهروا بفتور همتهم وغفلتهم عن الإهتمام بواجباتهم والجري وراء اللعب واللهو وقل لهم ما هذا وما الذي أدى بكم إلى هذا الحال يجيبونك جميعاً بما

معناه: كان أساتذتنا بالأمس يحددون لنا الدرس الذي يلزمنا حفظه يوماً فيوماً بل ساعة فساعة فكان الأمر بذلك واضحاً لنا محدوداً لا لبس فيه، نعلم مثلاً أي فصل من التاريخ يجب درسه وما هي النظرية الهندسية التي يجب علينا تفهمها والقطعة التي تجب ترجمتها وفضلاً عن ذلك فقد كنا مسوقين إلى الجد في التحصيل رغبةً في المكافأة تارةً ورهبةً من العقاب تارةً أخرى وكانت المباراة والمسابقة بين التلاميذ دافعاً لنا إلى التشمير في العمل. أما الآن فلا شيء من ذلك كله فنحن نتصرف في أوقاتنا كيف شئنا ولما كنا لا ندري كيف نحسن توزيع الأعمال التي لدينا حسب الأوقات كما أن طريقة التلقين ليست مطابقة لجهلنا من الضعف فقد صار مثلنا مثل من يلقى في الماء وهو لا يعرف السباحة غير أنه تمنطق بمنطقة النجاة. وإنا لخليقون على ذلك أن نكون من الهالكين. لقد جهلنا كيف نشتغل وكيف نريد بل لا ندري ما هي الوسائل التي بها تربي إرادتنا بأنفسنا إذ لا يوجد كتاب عملي ألف في هذا الموضوع نستعين به ونسترشد بنبراسه. لذلك ترانا مرغمين على الخضوع لما جرت به المقادير ولم نعد نشعر بأننا قد ألقينا سلاحنا واستسلمنا وتركنا الجهاد للخلاص من هذا المأزق المتضايق ولكن ما أشده ألماً لنفوسنا وما أسوأ وقعه في قلوبنا ومما يزيد الحال ضغثاً على أبالة التردد على القهاوي والحانات ومعاشرة خلان السوء الذين يميلون إلى اللهو وقطع الأوقات في المسرات. وهكذا تنقضي أوقاتنا واليوم خمر وغداً أمر. فهذا الذي يشكو منه الطلبة هو الذي حدا بنا إلى تأليف هذا الكتاب فلعلهم يجدون ضالتهم ويهجمون منه على حين طيب. الفصل الثاني الغاية التي ننشدها أهملت مناهج التعليم مسألة الإرادة ولكن ذلك الإهمال لم يمنع الناس كافة من الإعتقاد بأن قيمة المرء على قدر همته وقوة إرادته وإجماعهم على احتقار الرجل الضعيف وإهمال شأنه ولما كانت قوة إرادة الإنسان إنما تقاس بمقدار ما يصدر منه من المجهودات في أعماله فلذلك ترى كل واحد يتظاهر بكثرة الأعمال التي يقوم بها ويغلو في ذلك إلى حد بعيد وإنما يقول ما لا يفعل ويدعي ما ليس فيه لعرفانه ما لقوة الإرادة من المقام الرفيع في عيون الناس. يقول ذلك وهو بمأمن من أن تذهب لزيارته في مثل تلك الساعة بمثل ذلك

البكور للوقوف على صدق ما يقول. حتى إذا عرض لك أن نزوره يوماً عند الساعة الثامنة نجده لا يزال راقداً في فراشه فيعتذر حينئذٍ لك بأنه قضى سهرة الأمس في شهود التمثيل أو في ليلة ساهرة أحياها بعض الرفاق ولذلك لم يتمكن من القيام مبكر كعادته منذ الساعة الرابعة وهكذا يعتذر بمثل تلك المعاذير كلما يتفق لك أن تزوره في مثل تلك الساعة ثم ينتهي أمره بالخيبة والفشل في كل أمر يحاوله. أكثر الطلبة يكذبون على غيرهم في موضوع الجد والإجتهاد والمواظبة على الدرس وكلهم يكذبون على أنفسهم ويغالون في تقدير أعمالهم ويدعون أنهم أكفاء لا يعوزهم الصبر على عناء الدرس والبحث وحل معضلات المسائل. فهذه الأكاذيب كلها دليل ساطع على ما يعتقدونه اعتقاداً صحيحاً من أن قيمة المرء بعمله وجده ولو عورض أحدهم فيما يزعمه ويدعيه وقيل له أنه ضعيف الإرادة لا صبر عنده على مواصلة الكد في الدرس والتحصيل لاعتبر هذا القول إهانة لشخصه وتحقير لشأنه. وله الحق في ذلك لأن إنكار قوة إرادته معناه أنه ساقط الهمة فاتر العزم عاجز عن متابعة الجهد بالجهد ومواصلة السعي بالسعي لترقية عقله وتثقيفه وتهذيبه حتى يسمو عن طبقة العامة ويلتحق بطبقة الخاصة. ولعمري أن من كان هذا شأنه فقد قضى عليه أن يظل حقيراً طوال حياته لا أمل له أبداً في صلاح حاله. وهذه الإعتقادات تدل ضمناً على وجود رغبة صحيحة لدى الطلبة في العمل والتشمير فيه ولكنها رغبات وأماني تجول في أنفسهم ولا يستطيعون تحقيقها وإبرازها إلى حيز الوجود. فهذا الكتاب سيكفل للطالب بيان الأساليب التي بها يحول تلك الإرادات المتزعزعة التي تجول في نفسه إلى عزم صادق شديد دائم البقاء ثم ينتهي بأن يصير عادة ثابتة وطبعاً راسخاً في النفس لا يمكن إقتلاعه منها. وإذا ذكرت الأعمال العقلية في سياق الحديث فإنما المقصود بها إما دراسة أحداث الطبيعة أو مبتكرات العقول وثمرات الفنون، وإما محاولة إبراز شيء جديد يخترع اختراعاً وتبتدعه القريحة ابتداعاً، وأعلم أن كلا الأمرين مفتقر إلى استخدام الوظائف العقلية، فأما دراسة الطبيعة ومبتكرات العقول وثمرات الفنون فيصل الإنسان إلى غرضه منها بقوة الإنتباه وأما الإبتداع والإبتكار فلا بد فيه من التأمل واستجماع قوى الذهن. فالإنتباه لازم لا

غنى عنه على أية حال. غير أن الإنتباه ليس حالة عقلية موجودة على نمط واحد، ثابتة لا تتزعزع، طويلة البقاء، فيمكن تشبيهها بقوس شد طرفاه وترك مشدوداً على تلك الحال. بل الإنتباه عبارة عن عدة مجهودات عقلية تحدث وتتكرر ويعقب بعضها بعضاً ويختلف بعضها عن بعض قوة وسرعة. فإذا كان الإنتباه قوياً شديداً ومروضاً على أداء عمله بلا كلل كانت هذه المجهودات المتكررة التي يتألف منها متعاقبة بسرعة شديدة جداً حتى ليخيل للمرء أنها مجهود واحد مستمر. وقد يلبث هذا الإستمرار الظاهر أو الإنتباه الشديد ساعات من النهار. فالغاية التي ننشدها هي الحصول على قوة انتباه شديدة ومستمرة. وغنى عن البيان أن من أحسن نتائج تربية الإرادةة وامتلاك زمام النفس أن يكون في وسع الإنسان بذل مجهودات عنيفة شاقة وقت ما يشاء من غير أن يتململ منها أو يضيق بها ذرعاً. غير أنه لا بد لذلك من السكينة والهدوء والبعد عن الإضطراب والحركة فكيف يمكن حمل الشبان على تلك الخطو وهم بما لهم من حدة المزاج والحياة الفوضى لا صبر لهم على التزام السكون ولا قبل لهم بما ليس من طبائع الحياة الحيوانية البحتة. وكيف نريدهم على تلك الحياة العقلية ينفرون منها بطبعهم ويرون فيها فسوقاً عن الطبيعة البشرية وتمرداً على الفطرة الإنسانية. فهذه هي العقبة التي يستطاع تذليلها شيئاً فشيئاً بالتربية والمران والإعتياد. قلنا أن الغاية التي ننشدها هي إيجاد انتباه شديد قوامه بذل المجهودات المتكررة ولكن الدأب في بذل تلك المجهودات قد لا يؤدي إلى الغرض المقصود فقد تداهم الفوضى تلك المجهودات فتجعلها متوزعة أشتاتاً لا رابط يربطها بعضها ببعض فلا بد إذن من أن تكون أيضاً متجهة كلها إلى غاية واحدة ومرمى واحد حتى تكون منتجة مثمرة. وأعلم أن كل فكرة أو عاطفة يراد إدخالها في أنفسنا وإحلالها فيها محلاً كريماً حتى تصير منها جزأً غير منفصل فتألفها نفوسنا وتطبعها بطابعها وتحتفظ بها وتجعلها موضع مناجاتها لا بد أن تكون بحيث تجر إليها غيرها من الأفكار والعواطف وتدمجها في بنيتها وتبقى هي واسطة عقدها وممتازة عنها بقوتها ورفيع مقامها وتؤثر فيها تأثيراً ينمو ويشتد شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً مع طول الروية وكثرة الترديد.

انظر كيف يتم إنشاء أثر من الآثار العقلية الراقية أو تحفة من تحف الآداب والفنون النادرة: تخطر على عقل الرجل العبقري فكرة قد تكون خطرة من خطرات الشباب تتولد في دماغه وهي صالحة للبقاء خليقة بالحياة فتتردد بادئ ذي بدء في ذهنه يسترها شيء من الغموض والإبهام ويمنعها من السفور شيء من الحياء ثم لا يلبث أن يعطيها حقها من الغاية ويقدر ما يمكن أن تدله من الأفكار حق قدره. وإنما يلفت ذهنه إلى كل ذلك قطعة قرأها أو حادث حدث له أو كلمة قالها مؤلف عرضاً ولم يفطن إليها ولا إلى ما تثيره من الأفكار أو فطن إليها ولكنه لم يدرك أنها مثمرة ولود. ثم تأخذ هذه الفكرة تقوى وتشتد بما يدخل في بنيتها من مواد الغذاء التي ترد إليها من المطالعات أو الأسفار أو الأحاديث مع ذوي العقول الراجحة. على هذا الأسلوب كتب (جوت) شاعر الألمان العظيم روايته الشهيرة (فوست) فإن الفكرة الأساسية لهذه الرواية خطرت له فما زال يتعهدها ثلاثين حولاً وهي تنمو وتترعرع وتغور جذورها لامتصاص مادة غذائها من تجاريب هذه الحياة ثم عرضها ناصعة ساطعة من مؤلفه العبقري الجليل. هذا هو الواجب عمله نحو كل فكرة ذات شأن ولكن بمراعاة النسبة فيما يبذل لكل فكرة من الإهتمام حتى يكون على قدر ما لها من الشأن. وكل فكرة تخطر ببالنا وتلم به إلماماً وتمر به مرور الطيف هي في حكم العدل وكأنها لم تكن. فإذا عرضت لك فكرة عليك أن تفطن لها وترددها في ذهنك مرة بعد أخرى وأنت معجب بها مفتون بمحاسنها وإياك أن تتركها لنفسها قبل أن تترعرع وتشتد وتكون واسطة العقد المجموعة من الأفكار، فإنها كلما طال بها المقام في ذهنك اكتسبت قوة وحياة تمكنانها من اجتذاب غيرها من الأفكار المثمرة والعواطف القوية وإدماجها في بنيتها لما للأفكار من تلك الخاصة العجيبة الخفية وهي ارتباط بعضها ببعض حتى كأنها تتجاذب بقوة مغناطيسية. وهذا العمل أي إدماج الفكرة أو العاطفة في أنفسنا حتى تصير كأنها جزء من جثماننا يتم تدريجياً بطول التأمل الهادئ الساكن الذي يلازمه الدأب والمثابرة والصبر. وما أشبه هذه الحالة بما يحدث في بعض السوائل من الرواسب المتبلورة فإنك إذا تركت سائلاً في حالة الهدوء بدون أن يتحرك أو يضطرب لا تلبث أن ترى فيه ألوفاً من الذرات المتبلورة تتجمع تدريجياً بغاية النظام والإحكام.

وهذا هو تفسير قولهم أن الإكتشافات إنما هي عمل من أعمال الإرادة. فإن نيوتن لم يكتشف قانون التجاذب العام إلا بعد أن فكر فيه طويل التفكير. وإذا أنكر أحد أن العقول الكبيرة ليست إلا صبراً طويلاً فليصغ لما يقوله دارون عن نفسه: كنت أطيل التفكير ولا أقرأ إلا المسائل التي تحرك في نفسي حب النظر فيما شاهدته أو ما أريد أن أشاهده وإنني واثق كل الثقة أن هذا النظام الذي اخذت نفسي به هو الذي قدرني على عمل ما عملته في خدمة العلم وقال ولده كان لوالدي قدرة عجيبة على الإمعان في بحث مسألة من المسائل وإطالة التفكير فيها مدة أعوام عديدة. والخلاصة أن هذه الحقيقة أضحت واضحة للعيان فلا حاجة إلى إطالة الشرح والبيان. والغاية التي ينشدها ويسعى إليها طلاب الأشغال العقلية هي أن يكون لهم انتباه شديد طوع إرادتهم بشرط أن لا يكون ممتازاً بقوته وتعدد مجهوداته فحسب بل لا بد من أن تكون جميع أفكارهم تحوم حول غاية معينة ومطموح أنظارهم أن تكون جميع أفكارهم وعواطفهم أثناء توجيه إرادتهم نحو تلك الغاية المعينة متصلة بالفكرة الأساسية التي يشتغلون في سبيلها متعلقة بها غير خارجة عن منطقة نفوذها. هذه الغاية الجليلة التي ننشدها يعترضها كسلنا الغريزي فيعرقل مساعينا في إدراكها فعلينا أن نقاومه أشد مقاومة حتى نتغلب عليه ونفوز بنيل تلك الأمنية الغالية. وقبل البحث في الوسائل اللازمة لتحويل الرغبات الضعيفة المتذبذبة إلى إرادات ثابتة راسخة يجب علينا نفند مذهبين فلسفيين متناقضين يقف كلاهما سداً منيعاً دون تربية الإرادة. الفصل الثالث في الرد على بعض المذاهب الفلسفية الفاسدة التي تبعث على اليأس من تربية الإرادة ـ 1 ـ مذهب القائلين بأن الأخلاق لا تتغير ما الجدل إلا تمهيد يمهد به الكاتب لأغراضه التي سيشرحها بعد ذلك ولكن لا ينبغي له أن يعلق عليه آمالاً كباراً فليس يفنيد مزاعم الخصم المناظر ودحضها بمجدية نفعاً في التدليل

على صحة مذهب من المذاهب وإصابته عين الحقيقة وإنما يكون ذلك بالرأي المؤيد بالدليل. ولما كان كتابنا هذا عبارة عن مذهب في التربية وأسلوب خاص لها دعائمه قائمة على أصول علم النفس وقواعده المتينة الأساس رأينا أن نبدأ كلامنا قبل الخوض في هذا الموضوع بتمهيد ندحض فيه النظريات الفلسفية الفاسدة من الوجهة العقلية النظرية الضارة في الوجهة العملية. وأكثر هذه النظريات خطأ وأعظمها ضرراً في نتائجها تلك النظرية القائلة بأن الأخلاق لا تتغير. وأول من طرق هذا الباب الفيلسوف (كانت) ثم تبعه (شوبنهور) وذهب مذهبهما (هربرت سبنسر). أما (كانت) فمن رأيه أن الأخلاق التي فينا قدرت لنا ونحن في عالم الغيب ولا مرد لما قضت به الأقدار فمتى نزلنا إلى هذا العالم عالم الزمان والمكان بقيت اخلاقنا وإراداتنا بالتبعية لها كما هي لا قدرة لنا على تغييرها أو تبديلها لا قليلاً ولا كثيراً. ويرى (شوبنهور) أن الأخلاق ولدت مع الإنسان فلا يستطيع لها تغييراً ولا تبديلاً. من يستطيع مثلاً تغيير مجرى أفكار الأناني وعقائده التي تجعله يؤثر نفسه على غيره أو إقناعه بأن طريق السعادة هو الإستقامة وشرف المعاملة لا الخداع والمخاتلة إذا حاول إمرؤ شيئاً من ذلك كان غير موفق. وأما محاولة جعله يشعر بآلام غيره ويتألم لها فهي ضرب من المحال كمحاولة تحويل الرصاص إلى ذهب. ومن قوله في هذا الصدد: قد تستطيع أن تقنع الأناني بأنه إذا ترك فائدة نال عوضاً عنها خيراً أعظم وفائدة أجزل وقد يمكنك أن تفهم الشرير بأن أقدامه على فعل الشر يجر عليه بلاء عظيماً وشراً مستطيراً. ولكن إذا حاولت أن تطهرهما من أدران الأثر أو الشر فإنك إنما تطلب محالاً ولن تستطيع إلى ذلك سبيلاً إلا إذا استطعت أن تقنع الهر بأنه لا حق له في حب لحم الجرذ وأنه يصيدها وافتراسها إنما يأتي عملاً منكراً. أما الفيلسوف (هربرت سبنسر) فقد نظر إلى المسألة من وجهة أخرى تتفق مع الفلسفة الإنكليزية فإنه ارتأى أن الأخلاق تتغير مع طول الزمان تحت تأثير القوى الخارجية والبيئة والوسط وظروف المعيشة وغير ذلك ولكن لا يتم هذا التحول إلا في أجيال.

ولا يخفى ما في هذه النظرية الأخيرة مما يدعو إلى اليأس والقنوط من إمكان الإنسان تكميل نفسه وتربية إرادته. لأن الشاب لا يمكنه أن يعيش أدهاراً لكي يتمم اصلاح نفسه وإنما يعتمد على عشرين عاماً تكون فيها أخلاقه من اللين والمرونة بحيث تقبل أن توضع في القالب الذي يراد وضعها فيه. فإذا بدأ الشاب يشتغل في إصلاح أخلاقه استعصى عليه الأمر وبعدت عليه الشقة في مقاومة طبائعهالتي ورئها عن أسلافه المتقدمين الذين تفصلهم عنه ألوف بل ألوف الألوف من السنين وقد خلفوا في نفسه أثناء تلك العصور والأعقاب آثاراً انطبعت في دماغه انطباعاً عضوياً. فلعمري ماذا هو فاعل إزاء هذا الجم الغفير من الأدباء والأجداد وهو كلما هم بفك نفسه من أسرهم تألبوا عليه بجمعهم. ماذا في استطاعة إرادته الضعيفة الضئيلة أن تفعله في صد تلك المؤثرات الكثيرة القوية وإذا ثارت في نفسه عوامل الغضب من هذا التحكم والقهر وعزم على الخروج من تلك الربقة وعصيان تلك العادات الثابتة الراسخة في قرارة نفسه وآلي إلا أن يغالبها ويغلبها استعصى عليه الأمر وباء بالخيبة والفشل. بيد أنه يعزيه عن هذه الحال تفكيره في مصير أولاده وأحفاده بعد خمسين ألف سنة مثلاً فيرى أنهم سيبلغون حينئذٍ أقصى درجات الرقي والكمال بتأثير البيئة الاجتماعية وما ينتقل إليهم بالوراثة من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل فما زالوا يكملون فيها الناقص ويزيدون في أجزائها حتى بلغت بعد ذلك الزمن الطويل اقصى درجات الإتقان والكمال. إن البحث في الأخلاق من هذه الوجهة خارج عن موضوع كتابنا هذا ولكنا نرى من الواجب علينا أن ننظر في هذه المسألة نظرة عامة وندحض ما نراه وجيهاً من حجج أصحاب هذه النظريات. هذه النظريات الثلاث التي بسطناها للقارئ تدل دلالة بالغة على ما للخمول العقلي من التأثير البليغ على هذه العقول الكبيرة. ذلك الخمول اللاصق بالجبلة البشرية لصوق الزلة متى زلها آدم أبو البشر. ذلك الخمول الذي جعل هذه العقول الكبيرة تتأثر بألفاظ اللغة وهي لا تشعر. يهتمون بالألفاظ ويهملون المعاني المستترة وراءها. تكون اللفظة واحدة فيخيل إليهم أن ملولها واحد. وهذا هو السر في وجود تلك النظرية القائلة بأن الخلق لا يتغير لأن أصحاب هذا الرأي ظنوا أن لفظة خلق تدل على شيء واحد ولم يفطنوا إلى أن الخلق إنما

هو عبارة عن مجموعة من الأفكار والأميال والشهوات. ومن المعلوم أن مجموعة القوى عرضة للتعديل بالتغيير والتبديل. الخلق الإنساني له وحدة شبيهة بالوحدة الأوروبية فكما أن المخالفات والإتفاقات بين بعض الدول وبعضها وتقدم أحدها في مراقي العمران وتقهقر الأخرى كل ذلك له أثر في هذه المجموعة قوة وضعفاً. كذلك الحال في الخلق فكل ارتباط وانفكاك يحدث بين التصورات والأميال والشهوات يؤثر في الخلق فيزيد في قوته أو يغير في تجاهه. على أن هذا الكتاب من دفته إلى دفته سيكون البرهان الساطع على إمكان تحويل الخلق من حال إلى حال أخرى. نعود إلى البحث في النظريات المتقدمة التي تؤيد مذهب القائلين بأن الخلق لا يتغير. أما آراء (كانت) فإنها مبنية على تصورات غير مستمدة من الوقائع المحسوسة. ولولا أنها خليط من مذهب القدرية ومذهب العلية لما حفلنا بها ولتركناها تنفصل من الموضوع كما ينفصل غصن الشجرة الذي ذبل ونضبت منه مادة الحياة وسترى تفصيل ذلك فيما يلي: أما شوبنهور فليست آراؤه مدعومة بالأدلة القاطعة الدامغة وإنما هي عبارات ضخمة عليها مسحة من العلم. وشقشقة اللسان لا تغني من الحق شيئاً وإليك ما أمكننا استخلاصه من البراهين على صحة ما يزعمه: أولاً - لو كانت الأخلاق قابلة للإصلاح لكان الشيوخ أكثر تقوى وفضيلة من الشبان وهذا أمر غير واقع. ثانياً - إذا اقترف إنسان إثماً يشينه أضاع ثقة الناس به وهيهات أن يستطيع إلى استردادها سبيلاً ولا يزالون يسيئون به الظن إلى الأبد. وهذا دليل على أن الناس مجمعون على أن الأخلاق لا يمكن أن تتغير أو تتبدل. هذه العبارات إذا تأمل فيها الناقد البصير لا يرى فيها شيئاً يؤيد ما زعموا بل لا تصح أن تعد أدلة قاطعة دامغة. نعم إنها قضايا صحيحة في جملتها ولكنها لا تدل إلا على أمر واحد تدل على أن أكثر الناس لم يهتموا جد الإهتمام بتربية إرادتهم وإصلاح أخلاقهم. تدل على أن الناس يتصرفون في جميع أعمالهم في هذه الحياة حسبما توحي إليهم أميالهم وعواطفهم وقلما يحفلون بإراداتهم. تسوقهم العادات وآراء المجتمع قسراً إلى عمل ما يعملون ولا

تحدثهم أنفسهم بالخروج من ربقة هذا التحكم كما أنه لا يخطر ببال إنسان أن يعصي أن يدور مع الأرض وهي دائرة حول الشمس. نحن لا ننكر الخمول المتفشي في جميع طبقات الناس ونقول أنهم يقضون حياتهم في البحث عما يقيم أودهم فقط وليس للحياة العقلية عندهم من نصيب. انظر إلى طبقة العمال بل إلى الأغنياء والفقراء، إلى النساء والأطفال تراهم جميعاً لا يفكرون فيما يصنعون وما مثلهم لا تلك التهاويل التي تدار بالأيدي فتمثل لك أناسي يتحركون ويعملون. ترى جميع الناس قد انحصرت جميع حركاتهم في منطقة الرغائب التي لا سلطان للإرادة عليها أو الواقعة تحت تأثير المؤثرات الخارجية. يقضي عليهم تنازع البقاء ويقعون تحت حكمه فيضطرون إضطراراً إلى الترفع عن الحالة البهيمية والترقي إلى درجة الإنسانية حتى إذا زالت تلك الظروف الخارجية التي تسوقهم قسراً رجع أكثرهم القهقرى إلى الحيوانية الأولى فأولئك الذين نضب من نفوسهم ذلك الينبوع الذي يجري تياره نحو الأفكار السامية والغايات الشريفة وأولئك الذين ليس لهم من شرف نفوسهم وأخلاقهم ما يحدو بهم إلى طلب الكمال والرقي كل أولئك تراهم قد تذبذبت أخلاقهم ثم انحطت إلى الدرك الأسفل. فلا عجب بعد ذلك إذا رأينا شيخاً قد انغمس في حمأة الفساد وفتى له من عفته وآدابه ما يسلك به طريق الرشاد. وهنالك رأي آخر يظن الناظر إليه أنه على شيء من الرجاحة والوجاهة وهو أن الأناني لا طاقة له بإيثار غيره على نفسه وتضحية منفعة له في سبيل غاية شريفة حتى لو اعتقد ضرورة ذلك وصحت عزيمته عليه. ولكنك إذا دققت النظر في هذا الرأي لما رأيته شيئاً مذكوراً. ألست ترى الجبناء والأنذال يقدمون على أكبر المخاطر ويركبون أخشن المراكب حتى أنهم ليتعرضون للموت الزؤام أملاً في كسب المال مع أن غريزة حب البقاء وكره الموت لا تصادمها شهوة من الشهوات وتستطيع التغلب عليها ومن البديهي أن الحياة أعز شيء لدى الأناني فإنه يحتفظ بها أيما احتفاظ ولكننا طالما رأينا بين من اشتهروا بالأثرة وحب الذات حباً متناهياً من بذل روحه فدى لوطنه أو دفاعاً عن غاية شريفة. فإذا كان التحول الوقتي للخلق بهذه الصورة ممكناً فما معنى قولهم إذن أن الخلق لا يتغير.

إن الخلق الذي يتحول تحولاً جوهرياً حتى لينقلب إلى ضده في مدة قصيرة جداً لا يصح أن يقال عنه أنه غير قابل للتغيير والتبدل بل يجب أن يقال إن هذا التحول الوقتي إذا تكرر وأدمن صاحبه تكراره مرة بعد مرة قوي واشتد وأصبح سجية وطبعاً. على أنا بعد نسأل (شوبنهور) هل وجد إنساناً اتصف بخلق واحد كالأنفية مثلاً فهو أناني في جميع حركاته وسكاته، في جميع أفكاره وميوله ومنازعه، لا يمازج هذا الخلق خلق آخر. مثل هذا التوحيد في الطبيعة البشرية لم يوجد أبداً في عالم الحقيقة. وهنا نعيد ما قلناه أن تصور الخلق الإنساني شيئاً واحداً بسيطاً وكتلة متماثلة الأجزاء إنما يأتي من عدم التدقيق في البحث والنظر السطحي للأمور. نحن إنما نتكلم على الإنسان الذي يعيش على سطح هذه الكرة الأرضية لا على إنسان موهوم لا حقيقة لوجوده إلا في الخيال. فما تقدم يكفي لدحض آراء (كانت) و (شوبنهور) وتفنيد نظريتهما التي هي في منتهى الذاجة. وأما (سبنسر) فإننا نقول له أن الآباء والأجداد كما يورثون أحفادهم الأميال الفاسدة يورثونهم الأميال والطبائع الصالحة وكلا النوعين ينتقش في نفوسهم وينطبع فيها انطباعاً عضوياً. وعلى ذلك يستطيع الإنسان بشيء من الدراية والحذق وحسن الحيلة أن يتدرع بتلك الأميال الصالحة ويستخدمها في منفعته ويقاوم بها تأثير ما ورثه من الأميال الفاسدة. وتنتهي المسألة بترجيح أحد هذين الفريقين من الأميال على الفريق الآخر. وسترى فيما سيمر بك من هذا الكتاب الأساليب التي بها يكون الفصل بينهما فتفوز الأميال الصالحة ويكون لها الغلب. الآن وقد ظهر لك إلى ما يذهب إليه بعض فلاسفة الفرنسويين من المذاهب التي تثبط العزائم وتدعو إلى اليأس من إصلاح المرء نفسه وخلقه. وفي طليعتهم الفيلسوف (تين) فإنه على ما هو معروف عنه من سعة المدارك قد خلط خلطاً قبيحاً بين مذهب القدرية والجبرية وعندما حاول أن ينقض مذهب العقليين الذي وضع أساسه الفيلسوف كوزين ارتأى أن الحياة البشرية مستقلة تمام الإستقلال عن الإردة وما الفضائل في نظره إلا أموراً طارئة تجلب من الخارج كما يجلب السكر مثلاً من المستعمرات. وهو تشبيه سخيف ركيك ولكنه ماذاع في عصره وانتشر في مبدأ أمره حتى حجب العقول عن بحث العوامل النفسية

المؤثرة فيما يقع من الإنسان من الأفعال، وأزاغ البصائر عن فهم معنى كتاب الموسيو ريبو الشهير الذي عنوانه (أمراض الإرادة) ومضى الناس زمناً غير قصير على هذا الضلال بتأثير هذه المذاهب المضلة وقصارى القول أنه يلزمنا في مثل هذه المباحث الدقيقة أن لا نعول على ما قاله ذلك الفيلسوف أم ننحاز لرأيه لأنه ابن وطننا فرب عدو عاقل خير من صديق جاهل. ـ 2 ـ مذهب حرية الإختيار بقي علينا قبل الدخول في موضوع الكتاب أن نفند مذهب حرية الإختيار الذي يطنطن به أصحابه ويبنون عليه القصور والعلالي. وخلاصته أن قدرة الإنسان أن يقمع شهواته ويمتلك زمام هواه بمحض إرادته ومشيئته. صور ذلك المطلب بصورة الشيء القريب المنال الذي لا يمتنع على أحد. أما نتائج هذا المذهب فهي زيادة عدد من خابوا في هذا السبيل فلووا عنان همتهم واستكانوا ولجأوا إلى اليأس والقنوط فكان ضرر هذه الآراء بالنفوس أشد من ضرر مذهب الإعتقاد بالقضاء والقدر كما سترى ذلك مفصلاً. يزعمون أن حرية الإختيار شرط لازم للحرية الأدبية مع أن بينهما بعد ما بين المشرقين لأن امتلاك المرء زمام نفسه وتغلبه على أهوائه أمر يدرك بطول الأناة والصبر والجهد والعناء فالقول بأنه يتعلق بمشيئة المرء وحدها يدعو الشبان إلى اليأس والقنوط من كسب هذه الأمنية الغالية إذ يرون ما بين رغائبهم وبين وصولهم إلى تحقيقها بوناً شاسعاً وفرقاً بعيداً. يقرأ الشبان تراجم حياة عظماء الرجال المتقدمين أصحاب العزائم الكبيرة والهمم السامية وبصورها لهم الخيال وتمادي الزمن بصورة أكبر وأعظم مما هي في الحقيقة فتتأثر نفوسهم بالعبرة ويتلهبون شوقاً إلى التشبه بهؤلاء الرجال واقتفاء خطواتهم فيجعل بنا ونحن نراهم على هذه الحالة النفسية أن لا نخفي عنهم أن هؤلاء الرجال إنما أدركوا ما أدركوا من المجد وبعد الصيت والذكر الخالد في صحائف التاريخ بالعمل والجهد وشق الأنفس والصبر الجميل على المكاره ثم نصور لهم ما يكون من نصيبهم من الفوز والفلاح إذا

صبروا وعملوا وذللوا ما يعترضهم من المشاق والأهوال. لا يملك الإنسان إرادته بمحض مشيئته فقط كما أن فرنسا لم تنهض من كبوتها بعد حرب السبعين وتسترد مجدها بمحض مشيئتها فقط بل لأنها قضت عشرين حولاً وهي تجد وتسعى وتهيء وسائل النهوض من هذه العثرة. فكذلك خروج الإنسان من أسر الشهوات وتمكنه من امتلاك زمام نفسه إنما يكون بالسعي والجهد والصبر الطويل. يا عجباً! أيقضي كثير من الناس ثلاثين عاماً من أعمارهم في الكد والكدح ومزاولة أشق المهن والأعمال لكي يتمكن الواحد منهم من ابتياع ضيعة ينعم فيها بالراحة فيما يبقي من أيام حياته ولا يفتكر أحد في صرف القليل من زمنه في إصلاح نفسه وامتلاك إرادته وهي التي تتوقف عليها قيمة المرء بل هي التي يبني عليها مستقبله وبها يكون رجلاً رفيع المقام نابه الذكر وهي التي تفتح له أبواب السعادة وتدر عليه صنوف الخير. أليس من العجائب أن تكون هذه صفات الإرادة ومزاياها ومناتبها ولا يبذل أحد كل ما في وسعه لتقويتها وقلما تخطر لأحدهم ببال. غير أن هذا الإهمال الظاهر يخفي تحته آلاماً مبرحة تساور نفوسنا ولطالما شعرنا بها جميعاً وإلا فمن من الطلاب لم يشعر بما يختلج في نفسه من المقاصد الحسنة والنوايا الشريفة النبيلة وما يلاقيه من العقبات والعوائق في سبيل تنفيذها وإبرازها إلى حيز الوجود فإن ضعف عزيمته يحول بينه وبين ما يشتهي. يقول لنا أساتذتنا أنتم أحرار فافعلوا ما تشاؤون. نعم نحن نشعر بأننا أحرار ولكن اليأس الكاذب يساور نفوسنا. يقول لنا أساتذتنا ذلك ولكنهم لم يقولوا لنا إن الإرادة تنال بالدأب وطول الأناة ولم يشرحوا لنا الوسائل التي تمكننا من نيلها ولم يدر بنا أحد على هذا الجهاد أو بعد معدته لنا. ولم يأخذ بيدنا أحد ويشد أزرنا في هذا المعترك بل تركنا وشأننا فمن المعقول إذن أن ندع هذا الجهاد جانباً ونستسلم إلى نظريات الفيلسوف (تين) وأضربه من القائلين بمذاهب القدر فإن ما يقررونه في تعاليمهم موافق كل الموافقة لما هو منطبع في نفوسنا من الكسل ولأنه يصور لنا هذا الجهاد عبئاً وتعباً ضائعاً سدى وإن لا قبل لنا بالوقوف هذا الموقف فتهدأ نفوسنا الثائرة وتطمئن مشاعرنا الهائجة ونخنع لما جرت به المقادير. وهذه الآراء بجملتها التي تهدم كيان الإرادة وتقود دعائمها مستمدة من مذهب حرية الاختبار.

إن الحرية الأدبية والحرية السياسية وكل شيء له قيمة في هذه الحياة ينبغي أن يؤخذ أخذاً بالكد والكدح وشق الأنفس ثم يجب الاحتفاظ بما حصل منه والذود عن حياضه والحرص عليه أن يضيع من اليد بعد أن حصلت عليه. أن الذي يدرك من هذه الأمور كلها يكون هو الجزاء الأوفى لأصحاب العزائم الكبيرة الصادقة والصابرين المثابرين أصحاب البراعة والحذق. وما أجمل ما قاله ذلك الحكيم لا ينال الحرية إلا من استحق أن يكون حراً. الحرية ليست حقاً من الحقوق أو حدثاً من الأحداث وإنما هي جزاء حافل بالسعادة الكاملة والهناء والغبطة. وإنما مثل الحرية في جميع ما يعمله الإنسان أو يتفق له وقوعه مثل ضوء الشمس بالنسبة للمناظر الجميلة الشائقة فإنه هو الذي يعطيها بهاءها وسناءها. فمن حرم الحرية امتنعت عليه اللذات الصالحة الباقية الآخذة بمجامع قلبه التي يستمتع بها زمناً طويلاً. ومن بواعث الأسف أن مسألة الحرية كانت مثاراً للمنازع والخلافات حتى عتورها الغموض والإبهام ولقد قال عنها (بين) أنها قفل لعلوم ما وراء الطبيعة قد علاه الصدأ. ولكن الذي نقصده هنا من معاني الحرية امتلاك المرء زمام نفسه وقمع شهواته بأن تتسلط على نفسه الأميال الشريفة والأفكار السامية. وتتغلب على البهيمة الجاثمة فيها. غير أنه لا ينبغي للإنسان أن يطمع من الإرادة في مرتبة معصومة من الخطأ بعيدة عن الزلل فذلك لا يستطيع إليه سبيلاً لقرب عهده بآبائه الأولين الذين كانوا يهيمون في البوادي ويلجأون إلى الكهوف والمغاور وأورثوه من أخلاقهم الغضب وحب الذات والميل إلى الشهوات والخمول فيستحيل عليه أن يقتلع من نفسه جذور هذه النقائص ويطهرها منها تطهيراً. إن النساك والزهاد الذين جاهدوا أنفسهم حق الجهاد وحاربوا بلا هوادة غرائزهم الحيوانية لا يدعون العصمة من كل زلل ولا الطهر التام من كل رجس ودنس. فالغاية التي نوجه إليها أبصارنا هي أن تكون لنا إرادة قوية نستطيع بها دفع ما يثقل كواهلنا من الخمول وما يهيج أعصابنا من الشهوات. ولسنا بمطلعين إلى مقام العصمة وتجريد النفس تجريداً تاماً من حب الذات وما شاكله من الأخلاق الغريزية فذلك ما لا مطمع فيه ولا أمل في إدراكه. ولا يظن أحد أن المطلب الذي أشرنا إليه سهل المنال فإن دون دركه أهوالاً بل هو عزيز

لا يناله من رامه إلا إذا تدرع بالصبر والجلد وعرف الأساليب والطرق التي توصله إلى الغاية حق معرفتها وأما من جهلها أو أخذه الغرور فلن يدرك شيئاً في هذا السبيل. فمن دخل في غمار هذا المطلب وهو جاهل بقواعد علم النفس أو غلب عليه الغرور فلم يسترشد بآراء من يعرفون هذه القواعد كان مثله من يجهل لعبة الشطرنج ثم يلعب مع قرن خبير بها طبيب بأسرارها. يقول لنا أنصار مذهب حرية الاختيار إذا كنتم لا تستطيعون أن تنشئوا شيئاً وليس في وسع مشيئتكم وإرادتكم أن تمنح سبباً من الأسباب أو باعثاً من البواعث قوة لم تكن لهما من قبل وليست من طبيعتها فأنتم إذن لستم بأحرار. فنجيبهم كلا. بل نحن أحرار ولا نقصد من الحرية إلا هذا المعنى أي أننا لا ندعى أننا نمنح سبباً من الأسباب أو باعثاً من البواعث قوة لم تكن لهما من قبل بمحض رغبتنا التي هي عمل نفسي باطني لا ضابط له ولا نظام بل هو مناف لما يقرره العلم من النواميس التي تربط الأسباب بالمسببات لا نقول ذلك ولا نذهب هذا المذهب وإنما نقول أننا نعطى هذه القوة إذا راعينا قواعد علم النفس وطبقناها تطبيقاً معقولاً. فنحن نرى أن التغلب على الطبيعة البشرية والتحكم فيها لا يكون إلا بالخضوع لنواميسها. ولا حرية لنا إلا بفهم قواعد علم النفس واستخدامها في مقصدنا الشريف ألا وهو تربية الإرادة والخلاص من ربقة الشهوات. وكلما ازداد علمنا بالعوامل النفسية التي تسيطر على حركاتنا وأعمالنا كنا أقرب إلى الحرية. يقولون لنا وقد احتدم الخلاف بيننا: إذا كنتم لا تسلمون بأن الإرادة وحدها ومن تلقاء نفسها وبمحض اختيارها ومن غير أن يكون هناك رغبة سابقة تستطيع أن ترجح سبباً ضعيفاً من أسباب قوية فأنتم بذلك لا تفرضون سابق وجود الرغبة والمرء إذا لم يكن لديه رغبة في العمل فلن بعمل أبداً فكأنكم برأيكم هذا قضيتم على هذا الإنسان قضاءً مبرماً. ويكون رأيكم هذا شبيهاً برأي أصحاب الدين الكلفيني (البروتستانتي) فإن لديهم فئة من الناس مغضوباً عليهم كتب عليهم أن يكون ثمرهم لجحيم. غير أن المغضوب عليه من هذه الفئة لا يزال يؤمل من العزة الإلهية غفران ذنوبه وشموله برحمتها فهو أحسن حالاً من ذلك الإنسان الذي سبقت الإشارة إليه لأنه كلما بحث في أعماق نفسه ولم يجد أثر للرغبة في

العمل خارت قواه وانتزع منه كل أمل لعلمه علم اليقين إن كل سعي ضائع سدىً وبعبارة أخرى إما إن يكون لدى الإنسان رغبة في السعي إلى الكمال أو لا يكون فإن لم يكن فكل محاولة ضائعة هباء. ولما كانت الرغبة ليس لها ضابط ولا هي متعلقة بالإنسان وطوع أمره فإن مذهبهم هذا يؤدي إلى مثل مذهب القضاء والقدر إلى ما هو شر منه وهو مذهب الجبر. فنجيبهم: نسلم لكم بعض ذلك جدلاً ولكن اعلموا أن الرغبة في الكمال مهما كانت ضعيفة ضئيلة في نفوسنا نستطيع بالصناعة تقويتها وإنماءها حتى تصير ثابتة راسخة وتؤول إلى عزم صادق. يقولون: ولكن هذه الرغبة ضعيفة كانت أو قوية لا بد من وجودها - على رأيكم - فإن لم توجد فلا تستطيعون شيئاً ما. وجواب على ذلك: نعم. ولكنا نسأل أنصار مذهب حرية الاختيار هل يمكن أن يطلب الإنسان الكمال وليس في نفسه ما يدفعه إلى هذا الطلب - إن الذي يسعى وراء مطلب من المطالب الكبرى ولا سيما إذا كان هذا المطلب يقتضي وقتاً طويلاً وعناءً كثيراً ولم يكن في هذا المطلب ما يشوقه ويستهوي فؤاده ثم يبوء بالخيبة والفشل - إن النجاح في أمر موقوف على حب هذا الأمر والشغب به والولع بإتمامه. يقولون لنا: ولكن على أية حال لا بد من وجود الرغبة لدى الطالب فإذا لم توجد فقد قضي عليه قضاءً مبرم بسوء المآل. فنرد عليهم: نسلم لكم بما تقولون ونقرر أنه لولا رغبة المرء في امتلاك رغبته لعجز تمام العجز عن أن يكون حراً. نعم إن هذا الإلزام والشرط ينتج أسوأ النتائج لأن بعض الناس حرموا هذه الرغبة فليس في استطاعتهم أن يعملوا في حياتهم عملاً ما. ولكن لا بد من أنكم توافقوننا على أن هؤلاء التعساء قليل عديدهم وأنهم في جملة من قضي عليهم نحس طالعهم بأن يكونوا كذلك وهم أشبه بأولئك الذين اختلت قواهم العقلية فأصيبوا بالجنون الأدبي. إني أقرر الحقيقة التالية وإن كنت لا أستطيع إقامة الدليل عليها ولكني واثق بصحتها إذا لم يرد علي ما ينقضها إلى الآن: ذلك أنك إذا سألت أي إنسان كائناً من كان على شريطة أن

يكون سليم العقل عما إذا كان يفضل عملاً شريفاً يكسبه المجد والفخر كعمل العالم (باستور) مثلاً، أو يشتهي لنفسه حالة بعض الأوغاد الذين أدمنوا الخمر وعكفوا على احتساك كؤوسها في الغدو والرواح حتى طاحت بعقولهم وأفسدت ضمائرهم لأجابك بلا شك أنه يؤثر الحالة الأولى ويختارها لنفسه. هذه حقيقة نقررها فهل يستطيع أحد إنكارها؟ هل يوجد في الناس من بلغ به البله والغباء أن لا تتأثر نفسه بمفاخر النبوغ ومحاسن الجمال وعظائم المجد والسؤدد؟ أظن أن مثل ذلك الإنسان لا يوجد ولم يوجد فيما مضى. ولو أنه وجد لما عناني من أمره شيء لأنني لا أعده إلا حيواناً في ذي إنسان. وما أقرره الآن يصدق على جميع الآدميين المتصفين حقيقة بمعاني الإنسانية وهو كاف للدلالة على ما أقصده. فإذا كانت الناس جميعاً يعجبون بحكمة (سقراط) ووفاء (ريجليس) وتقوى (فنسان دي بول) وزهده وورعه وتعلقت نفوسهم بهذه الفضائل ورجحوها على ما يأتيه صغار الأحلام من الانغماس في أقبح أنواع الشهوات واللذات فإن هذا الترجيح معناه حب هذه الصفات الفاضلة والرغبة في دركها والحصول عليها. ومهما تكن هذه الرغبة ضعيفة الأثر قليلة البقاء فإن في وسعنا أن نحوطها بالعناية والرعاية ونستعين في سبيل إنمائها وتقويتها بأصول علم النفس فتشب وتقوى وتستحيل إلى عزم ثابت لا يتزعزع، وبعد أن كانت تلك الرغبة نبتة ضعيفة تصير دوحة عالية تعجز هوج الرياح عن تحطيمها. فإن قيل لنا إنكم بما تذهبون إليه قد فرضتم وجوداً حوال نفسية اضطرارية لا مفر للإنسان منها فكأنكم تذهبون مذهب القائلين بالجبر. ولكن اعتراضهم هذا لا يروعنا لأننا لا ننكر أننا نضم بين جوانحنا هذه الرغائب التي تضطرنا اضطراراً إلى عمل ما نعمل غير أنها كلها رغائب نحو معالي الأمور وتطلع نحو المفاخر والمحاسن ونفور من الدنايا والمقابح لا يشذ عن ذلك غير أفراد قلائل تصيب بالخبل في عقولهم فلم يعودوا يميزون بين الخبيث والطيب وهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. الأخلاق الفاضلة ليست في حاجة إلى نظرية حرية الاختيار التي ألقيت على عواهنها وكانت داعية للقنوط من إمكان تربية الإرادة كما تقدم لنا القول. وإنما الأخلاق الفاضلة في حاجة إلى الحرية فلا أخلاق بلا حرية. والحرية غير الاختيار الحر. ثم أن الحرية لا تكون

إلا في النفس قارة في أعماقها وينبغي أن تخضع للعوامل النفسية صادرة عنها منفعلة بها. ولأجل إدراك هذه الحرية ينبغي أن تصور مخيلة الإنسان خطةً ومنهجاً يختاره ويرضى أن يسير عليه ما عاش ثم يسعى إلى تحقيقه معتمداً في ذلك على معارفه وخبرته بأصول علم النفس إذ بها يتمكن من ضم بعض قوى نفسه إلى بعضها أو تفريقها وإبعادها عن الالتئام تذرعاً إلى إعلاء شأن تلك الخطة التي اخطتها لحياته وسيادتها على ما عداها من الخطط والمناهج ثم يستخدم في الوصول إلى غايته الزمن وهو العامل الأكبر والقوة العظمة في تحرير الأفكار وتجريدها مما يشوبها من الشوائب. ربما كان رأينا هذا الذي بسطناه في الحرية لا يسر الناظر إليه ولا يستميله نحوه لما يكبد طلاب هذه الحرية من العناء والجهد في دركها بخلاف نظرية الاختيار الحر فإنها فرضت الإنسان حراً مالكاً لأمره يتصرف كيف يشاء. ولكن نظريتنا ترجح عليها بميزات عدة منها أنها مطابقة لطبائعنا النفسية والأدبية ومنها أنها لا تجعلها هزؤاً وسخرية بسبب التناقض البين بين ما ندعيه من أننا أحرار نفعل ما نشاء وبين كوننا في أسر أعدائنا الذين بين أضلاعنا (يريد المؤلف الخمول والشهوات وأذكر من ذلك بالحديث الشريف أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) ولو اقتصر هذا التناقض على أن المتأمل في علم النفس يراه فيلذه درسه والوقوف على تفاصيله لهان الخطب ولكنه يثمر أخبث الثمر فإنه لا يستقر في النفس حتى يبعث اليأس والقنوط من الاستمرار في المجاهدة. وعلاوة على كل ما تقدم أن من مضار نظرية الاختيار الحر أنها حالت زمناً ما بين أصحاب المدارك السامية والعقول الناضجة أن يطرقوا باب البحث في أحوال الإرادة وأطوارها والتعمق في تحليلها ودرسها درساً فلسفياً فكان هذا الإهمال خسارة للعلم لا عوض عنها ولا عزاء فيها. الآن وقد أدحضنا بالحجة تلك النظريات الذائعة بين الناس المتعلقة بالإرادة وأفسحنا الطريق فيها علينا أن ندخل في غمار الموضوع ونشرع في درس الإرادة وتحليلها تحليلاً نفسياً. الباب الثاني في تحليل الإرادة تحليلاً نفسياً الفصل الأول

الكلام على تأثير الأفكار في الإرادة لو كانت عناصر العالم النفسي بسيطة التركيب لهان على الباحث أن يتعرف على المصادر التي يستمد منها القوة في تربية الإرادة ويميز المواطن التي يأتي من ناحيتها الضعف الذي يحول بينه وبين ما يشتهي. ولكن هذه العناصر مختلطة بعضها ببعض اختلاطاً شديداً وممتزجة مزاجاً جعل تحليل الإرادة تحليلاً نفسياً دقيقاً عسيراً وليس من الهنات الهينات. على أن المعروف أن هذه العناصر التي يتألف منها العالم النفسي قد يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام وهي. (1) الأفكار أو الإدراكات (2) الأحوال النفسية أو الوجدانات أو الإحساسات أو المشاعر أو العواطف (3) الحركات أو الأعمال أو مظاهر الحياة الخارجية أو الإرادة. - (1) - في أن الأفكار ليس لها تأثير يذكر بالنسبة لتأثير العواطف الفكرة تشتمل على عناصر عديدة مختلفة ويتيسر للباحث في الروابط الكائنة بين قوة الإدراك وقوة الإرادة أن يميز نوعين من الأفكار وهما الأفكار التي تنبعث من النفس والأفكار التي ترد من الخارج فيدركها العقل. ومن الواضح المعلوم أن أكثر الأفكار إنما ترد للإنسان من الخارج فلا تستقر في نفسه إلا كما ينزل المسافر في فندق ثم يزايله سريعاً أو كما قال مونتيني. لا يكاد الذهن يمسكها إلا كما تمسك الماء الغرابيل. لا متسع لقوة التفكير أن تعمل فيها عملاً ما وإنما تتلقفها الحافظة فتخزنها وتدعها مكدسة في قرارها تكديساً ولقد يكون منها ما تنتقص إحداها الأخرى. وكل إنسان منا يدرك أن في ذهنه عدداً عظيماً من الأفكار والآراء التي اكتسبها من القراءة أو من الأحاديث بل من الأحلام والخيالات والأماني وكلها غريبة عنا طارئة علينا انتهزت فرصة خمولنا العقلي فولجت في عقولنا مكتسبة ثوباً من الرفعة ومظهراً من العظمة والجلال بانتمائها إلى كاتب شهير أو أستاذ قدير وقد يكون إثمها أكبر من نفعها. ففي الحافظة في هذا المستودع الذي جمع بين الخبيث والطيب من الأفكار والآراء تسرح أميالنا الحيوانية ويمرح خمولنا الغريزي تتلمس بين تلك الأفكار المخزونة فكرة تتوكأ عليها وتجعلها مسوغاً ومبرراً لوجودها ولما يصدر عنها من المظاهر ذلك لأن تلك الأفكار

المخزونة ملك لنا وواقعة تحت تصرفنا فما علينا إلا أن نصفها صفاً ونستعرضها ونختار منها ما نشاء ونجعله مداراً للحركة والعمل وبذلك تكون أعمالنا دائماً موافقة لما وقع عليه اختيارنا من تلك الأفكار والآراء المخزونة في حافظتنا. ثم إن لنا على تلك الأفكار النفوذ الأعظم والسلطان الأكبر فإنما هي كلمات مجردة لا تستطيع أن تقف في سبيل الشهوات والأغراض. فإذا اصطدمت بها تفككت أجزاؤها وتلاشت كما يتكسر إناء من الصلصال إذا صدمته قدر من الحديد. حاول الموسيو فوييه في رسالة له أن يثبت أن للأفكار قوة وأخذ يؤيد مذهبه هذا بالحجة والبرهان ولكنه لم يفطن إلى أنه إذا كان للفكرة قوة فإنما استمدتها من قوة القوى، من القوة الحقة أعني قوة الأحوال النفسية التي يعبر عنها بالإحساس أو الوجدان أو العواطف واكتسبتها بامتزاجها بها وارتباطها معها ارتباطاً محكماً متيناً. فإن الفكرة في ذاتها ضعيفة بنفسها كما تدل على ذلك التجارب والمشاهدات وشتان ما بين فكرة كل ما تستطيعه أن تريك أن ما هممت بفعله وصحت عزيمتك على إمضائه هو النهج القويم والصراط المستقيم وبين اعتقاد جازم وشعور ملازم يستثيرك ويستفزك ويحركك إلى إنفاذ ما يجول في خاطرك ويجيش في صدرك. والفكر إذا انفرد بمقاومة الشهوات الحيوانية وصد ثائرتها وحده بلا معين عجز عن ذلك كل العجز ولم يستطع الصبر والثبات على هذه المجالدة. على أن انفراد الفكر ووقوفه هذا الموقف مستحيل ما دام الإنسان في حالة الصحة والعافية لشدة ما بين الفكر والمشاعر من الروابط وإنما يتجلى للإنسان وهو في حالة المرض تلك الحقيقة وهي أن كل قوة تدفع الإنسان إلى عمل من الأعمال الكبيرة العظيمة فإنما مصدرها الإحساس وحده. نحن لا ندعي أن العقل مجرد من كل قوة وإنما الثابت لدينا أنه عاجز كل العجز عن صد الأميال الحيوانية التي تملك المشاعر وتنحط عليها بكلكلها. ولقد ضرب الموسيو ريبو أمثلة عديدة أبان بها أن الإدراك وحده عاجز إلا إذا أسعفته الإحساسات والعواطف فمن ذلك أن رجلاً اتفق له حادث سر فؤاده وشرح صدره واقر عينه فانفعلت نفسه بذلك انفعالاً شديداً حتى لم تبد إمارات الجذل في أسارير وجهه من شدة

ما أدركه من الفرح ولكن فكره ظل على حاله غير متأثر بما وقع وبقي متمتعاً بقواه جميعها ومدركاً ما حدث فلم يستطع ذلك الرجل وهو على تلك الحالة أن يحرك يده للتوقيع على رقعة قدمت إليه. وكثيراً ما يتفق مثل ذلك لكل واحد منا في صبيحة ليلة ساورته فيها الهموم فأقلقت مضجعه وتركته مسهداً حزيناً منقبض الصدر. ففي مثل هذه الأحوال جميعها يصيب الإنسان ضرب من الذهول والجمود مع بقاء قوته العقلية على حالها تدرك ما جرى وتعلم ماذا ينبغي فعله ولكنها عاجزة في نفسها عن دفع الإنسان إلى أي عمل من الأعمال إلا إذا شاركها الشعور وأمدها بالقوة والحول. وإنني ذاكر لك ما وقع لي على سبيل المثال، ذلك أن خادمتي جاءتني في صبيحة يوم فأعلمتني أن زائراً ينتظرني في ردهة الإستقبال وكنت لا أزال راقداً في فراشي ثم بقيت أتقلب في الفراش متلذذاً بالدفء والرحة. وقد غاب عن ذاكرتي ما أبلغتنيه خادمتي. ثم سمعتها تتحدث مع هذا الزائر فأحسست بأن تثاقلي عن النهوض وتباطؤي عن ملاقاته مناف للذوق ومجاف لآداب المعاشرة واللياقة فنهضت وثباً وأسرعت إلى استقباله. ومن الأمثال والشواهد التي ذكرها المسيو ريبو تعلم الفرق بين نتائج الفكر وبين نتائج الإحساس. ومن ذلك أن رجلاً أصيب بمرض في الإرادة فبات لا يستطيع أن يأتي بأية حركة إرادية ولكنه ظل حافظاً لقواه العاقلة كلها فحدث ذات يوم أن المركبة التي كان بها صدمت إمرأة فكان أول من وثب منها وركض لإغاثة تلك المرأة الجريح. قد يحمل بعض الناس الحوادث المتقدم ذكرها على أنها أحوال مرضية لا يصح إطلاقها على الناس كافةً. نعم إنها أحوال مرضية ولكنها صورة مكبرة لضعف النفوس الذي يشاهد في الناس عادةً ولكنهم قلما يعترون بهذه الأحوال أو يحسبون لها حساباً. وذلك مثل البخيل الذي يشهد تمثيل رواية (موليير) ويسمع بأذنيه نوادر الشح وغرائب البخل مصورة مجسمة فيقهقه منها ويغرب في الضحك ولكنه قلما يعتبر بها أو يدرك أنها صورة مكبرة لذلك الخلق المرذول الذي هو عليه. وكذلك ضعيف الإرادة يرى بعض اللذين أصيبوا بالأمراض النفسية فلا يسلم بأن حالته النفسية إنما هي حالة صغيرة من هذه الأمراض على أنه مهما أصر على رأيه ولم يقتنع بأن قوة الإدراك وحدها لا تجزئ شيئاً وإنه لا بد من سلامة النفس من العلل والأمراض فلسوف تقنعه التجارب بأنه في ضلال مبين وأن الفكرة

وحدها ضعيفة في ذاتها قوية في بانضمامها إلى الإحساس. انظر إلى السكيرين تراهم يعلمون حق العلم عقبة الإدمان على السكر وما ينتجه من النتائج الوخيمة ولكنهم قلما يحسون ويشعرون بذلك إلا عندما تبدو لديهم أول علامات الجنون الكحولي فإذ ذاك يندمون ولات ساعة مندم. فلعمري ماذا أفادهم علمهم بهذه النتائج إذا كانوا لم يشعروا بها ولم تنفعل بها نفوسهم. فإذا وقعت الواقعة وحل بهم المرض والفاقة قالوا متوجعين ليتنا كنا علمنا. لقد علمتم ولكنكم ما كنتم تشعرون. والشعور هو صاحب الكلمة العليا والأمر النافذ على الإرادة. تقدم الكلام على تلك الأفكار المخزونة في الحافظة التي لا تنفذ إلى أعماق النفس وليس لها أثر فيما يصدر من الإنسان من الأفعال ونقول الآن أن هناك نوعاً آخر من الأفكار يستعين ببعض العواطف الوقتية فينتج بعض النتائج ويكون له شأن في دفع الإنسان إلى الحركة والعمل. مثال ذلك أن رجلاً قضى بضعة أيام في بيته ملتزماً العزلة والسكون ممتعاً نفسه بالراحة والخمول يقطع أوقاته في القراءة وكلما هم بكتابة فصل من كتابه الذي شرع في تأليفه وأزمع إبرازه للجمهور أحجم عن ذلك ضعفاً منه وخوراً في عزيمته فبينا هو على هذه الحال إذ حضر البريد فحانت منه إلتفاته في إحدى الصحف فرأى أن زميلاً له نشر كتاباً حاز إقبال الجمهور ورضاه فاشتعلت نار الغيرة في فؤاده وشحذ عزيمته حب المباراة والسبق فعاد إلى الكتابة وانكب عليها وما زال حتى أتم مؤلفه. فما عجزت عن عمله الفكرة والقياسات المنطقية جعله مجرد انفعال نفساني وهو عاطفة الغيرة أمراً ممكناً ميسوراً. على أن عاطفة الغيرة معدودة من عواطف الدنيا. إني لأذكر دائماً حادثة وقعت لي فأرتني جلياً الفرق بين الفكرة والإنفعال النفساني ذلك أنني كنت في بعض السنين أروض النفس في جبال الألب وذهبت ذات يوم قبل شروق الشمس أصعد الجبل فأدى بي المطاف إلى اجتياز طريق مكسوة بالثلوج ومنحدرة انحداراً شديداً ينتهي إلى هاوية مظلمة بعيدة القرار وكنت أسير في هذه الطريق إنزلاقاً على الجليد فلم أفقد صوابي بل علمت ما أنا فيه من حرج الموقف وسوء المغبة وأيقنت أنني هالك لا محالة على أنني تجلد وتملكت رباطة جأشي واعتمدت على عصاي المحددة الطرف فأمكنني أن أتئد في سيري حتى صار أبطأ مما كان وسرت الهويناً حتى اجتزت هذه

الطريق برفق وحذر ووصلت إلى اليبس وتسنمت الصخر وقد نجوت من الخطر فارتعد عند ذلك جسمي ارتعاداً شديداً من جراء التعب والإعياء ثم أخذ قلبي يخفق خفقاناً متتالياً وتصبب مني العرق البارد وأدركني في تلك اللحظة خوف شديد ووجل طارت منه نفسي شعاعاً ذلك أنه في تلك الآونة استحالت فكرة الخطر إلي إحساس وشعور بالخطر. ومن بين تلك الأفكار التي ترد من الخارج وترتبط ارتباطاً وقتياً بالعواطف التي تثور ثم تخمد سريعاً ما هو أدخل في النفس وأعلق بها وأشد بها ارتباطاً ومنا تمكناً وهو عبارة عن أفكار ترد من الخارج أيضاً كسابقتها التي شرحناها غير أنها لا تتحد إلا مع العواطف الأصلية الغريزية. أفكار من طبيعة تلك العواطف وعلى شاكلتها فتمزج بعضها ببعض امتزاجاً لا يسهل معه الفصل بينها حتى تتشابه فيلتبس الأمر ولا يعلم إن كانت الفكرة هي التي استغرقت العاطفة أو العاطفة هي التي استغرقت الفكرة وأدمجتها في بنيتها، ومما يعين على سبك هذه السبيكة وصبها في ذلك القالب أن الفكرة الطارئة من الخارج تندمج أيضاً في الأفكار التي تتولد في النفس وتفيض منها وهي التي تعبر تعبيراً صحيحاً وتدل دلالةً ناطقةً على كنه الأخلاق ومنازع النفس وأميالها وما هو مستقر في أعماقها من الخواطر والسوائح وفي أثناء هذا الإدماج يصبغها الإحساس بصبغته ويمدها بشي من حرارته حتى ليخيل إلى من تأمل فيها أنها عواطف منبعثة من النفس وليست أفكاراً مصدرها الإدراك والتعقل ثم تظل بعد هذا التحول الذي طرأ عليها باقية في الذهن حافظة لقوتها وحرارتها التي استمدتها من العواطف. إن المواد التي تسيل على جوانب البراكين مصهورة ثم يبترد سطحها تبطن في أحشائها مواضع بها أجزاء تظل سائلة وتبقى أعواماً طوالاً حافظة لحرارتها الشديدة. فما أشبه هذه الأجزاء بتلك الأفكار في كمونها في النفس على حرارتها حتى يتاح لها أن ينقدح زنادها ويتطاير شررها. هذه الأفكار هي التي توحي إلى صاحبها المعاني وتلهمه الآيات وتنفث فيه السوانح فيما يعانيه من كبريات المسائل وعظائم العزائم المفتقرة إلى الجهد الكثير والتفكير الطويل. وأعلم أن هذه الأفكار بما لها من الصلة المتينة بالعواطف أصبحت شبيهة بها وعنواناً عليها وواسطة تتنقل بها بين القلوب وتحل بين الجوانح والأفئدة ولولاها لظلت العواطف في مكانها نكرة لا تعرف ومجهولاً لا يهتدى إليه، وذلك لأن العواطف من طبيعتها بطيئة ثقيلة

الحركة ومهما كانت قوتها في قلب صاحبها فإنه يشعر بها شعوراً يشوبه اللبس والإبهام والغموض فلا يجد إلى الإفصاح عنها سبيلاً. وأما الفكرة فإنها لينة مرنة تنتقل على أهون سبيل من عقل إلى عقل متبطنة العاطفة التي تعبر عنها فتفعل في النفوس فعلها. فأنت ترى من ذلك أن الأفكار التي من هذا القبيل مباينة كل الباينة للأفكار الطارئة من الخارج التي وعتها الحافظة وخزنتها في وعائها. هذه ألفاظ سيالة تنتهي بمجرد النطق بها وليس لها في النفس الإنسانية من أثر يذكر وتجعل من صاحبها رجلاً قوالاً غير فعال. وأما تلك فإنها ذات أصول تستمد بها قوتها وبأسها من ينبوع العواطف والأميال والشهوات المستكنة في قرارة النفس. فإذا تولدت فكرة من هذا الطراز في نفس مستعدة لقبولها حدث كما يحدث من خاصتي الإنتقال والتجاذب في السوائل المتجاورة أمران حقيقيان بالعجب. الأول أن الفكرة تجذب إليها العواطف الصالحة لإخصابها فتتغذى منها وتترعرع وتقوى، والثاني أنها تنقل إلى العواطف ما اتصفت به من الجلاء والوضوح وتوجهها إلى الغاية المنشودة وتهديها سبلها. وكما أن المغناطيس يجذب بردة الحديد ويجعلها دوائراً وصفوفاً في غاية النظام والإحكام كذلك الفكرة توجه العواطف المتباينة إلى وجهة واحدة وتهدم ما بينها من الفوارق والتناقضات. تكون العواطف في قلب صاحبها خليطاً مشوشاً مضطرباً فتتسلط عليها الفكرة فتجمعها بعد شتاتها وتنظمها بعد انتثارها وتضم أطرافها وتسلك بها المنهج القويم والحجة الواضحة. لذلك تجد الجماهير في الشعوب الديمقراطية تخفق أفئدتهم بأماني ورغائب يتطلعون محوها ويشرئبون إلى تحقيقها ولكنهم قلما يفهمون كنه ما يجيش في صدورهم منها حتى يقف بينهم خطيباً زعيم من زعماء السياسة المعروفين لديهم فيقول كلمة تصادف هوى من نفوسهم وتقع على موضع الألم من أفئدتهم فسرعان ما تجتمع كلمتهم على غاية واحدة وتتفق أغراضهم في سبيل واحد بعد أن كانت عواطفهم فوضى لا نظام لها ولا ثمرة ترجى من غليانها في صدورهم. هذه حال الأفكار إذ اانضمت إلى العواطف وارتبطت معها وأما إذا بقيت وحدها فإنها تظل عاجزة عن صد تيار المشاعر الطبيعية والإنفعالات الغريزية ودفع استبدادها وتحكمها مثال ذلك أنه قد يحدث للإنسان في بعض الليالي أن ينقبض صدره وتنتابه المخاوف بلا سبب

معقول وترتعد فرائصه فرقاً ويخفق قلبه خفقاناً شديداً فيصعد الدم إلى رأسه وتحتقن وجنتاه ومع أنه يفهم أن لا محل لهذا الرعب ويعلم أن استرساله في ذلك معيب وحاط من كرامته فلن يستطيع أن يتغلب على عواطفه ويقهرها. فمن لم يحدث له مرة مثل ذلك عليه أن يختبره بنفسه وذلك بأن يقوم بعد منتصف ليلة من ليالي الشتاء تعصف فيها الرياح عصفاً شديداً ويأخذ في قراءة قصة (الباب المسدود) من كتاب القصص الخرافية تأليف هومفن فيرى بعينيه كيف تعجز قواه العقلية ومداركه السليمة عن التغلب على عاطفة الخوف. دع الآن هذه العواطف الغريزية وانظر إلى العواطف التي تكتسب بالرياضة والمران، وتأمل في الفرق البعيد بين تنائجها ونتائج الأفكار. انظر مثلاً إلى الإعتقاد الديني لدى الأدباء والمستنيرين والمهذبين من أهل الحضارة القائمة على التعقل والبحث المنطقي، وهذا الإعتقاد بعينه لدى راهب من رهبان (الدومنقيين) القائم على الإيمان والتسليم بلا بحث. تجده لدى هذا الراهب اعتقاداً راسخاً كالجبل لا يميد وعاطفة عالقة بالنفس لا يتطرق إليها الشك، يؤمن إيماناً صحيحاً بضحى في سبيله ملاذ هذه الحياة ويزهد فيما يتهافت عليه الناس ويتهالكون على اقتنائه ويصبر على الفقر والجوع ويروض نفسه على تحمل التعب والألم وأما ذلك المترف الذي يعرف قواعد الدين ويعلم حكمها وأحكمها وقد يذهب للصلاة في الكنيسة ولكنه لا يحجم عن اقتراف أشنع الآثام التي تنم عن الأنانية والطمع كأن يقتر على خادمته المسكينة ويرهقها فلا يطعها إلا بقدر ما تمسك رمقها، لا يشفق على ضعفها ولا يرثي لحالها بل يكلفها من العمل ما هو فوق طاقتها على أنه ينفق بلا حساب في سبيل لذة ينالها أو وطر يقضيه. بل انظر إلى ذلك الإشتراكي الذي يرقى المنابر ويرفع عقيرته بالدفاع عن حقوق العمال يصف حالهم وظلم أصحاب الأموال لهم ثم نجده بعد ذلك يعيش عيشة البذخ والترف يتنعم بكل صنوف الملذات وينفق عن سعة فيما لا تدعو إليه ضرورة وإنما اقتضاه الزهو والخيلاء. أين هذا الإشتراكي من مثل الكونت تولستوى الذي يؤمن بالإشتراكية إيماناً ويحس بها إحساساً ولذلك لم يمنعه ماله من شرف المحتد والثروة الطائلة والقريحة المتوتدة والجاه العريض والصيت الذائع من أن يقيم بين الفلاحين ويشتغل في الأرض معهم ويقاسمهم شظف عيشهم ويشاركهم في سرائهم وضرائهم.

كل إنسان يعلم حق العلم أن كل نفس ذائقة الموت وأن كل كائن حي لا بد أن يموت ولكن قلما ينتفع أحد بهذه الفكرة لأنها تتردد في الذهن ولا تأثير لها على أخلاق المرء وطباعه وكان حقاً عليها أن تخفف من غلوائه وتيهه وأن تعزيه عن مصائب هذه الحياة وآلامها وأن تطهره تطهيراً من الطمع والجشع والتناهي في حب الذات. ولكن أنى لها ذلك وهي مجرد فكرة لم تستشعرها النفس ولذلك ترى المجرمين الذين قضي عليهم بحكم الإعدام لا يشعرون بدنو أجلهم وتنفعل بهم نفوسهم إلا في آخر أيامهم. ولقد وصف (ديكنيز) حالهم بقوله: تتردد فكرة الموت دائماً في ذهن المحكوم عليه بالإعدام ولكنها لا تكاد تخطر حتى تزول. وكلما فكر في انصرام حبل أجله وارتعدت فرائصه وانخلع قلبه هلعاً واحمر وجهه حتى يحاكي الجمرة ثم ينتقل فكره رغماً عن إرادته فيحدق ببصره في كوة للغرفة التي أعتقل بها ويعد قضبان الحديد التي فيها ويلمح بينها قضيباً قد التوى فيتساءل عما إذا كان أولياء الأمر في ذلك السجن يبادرون إلى تقويم ذلك الإعوجاج ثم ينتقل فكره على هذه الصورة حتى إذا أقبل مساء آخر يوم من أيامه تجلت له صورة الموت في أبشع مظاهرها فتحس بها نفسه فتخور قواه ويستولي على قلبه الجزع واليأس. وقد ذكرنا من الأمثال والشواهد ما يكفي للدلالة على ضعف تأثير الفكرة بالنسبة للعاطفة. ولكل قارئ أنم يراجع ما مر به من الحوادث وما استفاده من التجارب فيجد كثيراً منها يؤيد صحة قولنا. والخلاصة أن الفكرة في ذاتها ضعيفة وكانت تكون قوية لو أنها وجدت وحدها في الضمير ولكنها ليست فريدة فيه بل هي والعواطف فيه فرسا رهان فهي مضطرة أن تستمد منها ما هي في حاجة إليه من القوة اللازمة للمجاهدة. ـ 2 ـ في أن لنا السلطة التامة على أفكارنا وكيفية الإنتفاع بتلك السلطة واستخدامها إذا كانت أفكارنا عاجزة عن التأثير بنفسها كما تقدم الكلام فذلك لا يهمنا ولا يحززننا لأن لنا عليها السلطان الأعظم ولنا أن نتصرف فيها كما نشاء. إذ من المعلوم أن من طبيعة القوى المدركة أن الفكرة إذا خطرت جذبت إليها فكرة أخرى ترتبط بها وهذه تجر غيرها

وهكذا فيتألف من ذلك سلسلة طويلة من الأفكار ومن الهين علينا الميسور لنا أن نستعين بنواميس تسلسل الأفكار وارتباطها بعضها ببعض فنقطع سلسلة منها شاغلة لذهننا وندخل فيها بإرادتنا أفكاراً أخرى غريبة عن هذه المجموعة فندمجها فيها وننظمها في سلكها ثم نربط ما انقطع من تلك السلسلة. كنت أفكر في إيراد مثال أوضح به هذه القضية النظرية فهداني الإتفاق إلى المثال الآتي وطالما كان الإتفاق خير هاد وأرشد دليل. ذلك أنني بينما كنت أفكر إذ طرق سمعي صفير صادر من صفارة العمل القريب من داري فقطع هذا الصوت الذي مثل لسمعي سلسلة الأفكار التي كانت شاغلة ذهني ولو شئت أن أستبقيها لما استطعت إلى ذلك سبيلاً. ثم تجلى لخيالي منظر البحر عند شواطئ جزيرة (قورسه) والجبال الشامخة والمناظر الأنيقة الشائقة التي تبدو أمام عيني المتنزه على شاطئ البحر في مدينة (باستيا) إحدى مدن تلك الجزيرة. وإنما استعاد خيالي تلك المناظر لأن صفير صفارة الذي طرق سمعي يحاكي كل المحاكاة صفير البواخر الذي كنت أسمعه كل يوم في غضون ثلاثة أعوام قضيتها في تلك المدينة. فمن هذا المثال تعلم أن الأقوى هو الذي له حق البقاء في الذهن فإن أردت أن تطرد من ذهنك فكرة فسلط عليها فكرة أخرى أقوى منها وأشد بأساً. ومن القواعد العامة في علم النفس أن الأحوال الماثلة أقوى من الممثلة أو بعبارة أخرى أن الأحوال الحاضرة في الذهن التي ترد إليه من طريق الحواس الخمسة أكبر حولاً وأشد قوة من الأفكار التي تهجس في الضمير وتمثل المعاني والمدلولات البعيدة عن الحس. وكما أن صفير الصفارة طرد من ذهني مجموعة الأفكار التي كنت أريد أن أطلق لها العنان فكذلك لكل إنسان أن يحتذي هذا المثال بحكمة وحذق فيثبت في ذهنه من الأفكار ما يشاء ويمحي منه ما يشاء. فإذا تولدت في ذهنك سلسلة من الأفكار لا تود بقاءها فيه وتريد أن تمحوها من نفسك فما عليك إلا أن تصطنع أحوالاً ماثلة تعرض لذهنك بقوة وتقطع هذه السلسلة وتحل محلها. ومن جملة هذه الأحوال الماثلة ما هو طوع إرادتك ورهن إشارتك تستخدمه أينما شئت وكيف شئت وهي الحركات ومنها حركات اللسان والشفتين أي النطق. فإذا رمت أن تطرد بعض الأفكار من ذهنك فخذ في قراءة قطعة وانطق بألفاظها وأجهر بصوتك عند القراءة.

ومن الوسائل التي كان يتذرع بها بعض العباد لطرد الأفكار الضارة التي تثير الشهوات ونزغات النفس ونزواته أن يجلدوا حتى تدمى جسومهم. بهذا وبأمثاله يستطيع الرجل أن يغلب فكرة على أخرى ويدخلها في نفسه عنةً واقتداراً ويجعلها تسير بذهنه إلى وجهة غير التي كان متجهاً نحوها. ومما يعين على الوصول إلى تلك الغاية ناموس الحافظة إذ من المعلوم أن ما يراد حفظه في الحافظة يجب أن يكرر تكراراً كثيراً في كل آونة حتى ينطبع فيها وينتقش ويحمي سطور ما تقدمه ويعفي أثره ويحل محله بشرط أن يكون هذا التكرار مقترناً بالإنتباه التام ونشاط النفس وارتياحها، بذلك يطرد الإنسان أفكاراً قديمة ويستعيض عنها بأفكار حديثة، ثم إن دقائق الدماغ التي ولدت تلك الأفكار التي طردناها وحكمنا عليها بألا تعود تضعف وتضمر ثم تزول كلها وتجر معها جميع الأفكار التي كانت تتولد منها. الخلاصة أن في وسع المرء أن يسيطر على أفكاره فيقتلع البذور الفاسدة منها والبقعة التي تنبت فيها تلك البذور وتذكو وتترعرع. وإذا رمت عكس ما تقدم أي أنك تريد الإحتفاظ بسلسلة من الأفكار موجودة في ذهنك وتود أن تبقى وتنمو وتشتد فما عليك لإدراك هذه الغاية إلا أن تجتهد في إبعاد كل ما من شأنه أن يمثل لذهنك ويلم فيه من المبصرات أو المسموعات أوغيرها وذلك بملازمة السكون التام والصمت وإغماض العينين إذا كانت سلسلة الأفكار التي لديك لينة مرنة لا تحتمل مصارعة. ولك أن تستعين ببعض الأحوال التي تفيدك فيما تنشده ولاسيما النطق بالعبارات التي تعبر عن الفكرة التي تريد الإحتفاظ بها والجهر بها ثم تقيدها بالكتابة. وللكتابة شأن خطير لا يستهان به في التفكير الطويل فإنها عدة للذهن تعينه على التفكير باستخدامه آلتي البصر واليد. ولقد انطبعت في نفسي عادة اكتسبتها من ممارسة صناعتي وهي أنني لا أقرأ شيئاً إلا حافظت أشد محافظة على تأدية حروفه من مخارجها وجهرت بصوتي في القراءة فتتأصل بذلك في نفسي كل فكرة وترسخ بواسطة ثلاث عوامل بل أربع إذ من المتعذر أن يقول الإنسان قولاً بلسانه ولا يسمعه بأذنه. وقصارى ما نقول أن سيطرتنا على أفكارنا وسلطتنا عليها لما تأتيان من سيادتنا على عضلاتنا وإمكاننا تحريكها بإرادتنا ولاسيما عضلات الحواس الخمس ومن جملتها

العضلات التي تتحرك عند النطق. فبهذه السيطرة نستطيع أن نخلص من مجموعة أفكار ولجت ذهننا وتملكته وتحكمت فيه وأن نستبدلها بما هو خير منها. وتختلف هذه السلطة لدى الأفراد قوة وضعفاً. ولا يحسن أن يحسد الإنسان في نفسه حالة خاصة فيخالها عامة في جميع أفراد النوع الإنساني بمخالفة ذلك النواميس.

ماجدولين الجديدة

ماجدولين الجديدة الجزء الثاني في إنجلترة الفصل السادس وصيفة اللادي جانيت الفصل شتاء، والسماء مصحية، والجو مشرق جميل ونحن ندخل بالقارئ دار مابلثورب بلندن، فنجاوز الحديقة إلى حجرة الطعام، وليس في عشاق الفنون، والمفتونين بالجمال من أهل لندن من لم يسمع بالنقوش الجميلة التي ازدانت بها حجرات ذلك المغنى، ولهذه الحجرة مدخل حافل بالأزهار، ومستغرب النبات، وعلى يمينك باب يؤدي إلى حجرة الكتب، قاعة كبيرة تتصل بحجرات البيت، وعلى يسارك، قاعة البليارد تتجاوزها إلى قاعة التدخين. هذا والساعة قد دقت اثنتين، وقد بسطت المائدة لطعام الغداء. وكان الجلوس ثلاثة، وفي الصدر جلست اللادي جانيت روي، وبجانبها وصيفتها ومقرئتها، وأما الثالث فضيف نزل بالدار، لا يزال قراء هذه الرواية يذكرون اسمه - وهو هوراس لمكروفت - الملتحق بالجيش الألماني مكاتباً حربياً لإحدى صحف لندن. واللادي جانيت روي، لا تحتاج إلى التعريف، فهي نجم متألق في المجتمعات الإنكليزية. من الذي لم يسمع بيواقيتها وحرائرها، ومن ذا الذي لم يفتن باعتدال قوامها وشعرها الأشيب الوقور الجميل وعينيها السوداوين اللتين لا تزالان تحتفظان بلمعة الشباب، ورنوة الصبا، ومن الذي لم يطرب لسماع حديثها الفياض الندي، ومحاضرتها الرطبة الشهية. . .، من هذا العابد المتمسك الذي لم ينته إليه طرف من غرابة آرائها وشذوذ أفكارها، كل إنسان قد سمع بالسيدة العجوز، أرملة لورد طال العهد بموته، كل إنسان يعرف اللادي جانيت روي. ولكن من الذي يعرف المرأة الشابة الحسناء الجالسة عن يمينها. تلعب بالطعام ولا تأكله. لا إنسان يعرفها ولا ريب. إنك لتراها الآن في لباس رمادي جميل، تكاد تداني اللادي روي في طول قامتها، تحمل في

وجهها مفاتن من الحسن قلما توجد في مشذبات القوام. ممشوقات القدود. وإنك لتحس إذ تنظر إليها أنها ليست إلا سيدة نبيلة تشارك اللادي روي في الشرف وجلال الأصل. ولكن. واآسفاه. ليست هي بعد إلا القارئة والوصيفة،. . . . وهي تقابل حديث سيدتها بإطراقة من رأسها اللطيف. ولكن ما بالها حزينة صامتة الحزن، ألا يزال ضميرها يعذبها؟؟ لم تلبث أن نهضت فجأة وهي تقول بحزن، هل تأذنين لي يا مولاتي أن أذهب إلى قاعة الزهر؟. . فأجابت اللادي جانيت. بلا ريب يا عزيزتي. فحنت رأسها لسيدتها ونظرت إلى هوراس نظرة رحمة وإشفاق ثم تولت ذاهبة، وعينا هوراس تتبعانها. فلما اختفت، ظل صامتاً لا يأكل، والشوكة في يده يلعب بها، قالت اللادي - ألا تأخذ شيئاً من الفطائر؟ فأجاب هوراس. كلا. وأشكرك. فعادت اللادي تقول. ألا تتناول شيئاً آخر. فأجاب هوراس. إذن فآخذ قدحاً آخر من النبيذ إذا كنت تسمحين. وإذ ذاك ملئ القدح وجرعه مرة واحدة في سكوت واللادي جانيت تلاحظه. قالت اللادي. يلوح لي أن جو داري لا يوافقك يا صديقي الشاب فإنك منذ نزلت ضيفاً عليا لا تفتأ تلح على الكاس، وتملأ الأقداح إثر الأقداح، وتشعل اللفافة بعد اللفافة، إن هذه الأعراض غير محمودة في الفتيان. لقد جئت بيتي يوم وصولك مريضاً من أثر جرح أصابك في ميدان الحرب، ولو كنت أنا في مكانك ما عرضت نفسي للرصاص، ولا غرض هناك إلا وصف موقعة في الصحف، ولكني أظن الأذواق تختلف، أراك مريضاً، ألا يزال جرحك يؤلمك. فأجاب هوراس. كلا. فعادت تسأله. وهل أنت ضيق الصدر. وعند ذلك وضع هوراس الشوكة في يده واعتمد بذراعه على المائدة ثم أجاب. أشد الضيق! فتملك اللادي جانيت الغضب وقالت، إن مائدتي يا سيدتي ليست من موائد الأندية والأسمار وأنا لا أسمح إنسان أن يكون ضيق الصدر في بيتي. إني أعد ذلك إهانة موجهة

لشخصي، فإذا كانت حياتنا الهادئة لا تلائمك فقل ذلك وانظر موطناً آخر تتحمل إليه، وعلى ذكر ذلك، هل وجدت لك عملاً جديداً تزاوله. فأجاب هوراس بهدوء، أجل، إن الحرب لا تزال قائمة وقد طلب إلي أن أكون مكاتباً حربياً لصحيفة أخرى. قالت اللادي بغضب شديد لا تتكلم عن الصحف والحرب يا سيدي، إني أمقت الصحف، ولا أسمح لها بدخول بيتي، بل إني ألقي تبعة هذه الحرب الموحشة وهذه الدماء المسفوحة، عليها وحدها. فتملكت هوراس الدهشة وقال، ماذا تعنين، هل الصحف هي المسؤولة عن الحرب؟ فأجابت اللادي بهدوء، كل المسئولية. إنك لا تفهم العصر الذي نعيش فيه، هل ترى أحداً منا يعمل شيئاً اليوم إلا ودلو رآه مكتوباً في الصحف، أنا أكتتب لجمعية من الجمعيات، وأنت تحرز شهادة من الشهادات، وهو يخطب خطبة عصماء، وهي تؤلف ندوة من الندوات، وهم يذهبون إلى الكنيسة، وأنا وأنت ونحن وهو وهي وهم نريد شيئاً واحداً، نريد أن نرى ذلك منشوراً في الصحف، فهل تظن الملوك والساسة والقواد والشعراء شواذ عن بقية الناس، كلا، إني أقول لك لو كانت صحف الغرب أجمعت على أن لا تحتفل بالكتابة عن الحرب بين فرنسا وألمانيا، إذاً لكانت الحرب قد انتهت منذ زمن بعيد، دع القلم يكف عن تذكية السيف، وأنا أقول لك لا حرب يومذاك ولا قتال! قال هوراس بتهكم إن أراءك عليها طلاوة الجديد يا سيدتي، فهل تمانعين في رؤيتها منشورة في الصحف؟ فهاجمته اللادي بأسلحته. إذ قالت، ألست أعيش في القرن التاسع عشر أجل بل! اكتبها يا سيدي، واكتبها بالقلم العريض. فعمد هوراس إلى تغيير الموضوع فقال، أنت تلومينني على أنني ضيق الصدر وتظنين أن ذلك لأنني سأمت هذه العيشة البهيجة في دار ما بلثورب، ولكن كلا يا سيدتي اللادي فإنني لم أمل العيشة ولم أسأم - وهنا التفتت صوب قاعة الزهر ثم عاد فاسترسل في حديثه - وإنما الحق أقول إنني غير مسرور من جريس روزبري. قالت اللادي وماذا صنعت جريس؟

قال هوراس إنها تصر على تأجيل الزواج، وتأبى كل الإباء أن تحدد يوم عقد القران. فسألته اللادي، وهل تعرف لذلك سبباً. فأجاب هوراس، أخشى أن يكون هناك باعث لها على هذا التأجيل، باعث لا تستطيع أن تبوح به لكي أو لي. قالت اللادي باستغراب، وماذا يجعلك تظن هذا الظن؟ فأجاب هوراس، لقد باغتها مرة أو مرتين وهي تبكي، ثم لا أفتأ أراها ترتجف حيناً، وحيناً تقطب، وتارةً تبدو مبتهجة، وأخرى حزينة مضطربة، فما معنى كل هذه الحركات. فلم يكن من اللادي إلا أن ابتسمت قائلة، إن المعنى واضح أيها الأبله كل الوضوح، إن جريس منحرفة المزاج في هذه الأيام وقت وصف الطبيب لها السفر وترويح النفس، وسأسافر بها إلى مصطاف جميل. فقال هوراس بل الأوفق أن أسافر أنا بها ولعلها ستوافق بتأثيرك ونفوذك، فهل ترينني أسألك أمراً كبيراً إذا أنا توسلت إليك أن تعملي على حضها وإغرائها، لقد كتبت والدتي وشقيقتاي إليها فلم يفلحن، فاصنعي لي أكبر جميل كلميها اليوم! وإذ ذاك أخذ يد اللادي جانيت فطبع عليها قبله حارة وعاد يقول لقد كنت أبداً حنوناً علي عاطفة حادية. وإذ ذاك أدركت اللادي جانيت الرحمة له فأجابت بلطف إذن فهل أكلم جريس حقاً. ورأى هوراس أنه قد تحقق رجاؤه فنهض وألقى ببصره ناحية حجرة الزهر ووجهه مشرق بالفرح وأما اللادي جانيت - ولا تزال ذكرى والده الحلوة في ذهنها - فاختلست النظر إليه. ثم تنهدت من ذكرى أيام الشباب الضائعة ولكنها لم تن أن تمالكت نفسها. قالت وهي تدفعه صوب الباب، اذهب إلى قاعة التدخين، اذهب وخذ في سيئة القرن التاسع عشر، فحاول هوراس أن يشكرها ولكنها دفعته ثانية وهي تقول اذهب ودخن. اذهب ودخن. فلما بقيت اللادي جانيت وحدها دارت دورة في القاعة ثم فكرت قليلاً. لم يكن غضب هوراس غير معقول إذ ليس هناك عذر لهذا التأجيل الذي يشكوه، وسواء أكان للفتات باعث أم لم يكن فلا بد من تلمس ما يجول بخاطرها، ولكن كيف تهجم اللادي

جانيت على الموضوع دون أن تغضب فتاتها وإذ ذاك جعلت العجوز تقول يا لله من بنات هذا العصر إني لا أستطيع فهمهن، لقد كنا في زمننا إذا أحببنا رجلاً اندفعنا إلى الزواج به في أقرب فرصة، ولكن هذا العصر عصر التقدم والرقي. فواهاً لنسائه ثم واهاً. وأجمعت على مفاتحتها بالموضوع وتركت الكلام للظروف ثم دنت من باب حجرة الزهر فنادت جريس. . . .! وفي الحال جاءت الفتات الهيفاء تخطر نحوها فوقفت عن كثب ثم قالت هل ناديتني يا مولاتي. فأجابت السيدة نعم فإني أريد أن أكلمك، تعالي واجلسي بجانبي. وانثنت اللادي جانيت إلى منضدة في القاعة فجلست عندها وإلى جانبها وصيفتها. الفصل السابع جوليان جراي وافتتحت اللادي جانيت الكلام فقالت أنت تلوحين هذا الصباح شاحبة يا ابنتي. فتنهدت مرسى تنهدة راجعة وأجابت إني مريضة. وأقل ضوضاء تزعجني. فوضعت اللادي جانيت يدها فوق كتفها بلطف وإشفاق وقالت إذن فلنجرب السفر يا عزيزتي وترويح النفس. فأي ناحية تشائين يا فتاتي. هل القارة تريدين أم ساحل البحر؟ فقالت مرسى. أنت تعطفين علي كثيراً يا مولاتي فأجابت هذه ومن ذا الذي يستطيع أن لا يعطف عليك يا عزيزتي. فتوردت وجنتاها الذابلتان وقالت وهي ترتجف أواه يا مولاتي أعيدي علي كلمتك. فنظرت إليها اللادي جانيت متعجبة واسترسلت مرسى تقول في رنة صوت محزن أجش نعم يا مولاتي لا تظنيني جاحدة. هل يطيب لك حقاً أن أكون في بيتك. هل أحسنت سلوكاً منذ نزلت دارك يا مولاتي. فتأثرت اللادي جانيت من هذه الكلمات ولكنها ظنت أن فتاتها تتلطف لها فقالت وهي تبتسم أنت تتكلمين يا عزيزتي كما تتكلم الأطفال الصغار ثم ألقت يدها فوق ذراع مرسى برفق واسترسلت بلهجة أكثر جداً، بل إني أحمد اليوم الذي جئت إلي فيه يا جريس. ولا أظن أنني أكون أكثر حباً لك لو كنت ابنتي.

فمالت مرسى برأسها كأنما لتخفي وجهها وشعرت اللادي جانيت أن ذراع الفتات ترتجف تحت راحتها فقالت ماذا بك يا عزيزتي. فأجابت مرسى في صوت متقطع خافت. لا شيء يا مولاتي إلا أنني شاكرة لك جميلك. وكان وجهها لا يزال منزوياً عنها. فقالت اللادي جانيت في نفسها عجباً ماذا قلت لها حتى أخذت في هذا القول هل هي اليوم متفتحة القلب. إذا كان ذلك فلأكلمها عن هوراس. . . . وانطلقت تدنو بها من الموضوع فقالت ما أطيب الحياة اليوم وما أنضر العيش. لقد عشنا على محض المودة والهناء ولكن ماذا أصنع يا عزيزتي جريس إذا جاء اليوم الذي أضطر فيه إلى أن أفترق عن ابنتي. فارتجفت مرسى ثانية وفاضت عيناها بالدموع وقالت في لهجة الخوف ولماذا أتركك يا مولاتي. فأجابت اللادي جانيت أنت ولا ريب تحذرين فقالت مرسى منذعرة. كلا. إني لا أستطيع أن أفهم. أنبئيني يا مولاتي لماذا،. . . - فأجابتها إذن فسلي هوراس ينبئك. ولم تفهم مرسى من هذه الكلمات ما كانت تقصد اللادي جانيت، بل انطلق ذهنها إلى حادثة الكوخ، فتراخت ذراعاها ومال رأسها، فرمقتها اللادي جانيت بنظرة عجب وانذهال قالت وهل حدث بينك وبين هوراس منافرة؟ قالت كلا. قالت ولكنك تعرفين قلبك يا طفلتي - أنت ولا ريب لم تشجعي هوراس على الحب دون أن تشعري له بشيء منه؟ قالت وهي ترتعد. كلا. كلا. فقالت اللادي جانيت. . ولكن. . . . وللمرة الأولى اجترأت مرسى على أن تقاطع سيدتها فقالت في رفق يا سيدتي اللادي جانيت إني لست في عجلة من أمر الزواج وإن في المستقبل متسعاً للكلام فيه. إن لديك حديثاً كنت تريدين أن تطارحيني إياه. فما هو. .

فلم تجد اللادي جانيت غير الصمت. . جعلت تقول لنفسها عجباً لبنات هذا العصر. أي تركيب ركبن. وأي قلوب يحملن. ولبثت مرسى تنتظر حديث سيدتها وساد السكون بينهما وكاد يكون سكوتاً مزعجاً لو لم ينفتح الباب المؤدي إلى المكتبة وإذ ذاك ظهر أحد الخدم يحمل صينية من الفضة فدخل القاعة فازداد غضب اللادي جانيت فمضت تصب على الخادم جام سخطها فقالت بحدة ماذا تريد وهل دققت لك الجرس حتى تأتي. قال الخادم جاء خطاب يا مولاتي. والرسول ينتظر الجواب ثم قدم الصينية إلى سيدته وفوقها الخطاب وعاد أدراجه. فعرفت اللادي جانيت خط العنوان بنظرة استغراب ودهشة فالتفتت إلى وصيفتها وقالت قبل أن تفض غلاف الكتاب اسمحي لي يا عزيزتي فانحنت مرسى لها انحناءة الاحترام وابتعدت إلى الناحية الأخرى من القاعة. فأرسلت اللادي منظاريها إلى عينيها وجعلت تسائل نفسها وهي تضع الغلاف المفضوض فوق المائدة عجيب أن يعود بهذه السرعة. وكان الخطاب يحتوي هذه السطور: يا خالتي العزيزة قد عدت ثانيةً إلى لندن على غير موعد لأن صديقي القسيس قد قصر من أمد إجازته وواصل عمله في الريف. إني مشفق أن تعذليني إذا اعترفت لك بالأسباب التي حملت صديقي القسيس على المبادرة إلى العودة. ثم إن لي غرضاً شخصياً من مقابلتك قريباً. فهل تسمحين بأن أتبع خطابي هذا إلى دار مابلثورب. ثم هل تسمحين لي بأن أقدم إليك سيدة أنت لا تعرفينها - وأنا بها شديد الإهتمام. أنشدك الله إلا ما قلت نعم لحامل هذه الرسالة فتصنعي بذلك جميلاً حلواً لابن أختك البار. جوليان جراي فلما انتهت من تلاوة الرسالة لم تتمالك أن كررت العبارة التي تشير إلى سيدة. وكان جوليان جراي ابن أخت لها فقدتها منذ أمد بعيد، ولو لم يكن جوليان قريب الشبه بوالدته، لما كان بلغ ماكن الحب والعطف من قلب خالته، لأنها كانت تكره منه آراءه في الدين ومنازعاته في السياسة. وكانت هناك مزية أخرى لجوليان كانت تحتج له عند خالته

وتعطف عليه فؤادها وهي الفخر الذي كانت تحسه اللادي جانيت للذكر المتطاول الذي أحرزه ابن أختها الشاب في عالم الكتابة والوعظ الديني، وكان جوليان بعد ذلك لطيف الدعابة فياض الحديث حلو الأماليح حتى لقد كان ذلك ينسيها إذا لقيته كرهها مبادئه. لذلك لا عجب إذا كانت اللادي جانيت قد اندهشت وبدا عليها الإهتمام من أمر السيدة الغريبة التي ذكرها ابن أختها في كتابه. إذن فهل أجمع على تغيير حياته. وهل تخير له عروساً. وإذا كان ذلك فهل يكون اختياره يلائم مكانة الأسرة. فلما خطر هذا السؤال الأخير بذهنها ظهر على وجهها المشرق إمارات الشك إذ ذكرت أن آراء جوليان الحرة المتطرفة قد تؤدي به إلى الغلو والخروج عن حدود الأسرة وآدابها ونهضت اللادي جانيت عن المنضدة وهي تهز رأسها عن ريب وتشاؤم وتقدمت إلى باب المكتبة ولكنها لم تكد تخطو خطوتين حتى عادت إلى وصيفتها وقالت إنني ذاهبة لأكتب كلمة إلى ابن أختي وسأعود قريباً يا عزيزتي فدنت مرسى منها متعجبة وهي تقول ابن أختك إن مولاتي لم تذكر يوماً أن لها ابن أخت. وهنا ضحكت اللادي جانيت وقالت: ولكن لا ريب في اسمه كثيراً على لساني وكنت ولا شك كثيراً ما أردت أن أنبئك به. ولكن كانت تنسينيه شجون الأحاديث التي كنا نأخذ فيها. ثم الحق أقول أن ابن أختي ليس من الموضوعات التي أحبها. لا أريد بذلك أني أكرهه. كلا. يا طفلتي وإنما أمقت مبادئه فقط ومع ذلك سترين فيه رأيك بنفسك فهو قادم اليوم لزيارتنا. . . انتظري هنا ريثما أعود فإن عندي ما أقوله لك عن هوراس. ففتحت لها مرسى باب المكتبة ثم أغلقته وراءها وعادت تخطر في الغرفة ذهاباً وجيئةً وهي تفكر. هل كانت في ابن أخت اللادي جانيت. كلا. إن مولاتها لم تذكر اسمه. إنها لا تزال على جهلها بأن ذلك الواعظ الذي وعظهن في الملجأ وابن أخت المرأة المحسنة إليها هما رجل واحد. وإنما كانت تفكر في الكلمات التي طلعت بها عليها مولاتها في أول الحديث إني أحمد اليوم الذي جئتني فيه يا جريس كانت هذه الكلمات بلسماً لفؤادها الجريح. إن جريس الحقيقية ما كانت لتحرز أكثر من هذا المديح الحلو المغسول لو أنها جاءت، ولكنها لم تلبث أن تولاها رعب مخيف لذكرى خدعتها التي نجحت. ولم تشعر من قبل بما شعرت به في

تلك اللحظة من الإحتقار والضعة والتأنيب، يالله لو أنها استطاعت أن تفوح بالحقيقة. . . وآطرباه لو أنها استطاعت أن تعيش على حقيقتها في دار مابلثورب. ما كان يومذاك أسعدها. وأبهج حياتها. . هل يحتج لها إخلاصها إذا هي اعترفت. هل ترى حسن سلوكها يتشفع لها إذا هي باحت. كلا. واحزناه. إنها لم تنل مكانها من عطف مولاتها وحبها إلا بخدعة. إذن فلا شفاعة للخدعة ولا معاذير. وهنا أخرجت منديلها فكفكفت به عبرتين انحدرتا على وجنتيها وحاولت أن تعود بذهنها إلى ناحية أخرى. ماذا قالت اللادي جانيت عندما خرجت إلى المكتبة قالت أنها ستعود لتكلمها عن هوراس، ويلاه. كيف تستطيع أن تواجه هذه النكبة الأخرى، بحق السموات كيف تخرج منها. أتدع الرجل الذي أحبها يندفع معصوب العين إلى الزواج بامرأة مثلها. كلا. إن الواجب يقضي عليها أن تنبئه ولكن كيف؟ أتجرح فؤاده وتمر عليه عيشه وترسل الأسى في ثنايا روحه إذا هي قالت له عن حقيقتها، وإذ ذاك صاحت باكية. كلا. لا أستطيع أن أنبئه. لا أستطيع. ومضت فجلست فوق المنضدة ودفنت وجهها في راحتيها وقد تولاها اليأس ثم ختمت نزاع ضميرها كما ختمته من قبل فقالت. ضلة لي. ليتني مت قبل أن تطأ قدمي وصيد هذه الدار. وليتني أموت الآن فيموت معي كل شيء، وفتح الباب المؤدي إلى قاعة البليارد برفق. وكان هوراس منتظراً هناك ليسمع ما يكون من شفاعة اللادي جانيت ولكن أضناه الإنتظار فلم يستطع أن يمكث أكثر مما مكث. فأطل من الباب بكل لطف وهدوء. متهيئاً للرجوع إذا وجدهما لا يزالان يتحدثان ودله انصراف اللادي جانيت على أن الحديث قد انتهى. إذن فلماذا لبثت خطيبته وحدها؟ أتنتظره أتكلمه عند عودته؟ فتقدم بضع خطوات. وكانت هي في مكانها لم تتحرك. تائهة اللب شاردة الخاطر. ممعنة في تفكيرها. أتراها تفكر فيه، فتقدم خطوة أخرى ثم ناداها جريس! فاستوت واقفة وقد خرجت من بين شفتيها صحية خافتة وقالت مغضبة وهي تسقط ثانيةً في مقعدها إني أود أن لا تزعجني. إن أقل إزعاجة تقتلني. فاعتذر هوراس متذللاً ذلة المحب المتدله ولكن اعتذاره لم يستطع أن يسكن ثائر غضبها،

فأشاحت عنه بوجهها في سكوت وصمت. فجلس بجانبها وسألها بكل رقة ولطف عما إذا كانت رأت اللادي جانيت فأطرقت برأسها إطراقة الإيجاب دون أن تنبس ببنت شفة. وكان هوراس فتى في حرارة الشبيبة فلم يطق احتمال الإنتظار ولذلك عاد يسألها دون أن يدرك شيئاً من اضطرابها وهل ذكرت اللادي جانيت اسمي أمامك؟ فالتفتت إليه بغضب فقالت بحدة قبل أن يزيد على ما قاله كلمة واحدة لقد حاولت أن تجعلها تحثني على الزواج بك. إني أرى ذلك في وجهك. ولو كان هوراس رجلاً دقيق البصر لأدرك أن الوقت لا يلائم التحدث إلى خ خطيبته، لكنه لم يدرك ذلك فاستطرد يقول بلطف لا تغضبي وهل يعد ذنباً دون المغفرة إذا أنا وسطت اللادي جانيت؟ لقد حاولت أنا أن حضك فلم أفلح ثم حاولت والدتي وشقيقتاي أن يقنعنك فما أعطيتهن إلا أذناً غير واعية. . . . وإلى هنا لم تستطع أن تحتمل فضربت برجلها الأرض ضربة هستيرية وصاحت قائلة بحدة وخشونة لقد سئمت من طول ذكرك والدتك وشقيقتيك وما فتئت تتكلم عن شيء روح غيرته ذكرتهن. فأغضب ذلك هوراس فنهض عن المتكأ وكانت والدته وشقيقتاه في أكبر منزلة في قلبه بل لقد كن لديه المثل الأعلى لنساء الأرض جميعاً ومشى مبتعداً فوقف في الناحية المقابلة من القاعة وراح يرسل إلى حبيبته أكبر تأنيب استطاعه في ذلك الموطن. قال: لكان يحسن بك يا جريس لو أنت استطعت أن تقتدي بوالدتي وشقيقتي فإنهن لم يعتدن أن يخاطبن من يحببن بخشونة وقسوة. ولكن هذا التأنيب لم يحدث في الفتاة المنزعجة شيئاً من التأثير أو الإهتمام وظلت كأنما لم تبلغ كلماته مسمعيها. كان يثور فيها الآن روح محزونة تترد وتغضب كلما عمد هوراس إلى تمجيد نسوة عشيرته. جعلت تناجي نفسها فتقول يغضبني أن أسمع بفضائل النساء اللاتي لم يسقطن. أي فضيلة للعيش في ظل الشرف إذا كانت الحياة تبتسم لهن وتحبوهن بسلسلة متلاحقة غير منقطعة من المناعم والمباهج ومطارف الدنيا ومتاعها؟ هل عرؤفت أمه مرارة المسغية والجوع؟ وهل تركت شقيقتاه منبوذتين في الشوارع طريدتين؟

وأقسى قلبها أنه عد نسوة أسرته قوالب لها تحتذيها ألم يفهم بعد أن النساء يكرهن أن ينصح لهن بأن يقتدين بنسوة غيرهن. وهنا نظرت إليه عن جزع ودهشة. وشعرت الآن أنه لو حاول أن يجالسها لما استطاعت إلا أن ترده عن مداناتها، بل لو حاول أن يكلمها إذن للقيته بجواب فظ حاد. وكان جالساً إلى مائدة الطعام وظهره إلى ناحيتها وقد اعتمد رأسه بيديه. جلس صامتاً يتكلم وساد بينهما سكون، والسكون أكبر سلاح يهزم المرأة. إن المرأة تستطيع أن تحتمل ممن تحب القول الغليظ والكلمة المتجافية، واللغة النافرة لأنها تستطيع أن ترد عليها بمثلها وأما سكون من تحب فاحتجاج لا طاقة لها باحتماله. فبعد تردد قليل نهضت مرسى عن المتكأ فتقدمت متذللة طائعة نحو المائدة. لقد أهانته. وهي وحدها الأثيمة. الله للمسكين كيف يستطيع أن يعلم باضطرابها عندما كان يضايقها بأسئلته عن براءة وحسن نية. ودنت منه خطوة فخطوة وظل هو لا يتحرك ولا يلتفت وجاءت فوضعت يدها بجبن فوق كتفه وهمست في أذنه: هوراس أصفح عني إني مريضة اليوم. إني متعبة لم أكن أقصد شيئاً بما قلت: رحمتك يا هوراس ومغفرتك. فلم يستطع هوراس أن يغالب هذا الحنان الذي فاض في صوتها وكلماتها فرفع رأسه وأخذ يدها في يده وانحنت هي فلمست جبينه بشفتيها وقالت هل صفحت عني؟ فأجاب آه يا عزيزتي لو تعلمين كم أنا أحبك. فأجابت في رفق وهي تلوي قطعة من شعره حول إصبعها إني أعلم ذلك. وانطلقت روحاهما في عالم الحب وظلا تائهي الخاطر، ولو أنهما انتبها إذ ذاك لسمعا صوت باب المكتبة وهو يفتح. وكانت اللادي جانيت قد فرغت من الكتابة إلى ابن أختها فعادت لتبر بوعدها لهوراس فتشفع له عند حبيبته. فلما فتحت الباب بكل هدوء إذ بها ترى العاشق الصب يتشفع لنفسه بنفسه فقالت لنفسها لا حاجة إذن إلي ثم أقفلت الباب ثانيةً بخفة وسكون وتركت المحبين في خلوتهما.

وعاد هوراس إلى إلحاحه ففتح موضوع التأجيل فلم يكد يتكلم حتى تراجعت الفتاة منصرفة بحزن هذه المرة لا عن غضب. قالت لا تلح علي اليوم. إني مريضة. فنهض ونظر إليها نظرة شغف وصبابة وقال إذن فهل نتكلم غداً؟ فرجعت إلى مجلسها عند المتكأ ثم قالت: نعم غداً. وعمدت إلى تغيير شعاب الحديث وقالت: أي شيء آخر اللادي جانيت. لقد طال غيابها. فحاول هوراس أن يظهر اهتمامه بسؤالها عن غياب اللادي جانيت فقال وقد أخذ له مكاناً وراء المتكأ وهو يحنو عليها. وما الذي جعلها تتركك؟ فأجابت أنها ذهبت إلى حجرة المكتبة لتكتب كلمة إلى ابن أختها. وعلى ذكر ذلك من هو ابن أختها؟ فأخذت هوراس الدهشة فقال. ماذا؟ ألا تعرفينه. فأجابت - كلا. ومن يكون. قال هوراس. ولكنك سمعت ولا ريب أن ابن أخت اللادي جانيت ذائع الصيت. وهنا تمهل قليلاً ثم انحنى فرفع خصلة من شعرها وأدناها إلى شفتيه واستطرد يقول في رفق إن ابن أخت اللادي جانيت هو جوليان جراي!!. فنظرت إليه عن رعب شديد كأنها لم تصدق أذنها فتملك هوراس العجب وقال. ما هذا الإنزعاج يا عزيزتي. فأشارت إليه بالصمت وراحت تكرر لنفسها في خفوت جوليان جراي هو ابن اللادي جانيت وأنا لا أعرف ذلك إلى الآن. فسألها هوراس وقد ازدادت حيرته وماذا يزعجك يا عزيزتي من معرفته. فاستجمعت قواها بجهد شديد، وتضاحكت ضحكة خشنة قلقة جوفاء، وأسكنته بأن وضعت راحتها فوق فمه، وانطلقت تقول بمجون أي حماقة منك وأي جنون، كأن المستر جوليان جراي دخلا في نظراتي. أنظر ها أنا قد تعافيت. وهنا نظرت إليه ثانية في ابتهاج مضطرب وعادت إلى الحديث قائلة أجل. إني ولا ريب قد سمعت عن الرجل. ولكن هل تعلم أنه قادم اليوم. إني لا أستطيع أن أكلمك وأنت في موقفك هذا. تعال واجلس. فأطاع - ولكنه لا يزال غير مقتنع بما قالت، ولم تفارق وجهه بعد إمارات القلق والدهشة،

وأصرت هي في نفسها أن ترقد في خاطره كل ريبة أو تهمة، فقالت وهي تضع ذراعها في ذراعه والآن أنبئيني بأمر هذا الرجل الذائع الصيت، كيف هو؟. فأحدثت هذه الملاطفة تأثيرها في هوراس، فأشرقت صفحة وجهه وزالت الدهشة من معارفه وأجابها بخفة وابتهاج إذن فاستعدي لرؤية رجل هو أغرب أهل السكينة أجمعين. إن جوليان جراي لهو النعجة البيضاء في القطيع الأسود. هو الرجل العجيب الذي لا يدانيه في الغرابة رجل يخطب في كل مكان. حتى البيع والصوامع والمحاريب، بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين الكفرة والملاحدة والمارقين، لا يعترف للسكينة ولا لأهلها بسلطان، بل يهزأ بهم جميعاً يمشي في منافس الأرض يفعل الخير على أسلوبه هو وهواه. لا يريد أن يرقى مدارج صناعته، حسبه - كما يقول - أن يكون كردينال المنكوبين. وأسقف الجائعين، وقسيس المساكين، وهو على غرابته حلو المحضر. رقيق القلب فياض الحديث، وهو بين النساء معروف مشهور، وهن يذهبن إليه طلباً للنصيحة والهداية، فلو أنك تذهبين!. فتغير لونها وسألته بحدة، وماذا تعني بهذا؟ قال وهو يبتسم لقد اشتهر جوليان جراي بقوة إقناعه ونصحه، فلو كلمك يا عزيزتي جريس لاستطاع أن يحملك على تحديد اليوم الذي نريد. فماذا تقولين إذا أنا التمست إلى جوليان جراي أن يشفع لي لديك؟. كان يقول ذلك عن مزاح، ولكن مرسى ظنته يجد في قوله. فقالت في نفسها خائفة، لعله يقدم على ما يقول إذا أنا لم أمنعه، وليس لمنعه من سبيل إلا أن أحقق الرجاء الذي كان يلح في طلبه قبل أن يدخل صديقه الدار. وإذ ذاك ألقت يدها على كتفه، وحاولت أن تخفي القلق الذي يضطرم في فؤادها وراء ضروب الخلاعة واللين. قالت بدلال لا تتكلم هكذا. ماذا كنا نقول قبل الآن. . . قبل أن نتكلم عن مستر جوليان جراي. فأجاب هوراس، كنا نتساءل عن غياب اللادي جانيت. . . فضربته على كتفه بيدها في رفق وتيه وقالت كلا، كلا. هناك شيء قبل ذلك. . .

ورنت إليه رنوة دل وخلاعة. وفي الحال أدرك مرادها فطوق خصرها بذراعه. قال وهو يهمس بالألفاظ همساً كنت أقول إنني أحبك؟!! قالت: وهل ذلك فقط. . . .؟ قال: وهل سئمت من ذلك؟ فابتسمت ابتسامة حلوة فاتنة، وقالت وهل كنت حقاً تتكلم بجد عن. . . . عن. . . . وهنا تمهلت وأمسكت عن إتمام كلامها وأبعدت عينيها عنه. قال. أعن زواجنا؟ قالت نعم. فأجاب. بل إنه أكبر أماني في الحياة وعلالاتي. قالت أحقاً تقول. قال. حقاً قلت؟ وكان سكوت وظلت مرسى تلعب بإصبعها وهي مضطربة الذهن في سلسلة ساعتها وعادت تقول في رفق. وهي تنظر إلى سلسلة الساعة دون أن ترفع طرفها إليه - ومتى تريد أن يكون؟. . فأدهش هوراس الآن حديثها ونظراتها. لأنها لم تنظر إليه بهذا العطف والدل من قبل. ولا حدثته يوماً بهذا الحديث الندي الرطب. فلم يستطع أن يصدق ما قالت. قال. أواه يا عزيزتي. أتهزأين بي؟ قالت. ومن الذي يدعوك إلى أن تظن هذا الظن؟ قال بكل صراحة وطهارة ضمير. إنك لم تكوني تسمحين لي بأن أتكلم عن زواجنا أبداً. . . . قالت. لنترك أمر ما كان. إن الناس يقولون أن النساء قلوبهن هواء. إن القلب إحدى نقائص الجنس النسائي. . قال هوراس بلهجة حارة مخلصة. ما أطيب هذه النقيصة وما أحلى! فهل تتركين لي حقاً تحديد يوم الزواج؟ أجابت. إذا كنت تصر على ذلك ففكر هوراس هنيهة ثم قال إذن فليعقد زواجنا بعد أسبوعين! رفعت يدها محتجة. قال. ولم لا إن المحامي على أتم الأهبة. وليس هناك ما نعده لذلك اليوم. وقد قلت يوم قبلت

خطبتي أن الزواج سيكون زواجاً عادياً. لاحفل في ولا عرس. فأطرقت رأسها مجيبة وعاد هو يقول. إذن فليكن بعد أسبوعين، ألا قولي نعم،، وضمها إليه. وأما هي فظلت صامتة وقد سقط عنها قناع الذل الذي تقنعت به لتخفي حزنها واضطرابها واستقرت عيناها عليه في نظرة رحمة وحنين وإشفاق. ومضى هو يقول. لا تنظري إلي هكذا. لفظة واحدة يا جريس لا غيرها. . . . هي لفظة. . . نعم!!. . فتنهدت ثم قالتها. وعند ذلك قبلها قبلة حارة وتشبث بنحرها، فتململت وتخلصت منه بجهد شديد وقالت بخفوت. اتركني. إني أتوسل إليك أن تتركني لنفسي. وكانت ترتجف. فنهض هوراس ليتركها قائلاً سأجد اللادي جانيت روي، أني أريد أن أظهر للسيدة أني قد استرددت انشراحي الآن وبهجتي. وأقول لها السبب!. . وعطف يريد باب المكتبة. ولكنه عاد يقول. وأنت هل تظلين هنا. هل تدعيني أراك ثانية إذا هدأ اضطرابك؟ قالت مرسى سأنتظر هنا. وقنعه هذا الجواب فغادر الحجرة. وعند ذلك تراخت ذراعاها فوق حجرها وترامى رأسها الجميل فوق وسائد المتكأ. وجعلت تنظر حولها نظرات مذهولة حائرة هل نطقت حقاً بالكلمة التي ستربطها وهوراس برابطة الزواج بعد أسبوعين! يا إلهي. أسبوعان!. . . . ولكن لعل حادثاً يطرأ في خلال الأسبوعين فيمنع هذا الزواج. ولعلها واجدة مخلصاً لها من هذا الموطن المخيف الذي هي فيه الآن. إذن. ليكن ما يكون. لقد عقدت عزيمتها على التماس الحديث مع جوليان جراي إذا جاء البيت. . . . حديث سري لا شاهد له. وإذ ذاك استوت في مجلسها وقد تولتها رعدة شديدة لهذه الفكرة التي تملكتها. وجعل اضطرابها يخيل إليها جوليان جراي. وهو يكلمها عن هوراس كما قال. ورأته وهو

يجلس إلى قربها. هذا الرجل هز روحها هزاً من فوق ذؤابة منبره. وهي تصغي إليه من أقصى الكنيسة ولا يراها. هذا هو الآن إلى قربها ينظر إليها نظرة ممعنة فاحصة. يرى سرها المعيب يطل من عينيها، ويسمعه من تضاعيف صوتها، ويحسه في رعشة يديها، ويخرجه من أعماق فؤادها بكلماته حتى تقع راكعة على ركبتها أمامه، مدلية باعترافها وخدعتها. فسقط رأسها الجميل ثانيةً فوق الوسادة، وأخفت وجهها بيديها فزعاً من هذا المنظر الذي تخيله ذهنها. ومضت الدقائق سراعاً، وأخذ اضطراب ذهنها يتجلى الآن في كل قطعة من بدنها النحيل المهزول. وشعرت بأنها تبكي دون أن تدري، وبدأ رأسها يتراوح وأعصابها ترتجف، فاضطجعت فوق المتكأ متراخية فوق الوسائد، وأغمضت عينيها، وأخذت دقات الساعة المعلقة فوق الجدار تضعف وتغيب عن سمعها، ولم تلبث أن أخذت جفنيها إغفاءة، وكانت إغفاءة خفيفة حتى لقد أزعجها تنزي الأطيار فوق الآيك في الحديقة. ودخلت اللادي جانيت وهوراس في تلك اللحظة، وشعرت بحفيف الثوب، كأنها تشعر به في حلم، ولكنها لم تكد تفتح جفنيها حتى كانت الحجرة خالية، إذ انطلقا من الحجرة في خفية، ليتركاها تستريح. فأغمضت عينيها ثانيةً، ولم تلبث أن راحت في سبات عميق! الفصل الثامن ظهور جوليان جراي وانتبهت مرسى بعد فترة سبات على صوت باب زجاجي ينفتح في أقصى حجرة الزهر، وكان هذا الباب يؤدي إلى الحديقة ولا يدخل منه إلا أهل البيت وأصحابهم المقربون وخلصاؤهم الأعزاء عليهم. فظنت مرسى أن اللادي جانيت عائدة إلى قاعة الطعام، فنهضت قليلاً عن المتكأ وهي تتسمع. وبلغ سمعها إذ ذاك صوت الخادم، وأجاب هذا الصوت صوت آخر، ولم يكد يصل إلى أذنها، حتى ارتجفت أشد رجفة وإذ ذاك نهضت مرتعبة وعادت تتسمع، وهي لا تستطيع أن تتمالك أنفاسها المضطربة الراجعة. أجل. قد عرفت هذا الصوت الأجش العميق. إن هذا الصوت الذي أجاب الخادم هو الصوت

المضطجع في فؤادها، هو الصوت البعيد الذي سمعته في كنيسة الملجأ. إن الزائر الذي دخل من باب حجرة الزهر. هو. . . . . جوليان جراي! وكانت خطواته تدنو سريعاً من قاعة الطعام، فتمالكت نفسها وانطلقت بسرعة إلى باب حجرة المكتبة، ولكن يدها المرتجفة لم تستطع أن تفتحه، فراحت تعالجه مرة، ولم تكد تنجح في فتحه حتى سمعته ثانيةً. . . . يكلمها. وكانت هذه كلماته أرجو أن لا تهربي. إني لست رجلاً مخيفاً، أنا لست إلا ابن أخت اللادي جانيت. أنا جوليان جراي!! فالتفتت إليه مسحورة من صوته وواجهته في صمت وكان واقفاً إزاءها، وقبعته في يده، وهو في لباسه الأسود ورباط رقبته الأبيض، وفي سمته البعيد عن سمت أهل الكنيسة، وكان يبدو على وجهه - على الرغم من شبابه - دلائل الهم وتفاريق الشجن، وكانت جبهته منحولة الشعر، مهلل العارض، وكان ربعة القوام، شاحب المعارف، لا لحية ولا شارب، تطل كل روعته، ويشرف عليك كل جلاله من عينيه، أجل. إن عينيه كانتا مستودع كل جماله. وانطلق يكلمها بكل أدب واحترام. . قال. دعيني أتوسل إليك أن تتفضلي بالعودة إلى مجلسك. ثم اسمحي لي أن أستغفرك إذا هجمت على الحجرة هجوماً!. . . وهنا تمهل، ينتظر جوابها، قبل أن يتقدم في القاعة. فاستطاعت أن تتمالك نفسها من الرعب، فأحنت رأسها إليه وعادت إلى مكانها من المتكأ. فنظر إليها هنيهة ثم خطا في القاعة متقدماً، وقد بدأت دهشته تثور في فؤاده عند رؤيتها. إذ جعل يقول لنفسه حزن عظيم غير عادي قد طبع طابعه فوق وجه هذه المرأة. إن في جانحة هذه المرأة قلباً ليس كقلوب الناس. ليت شعري من تكون؟. . فاستجمعت مرسى قواها وجاهدت نفسها لتكلمه. قالت بحياء وخوف إني أظن أن اللادي جانيت في حجرة المكتبة فهل أنبئها بقدومه؟ قال. كلا لا تزعجي اللادي جانيت. ولا تزعجي نفسك وعند ذلك تقدم إلى المائدة الطعام، تاركاً لها الوقت لتهدئة جأشها، ثم عمد إلى الزجاجة التي كان يشرب منها هوراس فصب جميع ما فيها في قدح، وقال وهو يبتسم ملتفتاً إليها مرة

أخرى إن نبيذ خالتي سينوب الآن عنها. لقد مشيت مسافة طويلة فدعيني أجترئ على أن أتناول ما أريد في هذا البيت دون دعوة، ألا تتناولين شيئاً؟ فاعتذرت مرسى، وهي في عجب من خفة روحه ودعابته. فاشتف القدح في مظهر الرجل الخبير بالنبيذ البصير بالردئ منه والجيد. ثم وضع عن فمه القدح وهو يقول برزالة مضحكة إن نبيذ خالتي لخليق بها. كلاهما نتاج الطبيعة، وهنا اقتعد مجلساً إلى المائدة. وجعل ينظر نظرة الناقد الفاحص إلى الصحان المتنوعة الموضوعة فوقها واستطرد في حديثه يقول وما هذا؟ فطيرة فرنسية!. . . . يلوح لي أنه من الظلم الأكبر أن نذوق نبيذ فرنسا ونمر بفطائرها معرضين وإذ ذاك أمسك بسكين وشوكة وراح يأكل الفطيرة بالخبرة التي كان يذوق بها النبيذ ثم لم يلبث أن صاح في حمية وطرب وابتهاج إن هذه الفطائر لجديرة بتلك الأمة العظيمة. . . لتحي فرنسا!!. . . وظلت مرسى واقفة تسمع وترى متعجبة منذهلة إذ أبصرت أمامها رجلاً ليس بينه وبين الرجل الذي تخيله فؤادها شبه أو تماثل ولو نزع عنه رباط رقبته الأبيض لما استطاع أحد أن يعرف أن الرجل من أهل الكنيسة. ومضى يعمل السكين والشوكة في فطيرة أخرى. وهو منطلق في حديثة يكلمها بهدوء وألفة كأنما كان يعرفها منذ عدة أعوام. قال مستطرداً في حديثه. لقد جئت إلى هنا عن طريق الحدائق. وقد كنت منذ زمن أقيم في إقليم قفر دميم قروي هادئ، وأنت لا تستطيعين أن تتصوري البهجة التي ثارت في فؤادي عند رؤيتي مناظر الحديقة ونضارته، وإذ شهدت الغواني في أثواب الشتاء وأبراد الدفء البهيج، والمرضعات النشيطات المتخففات، والأطفال الحسان، والولدان المحببين، ورأيت الجمع المزدحم يتزلق فوق أحذية الثلج. ولشد ما انتشت روحي بعد الحياة المظلمة التي عانيتها في الريف، حتى نسيت نفسي فانطلقت أغمغم بترنيمة خافتة، وأنا أخترق منافس الحدائق. فمن الذي تظنيني التقيت به وأنا في أحر غنائي؟. فاعتذرت له مرسى لأنها لا تستطيع ظناً ولا حدساً، ولكنه مضى في حديثه أخف روحاً وأكثر دعابةً من قبل. دون أن يتظاهر بأنه قد لحظ التأثير الذي أحدثه في ذهن الفتاة. قال من الذي ترينني التقيت به، وأنا أترنم بأحر النغم. .! التقيت بأسقفي. ولو وكنت في

تلك اللحظة أغني أغنية كنيسية لاستطاع سيدي الأسقف أن يتجاوز عن جرئتي وعاميتي، صارفاً النظر عن غنائي. ولكن لسوء الحظ كانت الأغنية التي أغمغم بها في موسيقى فردى الشاعر الطلياني: ولعله سمعها من المعازف المتنقلة في الشوارع. وقد تبين ولا ريب الأغنية، وعرف اللحن، لأنني عندما رفعت القبعة بالتحية. ولى وجهه عني، ونظر إلى الناحية الأخرى. غريب والله أن نكون في عالم اكتظ بالشرور والآثام وامتلأ بالأحزان والآلام، ثم نهتم بتافهة كهذه. ونحزن ونغضب لرؤية رجل من أهل الكنيسة يترنم بالأغنيات. وإذ ذاك أزاح عنه صفحة الطعام واسترسل يقول بكل بساطة إني لا أستطيع أن أفهم لماذا نريد دائماً نحن معاشر الكنيسيين أن نعد أنفسنا طائفة منفصلة، وجمعاً منعزلاً عن بقية الناس، نمنع من أن نفعل كما يفعلون. إن أئمة الدين الأولين لم يسنوا لنا هذه السنة، ولم يدعو لنا هذا المثال. لأنهم كانوا أرزن منا عقولاً، وفطن ألباباً، وخيراً منا نفوساً، بل إني لأستطيع أن نقول أن أكبر ما يعيقنا عن أن نفعل الخير ونجيء بالمكرمات اتخاذنا مظهر الهيبة والرئاسة والعظمة والزهو. وأنا نفسي لا أطالب بأن أكون أكثر احتراماً وتوقيراً من أي رجل آخر يفعل الخير جهد طاقته. وإذ ذاك نظر إلى مرسى نظرة ضاحكة وهي تنظر إليه مندهشة محملقة، ثم عادت إليه نزعة المجون فاستطرد أن يقول هل أنت من الديمقراطيين المتطرفين. إنني منهم!!. وحاولت مرسى أن تفهم كلماته ولكنها لم تستطع له فهما. إذن أيكون هذا الرجل الواعظ الذي فتن فؤادها في مصلى الملجأ، وسحرها، وطهر عواطفها بكلماته، أيكون هذا المتكلم الذي أبكى عيون النساء، وأرسل عبراتهم، تلك النسوة اللاتي أغلقت الأيام أفئدتهن وأقست الجرائم شعورهن أجل. أجل. هاتان العينان اللتان تنظران إليها الآن في نزق ومجون هما العينان الجميلتان اللتان نفذتا من قبل إلى أعماق فؤادها. هذا هو الصوت الذي يضج الآن بالدعابات والأمازيح هو نفسه ذلك الصوت العميق الأجش الحنون الذي هز أعشار قلبها هزاً، إنه فوق ذؤابة المنبر ملاك من ملائكة الرحمة. فإذا هو في الشارع طفل أطلق سراحه من محابس المدرسة. قال برفق، وقد لحظ اضطرابها لا تنزعجي مني ولا تخافي. إن الرأي العام قد نعتني

بأسماء وألقاب أقسى من كلمة المتطرف وقد أنبأتك منذ لحظة أنني كنت قبل أن أنحدر إلى هذا المكان في إقليم قروي. وكان عملي هناك أن أقوم في القرية مقام قسيسها وكان قد مضى إلى إجازته. فهل تتصورين ماذا كانت النتيجة. إن صاحب القرية قد سماني اشتراكياً وأما الفلاحون فلقبوني فوضوياً ثورياً. فاستعيد صديقي قسيس القرية في الحال ليستلم مني عمله. وأما الآن فلي الشرف بأنني أكلمك وأنا في نظر الناس رجل مطرود. أثار قرية بجملتها، فلم تستطع أن تحتمله. وهنا ترك مجلسه من المائدة، وجاء فاتخذ له مقعداً بجانب مرسى بكل بساطة وصراحة، ومضى يقول. . وأنت ولا ريب ترغبين في أن تعرفي ما هي الهفوة التي ارتكبتها. فهل تعرفين شيئاً من علم الإقتصاد السياسي وقانون العرض والطلب. فأجابت مرسى بأنها لا تفهم من ذلك شيئاً. فقال - ولا أنا أيضاً. في بلد مسيحي. وهذا هو ذنبي. وأنت ستسمعين اعترافي في كلمتين، كما ستسمعه خالتي. وهنا تمهل قليلاً وتغيرت هيئة وجهه، ورأت مرسى إحساساً غريباً يطل من عينيه. إحساساً ذكرها الآن به أول رؤيتها له. وعاد يقول. إني لم أكن أعرف من قبل أسلوب الحياة التي يعيشها الفلاحون، حتى أقمت في الريف مكان صديقي القسيس. ولم أكن شهدت في حياتي ما شهدت إذ ذاك هو البؤس والمتربةوالآلام التي التقيت بها في الأكواخ والخصائص ما رأيت صبراً مثل صبر هؤلاء المنكودين المعذبين. إن شهداء الزمن القديم كانوا يتحملون ويصبرون ثم يموتون، ولكني أسأل نفسي هل كانوا يستطيعون أن يتحملوا ويعيشوا كالشهداء الذين وجدتهم حولي في القرية، يعيشون الأسابيع والشهور والأعوام، على حافة الجوع وضفاف الحزن، وساحل الحاجة، ويرون أطفاهم وضوار الجوع يستعر في أحشائهم، ينبتون ورائهم ليعيشوا مثلهم على الحرية والحاجة. فهل خلقت أرض الله الجميلة لتحمل شقاء مثل هذا. إني لا أستطيع أن أحدثك الآن عن ذلك، دون أن تندي عيناي بالدموع. وإذ ذاك أطرق رأسه حزيناً، وتمهل ليمسك عليه جأشه وحسه والآن عرفته مرسى مرة أخرى. أجل. هذا هو بعينه الرجل الذي توقعت أن تراه، وكذلك ظلت جالسة تنظر إليه معصبة وهي لا تشعر وقلبها معلق في ألفاظه واثباً مع كل كلمة من كلمه.

وراح مستطرداً ففعلت كل ما في وسعي للدفاع عن هؤلاء المساكين المكدودين، وانطلقت أطوف بأصحاب الأرض والمالكين أسترحمهم للزارعين، وأستعطف قلوبهم لأجل الذين يعملون في الأرض، أقول لهم إن هؤلاء الصابرين لا يطلبون كثيراً، ولا يسألون كبيراً، باسم رحمة الله. إكفلوا لهم العيش آمناً، والحياة غير قاتلة، وهنا صرخت في وجهي نظريات الإقتصاد السياسي، وولولت قوانين العرض والطلب ونظرت إلي متجهمة عابسة، إذ نبؤوني أن الأجور التي يتناولونها هي أعدل الأجور، وإن الجزاء الذي يجزونه عليهم أحق الجزاء، ولماذا؟ لأن الفلاحين مكرهون على قبولها فعزمت أنا على أن أجعل الفلاحين غير مكرهين على قبول أجور الجوع - فجمعت قواي - وحشدت وسائل دفاعي فكتبت إلى أصحاب لي عديدين في بلاد المملكة وأنحائها، ونصحت لكثيرين من فلاحي القرية أن يتحملوا منها إلى بلاد أخرى حيث يجدون أجراً أطيب، وعملاً أهدأ، وحياة أقل ظلماً. هذه هي الجريمة التي لم أقبل من أجلها. ولكني غير مصروف عن نيتي، ولا عادل عن عزمي. إن لي صحابة كثراً في لندن - وأنا فيها مذكور الإسم - وأستطيع أن أقيم الإكتتابات وأفتح السبيل إلى التبرعات، وسيجد قانون العرض والطلب العمل قليلاً في ذلك الإقليم، وسيضطر الإقتصاد السياسي أن ينفق عدة شلنات زيادة على الفقراء. ما دمت أنا ذلك المتطرف، الإشتراكي، الثوري ـ. . . جوليان جراي!. وعند ذلك نهض، وانطلق يدور في الحجرة، وثارت الحمية في فؤاد مرسى من حميته، فحذت حذوه، وكان كيس نقودها في يدها، عندما واجهها. قالت بلهجة وصدق. . أرجو أن تدعني أن أقدم جزيتي الصغيرة. . وهنا انتشر ظل الإحمرار على وجنتيه الصفراء، ونظر إلى وجهها الرحيم الجميل وهي تحس إحساسه. قال مبتسماً. . كلا. كلا. إنني، وإن كنت القسيس، لا أحمل صندوق الصدقات معي في كل مكان، فحاولت مرسى أن يكون الكيس في يده، وعادت نزعة المجون تشرق في نظراته فقال وهو ينسحب قليلاً. . كلا. كلا. لا تحرضيني أن أسرع الناس انقياداً، وأطوعهم للحض والإغراء، قسيس يغري على أخذ تبرع. ولكن مرسى أصرت على أن يأخذ، فانهزم لها حتى يثبت صحة ملاحظته عن طبائع

القسيس، فأطلق يده في الكيس وأخرجها بشيء من النقود. وقال. . إذا كان لا بد من آخذ، فلآخذن. . شكراً لك إن وضعت القدرة المثلى، شكراً لك إن أعطيت المعونة في حينها، فأي اسم أكتب في قائمة التبرعات. فاضطربت مرسى وزاع بصرها عنه وأجابت في صوت منخفض لا اسم. حسبي أن يكون تبرعي مجهولة. ولم تكد تجب جوابها، حتى فتح باب المكتبة، ولحسن حظها، ولسوء حظ جوليان جراي، دخلت اللادي جانيت روي وفي أثرها هوراس. وإذ ذاك صاحت اللادي جانيت وهي مفردة ذراعيها عجباً ودهشة جوليان! فقبل خالته في وجنتها قائلاً إنك يا خالتي توحين فاتنة حسناء! ثم مد يده إلى هوراس مصافحاً، فشد هوراس عليها ومشى مقنبراً من مرسى وانطلق الإثنان يمشيان إلى الناحية الأخرى من القاعة وانتهز جوليان هذه الفرصة التي سنحت للتحدث مع خالته بحرية وجلاء، فمضى يقول. لقد جئت عن طريق قاعة الزهر، فوجدت هذه السيدة الشابة في الحجرة، فمن تكون؟. فسألته اللادي بلهجتها الجلية المتهكمة وهل أنت اهتممت بها؟. فأجابت بكل صراحة كل الإهتمام!. فنادت اللادي مرسى لتدنو منها. فلما جاءت صوبهما، قالت اللادي دعيني يا عزيزتي أقدم إليك بصفة رسمية ابن أختي، أي جوليان، أقدم إليك مس جريس روزبري. وأمسكت عن إتمام كلامها فجأة لأنها لم تكد تلفظ بالإسم حتى انذعر جوليان جراي، وبدت الدهشة تتجلى على وجهه فسألته اللادي بحدة ماذا حدث؟. فأجاب وهو منحن إلى مرسى إنحناءة الإحترام لا شيء لا شيء! وأما هي فأجابته على تحيته. بشيء من الإضطراب لأنها لمحت ذعره هي أيضاً عندما ذكرت اللادي جانيت اسمها له وكان لهذا الذعر ولا ريب معنى خفي. فماذا ترى يكون هذا المعنى. ولماذا تراه قد ولى وجهه ملتفتاً إلى هوراس والإضطراب باد في عينيه، وقد تغيرت هيأته كل التغيير في اللحظة التي نطقت خالته بالإسم الذي ليس اسمها. الاسم الذي سرقته!!

وعادت اللادي جانيت إلى الحديث مع ابن أختها. وتركت هوراس يعود إلى مرسى، قالت إن حجرة قد أعدت لك. وأنت ولا ريب مقيم بيننا دهر. فتقبل جوليان الدعو، ولا يزال عليه سيماء الرجل المشغول الذهن فبدلاً من أن يلقي نظره لي اللادي جانيت، دار بعينه فنظر إلى مرسى نظرة دهشة بينة واضحة. فضربته خالته على كتفه وقالت: إني أنتظر أن ينظر إلي الذي يكلمني. لماذا تحملق البصر هكذا إلى فتاتي المتبناة؟ فكرر جوليان في أثرها وهو ينظر إليها نظرة ذهول فتاتك المتبناة!!. فأجابت اللادي بلا ريب. إنها ابنة الكولونل روزبري وبيني وبينها صلة النسب والقرابة، فهل تظنني جئت بفتاة لقيط؟ فزال القلق من وجه جوليان وأشرقت معارفه وقال مجيباً إني قد نسيت الكولونل حقاً. أجل. أجل. إنها بلا ريب تمت إلينا بصلة النسب. قالت اللادي جانيت متهكمة يسرني ولا شك أنني أقنعتك بأن جريس ليست لقيطاً. وعند ذلك أخذت ذراع جوليان ومشت به بعيداً عن مسمع هوراس ومرسى وانطلقت تقول والآن لنتكلم عن خطابك الذي أرسلته. إن به سطراً أثار قلقي. . من هذه السيدة الغريبة التي تريد أن تعرفني بها؟. فذعر جوليان وتغير لونه. قال هامساً إني لا أستطيع أن أقول الآن. قالت ولماذا؟ فنظر جوليان إلى مرسى ثانيةً قالت اللادي جانيت وقد نفد صبرها. ما دخل فتاتي في ذلك؟ فأجاب جراي في صوت رهيب يستحيل علي أن أقص عليك ما أريد. ما دامت مس روزبري باقية في هذه الحجرة. الفصل التاسع أنباء من مانهايم وهنا ثارت نزعت الفضول في نفس اللادي جانيت واشتد قلقها، ولم تدرك غرض جوليان

جراي، ولم تفهم بصيصاً من معنى كلماته. قالت إني أكره الأسرار، ولا أحب الغموض، وأعد الأسرار دليلاً على سوء التربية، وفساد القلوب، ونحن الأشراف خلقنا بأن ننزه أنفسنا عن التهامس والتخافت في زوايا الحجرات ولكن إذا كان لا بد من أن تنطلق في غموضك، وتصر على عزيمتك، فإني أسمح لك أن تركن إلى ركن في حجرة المكتبة فتلقي إلي هناك جميع ما تريد. فانطلق جوليان في أثرها إلى المكتبة، على غير إرادته، وهو في أشد ضروب الحيرة. فلما احتوتهما الحجرة جلست اللادي جانيت في مقعدها، وهي على أتم الإستعداد للسؤال والإستجواب، ولكن دخل في تلك اللحظة أحد الخدم يحمل رسالة. وكانت الرسالة من سيدة وكانت إحدى صواحب اللادي جانيت وحبائبها جاءت إلى موعد قد ضرب من قبل بينهما ليذهبا إلى إحدى الحفلات. وقد أعلن الخادم أن السيدة تنتظر اللادي في مركبتها عند الباب. فلم يسع اللادي جانيت إلا أن تأمر الخادم بأن يدعو السيدة إلى الجلوس في قاعة الإنتظار وينبئها بأنها قد عرض لها الآن ما يشغلها وإن مس روزبري ستقوم مقامها في اصطحابها إلى الحفلة. وهنا التفتت إلى جوليان جراي وقالت في لهجة التهكم اللطيف هل يسرك الآن أن لا تكون مس روزبري في الحجرة فقط، بل في الدار كلها. فأجاب جوليان برزانة وجد أجل. خير لي أن لا تكون في المنزل الآن. فانطلقت اللادي جانيت إلى قاعة الطعام فدنت من فتاتها قائلة أي عزيزتي جريس. لقد كنت تلوحين شاحبة مضطربة محمومة عندما رأيتك وأنت مضطجعة فوق المتكأ منذ هنيهة صغيرة، وأظن أنه لن يسوءك أن تخرجي إلى المركبة لترويح نفسك في النسمات العليلة، وقد جاءت جارتنا الآن لتأخذني إلى الحفلة المقامة اليوم وقد بعثت إليها أقول إنني في شغل عن الذهاب، فهل تصنعين لي جميلاً بأن تقومي مقامي في اصطحابها إلى المكان الموعود. فظهر على مرسى القلق، ولم تستطع أن تحير جوابها. ولم تستطع رفضاً. وهنا أسرع هوراس إلى الباب ليفتحه استعداداً لخروج مرسى، وهمس إليها يقول وكم تغيبين. لقد كنت أريد أن أحدثك ألف حديث، وكان لدي أشياء وأشياء أريد أن أكلمك عنها، ولكنهم قد قطعوا

علينا السبيل. قالت مرسى سأكون هنا بعد ساعة. قال هوراس وستكون الحجرة خالية لنا إذ ذاك، إذن فعودي إلى هنا عند رجعتك تجديني في انتظارك. فصافحته مصافحة ذات معنى ومضت منصرفة، وعند ذلك عادت اللادي جانيت إلى جوليان وكان على كثب منهما ولا يزال على قلقه واضطرابه. قالت اللادي والآن. ماذا يمسك لسانك عن النطق، ها هي جريس قد خرجت، فلماذا لا تبدأ. أتمانع في وجود هوراس. أجاب كلا. ولكني لا أزال قلقاً مضطرب البال فقاطعته قائلة وعلام القلق؟ قال جوليانأخشى أن تكوني قد أزعجت هذه المخلوقة الفاتنة بإرسالها الآن خارج الدار. فنظر إليه هوراس وقد صعد الدم إلى وجهه وقال بحدة إني أظن أنك تقصد بكلمة المخلوقة الفاتنة مس جريس روزبري؟. فأجاب جوليان بلا ريب. ولم لا؟. فدخلت اللادي جانيت بينهما مهادنة فقالت مهلاً يا عزيزي جوليان. لقد عرفتك بجريس الآن في صورة فتاتي المتبناة. . . . . وانطلق يقول هوراس في أثرها بكبر وذهول ولقد آن الآوان لي أن أقدمها إليك في شكل زوجتي المخطوبة إلي. فنظر إليه جوليان كأنه لا يصدق مسمعيه وقال مندهشاً متعجباً زوجتك!. فعاد هوراس يقول نعم زوجتي، وسنزف بعد أسبوعينوهنا تمهل ثم استرسل في حدة وغضب ولكنني أسألك هل أنت تمانع في هذا الزواج. فداخلت اللادي جانيت ثانيةً بينهما فقالت ما هذه الحماقة يا هوراس إن جوليان يهنئك به ولا ريب. قال جوليان ببرودة وهو غائب الذهن في حيرة نعم. أهنئك! أهنئك. وإذ ذاك ضمت اللادي جانيت تعود بالحديث إلى الموضوع الذي اجتمعت بجوليان من

أجله. قالت الآن كل منا يفهم صاحبه. فدعنا إذن نتكلم عن سيدة أنسانا الحديث ذكرها منذ هنيهة. وأنا أعني بها يا عزيزي جوليان المرأة الغريبة التي جاءت في خطابك. ها نحن وحدنا كما رغبت أن نكون. إذن فارفع النقاب الذي يحجب وجهها عن الأعين والأبصار يا ابن أختي المحترم. ولتخجل ما شئت ولتتورد وجنتك إن أردت. أتراها ستكون مسز جوليان جراي المستقبلية؟. فأجاب جوليان بكل هدوء بل إنها غريبة عني كل الغرابة؟ فصاحت اللادي مندهشة. غريبة عنك! وأنت قد كتبت إلي تقول إنك بها شديد الإهتمام!!؟ فأجاب جوليان نعم أنا بها مهتم. وأغرب من ذلك أنك ستكونين بها أنت أيضاً شديدة الإهتمام!. . فألقت اللادي جانيت يدها فوق المائدة بقلق وانفعال وقالت ألم أحذرك أنني أشد الناس كراهة للأسرار. وأكثرهم اجتواء للغموض فهل تريد أن تشرح لنا ذات نفسك أم لا تريد؟. ولكنه قبل أن يجيب على سؤالها، نهض هوراس من مجلسه قائلاً أتراني أحول دون الحديث؟ فأشار إليه جوليان بالعودة إلى مجلسه وأجاب كلا. إنك لا تحول دون الحديث، كما قلت من قبل. بل إني أقول الآن أنه بما أنك ستكون زوج مس روزبري في المستقبل فإن لك دخلاً فيما ستسمعان مني الساعة. فعاد هوراس إلى مجلسه وعليه سمات الدهشة والإتهام. ومضى جوليان يخاطب اللادي جانيت قال لقد سمعتني كثيراً ولا ريب أتكلم عن صديق لي قديم يشغل وظيفة في الخارج. فأجابت اللادي جانيت. أجل. الست تعني السفير الإنكليزي في مانهايم؟ قال هو ذاك. . فلما عدت من الريف وجدت بين الرسائل التي وردت إلي في غيابي خطاباً مستطيلاً من السفير. وهذا الخطاب قد أحضرته الآن معي وأنوي أن أقرأ عليكما شذوراً منه تخص قصة غريبة لا أستطيع أنا أن أسردها عليكما في أسلوب أشد بياناً ووضوحاً من هذه الرسالة. قالت اللادي جانيت خائفة وهي تنظر إلى الصفحات الضيقة السطور التي نشرها ابن

أختها أمام عينيها وهل تراها طويلة؟. واقترب هوراس قائلاً. . وهل أنت واثق من أن لي كما قلت دخلاً في هذا الأمر، إن سفير مانهايم رجل غريب علي!. فأجاب جوليان برزانة وجد إني كفيل بأن صبر خالتي وقلقك لن يكونا سدى إذا أنتما أمهلتماني حتى أقرأ عليكما ما أنا قارئه. وإذ ذاك بدأ يتلو الشذرة الأولى التي انتخبها من الخطاب فقال. . . . . . إن ذاكرتي ضعيفة بليدة من ناحية التواريخ. ولكن لا بد من أنه قد مضت ثلاثة أشهر على اليوم الذي تلقيت فيه نبأ عن عليل إنكليزي جيء به إلى المستشفى في مانهايم وسألت أن أرى رأيي فيه، بصفتي السفير الإنكليزي في المدينة. فذهبت في ذلك اليوم نفسه إلى ذلك المستشفى وأدخلت على حجرة العليل. وكان العليل سيدة. . شابة ولعلها في صحتها تعد حسناء. فلما نظرت إليها ظننتها مائتة. وتبينت رأسها معصوبة بضمادة فسألت نوعه الإصابة التي أصابتها فعلمت أن المرأة كانت حاضرة إحدى المناوشات بين الفرنسيين والألمان، ولا يعرف أحد السبب ولا يعلم الباعث. وإن الإصابة جاءتها من شظية من شظايا قنبلة ألمانية. . . وهنا استوى هوراس في مجلسه فجأة، وكان إلى هذه اللحظة مضطجعاً في مقعده غير مكترث ولا مقبل بسمعه. وصاح. . . يالله! أتكون هي تلك المرأة التي رأيتها ملقاة ميتة في الكوخ الفرنسي؟. فأجابه جوليان إني لا أستطيع أن أعرف. ولكن لتستمع حتىنهاية الرسالة فلعلها تجيبك عني. واستطرد يتلو الرسالة: وكانت المرأة الجريح قد ظنت مائتة، فغادرها الفرنسيون في الكوخ ذاهبين، فوجدها الألمان بعدهم في فراش في كوخ وكان أول من وجدها رئيس جماعة الإسعاف!. فصاح هوراس أجنتياس ويتزل!!. فردد جوليان في أثره بعد أن نظر إلى العبارة التالية لما قرأ أجنتياس ويتزل!!. قال هوراس بدهشة هو ذلك. أي سيدتي اللادي حقاً إن لي دخلاً في هذه القصة. ألا تذكرين ما قلت لك من قبل عن كيفية لقائي بجريس. ولا شك أنك سمعت كثيراً عن ذلك

من جريس نفسها!. . . فأجابت اللادي جانيت. . إنها كانت تخاف العودة إلى ذكر ذلك. وقد حدثتني كيف أوقفوها عن المسير عند الحدود وكيف وجدت نفسها بغتةً في رفقة امرأة إنكليزية لا تعرفها. وبالطبع سألتها كثيراً من الأسئلة وقد تولاني الرعب عندما سمعت منها أن المرأة سقطت قتيلة تحت شظايا القنبلة على مقربة منها ولم نشأ أنا ولا هي الرجوع إلى الحديث مرة أخرى منذ ذلك العهد والآن أقول لك يا عزيزي جوليان إنك قد أحسنت صنعاً بتجنبك ذكر هذا الحديث في حضورها. ولعلي قد فهمت الآن الغرض، وأدركت الغاية. أن جريس ذكرت اسمي واسمها ولا ريب لرفيقتها المسافرة معها والمرأة الآن بحاجة إلى المعونة، وقد سألتها مني بواسطتك. وأنا بإعانتها كفيلة قمينة. ولكن يجب أن لا تحضر إلى هنا حتى أمهد السبيل إليها عند جريس، حتى لا تجزع إذا رأتها قد نشرت من الموت أما الآن فلا ينبغي أن تجتمع بها مطلقاً قال جوليان بصوت منخفض لا أظن ذلك قالت اللادي جانيت ماذا تعني. ألم تنته القصة بعد؟ أجاب جوليان بل إنها لم تبتدئ إلى الآن. دعي صديقي السفير يتلو علينا قصته وعاد يقرأ فبعد فحص الجثة أدق الفحص، استنتج الجراح الألماني أن الجراح الفرنسي قد أخطأ فهم الإصابة، وظنها موتاً وهي ليست إلا تغيباً وقتياً عن الإحساس، وكان الرجل أشغل ما يكون بمثل هذه الحوادث الخطيرة من المرض، فعمد إلى محاولة البحث والفحص، فقام بعملية جراحية لها، وكان النجاح له مكفولاً، وقد أبقاها لديه بعد العملية بضعة أيام، ثم أحالها إلى أقرب المستشفيات منه، وهو مستشفى مانهايم، واضطرته وظيفته إلى الرجوع إلى الجيش فترك العليلة في الحالة التي رأيتها بها، فاقدة الرشد، ولم يكن يعلم الجراح ولا أهل المستشفى شيئاً عن هذه المرأة، ولم توجد معها أوراق يستدل منها عنها، وكل ما استطاعه الأطباء عندما سألتهم خبرها. أن جاؤوني بقميصها مكتوباً عليه اسمها. فتركت المستشفى بعد أن كتبت الاسم في مذكرتي وكان هذا الاسم مرسى مريك! وهنا اخرجت اللادي جانيت دفترها الصغير فقالت دعني أنا أيضاً أدون الاسم عندي. فآتي

لم أسمع به من قبل. وأخشى أن أنساه. . . . أيه يا عزيزي جوليان. لتستطرد في القراءة! فمصى جوليان في تلاوته فاضطررت في هذه الحالة أن أنتظر حتى أسمع من المستشفى خبر شفائها لكي أتمكن من الكلام معها، ومضت أسابيع ولم أتلق خبراً عنها من الأطباء وقد قيل لي عند عيادتي إياها أن الحمى قد انتابتها وأنها الآن بين الاضمحلال والهذيان، وقد اعتادت في نوبات هذيانها أن تذكر اسم خالتيك اللادي جانيت روي وتردد أشياء كثيرة وكلمات لا يعرف الأطباء عنها طرفاً، وقد فكرت قبل الآن في الكتابة إليك والالتماس منك أن تنبئ اللادي جانيت ولكني رأيت من شك الأطباء في حياتها أن أنتظر حكم الزمن في أمرها قبل أن أزعجك به قالت اللادي. ولكني أعترف لك بأنني لا أرى إلى الآن ما شأني بهذه القصة فأردف هوراس قائلاً وهذا ما كنت أريد أن أقوله قبلك. نعم إن القصة محزنة ولا ريب، ولكن ما دخلنا نحن؟ فأجاب جوليان إذن فلا أقرأ الشذرة الثالثة من الرسالة فيكون فيها فصل الخطاب وعاد إلى تلاوة الرسالة فقال وأخيراً تلقيت رسالة من المستشفى تنبئني أن مرسى مريك قد نجت من الخطر وإنها تستطيع وإن كانت لا تزال ضعيفة أن تجيب عن أي سؤال أحب أن أسألها، فلما بلغت المستشفى طلب إلي أولاً أن أزور رئيس الأطباء في حجرته. فلما التقينا انطلق الرجل يقول إني أرى من واجبي أن أنبهك قبل أن يدخل بك على المريضة أن تكون شديد الحذر في حديثك معها فلا تهتاج روحها بإبداء علائم الدهشة أو الشك في كلماتها إذا هي أسرفت معك في القول. نحن هنا مختلفو الآراء في أمرها متنازعو التقارير والملاحظات ففريق منا وأنا منهم يشكون في أن ذهنها قد أبل مع إبلال جثمانها، ونحن مع ذلك لا نستطيع أن نقرر جنونها فهي لا تزال رقيقة هادئة لا أذاة تحدث ولا خطر ترتكب، ولكنا بعد ذلك نذهب إلى الظن بأنها تحت تأثير وهم شديد مسيطر على ذهنها، تذكر يا سيدي التحذير الذي حذرتكه منذ هنيهة. والآن اذهب لترى بنفسك. فأطعت وأنا في شيء من الحيرة والإرتباك، فلما دنوت من السرير، رأيت المريضة تلوح ناحلة ذابلة ولكني شهدتها مستجمعة قواها، ثائبة الرشد، وكان صوتها وهيئتها وحديثها تنم عن أنها سيدة مؤدبة، فلما انتهيت من تعريفها بنفسي أكدت لها رغبتي في مساعدتها

وجنوحي الشخصي إلى خدمتها وكنت أخاطبها بالإسم الذي وجد مطرزاً على أثوابها، فلم تكد لفظة مرسى مريك تخرج من شفتي حتى بدأ في عينيها بريق مرعب مخيف، وصاحت في غضب وخنق لا تدعني بهذا الإسم الكريه. إنه ليس اسمي. جميع الناس هنا يعذبونني بمناداتي مرسى مريك، وعندما أغضب منهم لذلك يجيئون لي بملابسي، وهو يصرون مهما قلت لهم ومهما حدثتهم أن الملابس ملابسي فلا تكن مثلهم إذا أردت أن تظفر مني بالود والألفة، فتذكرت إذ ذاك تحذير الطبيب فاعتذرت إليها المعاذير الواجبة، فلم يلبث أن هدأ ثائرها وسكن غضبها، وعمدت إلى تغيير الحديث فسألتها عما هي صانعة بعد ذلك وأكدت لها أنني في خدمتها وأنني كفيل بتحقيق مطالبها، وإذ ذاك جعلت تسألني بلهجة تهام وريبة ولماذا تريد أن تعلم مني ذلك؟ فذكرتها لوظيفتي وأنني بموجبها أستطيع مساعدتها فلم تلبث أن قالت بلهف وفرح أجل. إنك تستطيع أن تكون لي أكبر العون. إذن لتبحث عن مرسى مريك!! ورأيت إ ذاك البريق المرعب يعود يسطع في عينيها الذابلتين ولوناً باهتاً من الإحمرار يتصاعد إلى وجنتيها الصفراوين فسألتها وأنا لا أظهر شيئاً من الإستغراب أو الإندهاش عن من تكون مرسى مريك هذه، فكان جوابها السريع امرأة سوء بغي باعترافها، قلت وكيف أستطيع إيجادها؟ فأجابت ابحث عن امرأة في ثوب أسود وفوق كتفها إشارة الصليب الأحمر وهي ممرضة في الإسعاف الفرنسوي. فقلت وماذا فعلت؟ أجابت إنني قد فقدت أوراقي، وفقدت جميع ثيابي ومرسى مريك هي التي أخذتها جميعاً، فسألتها وكيف عرفت أن مرسى مريك هي التي أخذتها، قالت لا أحد غيرها أخذها، هذا ما أعلم. فهل تصدقني أم لا؟ وكانت توشك إذ ذاك أن تعود إلى الإهتياج فأكدت لها أنني سأرسل في التو والساعة العيون والأرصاد للبحث عنها، فدارت عيني بعينيها وأسندت رأسها فوق الوسادة فرحةً راضيةً قانعة وهي تقول، لك الله من رجل طيب. عد إذن إلي وأنبئني أنك قد قبضت عليها. ذلك كان أول لقائي بها في مستشفى مانهايم. ولست بحاجة إلى أن أقول لك أنني شككت في وجود هذه الممرضة الموهومة، ومع ذلك كان في إمكاني أن أقوم ببعض التحريات والأبحاث عنها، وذلك بسؤال الجراح أجنتياس ويتزل وكان مقره معروفاً ولا ريب عند أصدقائه في المدينة، فكتبت إليه فجاءني منه الجواب في حينه، وخلاصته أنه عندما دخل

الكوخ يوم الموقعة، وجد الجرحى قد تركهم رفقاؤهم، ولكنه لم ير معهم هذه الممرضة التي يقال عنها أنها كانت تحمل شارة الصليب الأحمر فوق كتفها، ولم يكن بالكوخ من الأحياء غير سيدة شابة إنكليزية في معطف أسود من معاطف السفر كانت قد أوقفت في الطريق، وقد أعانها على السفر إلى إنجلترة مكاتب حربي لصحيفة من الصحائف الإنكليزية. قالت اللادي جانيت إنه يعني بذلك جريس. وأردف هوراس وكنت أنا هذا المكاتب!. قال جوليان. مهلاً. مهلاً. بضع كلمات فقط تفهمان الغرض الذي أرمي إليه في تلاوة هذه الرسالة. وانطلق يقرأ فلم أشأ أن أذهب إلى المستشفى بنفسي بل اكتفيت بإبلاغ نتيجة بحثي في كتاب صغير، ومضت مدة ولم أسمع عن المريضة شيئاً ولم يكن إلا أمس فقط أن طلب إلي أن أعودها، وكانت قد تماثلت للعافية وأوشكت أن تخرج من المستشفى، وقد صرحت برغبتها في العودة إلى إنجلترة فرأى الرئيس أن الواجب عليه أن يستدعيني قبل خروجها فلما شهدتها للمرة الثانية، ألفيتها هادئة السرب متمالكة القوى، فلم تكذبني اعتقادها في أن عجزي عن إيجاد الممرضة لم يكن إلا من إهمال شأنها. فلم يسعني إلا أن أسألها إذا كان لديها من المال ما يكفل نفقات سفرها فعلمت منها أن قسيس المستشفى كان قد نشر خبر مصابها في المدينة وأنه قد اجتمع لها من اكتتابات القوم شيء من المال يستطيع أن يمكنها من العودة إلى بلدها. فسألتها عن أصدقائها فأجابت إن لي صديقة واحدة فقط، ولكنها تعدل ألف صديقة. هي اللادي جانيت روي، وأنا أترك لك أن تتصور مقدار دهشتي عندما سمعت ذلك منها، فلم أشأ أن أعود إلى زيادة الأسئلة على ذلك، مخافة أن تغضب وتعود إلى اضطرابها وحنقها وتعللت أنني أستطيع أن أدفع بهذه السيدة المسكينة إلى كنفك وعونك عند وصولها لندن، بأن أكتب لها رسالة إليك. وأنت ستسمع منها خبرها ولعلك ستستطيع أكثر مني أن تتحقق بنفسك عما كانت لها باللادي جانيت آصرة أو علاقة. وجملة القول لم يبق لي إلا كلمة واحدة فأختم هذا الخطاب المستطيل فلعلك تذكر أنني منذ هنيهة كتبت أقول لك أنني في حديثي الأول معها تحاشيت من أن أبعد في سؤالها عن اسمها ولكني في هذه المرة أجمعت على إلقاء هذا السؤال.

وهنا أمسك جوليان عن إتمام الكلمات الباقية إذ لحظ شيئاً من التلهف بدا على وجه خالته، وقد نهضت اللادي جانيت من مجلسها وجاءت خلف مقعده لتقرأ العبارة الأخيرة من كتاب السفير، من خلال كتفيه، فاستطاع أن يحول بينها وبين قراءتها بأن وضع يده فوق السطرين الأخيرين من الخطاب. قالت اللادي جانيت بحدة ماذا تقصد بهذا؟. فأجاب جوليان، يا سيدتي اللادي جانيت حباً وكرامةً أن تقرأي الجملة الختامية بنفسك، ولكن قبل أن تفعلي ذلك أريد أن أهيئك لدهشة عظيمة وحيرة كبيرة. فتمالكي جأشك ودعيني أقرأها عليك بكل هدوء وبطء وعينيك مستقرة على عيني حتى ألفظ الكلمتين الباقيتين من الجملة. وانطلق يقرأ ونظرت إلى المرأة في وجهها وقلت لها إنك قد أنكرت أن الإسم المطرز فوق أثوابك عندما جئت إلى هذا المستشفى هو اسمك الحقيقي، فإذا لم تكوني حقاً مرسى مريك فمن تكونين؟ فأجابت على الفور إن اسمي هو. . . . . . . . . . . . . وهنا وقف جوليان عن نطق الإسم ورفع يده عن الصفحة فنظرت اللادي جانيت إلى الكلمة الباقية ولكنها لم تلبث أن تراجعت وقد صرخت صرخةً دهشة عالية أنهضت هوراس من مجلسه مذعوراً راجفاً وهو يصرخ أنبئاني. أي اسم قالت؟ فأنبأه جوليان قائلاً: جريس روزبري. . . . . . . . . . . .!. الفصل العاشر التشاور وقف هوراس لحظةً مصعوقاً ينظر نظرات ذهول إلى اللادي جانيت وكانت كلمته الأولى عندما ثاب رشده موجهة إلى جوليان. قال مغطباً عابساً أتراك جئتنا بمزحة، إذا كان ذلك فأنا لا أرى وجه الفكاهة فيها. فأشار جوليان إلى سطور الرسالة ومضى يقول إن رجلاً يكتب كل هذه السطور المستفيضة المستطيلة إنما يكتب جاداً ولا ريب والمرأة قد فاهت باسم جريس روزبري على سبيل التعارف والآن ها أنت قد علمت السبب.

ثم التفت إلى هوراس فقال لقد سمعتني أقول أن لك بصفتك زوج مس روزبري دخلا في حديثي مع اللادي جانيت. والآن ها أنت قد علمت السبب!. قالت اللادي جانيت إن المرأة ولا شك مجنونة، ويجب بلا ريب أن نبقي هذا الخبر الآن سراً مكتوماً عن جريس. وأضاف عليها هوراس قائلاً نعم. لا شك في أن جريس يجب أن تبقى غير عالمة بهذا، وهي لا تزال ضعيفة، وخليق بنا أن نحذر الخدم، قبل أن يقع مصاب، أو تحل نكبة، إذ لعل هذه المجنونة محاولة عما قليل أن تغزو هذا البيت بجنونها. قالت اللادي جانيت أجل. أجل. يجب أن نفعل ذلك في الحال. دق الجرس. دق الجرس. وأغرب ما يدهشني يا جوليان أنك جعلت تصف نفسك في جوابك لي بأنك شديد الإهتمام بهذه المرأة. فأجاب جوليان دون أن يدق الجرس بل إني الآن أشد بها اهتماماً من قبل، إذ أرى مس روزبري نفسها ضيفتك في دار مابلثورب. قالت اللادي جانيت. لقد كنت يا جوليان دائماً وأنت طفل صغير شريراً في رغبتك غريباً في كراهتك. لماذا لا تدق الجرس؟. فأجاب جوليان لغرض واحد يا خالتي العزيزة. أني لا أريد أن أسمعك تأمرين خدمك أن يغلقوا باب بيتك في وجه هذه المخلوقة المنكودة المسكينة!. فنظرت إليه اللادي جانيت نظرة عابسة مرعبة، كأنها قد اندهشت من اجترائه عليها. قالت بدهشة باردة. إنك لا تنتظر مني ولا ريب أن أرى هذه المرأة؟ فأجاب جوليان في رفق وهدوء أرجو أن لا ترفضي لقاءها. لقد كنت غائباً عن البيت عندما زارتني. ولكن ينبغي لي أن أسمع ما تريد أن تقول. ففضلت أن لا أسمعها إلا في حضرتك. فلما تلقيت جوابك الذي سمحت لي فيه بأن أقدمها إليك، كتبت إليها ضارباً موعداً للقاء في هذا اليبت. فرفعت اللادي جانيت عينيها السوداويين إلى السقف وهي في صمت ثم قالت في لهجة التهكم ومتى أنال الشرف بتنازلها لزيارة!. فأجاب ابن أختها بهدوئه المعتاد اليوم!

فعادت تسأله وفي أية ساعة؟ فأخرج جوليان ساعته من جيبه ثم لم يلبث أن ردها إليه وهو يقول لقد تأخرت عن الموعد عشر دقائق. وفي تلك اللحظة دخل الخادم فتقدم إلى جوليان يحمل بطاقة زيارة فوق الصينية. ثم قال سيدة تريد رؤيتك يا سيدي!. فأخذ جوليان البطاقة ثم انحنى باحترام فدفع بها إلى خالته وهو يقول بهدوء ها هي قد جاءت!. فنظرت اللادي جانيت إلى الرقعة ثم لم تلبث أن قذفت بها إليه بغضب وقالت مس روزبري!. . . أتطبع الإسم طبعاً! أتطبعه فوق البطاقة. أي جوليان إن للصبر حدوداً. وللحلم غاية. إني أرفض لقاءها!. وكان الخادم لا يزال واقفاً أشبه شيء بالتماثيل فنظر جوليان إليه وقال وأين هي الآن؟ فأجاب الخادم في قاعة الإفطار يا سيدي! قال جوليان إذن فلتنتظر هناك ولتبق أنت على منال الجرس!. فانصرف الخادم صامتاً. وإذ ذاك التفت جوليان إلى خالته فقال عفواً يا سيدتي عن اجترائي على إصدار الأوامر إلى الخادم في حضرتك. فإني أريد أن لا تتسرعي في الحكم أننا خلقاء ولا ريب أن نستمع لها. قال هوراس محتداً غاضباً إن ذلك يعد إهانة لجريس إذا نحن استمعنا لها!. فأطرقت اللادي جانيت رأسها إطراقة الموافقة ثم قالت وهي تشبك ذراعها إني أرى ذلك أيضاً!. فعمد جوليان إلى إقناع هوراس أولاً فقال معذرة يا سيدي وغفراناً. إني لا أقصد مس روزبري في شيء من هذا اللقاء ولا أود أن أدخل بها في هذا الموضوع! وهنا تمهل ثم عاد يوجه الخطاب إلى اللادي جانيت ولكن خطاب السفير يقول أن أهل المستشفى في ماتهايم مخلفو الآراء في أمرها متباينو الأفكار، وإن فريقاً منهم وبينهم رئيس الأطباء يذهبون إلى أن شفاء ذهنها لم يصحب إبلال بدنها. فعقبت اللادي على قوله وبعبارة أخرى إن في بيتي الآن امرأة مجنونة ويراد مني أن أقبل

لقاءها!. قال جوليان في رقة ورفق كلا. دعينا من المبالغة والمغالاة. فإنها لا تجدي علينا شيئاً في هذه المسألة الخطيرة. إن صديقي السفير يؤكد لنا في رسالته أن أطباء المستشفى يقررون جميعاً لأنها رقيقة وديعة، لا ثورة تثور، ولا أذاة تحدث ولئن كانت حقاً تحت تأثير وهم ذهني شديد، فهي ولا ريب جديرة منا بالرحمة والعطف والرثاء، وهي بلا شك تحتاج إلى العناية والرفق. فسلي يا خالتي العزيزة فؤادك الكريم الرؤوم أليس من القسوة الكبرى أن نقذف هذه المرأة المسكينة المعذبة إلى عرض الطريق، دون أن نبدأ بسؤالها والتحقق من قولها. فأثارت هذه الكلمات روح العدل الكمين في فؤاد اللادي جانيت فقالت بصوت رهيب. أجل إن في هذه الكلمات مسحة من الحق ثم نظرت إلى هوراس واستطردت تقول ألا تظن ذلك أنت؟. فأجاب هوراس في لهجة الرجل الذي لا يستطيع أي إقناع أن يهزم عناده إني لا أستطيع أن أقول شيئاً!. ولكن صبر جوليان كان أشد قوة من عناد هوراس، فانثنى يقول بكل هدوء وخفة لهجة، ولكنا نحن الثلاثة لا نزال نشعر بالإهتمام والقلق من هذا الأمر الجديد العارض. . ثم ألسنا يا سيدتي اللادي جانيت الآن في أسنح الفرصة لإنهائه وأطوع الظروف لفضه، إن مس روزبري لا تزال خارج البيت كله، فإذا تركنا هذه السائحة تجري مفلتة من بين أيدينا، فمن يدري لعل حادثاً غريباً يقع بعد اليوم؟ فلم تستطع اللادي جانيت إلا أن تصيح وقد رأت رأيها الأخير، إذن لندع المرأة تدخل. أجل يا عزيزي جوليان. لتدخل في التو والساعة. قبل أن تعود جريس إلى البيت. أرجو أن لا ترفض دق الجرس في هذه المرة؟ ولم يكن جوليان ليتردد هذه المرة في دق الجرس ولا ريب فلم يكد يفعل، حتى انثنى يسأل خالته بكل احترام أتسمحين لي أيضاً أن أصدر الأمر إلى الخادم!؟. فأجابت السيدة العجوز وهي تنهض بشيء من الإنفعال مره الآن ما شئت ولنخرج من هذه المشكلة.

وجاء الخادم فتلقى الأمر بدعوة السيدة إلى الدخول وهنا خطا هوراس يريد الخروج من الباب الثاني، فدلفت إليه السيدة قائلة إنك لن تذهب الآن ولا ريب؟. فأجابها بشيء من الخشونة إني لا أرى فائدة من بقائي!. فقالت اللادي جانيت، إذا كان ذلك فلتبق لأني أود بقاءك!. . قال وهو أشد عناداً من قبل، بكل تأكيد، إذا كنت تريدين ذلك! ولكن تذكري أنني أخالف جوليان في رأيه جد الخلاف، وأرى أن المرأة ليس لها الحق علينا! وإذ ذاك أفلتت من جوليان للمرة الأولى بادرة غضب وسخط وتأثر فقال بحدة. . ما هذه القسوة يا هوراس. لكل إمرأة في هذه الأرض حق علينا!. وأنساهم الجدل أمرهم، فلم يذكروا أنهم قد أمروا الخادم بدخول القادمة. وإذ ذاك لم يلبثوا أن تنبهوا على حفيف ثوب، فنظروا جميعاً صوب الباب، ينظرون المرأة الغريبة القادمة!. . . . . الفصل الحادي عشر البعث وإذ ذاك لاح شبح إمرأة صغيرة في ثوب أسود رقيق الحال، لا تأنق فيه ولا زينة، فلما دنت إليهم رفعت في صمت نقابها الأسود فبدأ وجه شاحب مهزول. تطل منه آثار التعب والمرض، وعليه مسحة جمال أخفاها الهزال، وأذهبها الإصفرار وقفت هذه المرأة كذلك جامدة في مكانها، وجعلت تنظر إليهم صامتة، وظلوا أيضاً واجمين هنيهة لا يتكلمون، ينظرون مذهولين مبهوتين إلى هذا الوجه الشاحب إزاءهم ومضت لحظة، لا حس في الحجرة ولا صوت إلا دقة هذا السكوت الرهيب. قالت. وهي تدير عينيها في الرجلين الواقفين قبالتها أين مستر جوليان جراي؟ فتقدم جوليان بضع خطوات، وقد تمالك اضطرابه قال. إنني آسف إني لم أكن في البيت عندما جئتني ورسالة السفير، أرجو أن تأخذي لك مجلساً. وعلى سبيل تهدئة الجأش، عادت اللادي جانيت إلى الجلوس في ناحية بعيدة من الزائرة، وظل هوراس واقفاً بجانبها وانحنت محيية الزائرة الغريبة بأدب متكلف مصطنع، دون أن تفوه بكلمة، وهي تقول في نفسها إني مضطرة إلى الإصغاء لهذه المرأة ولكني لست

مضطرة إلى محادثتها. فليقم بذلك جوليان وحده! وظلت اللادي جانيت جالسة مشبكة ذراعيها، ترتقب بدأ المجلس، كالقاضي الجالس في منصة الحكم. قالت المرأة، وقد ألقت نظرها إلى اللادي جانيت، أهذه هي اللادي جانيت روي؟ فأجاب جوليان بالإيجاب، وأمسك عن القول منتظراً نتيجة جوابه، وهنا نهضت المرأة من مكانها فخطت إلى ناحية اللادي جانيت، وراحت تخاطبها بكل هدوء ورباطة جأش، قالت إن الكلمات الأخيرة التي فاه بها أبي في الحياة، كانت كلمات يا سيدتي تدلني على أن ألتمس منك العطف والرعاية والعون.

الإسلام في انجلترا

الإسلام في انجلترا هناك في ناحية من لندن المختنقة بالسكان، عاصمة دولة الشعب البريطاني، في وسط آلاف الكنائس، وعديد المعابد والهياكل، وعلى مرأى ومسمع من القساوسة وأقطاب الدين المسيحي ينهض مسجد للمسلمين، بقبابه العالية، ومآذنه المتطاولة، وطارزه العربي البديع، حيث تؤدى فرائض الشريعة المحمدية، ويسبح فيه باسم الحنيفية البيضاء، وتلقى فيه أبدع المحاضرات في أمهات الإسلام، وأعوص مشاكله وموضوعاته - ونعني به مسجد (ووكنج) على بعد نصف ساعة من محطة واترلو، فهو منتدى كبار الإنكليز الذين اعتنقوا الدين الإسلامي، وصفوة علماء الهنود وأكابرهم الذين نزلوا ببلاد الانجليز، ويصيبون الرزق فيها من صناعاتهم الأدبية والعلمية والفنية، كالصحافة والأدب، والطب والمحاماة. وقد تكاثر اليوم عديد الإنكليز المفكرين وأهل الطبقة العليا الذين دخلوا في الدين الإسلامي بعد أن دققوا النظر في درسه، وأمعنوا في بحثه وتغلغلوا في صميمه ولبه، وإنك لترى كتبهم في الإسلام وتواليفهم ومباحثهم تكاد تسمو على أذهان كثيرين من علمائنا وأعلامنا، والمسلمين العاديين الذين إنما أضافتهم إلى صفوف الإسلام أحكام الوراثة، وأشربت قلوبهم حب الدين وإن كانت أذهانهم خلاء من فهم معانيه وأغراضه، ودرك الفلسفة الإلهية التي تنساق في كل شرائعه، ولعل القادم الجديد على الدين من وراء التفكير الطويل والدرس المتواصل والاقتناع المتين، خير من مئات من الذين يحملهم الدين ولا يحملونه، ويقومون في تعداد أهله، وهو يريد أن يتعداهم. وما أظن إيماناً كإيمان رجل كبير الذهن، خفيف الروح، قوي النفوذ، مثل اللورد هدلي الذي اعتنق الإسلام منذ سنين، ولا يزال ينضح عنه بكل ما في وسعه إلا انتصاراً باهراً للإسلام في عصر كثر فيه أعداؤه، وتألب عليه المتألبون للثأر منه، لأن إسلام رجل كبير من أهل المسيحية أكبر دليل على أن هذا الدين يسع العالم كله، إذ كان يجري مع الفطرة الإنسانية ويسير مع الغريزة، وإنك إن جئت إليه لتمتحنه من ناحية الذهن، وأردت أن تخبره من وجهة المنطق والعق ل والفكر راعك وأذهلك وصدمك بجلال حججه وعظم آياته، وإن أنت التمست إليه السبيل من ناحية القلب، غشى قلبك منه سحر، وتغلغل في كل جانحة من جوانحك، وكذلك تراه بين الهمج والقوالب الخشنة من الإنسانية المظلمة في الكهوف ووراء المكامن والأعراش، وفوق ربوات الجبال، وتحت وقدة الشمس المحرقة،

عظيماً يهذب من طبائع الإنسان الأول ويهنه من وحشية الحيوان الكامن في فؤاده، ويزجر مشاعر قابيل عن خاطره، كما تراه جليلاً في أذهان أهل الأذهان، شديد الأثر عند المفكرين والمهذبين والعقليين. والغريب من أمر انتشار الإسلام في بلاد الانجليز أن الداخلين فيه والمعتنقيه من الأسرات الكبيرة، ومن طبقة الأشراف، والأغنياء منهم، ومن الطبقة الوسطى، ومن القساوسة والكهنة والرهبان، وقد تسلم الأسرة الواحدة بأجمعها، ربها وزوجه وأطفاله وأقاربه، وهناك جمع كثير من الضباط والجنود دخلوا في صفوف الإسلام، تحت العلم المحمدي وهم لا يقتصرون على اعتناق الإسلام ولزوم فرائضه، بل لا يلبث كل منهم أن ينفرد بالكتابة والبحث في فرع من فروع الإسلام، فمنهم من ينشر المقالات الضافية والأبحاث الممتعة في حقوق المرأة في الإسلام، ومنهم من يسترسل في درس الاشتراكية في الشريعة الإسلامية، إلى كثير من الأبحاث التي تدق على أفهام كثير من المسلمين. ولعل الفضل في ذلك يرجع إلى رجلين من كبار الهنود المسلمين الذين عظم إيمانهم واشتدت حميتهم للدين، وهما الخواجه كمال الدين أحد كبار المحامين في انجلتره، ومن خريجي جامعاتها، والآخر خواجه صدر الدين، فقد أسس هذان الفاضلان منذ بضع سنين مجلة باللغة الانكليزية هي اليوم لسان حال الانكليز المسلمين، وهي ذائعة الانتشار في الشرق والغرب، فهي لا تقل في فائدتها عن المسجد الذي أسس للتقوى في لندن ونعنى به جامع ووكنج. ولا تزال الصفوف الإسلامية تزداد إلى اليوم بفضل تلك المجلة، ولا يزال الدين غضاً جديداً يجمع العدة لينهض نهضته الكبرى بعد الحمّى التي أصابت الغرب.

كتاب العصر

كتاب العصر أحمد لطفي بك في الصف الأول من صفوف الكتاب العصريين ينهض هذا الرجل الخصيب الذهن، القوي الأثر، ولعله كان محدثاً في الآداب المصرية تغييراً خطير الشأن، ومرسلاً في أرواح الشباب والمنحدرين إلى المستقبل تطوراً شديد السلطان، لو أنه أمسك على نفسه بعض النشاط الذي كان يثب في جوانحه يوم كان في الحياة العمومية قائداً يمشي في أثره كثيرون من المتطلعين إلى التهذيب، النازعين إلى مناهضة المبادئ القديمة التي لا يزال يعض عليها بنواجذه سواد طبقات الشعب، ولو أنه غالب الحب الذي يتغلغل في نفوس أكثر الناس لروعة المنصب الحكومي وفخامة مقاعد الإدارة، أو لو أنه إذ جلس مجلسه، وتولى منصبه، لم ينس الناس ولم ينصرف عن الجمهور، ويرضى بعمل هين ليس فيه من متعبة إلا كثرة الإمضاءات والتوقيعات، ومراجعة القوائم والكشوفات. وما أظن الجلوس في مقاعد الحكومة يمنع الرجل المفكر من أن يطل على الشعب الحين بعد الحين، أو يترك الذهن صدئاً منطفئاً مفلول العزيمة، بل لقد رأينا كثيرين من أهل الفكر قعدوا مقاعد الحكومات، وتولوا الوزارات والرئاسات، فلم يحل ذلك بينهم وبين عرض الصور التي تلوح في أذهانهم على الجمهور، وإخراج ثمرات قرائحهم كلما رأوا الفرصة سانحة، والزمن مواتياً، فقد كان لو رد بيكو نسفيلد على رأس الوزارة الانكليزية فلم يمنعه منصبه على خطورته أن يضع ذهنه في كل مكتبة ويعيش في خزانة كل قارئ فبيناهو ينشئ المحالفات، ويوقع على المعاهدات، ويرأس البرلمانات، إذ هو طرح عنه كل ذلك، عائد إلى حجرته، ليغيب في تفكيره، ويأخذ في وضع رواياته، حتى لقد كان على رأس الحكومة، ثم هو بعد ذلك في رأس كل إنسان يعيش تحت الحكومة وكان كبير الوزراء وكبير الروائيين في آن واحد، ولعل روايته فيفان جراي تقوم في التاريخ الإنساني بكل ما أنشأ من عهود وأنظمة، واستن من شرائع وقوانين وهو في وزارته ومكان رئاسته. ثم نحن لا ننسى أيضاً أن جوت كان وزيراً ورئيس بلاط دوق ويمر، ورئاسة بلاط الملوك مضيعة للزمن، مشغلة عن الحياة، صارفة عن كل شأن، لأن صاحبها ملزم بأن يظل عند عين الملك وسمعه، وأبدا في ندوته وسمره، فما كان ذلك ليقتل في جوث الروح المضطرمة

في جانحته، والنزعة الفكرية التي تتقد في فؤاده، فكان يفلت حيناً من سلطان ملكه ليطيع سلطان عقله، ولو كان سلطان الحكومات مستطيعاً أن يسود في المفكرين على أذهانهم، لما انحدر إلينا ولآخر إنسان سيبقى على الأرض كتابه أحزان ورثر وهو الكتاب البديع الرائع، كتاب الحزن الإنساني كله. ثم لا ننسى كذلك أدباء العرب الذين عاشوا في قصور الخلفاء، وولوا الولايات، وعهدت إليهم المقاطعات، فأبوا إلا أن يظلوا مع ذلك أدباء وكتاباً أكثر منهم ولاة وعمالاً وحكوميين. على أنا نقول أنه ما كان أبدع ذوق الحكومة، وأعطف فؤادها على الفكر والأدب، إذ اختارته لوظيفة ليعيش فيها بين الكتب وتركت إليه أذهان ألف سنة أو تزيد تحوطه وتشارفه، ولم تحرمه من الجو الذي لا يموت فيه الذهن، لا تصدأ فيه القريحة، ولم تختطف منه قلمه فتحطمه وتقذف به تحت مكتبه، وكان هذا ولا ريب عزاء الناس يوم اعتزاله إياهم، وكان فيه بعض التخفيف من ألم المهذبين يوم اختارته الحكومة لنفسها، إذ كان الجميع يتوقعون أن تصبح دار الكتب النبعة التي سيخرج منها ذهن قائدهم أصفى من قبل وأكثر فيضاً وأنضج فكراً، وكان أملهم في ذلك أمل صاحب العمل الذي يعهد إلى عماله المقام في مشارف مناجم الذهب، واحتفار أرض هي مظنة المعدن والجوهر. ثم لا تنس بعد ذلك أن الحكومة لم تأخذه إليها إلا يوم نشبت الحرب، وطارت شرارة المجزرة، وخمد صوت الفكر متبدداً في تضاعيف صوت القنبلة، وانكمش المفكرون متضائلين أمام أهل السيف، فلم يكن ثمة سبيل إلى هذا الرجل المفكر أن يرسل قلمه في تفاسير السياسة، وينطلق في شرح أعاصير الدول، والخوض في نبوءات الحرب، وكان الرجل لا يزال مهيب الفكر عند الحكومة، محترم الذهن عند كبارها، فلم يسع الحكومة إلا أن تذهب إليه فتهمس في أذنه أيها الرجل المفكر، ليس لك محل في الحرب، إن زملاءك اليوم في دول الحرب قد سكتوا، إذن فتعال عش بجانب أساتذتك مفكري العصور الذاهبة، تعال اخرج لنا من هذه المطمورات تمثالاً للفكر منسياً. حتى إذا استرسلت الحرب في عزيفها وصريخها ونكرها، لم يلبث أن ملها الناس واعتادوها، ورضوا بالآلام التي تجيئهم من ناحيتها، وراحوا يتلمسون عنها العزاء، ويتفقدون السلوى، وليسوا بحاجة إلى شيء مثل القراءة، ولا أذهب لأحزانهم من الكتب

لأنها تضمد جراحات النفوس، وتسكن آلام الأذهان، ولو خرج للجمهور اليوم كتاب بديع طلي خفيف الظل لالتهموه لساعتهم، لأن أذهان القراء أصبحت تحس بحاجتها إلى الغذاء، إذ كانت مواد التسعيرات جعلت مطالب المعد تسود على مطلب العقول، وقد تعب الناس الآن من كثرة التفكير في الأكل، إذ علموا أن الحرب ستأكل الجزء الإنساني فيهم وتدعهم نوعاً جديداً من الحيوانات المتكلمة إذ لم يحتفظوا بقلوبهم وأذهانهم. وكان هذا الرجل المفكر يستطيع في هذا الزمن الأحمر القاني من دماء الأبرياء أن يكون بلسماً، وكان فكره الخصيب خليفاً بأن يكون معزياً مواسياً، ولكنه ترك الناس لآلامهم، وجعل نفوس القراء المتلهفين على قراءة البديع من الفكر في سكون أشبه بسكون الموت، ولم يخرج للجمهور في ثلاثة أعوام أثر فكره إلا مرتين، في يوم عيد شكسبير، وكلمة عن قاسم أمين، وهذان المقالان وإن لم يكونا في شيء من روعة الذهن الذي كان يطل علينا قبل ركوده قد وقعا إذ ذاك من نفوس القراء، وأذكرا الجمهور السحر الأول الذي كان يبين في كتابته، والفتنة التي كانت تفعل في القلوب من أثر طلاوة موضوعاته. وقد يتعزى كثيرون اليوم عن سكوته بأنهم سيرونه بعد حين طالعاً عليهم يحمل أرسطو في يده وخارجاً إليهم بفلسفة قديمة كان لها الأثر الأكبر في تهذيب الإنسانية وتنويرها، وعليها قامت الفلسفات التي جاءت بعدها، على أننا نقول لهم ما قلناه من قبل وهو أن مقالاً واحداً من قلمه الساحر في شأن من شؤون حياتنا الحاضرة أجدى علينا من أرسطو وكتبه، لأنه إذا كان تمت فائدة من فلسفة أرسطو وتواليفه فهي لطلاب دراسة الفلسفة القديمة والراغبين في أن يحملوا الحياة على طرف دبلوماتهم وشهاداتهم ويعيشوا بهذه الرقعات الجميلة المختلفة الألوان التي لا تفيد في معركة الحياة شيئاً، ثم ليس كل القراء طلاب دبلومات، وليسوا جميعاً في مجالس المدارس، بل هم أحوج أن يغتذوا من روح المفكر العصري الذي يعيش بينهم ويشاركهم في عواطفهم، ويكشف لهم عن كنه الحياة، ويفتح أعينهم الزائغة القلقة إلى أسرار الوجود، من ألف كتاب قديم لألف فيلسوف عظيم، فلو مضى الآن أناتول فرانس وهو من أكبر كتاب فرنسا المعاصرين، فنبش كتاباً قديماً من كتب الفلسفة العتيقة فترجمه لشعبه، لاحتفلت به المدارس ورحبت به الجامعات، ولكنه لا يستطيع أن يظفر في قلب القارئ الفرنسي العادي البعيد عن المدارس وأهلها بما يظفر به من التأثير كتاب

صغير واحد من ثمرات ذهن أناتول فرانس نفسه وليست المدارس هي كل ما يمد الحياة بل ليست إلا حظائر لتربية العاديين، وتهذيب القطيع الإنساني وإعداده للحياة العمومية الهادئة. ولقد يظن أحمد بك لطفي السيد أنه لا يزال إلى اليوم يذكر الناس ويحف بتهذيبهم ويفكر في شؤونهم ويعمل على ترقية آدابهم، بهذا المجمع اللغوي الذي ينتدى في دار الكتب الفينة بعد الفينة ليصل ما بين مبتكرات الحياة الجديدة وبين لغة العرب وينقذ الأساليب الكتابية من العجمة التي أبت مدنية اليوم إلا أن نرضى بها في الحياة وفي اللغة كارهين، ولكنا نعلم أن هذا المجمع اللغوي لم يحدث منذ تألف أثرا، وما نظنه محدثه، وأعجب من ذلك أن يأتي مبدأ المجمع اللغوي الآن فينسخ مبدأ المصرية في اللغة الذي كان يجري من قبل في ذهنه ويصر عليه، ويناضل عنه، ويفسد به أساليبه السلسة المائية العذبة ليبدي للقراء أنه قد أنفذ فكرته على رغم أنوفهم، ولعمري أن تغيير المبادئ بهذه السرعة أمر يبعث على الدهشة ويدعو إلى الريبة وما نعلم له شبيهاً في كتاب الغرب وعلمائه وفلاسفته، بل رأينا الكاتب منهم يطرد في مبدأ واحد، فلا يزال يجري به إلى الأبد، حتى يعرض به يوم يعرض الناس جميعاً. ولكنا بعد نقول أن عدوله الآن عن مبدأ اللغة المصري أجدى عليه، وخير لقرائه الذين يتعشقون أسلوبه، لأنه كان يتخلل كتابته فيذهب بجمالها، وينغص على القارئ ويفسد الأثر الذي تحدثه الفكرة المبسوطة أمامه، إذ كانت تبدو عليها دلائل التكلف، وإنها جيء بها عمداً، وسيقت من الكاتب سوقاً، لتنفيذ مبدأ يحاول الإصرار عليه على فساده ويجتهد في التمادي فيه على باطله، وأنت تعلم أن لطفي بك كاتب شاعر تتدفق أفكار المثل الأعلى في جميع ما يكتب، وإنه من الكتاب الذين يبحثون عن الكمال الإنساني في الحياة، وهذا ولا ريب ينبغي له أسلوب فاتن وعبارة مونقة رائعة حتى يستأثر بالقلوب، ويستهوي الأذهان، وإذا أنت التمست ذلك من أساليب الشارع، وافتقدته في لغة السوق، وطلبت شيئاً منه من أفواه العجائز، فما أنت واقع إلا على أحط صورة من صور الأذهان، لأن لغة الحياة العمومية لا تزال تحمل جميع أعراض الحقارة التي لا يخلو منها عنصر واحد من العناصر الأولى المكونة لحياتنا الحاضرة، ولا بد مع ذلك أن يكون الكتاب والشعراء

والمفكرون في طبقة أسمى من الحياة نفسها التي تحوطهم، بل يجب أن تكون لهم لغة غير لغة الناس، لأن لهم أذهاناً أصفى من أذهان الناس، وليس في لغة الحياة الحاضرة شيء يصح أن نأخذه عنها ونقتطفه ليكون تطرية لأساليب الأدب، وزينة للكتابة والشعر، وأكبر دليل على فساد لغة الأسواق ما نسمعه من الأغاني والألحان التي تجري اليوم على ألسنة الرجال والنساء والولدان في الأزقة والطرق، فهي لا تكاد ترتفع في معانيها وأصولها عن الأغاني الشائعة بين الزنوج سكنة الأحراش والجبال، وهي لا تمت إلى الشعر بسبب، مع أن الغناء في الجمعيات المهذبة المتحضرة لا يزال ضرباً من أرقى ضروب الشعر، وهو لديهم من أسمى فروع الأدب. ونحن الكتاب والشعراء أخلق بأن نرتفع بالناس لا أن نسقط إليهم وننزل على حكمهم، لأن الطفل الذي تسمح له بأن تجارية وتكفل له جميع ما يريده حقاً وباطلاً لا تلبث أن تفسده عليك وتفسده على نفسه، فلا تستطيع له بعد ذلك إصلاحاً، ولا تجد لك إلى تهذيبه سبيلاً، ولا ترى لك عليه من سلطان. هذا ولعل لطفي بك سيخرج بعد الآن من معتزله، وينطلق من ركوده، ولعل في هذا باعثاً له على الرجوع إلى تذكير الناس به قبل أن ينسوه كما نسيهم، وما نسيان الشعوب إلا أكبر عقوبة للذين يعتزلون الجهاد من أجلهم. هذا ما نسوقه اليوم توطئة للكلام عن أسلوب أحمد مصطفى بك السيد وتحليل مبادئه الفلسفية وبسط رأينا في أدبه، وفي المجمع اللغوي، في العدد القادم إن شاء الله.

الحرب

الحرب بقلم شاعر من أبدع ما عثرنا به من كتب الحرب كتاب جميل مؤثر الأسلوب وضعه حديثاً الشاعر الفرنسي الطائر الصيت بييرلوتي صديق الشرق، وصاحب الروايات المختلفة عن المرأة التركية وضفاف البوسفور، وهو مجموعة مذكرات كتبها في خلال الحرب، عندما سنحت الفرصة له، وصف فيها عدة من المناظر المفزعة، والمشاهد النكراء المبكية التي مر بها في سياحاته المتواصلة بين فرنسا والبلجيك، تحت مثار النقع، وعن كثب من ميادين الموت، وقد افتتح الكتاب بصورة الخطاب الذي بعث به إلى وزير البحرية الفرنسية عندما نشبت الحرب يستعفيه من دعوته إلى الصفوف، ويستقيله من إكراهه على العودة إلى الخدمة العسكرية، إذ كان بييرلوتي يحمل رتبة كبتن في البحرية الفرنسية، وهو كتاب رقيق، بل خطاب رجل شاعر أخلق به حمل القلم من امتشاق السيف، يكره الحرب لا جبانة منه وخوفاً، ولكن سموا عن سفك الدماء وتعففاً. وإليك صورة الكتاب: - روشفور في 18 أغسطس سنة 1914 من الكبتن جوفيود من احتياطي البحرية إلى وزير بحرية فرنسا سيدي عندما دعيت إلى الخدمة في بدء نشوب الحرب كنت أمنى النفس بأنني سأؤدي عملاً أكثر أهمية من هذا العمل الذي خصصت به في أحواض البحرية. وثق يا سيدي أنني لا أريد بهذا لوماً وعتاباً لأنني أعلم أن على البحرية عملاً عظيماً في هذه الحرب وأن جميع رفاقي وإخواني في الرتبة التي أحملها، ضباط الرديف، سيظلون قعوداً حتى تواتيهم الفرصة للخدمة، وإنهم وا أسفاه سيرون مثلي نشاطهم مختزناً وقواهم محتبسة، وأرواحهم في عذاب. ولكن دعني أذكر الاسم الآخر الذي أحمله، إن الإنسان العادي لا يعرف شيئاً كثيراً عن قوانين البحرية، إذن فلا تظن أنها ستعد أسوة سيئة في وطننا العزيز، حيث كل إنسان قائم بعمله أبدع القيام، مؤد واجبه على أحسن ما يكون من الأداء، أن لا يؤدي بييرلوتي عملاً

نافعاً، إن اشتغالي بصناعتين في آن واحد يجعلني باعتبار كوني ضابطاً في مركز استثنائي، أليس كذلك؟ إذن فعفواً ومغفرة إذا أنا التمست إليك أن تعاملني معاملة استثنائية رحيمة لينة، إنني أقبل بفرح بل بفخر وزهو أي وظيفة تدنيني من خطوط النيران، ولو وظيفة ضئيلة تافهة، وظيفة دون مقام القصب الذي فوق سترتي. فإذا عز ذلك فهل لي أن أعين بصفة إضافية في سفينة يكون لها الحظ في شهود القتال الحقيقي، إني أؤكد لك سأجد إذ ذلك سبيلاً إلى تأدية عمل نافع، أما إذا نهضت في سبيل إنفاذ ذلك القوانين والصعوبات فهل في الإمكان أن تهبني يا سيدي - في المدة التي سأظل فيها في ارتقاب الدعوة إلى خدمة الاسطول - حرية الذهاب هنا وهناك حتى أحاول أن أجد أي عمل أعمله، ولو في الإسعاف. إن مركزي حرج، ولن يدرك أحد ولن يصدقوا أنني كبتن في رديف البحرية وإن ذلك يلزمني أن أبقى ساكناً، وفرنسا كلها مدججة بالسلاح. جوليان فيود العصفوران الصغيران ذات مساء وقف قطار مزدحم بالمهاجرين من البلجيك بمحطة من محطات أحد البلاد الجنوبية في فرنسا، فنزل الشهداء المساكين في أثر بعضهم البعض، وهم زائغو الأبصار ذابلو الوجوه، إلى الافريز الغريب عليهم، حيث كان جمع من الفرنسيين ينتظرون مقدمهم للتأهيل بهم، وكانوا يحملون متاعاً صغيراً من الثياب التقطوها ولا ريب في عجلة، وكان في الجمع أصبية كثيرون، بين بنات وفتيان وولدان فقدوا آباءهم في النيران والمجزرة، وإلى جانبهم عجائز وجدات أصبحن وحيدات في العالم إذ هربن وهن لا يعرفن السبب، غير متشبثات بالحياة، وإنما مدفوعات بإحساس خفي غريب وهو حفظ الذات، وكانت وجوه هذه السيدات الطاعنات في الأسنان لا تنم عن أي تأثير أو انفعال ولا يبدو في صفحتها دليل من الحزن أو اليأس كأنما قد فارقت أرواحهن جسومهن وتولت عن أدمغتهن ألبابهن. وفي غمار هذا الجمع الحزين طفلان في بواكر العهد بالحياة، يمسك كل بيده يد صاحبه،

صبيان غفلان لعلهما أخوان شقيقان، أما أكبرهما فيجري في الخامسة وما أظن الصغير يعدو الثالثة، ولم يكن أحد من الجمع في رعايتهما، ولم يعرفهما في الناس أحد، ولكن كيف أدركا عندما تولى عنهما الأهل أنهما إذا أرادا من مخالب الموت فراراً فليطفرا إلى هذا القطار. . . . ذلك سر لا أدركه. وكانا في أثواب نظيفة، ويلبسان جوارب صوفية صغيرة، مما يبعث على الظن بأنهما من أبوين فقيرين ولكن لهما فضيلة العناية، ولا ريب أنهما طفلا أحد أولئك الجنود البواسل الذين سقطوا قتلى في ميدان الشرف، ولعل أباهما أغمض عينه على آخر نظرة استطاع أن يمنحهما إياها، وكان التعب آخذاً مبلغه منهما، وكانا بحاجة شديدة إلى النعاس، فلم يبكيا ولم يصرخا، ولم يستطيعا جواباً عن الأسئلة التي كانت تلقى إليهما ولكنهما مع ذلك لم يترك أحدهما يد الآخر، بل ظل كل مستمسكاً بأخيه، على أن الأكبر، وهو لا يزال قابضاً على يد الصغير خشية أن يفقده، لم يلبث أن تبين المسؤولية التي على عاتقه وهي حماية أخيه، فتطاول ومد عنقه إلى السيدة التي بجانبه وهو يقول في صوت ضعيف مسترحم، والنعاس يغالب جفنيه، ويبين في تضاعيف جرسه، سيدتي: هل سيذهب أحد بنا إلى الفراش؟!! تلك هي الرغبة الوحيدة التي استطاعا في تلك اللحظة أن يشعرا بها، كل ما كانا يطلبانه من رحمة الإنسانية أن يذهب أحد بهما إلى الفراش، وقد كان ذلك، فذهبا إلى النوم، ولكن لا يزال كل منهما يشد على ذراع أخيه، متلازمين متلاحمين، هابطين معاً في لحظة واحدة إلى وادي النسيان الجميل الهادئ، سبات الأطفال، الهنيء العميق!! وقد كتب بييرلوتي في أوائل الحرب، قبل أن تقدم تركيا على الإسهام فيها خطاباً رقيق الديباجة، بديع المعنى إلى أنور باشا ينصحه أن يبتعد بوطنه عن ويلات القتال وشره، وإليك ما قال: روشفور في 4 سبتمبر سنة 1914 أخي العزيز وصديقي العظيم أرجو أن تعفو عن كتابتي إليك، لأن باعث كتابي هذا حبي لك وإعجابي بك وببلادك التي كدت أتخذها إلى وطننا، لقد ظهرت في الأرض التي حول طرابلس بطلاً صنديداً ووقفت لا خوفاً ولا رهباً وثبتّ وأنت قليل حيالهم وهم كثيرون، ثم أنت الذي في طراقية

استرجعت أدرنه لتركيا، وقمت بهذا العمل، وهو فتح مدينة الأبطال دون أن تسفك دماً كثيراً ثم أنت الذي بشدتك وسطوتك ورهبك طهرت البلاد من القسوة والشناعة والنهب والسلب، ولقد شهدت منك أنفتك وغضبك واشمئزازك من فظائع البلغار، وطلبت إليّ أزور بنفسي في سيارتك أطلال تلك القرى التي مر فوقها أولئك القتلة. ليكن ذلك، ولكن دعني أنبئك بحقيقة كنت ولا ريب تجهلها حتى الآن، إن الألمان في بلجيكا وفي فرنسا وبالأمر يرتكبون اليوم هذه الفظائع بعينها التي ارتكبها البلغار في أرضكم، بل هي أفظع منها بآلاف مرة وأشد نكراً، لأن البلغار قوم جبليون يعيشون على الفطرة الأولى، قد استأثرت بأرواحهم جهالة الدين، وعصبية العقيدة، ولكن هؤلاء قوم متمدنون، متمدنون واأسفاه! إن تركيا تطمح اليوم إلى استرداد جزائرها، وهذا لا يغيب عن نظر أحد، ولكني أرتعد مخالفة أن تذهب في الحرب بعيداً، واأسفاه، إني أحذر التأثير الذي تغرى به مملكتك العزيزة وشخصك من ذلك الإنسان، لأنه ولا ريب رأى ما شجعه على استخدام وطنيتك الحارة وحميتك الجميلة، ويستهويك ويعدك وعود الانتقام لك وأخذ الترة لبلدك، فحذار من أكاذيبه، وأنا واثق أنه يحاول جهده أن يمنع الحقيقة أن تصل إليك، وإلا أثار أنفة فؤادك الجندي المخلص الأبيّ، وكما استطاع أن يقنع فريقاً من أمته، قد عرف كيف يقنعك بأن هذه المجازر التي أقامها كانت على كره منه، كلا، ليس الأمر كذلك، إنها خطة من قبل موضوعة، وطرائق مرسومة. ما أشد ما يكون ألمي وحزني لو قدر على أن أرى تركيتنا العزيزة، قد خدعت بهذا الإنسان فتعثرت في أذياله إلى مخاطرة مرعبة. إن لك يا صديقي سلطاناً على أمتك وأثراً في شعبك فهل أنت رادها عن الطريق الوعر الذي تريد أن تركبه. إن كتابي سيغيب في الطريق ولكن لعلك إذ يصل إلى يدك تكون قد فتحت عينيك، على رغم هذه الشباك التي تحوطك، اعف عني واغفر لي رغبتي في أن أكون في عداد الذين ستصلك الحقيقة على أيديهم. إن لي إيماناً شديداً بأننا الظافرون بالنصر، ولكن ابتهاجي يوم الخلاص سيسدل عليه الحداد

ولو قدر على أن أرى وطني الثاني، وطني الشرقي، دفيناً تحت الأنقاض. . . بييرلوتي

مذكرات عن مراكش

مذكرات عن مراكش ومولاي الحفيظ تعقد المحالفات، وتبرم المعاهدات، ويتنازل الملوك عن ممالكهم، وثتل العروش وتدخل الشعوب الضعيفة الخاملة في جوف الشعوب العظيمة الرفيعة الشأن، ولا نعرف عنها إلا شيئاً يسيراً تأتي إلينا بها الأنباء البرقية، ويقتطعه الصحفيون ويستنزلونه من صنائع أهل الشأن، والمقربين إلى من بيدهم زمام تلك الأمور، وكذلك مضى نصف أحداث التاريخ أسطراً ضئيلة في الكتب، لو اطلع عليها كانت اليوميات في السماء لنسخ أكثرها، وهكذا مشى التاريخ الإنساني مقتضباً موجزاً من ناحية، مكذوباً من الناحية الأخرى. على أنه قد يهدي الله أناساً عندهم علم ما خفي على الجماهير، فيأبون ألا أن يخرجوا عن هذه الأسرار، ويحدثوا الإنسانية بغرائب ما انتهى إليهم أو وقع على أيديهم. ومن هذا ما قرأناه أخيراً في مجلة الاستراند الانكليزية، بقلم مستر والتر هاريس من التفاصيل الغريبة والقصص المدهشة، والأسرار التي تكاد تلوح ضرباً من المجون وإن كانت لا تزال حقائق لا يشهد بها أثر للكذب أو الاختلاق، وهذه الأسرار تتعلق بما دار بين مولاي الحفيظ سلطان مراكش السابق وبين الحكومة الفرنسية عند تنازله عن العرش ودخول الدولة المراكشية في كنف جمهورية فرنسا وحمايتها، وقد كان الكاتب مستر والتر هاريس حاضر أمرهم، وعلى يده وقع التعهد بين السلطان مولاي الحفيظ ومندوب الجمهورية، وقد وصف جملة من أخلاق الحفيظ وطرفاً من المخازي التي ظهر فيها الرجل ضئيل الروح ساقط الهمة، مرذول السيرة. ونحن نقتطف للقراء شيئاً من هذا المقال الغريب تفكهة لهم وكشفاً لحقائق مرة يجب أن نعلمها قبل سوانا. قال مستر هاريس: بعد أن بسط العداء الذي كان مستحكماً بين عبد العزيز والحفيظ وتولى الأخير زمام الحكم، وانشقاق القبائل عليه: ولم يكن مولاي الحفيظ بالرجل الخليق بأن يرد الحياة إلى مراكش المحتضرة، فاتخذ من الحكم ضروباً من القسوة والوحشية، فخرجت عليه القبائل حتى حاصرته في فاس في أوائل عام 1912 فاستنجد بالفرنسيين وكانوا قد نزلوا ببلدة نسبلا ككا على شاطئ المحيط

الأطلنطي، فلم يلبث أن وصلت إليه الكتائب، ففضت جموع المحاصرين عن أسوار العاصمة، ولم تكد تمضي بضعة أسابيع حتى تم التوقيع على معاهدة الحماية الفرنسية، ولكن حدث بعدها مجزرة قتل فيها جمع كثير من الجنود الفرنسية وبذلك أضحى مركز الحفيظ حرجاً، بين فرنسا وبين شعبه، فأجمع على اعتزال الملك. وعليه انتقل البلاط إلى رباط، وهناك كان آخر العهد باستقلال مراكش، وهناك بدا الحفيظ مطماعاً جشعاً. وقبل أن يرحل عن فاس إلى رباط، دبر الحيلة لكي يتزود بالثروة ومطالب الترف، فنصح لنساء الأسرة المالكة وعقائل قصره، وهن سرب كبير، لا يقل عددهن عن فرقة من فرق الجيوش فيهن أزواج السلاطين السابقين وكريماتهن وذوات أرواحهن وقريبات الحفيظ ونساء عشيرته، بأن يرافقنه جميعاً إلى رباط وأصدر إليهن التعليمات القاضية بنقل أمتعتهن، أما الجواهر واللآلئ، والأعلاق والنفائس فطلب إليهن أن يضعنها في صناديق صغيرة، وأما الثياب والمتاع الآخر القليل القيمة ففي جعب كبيرة وطرود فصدعن جميعاً بما أمر، ولكن عندما آن أوان رحيل السلطان ترك وراءه السيدات والجعب، وسافر بالصناديق الصغار. وهذه الجواهر الآن في أوروبا ولا ريب أنها لم تلبث أن انتقلت إلى التجار، ولعلها تزين اليوم صدوراً وأعناقاً ومعاصم ونحوراً في قصور الغرب ومغانيه. وقد قضى الأسابيع الأخيرة من حكمه في نزاع مستحر بينه وبين المفوضين من الفرنسيين، وكان لا يزال سلطاناً، ولذلك لا يزال خطراً، وأمر خلفه لم يكن قد تقرر بعد، وبذلك كان لا يزال على مائدة هذا اللعب بالسلطنة أوراق طيبة، وقد استطاع أن يظفر منها في اللعب بالفائدة، حتى أنه عندما استتب كل شيء وأرسلت كتب تولية أخيه الأصغر مولاي يوسف إلى داخلية البلاد، عاد مولاي الحفيظ فغير رأيه وتنازل عن عهده، فلما سئل في ذلك قال إنه رأى أن لا يعتزل ويترك مملكته، فوقعت فرنسا في ضيق من أمرها، بعد أن أعلنت تولية يوسف، ولا يزال السلطان الأول باقياً لا يريد اعتزالاً، ثم عاد فصرح بأن في الإمكان مفاوضته ثانياً في أمر الاعتزال لعله يستطيع أن يثوب إلى عزمه الأول، وكل ذلك لكي يتناول 40 ألف جنيه أخرى، وقد دفعت إليه بصك على أحد المصارف، عندما

أبحر من رباط شاخصاً إلى فرنسا زيارة وتنزهاً وتجوالاً، وفي مقابل ذلك سلم المعتمد الفرنسي أوراق اعتزاله، ولعل أغرب ما في تاريخ اعتزال الملوك، وأفكه ما في هذه القصة التي نبسطها للقراء الآن وأبعث على الضحك والدهشة هذه الصورة التي بين أيديهم وهي تمثل الحفيظ والمعتمد وقد وقفا إزاء بعضهما البعض، يحمل كل منهما في يده صورة التعهد الذي جرى بينهما ولا يظهر منه إلا طرفاً، وهو يخشى أن يدفع به إلى صاحبه فيفلت به دون أن يسلمه العهد الذي بيده. وفي مساء اليوم الذي تلاه التوقيع على التنازل أعدم الحفيظ جميع الشعائر المقدسة للسلطة لأنه علم أنه آخر سلطان نعم بالاستقلال في الدولة المراكشية، فعزم على أن يقضى بانقضاء عهد الاستقلال على هذه الشارات التاريخية الخالدة فأحرق المظلة الحمراء التي كان يستظل بها في الرسميات والحفلات وحطم المحفة الرسمية وجعلها للنيران طعاماً ثم الصناديق والمحافظ التي كانت فيها المصاحب والكتب الدينية، ولكنه لم يستطع أن يحرق الكتب، بل أبقى عليها، وأخذ معه جواهر النساء ولآلئهن. وعاد بعد زيارته فرنسا إلى طنجة، وكان قد وصل إليها إذ ذاك أسرته وحاشيته وهم يبلغون نحواً من مائة وستين شخصاً، فدفعت إليه قلعة طنجة المسماة بالقصبة لتكون مقامه في مثواه، ولم يلبث في طنجة أياماً حتى بدأت المناقشة في شروط اعتزاله، إذ كان قد كتب التنازل ولم توضع الشروط، وهنا احتدم الخلاف، واشتد الشجار بين الفريقين، ولم يكن الحفيظ يأسف على شيء من نعمة الاستقلال أسفه على أنه لم يضع شروطاً أحب إليه ويظفر ببنود في العهد أصلح لثروته ولكنه كان لا يزال يطمع في الحصول على مال آخر، وثروة أكبر. وفي ذلك الحين طلب الفريقان إلى كاتب هذه السطور أن يتداخل في الأمر، ليصلح ذات البين، إذ كان قد وقع بين السلطان المخلوع وبين المفوضين الفرنسيين في الصلح مشهد رائع هائل، إذ احتد الحفيظ وشتم، وتكلم بلهجة قاسية ليست في شيء من لهجات الملوك، حتى أصبح الاتفاق أمراً مستحيلاً. ففي ذات يوم، والوقت صباح، زارني موظف فرنسي ملتمساً إلى أن أتداخل بين الفريقين ثقة بأن لي دالة وأثراً على السلطان المخلوع، ثم لم يكد ينصرف حتى حضر الحفيظ نفسه

إلى داري وكان في أشد حالات الانفعال والغضب، فجلس فوق متكأ وعيناه مفعمتان بالدمع وانطلق بشرح لي مظالمه وشكواه حقاً وباطلاً، وأضاف على ذلك قائلاً: وأنت وحدك الذي له النفوذ التام على هؤلاء الملاعين فأرجوك أن تتداخل في المفاوضات، فلم يسعني إذ ذاك إلا القبول. وابتدأت المفاوضات بعد ذلك بساعة فظل الحفيظ في داري طول ذلك اليوم، ورفض أن يأكل أو يشرب. وفي غيابي عند المفوضين انصرف الحفيظ، ولكنه لم ينصرف حتى أخذ معه صفوة المنتخبات العربية الخطية التي كنت أحفظها في مكتبتي، ولم أرها منذ ذلك الحين، ولكن السلطان أرسل إليّ بعدها هدية في مساء ذلك اليوم، لعلها مقابل ما أخذه من كتبي، وهذه الهدية سيف مرصع بالذهب. والمسألة الهامة من هذه الشروط هي ديونه وقد ثار حولها الخلاف أياماً، إذ كان الاتفاق في أول الأمر على أن جميع الديون التي صرفت في شؤون المملكة يجب أن تعد ديوناً حكومية وعلى فرنسا أن تدفعها إلى أربابها، وأما الديون الخصوصية فعلى السلطان المخلوع أن يدفعها من أمواله الخاصة، ولكن كان من الصعب التمييز بين هذه الديون لأن سلطان مراكش كان ملكاً مستقلاً مطلق التصرف، وأموال المملكة هي أمواله، وليس ثمة فارق بين دين خصوصي ودين عمومي، بل كانت العادة المتبعة في الصرف على شؤون الحكومة والبلاط السلطاني أن تكتب بها صكوك على الجمارك. فمن بين الديون التي اشتد فيها أمر الخلاف ثمن سلالم من الرخام البديع كان السلطان قد أمر بصنعها لقصره بفأس في إيطاليا، فاحتج المفوضون بأن هذه السلالم ليست إلا مطلباً من مطالب السلطان ولهذا يقوم هو بدفع ثمنها، ولكن السلطان أصر على أن القصر هو ملك الحكومة، وأن جميع ما يطرأ عليه من الإصلاح يعود نفعه إليها، وقال أن خلفه هو الخليق بأن يدفع ثمن هذه السلالم لأنه سينتفع بها، فأذعنت السلطة المحتلة إلى عدل هذه الحجة، ودفعت الثمن، ولكن الموضوع لم ينته بعد، فإن الحفيظ بعد بضعة أشهر من ذلك العهد إذ كان يبرم إذ ذاك عقداً لبناء قصره الجديد بطنجة وضع في صورة البناء رسماً لسلم من الرخام، فاجترأت على أن أسأله إذا كانت هي السلالم التي كان عليها النزاع من

قبل فكان جواب الحفيظ، أجل هي بعينها، إنها لم تكن قد خرجت من إيطاليا إذ ذاك فأرسلت نبأ برقياً إلى المصنع الذي كان يعدها بأن يبعث بها في الحال إليّ لا إلى فاس، وكان ذلك! ويتلو هذا المطلب مطلب آخر وهو ثمن بضعة أمتار من القماش الأحمر غالية الثمن باهظة القيمة، فلم يسع المفوضون إلا أن يضعوا ثمنها في قائمة الديون الخصوصية، ولكن السلطان احتج قائلاً أن هذا القماش اشترى لأجل شؤون المملكة، لنصنع به سراويل لجواري المطبخ السلطاني، والمطبخ السلطاني يحوي مئات منهن لأجل إعداد الطعام للملك، فرفضت السلطة المحتلة قبول هذا الدين، فأخرج السلطان حجة أثرية ليدل بها على أن جواري المطبخ هن من خدم الحكومة وأنهن ينتقلن مع القصر من حوزة سلطان إلى سلطان فأذعنت السلطة إلى هذا المبدأ، ولكنها أصرت على رفض الدين بحجة أن هؤلاء الجواري لا يطلبن مثل هذا القماش الثمين الباهظ القيمة لأثوابهن الداخلية، وإن قماشاً من القطن كان يغني عن هذا الترف ويفي بالغرض، فلم يكن من السلطان المخلوع إلا أن أجابهم جواباً مسكتاً بقوله، يمكن أن يكون ذلك في أوروبا ولعل جواري المطبخ الملكي هناك يلبسن سراويل من القطن، ولكنا في مراكش نعظم مركزهن!! فلم يحر المفوضون جواباً، ودفع الثمن. وأصعب المشكلات التي عرضت عند تصفية الديون مسألة طبيب أسنان السلطان المخلوع، وهو إسباني الجنسية، لأنها كادت تحدث مشكلة دولية، ولا يذهب بك الظن إلى أن الدين الذي كان يطالب به هذا الطبيب كان خاصاً بصناعته، ولكن كان ذلك إفاء لثمن أسد اشتراه للسلطان من ألمانيا، وقد كان تعبينه في أوائل عهد السلطان الحفيظ وبالحكم بماهية منتظمة ثم أصبح دائماً في بلاط جلالته، وظل مدة يصلح من أسنان البلاط ويداوي أفواه سيدات القصر حتى أصبحت نواجذهن تلمع بالأسنان الذهبية فما انتهى من هذه المهمة ظل بلا عمل. فأوفده الحفيظ إلى هامبورج ليشتري حيوانات له يحفظها في حدائقه، ولكن الطبيب أخطأ إذ تأخر لأنه حين عاد إلى فاس، كان شوق السلطان المخلوع إلى الأسد قد انطفأ ورأى أن لا حاجة به إلى اقتناء كثير من الحيوانات لأنها تستلزم مصاريف باهظة.

وقد زاد الأمر إشكالاً وحال دون فضه أن الحفيظ كان قد رأى من قبل عند الطبيب كرسيه المهتز فطلب إليه أن يصنع له عرشاً هزازاً على قواعده الآلية ودفع إليه الثمن، ولكن العرش لم يتم ولم يقدم للحفيظ ولهذا كان هو الآخر يدين الطبيب كما دانه فاحتج السلطان بأنه قد دفع ولا شك ثمن الأسد وإذا لم يكن قد دفع، فهو ولا ريب دين عمومي، ولم يكن عليه مسؤولاً، وطلب تسليم العرش الهزاز إليه، وفي ذلك الوقت كان عقد خدمة الطبيب قد انتهى فأعلنه الحفيظ بأن ليس في النية تجديده، ولكن كان الطبيب لا يزال يستطيع المناوءة والعناد، إذ كان السلطان قد أسكنه مغنى جميلاً في أملاكه دون أجر فرفض ترك الدار وإعانته السلطة الإسبانية على أمره، فلما بعث السلطان بطائفة من العبيد لطرده من البيت وجدوا الدار محاصرة بالمتاريس، وألفوا الرصاص ينهال عليهم من كل مكان. وهنا استفحل الأمر، وعظم الخطب، وكاد يصل إلى مشكلة دولية. ولكن لم تلبث توسلاتي ومفاوضاتي أن ذهبت بثورة العاصفة، ورضي السلطان بأن يمثل الطبيب بين يديه للمهادنة والمفاوضة، وكان السلطان جالساً في ديوانه، ممعناً في قراءة كتاب عندما دخل الطبيب، فأدى السلام وحياه بأدب ولكن بشيء من التكلف والمغالبة، ولعل ذلك لم يرض جلالته لم يبتسم له، كما كان اتفاقي معه، ولم يجبه على تحيته بل استرسل في قراءته بصوت مترنم مجود متظاهراً بعدم الالتفات. وساد السكوت قليلاً، ولكنه لم يلبث أن تبدد إذ قال أحد الحاشية: مولاي الملك هاهو الطبيب قد حضر. فلم يكن من السلطان إلا أن قال، دون أن يرفع عينه عن الكتاب، هل أحضر المقعد معه؟ ولم يكن هذا ما اتفقت عليه معه، إذ طلبت إليه من قبل أن لا يذكر كلمة عن الكراسي ولا عن الأسد بل كان الغرض من هذا اللقاء مفاوضة الطبيب في ترك البيت على أن يأخذ مقداراً من المال. وقبل أن يتوسط أحد في الحديث، لم يكن من الطبيب إلا أن صرخ قائلاً: ادفع لي ثمن أسدي. وعند ذلك اشتعلت نار الحديث، وانطلق السلطان في غضبه ولعناته، ولم ألبث أن رأيت الطبيب في أيدي الخدم والحاشية يتململ ويتلاكم ويتضارب، وقد حملوه على هذه الصورة

خارج الحجرة.

صور هزلية

صور هزلية من أخلاق الناس القلوب السوداء استطاع الجغرافيون أن يقسموا الناس على ألوان وجوههم، وتبعاً لمناطق الكرة الأرضية التي احتوتهم، إذ كانت الشمس هي التي لونت الناس، وأنضجت جلود فريق، وتركت جلود الفريق الآخر نيئة، وجلود الباقين نصف سوا على اصطلاح أصحاب المطاعم، ولعل الشعراء يحبون القمر، والعشاق يترنمون بجمال البدر، لأن القمر - أطال الله بقاءه، ومتع أهل الشعر والحب به - لا قدرة له على التلوين، ولا يستطيع أن يحدث أثراً في وجوه الحسان، بل إنه ليرسل أشعته الفضية - وهذه الاستعارة تعجب ولا ريب البخلاء والماديين - فتنعكس فوق صفحة الوجه النضير، والوجنة المشرقة، والطلعة الحلوة، التي هي أشبه بطلعة المحمل أو بطلعة رجب فتزيدها جمالاً وفتنة ونضارة، وتجعل نصف كتب الدنيا شعراً، والنصف الآخر نثراً، ولذلك نستطيع أن نقول أن القمر هو أستاذ الشعراء أو هو ناظر مدرسة الشعر الأرضي كله. على أن هذا التقسيم قد يكون ظلماً في بعض الأحيان، ومخالفاً للحقيقة في كثير من الظروف، لأنه تقسيم لا يتعدى الظاهر، والظاهر قد يعارض الباطن، وقد يغلبه على حقه، أو يوهم الناس به وما هو به، فكثيرون يطالعونك بوجوه المنطقة المعتدلة ووراء وجوههم قلوب تشترك في لون وجوه جزيرة تاهيتي وآخرون ضربت عليهم الشمس جزية التلقب باسم العبيد والبرابرة، وهم قوم أخيار، بيض الأفئدة، من الطراز الأول. ولو أردنا إذ ذاك أن نصلح خطأ الجغرافيين لكنا خلفاء بأن نسمى الأولين برابرة بيض على رأي العامة، ولكنهم وا أسفاه لا يزالون يتمتعون بحقوق الرجل الأبيض، وهم أحق بأن يعيشوا في جوار سكنة الأحراش، وآهلة الغاب والأجم، وأهل نم نم لأن قلوبهم السوداء ليست إلا مقابر تضم الجثث والرفات والأشلاء وهي صحراء قفر، ومفازة مخوفة، لا يؤنس إليها، ولا يدنى منها، وحشة وظلمة، وهولاً ونكراً. وعندما يكون القلب أسود مظلماً، يترك في صفحة الوجه ظلاً قاتماً، لأن النور الخارجي ينعكس عليه فيرسل صورته في معارف الوجه، ولهذا أول علائم صاحب القلب الأسود أنه

مقلوب السحنة، ثم لا يزال يبدو في الحديث واللهجة، مهما حاول ذو القلب الأسود أن يكذب على طبيعته، ويغالب لؤمه ودناءته، ويضاحك الناس ليأكلهم، ويلاعبهم ليعضهم، كما تفعل الهرة بالفأرة قبل أن يكتب اسمها في سجل الجرذ التي غابت في أجواف السنانير، وأصحاب القلوب المظلمة يرسلون دائماً في المجلس عدوى مرضهم، لأنهم يخفون حقدهم على العالم وسخطهم على القدر - في طي الفلسفة السوداء - والناس يستمعون مع هذا لهم وينصتون إلى لغة حقدهم مندهشين مذهولين لأن من خصائص الفلسفة السوداء أن لها طعماً مراً ولكنه لا يزال لذيذاً مثيراً للشهية، وليس في سرر أهل القلوب السوداء إذا احتوى الظلام الأرض، وليس فوق وسائدهم إذا ابتعث الليل من مكمنه إلا خطط للثورة على العالم لا تعد الثورة الفرنسية الكبرى شيئاً بجانب ما يجول في رأس رجل منهم فوق وسادته، وليس في قلب كل واحد منهم إلا مجموعة من أبدع ما ابتكر من أساليب اللعنة، وأغرب ما ذهب إليه من عبارات السخط، وكل قلب أسود يموت ويقف عن ضرباته، تنطفئ به ثورة، ويطوى كتاب من كتب الحقد، ويموت أسلوب من أساليب دلائل الخيرات. من هؤلاء رجل طوال مشذب العود، ولد على الحدود القائمة بين دولة البيض والسود، وهو نسخة متأخرة من العمالقة، يمشي في أمطار عصرية، لو رآها استين لأثارت فيه ذكرى أول عهده بفتح دكانته الصغيرة في صميم الموسكى، وهو أبدا يشكو المرض لأنه دائماً يأكل بعضه، حقداً على الدنيا، ونظراً لما في أيدي الناس، وبكاء على سقوط نجمه في الأرض، ولا تراه يئن إلا من داخله، لأن أحشاءه لا تستطيع هضم جثمانه لأنه من نوع اللحم الخشن على رأي الجزارين، فلذلك لا يجد قلبه إلا أن يتأكل أطرافه، وإذا مشى إليك يحدثك فكأنه لفرط طوله يكلمك من الطابق الأعلى، أو يطل عليك من البلكون، وإذا جلس إليك فلنحول ساقيه وامتدادهما ألفيت قدمه فوق ركبتك. وقد أصاب هذا الرجل شيئاً ضئيلاً من العلم ولكنه يظنه علم السماوات، فلا يرضيه أن يرى في الدنيا عالماً، لأنه يخشى أن ينازعه على كرسي رئاسة جمهورية العلم، ولكن العلم الذي أوتيه أشبه به أن يكون جهلاً، لأنه ليس على قاعدة، ولا ينهض على أساس، وإنما هو مجموعة متضاربة مبعثرة جمعها من السوق، وأخذها من فهارس الكتب وكتالوجات المكاتب، ولا يعجبه من كتب الأرض قديمها وحديثها شيء، ويعتقد أن جميع كتاب الدنيا

من أبعد العصور إلى اليوم لم توجدهم الطبيعة إلا ليكونوا التجارب الأولية الخائبة ارتقاباً لظهوره هو ونبوغه. وهو مثال الخيبة في الحياة لأنه مثال الغلظة في نفسه، فهو إذا اشتغل في عمل لم يلبث أن يعد صاحب العمل أجيراً عنده، ويطالبه بالاحترام الشديد الذي يعتبر إرهاقاً إذا طالب به السيد خادمه، بل قد يكاد يسأله أن يتنازل له عن حصة فيه أو يكتب له جزءاً منه في الوقفية، وإذ التمس إلى أحد من الناس ما لا على سبيل القرض أو الهبة، فكأنما هو في جرأة السؤال وقحة الطلب يسأله وفاء دين عليه، أو يطالبه بالعوايد أو الخفر وقد لا يتأخر عن إنذاره بالحجز في مدة محدودة إذا هو لم ينزل عن منحه الهبة أو القرض، وإن كانت لفظة القرض لديه يراد بها، السلفة المستديمة إذ أقسم أن لا يدفعها إلا على يد الملك المكلف بجرد تركات المفلسين في الآخرة! وغريبة الغرائب أن يكون ذلك الرجل شاعراً. . . ولكن لا يستطيع أحد أن يفهم شعره سواه، ولعله من بخله وشحه يضن على الناس حتى بمعانيه، وهو يحاول أن يجيء بالشعر الذي لا يفهم، لأنه يأبى إلا أن تكون المعاني في بطنه ولذلك يوفر عليه الإكثار من الطعام، لأنه لا يستطيع أن يكفل الكثير منه، لفاقته ورقة حاله، وهو يدعي أن شعره هذا يرقص الهزاز فوق أيكه، والبلبل الصداح في وكنه، وإن كان شعره البربري لا يصلح أن يتغنى به على (الدلوكة) في مجالس شراب العبيد، وهو مع ذلك يقول إن الله إنما ذم الشعراء في كتابه، إذ علم أنه سيخرج في الأرض إبان القرن العشرين إله الشعر، وأن هذه الألوهية الشعرية ستقع من نصيبه فذم الشعراء جميعاً غيرة منه مقدماً وخشية من أن يتبع الناس إبليس الشعر فيسكنوا في أبياته وينسوا مقاصير الجنة. ولشعره أوزان غير أوزان الشعر المعروفة للناس، ولعله رأى أن كل نبي يخرج للناس ينسخ السنن والشرائع التي جاءت قبله، وعلم أن نبوة الشعر قد نزلت عليه فاضطر إلى أن يحاول إظهار شيء من المعجزات، حتى يدينوا له ويؤمنوا به، فأوحى إلى صحابته والحواريين من أنصاره أن ينشروا الدعوة بين الناس، ويدعوهم إلى الأوزان الجديدة، فأخذ كل منهم وزناً منها وطاف بها على الشعراء يعرضها عليهم ويدعوهم إليها، ولكنهم ضحكوا منه ساخرين، لأنهم علموا أن الوزنة من هذه الأوزان لا تساوي (وزنة) من الجميز وأنها

لا توازي لذلك فتيلاً! ومن أكبر المذاهب التي يؤمن صاحبنا بصلاحها ويرجو أن يسارع العالم إلى تحقيقها، مبدأ الاشتراكية ولكنه لما رأى أن المجتمع الإنساني قد تأخر عن تنفيذها مع أنها مبدأ مستعجل يجب البت فيه، اضطر هو إلى تنفيذه على الأغنياء الذين يتصل بهم أو الذين يستطيع أن يصل إليهم من غيرهم، وبهذا أصبح له الفضل بأنه الاشتراكي (العملي) الأول في الحياة الإنسانية كلها، وهو في صميم فؤاده ولا شك يشكر (كارل ماركس) مؤسس الاشتراكية أن اهتدى إلى هذه الفكرة (الذهبية) لأنها وفرت عليه متاعب سؤال الناس رأساً بدون واسطة العلم والكتب. . . . هذا هو الرجل، وتلك صورته، ولكن أعجب منها ولا ريب صورة كاتم أسراره، وصديقه الذي لا يفارقه، وأنا أترك القراء الآن لكي أوافيهم بها في العدد القادم، فإلى الملتقى. عباس حافظ

من جوامع الكلم

من جوامع الكلم نلتقط هنا شيئاً من جوامع الكلم المأثورة عن كثير من نوابغ الافرنج بين علماء وأدباء وفلاسفة وملوك وروحانيين - التقطناها من كتبهم ودواوينهم خصيصاً لقراء البيان. باسكال (1623 - 1662) لو كان أنف كليوباترا أقصر قليلاً لتغير وجه الأرض بأسرها. ياللإنسان من ظل خافت ضعيف، وأعجوبة جديدة، وعفريت منكر، يا له من فوضى، ويا له من مناقضة، ويا له من معجزة وآية، هو القاضي الحاكم في كل شيء، هو أرضة ضعيفة من دود الأرض، ثم هو مستودع الحق، وجحر الشك، وكهف الباطل، وهو فخر الكون، وهو خزيه وعاره! إن آخر شيء نفكر فيه بعد وضع الكتاب هو ماذا يجب أن نكتبه أولاً!! فولتير (1664 - 1778) لو لم يكن هناك رب، لوجب علينا أن نخترع رباً! - التاريخ ليس إلا صورة الجرائم والآلام والشناعات - هناك حقائق لا تصلح لكل الناس، ولا لكل الأزمان - لقد بعث إلى الملك بعض ثيابه القذرة لأغسلها له. مونتان (1532 - 1592) توجد هزائم أحق بالفخار من الانتصارات - أرواح الملوك والاسكافيين قد صبت في قالب واحد، فإن شجاراً صغيراً بين رجل ورجل يثير حرباً طويلة شعواء بين الملوك - إن شهوتي للطعام تأتي وأنا آكل لأقبل أن آكل - لم أر أغرب عفريتاً ولا أعجب معجزة في العالم مني - من رأيي إنه كان الأفضل لنا أن لا يكون لدينا شرائع وقوانين أصلاً من أن يكون لنا منها هذا العدد العظيم المتكاثر - دعونا نترك الطبيعة تسير في سبيلها فهي أدرى منا بواجبها - جميع الناس يعرفون كتابي فيّ، ويعرفونني في كتابي - أن أكبر فضيلة في خلقي لا تزال عليها مسحة الشر - من يدري عندما ألاعب هرتي إذا كانت هي التي تهزأ بي أكثر من هزئي بها! مارتن لوثر (1483 - 1546) قل لسيدك أنه لو كان في (ورمز) شياطين عدد ما في سقوفها من أحجار وقراميد فأنا

داخلها - حيث يبني الله لعبادته معبداً، يشيد الشيطان بجانبه لشيعته هيكلاً. ألفونس الحكيم (1221 - 1284) لو كنت حاضراً يوم خلق الخليقة لكنت أبديت عدة نصائح غالية كانت ولا ريب ستصلح نظام الكون. لاروشفوكول (1613 - 1680) الحب الحقيقي كالعفاريت يتكلم عنها جميع الناس، وقليلون رأوها - حب العدل عند سواد الناس ليس إلا الخوف من أن ينالهم ظلم - لا نستطيع أن ننظر إلى الموت نظرة طويلة ممعنة ثابتة، كعجزنا عن النظر إلى دارة الشمس - المصلحة تتكلم جميع الألسن، وتستخدم جميع اللغات، وتمثل جميع الأدوار، حتى دور التجرد من المصلحة - أكثر النساء يحزنّ ويتألمن ويلبسن الحداد لفقد حبيب، لا لكي يظهرن كيف كن من قبل أن يحببن، بل ليعلم عنهن أنهن خليقات بالحب مرة أخرى.

تأثير الطعام والغذاء

تأثير الطعام والغذاء في إطالة الحياة وتقريب الموت أبحاث طبيب دانماركي كبير إن لهذا الموضوع اليوم أهمية خاصة، وحاجة ماسة، إذ ارتفعت أثمان المواد الغذائية، وعزت منها أشياء، وندرت أشياء، وناهيك بغلاء اللحم، حتى أصبحت هذه الأيام عند الفقراء كما سماها أحد الأدباء أياماً لا لحمية وقد كان الدكتور هندهيد - وهو من الأطباء الكبار - منذ نشأت الحرب يدأب على عمل تجارب عدة في معمله للوصول إلى معرفة المقدار اللازم من البروتين لتغذية الجسم وانتظام حركته وعمله، ولا يغيب عن القراء أن كلمة البروتين هي الاصطلاح العام للأغذية النيتروجينية، أو التي تحتوي كثيراً من النيتروجين، ومن بينها اللحم السمين والبيض واللبن وكثير من الخضروات. وهذا الموضوع يهم كل قارئ شخصياً لأنه يتعلق بحياته، فإن الأمراض الناشئة من فساد مقادير البروتين تؤلف جزءاً عظيماً من إحصائيات الوفيات. وقد ذهب الدكتور هندهيد إلى أن نحواً من 25 جراماً من البروتين في اليوم مقدار كاف لتغذية البدن، مع أن الإنسان المتوسط الحال يتناول ثلاثة أو أربعة أضعاف هذا المقدار، ويعتقد أن تناول مقادير زائدة عن الحاجة من الأطعمة البروتينية يعمل على تسميم البدن والإضرار به. وحيث أن الأطعمة البروتينية، كاللحم والبيض - باهظة الثمن فلا يستطيع المتوسطو الحال أن يحصلوا عليها في كل حين ولذلك فلا يصدق أحد إذا قلنا له أنه بشرائه المقدار الكثير منه إنما يبتاع المرض، ويشتري الأذى، ويعمل على تقصير أمد حياته، وليست التجارب التي قام بها العلامة هندهيد نظرية فقط بل كانت عملية تنفيذية، وهي طريقة تحديد مقادير الغذاء لأشخاص يشتغلون بأعمال تتطلب الحركة والنشاط ومعرفة مقادير الفضلات والمواد البرازية التي تتخلف عن الأطعمة حتى لقد خرج من بعض هذه التجارب بأن شخصين استطاعا أن يعيشا عاماً كاملاً على البطاطس وزيت الزيتون وقد كان غذاؤهما اليومي منظماً يتراوح بين 20 و 25 غراماً من المادة الزلالية، مع أن العلماء ذهبوا في تجاربهم الأولى منذ زمن إلى أن المقدار اللازم من المادة الزلالية في اليوم هو 81 جراماً.

وليس في البطاطس مقدار كبير من البروتين ولهذا تكفي ثلاثة أرطال منه في اليوم ويقوم بالحاجة الباقية من الحرارة المطلوبة للبدن نحو من ست أوقيات من الزبدة. وهذان الشخصان اللذان استغنيا بالمادة الزلالية الموجودة في الخضروات عن كافة البروتين الموجود في الحيوانات كاللحم، اكتسبا الصحة التامة والقوة المتينة، حتى أن أحدهما بعد الانتهاء من هذه التجربة العملية اشترك في سباق لمسافة 264 ميلاً جازها في 99 ساعة وهو الميعاد المضروب للسباق. والدكتور هندهيد يرى أن المادة الزلالية الموجودة في الخضر تقوم مقام المادة الموجودة منها في الحيوانات ويلفت النظر إلى أن أمراض الكبد والكلى والأمعاء هي في سكان المدن والحواضر أربعة أضعافها عند الفلاحين وأهل القرى الذين يعيشون وأكثر غذائهم الخبز والبطاطس والدهن، والآن لنبحث في الأطعمة التي يمكن الحصول منها على المقدار اللازم من البروتين للجسم في اليوم وهو بين 20 و25 جراماً، وهذا يسهل على الكيماوي أن يوافينا به فإن نحواً من ثلاثة وعشرين جراماً منه توجد في ثلاث بيضات أو في قطعة من اللحم الأحمر يبلغ حجمها نحواً من ثلاث بوصات مكعبة أو في رطل ونصف من اللبن، والقطعة الصغيرة من الخبز التي تبلغ أوقيتين تحتوي أربعة جرامات من البروتين. على أن الجهاز الهضمي لا يستطيع أن يستخرج جميع المادة البروتينية من أي مقدار من الطعام ويجعله صالحاً للجسم ولهذا لا نستطيع أن نضع نهاية صغرى نظرية للغذاء ونكفل به الصحة وليس من المحتمل أن يفيد الرجل المتوسط الحجم أن يتناول أقل من ضعف المقدار النظري الذي يذهب إليه الدكتور هندهيد وهو العشرون جراماً من المادة الزلالية ليكفل للأنسجة المقدار اللازم لها. وللوصول إلى طريقة عملية يستطيع الإنسان أن يظفر بالمقدار الواجب له من البروتين من بيضة واحدة وقدح من اللبن وخمس أوقيات من اللحم توزن قبل نضجها فإن هذا المقدار يكفل ولا ريب مقدار البروتين الذي يتطلبه البدن حقيقة، بل قد يزيد على حاجته. ومن المحقق أن مثل هذا المقدار وحده لا يستطيع أن يمد البدن بوحدات الحرارة الكافية لتسيير هذه الأداة الإنسانية بنظام ولهذا لا بد من التماسها في الأغذية الخالية من البروتين، ولا بد أن يحسب حساب لمقادير من النشا والسكر والدهن وهذه تستمد من الحبوب وبعض

الخضر. وهنا يحسن أن نلفت النظر إلى معنى لفظة وحدة الحرارة وهي المصطلح عليها عند الكيماويين بكلمة كالوري وهي نوعان الوحدة الصغرى والوحدة الكبرى، أما الصغرى فهي مقدار الحرارة اللازمة لرفع سنتيمتر مكعب واحد (نحواً من خمسة عشر نقطة من الماء) درجة سنتجراد واحدة وأما الكبرى فهي الحرارة اللازمة لرفع كيلو جرام درجة واحدة في مقياس السنتجراد، وفي الكلام عن آلة بخارية، تستعمل الوحدة الكبرى، وبالحرى يصح ذلك عند مقياس حرارة الإنسان، كما أنه يسهل عليك أن تعرف وزنك بالأرطال بدلاً من أن تزن حجمك بالدراهم أو الحبات. ولكل نوع من الطعام حرارة خاصة به عندما يحتويه البدن ويحترق في جوفه ومن الأطعمة ما يشعل في الجسم ناراً أكثر وأحر من غيرها، فإذا أنت تناولت أوقية من الزبد فإنها تشعل في بدنك حرارة أكثر مما لو أنت تناولت مثل زنتها من السكر. واللحوم المتنوعة لا تفترق في شيء كثير عن اللحم البقري من وجهة الحرارة فإن الدجاج والطيور والسمك أقل كثيراً في الحرارة من اللحوم الأخرى، والبيضة الواحدة تحتوي 85 وحدة حرارية، والرطل من اللبن الذي لم تؤخذ قشدته يحوي نحواً من 300 وحدة حرارة، والرطل من الخبز لا يقل في حرارته عن مثله من اللحم إذ تتراوح بين 1100 و 1200 وحدة حرارة أي مقدار الحرارة الكافية لنصف يوم للإنسان المتوسط. ومن بين الخضروات الكثيرة الحرارة، بعد الفول في الصف الأول فإن الرطل الواحد منه يحتوي على 2500 كالوري والفاصوليا الناشفة كذلك. أما الخضروات اللينة التي تحتوي مقداراً من الماء فلا تحتوي كثيراً من الحرارة فإن الفاصوليا الخضراء مثلاً ليس في الرطل منها أكثر من 430 وحدة حرارة، واللوبيا الخضراء 180 والقرنبيط 140 والجزر 200 والبصل الأخضر 215 والسبانخ 100 والبطاطس 370 ومن بين الفاكهة الخضراء ينهض الموز في الطليعة إذ في الرطل منه 400 كالوري وفي التفاح 260 وفي التين 330 وفي العنب 390 والبرتقال 210. ومن هذا تبين لك أن الفاكهة اللينة لا تحتوي مقادير مرتفعة من وحدات الحرارة، على أن الفاكهة الجافة خير منها فإن رطلاً من البلح يحتوي 1415 وحدة حرارة وكذلك البندق وهو

الطعام الوحيد الذي يحوي جميع المواد الصالحة للجسم. ولكن الأهمية الكبرى هي التحفظ من الإكثار من الأطعمة التي تحتوي المقادير الكبيرة من البروتين، والآن دعنا نضع لك نظاماً للغذاء اليومي تحاشينا فيه الإكثار من اللحوم وما يخرج من الحيوانات، وإن كان المقدار الذي تحتويه هذه القائمة من المآكل من البروتين كافية لحاجة الجسم. فخذ في إفطارك أوقيتين من الخبز المقدد وثلاث أوقيات من اللبن وخمس أوقية سكر (في القهوة) وثلاثة أرباع الأوقية من الزبدة. أما للغذاء فحسبك رطل ونصف من اللبن وأوقيتان من الخبز وأوقية ونصف من الزبدة و4 أوقيات من السلطة من الخس ومعها أوقية ونصف من زيت الزيتون وأوقيتان من الكعك و 4 أوقيات من الفاكهة اللينة. وللعشاء هذا القدر: حساء الخضر، حساء 5 أوقيات من البطاطس مع مثلها من الجزر والسبانخ، أوقيتان من السكر وأوقية من الزبدة وربع أوقية من اللوز و 4 أوقيات من مربى التفاح وأوقية من الجبن. ولعل هذا قد يظن أنه لا يحوي كثيراً من مادة البروتين، ولكن التقدير دل على أن هذه الأطعمة تحتوي 45 جراماً منها وهو المقدار المقرر لرجل وزنه 158 رطلاً والحرارة التي تحدثها في الجسم تربو على 2598 وحدة حرارة مع أن المطلوب للرجل الذي هذه زنته 2560 وحدة فقط، على أن هذا النظام يراد به الرجل الذي يعمل أعمالاً هادئة لا تتطلب الحركة والعمل البدني، فلا ريب أن المشتغل بلك يتطلب وقوداً أكثر من هذا وغذاء يقوم بحاجة بدنه.

ملح أدبية

ملح أدبية ليس هناك أوجع لقلب الشاعر ولا أجلب لحقده وبغضه من أن يمتدح إنساناً بقصيدة يحبرها ويبالغ في تجويدها وتثقيفها، ويكد في ذلك ذهنه، ويغوص على المعاني النادرة البديعة فيستخرجها من مكامنها، ويلصق به كل محمدة إلصاقاً، ويستقصى في ذلك حتى يكذب ويغلو ويبالغ إلى الحد الغير المعقول، ثم هو لا يحظى من وراء ذلك كله بطائل، كان في عصر الشاعر ابن الرومي وزير كبير يسمى اسماعيل بن بلبل الشيباني ويكنى أبا الصقر، كان هذا الوزير ممدوح ابن الرومي، مدحه بقصائد عدة كلها آية في الإبداع ولكنه أخفق في جميعها، ومن هذه القصائد القصيدة النونية المشهورة التي تربى على المائتي بيت، ولما أنشدوا أبا الصقر هذه القصيدة وسمع هذا البيت منها: الوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبان قال لقد هجاني، فقيل له إن هذا من أحسن المدح، ألا تسمع ما بعده: كم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان فقال أنا بشيبان لا شيبان بي فقيل له فقد قال: ولم أقصر بشيبان التي بلغت ... بها المبالغ أعراق وأغصان لله شيبان قوم لا يشوبهم ... روع إذا الروع شابت منه ولدان فقال لا والله لا أثيبه على هذا الشعر وقد هجاني، فما كان من ابن الرومي إلا أن زلزل الدنيا على أبي الصقر هذا وأخذ يثأر لنفسه منه ويصب عليه جام غضبه كما يقولون وهجاه بعدة قصائد هي الشماتة مجسمة إذ نكبه الموفق الخليفة العباسي بعد أن عزله من الوزارة، فمن ذلك قوله: فلئن نكبت لطالما نكبت ... بك همة لجأت إلى سندك لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلا ليوم فت في عضدك يانعمة ولت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك فلقد غدت برداً على كبدي ... لما غدت حراً على كبدك ورأيت نعمى الله زائدة ... لما استبان النقص في عددك ولقد تمنت كل صاعقة ... لو أنها صبت على كتدك لم يبق لي مما يرى جسدي ... إلا بقاء الروح في جسدك

وقوله: خفض أبا الصقر فكم طائر ... خر سريعاً بعد تحليق زوجت نعمى لم تكن كفأها ... فصانها الله بتطليق لا قدست نعمى تسربلتها ... كم حجة فيها لزنديق وهاك حديث شاعر آخر يشبه حديث ابن الرومي حدث أبو العيناء قال: كان عيسى بن فرخان شاه يتيه على في ولايته الوزارة فلما عزل وهبني، فلقيني فسلم علي فأحفى فقلت لغلامي من هذا؟ قال أبو موسى، فدنوت منه، وقلت أعزك الله والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمدلله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة فلقد أصابت منك النقمة ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك ولله المنة إذ أغنانا من الكذب عليك ونزهنا عن قول الزور فيك فقد والله أسأت حمل النعم وما شكرت حق المنعم. وهذا أبو العيناء - واسمه محمد بن القاسم - كان ضريراً، وكان أديباً شاعراً وكان من أحفظ الناس وأفصحهم لساناً وأحضرهم بديهة، وكان من ظرفاء العالم له نوادر مستملحة مع الخلفاء والوزراء ومن إليهم نورد شيئاً منها تفكهة للقراء، حدث الرواة قالوا: حضر أبو العيناء يوماً مجلس بعض الوزراء فتفاوضوا حديث البرامكة وكرمهم فقال الوزير لأبي العيناء - وكان قد بالغ في وصفهم وما كانوا عليه من البذل والأفضال - قد أكثرت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا تصنيف الوراقين وكذب المؤلفين، فقال له أبو العيناء فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير، فسكت الوزير وعجب الحاضرون من إقدامه على ذلك، ووقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال من هذا، قال رجل من بني آدم فقال أبو العيناء مرحباً بك أطال الله بقاءك ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع، ومر يوماً بباب عبد الله بن منصور وهو مريض وقد أبل فقال لغلامه كيف خبره فقال كما تحب فقال فمالي لا أسمع الصراخ عليه، ودخل على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري فقال له ما تقول في دارنا هذه فقال إن الناس بنوا الدور في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك ثم قال له: كيف شربك الخمر فقال أعجز عن قليله وأفتضح عند كثيره فقال له دع هذا عنك ونادمنا فقال أنا رجل مكفوف وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم ولست آمن

أن تنظر إليّ بعين راض وقلبك عليّ غضبان أو بعين غضبان وقلبك راض ومتى لم أميز بين هذين هلكت فأختار العافية على التعرض للبلاء فقال بلغني أن فيك شراً فقال يا أمير المؤمنين إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد مدح الله تعالى وذم فقال نعم العبد أنه أواب وقال هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم وقال الشاعر: إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم أذمم النكس اللئيم المذمما ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع السنيء والدنيء بطبع لا بتمييز فقد صان الله عبدك عن ذلك - ورحمه رجل بالجسر على حماره فضرب بيديه على أذن الحمار وقال يا فتى قل للحمار الذي فوقك يقول الطريق - وسئل مرة عن مالك بن طوق فقال لو كان في زمن بني إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره قيل فأخوه عمر قال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً - وكتب إلى عبيد الله ابن سليمان: أنا أعزك لله وولدي وعيالي زرع من زرعك إن أسقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى، وقد مسني منك جفاء بعد بر وإغفال بعد تعاهد حتى تكلم عدو وشمت حاسد، ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعباً ولله در أبي الأسود في قوله: لا تهنى بعد إذ أكرمتني ... وشديد عادة منتزعة فوقع في رقعته - أنا أسعدك الله على الحال التي عهدت وميلي إليك كما علمت وليس من أنسيناه أهملناه ولا من أخرناه تركناه مع اقتطاع الشغل لنا واقتسام زماننا وكان من حقك علينا أن تذكرنا بنفسك وتعلمنا أمرك وقد وقعت لك برزق شهرين لتربح غلتك وتعرفني مبلغ استحقاقك لأطلق بك باقي أرزاقك إن شاء الله والسلام.

باب النقد

باب النقد حول حفلة تابين الشيخ سلامة دعيت في من دعى من كهول وشباب، وسراة وفقراء، لاستماع ما تقوله الخطباء والشعراء تأبيناً للشيخ سلامة حجازي، فرأيت وسمعت، ولم أجد بداً من تعقيب تقريظ الصحف اليومية للحفلة بكلمة كان على تلك الصحف أن تقولها من عند أنفسها فلم تقلها استبقاء لمودة فريق وخيفة أن تغضب فريقاً آخر ترهبه ولا تعرف له وداً، ولا أحسب مجلة البيان على تلك الطريقة، ويقيني أنها مذيعة ما يأمر الأدب بإذاعته، وما يقتضي التاريخ أن يعرفه العامة كما يعرفه الخاصة، على أني براء من ألم ما يصيب بعض النفوس من النداء بأن البلد اليوم لا يريد أن يراهم أو يسمعهم يخطبون ويقولون الكلام الموزون الذي يسمونه الشعر، وليس إعجاب الجهال بهم مسيغاً لهم أن يتمادوا في عمايتهم وإنحائهم على اللغة بفاحش اللحن وعلى الأدب بتعويج الأسلوب، وعلى الفلسفة بالتخبط وإنزال الظنون منزلة اليقين في طويل عريض من اللغو لا يفهمونه وهم أربابه فمستحيل أن يفهمه الناس، وليتهم قاموا لذلك في مواطن المهاترة والمهاذرة بتبادل الآراء، فكنا ننتظر الصواب يأتي بعد خطلهم، ولكن الحفلة حفلة تأبين، ولم يرهم السامعون أبنوا الرجل بشيء، وما كان إلا أن نهض واحد يتكلم عما سماه العبقرية وآخر يتكلم عما تفعله الموسيقى بالنفس، وآخرون يتأوهون وينادون بأن حزنهم على الحجازي شديد، ولولا كلمة جاءت من خليل المطران وقرأها جورج طنوس لخرجنا ونحن لم نسمع شيئاً فإن هذا الشاعر هو الذي أبن صديقه التأبين الصحيح فذكر طائفة من أعماله ومآثره الفنية وصفة حياته واستخلص من كل أولئك أنه رجل جليل حقيق بأن يخلد ذكره في قومه، فأحسن ما شاء، ولا غرو فإنه خليل المطران، أما الشعراء فلم أر منهم من أجاد غير مجد الدين أفندي ناصف وجورج أفندي طنوس، ولو أحسنت ملياً ديان إلقاء توشيحها لجاء حسناً، ولكنها ولا أعلم كيف كان ذلك عجزت عن إلقائه كما انتظره منها الناس، ولست عاتباً على أحد عتبي على عمر بك عرف، وابراهيم أفندي رمزي واسماعيل بك عاصم، وجورج أفندي طنوس، فإن عمر بك كاتب مجيد، وخطيب مشهور معترف له بالبيان، وكان مستطيعاً أن يسمعنا خطبة يضمنها أبلغ الرثاء، ولكنه تجاوز صناعته إلى الشعر فرمانا بمنظومة كانت تقطر ركاكة وتفككاً،

وكذلك كانت منظومة ابراهيم أفندي رمزي وهو صديق الشيخ سلامة العارف بحياته، ولو أرسل كلامه نثراً استطاع أن يرضى المحفل ولا يغضبه، واسماعيل بك عاصم رجل من أبناء الجيل الماضي، مطبوع على السجع ولو لم يفد المعنى لا فرق بينه وبين توفيق أفندي عزوز إلا في أواخر الجمل، فإنها من عند الأول مقيدة لا تقع إلا مرة واحدة ثم لا تقوم وهي من عند الثاني مرسلة تشج رأس هذا وتفقأ عين هذا، وكان الأجمل باسماعيل بك أن يتنحى عن أمر ندب المؤبنين لغيره، فإن هذا الزمن غير الزمن الذي كان يحسن فيه أن يقال وليتقدم الشاعر المأنوس، جورج طنوس وهذا الشاعر، الذي أقيمت له المنابر، وسيف الله الباتر، أسعد داغر وهذا هو الشاعر الذي يعرفه الجمهور، محمد بك تيمور أما جورج أفندي طنوس فكان كاتب سر الحفلة وهو بصير بمواقع الكلام وكان عليه أن يقف بين أولئك المتكلمين وبين الناس فيمنع منظومهم ومنثورهم، إلا ما يراه حسناً أو جيداً، وهو لم يفعل هذا بل تركهم يتناوبون إيذاءنا بأسماعنا ما لا نريد أن نسمع من كلام قضوا في ثلاث ساعات ومحصله كله من أوله إلى آخره أن النابغة من الرجال ينبغ وهو صغير الشأن فيعلو وقليلاً ما يأتي الزمان بذلك الرجل، وإن الموسيقى فن جميل، والتمثيل جميل، والشيخ نابغة موسيقى ممثل، ولم يقل أحد كيف كان هذا إلا خليل المطران كما رأيت وإذا كان ما يستعاذ منه فقصيدة الدباغ فإن المقام مقام تأبين وهو قد جاء بهزل سقيم في قصيدة جل ألفاظها دهن ولحم وشحم وجلد وأدم فكانت تشتم منها رائحة المطابخ ولم يشك سامع في أن أحد الطهاة صنعها له وكتبها على مائدة حفظها منها، ولعل ما لقيه أكثر المؤبنين من سخرية شهود الحفلة واستهزائهم وضحكهم وإعراضهم زاجر لهم عن غشيان مثل هذا المحفل بعد اليوم، ولعل هذه البادرة متبوعة بالارتقاء الذي نؤمله إن شاء الله. ومما لاحظته أن حثالة الجمع - ولكل كأس حثالة - كانوا يبهرهم الإلقاء فيصفقون لبعض الناظمين والناثرين فلا يصفق معهم العارفون بمواقع الكلام، وليس هذا ذنب المصفقين، ولكنه دليل على أن رقاع الدعوة كانت مباحة لمن يريدها كائناً من كان، وتلك مخزية تشهد بأننا فوضى لا هداة لنا، وربما فهم الذين لا يعرفوننا أننا لا نفرق بين الغناء والصياح، ولهم العذر فقط تقطعت الأيدي بالتصفيق لقصيدة عبد الحليم المصري وربما نشرها المقطم أو الأهرام فرأيت ضعفها، لأنه أجاد إلقاءها، ولم تهتز لهم شعرة عند استماع قصيدة أسعد

داغر على جلالها ومتانتها ودقة معانيها لأنه كان يلقيها وكأنما هو خائف أن يسمعوه فأفسد بقبح صوته واضطراب إلقائه ما أحسن صياغته. فإذا كانت مجلة البيان تريد خدمة الأدب والتاريخ فهذا ما يريد الأدب والتاريخ أن يذيعه للناس والسلام.

متفرقات

متفرقات الامبراطور الجديد في الصين وصلت منذ أيام الأنباء تترى من الصين بأن القلاقل مستحكمة والاضطراب سائد على حدود الامبراطورية، والسبب في ذلك ظهور رجل غريب لا يعرف أصله ولا يدرك سره يطالب بلقب الامبراطور في قبائله وفي الأمة الصينية بأسرها، واسم هذا الرجل القديس توشا وقد اعتاد أن يأكل لحوم النمر والذئاب والفهود وقلب الإنسان. وقد ضرب للناس اليوم الثامن والعشرين من الشهر العربي الخامس من هذا العام موعداً لارتقائه. وفي يوم تتويجه ذبحت ألف رأس من الماشية وأعدت ثمانمائة دن من الخمر للمأدبة الواجبة لأتباعه، وقد عين له مجلساً من الوزراء، وديواناً للحكم، يوفد الولاة إلى البلاد، والعمال إلى الأقاليم لحكمها. وقد أصدر مجلس العقوبة منشوراً بالعقوبات المختلفة التي يوقعها على المجرمين والمخالفين لأحكام القوانين، فإذا قبض على إنسان وهو يشرب الأفيون، قطعت شفتاه، والرجل الذي يرجف في المدينة بالإشاعات جزاؤه قطع لسانه، والرجل الذي يسمع وهو يقسم أو يحلف، تنتزع سن من أسنانه، أما اللصوص فتقطع أيديهم. وقد صدر أخيراً قرار آخر يقضي بجعل هو كنغ حاضرة الامبراطور السماوي الجديد وخلاصة المبادئ التي يريد إنفاذها في الصين تحريم الأفيون وتشجيع القوم على الشغل في المناجم والبحث عن الذهب والمعادن ونشر التعليم الإجباري. ومن هذا نرى أن الرجل خليط من الشر والخير، وصورة غريبة من الصور الإنسانية الموحشة من ناحية الجميلة من الأخرى. برلمان من سبعة أشخاص في صميم المحيط الهادئ، تقوم جزيرة معتزلة وحيدة صغيرة، هي جزيرة بتكيرن وهي في منتصف الطريق بين أستراليا وأمريكا الجنوبية ومساحتها لا تزيد عن ميلين مربعين وسكانها مائة وتسع وستون نفساً، ولهم برلمان مؤلف من سبعة أعضاء ولهم رئيس ونائب رئيس وقاض، يحكمون في أمور المملكة ونظامها وكل شاب يجوز الربيع الثامن عشر

يصبح ذا حق في الانتخاب، والانتخابات تجري شفوية لا كتابة ولا تحرير. والغريب أنه قد يمضي عام كامل دون أن تقف سفينة البريد بأرضهم وقد حدث أن مضى ستة وعشرون عاماً لم يقف فيها بشاطئها إلا سفينتان فقط!! مكتب الغسالين لعل أكبر كتاب في الدنيا حجماً وأكثر صفحات هو دفتر قيد أسماء الغسالين الموجود في سكوتلاند يارد دار الشرطة في لندن، فهو يتألف من اثني عشر مجلداً ضخماً، يحتوي جميع الأدلة والبيان الذي تستطيع بواسطته أن تقتفي آثار صاحب أي قطعة من القماش أو الملابس وصلت إلى دكان غسال من الغسالين، وقد تمكنت الشرطة من الاهتداء إلى ألوف من المجرمين، فاقتص العدل والقانون منهم، بفضل هذا الكتاب القيم، ولاسيما عندما يحاول القتلة والمجرمون أن يخفوا آثار جرائمهم، بأن يفصلوا الرأس عن البدن ويهربوا بها لواذاً مختفين، ولعل أكبر حادثة من هذا القبيل، ما وقع أخيراً في لندن إذ عثر ببدن امرأة قتيلة، لا تبين معالم وجهها، عند شاطئ النهر، فلم يكن من الشرطة إلا أن زاروا أربعمائة حانوت من حوانيت الغسل والكي للاهتداء إلى صاحبة الملابس التي وجدت على المرأة القتيلة، وأخيراً دل البحث الدقيق على حانوت صغير في أقصى المدينة، اعتادت القتيلة أن تبعث إليه بأثوابها لغسلها وكيها، وعلموا أن الاسم هو مسز بنت، فلم يمض ساعات، حتى عرفت المرأة، وعرف زوجها واهتدى إلى أنه القاتل، فقد ظن هذا الأحمق أنه قد محا كل أثر لجريمته، وصرف كل شبهة، فاتخذ لها مسكناً على شاطئ النهر باسم مستعار، ثم أخذها بعد هدأة من الليل للنزهة عند البحر، وخنقها بكل سكون ورقة ولطف، وهو يوهمها أنه يريد تقبيلها. ولكنه نسي أن هناك جاسوساً صامتاً صغيراً في دار الشرطة هو كتاب الغسالين.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة ظهر في هذه الفترة التي احتجب فيها البيان هذه الكتب الثلاث، وبما أنه ليس هناك متسع للكلام على الكتابين الأولين أرجأنا القول عليهما إلى العدد القادم ونكتفي الآن بالكلام على كتاب التعليقات الجديدة، وقد كلفنا أحد المشتغلين بالقانون أن يكتب عنه كلمة مختصرة وها هي: كتاب التعليقات الجديدة على قانون العقوبات الأهلي تأليف محمد عبد الهادي الجندي بك إن خير طريق للوقوف على حقائق الأمور كما يجب هي الطريقة التاريخية التي سلكها سبنسر وغيره من كبار الفلاسفة في الأبحاث الاجتماعية، وقد سلك هذه الطريقة ثقاة الفقهاء الغربيين في شرح المواد القانونية يمهدون الطريق بذكر تاريخ هذه المادة ومصدرها المأخوذة منه والأسباب التي دعت الشارع إلى وضعها والمناقشات البرلمانية التي دارت حولها والأدوار التي تقلبت فيها، أما غير هذه الطريقة فتخبط ورجم بالغيب وجولات خيالية لا رائد لها يرشدها إلى الصواب ولا ضابط يكبح جماحها ويلم شاردها. ولما كان القانون المصري صورة مترجمة للقانون الفرنسي كان الرجوع إلى الشراح الفرنسيين وأحكام المحاكم الفرنسية خير طريق يسلكه القضاة والمحامون في تطبيق القانون المصري وتعرف معناه. ولكن الشارع المصري الذي تعجل في أول الأمر ولم يكلف نفسه العناء في وضع قانون يلائم الجو المصري والعادات المصرية بل أخذه من القانون الفرنسي مع التباين العظيم بين البلدين أصلح غلطته هذه وأخذ يعدل المواد القانونية ويحاول إلباسها ثوباً مصرياً ملائماً للذوق المصري وقد عنى على الأخص بمواد قانون العقوبات حتى صار هذا القانون كالمرقعة بعضه مصري يلتئم مع عاداتنا والبعض الآخر افرنجي - وأصبح الرجوع إلى كتب الشراح الفرنسيين غير كاف للوقوف على غرض الشارع بل مدعاة في بعض الأحايين إلى الخطأ والبعد عن الصواب والواجب أن يلجأ المرء إلى الكتب الفرنسية فيما هو مأخوذ عن أصل فرنسي وإلى الأعمال التحضيرية كتعليقات الحقانية ومناقشات مجلس

الشورى ومذكرات لجنته فيما هو من عمل الشارع المصري. غير أن هذه الأعمال التحضيرية مبعثرة يصعب على الباحث الاهتداء إليها فلم شعنها حضرة الأستاذ عبد الهادي الجندي بك ورتبها أحسن ترتيب معقباً كل مادة بالأعمال التحضيرية الخاصة بها بحيث إذا أراد أحد الحقوقيين أن يدرس مادة من مواد قانون العقوبات فما عليه إلا أن ينظر في كل ما جاء من الأعمال التحضيرية لهذه المادة ويقارنها بعضها ببعض ثم يستخلص قصد الشارع. فالأستاذ عبد الهادي الجندي بك بكتابه التعليقات الحديثة على قانون العقوبات قد وضع الحجر الأساسي في مصر للطريقة العلمية لدراسة القوانين ولم يسبقه إلى هذه الفكرة أحد ففضله على القانون المصري وكل مشتغل به فضل كل مخترع ونأمل أن يكمل عمله ولا يقف عند هذا الحد فإنه وإن كان قد أنجز عملاً جليلاً يستحق عليه الشكر والثناء إلا أن خبرته وكفاءته تبعثان على الرجاء في أن لا يكتفى بتكديس أدوات البناء وتهيئتها تاركاً إياها لغيره يشيد بها ما يريد أن يشيده، بل نريد منه أكثر من ذلك - نريد منه أن يستخدم هذه الأعمال التحضيرية في شرح القانون واستخلاص المبادئ القانونية ونقدها كما فعل الأستاذ جارسون في تعليقاته على قانون العقوبات الفرنسي وهذا ليس بالأمر السهل ولكن كفاءة عبد الهادي بك أهل للنهوض بكل عظيم. وعلاوة على ما تقدم قد عني المؤلف بتذييل كل مادة بطائفة منتقاة من أحكام محكمة النقض ومحاكم الاستئناف والمحاكم الجزئية، وفائدة هذه الأحكام جلية لا تحتاج إلى بيان. وبودنا أن لو تعرض المؤلف إلى تحليل هذه الأحكام وإيضاح المبادئ التي بنيت عليها فلا يكتفى بسردها مجردة عن كل تعليق بل يأتى بها لنقدها أو ليستشهد بها على رأيه. وبعد فإن كتاب عبد الهادي الجندي بك جليل جمع بين الجديد والمفيد وقرب مناهل القانون للحقوقيين وفتح لهم مضماراً جديداً للمسابقة فاستحق منهم الشكر والثناء.

كلمات العظماء

كلمات العظماء نعود فننشر جملة من جوامع الكلم والأقوال العظيمة التي فاه بها عدة من العظماء وقواد الإنسانية وذوي الشخصيات الخالدة في التاريخ ذاكرين طرفا عن المواطن التي قيلت فيها والمواضع التي كتبت في حينها مفتتحين هذه الكلمات في كل عدد ببضع كلمات من كلم سيد العظماء بل سيد العالم كله سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تيمناً بها واعتباراً بما انطوت عليه من المعاني المقدسة الجليلة ولا جرم فهو صلى الله عليه القائل أوتيت جوامع الكلم وأنا أفصح من نطق بالضاد - قال عليه السلام: ياعم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته. قالها السيد الرسول لعمه أبي طالب إذ صمدت إليه قريش بعد أن ضاقوا ذرعاً برسول الله وتسفيهه أحلامهم وما هم عليه من عبادة الأصنام والشرك فقالوا لعمه - إما أن تكفه أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - ثم انصرفوا فعظم على أبي طالب فراق قومه ولم يطب نفساً بخذلان ابن أخيه فقال له يا ابن أخي إن القوم جاؤوني فقالوا لي كيت وكيت فأبق على نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن الرسول أن عمه خاذله فقال هذه الكلمة الخالدة ثم بكى وولى فقال أبو طالب أقبل يا ابن أخي فأقبل عليه فقال اذهب فقل ما أحببت والله لا أسلمك. إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى المنبت المقطع عن أصحابه في السفر والظهر الدابة - قالها صلى الله عليه وسلم لرجل اجتهد في العبادة حتى هجمت عيناه أي غارتا فلما رآه قال: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق إن المنبت الذي يجد في سيره حتى ينبت أخيراً، سماه بما تؤول إليه عاقبته. إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكمةً قالها صلى الله عليه غذ وفد إذ وفد إليه فيمن وفد الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم فقال الزبرقان: يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب منهم آخذ لهم بحقهم وأمنعهم من الظلم وهذا - يعني عمراً - يعلم ذلك، فقال عمرو أجل يا رسول الله، إنه مانع لحوزته، مطاع في عشيرته، شديد العارضة فيهم، فقال الزبرقان أما أنه والله قد علم أكثر مما قال ولكنه حسدني شرفي، فقال عمرو: أما لئن قال ما قال فوالله ما علمته الأضيق

العطن، زَ من المروءة أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى، فرأى الكراهة في وجه رسول الله لما اختلف قوله، فقال يارسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية، فقال رسول الله: إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكمة. فولتير الخواطر الصائبة كاللحى، لا تكون للأطفال ولا للنساء وقد استمد جوت منه هذه الكلمة إذ قال: إن النساء لا يستطعن تفكيراً فهن في ذلك كالفرنسيين، إن الفرنسيين هم نساء أوروبا. إن الحياة أجمة مختنقة بالأشواك وخير للإنسان أن يمر بها مسرعاً. إن الحياة حرب، فالذين يعيشون على نفقة الآخرين هم الذين يكسبون الموقعة لست أملك صولجاناً بل قلماً ما ازددت رغداً وسعادة، إلا ازددت رثاء ورحمة للملوك إني أنفس على الحيوان أمرين، جهلها ما سيقع من الشر، وجهلها ما يقال عنها. ميرابو إنني إذ أهز جدائل شعري، أهز فرنسا بأسرها. قال هذه الكلمة العظيمة وهو في ندوة البرلمان وقد أراد إنسان أن يقطع عليه الحديث وقد كان ميرابو عظيماً جبار الذهن، وكان دميماً مشوه الخلقة، حتى لقد وصف نفسه إلى سيدة في كتاب أرسله لها، تصوري لنفسك نمراً عظيماً شوهه الجدري، وقد اتفق أن كان ذات يوم يخطب في البرلمان مسترسلاً في وصف المثل الأعلى للملك العادل، فذهب إلى أنه ينبغي أن يكون الملك العادل فصيحاً شريف الفؤاد، مهيب الجانب. . فانبرى تاليراند فأضاف على ذلك: ومصاباً بالجدري!! فضحك الجمع. وقال يوماً عن دمامته: إنكم لا تعلمون مبلغ سلطان قبحي! وقال في نجحه مع النساء: هبوني نصف ساعة فقط مقدماً قبل أن يجلس إلى امرأة أجمل رجل في العالم كله!. لورد بيرون

لقد صحوت فوجدتني ذائع الذكر. قد تنمو الصداقة فتكون حباً، ولكن الحب لا يرسب يوماً فيكون وداً. الحب كالحصباء أشد ما تكون خطراً إذ تجيء في الحياة متأخرة. المؤرخ هو نبي ينظر إلى الوراء. كولوريدج في الإنسان جزء حيواني وآخر ملائكي، فمن لا تراه صاعداً إلى مصاف الملائكة فاعلم أنه هاوٍ إلى درك الأبالسة. الأشرار والأخيار هم أقل شراً أو خيراً مما تلوح عليهم. وقال في الشاعر وردزورث: إني لا أعجب أن أراكم تحسبون وردزورث رجلاً صغيراً، لأنني أعلم أنه يعدو أمامنا جميعاً مستبقاً متقدماً حتى ليخيل إليكم قزماً ضئيلاً على بعد المسافة بينه وبينكم. وقال فيه يوماً وكان قد عاد فاستزرى شعره وأخذه بمر النقد، وسأله رجل ما هو أحب مستخرجات الشاعر وردزورث إلى قلبك فأجاب كولوريدج ابنته دورا!!. ديموناكس - فيلسوف كلبي من أهل أثينا حوال عام 150 بعد المسيح - إن الشرائع جميعاً عقيمة لا نفع منها لأن الأخيار لا حاجة بهم إليها، وأما الأشرار فلا تصلح حالهم بها. ورأى يوماً رجلاً مزهواً برداء من جلد أحمر يشتمل به فقال له: لقد كان يلبسه قبلك خروف!. دياجونيس سئل يوماً لم يكون الفلاسفة أبداً حاشية وتبعاً للسراة والملوك، ولا يكون السراة في حاشية الفلاسفة فأجاب: لأن الأولين يعلمون ماذا يحتاجون إليه، وأما الآخرون فلا يعلمون. وسئل كذلك وقد رؤى وهو يمد يده إلى تمثال منصوب لم ذلك، فأجاب: لكي أعتاد رفض السؤال. وأجاب يوماً إذ سئل ما أشد عضات الحيوان خطراً.

إذا كنتم تقصدون الحيوانات المفترسة فعضة النمام وإذا كنتم تريدون الحيوانات الأليفة، فعضة المتملق. ووقف يوماً بباب رجل شرير فسمعه يقول، لا تدعوا أحداً من الأشرار يجتاز هذا الباب، فقال: إذن فمن أي مكان يدخل رب البيت؟. نابليون أكثرهن ولدا: كانت مدام دي ستايل، الكاتبة الفرنسية الطائرة الصيت، تتودد إلى نابليون وتكثر الترداد عليه، ظناً منها أنها تكسب بذلك وده، وتظفر باهتمامه، ولكنه لم يشعر نحوها بشيء من ذلك، فاتفق يوماً، أنها سألت الإمبراطور رأيه عن أعظم امرأة في العالم، وكانت بذلك تتوقع أن تظفر منه برأي يصلح لها، ويكون مديحاً لأترابها ربات النبوغ، ولكن نابليون أجاب على سؤالها بقوله: هي أكثر النساء أولاداً!!. وكانت مدام دي ستايل عاقراً. فأرادت أن لا تستسلم إلى الهزيمة أمامه فقالت إن الذي يعرفه الناس عن جلالتكم هو أنكم لا تحبون النساء!. فلم يكن هذا ليهزم نابليون إذ قال: سيدتي، إنني مولع بزوجتي الولع كله!. فأمسكت مدام دي ستايل عند هذا الحد. عني وهذا الثوب، اخلعوا عني هذا الثوب الممقوت!!. قالها بعد الفراغ من حفلة تتويجه امبراطوراً. إن لكم إخلاص القطط، لا تبارح الدار. قالها إلى جمع من أهل بلاطه، عند عودته من منفاه في جزيرة ألبا وقد جاءوا إلى قصر التويلري يحيونه ويؤكدون له إخلاصهم. كان ينبغي لي أن أموت في واترلو!.

الحرب

الحرب بقلم شاعر لفائي ملكة البلجيك في معتزل بعيد قصى عن العالم المصطخب، يلوح هذا المنتبذ الذي اتخذته هذه المليكة المعذبة نجوة وملجأ، ولا أعلم كم لبثت في السيارة وهي تعدو في الطريق إليه، وقد ضرب المطر الغزير المنهمل حجاباً أشهب ناصعاً فوق نافذتها، ونحن نسير على مطلع الظلام، وفي أول مرحلة من عمر الليل، وإذا بالضابط الذي يجلس إلى جانب السائق يشير إلينا بأننا قد وصلنا. وكانت جلالة الملكة اليصابات أميرة البلجيك قد تفضلت فأذنت لي بلقائها في منتصف السابعة من المساء، فخشيت إذ ذاك أن أكون قد تأخرت ولكننا كنا لا نزال في حدود المتّعد، وإن بدا الظلام أحلك شديد السواد، ولكن الوقت كان مارس، وفي مثل هذا الموعد، تحت تلك السحائب الوطفاء، والغمائم المتكاثفة، يكون الليل قد سقط فعم الأرض. ووقفت السيارة، فوثبت منها إلى رمال ذلك الساحل، وأنا أستمع إلى خرير الاوقيانوس عن كثب مني، وأكاد أتبين بحر الشمال معتلجاً مزبداً، هذا والأمطار والرياح القرة، تعزف وتترامى من حولنا، وهناك تلوح ثلاثة بيوت لا مصابيح فيها، ولا أضواء تبدو من خلال نوافذها، وشبح يحمل مصباحاً زجاجياً ساطع النور في عجلة يعدو نحونا للقائنا، وإذا به ضابطاً في خدمة جلالة الملكة في يده مشعل من تلك المشاعل الكهربائية لا تستطيع الرياح أن تخنق أنفاسها. فلما دخلت البيت الأول من تلك البيوت الثلاث على هدى ذلك الضابط، أسرعت أهم بخلع معطفي في البهو، استعداداً للقاء الملكة، وإذ به يقول: كلا، كلا، بل أمسك عليك معطفك إننا سنخرج من هذا البيت حتى نصل إلى حجرات صاحبة الجلالة. وكان هذا البيت الأول معداً لوصيفات الملكة وضباط بلاطها الذي أصبح خلواً من البهجة، مقلاً من الآداب والرسميات، يعيش إذا عم الظلام الكون في حلكة دائمة حيطة من غرة القنابل، وحذراً من مباغتة المطارات، ولم نلبث لحظة حتى بلغنا حجرات الملكة وقد تبينت ثمة أرضاً براحاً رملية مترامية كالصحراء لا حدود لها. قال دليلي وهو يجتذبني إلى الحديث، ألا يخيل إليك هذا المكان بقعة في صحراء أنك إذ

أرسلت إلينا خادمك العربي وهو ممتط صهوة جواده لبعثتنا على أن نتصور هذه الصورة. ودخلنا حجرة دافئة ساطعة النور، تثير بأثاثها الأحمر اللون، ورياشها الناضرة روح البهجة في النفس والأنس في بهرة هذه الوحشة الصامتة. ومكثت إذ ذاك أرقب مطلع الملكة، فلم أكد أجلس في الحجرة مجلسي حتى لمحت هناك على مقعدين صندوقاً طويلاً صغير الحجم، وقرأت فوقه بعض أحرف يابانية. وكان الضابط يتبع بنظراته نظراتي، ويلمح مني دهشتي، فلم ين أن قال إن هذا الذي ترى أمامك سيف قديم أرسلته اليابان منذ قليل إلى جلالة الملك!. وقد كنت قد نسيت اليابان واليابانيين، أولئك الحلفاء الرابضين في أقصى الشرق، ولكني الآن ذكرت أنهم حقاً في صفنا، ويدهم في أيدينا، ما أغرب ذلك وما أعجب، وعلمت الآن أن النكبة التي وقعت بالملك وزوجه، والأحزان التي نزلت بساحة هذا البلاط، قد وصلت أنباؤها إلى مسمع ذلك البلد الأقصى، والمملكة المتباعدة، فلم يسعها إلا أن تظهر إعجابها للملك المحزون الأبي فأرسلت إليه سيفاً!! وكان الضابط يوشك أن يقوم للصندوقة فيخرج منها السيف ليريني غراره، ويطلعني على صنعه ودقة الفن الياباني الذي ركب به، ولكن دخلت في تلك اللحظة سيدة من الوصائف، فأعلنت مقدم الملكة. ولم أكن رأيت هذه الملكة من قبل وقد أكبرتها الآلام في خاطري، وعظم جلالها من أثر الأحزان التي نالتها، فجلست أرتقب مطلعها بلهف شديد، واضطراب عظيم، وأنا واقف هناك أمام الموقدة بينا الرياح والجليد والأمطار تعزف خارج الدار في بهرة ذلك الليل الصامت، وجعلت أسائل نفسي من أي الأبواب ستدخل، ثم لم ألبث أن أجبت نفسي بأنها ولا ريب ستقدم من ذلك الباب الذي أمامي في نهاية الحجرة، فاستقرت عيناي عليه لا تبرحانه. لكن كلا، فإنني لم أنِ أن التفتّ ورائي على حفيف ثوب ناعم صوب الجانب الآخر من القاعة، وإذ بحجاب من الحرير الأحمر يخفي وراءه باباً صغيراً قد هتك، ومن خلاله بدت الملكة عن كثب مني حتى لم أجد الوقت الكافي لأقدم لتحيتها الانحناءة البلاطية. وكان الأثر الأول الذي وقع في فؤادي من رؤيتها ليس إلا تأثيراً مضطرباً، أو إن شئت

فقل تأثيراً لونياً، منظر ثوب أزرق، وعينين زرقاوين تسطعان كنجمين متألقين، ثم إذ هدأ اضطرابي وزال زيغ بصري، تبينت أمامي مظهراً رائعاً من مظاهر الشباب، وكأنها لما تتجاوز الرابعة والعشرين وقد كنت أعلم من الصور العديدة التي شهدتها، تلك الصور التي قلما تصدق الخبر عن الصورة الحية، إن الملكة ممشوقة القذ مشذبته، ولكن الملكة على العكس ربعة القوام، ذات وجه صغير مستدير، وتقاطيع نهاية في الرقة، وجه أثيري، من الرقة واللطف بحيث لا يكاد يبين ضوءه بجانب تلك العينين الصافيتي الزجاجة، كفيروزتين شفافتين تنمان عما وراءهما، حتى لكأنك إذ ترى الملكة وأنت تجهل أمرها وحقيقتها والعظائم التي قامت بها، ستصبح في نفسك من ترى تكون هذه المرأة صاحبة هاتين العينين إنها ولا ريب امرأة سامية المكانة تحلق في جواء الرفعة تنظر بهما لا وجل ولا خوف إلى وجه الحتوف، وإزاء الأخطار والموت!. . وأنت تعلم أن حديثاً مع ملكة لا يجري إلا مع رغبتها وفي المناحي التي تنبعث هي فيها، ولذلك انطلقت الملكة في أول الحديث تجاذبني أطراف الحديث كثيرة وموضوعات متعددة، آية رقة المحضر، وعذوبة الخاطر، كأنما لم يكن يجري في العالم تلك الأحداث المخيفة، والنكبات المفزعة. فتحدثنا عن الشرق، وكان كل منا قد جاب بلاده، وأكثر فيه التطواف ثم تكلمنا عن الكتب التي قرأتها، كأننا قد نسينا المأساة الكبرى القائمة في الكون، أو كأننا قد غاب عنا أن وادي الخوف يحف بنا، وأن الأرض التي في جوارنا أصبحت مغطاة بالأطلال والموتى. وكأن الملكة قد استشعرت شيئاً من الثقة بعد هذه الأحاديث، فطفقت تكلمني عن تخريب ايبرس وفرني وغيرها، وهي البلاد التي جزتها في طريقي إلى الملكة وإذا بي أرى غمامة صغيرة قد بدت في تينكم العينين الزرقاوين، على الرغم من المغالبة الشديدة. قلت. . ولكن يا سيدتي، لا تزال هناك منها جدران باقية لم تنقض، وقد نستطيع أن نقيم هذه الجدر ونكمل المنهدم منها، فتعود سيرتها الأولى، وسيسهل ذلك في الأيام البيضاء التي سيجيء بها المستقبل. فأجابت: آه، أتعني أننا مستطيعون أن نعيد بناءها، أجل بلا ريب نستطيع أن نعيد البناء ولكنها ستروح تقليداً لا غير، وإذ ذاك تفقد الروح الأثرية التي كانت لها، وسألتمس جلالها

القديم فلا أقع عليه. ومال بنا الحديث إلى موضوعات أقل أهمية، وإذ بنا بغتة نجدنا في الحديث عن ألمانيا، ولعل العاطفة الأولى السائدة في جوانحها هي الدهشة، دهشة أليمة تامة كبرى. قالت في صوت متهدج: إنهم قد تغيروا ولا ريب، واستحال خلقهم القديم إلى خلق جديد، إنهم لم يكونوا كذلك من قبل، لقد كان ولي العهد - وأنا أعرفه منذ عهد الطفولة - شاباً رقيق العاطفة، ولم يكن في خلقه ما يبعث الإنسان على توقع. . . . . وهناك أمسكت عن الحديث ثم عادت تقول: ولقد حاولت أن أجد السبب، وأنا أفكر الليل والنهار، فلا أستطيع لهذا فهما كلا، كلا، لم يكونوا كذلك من قبل، هذا لا ريب عندي فيه. ولكني كنت أعلم أنهم كذلك أولاً وآخراً، وقديماً وحديثاً، على أنني لم أشأ أن أعارض الملكة وهي قد نشأت بين ظهرانيهم، كالزهرة الحسناء بين العوسج. وساد السكون بيننا لحظة، ثم تذكرت أن الملكة أميرة بافارية فاجترأت على أن أذكرها بأن البافاريين في الجيش الألماني محزونون عليها متألمون لألمها، ولكن الملكة رفعت يدها عن ثوبها وأشارت إليّ إشارة نهائية خاتمة، وقالت في صوت منخفض، الجملة الآتية وقد وقعت في صميم ذلك السكون كأنها كلمة لا نقض فيه ولا إبرام: لقد انتهى بيننا كل شيء، لقد ضربت بيني وبينهم أستار من حديد لن ترفع آخر الحياة!. ولعل الذكرى أهاجت بفؤادها ذكريات أخرى، عن عهود طفولتها وأيام شبيبتها والزمن الناضر الذي قضته بينهم، وإذا بالعينين الزرقاوين قد تحدرت منهما دمعة فأشحت بوجهي جانباً حتى لا يلوح لها أنني قد لمحت بكاءها. . . بيرلوتي

كتاب العصر

كتّاب العصر أحمد لطفي بك شخصيته - اطلاعه - مبادئه - أسلوبه - مستقبله (2) كل رجل عظيم أرادت به الطبيعة غرضاً سامياً من أغراضها الكبرى في الأرض يحمل في فؤاده شيئاً من عظمة الطبيعة نفسها التي أرسلته وهو لا يزال يعيش بروح الجندي، وإن لم يحمل سيفاً، لأنه خلق للقيادة والأمر، فهو يهبط على الناس بذهنه، فيقتادهم إلى الطريق التي يهتدي إلى سننها، طائعين أو كارهين، ولقد سيقت شعوب كثيرة إلى ما كانت تكره، لأنها لم تستطع أن تفلت من مغناطيسية القائد العظيم. ولعل العظيم في صورة الكاتب أكثر وسيلة إلى القلوب، وأقرب مدخلاً إلى الأرواح، لأن الناس يرون أمام أعينهم الزائغة القلقة الخائفة، رأساً عظيماً جباراً، وقلماً بديعاً ساحراً جذاباً، فإذا حاولوا الإفلات من ناحية، أمسكتهم الأخرى، وإذا سكن القلم يوماً، انطلق الرأس أياماً، وكم من كتاب في الدنيا سادوا على الأفئدة سيادة الملوك على مرافق الأمم، وإن لم يحملوا سيفاً، ولم يكن لهم سلطان من مال، أو سلطان من جاه أو دهاء أو خدعة مكر. والطبيعة تخلق في العصر الواحد كتّاباً كثيرين على الألوان المتعددة التي يصلحون لها، ولكنها لا تريد لهم القيادة، ولا تمنحهم الزعامة، بل تحبس كل هذا فتخص به رجلاً عظيماً واحداً، وتدع الباقين رسلاً له وحاشية وبلاطاً، أو أعداء وبغضاء ومنافسين، لتتم لها من أي واحدة منهما الغاية التي تطلبها، وقد يلذها أن يكون هؤلاء أعداء له، لأنها ستقف على مشهد من العراك العنيف بين القطة العظيمة والجرذان الصغار. وقد تضن أحياناً على أهل عصر من العصور بالكاتب القائد وتأبى إلا أن يعيش العصر أخرس صامتاً تلعب به قوالب صغيرة من الكتاب لا تملك اللولب النفسي الذي يسمو بالقواد والعظماء، وقد نرسل إليه نصف قائد، لأنها تكون إذ ذاك في شغل بإعداد القائد التام، فتخرج الأول ليكون مندوباً عن الثاني فقط، حتى يثب من أحشاء الزمن فيأخذ مكانه الذي هيئ له. وقد كان ذلك هو الحال في مصر، فنحن نعلم أننا مقفرون في العصر الأخير من القواد

الكتّاب، ولسنا نجري في سبيل من التفكير محدودة، ولا نجد وجهة في الحياة معينة، بل لا نزال نضطرب في أودية متشعبة، وراء كتّاب مجيدين، ولكنهم كما قلنا لم يؤتوا الأداة الرافعة التي تسمو بالقواد والأبطال، فنحن نصفق لمطلع كتاب حلو الأسلوب كما نهلل لمقال رائع الديباجة، ولكن كتاباً حلوة بأساليبه لا يغني شيئاً عن ظمأ النفوس إلى قائد مفكر، ولا يرد حاجة الشعب إلى أن يكون مقوداً، وقد يخرج ألف كتاب ممتع، فلا يكون منها إلا أن تزيد الناس حيرة في أمر حياتهم، وتضليلاً عن الطريق القويم، ولسنا نحتاج إلى كتب قدر احتياجنا إلى ذلك القائد، وإن لم يضع في حياته كتاباً، فقد كان قاسم أمين قائداً كاتباً مفكراً، فاستطاع بكتابين صغيرين أن يهتاج الأذهان ويثير التفكير ويفتح مغاليق الحياة الصحيحة الواجبة. هذا وقد كان لنا في أحمد لطفي بك السيد نصف قائد، لأنه لم يرتفع إلى مصاف القيادة الكاملة، وكانت الطبيعة نصبته لتنوير الأذهان ارتقاباً لمطلع الرجل العظيم الذي تهيئه للأجيال القادمة، فمنحته أشياء، وأمسكت عنه أشياء، فظل معلقاً ترتفع به مواهبه حيناً، وتكاد تسقط به المزايا التي تنقصه حيناً آخر، فهو لم يؤت تلك العظمة النفسية التي لا بد للقواد منها، ولم يصب من يد القوة الإلهية تلك الشخصية الكبيرة التي تحرك الناس كما تحرك اليد لعباً من الخشب، ولم يملك الإرادة الصلبة التي تصرع الأحداث وتخرج من صراعها أقوى منها إذ بدأته، بل لقد اضطرب في مواقف كثيرة كان يستطيع أي رجل من أقوياء الإرادة أن يثبت أمامها، ووضع فكرة في يومه، ثم جاء فنسخها في غده، وهذه جميعاً ليست من شأن القواد، لأن الإرادة العظيمة لا يختلجها خالجة من الترددات أو الوساوس أو التقلبات، لأنها تنبع دليلين قويين الذهن الخصيب والنفس المطمئنة. وقد كان قاسم أمين عظيماً في نفسه وكان فتحي زغلول كذلك، ولكن لطفي بك السيد دونهما في هذه العظمة، لأنه يعيش بروح رجل متوسط، وذهن رجل ذكي متوقد، ومن هذه المناقضة الغريبة في التركيب كثيراً ما يصطدم ذكاء ذهنه بعادية روحه، فيغلب الذهن يوماً، وقد تهزم الروح الذكاء حيناً، لأنها أعمق أثراً في الإنسان من ذهنه. ويلوح لنا أن أحمد بك لطفي السيد لم يقرأ كثيراً ولم يتوغل في الاطلاع، واكتفى بقراءة القديم، ولم يبعد في البحث عن الآراء الجديدة، ولم يقف هنيهة ليلقي نظرة طويلة إلى

الأفكار المتعددة المناحي التي تسوق الحياة اليوم، ولعله أخذ أكثر العلم عن مونتان ومنه استمد روح التفكير المنطقي، والنزعة السفسطائية، فقد كان مونتان نبي السفسطائية، وكان غريب المنطق والتدليل. وقد يذهب بخاطرك أن الرجل ذا الذهن الخصب القوي التربة قد يلقي جميع كتب الدنيا جانباً، ويكتفي بأن يظهر إلى الناس الصور الجميلة التي تلوح في مخيلته، إن حاجته إلى قراءة أذهان غيره تذوب ضئيلة أمام القوة التي لا تنفك تخرج من ذهنه في كل حين أثراً مبتكراً جديداً، ولكن الطبيعة تخشى أن تجعل لكل مفكر ذهناً إلهياً على غراره، يعيش بنفسه، ولا يستمد أكثر قوته من غيره، لئلا يضطرب نظام التفكير في الكون، ولا يسمع العظيم صوت العظيم، بل أرادت أن يكون العلم والفكر في الحياة متسلسلاً وأن يكون الذهن وليد الذهن، والفكر مبعث الفكر، وبذلك نما الذهن الإنساني فكان من نمائه ما نرى اليوم من ألوف النظريات والفلسفات ولو لم يقرأ هربرت سبنسر برليوز ورابليه وروسو قبل أن يتصدى لكتابه في التربية، لخرج الكتاب ناقصاً غير ممتع، وإن كان لا يزال يحتوي عظمة سبنسر وذكاءه. ولعل هذا هو السبب الذي جعل تفكير لطفي بك وخواطره لا تزال تبدو عليها مظاهر البساطة الأولى التي تكون للماس إذ يخرج من أحافير الأرض، فلا يزال يتطلب الصقل والتهذيب واللمعة الزجاجية الشفافية. وليس للطفي بك مبادئ فلسفية معينة وقواعد فكرية معروفة، فقد مر بجميع المذاهب العصرية السارية في أذهان أكبر رجال الفكر فلم تستوقفه أحدها، ولم يعج على شيء منها، ولم يقصر ذهنه على إشاعة مذهب واحد في بلاده، ولم يقف جهده وحياته للنضح عن فكرة فلسفية جديدة، بل كل ما نعلمه عنه أنه ذهب في حياته العمومية الماضية إلى جملة من المذاهب الخاصة، التي أخلق بها أن تسمى مبادئ سياسية، من أن نطلق عليها مبادئ فكرية، لأنها لم تحتج إلى شيء كثير من الفكر، ككل المبادئ السياسية اليومية التي تخطر في خلد الكاتب الصحفي، ثم لا ينى الزمن يثبت بعضها ويمحو بعضاً، فإن المصرية في اللغة ووزارة معارف أهلية، والاستقلال والانفراد عن العصبية الدينية، والعض بالنواجذ على العصبية الجنسية، وما إلى هذه المبادئ التي أكثر لطفي بك من الكلام عنها، وخابت

كلها، لم تكن في شيء من الروعة، وليست من العمق وبعد الغور وثقوب النظر إلى ما يرفعها إلى صف المبادئ الفكرية الجليلة، فلم تلبث أن نسيت وعفى الزمن عفاءه عليها، ولعل لطفي بك نفسه قد نسيها مع الناسين. وهذا ما يبعثنا على أن نقول أن لطفي بك ليس إلا كاتب رسالات أنيقة، عذبة، متعددة الموضوعات، مختلفة الألوان، وأنه كان يكتب كلما عنت فكرة، أو خطر موضوع أو وقع في الصحف جدل، أو مر في قراءته بخطأ رأي ويريد أن يصلحه، ولكن هذا ولا ريب ليس دأب الكاتب المتولي زعامة الفكر المشرف على عالمه الصغير من الكتاب. ولنقف الآن عند أسلوبه، فإن فضيلته كلها في هذا الأسلوب، وجميع شخصيته وعوارض نفسه ومنازع روحه متجلية في تلك المناحي، وهو يغلب عليه الشاعرية، وتمازجه روح فاتنة تستهوي الأفئدة، وإن كان خلاء من أساليب البلاغة، والمحسنات البديعية، إذ كان لطفي بك قليل المحفوظ منها، صغير الجعبة، ولكنه لو حفظ الكثير منها لأضربت به، لأنها تبدو إذ ذاك نابية بروحه، مبتردة الأثر في طي نفسه المتدفقة في قلمه، ولأضحى في أسلوبه رجلان، ومشي في ديباجته شخصان، كل منهما يعارض صاحبه، ويأخذ منه فضيلته، ليشوه من فضيلته، على أننا لا نزال نقول إن أسلوبه يعتريه الروح الخطابية، وتخالط لهجته الدفاع القضائي، فكأن كل موضوع أدبي لديه قضية في ساحة المحكمة، إذ يأخذ في شرح دعواها وتفصيل وجوهها، والخروج منها بالتفكير المنطقي إلى الغاية التي يتوخاها، وذلك يجعل أسلوبه متفككاً، مضطرباً ضعيف الأعصاب، مريض الشرايين، ولكنه لا يستطيع أن يغالب ذلك أو يحول دونه، لأن صناعته التي عاش الدهر الطويل عليها، ومهنته التي وضع يوماً روحه فيها وبذلت له أياماً روحها، تأبى عليه إلا أن يحتفظ بمادتها في أسلوبه ومناحي كتابته، وتصر على أن يظل بلفظة المحامي في تفكيره. ولعل هناك باعثاً غير الصناعة، ونعني بها العادة، وهي شديدة الأثر، كبيرة السلطان على الروح، فنحن نعلم أن لطفي بك السيد اعتاد أن يكتب وهو في محضر كبير من الزوار، ويرسل القلم يجري فوق الورق على أحاديث الندى وهم صافون من حوله ذاهبون في سبل طولي من الثرثرة والجدل والمناظرة، حتى لقد ترى المقال الواحد من مقاله يحوي صوراً عدة من الضوضاء التي كانت حوله عندما كان مسترسلاً في كتابته، فلا تكاد تطالعك قطعة

خاصبة فرحة بهيجة، تشعرك أنها إنما قد كتبت على صوت ضحكة فرحة أطلقها زائر من الزوار، أو ملحة أرسلها في المجلس ظريف من الظرفاء، حتى تهجم عليك قطعة أخرى صامتة حزينة قفراء، تدلك على أن سكوناً أليماً كان قد نزل إذ ذاك بالمجلس، أو تهويماً اختلج العيون، أو ثقيلاً غليظ القلب، مشوه الروح، عرض للندوة، فهربوا من غلظته بالصمت الأليم. والآن وقد طوى أحمد لطفي بك السيد الماضي وأصبح ذهنه البديع مجلداً كذلك في طي مجموعات الجريدة في دار الكتب، والآن وقد أمسك عن الكتابة، ورضي بالعيش في ظل الإدارة، وترك الحياة البديعة التي كان يعيشها، مع الشعب، في جناب الأدباء، حبيباً إلى النفوس، مقروءاً في كل حين، فهل ترون المستقبل كفيلاً بأن يعيد إلينا نشاطه الأول الذي كان في ماضيه، ويغني عنا ما فقدناه من فترة حاضرة، وهل تظنونه واضعاً بعد اليوم كتاباً مخلداً بعده، أو مخرجاً أثره يبقي آخر الحياة فخماً مهذباً سامياً على أثره. إننا نعيش تحت جو حار يذبل عاجلاً فيه الذهن، وتخمد بسرعة القريحة، ولا يكاد الكاتب المبدع يجتاز الخمسين حتى يحس ذهنه متبلداً، ورأسه أشيب ناصعاً وخواطره قرة باردة، لا تلذ إلا في جلسات العجائز، حول الموقدة، فإذا لم يعن المفكر بنفسه ويتخذ الحذر لقريحته، ويسارع في وضع ما يعن له من تواليفه، ويستبق الخطى إلى الخلود قبل أن نعجله شيخوخته، فلا يلبث أن يرى الزمن يفر مسرعاً من بين راحته، ويمضي الحياة بلا تراث ذهني يذكره الناس به. وكذلك نخشى على لطفي بك فتوره الوقتي اليوم، ونخاف تبلده وسكونه، ونشفق من أن يمضي عن الحياة مدير دار الكتب لا غير. . . . . .

الاشتراكية

الاشتراكية لقد بلغت الاشتراكية اليوم شأناً عظيماً من القوة والمنعة والبأس حتى أصبحت رهيبة الجانب يخشى بأسها ويخطب ودها وأمست الحكومات الأوروبية تتزلف إليها خصوصاً في هذه الأوقات العصيبة المملوءة بالمصائب والمحن. وويل للحكومة التي تغضب عليها الاشتراكية وتتخلى عن مساعدتها وتناوئها العداء فإنها تسقط لا محالة مهما كانت قوتها وثقة الأمة بها. ولا عجب فعدد الاشتراكيين عظيم جداً في البلاد الأوروبية، ولا يزال آخذاً في الازدياد، ولا يعلم إلا الله متى يقف نموها. وقد عثرت على إحصائية يرى منها الإنسان مبلغ قوة الاشتراكية فآثرت نقلها يطلع عليها القارئ، وبذلك يمكنه أن يقدر الاشتراكية حق قدرها، وقد بلغ عدد الاشتراكيين في ألمانيا حسب انتخاب 1907 - 3250768 ولكن منذ ذلك الوقت ذاعت حركة الاشتراكية ونمت وربت وأقبل عليها المريدون من كل أنحاء ألمانيا حتى بلغوا 4238919 في انتخاب سنة 1912 وبلغوا في فرنسا 1106470 وفي النمسا 1041946 وفي انجلترا 338885 وفي بلجيكا 483240 وفي إيطاليا 338885 وفي فنلاندا 316951 وفي سويسرا 100000 وفي الدانيمارك 88721 وفي النرويج 90000 وفي هولندا 82000 وفي السويد 75000 وفي إسبانيا 40000 وفي بلغاريا 13360 وفي صربيا 3056 فيكون مجموع الاشتراكيين في أوروبا 7554290 وفي الولايات المتحدة 442483. وإلى القراء جدولاً مبيناً فيه عدد النواب الاشتراكيين في كل بلد من البلاد الأوروبية ونسبتهم إلى مجموع الأعضاء النيابيين من كل مجلس: اسم البلدعدد النواب الاشتراكيينعدد أعضاء المجلسالاشتراكيةفنلاندا8620943 % السويد3616521. 81بلجيكا3516621. 08الدانيمارك2411421. 05لوكسمبورغ104820. 83النمسا8851617. 06فرنسا7658413. 01النرويج111238. 94إيطاليا425088026هولندا71007بريطانيا العظمى406705. 97سويسرا71704. 11روسيا174423. 82صربيا11600. 72إسبانيا14040. 25أما في ألمانيا فقد بلغ عدد النواب الاشتراكيين حسب انتخاب 1912 - 110 فتكون نسبتهم 36 %.

وقد تغيرت هذه النسبة من ذلك الحين تغيراً عظيماً فلا تطابق الواقع الآن في كل البلدان الأوروبية ولكنا أتينا بها لأننا لم نقف على إحصائية أحدث منها. ولكن قوة الاشتراكية غير آتية من كثرة عدد المتشيعين لها فحسب وإنما هي آتية على الأخص من تمكن رسومها في نفوسهم وقوة تمسكهم بها. إن كثرة العدد لا تغني شيئاً إذا كانت العقيدة ضعيفة والنفوس غير مشتعلة بنار اليقين ولم نر عملاً عظيماً قام على أساس مكين كالعقيدة المتينة. إن العقيدة المتينة دينية كانت أو سياسية هي حجر الفلسفة التي تصير الضعيف قوياً والجبان شجاعاً، هي تضرم في النفوس نار الأقدام وتحملها على عظائم الأمور وهيهات أن تقف في وجهها عقبة من غير أن تكتسحها من طريقها أو تعلو عليها ثم تنحدر عنها وهي أشد قوة. تمنى الاشتراكية العالم بالخير العميم والسعادة التامة والهناء الرغيد والسلام الدائم المبني على المساواة بين الأفراد والأمم وتحاول أن تقضي على أسباب البغضاء والكراهية بإلغاء الملكية الفردية وإحلال الملكية الاجتماعية مكانها وتوزيع الناتج من الأرض وعمل الإنسان على الأفراد بالتساوي. وهذه النظريات خلابة تروق الأبصار وتعجب بها النفوس الشعرية وتغوي الفقراء والمعدمين، فلا عجب إذا أعجب بها القوم واستماتوا في الدفاع عنها كما يستميت المؤمن في الذب عن دينه، وإذا نحن رأينا صوت الاشتراكية مسموعاً في كل مكان، ولو أن الاشتراكيين لا يزالون الأقلية في كل المجالس الأوروبية كما هو ظاهر من الجدول السابق فنسبتهم في فرنسا 13 في المائة ومع ذلك يحدثون من الشوشرة والضوضاء ما تهزله أركان مجلس النواب الفرنساوي وترتعد له فرائض الوزراء، وكم من مرة سقطت الوزارة الفرنساوية لتخلي الاشتراكيين عنها. لهذا كانت دراسة الاشتراكية والوقوف على أمانيها وأغراضها وإمكان تطبيقها لا يخلو من لذة وفائدة خصوصاً في هذه الأوقات التي هب فيها الاشتراكيون يزأرون وقد ظنناهم تلاشوا أو ضعفوا بسبب ما أصابهم من الصدمات الشديدة حين إعلان الحرب الأوروبية الحالية، ويحاولون أن يحدثوا أمراً وتأبى حكومات الحلفاء إلا أن تسير في طريقها حتى

يقضي الله بما هو قاض ومن هنا أخذنا في درس الاشتراكية درساً تاماً دقيقاً وإذاعة ذلك بين قراء البيان مذ العدد القادم إن شاءالله. عبده البرقوقي المحامي

مختارات

مختارات قال ابن الرومي: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها يهدد وقال: قد حدثت في دهرنا أنفس ... تستبرد السخنة لا الباردة كما تعاف الطيب المشتهى ... من الطعام المعدة الفاسدة وقال: عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب وقال: يمل كل شراب من يعاقره ... وشارب الراح مشغوف بها عانى كريقة المرء لا تنفك من فمه ... وما يمل لها طعماً لإبّان يقول إن شارب الراح لا يتلها أبداً فهي كالريق الذي هو دائماً في فم الإنسان وما يمل طعمه في وقت من الأوقات. وقال: لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضل عن الهدى وتحور وهن كآنية الزجاج تصادمت ... فهوت وكل كاسر مكسور وقال: نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عني فكدت أهيم ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم وقال يهجو: أتظن أنك لو مسخت ... بلغت قبرك أو قرابه بؤس لمن قد خاض ظلك ... ثم لم يسلخ إهابه وقال أبو تمام في الخمر:

راح إذا ما الراح كن مطيها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء صعبت وراض المزج سيء خلقها ... فتعلمت من حسن الخلق الماء خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت كذلك قدرة الضعفاء وقال: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود ينظر إلى هذا المعنى قول بعضهم: في الناس من لا يرتجى نفعه ... إلا إذا مس بإضرار كالعود لا يطمع في ريحه ... إلا إذا أحرق بالنار وقال المعري: وخف بالجهل أقوام فبلغهم ... منازلاً بسناء العز تلتفع أما رأيت جبال الأرض لازمةً ... قرارها وغبار الأرض يرتفع وقال: تحفّظ بدينك يا ناسكاً ... يرى أنه رابح ما خسر فلست كغيرك أطلقت من ... حياتك بل أنت عانٍ أسر وللسبك رد كسير الزجاج ... ولا يسبك الدر أن ينكسر ولا تيأسن من الملك أن يعود ... إذا جيش قوم كسر فقد يرجع القمر المستنبر ... مقتبلاً بعد أن يستسر هو الدهر يفنى ونفسي على ... وناها وكون مناها عسر وكم فيك يا بحر من لؤلؤٍ ... ولكن لجّك لا ينحسر فأكره على الخير مجبولةً ... على غيره في علانٍ وسر فلم يجعل التّبر حلي الفتا ... ة حتى أهين وحتى كسر

رسائل النساء

رسائل النساء أو صورة فلسفية من روح المرأة مارسل بريفوست، من كبار كتاب فرنسا، وروائييها الطائري الصيت، وأحد أعضاء الاكاديمية الفرنسية، قصر كل مقدرته الكتابية على تصوير نفوس النساء في جميع مراحل العمر، وبحسب أماكنهن في الحياة، فأجاد في ذلك الإجادة كلها، وعرف بهذه البراعة المدهشة، وخير تواليفه رسائله التي كتبها على ألسنة السيدات إلى عشاقهن وأحبابهن أو إلى معارفهن وكاتمي أسرارهن، من المرأة المخادعة زوجها، والسيدة الضاحكة من عشاقها، واللاهية بخدع رجلين في آن واحد، وما إلى تلك الصور. ونحن نعرب هنا الآن رسالة من تكلم الرسائل الرقيقة، وهي من ممثلة إلى ضابط مفتون بها، وفي هذه الرسالة طائفة من المعاني الفلسفية، والحجج الغريبة في الحب، والفتنة العمياء، وعبث المرأة الساقطة بالقلوب. الضابط من مدام فيكتوريا لانسيني إلى مسيو جورج بريانشو لقد كتبت إليّ إحدى عشرة مرة يا سيدي منذ جئنا لنمثل في بلدتك، وكانت الرسالة الأولى تحوي ما معناه سأكون هذا المساء في الصف الثالث بعد مقاعد الموسيقى الوترية، في الناحية اليمنى من الملهى وستعرفينني من ثوبي العسكري، ثوب ضابط في المدفعية، وستتبينين من الوردة الحمراء التي وضعتها في عروة ردائي المحب، المفتون بك المدله في الصمت. . . .، وقد رأيتك حقاً، ولكني لا أقول أنني تأملتك ملياً وأنعمت فيك النظر، فإن التلفت والخروج عن طور التمثيل خطر مرعب فوق المسرح، ولكني لمحت هناك ضابطاً شاباً بديع المعارف في ذلك المقعد الذي عينته، تطل من عروته تلك الوردة القرمزية التي هي أشبه شيء بالوسام المجيد. وفي اليوم التالي إذ عدت إلى الملهى لحفظ أدواري ومراجعتها، دفعوا إليّ رسالة جديدة ممضاة منك، فإذا أنا أمام أربع صفحات حشدت فيها أبدع ما قرأته في حياتي، فقلت إنك تعاني الألم الأليم من حبك إياي عن كثب وأنه ينبغي لك أن تراني، وتحدثني وتقضي من

الحين إلى الحين بضع هنيهات على مقربة مني وفي مجلسي ولا تطلب أكثر من ذلك، وقد أقسمت لي بشرف رجل عسكري أن ذلك يكفي لكي يجعلك أسعد ضباط فرنسا بأسرها. وأنا عليمة يا سيدي أنك ولا ريب قد حكمت عليّ سوءاً ورميتني بفساد التربية إذ لم أجب بسطر واحد على صفحاتك الأربع، ولكن ماذا تريد غير ذلك مني، لطالما تلقيت أشباهاً لهذه الرسائل ونظائر، ولم يكن لها من تأويل عندي إلا هذه الفكرة إن هذه القينة قد تستمال، إنني رجل شاب، ولست غنياً، فعلام الخوف ولا جزف ثمة ولا مخاطرة، لنجرب!. . . . فلم أرد على رسالتك، فرحت تكتب إليّ غداة كل يوم رسالة، وجعلت أتلهى في الصباح بتصفحها من المطلع إلى الخاتمة، وكانت رسالتك كل يوم تبدو أقل احتراماً في لهجتها وتهيباً، وأكثر حرارة وولعاً وتوقد، وجعلت تقول أنك تعرف السبب الذي من أجله أصد عنك وأعرض، ذاهباً إلى أن ضابطاً في المدفعية ليس شيئاً مذكوراً وليس رجلاً مثرياً. . . ولكنك أردفت ذلك بقولك إنك خليق بالعناية وإنك أرفع من هذا قدراً، لأنك انحدرت من أصلاب أسرة شريفة في الريف، وإنها لاتزال على شيء من الخير والرزق وأنك ستصبح معلماً ذات يوم، وهي مكانة سامية، إلا إذا كنت أنا أفضل أن تظل في الخدمة العسكرية لكي تصبح ضابطاً عظيماً. فماذا تظنني أجيبك على هذا، إني أسألك ذلك وألتمسه إليك، كان هناك في الإمكان جواب واحد، أليس كذلك، وهو يتلخص في هذه الألفاظ إنني أرتقبك في هذا المساء! ولكني لم أكن أريد ذلك، ولم أكن أستطيع أن أجيبك بمثل هذا، وسأبسط لك الآن السبب. فعمدت إلى وسيلة أخرى، إذ بدا لك أن من السذاجة وبلاهة الفؤاد أن يكثر الإنسان من لغة العاطفة مع امرأة على شاكلتي، فوضعت في غلاف خمس سفاتج من ذات الألف فرنك، ومع الخمسة آلاف هذه الألفاظ في قطعة صغيرة من الورق: الضابط بريانشو يود أن يرقد ليلة الغد مع مدام لانسيني، الرد منتظر. . . .، وكان الرد بسيطاً للغاية وهو إرسال خمسة آلافك إليك في التو واللحظة. ولما كنت رجلاً ذا قلب، وشاباً من أهل الخير، فقد علمت أنك قد ارتكبت أمراً نكراً إذ أهنت امرأة - قد لا تكون امرأة شريفة - ولكنها امرأة ليس لك عليها من حق أو سلطان. ولعل أبدع كتبك عندي وأشدها تأثيراً أخيرة رسائلك، تلك التي سألتني فيها الصفح

والمغفرة، وإن كنت ختمتها بتهديد، إذ قلت إنني أرى أنك لن تحبيني يوماً، بل إنك لتكرهينني الآن إذ أهنتك، ولكني أعلم ماذا بقي عليّ أن أفعل، إنني سأنتظر حتى مساء الغد، فإذا لم أتلق في مساء الغد كتاباً منك ينبئني أنك ستكونين لي فلن أكون غداة اليوم التالي إلا جثة هامدة، الوداع يا سيدتي، لتنسي الضابط بريانشو وتروحي في الحياة سعيدة!. رباه! إني أعلم أن هذه الكلمات كثيراً ما تكتب دون أن يكون هناك أية نية على إنفاذها، ولكني رأيتك مضطرباً في كتابك متألماً، وشاهدتك في مقعدك وراء الموسيقى أصفر شاحباً، ثم خمسة آلاف فرنك هذا القدر الكبير على ضابط صغير في مرتبتك، هذا القدر الذي لا يعرف أحد غير الله كيف جئت به، كل ذلك قد أزعجني، وأخافني، وأشفقت من أن تنفذ وعيدك، فلم يسعني إلا أن أرد عليك في هذه المرة. . . . . . إنك تسألني أن أكون لك وتحفل بذلك أكثر من احتفالك بالحياة، ولكني لا أستطيع يا بني أغضبك بالحكم على ذوقك. . . بل إنه ليعد ملالي وتغالياً، ولا تظن أنك دميم في عيني، كريه إلى ناظري، بل إنني لأراك آية الرقة وروعة الحسن، ولعل في هذا ما يرد عليك عزة نفسك ويرضي خاطرك، ولكني الآن أقول لك أن هذه الرغبة التي أثرتها في فؤادك، طالما ثارت كذلك منذ خمسة وعشرين عاماً قضيتها فوق المسرح، في قلوب عدد كبير من الرجال، شباباً وكهولاً، وأشراراً وأخياراً، وفقراء ومثريين، وكانت هي الضرورة التي خلقتها صناعتي وشهرتي، ولكني أقسم لك أنها لم تكن لديّ في شيء من الأهمية، ولاسيما إذ تعدو الشيخوخة، ويحل الضعف، وتتقدم السن، كحالي اليوم، فإن لي ولداً يناهز الربيع التاسع عشر، ويبدو لي الآن ولع الرجال بي وتوثبهم ضرباً من التحية اللازمة فقط. ولكنك ستقول ولكني أحبك بقلبي وأحس أشد العذاب في حبك، وأوثر أن أموت. . . . ولكنك مع ذلك ستقنع ولن تعود بك حاجة إلى الانتحار إذا أنا وهبتك خلوة في سبيل خمسة آلافك، وإنني إذا منحتك نفسي في هذا المساء فستأذن لي غداً بالسفر في جولة للتمثيل. إنني أعلم هذه النزعة الشديدة التي تلهم الشباب لأجل امتلاك مرأة من نساء المسرح فإنهم يحتاجون إليها مرة واحدة، ثم تهدأ ثورتهم فلا يحفلون بما يكون مصيرها بعدها. ستقول كلا، أليس كذلك، لست هذا الرجل، إن لحظة لذة لا تهدئ ثائرك ولا تبرد حرارتك،

إذن فينبغي يا بني أن لا أمنحك هذه اللحظة، بل أقول لك أنني مخافة أن تكون حقاً في حبي أرفض اللقاء بك لأنني لا أود أن تحبني إذ لا يجب أن تحب وأنت في سنك هذه الناضرة إلا سيدة شابة تصلح لك أو المرأة التي ستصبح زوجك، ولكنك إذا تركت فؤادي ينطلق في حبي فأي مستقبل لك تؤمله، إنني لا أستطيع أن أعيش في ظلك، فهل أنت تابعي وسائر في أذيالي إلى أي مكان أريده أم هل مقدم على المسرح فتكون ممثلاً، وتترك السيف والجند، أو تكون رفيق ممثلة يتبعها في جولاتها ولو فعلت ذلك لألفيت نفسك بعد أيام قد ضحيت كل شيء لأجل امرأة عجوز. نعم لقد كنت من قبل حسناء فاتنة ولكني أعترف أنني لم أعد اليوم في شيء من ذلك الحسن ولا على شيء من تلك الفتنة، فأزل عن عينيك تلك الصورة التي تخدعك منها المساحيق والطلاء والأثواب، وتأثير الأضواء وسلطان الموسيقى بل إنني لأكاد أبكي ألماً إذ أتصور العذاب الذي سيثور في نفسك لو رأيتني على حقيقتي، وشهدت ما أصارتني الخمسون ربيعاً التي أعض الآن عليها. ثم تصور أن الحقيقة لا تبدو لك إلا بعد ما قد امتلكتني وتمتعت بي، وإذ أكون قد بدأت أنطلق في حبك، وتكون أنت قد بدأت لا تود إلا أن تفر هارباً وتعتصم مني بالنسيان. كلا، لا يصح لي أن أقدم على هذه المخاطرات، وخير لي وإن كنت على الخمسين أن أكون رفيقة رجل مالي شيخ فإن ذلك من صناعتي، ولا خطر فيه على الفؤاد، ولكني لا أريد عاطفة شابة حارة مضطرمة وأنا في هذه السن فليس لديّ ما أبادلها به ولا أستطيع لها إمساكاً ولا بها احتفاظاً. فهل أدركت الآن أن كل ذلك في صالحك، وأنه لا يثقل عليّ مطلقاً أن أهب نفسي ليلة إلى ضابط شاب جميل وقد رأيت أن أرسل إليك مع رسالتي هذه صورتي الشمسية التي صنعتها منذ خمسة عشر عاماً، إذ كنت في عيني عشيقي المرأة الحسناء التي وهمتها فوق المسرح فاحتفظ بتلك الصورة فهي دليل على أنني لم أحقر حب ضابط صغير ذي وردة حمراء في عروته. فشجاعة يا بني صبراً، فقد كان حقاً على أن أحدثك جميع هذا الحديث، وإذا أردت أن تعلم ما بعثني على أن أتشجع فأدلي إليك به فإنني منبئك. .

إنني إذ تلقيت تلك الرسالة التي حدثتني فيها عن نيتك في الانتحار كنت أفكر في طفلي الذي يوشك يخرج من الجامعة ويلتحق بخدمة الجيش كذلك، وقد تخيلته في لباس الجند مثلك، في مدينة من مدائن الريف، مذهوب الرشد بمغنية مثلى، أواه أينتحر لا جل ذلك أو يفر من الجندية أو يستلب أو يشوه مستقبله! إني أرجو الله أن يحفظه جزاء لي إذ أنقذتك وحفظتك اليوم. أيها الأحمق، أمل إليّ وجنتيك أطبع فوقهما قبلتين مستطيلتين، من تلك القبلات التي تهبك إياها والدتك. . . . .

تشخيص الأمراض

تشخيص الأمراض بواسطة الأحلام في هذا المقال الذي سنبسطه للقراء أمل للضعفاء الذين يعانون آلاماً من أمراض النفس ويشعرون أنهم يعيشون أقل من الحياة الصحية الكاملة، وذلك أن العلم الحديث عمد الآن إلى ما سموه تحليل النفس، وهو لا يحتاج إلى شيء من الأدوية والعقاقير، ولا يبحث فقط عن أعراض الأمراض، بل عن مسببات هذه الأعراض وأول مبادئ هذا التشخيص أن الأعراض ليست ناشئة عن سبب جثماني، والخطوة الثانية أن مبعثها الأول في النظام النفساني للشخص، وأن استقصاء هذه البواعث يجب أن يكون بدرس أحلام المريض، وجملة القول إن هذه النظرية الحديثة تذهب إلى أن الحاسة الشهوانية هي سبب كثير من أمراضنا الخطيرة الحاضرة. وهي تقسم الأمراض إلى عدة أقسام، أولها الأمراض الذهنية أو العصبية التي مبعثها البدن، كالفالج ووجع المفاصل أو تصلب الشرايين وما إليها من تلك الأمراض التي تدل على تهدم الأنسجة العصبية والتي ترجع مباشرة إلى أصل جثماني، وهذه لا يتداخل فيها الطبيب الحديث الذي يعالج الأمراض من ناحية الأحلام إذ لا شأن له بالأمراض التي ترجع إلى أصل بدني على أن كثيراً من هذه الأمراض لا يزال يرجع إلى سبب نفساني، وإن كان السبب البدني حقيقياً ولكن أصلها لا يزال نفسانياً، فقد تجد مريضاً طريح الفراش دهراً طويلاً من أثر الفالج، والحقيقة أن هذا الفالج الوهمي يرجع إلى الهستيريا وقد تعاني إحدى السيدات الألم من وجع المفاصل أو الربو، ولا سبب هناك لذلك إلا الهستيريا، وهذه لا باعث لها إلا حالة من حالات النفس. وإليكم تفاصيل حادثة نشرها طبيب من هؤلاء الأطباء تمت إلى هذا التحليل الجديد بسبب: المريض سيدة مكتملة الحياة كانت مصابة بالفالج في ذراعها منذ ثلاث سنين حتى لقد كان الأطباء يغرزون الدبابيس في تلك الذراع فلا تحس المريضة أدنى ألم، ولكنهم إذا حاولوا مد هذه الذراع صرخت المريضة وشعرت بأشد الألم وحار الأطباء في كنه هذا الألم ولكن المريضة كانت تعرف أنها منذ اثنين وعشرين عاماً تعاني آلام الهستيريا. وأوجب الواجبات في هذا التشخيص النفسي هو اشتراك المريض والطبيب في العمل

للوصول إلى النتيجة المطلوبة، وتأسيس رابطة بينهما وثيقة. فلما رأى طبيبها أن هذه الرابطة قد بدأت تستحكم بينهما قال وهو يقترح عليها بكل لطف نبئيني بجميع أحلامك. على أن المرأة لم تكن تؤمن كثيراً بالأحلام، بل كانت كذلك تظن أنها لا تحلم إلا قليلاً، بل لا تحلم مطلقاً ولكن لم تكد تمضي بضعة أسابيع حتى بدأت تكتشف صوراً من الأحلام تمر بخاطرها فجعلت إذ تفيق من نومها تدونها في كتاب ليقرأها الطبيب وكانت ترى هذه الأحلام تافهة فارغة طائشة حتى أنها لم تكن تود أن تتذكرها ولكن كانت تخشى أن تسيء إلى طبيبها، وما كان أشد دهشتها إذ تراه يرضى بهذه الأحلام، ويفهم منها أشياء لا تفهمها، ثم لم يلبث أن انطلق يذكر لها أشياء عن حياتها كانت تعلم أن ليس هناك إنسان يعرفها، وحوادث دفينة في أعماق نفسها حتى لقد نسيت أنها وقعت لها يوماً ولم يلبث الطبيب أن راح يلتمس أثر الضربة التي أفلجت ذراعها في ماضي حياتها، وعاد يذكرها بخيانة زوجها لها، وإغضائها عن هذه الخيانة، وتجاهلها مع أنها كانت بينة ظاهرة أمام الجميع وعاد بها إلى مصدر تلك الاضطرابات العصبية التي كانت تثيرها الحالة النفسية. وهكذا كان ذلك هو تشخيص مرضها، وكان أيضاً العلاج، لأن التحليل في هذه النظرية الجديدة هو التشخيص والدواء معاً، وهذه هي فضيلة هذا التشخيص، فلم يكد ذهن هذه المريضة ينفتح على ذكرى حادثة وقعت لها وهي في الخامسة من عمرها حتى ذهب عنها المرض كما جاء. ولم يتأت هذا التحليل النفساني العميق في لحظة أو جلسة واحدة، بل كان علاجاً استغرق زمناً طويلاً ولم يكن إلا على شكل أحاديث ومحاضرات يلتقط منها الطبيب قطعاً من أحلامها فيربطها بعضها ببعض، وكذلك جعل يتوغل أسبوعاً فأسبوعاً وشهراً فشهراً في صميم حياتها المنسية البعيدة، حتى تبين له أولاً أحداث حياتها المحزنة، ثم بدت لها هي كذلك بعده، بواسطة الطبيب، إذ بدأ يريها بصيصاً ضعيفاً من معنى أحلامها، ثم لم تلبث بعد حين أن تربط هي هذه المعاني بعضها ببعض وأخيراً جعلت هي تقوم بتحليل نفسها، وهذا مبدأ هذا العلاج الجديد، إذ ينبغي أن يشترك الطبيب والمريض في التحليل النفساني، فما كان ذلك، لم يلبث أن زال عن ذاكرتها النقطة السوداء التي كانت غائبة عنها، فكأنما

كانت هذه الحادثة خثرة متجمعة في ذهنها، فلما زالت، زال الفالج. وهذه المرأة هي مثال من الأمثلة التي يستحيل فيها المرض إلى الهستيريا فإن ذكريات ذهنها الفظيعة المؤلمة التي زالت عن الذاكرة بقوة الإرادة تحولت فيها إلى هستيريا وأصابت الجسم بالآلام التي تحصن ذهنها منها وكذلك ترى الهستيريا تحول الألم من الذهن إلى ألم جثماني. والنوع الثاني من الأمراض التي يختص بها الطبيب الذي يعالج النفس هو النروستانيا، وهو لا يعتبرها ناشئة عن حالة ذهنية، ولكنه يرجعها إلى العادات الشخصية التي يسلكها المريض المصاب بها في الحياة. والخلاصة أن الأطباء الأخصائيين في هذا النوع من العلاج يذهبون إلى أن أحلامنا هي قصص رغباتنا وللاقتناع بصحة ذلك يجب أن ننظر إلى الأماني اليومية التي يشعر بها الأطفال فإن الطفل يود لو ظفر بالقمر وتدانت النجوم إليه ويجب أن تكون له الخيول التي تمر في الطريق، وكل ما يرى أو يسمع، ولما كان أكثر رغباته غير مستطاع التحقيق، اضطر إلى أن يخلق أشياء في ذهنه، ومن ذلك نشأت اللعب والعفاريت والأمراء والملكات والقواد. فإذا انتقلنا من رغبات الأطفال في يومهم إلى أحلامنا نحن الكبار ونحن نيام، فلا نلبث أن نجد أننا إنما نكبر تلك الأحلام الصبيانية التي كنا نشعر بها في طفولتنا، فالفقراء منا يحلمون بالثروة والمرضى بالعافية والمهاجرون بالأوطان والجائعون بالشبع والأطباء النفسانيون يؤمنون بأن لكل حلم معنى وأن الأحلام هي مدلولات حوادث معينة وقد استطاعوا في علاجهم النقائض والعلل الأخلاقية الوصول إلى نتائج مدهشة، ومن ذلك أن محامياً شاباً جاء إلى استشارة طبيب مشهور في مدينة كبرى من المدائن وكان في حالة عصبية مزعجة وهو يشكو أنه لا يستطيع عملاً البتة وأنه قد ذهب أياماً إلى مكتبه وحاول بنشاطه المعتاد أن يؤدي عمله فلم يستطع إنجاز شيء منه، وعدا هذا العجز الفجائي إلى حياته الأدبية بل إلى أحاديثه وجملة القول كان يشعر بأنه قد تحطم كلية، فلما استطاع تذكر بعض أحلامه، خفّ ما كان به. وتفصيل الأمر أنه كان يشتغل عند محام شيخ طويل العهد بصناعة المحاماة، وكان هذا

الشيخ يشرف على بعض تركات وأوقاف طائلة، وكان قد رفع العمل الخاص بها إلى مساعده الشاب، ولم يلبث أن توفى المحامي الشيخ، فلم يبق إنسان يعرف دخائل تلك الأوقاف إلى المحامي الشاب، فدلت أحلامه على منشأ اضطرابه العصبي، إذ كان كل حلم منها يدل على نزاع حاد قائم بينه وبين نفسه. فلما أتم طبيبه تشخيص مرضه قال له، إن بك نزعة إلى استلاب هذه الأوقاف أن نفسك تحدثك بوضع يدك عليها، ولكن ضميرك قذف جانباً هذه الإغراء، لأنك رجل شريف عدل، ولكنك تريد أن تقدم على ذلك، وأنت لا تشعر وهذه الحرب الناشبة في دخيلة نفسك قد حطمت جهازك العصبي. فتبين للمحامي أن تلك هي الحقيقة وشكر للطبيب هدايته. ولهذا العلاج الجديد مزية كبرى وهي تحصين الفرد من الخطر القادم فهو يقول لكل شخص أيها الإنسان، عليك نفسك احتفظ بها، إنك تشغل ذهنك بأمور تؤثر في نشاطك الحيوي، وإذا وقع لك اضطراب عصبي، فالتمس إيجاد السبب في نفسك وهو يقول للآباء احتفظوا بأبنائكم وحصنوهم ولا سيما من أنفسكم، من الإكثار من حبهم وتدليلهم أو تأنيبهم ومن الصدمات النفسانية ومن المشاهد التي تؤثر على شعورهم الغائب في وقت يكون فيه هذا الشعور هو أشد ما يكون في الطفل وأكبر العناصر المؤلفة لخلقهم في الحياة.

متفرقات

متفرقات أسرار الدول كيف تصل إلى السفراء من أكبر الصعوبات التي تزاولها الدول في هذه الحرب، الطريقة التي تتبعها في الاحتفاظ بأسرار سياستها الخارجية، إذ لا تجد سراً من أسرار الحكومة يدون عند بدئه في ورق أو يستنزل من القلوب إلى الأقلام، اللهم إلا في الظروف النادرة عندما يراد عرضها على الندوات التشريعية ورفعها إلى الملك، حتى إذا أقر ديوان الحرب على أمر هام من أمور السياسة الخارجية المزمع عرضه على إحدى الدول المحايدة، فكرت السلطة في كيفية إيصاله إلى سفيرها في تلك المملكة، وإذ ذاك يدون السر في الورق ولكنه يكتب على طريقة من طرق الرمز متبادلة بين الحكومة وذلك السفير، والموظفون الذين يقدمون لعمل تلك الرموز هم عمال أمناء لدى الحكومة موثوق بهم وكثيراً ما يتناولون خمسمائة جنيه أو سبعمائة عن الطريقة الواحدة التي يخترعونها. فإذا تم كل ذلك وأعد السر لإرساله دفع إلى ساع من السعاة الذين يطلق عليهم سعاة الملك وهو يحمل جعبة لها قفل سري، ولهذا القفل مفتاحان فقط، أحدهما لدى وزارة الحرب، والآخر لدى السفير، وعليه أن يفتح الجعبة بنفسه أو يدفع ذلك إلى كاتم أسراره، عند وصول الرسول إليه. وأنت ترى أن السفر من إنجلترا إلى الممالك المحايدة من المشقة والخطورة بمكان في هذه الحرب، لأن الرسول يظل على أعين الجواسيس ومرتقبهم وعلى الرغم من أن الساعي أو الرسول يسافر في خفية وهو شاكي السلاح مدجج، قد لا يزال في خطر من شرهم وهو أبدا يجلس في قطار السكة الحديدية في بهو خاص به، وعليه أن يضحي حياته ويبذل نفسه قبل أن يكره على النزول عن السر الذي في جعبته وتقديراً لعمله يتقاضى مرتباً قدره أربعمائة جنيه في العام وبدل سفرية قدره جنيه في اليوم، وقبل أن ينتخب لهذه الوظيفة الخطيرة، يجب أن يندبه لها موظف من كبار موظفي الحكومة يأخذ على كاهله المسؤولية عنه ويضمن للحكومة أمانته والوثوق به. فإذا وصل الرسول إلى السفير يحمل سراً فليس أحد سوى السفير أو كاتم أسراره يستطيع

أن يأخذ الجعبة من الرسول، وفي كل سفارة حجرة حديدية يخثزز فيها المعتمد رسائل الأسرار الخطيرة، ولا يحتفظ أحد بفاتيحها غيره ولا يسمح لأحد بدخولها سواه، ويبقى حولها الحراس ليلاً، حفاظاً عليهم أمناء، ولهم أن يطلقوا الرصاص على أي مهاجم، ولهذا ترى الدول الغربية ما عدا بريطانيا وإيطاليا لا تأذن لأي عضو من أعضاء سفاراتها الخارجية أن يتزوج بأي امرأة من نساء المملكة التي يخدمون بها.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة ماجدولين - ابن الرومي - ديوان رامي 1 ماجدولين أهدى إلينا صديقنا الكاتب الأديب السيد مصطفى لطفي المنفلوطي نسخة من كتابه الذي أسماه ماجدولين أما السيد المنفلوطي ككاتب فسيفرد له البيان مقالاً على النحو الذي نحوناه في الكلام على أحمد لطفي السيد بك، وأما هذه ماجدولين فقد قلنا في العدد الماضي أنها للكاتب الفرنسي ألفونس كار واسمها الأصلي - تحت ظلال الزيزفون - أملاها على السيد حضرة صاحب العزة محمد فؤاد كمال بك ثم صاغها السيد هذه الصياغة التي هي آية في الإبداع بعد أن تصرف فيها بالحذق والزيادة حتى أصارها كأنها من وضعه لا من وضع ألفونس كار، وهذا ضرب من ضروب الترجمة يشبه لاقتباس، فنحث القراء على اقتناء هذه القصة الفلسفية المؤثرة التي هي من أبدع حسنات السيد - وثمنها 15 قرشاً صاغاً وهي تطلب من جميع المكاتب. 2 ديوان ابن الرومي كان من أكبر أماني الأدباء والمتأدبين أن يطبع ديوان هذا الشاعر الكبير المنقطع النظير قبل أن تعبث يد العثّة بتلك النسخة الخطية الوحيدة الموجودة في دار الكتب السلطانية، فانتدب لهذا العمل العظيم وزير الكبير والعالم العامل حضرة صاحب المعالي أحمد حشمت باشا وزير المعارف الأسبق واستقل بطبع هذه الديوان على الرغم من الصعاب التي تكتنفه من نحو غلاء الورق وطول الديوان وسقم النسخة الخطية وكثرة التحريف الذي لحقها من جراء جهل النساخين، وأظهر منه اليوم جزءاً كبيراً يقع في نحو من ستمائة صفحة من قطع البيان مطبوعاً على ورق جيد صقيل أحسن طبع وأنظفه، وقد ضاعف إحسانه حفظه الله بأن شرح هذا الديوان وشكله شكلاً تاماً وعهد بذلك إلى حضرة الأستاذ الشيخ محمد شريف سليم أحد أساتذة اللغة العربية وناظر مدرسة المعلمين - دار العلوم - فوضع الأستاذ شرحاً كافلاً ببيان غامضه وحل مشكلة، ويظهر أن الأستاذ لقي من شرح ابن

الرومي الأمرّين ووقع منه في كبد أيّ كبد ومن ثم انتشر عليه الأمر وذهب في أكثر شرحه مذهب ذلك الشيخ الذي أنشد قول العباس بن الأحنف: قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أسقامي وأوجاعي كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي إن دام لي هجرك يا مالكي ... أوشك أن ينعاني الناعي فلما سمعها بكى، ثم قال: هذا شعر رجل جائع في جارية طباخة مليحة، فقيل له من أين قلت ذاك، قال لأنه بدأ فقال - قلبي إلى ما ضرني داعي - وكذلك الإنسان يدعوه قلبه وشهوته إلى ما ضره من الطعام والشراب فيأكله فتكثر علله وأوجاعه وهذا تعريض، ثم صرح فقال - كيف احتراسي. . . البيت - وليس للإنسان عدو بين أضلاعه إلى معدته فهي تتلف ماله وهي سبب أسقامه وهي مفتاح كل بلاء عليه، ثم قال - إن دام لي هجرك. . . البيت - فعلمت أن الطباخة كانت صديقته وأنها هجرته ففقدها وفقد الطعام فلو دام ذلك عليه لمات جوعاً ونعاه الناعي. . . . . ولسنا الآن على نية أن نتعقب هذه الهنوات التي يخطئها العد والتي لو عرضت على ابن الرومي وكان حياً لكان بطن الأرض أحب إليه من ظهرها ولكنا نذكر هنا مثالاً منها إلى أن يوفق الله بعض الأدباء فيستدرك على الكتاب الأخطاء التي جعلتنا نرحم الأستاذ ونرثي له وإن كان الأستاذ معذوراً في ذلك العذر كله لأنه لم يدفع إلى مضايق الشعر، ولا يفهم الشاعر عمرك الله إلا شاعر مثله والأستاذ ممن غذى بلبان الحقائق العلمية والقواعد الثابتة المقررة وعلى ذلك نشأ ثم توفر أخيراً على العمل الإداري وألف نظامه الحسي الواقعي فكيف وتلك حاله تراه ينساب مع مثل ابن الرومي ويستطيع أن يبعد معه في تصوراته الشعرية الخيالية - أما المثال الذي نذكره هنا ونجتزئ به الآن فهو البيت الذي حير الأستاذ وجعله في غماء من أمره وهو البيت الذي أقامه وأقعده وأتى به في كلمته الافتتاحية مثالاً من الأمثلة التي تعترضه في الديوان وتربكه ثم هو بحذقه يخرجها أحسن تخريج. . . وهو هذا البيت الذي جاء في وصف الموز. يشهد الله إنه لطعام ... خرّ هيّ يغازل الحسناء قال الأستاذ فكلمة (خرهي) بالخاء لا توجد في العربية وليست من المعرب ولا الدخيل

فقلبتها على صور شتى من (خزهى) إلى (حرهى) إلى (جزهى) إلى (حرهى) وهلم جرا وصرت أراجع المعاجم فلم توافق قط صورة من هذه الصور صحة المعني إلى أن اهتديت إلى أنها (جرهى) نسبة إلى (جرهة) وهي البلحات وما أشبهها في قمع واحد ولا شك أن الموز كذلك، ثم أن مغازلة الموز الحسناء لا معنى له فيشبه أن تكون كلمة (يغازل) محرفة عن (يماثل) بظهور المماثلة بين الموز والحسناء في العذوبة والحلاوة وحسن اللون ولين الملمس وما أشبه ذلك، فصار البيت بعد هذا التصحيح. يشهد الله أنه لطعام ... جرهى يماثل الحسناء فأنت تراه هنا قد تعسف تعسفاً شديداً حتى عمى الأمر على القارئ وأدجنت سماء البيت مع أن البيت في أصله صحيح وكل ما هنالك أن الميم خرجت في الخط مخرج الهاء وصواب الكلمة - خرّمى يغازل الحسناء - والخرمية نسبة إلى بابك الخرمى الخارجي المشهور الذي قتل بعد ولادة ابن الرومي بقليل وهي كلمة فارسية معناها الفرح والسرور ويسمون نحلتهم لذلك دين الفرح، وقد لقيت الدولة العباسية من هذا الرجل عننا، وهم يبيحون النساء قاطبة لا فرق ثمة بين الأم والأخت والبنت، وتلك نزعة مجوسية وهي منشأ مذهبهم، فشبه ابن الرومي الموز بأنه طعام خرمى يستهوي الحسان ولا يتحرج من إثم شأن تلك الطائفة لأنه عند الشاعر من الفرح والسرور حتى عدا الظفر به فوزاً وعد فوته موتاً كما ذكر ذلك في هذه القصيدة وفيها من المبالغات شيء كثير، ألا ترى أن الشاعر قال (يشهد الله أنه لطعام الخ) فلم يشهد الله على أنه كذلك لولا أن الأمر أكبر من أن يكون وصفاً ساذجاً طبيعياً (جرهياً). . . . ولا يخفى أن تلك العبارة لا تقال إلا في الأمور العظيمة من حلال وحرام، وعندنا أن ابن الرومي قصد من الخرمية معنى أبعد من ذلك وأدق في الوصف وأبلغ في الإشارة وأشبه بابن الرومي الذي يحوم كثيراً في شعره حول الحاسة الجنسية ومتعلقاتها، وذلك المعنى يتعلق بصفة الموزة في شكلها وخلقتها. . . . وهذا من خبث ابن الرومي وفحشه وكم له من مثلها وأقبح منها تلميحاً وتصريحاً. (وبعد) فإنا نكتفي بهذا الآن ولا بد لنا إن شاء الله من عودة نستقصي فيها هفوات الأستاذ - على أن الديوان خليق بأن يقتني وما على المتأدبين إلا أن يستقلوا بأذهانهم ولا يعتمدوا كثيراً على الشرح في تفهم معنى ابن الرومي - والكتاب يباع بعشرين قرشاً صاغاً وهو

يطلب من جميع المكاتب. 3 ديوان رامي نعرف من الأستاذ أحمد أفندي رامي خريج مدرسة المعلمين الناصرية وأحد أساتذة المدارس الأميرية اليوم شاعراً غزلاً مطبوعاً عذب الروح يأبى إلا أن يكون شاعراً من جميع نواحيه كأنه يجاري العباس بن الأحنف الشاعر الغزل الذي كان كله شعراً وظرفاً وطبعاً يتدفق، وقلباً من قلوب الطبيعة يخفق، فكأن الخنساء عنتهما إذ تقول في أخيها صخر: جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر حتى إذا جد الجراء وقد ... لزّت هناك القدر بالقدر وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك لا أدري برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر ومن ثم ترى الشاعر الشاب رامي لا يكاد يتصرف في شيء من معاني الشعر عدا الغزل وما ينظر إلى الغزل كما كان الشاعر الشيخ العباس بن الأحنف وإذا كان بعض النقدة يبهرجون شعر رامي لسهولته ولأنه خلاء من الجزالة والفخامة والعمق والروعة وكثير من المحسنات البيانية فقد كان بعض نقاد الشعر أزمان العباس بن الأحنف يستبردون شعره ولكن شعر ابن الأحنف عاش على الرغم من ذلك وسيعيش ما بقى محب في الأرض، وقد طبع اليوم الشاعر رامي ديوان شعره طبعاً نظيفاً حسناً على ورق جيد وجعل ثمنه خمسة قروش ويطلب من جميع المكاتب. تصحيح الأغاني - تصحيح لسان العرب أهدى إلينا أخيراً حضرة الفاضل الشيخ محمد عبد الجواد الأصمعي نسخة من تصحيح الأغاني وأخرى من تصحيح لسان العرب، أما الأول فإن الذين قرأوا كتاب الأغاني سواء أفي النسخة الأميرية أم النسخة الساسية، يعرفون أنه وقع فيه أغلاط مطبعية كثيرة جداً ولاسيما الساسية فرأى الأستاذ الأصمعي أن يطبع تصحيح الشيخ الشنقيطي الذي استدرك

به أغلاط النسخة الأميرية ثم زاد الشيخ الأصمعي أن بين مع ذلك هذه الأغلاط عينها في النسخة الساسية - وبقي بعد ذلك ما تفردت به الساسية - وأما تصحيح لسان العرب فهو لحضرة صاحب العزة العالم الفاضل أحمد بك تيمور طبعه كذلك الأستاذ الأصمعي - فخليق بكل من يقتنى لسان العرب والأغاني أن يبادر باقتناء هذه الكتابين، وثمن كل منهما ستة قروش، ويطلبان من صاحبهما الأستاذ الأصمعي بمكتبة حضرة صاحب السعادة أحمد زكي باشا بباب الخلق بالقاهرة. أغلاط مطبعية وقع في هذا العدد أغلاط مطبعية يجمل بالقارئ الكريم أن يصححها هكذا، ففي صفحة 60 في أبيات المعري هو الدهر بفتح الراء والصواب ضم الراء وفيها أيضاً وضعت الدال من يعود في السطر الأول والصواب وضعها في أول السطر الثاني لأن في هذه الأبيات تدويراً وفي صفحة 64 فؤادي وصوابها فؤادك وفي صفحة 68 رفع العمل والصواب دفع العمل وفي صفحة 70 بالحذق وصوابها بالحذف وفي صحفة 71 هذه الديوان والصواب هذا الديوان وفي صفحة 72 (في بعض النسخ) لا شاعر إلا شاعر وعلى ذلك ممن نشأ وصوابها على ذلك نشأ وبظهور المماثلة وصوابها لظهور المماثلة.

رسائل النساء

رسائل النساء وخزات الضمير كلما راجعت في نفسي الماضي وإحداثه، وما جرى على ضفافيه، أحاول جهدي أن أبتعث ضميري من مرقده، وآخذ نفسي بالحكم القاسي والمعتبة الأليمة، ورحت أقول لنفسي ليس لي حق في أن ألمس بكفي الهناء، وأحس متعة السعادة، أنني استرقت الهناء من المجتمع الإنساني استراقاً، واستلبته من الشرائع، واغتصبته من الواجب، لم أكن امرأة وفية شريفة، ها قد مضت أربعة عشر عاماً وأنا أخون زوجي وأخادعه. . . وكذلك أنطلق أريد نفسي على أن تشمئز وتأنف من نفسي، إذ يتراءى لي أنني إذا استشعرت في ضميري وخزاً، وأحسست في فؤادي تأنيباً، خففت من نكر جريمتي وكفرت قليلاً عن فظاعة إثمي، وكلما تاملت ملياً في وجه زوجي وهو جالس في مقعد كبير، يغيب في قراءة صحيفة الأنباء في دقة وسكون، لا أني أخاطب نفسي قائلة هاك رجلاً طيب القلب، سليم الطوية، ركن إليك وألقى حياته بين يديك، وحمّلَك اسمه، وعهد إليك هناءه وهدوء باله، فماذا صنعت بكل ذلك مدى الأربعة عشر عاماً. . . . ضلة لك، لو علم هذا الرجل الأبله الفؤاد، هذا الموظف الساذج الذي يدأب على كسب حياته وحياتك وحياة طفلتك، هل تظنين اللذائذ والمسرات والمباهج التي نعمت بها وازدهيت ذلك الدهر الطويل تستطيع أن تعدل الآلام التي سيعانيها، لو تهتكت الحجب المسدولة على الحقيقة. . . . . ولكنه لن يعرف الحقيقة، وإن يعرفها أبد الدهر، لأنه لم يشهد يوماً الرجل الذي من أجله أطرحته، وتوليت عنه، ولكنني أؤمن الآن بأن هدوء زوجي ورقدة باله وسكون نفسه هي التي بعثتني على تأنيب ضميري وزجر خاطري، ولما لم أكن أشعر له بالحب في قلبي، ولا أحس بدني مجتذباً إليه، بل كنت أحمل له تلك العاطفة العادية التي تخلقها الألفة الطويلة، ويثيرها المقام المستمر عن كثب منه، وارتباط المصلحة، وامتزاج العيش، فلم أر له من حق على إلا أن أجعل حياته تجري في ذلك الهدوء الجميل، والسكون العذب وإلا أن أهتم بمصالحه، وأشاركه رعاية شؤونه، وعبثاً حاولت أن أستمسك بعرى الشريعة والفضيلة والواجب، لأن المرأة لا تحس سلطان الإخلاص إلا نحو الرجل الذي تحبه. هذا ما حدثت به النفس ليلة الأمس، وها أنا اليوم أعرف الجرح الذي تحدثه وخزات

الضمير، بل لقد بلغ هذا الجرح من أعشار فؤادي حتى لقد أصبحت لا أدري كيف أعيش بعد اليوم وفي قلبي ذلك السرطان الأليم، ولكن بضع كلمات سقطت من شفتي ابنتي - فتاني اليانعة هيلين ذات الربيع السادس عشر - كانت كافية لكي تنتاشني من حمأة تلك الجريمة التي ارتكبتها. . . . كنت قد أدبت ابنتي أحسن التأديب، واجتهدت في أن أراعيها وأحضنها أفضل الرعاية والحضانة إذ أردت أن لا أستوجب الملامة أن أكون أمّاً سيئة، وأن كنت زوجاً مرذولة، ولعل قليلات من الفتيات نعمن في الحياة بما نعمت به هيلين على يدي من التهذيب والتأديب والرعاية، حتى لقد كنت إذا جن جنوني في حب لوسيان وذهبت فيه المذاهب، وتابعت النفس مستسلمة، لا ألبث حتى أعود إلى هدوئي وأرجع إلى نفسي، إذا رأيت ابنتي وشغلني شاغل صحتها وهنائها وبهجتها، وكذلك مضيت أرعاها، وهي تكبر وتخرج عن كمها، وتزدهي وتتفتح وردتها، ولقد استخدمت لكي أخدع يقظة عينيها الصافيتين الساجيتين، تينكما العينين الطفلتين الرانيتين، من الحيل والوسائل أكثر مما استخدمت منها لكي أخدع زوجي وأخفي عنه الحقيقة، ولقد كان يلذلي - وأنا الأثيمة الملوثة الروح - أن اعمل على نماء طهر تلك الروح الناصعة البريئة البيضاء الأديم، فما أوشكت تناهز العاشرة حتى نزعتها من أحضاني وأسلمتها إلى حضانة المدرسة في معهد ساكن تحف الفضيلة به، وكانت لا تخرج من المدرسة إلا مرة في كل شهر، وكانت تقيم بيننا في كل عام خمسة عشر يوماً في إجازتها السنوية، ثم تنثني عنا فتشخص إلى الريف لترويح النفس عند جدتها، ولا ريب أن العلاقة بيني وبين لوسيان في خلال تلك الفترة تهن وييبس ثراها، وكنت أبتهج ويطير الفرح بفؤادي إذ أراها تجري إلى النماء عذبة جميلة طاهرة، لا تعرف شيئاً من مناكر الحياة ومفاسدها، ولعل هذا الفرح هو الذي منعني من قبل، وشغلني عن أعرف وخز الضمير ولذعاته. . . . . . كان على هيلين أن تعود ضحى أمس إلى المعهد وكان بيني وبين لوسيان متعد في مغربه، وأنا لا أنكر أنني قد أدركت الآن الفظاعة الشنعاء وهو أن أخلط في حياتي الأمومة بالخنا ولكنني لم أتألم حتى الآن بل كنت أنظر بغيرة وشغف إلى هيلين، ولو اقتضت الحال أن أضحي كل علاقة بيني وبين لوسيان في سبيلها، لما ونيت أن فعلت، ولكنني إذ كنت أراها

في مأمن، لا سوء يبلغ إليها، كنت أعمد إلى عشيقي فأهبط بين ذراعيه في ذهول وجنّة رائعة. وكان المتعد بيننا أن يرتقب لوسيان حضوري إليه في منزله عند الساعة الثالثة من الأصيل، ولكنني تلقيت ضحى رسالة من رئيسة المعهد تنبئني فيها بأن جدران المدرسة قد دهنت وأن الدهان لم يجف بعد، وأن إجازة البنات قد أطيلت يومين. فلم تكد تسمع هيلين الخبر حتى رقصت جذلاً، وانكمش فؤادي أنا حيرة وغماً، واسترسلت أهيم في أودية التفكير وشعابه، فخطر لي أولاً أن أكتب إليه أنبئه بأمر هذا الحائل العارض، وكدت أنفذ النية، لولا أن هيلين ظلت طول الصباح بجانبي لا تفارقني، فأجمعت على الصبر واستسلمت للسكوت وجعلت أقول لنفسي، أن لوسيان سيرتقب مطلعي ولن يشك في أنه قد حال حائل بيني وبين ملقاه. وقد انتظر حقاً ساعة فساعة ونصفاً ثم ساعتين، وإذ ذاك اشتد قلقه إذ كان يعرف دقة احتفاظي بموعده، وقد أنهكت الثمانية أيام التي غاب فيها عن مشاهدتي كل عاطفته، وكان حقاً يحبني أشد الحب، فلم يستطع إذ ذاك صبراً، فخرج من منزله ووثب إلى أول مركبة عرضت له في الطريق وعدا إلى منزلي يطلب رؤيتي. وكانت وصيفتي لا تعرفه وقد جاءت تنبئني بأن سيداً يلتمس لقائي وهو يقول أنه تاجر نبيذ يريد أن يعرض عليّ ألواناً من خمره وأنبذته وهو يلح في التماس مقابلتي فلم تشأ الوصيفة أن تخالفه فلم يسعني إلا أن أدخل حجرة زوجي، ولما يعد من محل عمله، وظلت هيلين في الحجرة المجاورة تنتظرني. فلما وقع بصري على لوسيان تصورت الرعب كله وتخيلت الحقيقة مكشوفة مهتوكة الحجاب ووهمت الجريمة مفتضحة متجلية للعيان، فصرخت صرخة مرعبة، وحاول هو أن يهدئ من ثائرة جزعي، ويزيل عني روعي، ومضى يقول: إنني سأنصرف في التو والساعة ولكن نبئيني ماذا أمسكك عن اللقاء ولا أعلم الآن بماذا أجبته، وبماذا حدثته، بل لا أدري إلا أنني صرفته في عجلة وخوف، وعاد هو مطمئن اللب، إذ علم أن لا خطر. فلما ذهب أويت إلى حجرتي، فحاولت أن أستعيد صوابي وأراجع سكينتي قبل أن أعود إلى هيلين.

ولم تسألني هيلين كلمة واحدة عن تاجر النبيذ، ولم أجد لدي من الشجاعة ما يبعثني على القول والكذب إزاء تينكما العينين الزرقاوين النافذتي البصر، ومضى اليوم في سكون دون حادث وعاد زوجي وجلسنا حول المائدة للعشاء، وكان مشرق الوجه، متهلل المعارف، فرحاً برؤية فتاته بجانبه، وكان يظنها قد انطلقت إلى المدرسة. فما بلغنا من العشاء إلى صحاف النقل والفاكهة، أنشأ يقول وهو يقشر قطعة من الكمثرى: ألم يحضر أحد هذا المساء في غيابي وإذ ذاك اصفر لوني وتراخت قوتي وأردت الكلام فاحتبست الألفاظ بين شفتي واختنق صوتي فلم أستطع تلفظاً، ولكنني لم ألبث أن أفقت من الغشية على صوت هيلين وهي تقول لأبيها، في أتم الهدوء. كلا، يا أبت لم يحضر أحد فنظرت إليها وإذ ذاك تلاقت العينان بالعينين، وإذا بي ألمح عينيها يبتسمان لي، وتبينت فيهما هذا المعنى لا تخشي يا أماه شيئاً إنني معك. لم يأخذ النوم عيني طوال الليل، ولم يغمض لي جفن، وثار الاشمئزاز بنفسي من نفسي، وعلمت أنني قد عوقبت أشد العقاب، إذ رأيت هذه الطفلة قد حذرت، ولا ريب أنها قد حذرت منذ زمن - عار أمها، وأنها قد تعلمت الخداع أسوة بوالدتها وأجادت الكذب لأجلي، بل أصبحت فيه أمهر مني وأوسع فطنة وحذقاً. . . . .!

إلى طلاب الفلسفة فلسفة التحول وعلاقة الفلسفة بالحياة خلاصة مبادئ الفيلسوف العصري هنري برجسون هنري برجسون اسم ذائع الذكر في فرنسا خفاق البنود في مدائن الغرب كله، ولعل القراء قد مروا في مطالعتهم الأنباء البرقية التي وردت في الصحف أخيراً بخبر احتفال الأكاديمية الفرنسية بهذا الرجل، تمجيداً لشأنه، وإكباراً لنبوغه، وهو الآن أستاذ في جامعة فرنسا وعضو في المجمع العلمي، وقد اشتهر اسمه أخيراً في العالم المتحضر ونقلت جميع تواليفه إلى جميع لغات الغرب، وأهم هذه التواليف الثلاثة، وضعها على فترات من الزمن، مستقلة بعضها عن بعض، خص كلاً منها بنظرية قائمة بذاتها، وأول هذه التواليف كتابه الموسوم بعنوان الزمن وحرية الإرادة وهذا المؤلف يرجع تاريخه إلى عام 1888 والثاني المادة والذاكرة وقد كان أول ظهوره عام 1896 وثالثها وأشهرها وأحفلها بالفلسفة الناضجة كتابه التطور المنتج عام 1907 ولعل هذه هي رؤوس كتبه، لأن ما جاء بعدها لم يأت بشيء جديد، بل كان شرحاً لنظريات الفيلسوف وتوسعاً في بيان دقائقها والمستغلق المستعصي على أذهان الناس منها. ونحن المصريين الذين نريد أن نؤلف لنا مجموعة جديدة من الآداب، ونحدث نهضة عصرية في الفكر والفلسفة، خلقاء بأن نشارك الغرب في اهتمامهم بنظريات هذا الفيلسوف وآرائه لأنها تفتح مغاليق الذهن، وتكشف ما استسر من حقائق الحياة ومكنونات هذا الكون ولهذا رأينا أن نشرح للجمهور المهذب شيئاً من مبادئ هذا الفيلسوف ونلخص أساس قواعده الفلسفية كلما رأينا الزمن لذلك مواتياً، والفرص مطاوعة، ونحن الآن بادئون الشرح ليكون عوناً لطلاب التعمق في الدرس، وسبيلاً موطئة للذين يريدون أن يمعنوا في بحث حقائق هذه الفلسفة الجديدة. لعل أكبر ما لفت أذهان الناس إلى فلسفة برجسون هي سهولة الحقائق التي بنيت عليها، وبساطة العناصر الأولية التي تألفت منها، على أن أكبر المكتشفات العلمية كانت بسيطة للغاية في مصدرها وأصلها التي تفرعت عنه، وليست الدهشة التي تعتري العالم عند وثوب المكتشف إليهم بها هي تساؤلهم كيف تأخرت الإنسانية كل هذا الزمن عن الاهتداء إليها، بل لعل تلك المكتشفات كانت مختفية في طي حقيقة ظاهرة للعيان، يلمسها الناس كل

يوم، ولكنهم لا يفهمون كنهها حتى يحين الوقت لظهورها فيعثر عليها ذهن من الأذهان الحاضرة البديهة فيعلنها للناس. نقول أن فلسفة برجسون سهلة للغاية ولا تحتاج إلى كبير عناء في تفهمها، والسبيل الأول لإدراكها هو أن نعلم أننا إذا أردنا أن نفهم حقائق الكون فعلينا أولاً أن نفهم معنى الحياة وهذا هو الذي يميز فلسفة برجسون عن جميع المبادئ الفلسفية القديمة والحديثة والمعاصرة لأن الذهن أو العقل إنما وجد لخدمة أغراض هذه الحركة المستمرة التي نسميها الحياة وكذلك وجد العلم لأجل الحياة، ولم توجد الحياة لأجل العلم، ولسنا نستطيع سبيلاً إلى فهم أسرار المعلوم والمجهول بعقولنا كما يقول الإيدياليون أو طلاب الكمال الإنساني ولا في العالم الخارجي الذي يحوطنا كما يقول الطبيعيون ولكن سبيلنا إلى فهم تلك الأسرار هي الحياة. إن برجسون يعتقد أن أكبر واجبات الفلسفة هو أن تفعل ما لا يستطيعه العلم الطبيعي، وهو فهم الحياة، فإن تحول الحياة الذي لا ينقطع وتطور حركاتها ومظاهرها هو الذي بعث العقل إلى معرفة الجامدات وجعل لهذه الجامدات أو إن شئت فقل المادة مظهر الوجود الجامد الباقي على حالته في الكون ولكن الكون ليس مادة جامدة ولا عقلاً حياً مفكراً، ولكن تطوراً منتجاً متحولاً. ويلوح لنا كأن هناك حركة دائمة تدفعنا جميعاً في تيارها الجارف، ومعنى الوجود هو الاندفاع مع ذلك التيار كاندفاع الشيء فوق صدر الأمواج فإن الحاضر وهو الذي يضم بين جوانبه جميع سلسلة الوجود هو نفس هذه الحركة وهي سائرة في طريق إتمام نفسها، وهو أي الحاضر يضم الماضي في طيه ويسير به معه، منطلقاً إلى المستقبل وهذا المستقبل لا يلبث أن يكون حاضراً، وهذا هو الحياة، أي هي تحول مستمر لا انقطاع له يحتفظ بالماضي وينشئ المستقبل. والصعوبة في فهم هذه الصورة هي كيف يمكن أن يكون هناك حركة مطلقة وتحول مطلق وصيرورة مطلقة، إذ لا بد أن يكون هناك غرض باعث يحرك ويحول ويصير، ولا بد أن يكون هذا أكثر حقيقة من الحركة نفسها، وهي - أي الحركة - ليست إلا تحولاً عن مكانه، وأكثر حقيقة كذلك من صيرورته، وهذه ليست إلا تحولاً عن صورته، وهذه الصعوبة هي

لب الأمر وهي أكبر دقائقه، وهي ليست الصعوبة التي يجدها علماء المادة وعلماء الروح فيما إذا كانت طبيعة الوجود مادية أو روحانية، ولكن الفكرة الاعتيادية التي نذهب إليها هو أن الدليل على وجود الأشياء في الحقيقة، هو كونها أشياء جامدة ثابتة في الفضاء، وهذا هو المبدأ الأول في العلوم الطبيعية، وكذلك يعتقد العلم الطبيعي أن الزمن ليس جزءاً من الجامدات، فنحن عند ما نرى أي شيء عادي من الجامدات الأولية - كالماء والهواء والبلورة والمعدن - نعتقد أن للزمن أي جزء في حقيقتها، لأنه مهما تعرض لها أي تغير، فلا تزال في ماديتها على حالها، فإن الماء إذا حللناه إلى عناصره، فإن ذلك يستغرق شيئاً من الزمن ولكن جوهر هذا الماء لم يتغير ولم يتحول فإن الغازات التي يتألف منها الماء منها لا تزال موجودة، ومن المستطاع إعادة تركيبها وتأليفها، ونحن بلا ريب لا نستطيع أن نتصور الأشياء خارجة منفصلة عن الزمن ولكن هذا لا يستلزم أن يكون الزمن لازماً لوجود الكائنات وعليه فليس الزمن إلا صورة من صور الوجود، ومن هذه الصورة نعرف الأشياء ولكن الزمن كانت ضعف ما هي الآن، فإن ذلك لم يكن ليحدث أي تغيير في جوهر الكائنات. وليس هناك مقياس محسوس نستطيع به مقياس تيار الزمن وكل هذه المقاييس الزمنية كدوران الأرض حول محورها ودورانها حول الشمس أو حركات بندول الساعة ليست إلا مقاييس نسبية ولوظلت نسب الزمن ثابتة إزاء بعضها البعض فإن أي تغيير في سرعة الزمن، لا يحدث أي فرق أو أثر في جواهر الكائنات. على أننا نجد الزمن بالنسبة إلى الكائنات الحية هو جوهر حياتها وكل معنى وجودها إذ للكائنات الحية مقياس زمني يقاس بنفس المقاييس النسبية التي نحدد بها الأطوار المتتابعة التي تمر بالكائنات الجامدة وهذا هو الذي يخطر بأذهاننا عندما نتكلم عن حياتنا المسرعة الذاهبة ونفكر في الأشياء التي تبقى بعدنا إذ يلوح لنا أن الحياة مؤلفة من أدوار معينة محدودة هي الطفولة والصبا والشباب والكهولة والشيخوخة، وهذه الأدوار هي التي نمر بها ونتصور أن لكل دور منها مدة يبقى فيها ثابتاً على حاله ثم بعد ذلك يبتدئ في التحول والتغير، ولكن التحول إنما هو مستمر في كل دور منها وليست هذه الأدوار إلا المنظر الظاهري للحياة، والجسم هو الذي يساعدنا على رؤية هذا المنظر لأن جسمنا هو كائن من

الفضاء ولذلك نراه في هذا الشكل الظاهري، ولكن الحياة نفسها إذا نحن شهدناها من باطنها، من المركز الذي نشغله نحوها وهو أننا نحن والحياة شيء واحد لا تزال هي الزمن، فالحياة إذن هي تيار متدفع، هي تحول حقيقي وحركة مستمرة مطردة لا انقطاع لها، والكائن الحي هو كائن يبقى متحولاً متغيراً بلا ونى ولا فتور، ولا يظل مطلقاً على حاله. ومن هذا نستنتج أن هناك صيغتين للزمن، إحداهما هي أن الزمن لا يحدث تأثيراً في جوهر الكائنات وثانيتهما هي أنه الجوهر نفسه وهذا يؤدي بنا إلى سؤال ذي وجهين، وهذا السؤال هو ما هو الجوهر، ومعنى ذلك ما هو الذي يوجد ويبقى بلا تحول، أو ما هو الذي يوجد وهو متغير متحول، والفرق بين هذين هو الفرق بين الكائنات الجامدة والكائنات الحية، فالزمن من ناحية الأولى لا أثر له وهو من ناحية الثانية كل الأثر. ومن هنا نخرج إلى سؤال آخر وهو - هل الجوهر المختفي وراء كل هذه الظواهر مادة لا تتغير ولا تتحول أم هو كائن حي كل وجوده هو الزمن، والجواب الذي يجب أن تقوله الفلسفة هو أن الزمن هو جوهر تتألف منه الكائنات، ولكن العلم الطبيعي يختص بوجه واحد منه محدود ضيق الدائرة وهو المادة التي لا تتغير ولا تتطور، والعلم الطبيعي لا يدرك الحياة ولا يبحث في أسرارها، ولكن الشاغل الأكبر للفلسفة هو الحياة. . . . هذا هو أساس فلسفة برجسون وهو كالتمهيد لما سنأخذ في شرحه من فلسفة هذا الفيلسوف مذ العدد القادم.

جنون الإنسانية

جنون الإنسانية لم تكن الإنسانية يوماً من الأيام، من أبعد حدود التاريخ إلى عهد هذا الكوكب الأرضي بما يدعونه الحضارة، عاقلة رزينة سليمة الذهن، بل لقد ظل الوحش المفترس الذي درج مع الإنسان الأول في يوم واحد، يجري في عروق هذا الإنسان ويسري في دمه، ولقد ظلت الإنسانية في جنة حتى انتهت إلى هذا الجنون الأكبر الذي يعانيه المجتمع منذ أربعة أعوام أو نحو منها، وقد بدت جنة الإنسان في سلسلة طولى من الحماقات والتطرفات، دوّنها بيده في التاريخ وأبى إلا أن يلبسها ثوباً طلياً مفوفا حتى تبدو للأجيال المنحدرة إلى المستقبل مفاخر وفعالاً جساماً رائعة، وقد وثب في القرون الماضية عدة من العظماء والقواد والمنارات العليا فحاولوا هداية الناس واجتهدوا في أن يكونوا قدوة ومثالاً للإنسانية، ولكن نجاحهم لم يلبث أن ذهب، وعاد الناس بعدهم يتابعون ضروباً متعددة من الحماقات والجنات، والرغبة الأولى التي يلتمسونها في الحياة هي أن يطأ القوي هامة الضعيف ويسبح الجميع في أنهار من الدماء ويمشون في سوح من المجزرة. وقد دأب الفلاسفة والمفكرون والكتاب منذ القدم على البحث في العلاج الناجع للإنسانية والأشفية المؤكدة، وانطلقوا يلتمسون الحاجة الكبرى لصلاح الناس، والذهاب بعنصر الشر والجريمة في الأرض، فذهب كل منهم مذهباً، وتضاربت الآراء، وتزاحمت النظريات، فلم يسع الإنسانية المريضة إلا أن تضحك من أطبائها وأساتها وتهزأ بهذا التناقض والتعارض على مقربة من سرير العليل، فلم تلبث أن طرحتها جانباً ومضت في سبيلها تجري وراء نزعة نفسانية مجنونة، هي نزعة القتل الاجتماعي، وإبادة الملايين من النفوس لينعم بالحياة ملايين مثلهم. والآن ما هي الحاجة الكبرى لصلاح الإنسانية، وما هو المطلب الواجب لكي يثير في الإنسان السمو والنزعة إلى الخير، ويطهر القلوب من جنة الأنانية، ويبعثهم على التماسك والفعال النبيلة السامية، وجواب ذلك كلمة واحدة، وحقيقة بسيطة في صميمها، تصرخ أبداً في أذهاننا وتطالعنا في وجوهنا، ولكن الإنسانية لم تستطع الاهتداء إليها في العهود الذاهبة من التاريخ، وهذه الكلمة هي السلامة، ونعني بها سلامة العقل والجسم، وهذه السلامة هي التي توحي إلى الناس أنه ينبغي عليهم أن يطيعوا قوانين الله وشرائعه وإلا كان نصيبهم الدمار والانقراض.

ويجب أن تكون سلامة العقل والجسم هي القانون الأول الذي ينبغي أن يسود في مناحي الحياة وأصولها الأولية، فينبغي أن تسود في الزواج وفي العلم والدين والتربية. ونحن نعلم أن الزواج الحاضر في الإنسانية لا يقوم على قاعدة صحيحة، ولا ينهض على شيء من الشروط الهامة لاتفاق روحين على تكوين أرواح أخرى، وكثيراً ما كان الزواج في الإنسانية الحاضرة هو سلسلة جرائم وجنايات نكراء وهو الذي جعل العالم حافلاً بالمجانين والمرضى والمشوهين والضعفاء، لأن هناك قواعد بينة في الصحة أغفلها الناس وأنكروها ورضوا بأن تكون عقود الزواج هي الشرط الأول فقط لصحته ونسوا النظر إلى الزواج من الوجهة الصحية والنفسانية، وذلك اتباعاً للرياء الاجتماعي الذي نحمله في كل فروع الحياة، وللتقاليد التي لا نستطيع انحرافاً عنها، ولو استبان باطلها ووضح فسادها، بل لعل كثيرين من قواد هذه الحرب المدهشة إنما اندفعوا وراء لوثتهم هذه من أثر نزعة مجنونة استحرت في أذهانهم وورثوها من زواج لم تراع فيه القواعد الصحية، وأمراض عصبية أصابتهم من الإصلاب التي انحدروا منها، فإذا كانت الإنسانية تريد أن تكون شعوباً عاقلة وحكاماً وملوكاً وقواداً عقلاء سليمي النفوس فيجب أن تعمل على أن تحتفظ بالنظام والتعقل في تربية الأطفال وتهذيبهم، وتسير على قوانين الصحة والشروط الواجبة لتربية الذهن والأعصاب، لأن كل جريمة ليست إلا نزعة من نزعات الجنون ولا يرتضي أي عقل منظم سليم أن يتصور قتل نفس زكية واحدة فضلاً عن حصد ملايين من النفوس. ولقد رأينا جمعاً من سادة العلم توفروا على ابتكار الأساليب المتعددة من المخترعات ومتابعة قوانين الطبيعة إلى أبعد حدودها لإنقاذ الحياة الإنسانية من ويلات المرض والضعف والمهلكات، ولكنا لا نزال نرى الفريق المجنون من العلماء يحشدون كل ذكائهم وكفاءاتهم للوصول إلى ابتكار وسائل جديدة من أسلحة الحرب لإبادة الحياة والصحف اليوم في دول الغرب المسهمة في المجزرة تصيح اليوم جازعة من قلة عدد المواليد ولعل هذه الصرخة الجازعة أنكر ما وصل إلى المسمع من المناقضات المخيفة الأليمة لأن الدعوة إلى إخراج جموع من القطع الإنسانية الصغيرة في الوقت الذي يدأب الناس فيه على إخراج جموع كبرى من المدافع والمهلكات ليست إلا إهانة عظيمة للأمهات المحزونات والثكالى الحادات، إذ لماذا يجب أن تلد الأمهات وتربي الوالدات، لكي يلقى أبناؤهن منونهم

إطاعة للحكومات، واستماعاً إلى نداء السياسات والوزارات، بل إن دعوة مثل هذه ليست إلا دليلاً على جنون مرعب ورغبة شديدة في الهدم والقتل لا تصدر عن عقل منظم سليم. والآن نحن آخذون في الوجه الثالث الذي أكسب الناس الجنون فأعماهم عن سلطانه، ونعني به الدين، فقد ظلت الأديان والنبيون والقديسون وأهل الخير يصيحون بالناس ويدعونهم إلى الوئام والتحاب والسكينة ولكن الشرائع السماوية والتعاليم الدينية لم تستطع شيئاً لتطهير النفوس من أثر الحيوانية والعواطف الشريرة الراسخة العرق في أعشار القلوب، وأصبح كثيرون ممن رزقوا سعة العقل، وشيئاً من الذكاء المتقد، والفطنة الوثابة، يذهبون في سبل طويلة من العقائد الملحدة، وينكرون القوى الإلهية التي تحرك الكون، ويعدون ذهنهم - وهو هذه الصندوقة الصغيرة المحدودة - مركز الكون كله، ولعل الحاد الأذكياء والقواد والأبطال باعث من البواعث الأولى التي خلقت هذه الحرب، فقد خرجوا عن العقائد المقررة الصحيحة إلى اعتناق دين القوة، وعبادة الأنانية، وأصبح جمع كبير من العلماء ينشرون في العالم جملة من النظريات الطبيعية والفلسفات العقلية التي لا تؤمن إلا بالمحسوس وما يستطيع العقل الإنساني أن يتناوله، فانطلق وراءهم كثيرون يدينون بعقائدهم، ويسلمون أنفسهم إلى الوساوس والنزعات التي سداها ولحمتها الأثرة والسمو على كثبان من الجثث الإنسانية، وقد فقد أهل الدين في المجتمع اليوم سلطانهم الأول، وأصبحوا لا يستطيعون مناهضة الأفكار الجديدة الشريرة التي طحت بالناس وأفسدت أذهانهم، ولكن قبول الدين والانصياع إلى القوانين والتعاليم التي جاءت بها الأديان ليس إلا أكبر وسيلة لإمساك النفوس عن غيها وقمع النزعات الشريرة فيها. وقد سرى هذا الفساد إلى الخلق، لأن النزعات الشريرة تؤثر في الخلق كما يتأثر الجهاز الهضمي والمزاج العصبي بطعام غير صالح أو غذاء سيء ولهذا كان الطفل بحاجة إلى الرقابة والرعاية في الأحوال الأولى من سنه لأن الأطفال يأخذون عما يرونه من أفعال آبائهم والقائمين على تعهدهم بالتربية، وكل والد قلق الروح سريع الغضب يخرج أولاداً حمقى غير مكترثين، وأبناء ساخرين هازئين، لأن الأطفال من شأنهم الضحك من آبائهم إذ يرونهم محتدين غاضبين، ويسخرون من إشفاق أمهاتهم وخوفهن وقلقهن، فلا تزال عاطفة السخرية تنمو فيهم كلما شبوا عن الطوق حتى تنشئ منهم ناساً أشراراً مخوفين في المجتمع

يضحكون ويبتهجون لآلام غيرهم ويتلهون بنكبات سواهم. فإذا كنا نريد أن نقتل روح الجرائم، فلنأخذ بالأساليب الصحية في تربية الأبناء والاحتفاظ بخلقهم والبيئة التي يعيشون فيها.

صور هزلية

صور هزلية من أخلاق الناس عم سرور لي الشرف بأن أقدم إلى القراء صورة رجل يأكل ويشرب ويمشي على قدمين ويخاطب الناس، ويجلس في مجالسهم، ولكنه لا يعيش ولا يحس بالحياة، ولا يعرف من علم الجغرافيا إلا القطعة الصغيرة من الأرض التي تحوط مسكنه، ولا يعلم من التاريخ إلا أن صوت معدته يستصرخه إلى طعام الإفطار وأكلة الظهر ووجبة العشاء ولعل حياته التي عاشها إلى الآن لم تكن إلا صورة حقيقية لمبحث الجولان في النوم وهو لهذا يستطيع أن يزوغ من الحساب في الآخرة لأنه كان في الحياة الدنيا في الإجازة ولا أظن أن يديه ورجليه ستعرف كيف تؤدي الشهادة عليه، وهو لم يكلفها عملاً، ولم يلتمس إليها سعياً ولا شغلاً، وقد لا يكفي نشادر الجنة لإيقاظ هذه الروح من ضجعتها الدنيوية الطويلة، وآخر ما يمكن أن يصنع لأجله هو أن يلقى في نهر من أنهار الخمر فلعله مستفيق من ذلك الرحيق الإلهي العذب. هذا الرجل، بل مادة النوم التي يتوزع عنها أسلاك النعاس إلى أجفان الإنسانية أو مندوب أهل الكهف في هذا العصر، أو شركة النوم والبلاهة ليمتد هو - ولي الشرف - عم سرور: بواب منزلنا سابقاً، والمدير الفني في حفلات الدلوكة الآن. وسيعجب القراء وتتولاهم الدهشة الكبرى أن يكون هذا الطيف الإنساني بواباً وأن يلقى إليه أمر الحراسة، وأن يستأمن على الأبواب والأمتعة والأرواح، وسيذهب القراء مذاهب كثيرة في التأويل والحدس والتخمين، حتى ينتهوا إلى أن أهل البيت ولا ريب يشاركون بوابهم في ذهوله وغفلته وبلاهة فؤاده، ولكنهم لن يصلوا إلى الحقيقة وهي أن البيت والحمد لله لا يحتوي من النفائس ما يعد خليقاً بالسرقة، وأن ليس على الأرواح ضير من اللصوص، لأن اللصوص لا يخطفون الأرواح إلا إذا حالت دون سرقة المتاع. وقد كان عم سرور مع ذلك المثل الأعلى للبوابين، وكان حارساً أميناً يحكى الكلب وفاء وحفاظاً، ولكنه لا ينبح اللصوص وإنما يغط في وجوههم، وقد بلغ من عنايته بحراسة الباب أنه في الأيام الأولى من عهده بخدمتنا لم يكن يعرفني ولم يكن قد استوثق بعد مني -

ولعله إلى الآن خالي الذهن من ناحيتي - فاتفق ذات ليلة أن تأخرت في مجلس سمر مع صحابتي فجثت في موهن من الليل أدق الباب، فخرج عليّ من البيت غاضباً متجهماً وطلب إليّ تحقيق شخصيتي، وعبثاً حاولت أن أبين له أنني من أهل البيت وأسمي له أفراد الأسرة بأعيانهم، وطفقت ألتمس إليه أن يأخذ قولي صدقاً، ويجيز لي الطريق، ويغني عني الوقوف طويلاً في قرة الليل، ويشفق على أن تصيبني وعكة من أثر برد الشتاء، فلم تكن توسلاتي وضراعاتي لتزحزحه عن فكرته الراسخة في ذهنه وهو أنني رجل غريب جئت لمأرب شرير في قرارة نفسي، ولو لم أستصرخ أهل البيت في تلك الهدأة وأثير الجيران من المضاجع وأعدو إلى أقرب شرطي من الناحية استعديه على عم سرور، إذن لأصبحت الغداة واقفاً بالباب أحمل الزمهرير في فؤادي. ولكني عمدت بعد ذلك إلى اتخاذ الحيطة لنفسي حتى لا أقع في مناورة كتلك معه فاعتدت إذا خرجت في الأصيل أن أذهب إليه وهو جالس عند الباب مهوماً في محضر من الملائكة، فأنهضه من مكانه وأنظر له ملياً في وجهه، وألتمس إليه أن لا ينساني وأتضرع إليه أن يتذكر معارف وجهي وتضاعيف صوتي ولهجتي ولم تكن هذه الوسيلة لتبعثني على الطمأنينة، فاجتهدت في أن أحمل دائماً في جيبي شهادة ميلادي وبطاقتي، مخافة أن يكون الشرطي حديث العهد بالناحية فأروح ضحية جهل الشرطي وأمانة عم سرور، وأبيت في الطريق مقروراً حتى يتنفس الصبح. ولما ظهرت تلك البراعة منه في أمر الحراسة، أردنا أن نبتذله في الخدمة، فكان فيها القدوة المثلى والمثال المحتذى، إذ بلغ من ذكائه أنه كان لا يعرف كم قرش تحتويه القطعة ذات الخمس، وكان يكرهنا إذا أردنا أن نرسله في شراء حاجتين معاً على أن لا نعطيه ثمنهما إلا قروشاً، ونضع ثمن واحدة منهما في يد من يديه، وقيمة الثانية في اليد الأخرى، ونشيعه حتى السلم تذكيراً، ونستحلفه إلا ما أفاق قليلاً، ونجلس ندعو الله أن يعيده سالماً ويرده إلينا بالطلبتين آمناً، ولكنا لا نلبث أن نراه طالعاً علينا بشربة من الملح الانكليزي، وكنا سألناه شراء ملح من ملح الطعام، أو ورقة من البن وكنا طلبنا إليه ابتياع شيء من البندق، وكذلك طفق يشتري لنا الأشياء التي تلوح له في حلمه أو التي توحي إليه نفسه أنها أفضل لنا من سواها، وكذلك جعلنا نخسر كثيراً من المال بسببه، فكأنه كان يعارض أمانته في الحراسة

بهذه الخيانة النومية في الخدمة، ولكنا رأينا لهذه النقيصة مع ذلك شيئاً من الفضل، فقد وجدنا لدينا بعد زمن قليل مدخراً من المآكل والحاجيات كنا نريد أن نتناساها ونغفل أمر خزنها ن مكرهين على ذلك بدافع الاقتصاد الذي أكرهتنا الحرب على مراعاته. على أن هذه لم تكن وحدها الخسائر التي لحقت بنا من هذه الذاكرة الزنجية فقد كان لدينا طابق من طباق البيت ظل زمناً لم يستأجره أحد وقد بقي إلى الآن بلا مستأجر، والفضل أو النكبة في ذلك تعود إلى العم سرور فقد حاولنا ألف مرة أن نوصيه أشد الوصاة أن يقول لطلاب الإيجار أن إيجار الشقة لا يقل عن جنيهين ونصف جنيه، ولكنه كان ينسى ذلك في كل مرة يعرض فيها للطابق مستأجر، فلا يفتح الله عليه بما يقوله للمستأجرين إلا أن الإيجار هو جنيه ونصف وقد كان الطابق لا يساوي حقاً إلا هذا القدر فكأنما وضع عم سرور له الأجرة العدل الواجبة، فلم يسع المستأجرين إلا أن يأخذوا بقوله ويسخروا من أقوال أصحاب البيت، فظللنا في خلاف وعم سرور، مصرين نحن على ما قدرنا، ومصراً هو على ما قدر - وكذلك ظلت الشقة بدون إيجار حتى اليوم. ورأى عم سرور بعد حين الرغيف الذي يقدم إليه في جلسات الطعام يصغر شيئاً فشيئاً ويتضاءل حيناً فحيناً ولم يكن قد سمع بالحرب ولا يعرف في أي قطعة من الأرض تشتعل هذه الحرب وتنتشب، لأنه لا يدري أن وراءه الحارة عالماً خارجياً، ودولاً عظمى هي السبب الأكبر في صغر حجم رغيفه، فشكا إلينا الأمر وسألنا الباعث والداعي فلما أنبأناه بأن الحرب قائمة وأن الإنسانية تتنازع وتتقاتل، لم يدرك من كل ذلك شيئاً وحسبها شجاراً في الدرب الأحمر ولما لم ير صلاحاً لحجم رغيفه أفلت من البيت هارباً. تلك هي صورة من صور الفضيلة البلهاء النائمة، وقد يستعذبها كثيرون ويستثمرونها ولكني أؤثر عليها ذكاء مشتعلاً شريراً يأتي بالإثم والضر، لأني لا أنسى ألم وقوفي بالباب الساعات الطوال في صميم الشتاء بفضل تلك الفضيلة السلبية الناعسة. . . . . . . عباس حافظ

مختارات

مختارات للمعرّي في لزومياته: رويدك قد غررت وأنت حر ... بصاحب حيلة يعظ النساء يحرم فيكم الصهباء صبحاً ... ويشربها على عمدٍ مساء يقول لكم غدوت بلا كساء ... وفي لذاتها رهن الكساء إذا فعل الفتى ما عنه ينهي ... فمن جهتين لا جهة أساء وله هي الراح أهلاً لطول الهجاء ... وإن خصها معشر بالمدح قبيح بمن عدّ بعض البحار ... تغريقه نفسه في قدح وله إذا نال فيك الناس مالا تحبه ... فصبراً يفيء ودّ العدوّ إليكا وقد نطقوا ميناً على الله وافتروا ... فما لهم لا يفترون عليكا وللمتنبي: وجدت المدامة غلابة ... تهيج للقلب أشواقه تسيء من المرء تأديبه ... ولكن تحسّن أخلاقه وأنفس ما للفتى لبّه ... وذو اللب يكره إنفاقه وله إلف هذا الهواء أوقع ... في الأنفس إن الحمام مر المذاق والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق الحزن على الفراق لا يكون إلا بعد الموت وذلك لا يمكن وله ولا تحسبن المجد زقاً يقول: لا يجمل بالمرء أن يحزن للموت لأنه لا معنى للحزن قبل فراق الروح إذ هو عجز وقينة=فما المجد إلا السيف والفتكة البكر وتركك في الدنيا دويّاً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر ولأبي تمام في الخمر: وكأس كمعسول الأماني شربتها ... ولكنها أجلت وقد شربت عقلي إذا هي دبّت في الفتى خال جسمه ... لما دبّ فيه قريةً من قرى النمل وللبحتري: أترى حبي لسعدى قاتلي ... وإذا ما أفرط الحب قتل خطرت في النوم منها خطرة ... خطرة البرق بدا ثم اضمحل

زمن تلعب بي أحداثه ... لعب النكباء بالرمح الخطل نطلب الأكثر في الدنيا وقد ... نبلغ الحاجة فيها بالأقل أخلق الناس الأخيرون كأن ... لم ينبوا جدة الناس الأول ولقد يكثر من إعوازه ... رجل رضاه من ألف رجل كأبي جعفر الطائيّ إذ ... يتمادى معطياً حتى يمل وادع يلعب بالدهر إذا ... جدّ في أكرومةٍ قلت هزل ذلّل الحلم لنا جانبه ... وإذا عزّ كريم الناس ذل رابئ يرتقب العليا متى ... أمكنته فرصة المجد اهتبل وأرى الجود نشاطاً يعترى ... سادة الأقوام والبخل كسل ولابن المعتز: كن جاهلاً أو فتجاهل تفز ... للجهل في ذا الدهر جاه عريض والعقل محروم يرى ما يرى ... كما ترى الوارث عين المريض كلمات حكيمة قال بعض الحكماء: إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات العقول وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات، وقال: لا تحقرن صغيراً يحتمل الزيادة، وقال: لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده فإن الناس ليس يسألون في كم فرغ من هذا العمل وإنما يسألون عن جودته، وقال: إذا أنكرت من أحد شيء فلا تطرحه وأجل فكرك في جميع أخلاقه فلكل شخص موهبة من الله عز وجل لا يخلو منها، وقال: اتقوا صولة الكريم إذا جاع وبطر اللئيم إذا شبع. صلحة كان أبو الشمقمق الشاعر أديباً ظريفاً مفلوكاً وكان قد لزم بيته في أطمار مسحوقه وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج فنظر من فرج الباب فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه فأقبل إليه بعض إخوانه فدخل عليه فلما رأى سوء حاله قال له ابشر أبا الشمقمق فإنا روينا في بعض الحديث إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة قال إذا كان والله ما تقول حقاً لأكونن بزازاً يوم القيامة.

باب النقد

باب النقد ديوان ابن الرومي ما كاد عدد البيان الذي نبهنا فيه إلى شرح هذا الديوان ينتهي إلى الأدباء حتى تتابعت إلينا كتبهم ورسائلهم يستزيدوننا فيها من القول ويسألوننا يسط الكلام عن معاني الشاعر وإصلاح ما زل فيه قلم الشارح الجليل، فتناولنا الكتاب ولم نكد نتصفح جانباً قليلاً منه حتى سئمت النفس وفتر النشاط وكاد القلم يترضض من كثرة ما عثرنا به ومن كثرة ما فتح لنا الشارح من الحفر. . . ونحن مبينون شيئاً مما استدركناه على أن نتجاوز عن الهفوات الصغيرة وما إليها من الهنات التي يمكن تأويلها والتمحل في مناقشتها والمماراة فيها، ونترك ما وراء ذلك من سائر الكتاب لمن عساه يتفرغ له من الأدباء وأهل الاطلاع فإن وقتنا وصبرنا كلاهما لا يتسع لما بقى والله أعلم به كم هو وما هو؟ قال ابن الرومي ص 6 وجاهل أعرضت عن جهله ... حتى شكا كفى عن الشكوى قال الشارح: أي ورب سفيه صددت عن سفهه ولم أشكه حتى شكى امتناعي عن أن أشكوه: وليس كذلك المعنى، إنما يريد الشاعر أنه أعرض عن جهل هذا الجاهل فلم يجبه ولم يأبه له ولا تألم لهجائه فصار عدم تألمه لذلك السفيه ألماً وهذا معني مشهور وهو الذي أراده بشار بن برد حين قال - هجوت جريراً في حداثتي فلم يجبني ولو أجابني لكنت أشعر العرب. (وفي صفحة 7) إن من السلوى لخيلولة ... توهمني البلوى به بلوى قال الشارح: السلوى ما يسلى الإنسان ويصرف عنه همومه ثم قال في معنى البيت إن مما يزيل عني الكدر في أمره أني ظننت أنه بلوى حقيقية فإذا أنا واهم وهو تفسير مضطرب كما ترى وصواب البيت (إن من البلوى لخيولة) يريد الشاعر أنه لو توهم أن ابتلاءه بهذا الجاهل مما يصح أن يعد في البلاء لكانت هذه الخيلولة هي البلوى على الحقيقة لأن الرجل سفلة مستهلك لا يقام له وزن ولو على الظن (وقال ابن الرومي صفحة 8) وما فاته في الصوم فطر لأنه ... مدارس علم والدارس غذاء

ولا فاته في الفطر صوم لأنه ... مواصل صوم عقبتاه سواء قال الشارح: المعنى أنه لا يقطع الصوم في غير رمضان وكل نوبة من صومه مماثلة للنوبة الأخرى. . . قلنا فكأن الرجل صائم الدهر مواصل في صومه فإذا كان كذلك فما مماثلة كل نوبة من صومه للنوبة الأخرى؟ إنما أراد الشاعر أن ممدوحه على صومه في رمضان يفطر النفس لأن الدرس غذاء الروح وعلى فطره في غير رمضان صائم اللسان عن الفحش والهجر والهذر وصائم النفس عن المعاصي وثواب هذا الصوم يعدل ثواب الآخر. ثم أهدى لنا الفواكه شتى ... والتحيات جل ذاك عطاء قال الشارح: هكذا في الأصل ولعله قسم يعني أقسم بالتحيات أن هذا العطاء جليل: والصواب كالتحيات وهذا ظاهر لأن الفواكه كأنها تحايا الفصول وما زال الناس يحيي بها بعضهم بعضاً، وعلى أنها والتحيات فلم لا تكون معطوفة على الفواكه عطف تفسير (وفي صفحة 11) بعد قول الشاعر في صفة الموز: يشهد الله أنه لطعام ... خرمي يغازل الحسناء وهو البيت الذي صححناه في العدد الماضي: نكهة عذبة وطعم لذيذ ... شاهداً نعمة على نعماء والصواب على ما يظهر أن الشطر (ساعدا نعمة إلى نعماء) ومن عادة ابن الرومي أن يكرر ألفاظه ومعانيه وأساليبه كما اتفق كثيراً وقد قال في صفحة 44: ما تعرفت مذ تعيفت طيري ... غير نعماء ظاهرت نعماء فهذه هي مساعدة النعمة للنعمة التي أرادها في البيت والمعنى أن نكهة الموز العذبة وطعمه اللذيذ ساعدا نعمة المغازلة الخرمية. . . إلى نعمة الحس والتمتع به، (وفي صفحة 12). إني للحقيق بالشبع السا ... ئغ من أكله وإن كان ماء قال الشارح: يعني أنني الجدير بأن أشبع من أكله الهنيء وإن كانت مادته مائية قليلة الغذاء: وما نعرف أحداً يقول إن مادة الموز قليلة قوام الغذاء بل الموز كثير التغذية حتى قدروا أن مقداراً منه كمقدار من اللحم سواء، وإنما غرض الشاعر أن هذا الموز لحسن إساغته وانسرابه في مجاري الحلوق لا يقال في شبعت من أكله وإنما الحق أن يقال من

شربه لأنه على ذلك أشبه بالماء منه بالطعام (وفي صفحة 18) في معاتبة أبي القاسم الشطرنجي. أترى الضربة هي التي غيب ... خلف خمسين ضربة في وحاء قال شارحنا: الذي أراه أن الخلف هنا بضم الخاء اسماً من الاخلاف وهو التكذيب في المستقبل والوحاء العجلة والإسراع ومعنى البيت أترى أن الضربة والنكاية التي هي في الغيب ولم تحصل بعد مخلفة لعاداتك في خمسين ضربة حصلت قبلها وكلها في غاية العجلة والإسراع، وهذا عجيب من الشيخ وكان خليقاً به إذ يجهل لعب الشطرنج أن يفزع إلى أخ له من خريجي دار العلوم وأحد أساتذة آداب اللغة القائمين بدراستها في إحدى المدارس العالية اليوم قد حذق الشطرنج وشأى فيه شأواً بعيداً وكاد يلزّ مع أبي القاسم هذا في قرن فيسأله عما يقصد إليه الشاعر، ولو أن الشيخ لم يعود نفسه شرح أبيات القصيدة من القصائد حتى يستوعبها كلها لرأى تفسير هذا البيت في صفحة 26 عند قوله: أترى كل ما ذكرت جلياً ... وسواه من غامض الأنحاء ثم يخفى عليك أني صديق ... ربما عز مثله في الغلاء فالشاعر يريد أن صاحبه الشطرنجي يرى الضربة الأخيرة التي تقتل الشاه ويكون عندها الفصل في اللعب من وراء خمسين ضربة يرمي بها خصمه دراكاً لا يتأمل ولا يفكر لقوة ذهنه ومهارته وبصره بأوضاع الشطرنج وحفظه لهجاء هذه الرقعة، وتلك من صفة أبطال هذه الساحة لا يشتهرون إلا بالحفظ وسرعة اللعب مع الإصابة والسداد (وفي صفحة 19 - في الشطرنجي أيضاً -). قال الشيخ: ومعنى البيت على ما يظهر لي أنك تعلي من تشاء وتضع من تشاء. وليس هذا المعنى مما يقصد إليه مثل ابن الرومي، إنما يريد الشاعر أن صاحبه لقوته في اللعب وثقته بنفسه يترك لخصمه رخا أو فرزانا ويناقله بالباقي ومع ذلك لا يغلبه خصمه، بل يزداد شدة استعلاء كما تقول لمن هو أضعف منك أصارعك بيد واحدة وأنت تستعمل يديك معاً، وعلى ذلك يكون اشتقاق يحط من الحطيطة لا من الحط وكثيرون من المشهورين في اللعب بالشطرنج لا يلعبون إلا كذلك أي بدون رخ أو بدون فرزان ولا يزالون كذلك إلى اليوم.

وفي صفحة 20 وأرى أن رقعة الأدم الأح ... مر أرض علائها بدماء قال الشارح في معنى عللتها: يعني وأظن أن سطح الشطرنج الذي لونه أحمر أرض أهرقت عليها الدماء لتلهيها بها: ولا معنى لهذا التعليل والصواب بللتها كما هو ظاهر. وفي صفحة 21 - في هذه اللعبة أيضاً - تقتل الشاه حيث شئت من الرق ... عة طباً بالقتلة النكراء غير ما ناظر بعينك في الدس ... ت ولا مقبل على الرسلاء بل تراها وأنت مستدبر الظه ... ر بقلب مصور من ذكاء ما رأينا سواك قرناً يولي ... وهو يردي فوارس الهيجاء قال الشيخ: الدست المقصود به هنا صدر الرقعة: وليس ذلك صحيحاً بل الدست الرقعة نفسها وهو في الأصل دست القمار، يقولون للغالب تم له الدست وللمغلوب ثم عليه الدست فابن الرومي يصف صاحبه في هذه الأبيات بأنه لحفظه وذكائه يلعب على الغائب، وهذه صفة جماعة اشتهروا في تاريخ الشطرنج وعلى ذلك قوله في صفحة 22. تقرأ الدست ظاهراً فتؤدي ... هـ جميعاً كأحفظ القراء قال الشارح: أي تقرأ الرقعة عن ظهر قلب فتلقيها إلقاءً جيداً الخ: ولا معنى لهذا وإنما هو ما يسمى في بعض كتب الأدب التي تتكلم عن الشطرنج باللعب على الغائب أو اللعب غائباً وكيفية ذلك أن أقوى الخصمين يستدبر الشطرنج فلا ينظر إليه ولا يرى كيف ينقل خصمه بل يكتفي برسم الرقعة وما عليها في ذهنه لأن ذلك في حافظته من كثرة اللعب والمران عليه ثم ينقل الخصم فيقال لهذا الغائب بنظره عن اللعب نقل كذا فيتمثل النقل في ذهنه ثم يشير بما يريد وهكذا حتى تكون الغلبة له أخيراً مع أنه لم ينظر شيء، ويقال إن في مصر اليوم من يلعب بهذه الصفة بعد أن يحكموا رباط عينيه، ولعل أحداً من القراء يوافينا بحقيقة ذلك. وقال في هذه الصفحة: رؤية لإخلاج فيها ولولا ... ذاك لم تأت صحبة ابن بغاء وهو موسى وصاحب السيف والجي ... ش وركن الخلافة الغلباء

قال الشارح في شرح موسى: لعله يريد أنه الحاكم الأعظم صاحب الكلمة النافذة على حد قول الشاعر. إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر الخ الخ: وهذا عجيب جداً بل أعجب من كل ما مضى فما هو موسى العصا ولا هو الحاكم الأعظم وإنما هو موسى بن بغا القائد التركي، وبغاء بفتح الباء لا بالضم كما ضبط الشارح هو أبوه وهو صاحب وصيف المشهور وفيهما وفي المستعين يقول الشاعر: خليفة في قفص ... بين وصف وبغا يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا وفي صفحة 26 - أترى كل ما ذكرت جلياً البيتين - قال الشارح: المعنى أترى كل كلامي واضحاً وغيره خفياً الخ: وذلك تابع للخطأ الذي سبق بيانه في صفحة 18 وإنما غرض الشاعر أترى ما ذكرته جلياً وترى سواه أيضاً من الأمور الغامضة ثم يخفى عليك الخ يريد المبالغة في توجيه الحجة عليه فإن الذي يرى الأمور الغامضة كلها جلية كيف يخفى عليه صداقة الشاعر. وبعد فإنا نكتفي بهذا المقدار في هذا العدد فإن لسعر الورق سلطاناً لا ندحة لنا من النزول على حكمه.

الصين الجديدة

الصين الجديدة إن كل ما يصل إلى المسامع عن دولة الصين لا يزال يترك وراءه أثراً من الحيرة ومزيجاً من الدهشة والاستغراب، ويرسل الذهن يجري عادياً على أجنحة الخيال إلى تلك المملكة القصية النائية فيرسمها في مخيلته ويصور أناسيها ويتأمل وجوههم الصفراء ويستقصي الألوان المتعددة من أطوارهم الغريبة وتقلباتهم العجيبة فكأنما القارئ يطالع في قصة من قصص روكامبول أو يقرأ سيرة من سير سندباد البحري. ونحن نقدم الآن لقراء البيان فذلكة تاريخية تحتوي خلاصة تاريخ الصين منذ نشوب الحرب إلى اليوم والأدوار التي تمشت فيها حتى قطعت منذ عهد قليل علاقاتها بألمانيا وأسهمت مع الحلفاء في معاداة الألمان، وهذا البحث لا بد منه ليربط الناس ما علموه من أخابير الحرب بما لم يعلموه، وليتموا في أذهانهم السلسلة المتطاولة حتى لا تكون منها حلقة مفقودة. عندما نشبت الحرب، كانت الصين جمهورية وكانت الجمهورية قد اجتازت من العمر إذ ذاك عامين ونصف عام، وذلك منذ اعتزلت العرش أسرة تسنج المالكة في اليوم الثاني عشر من شهر يناير عام 1912 ولكن كانت في الحقيقة جمهورية بالاسم فقط إذ كانت قد استحالت إلى حكومة فردية مطلقة تحت الرئيس يوان شي كاي، إذ لم ين هذا الرئيس أن فض البرلمان واستعاض عن القوة العسكرية قوة ملكية سلمية وبدأ فرديته بأن دعا إلى قرض قدره خمسة وسبعون مليوناً من الجنيهات لكي يذهب بالضائقة المالية في الصين، فجمع هذا القرض في باريس في السابع من شهر فبراير من ذلك العام وألقى إلى المصرف الصناعي الصيني ثم أعقب هذا القرض قرض آخر تشفع هذا الرئيس له برغبة إعادة النظام وتدبير شؤون الدولة فاشتركت في جمعه انجلترا واليابان والولايات المتحدة والروسيا وألمانيا وفرنسا وكان ذلك قبل أن تنشب الحرب. وكان النزاع قد بدأ إذ ذاك بين الصين واليابان إذ كانت مقاطعة كيوتشو قد أسلمتها اليابان في سنة 1897 إلى ألمانيا ولم تلبث أن أرسلت اليابان مذكرة إلى ألمانيا في 15 أغسطس، ولم يحن السابع من نوفمبر حتى سقطت عاصمة المقاطعة الألمانية وهي تسنج تو في أيدي اليابان وسكت الألمان عن النزاع ولكن الصين أرسلت احتجاجاً إلى اليابان عن فعلها وأمسكت عن رد كيوتشو إليها وأجلت المناقشة فيها إلى ما بعد الحرب، فلم تلبث أن

أصبحت العلاقة بينهما واهنة العرى وانتهى الأمر بأن سلمت بكين عاصمة الصين في 8 يونيو عام 1915 فانتفع الرئيس يوان شي كي بالظروف الخارجية إذ كانت قد أحالت الأنظار عن داخلية المملكة، وانطلق يدأب على إقامة حكومة ملكية مطلقة وذلك بعون الحزب العسكري الذي يرأسه نيجان هوفاي ومجلس الوزراء تحت رئاسة تسان تشنج يوان ففي شهر أكتوبر نشر مجلس الوزراء قراراً بأن أعضاء البرلمان الجديد لهم أن يضعوا أصواتهم في صف الجمهورية أو يطلبوا إزالتها، وفي الوقت نفسه عمد يوان شي كاي إلى التنازل عن الشرف الملقى إليه وهو رئاسة الجمهورية، وإذ ذاك تداخلت دول الحلفاء وابتدأ تداخل اليابان وروسيا وانجلترا ثم جرت فرنسا على آثارها لكي تحول دون رجعة الحكومة الملكية المطلقة ولكن السواد الأعظم من ولايات الدولة كانت قد صوتت في صالح عودة الملكية، وفي الحادي عشر من ديسمبر أقر في الانتخابات العمومية على رغبة الشعب، وكانت خطبتان في المجلس كافيتين لقبول يوان شي كاي مراعاة لرغبة الشعب الأهلية، وفي الثالث عشر من ديسمبر احتفلت الصين بالإمبراطور الجديد، ولكن عهد يوان شي كاي بالحكم الإمبراطوري المطلق لم يلبث طويلاً إذ تلقى في الحادي والعشرين من ذلك الشهر من قائدين زعيمين من زعماء الولايات وهما الجنرال تسي نجو من ولاية نويان والجنرال تيانج كي يو من ولاية كيوتشو بلاغين مستطيلين، وطلباً إليه الإجابة عنهما في مدى خمسة أيام، فلما لم يجب، أعلنت الولايتان الاستقلال، وظلت الثورة أشهراً ثلاثاً ثم بدأت تخمد نارها بعد ذلك، ولكن لم يكد يهجم الربيع حتى امتدت نيران الثورة مرة أخرى فأقبلت على التمرد ولايات الغرب وأسهمت في العصيان، فعاد يوان شي كاي يلتمس صلاح ذات البين بالمفاوضات والملاينات والمسالمات، ولكن المفاوضة لم تغن شيئاً لأن هذه الثورة المشادة باسم الجمهورية لم تكن في الحقيقة إلى مأرباً من مآرب عدة من الموظفين والقواد والزعماء، وكذلك شاعت الثورة في الإمبراطورية كلها، إذ كان المجلس معقوداً للصلح في نانكين، فاستفحل الأمر واستعصى على يوان شي كاي، فلم يلبث أن وافته المنية فجأة في السادس من شهر يونيو بعد غلاب خمسة أعوام طوال وظلت الصين بعد موته مقسمة مفصومة العرى، إذ ثارت مطامع أهل الأغراض والدسائس، وكان يوان شي كاي الحائل دون رجعة الجمهورية، فلما قضي زال ذلك الحائل، وكانت اليد الألمانية

تعمل في الخفاء، فلم يلبث الرئيس الذي خلف يوان على الجمهورية وهو لي يوان هونج أن ألقى نفسه إزاء حرب شديدة مع رجال الحزب العسكري القديم ولما أعيد فتح البرلمان ألفت الحكومة حرباً أخرى من الحزب الراديكال أو حزب المتطرفين تحت زعامة سن يان سن، وخمدت نار الخلاف بأن انتخب لوظيفة نائب رئيس الجمهورية رجل سياسي عامل محبوب من الأحزاب المعارضة والفرق المتناهضة، وهو المارشال فونج كونشانج. وكان المظهر الذي اتخذته الولايات المتحدة إزاء ألمانيا ودعوة الرئيس ويلسون التي ألقاها إلى الدول المحايدة احتجاجاً على حرب الغواصات قد أحدثت أثرها في الصين لأن للولايات المتحدة فيها أثراً أكبر من أثر دول الغرب فقد اجتهدت منذ سنين في أن يسود نفوذها الاقتصادي في المملكة الصفراء حتى أصبح لها حق عليها واستمالت عاطفة الجمهورية الوليدة، ولم تلبث أن صارت إزاءها الراعي المدافع يحميها من دول الغرب وأطماعها ومن شر اليابان قبلها فلم يسعها خشية على نفسها إلا أن تنضم إلى الحلفاء، وتمهد السبيل لمستقبلها، وتشترك في مؤتمر الصلح الذي سيبتدئ بعد الحرب، ليرى رأيه في مستقبل العالم الإنساني. ذلك ما ذهب إليه الحزب الجمهوري، فبعد المعارضة الشديدة من المحافظين والعسكريين عشاق القوة الألمانية وعبدة الإمبراطور غليوم، تحت زعيمهم تشانج سون ظفرت الحكومة بهذا الرأي فأرسلت إلى برلين مذكرتها الأولى احتجاجاً على امتداد الحرب البحرية وتوسع الألمان فيها ثم ثنتها بأخرى في 28 فبراير من العام الماضي فلما تلقت رداً سلبياً عرض رئيس الجمهورية لي يوان هونج على البرلمان نيته في قطع العلاقة السياسية بين الصين وألمانيا، فتلقي البرلمان الرأي بالقبول وفي الرابع عشر من شهر مارس أعطى الأميرال فون هنتز سفير ألمانيا جواز السفر. ولكن لم يكن ذلك يعد إعلاناً للحرب، فقد اعترضت الجمهورية حرب داخلية جديدة، إذ كان الجنرال تشانج وحزب كبير في أثره يسعون في إعادة الملكية وقد استطاع هذا الحزب أن ينشر الدعوة ويظفر بالأنصار، ونجح القوم في النداء بطفل صغير يناهز الحادية عشر إمبراطوراً جديداً للمملكة، ولكن عهد بن بي بالو وهو هذا الطفل الإمبراطور لم يكن طويلاً، فلم يجد الرئيس لي يوان هونج إلا الاستسلام والرضى بالهزيمة، على أن

الجمهورية لم تلبث أن رجحت كفتها وظفرت بمكانتها الأولى، وانتخب للرئاسة المارشال فونج كوك تشانج فأخذ الرئيس سبيله إلى الحرب بجانب الحلفاء.

أحداث الشهر

أحداث الشهر عمرية حافظ ما نشك وما نرى أحداً يرتاب في أن حافظ بك إبراهيم الموظف بدار الكتب السلطانية قد انتكس في عهده الأخير انتكاساً شعرياً، فتراجع طبعه وأصفت قريحته وأصبح كما يقول الفرزدق - وإن قلع ضرس من أضراسه لأهون عليه من نظم بيت من الشعر الذي يسمى شعراً، وإذا جاز لنا أن نتابع الأولين في تمثلهم، ونأخذ في العبارة بمجازهم قلنا أن آلهة الشعر قد ملت حافظاً فطردت جنيته بعيداً عنه فما تجد إليه ولا يجد إليها سبيلاً وقد جعلت تلك الآلهة على شعره سافله وأمطرت منه الحجارة. . فهو اليوم ينظم بلا عون إلا من الكتب والدواوين يلتقط منها الكلمة ويسترق المجاز ويسلخ المعنى وينسخ ويمسخ ويعالج ما يعالج المكدود المنقطع ثم يجيئنا بعصب الريق ونحت الصخر وهذا الشعر المخذول والنظم المغسول ثم يقول للناس هاؤم اقرأوا. . . فلك الله. . . ماذا نقرأ من هذه العمرية - وما هي في بنائها وهندستها ووضعها وأبياتها المتداخلة وما نفض عليها القدم من أسلوبه وصفته ألا صرح يشبه مهجور ربع السلحدار في الجمالية، ولعل من مراعاة النظير ما رأى لطفي السيد بك من أنه يجب أن يكون إلقاء هذه القصيدة في درب الجماميز. . . نظم حافظ سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما عدا أن مسخ التاريخ فإذا هو تفاعيل، وجاءنا بهذه العمرية فأعلمنا بعد الهرم وبعد عمر قطعناه في الأزهر أن مجموع المتون ينقصه متن جديد يسمى عمرية حافظ إبراهيم، وإلا فأين الشعر في نواحي هذه القصيدة وأين الروح الإلهية التي تخلق هذا البطل العظيم بعد نيف وثلاثمائة وألف سنة وأين موضع الاتصال بين روح حافظ وروح الفاروق، وأين أسرار التاريخ وفلسفته وشعر الحياة التي لم تشهد الأرض مثلها إلا ما شهدت من النبيين وأولي العزم من الرسل؟ أما آن لك يا حافظ أن تقدر هذا الناس الذي تعيش بين ظهرانيه حق قدره، وأن تدرك مبلغ التطور الذي ألم بنفسية الجمهور من وقت أن استأثر الله بالأستاذ الإمام إلى اليوم. لقد كان جمهور الأمس يهتز لكل كلمة تهبط عليه من أي نواحي الأستاذ وكنت أنت بعض نواحيه وكانت لا تزال فيك بقية من نقد الأستاذ وتهذيبه وحكمه ونوابغ كلمه ولا يزال

عليك ظل منه، أما جمهور اليوم فما أن يراك إلا نوعاً غريباً من صحف الأخبار تنظم المقالات نظماً صحفياً وتقيمها على أعمدة من قوم تشرئب إليهم أعناق الجمهور، فإن كان الشاعر الصدق المشاعر الخالد بحق - الشاعر الإلهي - شوقي. . شاعر الأمة فأنت فكاهة الصحافة لا تكاد تقرأ حتى تلقى. . . أين لا أين عمريتك هذه يا حافظ من بردية شوقي أو همزيته شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخي جابر أي شوقي: نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس وتكلموا في أمر كل عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينسبوا وبعد فأما نقد القصيدة وإقامة البرهان على ما قدمنا بيانه فموعدنا به العدد القادم إن شاء الله القادم.

أبيات حكيمة

أبيات حكيمة مختارة من نهج البردة لسيد الشعراء شوقي يا نفس دنياك تخفي كل مبكية ... وإن بدا لك منها حسن مبتسم فضي بتقواك فاها كلما ضحكت ... كما يفض أذى الرقشاء بالثرم مخطوبة منذ كان الناس خاطبة ... من أول الدهر لم ترمل ولم تئم يفني الزمان ويبقي من إساءتها ... جرح بآدم يبكي منه في الأدم لا تحفلي بجناها أو جنايتها ... الموت بالزهر مثل الموت بالفحم كم نائم لا يراها وهي ساهرة ... لولا الأماني والأحلام لم ينم طوراً تمدك في نعمى وعافية ... وتارة في قرار البؤس والوصيم إلى أن قال: صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ... فقوّم النفس بالأخلاق تستقم والنفس من خيرها في خير عافية ... والنفس من شرها في مرتع وخم تطغى إذا مكنت من لذة وهوى ... طغى الجياد إذا عضّت على الشكم وهاك شيئاً من همزيته في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم والحرب من شرف الشعوب فإن بغوا ... فالمجد مما يدّعون براء والحرب يبعثها القوي تجبراً ... وينوء تحت بلائها الضعفاء ومنها: الحق عرض الله - كل أبية ... بين النفوس حمىً له ووقاء ومنها يضرع إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ويشفع إليه للمسلمين: أدعوك عن قومي الضعاف لأزمة ... في مثلها يلقى عليك رجاء أدرى رسول الله أن نفوسهم ... ركبت هواها والقلوب هواء متفككون فما تضم نفوسهم ... ثقة ولا جمع القلوب صفاء رقدوا وغرهموا نعيم باطل ... ونعيم قومٍ في القيود بلاء قسط الشعوب من الحضارة أنعم ... تترى وقسط المسلمين شقاء أورثتهم غرر البلاد فضيعوا ... فاليوم هم في أرضهم غرباء

ظلموا شريعتك التي نلنا بها ... ما لم ينل في رومة الفقهاء مشت الحضارة في سناها واهتدى ... في الدين والدنيا بها السعداء

باب تدبير الصحة

باب تدبير الصحة طلب إلينا أن نعود فنفتح هذا الباب الذي تطوع حضرة صديقنا الناطاسي النابغة الدكتور محمد عبد الحي للقيام به تفضلاً منه حفظه الله. الإمساك الاعتيادي - كثير من الناس يلجأ بسرعة مدهشة إلى الشرب والملينات فيصبح الإمساك عادة تستعصي على كل علاج فيجب في مثل هذه الأحوال الامتناع البتة عن كل دواء إلا بإرشاد الطبيب، والالتجاء إلى تنظيم مواعيد الأكل بالدقة وكذلك مواعيد الضرورة وعمل تدليك يومي للبطن يعمل بالطريقة الآتية: تؤخذ كرة ككرة البلياردو مثلاً لا هي بالثقيلة جداً ولا هي بالخفيفة وتكسى بجلد ناعم كجلد الشاموا مثلاً وتستعمل مرجا (تدويراً) على البطن من اليمين إلى الشمال على دائرة البطن أي مع اتجاه المصران الغليظ ويزاد حجم ووزن هذه الكرة تدريجاً إلى أن يصل إلى ما زنته ستة أرطال تقريباً وأحسن وقت لاستعمالها عند القيام من النوم في البكور ويكفي لهذه العملية خمس دقائق كل يوم. لدغ النمل - إذا اقتربت من عش النمل ونكشته انبعثت منه رائحة حمض الفورميك وهذا الحمض بعينه هو الذي تدفع النملة إذا لدغت فيحدث تهيجاً موضعياً في الجلد وما تحته، ويوجد هذا الحمض بعينه في بعض النباتات التي تلدغ باللمس وكثير منها ينتشر في القطر المصري وكذلك هو هذه المادة التي ترسلها النملة إلى جسد الملدوغ وأحسن علاج لذلك الماء بسرعة أو القلويات ككربونات الصودا المذابة أو النشادر أو رغاوي الصابون أو بصلة تشق نصفين وتوضع على المحل (رأي ولتر اسكس ونتر) أو طين الزير كما هو شائع معروف. القلب في اليمين - كل الناس يعلمون أن القلب في الجهة اليسرى من الصدر وأنه يدق دقات الحياة تحت الثدي الأيسر وإلى اليمين منه قليلاً ولكن كثيرين جداً من الناس بل ومن الأطباء يجهلون أن القلب ربما جاء وضعه في اليمين على عكس المعروف تماماً ولكن ذلك نادر الحصول جداً وربما صحبه أيضاً وجود الكبد في الشمال بدل اليمين والطحال في اليمين بدل الشمال وهكذا ينتقل وضع الأعضاء كلها أو بعضها من الناحية إلى الأخرى، وإذا كانت هذه الأعضاء في حالة طبيعية فانتقالها خلقي لا ضرر منه على الحياة على الإطلاق. التواء العنق - من الناس من يخلق وعنقه في التواء ووجهه ثابت في اتجاه الالتواء وهذا

نادر جداً ومن الناس من يستيقظ من النوم فيجد عنقه في ناحية ولا سبيل إلى تحريكها للناحية الثانية وهذا ولا شك شيء مخيف للمصاب ولكنه سريع الشفاء وسببه في الغالب البرد ودواؤه التعريق والتدليك فإن استطال الأمر استوصف الطبيب. ومن هذا الالتواء نوع يأتي بشكل نوبة مزعجة للمريض ويهيجها الكدر والغضب وتسكن إذا جن الليل ورأى الطبيب يجب أن يؤخذ في مثل هذه الأحوال دون إمهال. الاكلمسيا - مرض تشنجي يأتي للحوامل والوالدات والنفساء وهو مرض خطير للغاية فيجب الالتفات جيداً إلى الإنذارات التي تعتور المريضة إبان حملها بعد الشهر السابع وأهم هذه الإنذارات آلام الرأس وورم الأرجل والأقدام وضعف النظر ووجود الزلال في البول، لذ يتحتم أن يفحص بول الحامل من وقت لآخر بعد الشهر السادس حتى إذا وجد فيه الزلال احتيط من الاكلمسيا وعولج في التو واللحظة. الزغطة - الزغطة يغلب أن تتسبب عن تهيج في المعدة يحركه التطبل بالأرياح والامتلاء الشديد أو أكل غير مهضوم وخصوصاً الفلفل والبهارات، ومن الأسباب المشاهدة أيضاً والمسببة لها الإجهاد المتعب عقب الأكل ويحصل بكثرة للأطفال الرضع إذا ازدردوا اللبن بسرعة أو للكبار إذا عبوا السوائل عبا ولقد جاء في الحديث الشريف (مص الماء مصاً ولا تعبه عبا) والزغطة زمنها لا يطول إلا إذا التفت إليها فإن شغل الإنسان عنها ذهبت ولذلك كان توجيه الفكر لشيء خاص خير علاج لإيقافها ومن الطرق المستحسنة لإيقافها عند الأطفال وضع طرف الإصبع على الغضروف الحلقي (البروز الموجود في العنق تحت الذقن ببضع أصابع) بلطف وتحريكه قليلاً وعند البالغين بأن يأخذ المرء شهيقاً عميقاً ويستمر في الشهيق لحظة دون أن يحرك الصدر للزفير. وأسهل من ذلك أن يعد المرء من واحد إلى مائة دون أن يأخذ نفسه أو يمص الماء مصاً بضع مرات دون التنفس أيضاً فإذا لم تفد هذه الوسائل فأحسن شيء هو النشوق إذ يكفي تنشيقة واحدة لإيقافها.

متن العمرية

متن العمرية لحضرة صاحب العزة حافظ بك إبراهيم وعدنا القراء في الجزء السابق من البيان أن نتبسط شيء في نقد هذه العمرية التي يزعم قوم أن الله تعالى قد عمر بها جانباً من الأدب كان خرباً، وسد بها ثلمة في الشعر العصري كانت واضحة، ودفع بها الفلك الدوار فمر فأسرع فانبثق منها على الأدب العربي عصر جديد،،، هكذا قالت الصحف فيما كتبت أو كتب لها،، وقالت صحيفة أخرى: إنه لم ينشد في عكاظ شاعر أبلغ من صاحب هذه العمرية في عمريته: كأن أصحاب هذه الصحيفة أو كتابها قد أحصوا أسماء الشعراء الذين أنشدوا في عكاظ وقرأوا ما أنشدوه، فإذا كان العلماء قد قالوا إن أسماء الشعراء عكاظ وقصائدهم التي أنشدوها غير معروفة إلا أربعة أو خمسة فلا ندحة لنا من أن نتأول أن كتاب تلك الصحيفة أرواح رجعت إلى الدنيا بعد 1400 سنة وكانت من قبل في أجسام عكاظية، ولعل منها روح النابغة، ولعل صاحبها هو الذي كتب تلك الكلمة فكان له الأمر من قبل ومن بعد، وتم له الحكم بين الشعراء في عكاظ ودرب الجماميز،، ليس بنا أن نتصدى لمثل هذا ولا نحن موكلون بوضع الصراط والميزان في هذه المجلة لمحاسبة الأخلاق الأدبية ولكنا موفون بما وعدنا على أن نلتزم جانب الإيجاز ما استطعنا وحسبنا الله. . . لقد حرنا في إدراك الغرض الذي امتثله حافظ حين قرض هذه العمرية لأن الشعراء لا ينظمون إلا لغرض معين، فأما رياضة الخاطر، أو إظهار محاسن الصناعة، أو العمل لفائدة ما، أو قضاء حاجة في النفس، على أنا نجمل من هذه الأغراض كلها فنفرض أن الشاعر قصد إلى أهمها فأراد أن يقدم لهذا العصر المادي أثراً من الروح الإلهي وأن يتحف أدباء العصر بتحفة من الفن، ونضيف إلى هذين أنه يرمي بهذه القصيدة كما يقول هو إلى قضاء حقوق نام قاضيها - وحكاية مناقب عمر للشاهدين وللأعقاب - ثم ننظر في وفاء العمرية بهذه الأغراض وما مبلغها من كل واحد منها. فأما أثر الروح الإلهي في القصيدة وما يتجلى فيه من الحكمة الرائعة والوصف البارع والإبداع والسمو وفلسفة الحياة وما إلى ذلك من مظاهر الروح والفكر فهو أثر ضئيل جداً

لا يكاد يحس على أنه مع ذلك إنما هو من روعة تاريخ الفاروق وسموه الطبيعي وروحانيته لا من نفس الشاعر ولا من قوته الذهبية، فإن حافظاً لم يعرف بالحكمة ولا بالفلسفة ولا هو ممن يضرب الأمثال للناس ويشرح لهم معاني الحياة ولا هو بالشاعر الذي يغوص وراء المعنى إلى سره وصميمه ويتغلغل بروحه في ضمائر الأشياء كما هو حق الشعر، وذلك هو السر في أن أكثر قصائده أنفاس ضيقة وأبيات معدودة لا يطيل فيها ولا يعدد الفصول ولا ينوع الأساليب وبخاصة في نشأته الأولى فلما أدرك أخيراً أن الشعر هو تعبير عن أسرار المعاني في هذا الكون، وأنه لذلك يجري مجرى الشرح والإفصاح عما في الطبيعة من أغراض النفس وما في النفس من معاني الطبيعة فيجب أن تكون أكثر قصائد الشاعر طويلة أو إلى الطول إلا أن يكون من شعراء المقاطيع فيلزمها ولا يكلف نفسه إلا وسعها عمد صاحبنا إلى الإطالة قليلاً ولكنه لم يجد في ذهنه المادة الفلسفية التي تعطيه من أسرار الأشياء وتكشف له عن آثار الشعر في المناسبات المعقودة بين النفس وبين هذه الأسرار، ولا رأي في روحه قوة الجبابرة النفسيين التي تشبه قوة الخلق في توليد المعاني بعضها من بعض وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، ولا أحس في رأسه ذلك الخيال الذي يتلاعب بالصفات والحقائق حتى يجعل من التوهم حساً ويرى العين مالا تراه إلا النفس ويرى النفس ما لا تراه إلا العين، بل رأى - وله الله - أن كل بضاعته حافظة جيدة تواتيه شيء من الألفاظ الجزلة والعبارات المونقة - من صنع غيره طبعاً - والمعاني التي طال عليها القدم، وأكل الدهر عليها وشرب، فعمد إلى الصحف ينظم من أقوالها وآرائها وهجر ما عدا ذلك من فنون الشعر وأغراضه إلا قليلاً، ولقب نفسه بالشاعر الاجتماعي، فإذا كان الموضوع الصحفي مما كثر فيه الكلام وتقلبت الآراء وامتدت أطرافه طالت فيه القصيدة الحافظية وإلا قصرت. ومن هنا طالت العمرية لأن تاريخ الفاروق رضوان الله عليه طويل الذيل مبسوط الجناحين على الآفاق وهي مع ذلك تصلح شاهداً على ما قدمنا، فإن الشاعر الاجتماعي اختار لأكثر فصولها من أخبار عمر وسيرته ما كان في مادته التاريخية شيء من الطول أو أمكن أن يكون له هذا الطول من سياق الحكاية وذلك كي يسهل عليه النظم وتتسع جوانب القصيدة، وإلا ففي كثير من الأخبار القصيرة التي أضرب عنها ما هو أبلغ في معناه وموقعه وأحسن

بمذهب الشاعر وأقرب إلى خياله مما اختار، ولو تأملت الفصول القصيرة في هذه العمرية كعمر وشجرة الرضوان مثلاً، لرأيتها ضعيفة متهالكة حتى في النظم لأن مادة التاريخ والحكاية فيها قليلة ولم تمدها قريحة الشاعر بشيء من روحه فخرجت مخرج الاقتضاب، ولو أن شاعراً فحلا عمد إليها لا خرج من كل فصل منها فصلاً فلسفياً بديعاً، وكان في خبر شجرة الرضوان وحده أبلغ درس لجماعة المسلمين من زوار الأضرحة ونحوهم لو عرف حافظ كيف يجعل ما ليس بشعر شعراً مع أنه جاء بالخبر كله في بيتين لا قيمة لهما. وعلى أن الشاعر إنما نظم التاريخ نظماً وعلى أنه خلط فيما اختاره من فصول القصيدة فما وقت هذه القصيدة بتاريخ عمر ولا أظهرت لنا شيئاً من أسراره الخاصة به ولا بينت لنا أوليات عمر التي امتاز بها كالتاريخ الهجري وتدوين الدواوين وتمصير الأمصار واتخاذ بيت المال وما إلى ذلك مما هو مادة للاجتماع وللسياسة وللتاريخ، بل كان أكبر الأمر عند حافظ أن ينظم قطعاً قطعاً على النسق التاريخي ومع سهولة هذا العمل فقد جاء بالتاريخ ممسوخاً حتى أن من لم يقرأ تاريخ عمر ويرجع إلى الأصل الذي نقل عنه الشاعر لا يكاد يفهم من القصيدة إلا ما يعطيه ظاهر اللفظ. والآن نفرض أن حافظاً أراد من قصيدته أن يتحف الصناعة - صناعة الأدب - بتحفة من الفن فهانحن أولاء نقرأ القصيدة ونعيدها ونتدبرها ونقلب النظر فيها فما نراها من أولها إلى آخرها إلا نظماً نظماً وإلا وزناً وزناً، أما المجازات والاستعارات والكنايات وتفويف العبارة وحسن الإشارة والاختراع في أسلوب الأداء ونحو ذلك مما هو من باب الصناعة البيانية التي ترفع طبقة الكلام عن الكلام فما نرى منه شيئاً، بل إنك لتجد هذه الصناعة ركيكة مستهلكة من مثل قوله في دعائه لله فمر سرّي المعاني أن يواتيني كما كان يقول للبارودي في مدحه فمر كل معنى فارسي بطاعتي وقوله أديماً حشوه هم وإنما يقال حشو برديه مثلاً لأحشو أديمه. . صاح الزوال بها وصاح الوهمي لا يسند إلي الزوال الوهمي، وهلم، هذه واحدة - والثانية أن معاني القصيدة كلها خالية من الإبداع والابتكار وما نرى فيها أبدع من هذا البيت في وصف الدولة الإسلامية: تنبو المعاول عنها وهي قائمة ... والهادمون كثير في نواحيها على أنه مسلوخ من قول الشاعر:

فلو ألف بأن خلفهم هادم كفى ... فكيف ببان خلفه ألف هادم وانظر الفرق بين روحي الشاعرين روح الحكيم وروح المحتكم، ثم هذا البيت في الدولة أيضاً: من العناية قد ريشت قوادمها ... ومن صميم التقى ريشت خوافيها لولا أن فيه خطأ بليغاً وذلك أن القوادم هي أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح والخوافي سبع ريشات بعد السبع المقدمات أو هي ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت فكأن الشاعر يقول ريشت الريشات القوادم وريشت الريشات الخوافي وهذا من الخطأ والقبح كما ترى إنما يقال ريش الجناح ليس غير، ثم هذا البيت: وفتنة الحسن أن هبت نوافحها ... كفتنة الحرب أن هبت سوافيها على أن في هذا البيت من سوء الطباق بين الحسن والحرب ومن ضعف التعبير في قوله هبت نوافحها وهبت سوافيها، لأن النوافح والسوافي متغايران في المعنى فيجمل أن يعبر عن فعليهما بلفظين متغايرين يلائم كل منهما المعنى الذي يساق به، ثم قوله - إن الحكومة تغرى مستبديها - وهو يصلح أن يكون مثلاً وليس في القصيدة غيره من هذا النوع ولكن فيه هذه الإضافة التي جاءت حشوا في (مستبديها) ويلحق بهذه الكلمات قوله: فأنت في زمن المختار منجدها ... وأنت في زمن الصديق منجيها وفيه جناس لا بأس به وإن كان من أضعف الأنواع لخلوه من النكتة التي تجعل التأثير بالغاً على النحو الذي انفرد به رجال هذا الفن كالبستي والصفدي وغيرهما. هذا هو كل ما يعجب الناقد أو الأديب من القصيدة على بعد ما بين مشرقها ومغربها وعلى أنها زهاء مائتي بيت فأين هي من صناعة البيان أو صناعة الشعر على أنها في تاريخ رجل أي رجل وعصر أي عصر، وثالثة أن القافية التي اختارها حافظ لقصيدته من أضعف القوافي وأسهلها، لا تدل على شيء من تمكن الرجل من صناعته فإن الهاء فيها هي هذه الهاء ضمير الغائب المؤنث، تتكرر في كل بيت إلا بضعة أبيات فإنها فيها أصلية من بنية الكلمة كقوله: تشبيهاً وتنزيهاً ونحوها، ولو عمد مبتدئ في الشعر إلى النظم على هذا الروي وكرر الهاء كما فعل حافظ ما أعجزه أن يجيء بألف بيت وبألفين وأين هذا الصنيع من قوافي شاعر كابن الرومي على طول قصائده أو قوافي البردة أو الهمزية للإمام

البوصيري رحمه الله أو صدى الحرب لشوقي أو كشف الغمة للبارودي أو غيرها مما لا يجهله الأدباء، وما القافية في قوتها وتمكنها إلا طراز الصناعة لا يقصر فيها إلا مقصر ضعيف ولا يستهين بها أو يبتذلها هذا الابتذال إلا شعراء المتون إذ هم لا يريدونها إلا خاتمة للبيت من النظم كما صنع حافظ. والرابعة أن الأسلوب القصصي في هذه العمرية لا يجري على قاعدة من قواعد القصص والرواية وليس فيه من أثر الفن الروائي شيء بل هو تقليد ضعيف جداً لبعض ما جاء من أساليب القصص في القرآن الكريم وكان هذا أدل على جهل الشاعر بقواعد البلاغة وطرق النظم المعجز، لأن الأساليب القصصية في القرآن تساق على نمط يراد به البلاغة والإعجاز قبل التاريخ والسير وقبل معنى الخبر وشرحه فلا يتأتى لكائن من كان من البلغاء أن يعارضه أو يجري على أسلوبه في كثير ولا قليل لأن التاريخ فيه ليس مفرداً بالوضع بل هو يأتي في سياق الكلام ويراد للتمثيل والموعظة والعبرة ونحو ذلك، فلو أن الشاعر كان بصيراً بمذاهب الكلام لما اختار هذا النسق الذي جاءت به القصيدة فصولاً يدفع بعضها في قفا بعض، ولو أنه كان شاعراً بحق وكان من رجال القرائح وحكماء الكلام لنظم في سيرة عمر رواية كاملة يخرج لنا بها الياذة عربية في مثل روح هوميروس أو نفس الفردوسي أو السعدي أو ملتن أو دانتي أو غيرهم من شعراء الأمم ولكن أني له وهو يرى نفسه من الضعف ما يجعل مثل هذه القصيدة في اعتباره ديواناً، ويرى حوله من النفاق وسوء التقدير ما يجعله في رأي نفسه كأنه تاريخ على حدة والعجيب أن يكون هذا شأن من حوله مع أنه هو نفسه يقول أنه ضعيف الحال واهيها ويقر في قصيدته بأسلوبها وفصولها أن عمر في هذه القصيدة إنما هو أمثلة من عمر لا غير. وانظر مطلع القصيدة ومقطعها وأين هما من براعة الاستهلال وبراعة المقطع بل انظر هذه المعجزة الكبرى في أساليب الرواية وكيف بدأ تاريخ الرجل بمقتله. ثم تأمل كيف تنقطع الصلة بين كل فصل من القصيدة وما بعده كأن ليس في البلاغة شيء يسمي حسن التخلص ولا في أصول فن الرواية ما يقضي بتعليق فصل على فصل ومراعاة السياق ونحو ذلك، وكأنه يكفي أن يقال (مقتل عمر) (إسلام عمر) (عمر وبيعة أبي بكر) الخ الخ فهل هو يضع كتاباً في التاريخ أو ينظم متناً من المتون.

وهل يدري القراء لماذا بدأ الشاعر بمقتل عمر. . إنه لم يفعل ذلك إلا فراراً من الموضوع الذي يريد نظمه وعجزاً عن توفيته حقه لأنه إن بدأ بوصف عمر ونشأته ومنزلته في الجاهلية لزمه أن يجري على هذا النسق حتى ينتهي كل ما في حياة الرجل من الشعر والحكمة ثم تنتهي القصيدة بمقتله فإن هو بتر التاريخ أو اقتضب منه أو خلط في نسقه ظهر ذلك للناس واضحاً وظهر معه عجزه وقصوره، فأعد سامعيه وقراءه من أول القصيدة أن لا يلتفتوا إلى النسق التاريخي ولا ينتظروا فيه إلا قطعاً وفصولاً عن عمر وسيرته وكأنه ظن أنه بذلك يذهب بوعيهم وانتباههم. . لم يبق إذن إلا أن الشاعر أراد بهذه العمرية كما يقول هو حكاية مناقب عمر للشاهدين وللأعقاب فأما للشاهدين فربما وأما للأعقاب فليس هناك إلا أن تأتي نكبة على كل أسفار التاريخ العربي فتذهب بها ولا يبقى إلا متن العمرية وشرحه. . وللنظر في كيفية حكاية الشاعر لمناقب عمر فقد خرجنا بالقصيدة من باب الشعر إلى باب النظم ثم انتهينا إلى باب حكاية المناقب، وإنها في هذا الباب يعلم الله دون هذه القصص العامية أو المعربة التي نظمت فيها مناقب سيدي أحمد البدوي وسيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنهما أو قصة سيدنا يوسف عليه السلام لأن هذه القصص محكمة في بنائها على الأسلوب الروائي وفيها شيء كثير من حسن التخيل وبلاغة التصوير، وقد نظم الغبارى الزجال المشهور قصة سيدنا يوسف في زجل طويل جاء فيه بالمعجب والمطرب بحيث لا تقع عمرية حافظ من قارئه إلا موقع الماء المثلوج ممن امتلأ جوفه رياً وبرداً. نحن نقر حافظاً على أنه حكى جملة صالحة لا بأس بها في سيرة عمر ومناقبه وأنه جهد الجهد كله في نظمها ولكنا لا نقول أبداً أنه جاء بشعر شاعر أو وفى النظم حقه أو مزج فلسفة الشعر بفلسفة التاريخ بل فيما هو دون ذلك لا نقول أنه محص التاريخ ولا جاء به على وجهه ولا اجتهد فيه برأي بل مسخ وبتر وأخطأ ودل على أنه لا يفهم التاريخ العربي بقريحة عربية وأثبت أنه ضعيف جداً في العلوم الاجتماعية لا يقام لرأيه وزن فيها ولو شئنا أن نورد كل ما في قصيدته من هذه الأغلاط لطال الأمر علينا وعلى القراء ولكنا نورد أمثلة قليلة تومئ إلى ما وراءها قال في الدولة الإسلامية وأسباب سقوطها: والله ما غالها قدماً وكاد لها ... واجتث دوحتها إلا مواليها

جاء بهذا البيت في مقتل عمر بعد أن لعن مولي المغيرة الذي قتله ولقد أقسم حافظ أنه ما غال الدولة ولا كاد لها ولا اجتث دوحتها إلا الموالي وأنه لو قسم لو تعلمون عظيم، فأي برهان يقول حافظ هذا القول وما هو أثر الموالي في هدم الدولة الإسلامية ومن هو الخليفة الذي تولاها منهم وماذا كان لهم من الشأن في القضاء والسياسة والجند. لعل الشاعر يجهل فيما يجهل أن مولي المغيرة وهو أبو لؤلؤة كان مجوسياً ولولا ذلك ما أقدم على قتل عمر، ولعل الشاعر لم يقرأ فيما قرأ أن عمر لما عرف قاتله قال الحمدلله الذي لم يجعل منيتي على يد من يدعي الإسلام، وإلا فأين أبو لؤلؤة هذا من سائر الموالي ومنهم أئمة الناس وعلماء الأنصار وكان منهم سعيد بن جبير رأس التابعين ونبغ منهم في عصر واحد عطاء بن أبي رباح إمام الناس بمكة وطاوس باليمين ومكحول بالشام ويزيد بن أبي حبيب بمصر والضحاك بن مزاحم بخراسان والحسن البصري بالبصرة وإبراهيم النخعي بالكوفة وغيرهم وغيرهم ممن قام بهم العلم واهتدى الناس بهديهم، وهذا حماد الراوية أمام أهل الأدب الذي تنتهي إليه الأسانيد مولي من الموالي، ولكن شاعرنا الاجتماعي المؤرخ الكبير لا يقرأ ولا يعلم إلا من بعض كتب المحاضرات كالعقد الفريد ونحوه وهي كتب لم توضع للتاريخ والتحقيق وإنما جمعت للمحاضرة والفكاهة. ثم قال حافظ بعد هذا البيت يعني دولة الإسلام أيضاً: لو أنها في صميم العرب قد بقيت ... لما نعاها على الأيام ناعيها وهذا من الجهل بالتاريخ وطبائع الأمم وأحوال الاجتماع وإلا فهل كان يريد الشاعر أن لا يسلم إلا العرب أو أن يفرق الإسلام - وهو دين الإخاء والمساواة - بين العربي والمولي، ولنا أن نفهم من هذا البيت أن الشاعر يريد من البيت الذي قبله أن الموالي كانوا ملوكاً وخلفاء للدولة الإسلامية لأنهم في رأيه هم الذين اجتثوا دوحتها، وهذه مادة جديدة في التاريخ وقد وجب على المؤرخين وأهل البحث أن يسألوا شاعرنا تصحيح كتب التاريخ والأنساب فربما كان معاوية أو عبد الملك أو هشام أو غيرهم من الموالي، وربما كان الديلم والترك ونحوهم من هؤلاء الموالي أيضاً فيجب أن يتناول التصحيح الحافظي كتب اللغة والأدب فوق التاريخ والأنساب. . . وقال في إسلام عمر: ويوم أسلمت عز الحق وارتفعت ... عن كاهل الدين أثقال يعانيها

وصاح فيه (بلال) صيحة خشعت ... لها القلوب ولبت أمر باريها الذي يفهم من هذين البيتين أن بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن جهراً يوم أسلم عمر لأن المسلمين قبل ذلك كانوا مستخفين فخشعت القلوب ولبت دعاءه وهرع الناس إلى الصلاة أو نحو ذلك المعنى مما يتصل ببلال. ففي أي كتاب هذا يا حافظ؟ أجهلاً بتاريخ الدين فوق الجهل بتاريخ الأمة؟ إن الذي في كتب التاريخ أنه لما أسلم عمر كبر المسلمون (وكانوا نحو أربعين نفساً) تكبيرة سمعت بفجاج مكة، وفي رواية كبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل مكة وفي رواية ثالثة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد أن بلالاً كبر أو أذن أو صاح بل لم ينص أحد على أن بلالاً كان من أهل الدار، أما ما يثبت جهل الشاعر بتاريخ الدين فهو أن عمر رضي الله عنه أسلم بمكة في السنة السادسة من النبوة، والأذان شرع بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، وبين هذه وتلك سبع سنوات وأيام، وقالوا في بدء الأذان أن سيدنا رسول الله اهتم للصلاة كيف يعلمون بها فذكروا له راية فلم تعجبه فذكروا له الشبور البوق فقال هو من أمر اليهود فذكروا له الناقوس فقال هو من أمر النصارى فذكروا له النار فقال هي للمجوس فانصرف عبد الله بن زيد والمصطفى صلى الله عليه مهتم لهم فأرى الأذان فغدا إلى النبي فأخبره بذلك فأمره عليه الصلاة والسلام أن يلقيه على بلال، وكان ذلك في السنة الأولى من الهجرة كما في صحيح مسلم وغيره، فأين صيحة بلال يوم إسلام عمر وهو لم يتعلم الأذان إلا بعد ذلك بسبع سنين، كأن الاسم التاريخي عند هذا الشاعر الاجتماعي همزة وصل أو همزة قطع أو نحو ذلك من ضرورات النظم. . أليس ذلك من الكذب على التاريخ. . وقال في مثال من هيبة عمر: أريت تلك التي لله قد نذرت ... أنشودة لرسول الله تهديها قالت نذرت لئن عاد النبي لنا ... من غزوة لعلي دفي أغنيها واستأذنت ومشت بالدف واندفعت ... تشجي بألحانها ما شاء مشجيها والمصطفى وأبو بكر بجانبه ... لا ينكران عليها من أغانيها إلى أن قال ما معناه حتى إذا قدم عمر خارت قواها وخبأت دفها في ثوبها فقال رسول الله: قد فر شيطانها لما رأى عمر لأن الشياطين تخشى بأس مخزيها، ويعلم الله أن هذا الأبيات

مؤلمة للمصطفى صلى الله عليه وسلم مغضبة لعمر رضي الله عنه، مغضبة لكل مسلم يغار على دينه، فأقل ما يؤخذ من هذا الشعر أن السيد الرسول وسيدنا أبا بكر كانا يسمعان الغناء ويشهدان الرقص من امرأة محرمة وأن الشيطان كان بحضرتهما يرى ويسمع لا يفر منهما ولا يهابهما وأن عمر وحده هو ذو الغيرة على الدين وهو الذي يفر منه الشيطان. ونحن نعجب أشد العجب كيف يمر هذا الكلام على مسامع شيخ الجامع الأزهر وغيره من العلماء الذين حضروا الحفلة الجماميزية ولا ينكرونه ولا يردون على الشاعر بل يدعون هذا السخف ينسرب إلى الشباب والفسقة وينشر عليهم في الصحف فيحتجون به لفسقهم ودعارتهم إذا شهدوا الرقص أو سمعوا الغناء والألحان، ألا يعلم شاعرنا القائل (واندفعت تشجي بألحانها ما شاء مشجيها) - على ما في الخطأ اللغوي في استعمال هذا التعبير لأن الشجو هو الحزن والأسى ولا الطرب) - أن الألحان محرمة قطعاً حتى في الأذان وحتى في قراءة القرآن فكيف يسمعها النبي صلى الله عليه وسلم من امرأة تتفنن فيها ألا أن الشاعر الاجتماعي من أجهل الناس بعادات العرب وقد مسخ القصة مسخاً وقلب عادة عربية بحتة إلى حالة عصرية مخنثة وزادها تخنيثاً فجاء بالمرأة ودفها كأنها من نساء قهوة ألف ليلة. . . . والقصة على ما في كتاب أسد الغابة هي بحروفها: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت أن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف قال إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها وقعدت عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشيطان ليخاف منك يا عمر. وليس يخفى أن من التعبير في لغة الحديث الشريف أن الغضب من الشيطان واللهو من الشيطان ونحو ذلك فإذا سكن الغضب فقد زال تأثير الشيطان وكذلك في الباقي فكأن الشيطان كف تأثيره على المرأة حين رأى عمر وكأنه خاف حين خافت فهذا هو المعنى، أما أن الشيطان كان حاضراً ثم فر كما عبر الشاعر فهذه إن كانت منقبة لعمر فهي والعياذ بالله ونستغفر الله منقصة لصاحب الشريعة. . . لم تكن المرأة إلا جارية سوداء أي أمة متبذلة للخدمة والمهنة ولم تصنع شيئاً إلا أنها

ضربت بالدف ضرباً حماسياً على عادة نساء العرب من استقبال الفاتحين والغزاة من أبطالهم فانظر كيف وصف الشاعر من ألحانها وتطريبها وانظر مبلغ هذا التفنن والجهل بمقامات الكلام ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا قليل من كثير، وحصاة كما قيل من ثبير، ولو أنا تعقبنا هذه العمرية تعقباً تاماً لضاع على قرائنا هذا العدد وأخوان له من بعده ولكن البعرة كما يقولون تدل على البعير، ومن ثم نجتزئ بهذا المقدار في هذا العدد وربما كانت لنا عودة ونختتم القول بأن نضرب المثل لشوقي وحافظ بما قيل، مثل الأديب ذي القريحة مثل دائرة تدار لخارجها فهي في كل دارة تدار تتسع وتزداد عظماً، ومثل الأديب غير ذي القريحة مثل دائرة تدار لداخلها فهي عن قليل تضؤل وتبلغ إلى باطنها والله أعلم. استدراك وقع في هذه الكلمة بعض أخطاء مطبعية رأينا أن نبادر بالتنبيه إليها وأن كان قراؤنا من الفطنة بحيث لا تخفى عليهم، بيد أنا ننصح إلى حضراتهم دائماً أن يكلفوا خاطرهم ويتداركوا كل خطأ مطبعي بالتصحيح الذي نلفتهم إليه في كل عدد تلحقه هذه الهنوات التي لا حيلة لنا في البراءة منها وعمال مطابعنا على ما يعلمون - ففي صفحة 108 (ولا من قوته الذهبية) وصوابها (الذهنية) وفي صفحة 109 (تواتيه شيئاً) وصوابها (تؤتيه شيئاً) و 110 (حشوه هم) وصوابها (حشوه همم) و 112 (وهو يرى نفسه) وصوابها (وهو يري في نفسه) و 114 (وإنه لو قسم) وصوابها (وإنه لقسم) و (فأي برهان) وهي (فبأي برهان) و (علماء الأنصار) وهي (وعلماء الأمصار) و (طاوس باليمين) وهي (وطاوس باليمن). (1) على أن للبيان كلمة على حافظ بك باعتبار كونه شاعراً على النحو الذي نحوناه في الكلام على أحمد لطفي السيد بك ستنشرها في العدد القادم.

كلمات العظماء

كلمات العظماء طلب إلينا أن نعود فنتحف القراء بمجموعة من الكلمات الطيبة الخالدة التي تستوقفنا في أمهات الكتب وتضاعيف الأسفار بين كلمة فاه بها رجل عظيم في موطن عظيم مثله أو كلمة نابغة عرضت لكاتب كبير أو مؤلف خالد أو نادرة أرسلها فيلسوف مشهور أو ملك كبير أو قائد جبار، ولعل الكلمة الواحدة تقوم مقام موضوعات متشعبة وتثير خواطر لم تخطر من قبل على أحد ببال، وسنفتتح هذه الكلمات دائماً بكلمات من أحدايث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نردفها بأخرى مأثورة لنبي كريم أو قطب من أقطاب الدين تيمناً بها واعتباراً بما تنطوي عليه من المعاني الإلهية المقدسة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هلك امرؤ عرف قدره هذه الكلمة هي رأس الحكمة بل هي أساس صلاح العالم كله سواء في ذلك الأفراد والشعوب، فلولا جهل المرء أو الشعب قدره لما عانت الأفراد والشعوب ما عانت وتعانيه مذ خلق الله آدم أبا البشر إلى يوم يبعثون، وقد قال الأول من عرف نفسه عرف ربه، وقال أبو الطيب: ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى وقال رسول الله: كفى بالسلامة داءً من أبلغ ما سمع، يريد رسول الله أنه إذا امتد بالمرء العمر وبلغ من الكبر عتياً كان هذا الكبر نفسه المسبب عن السلامة والعافية داءً من أخبث الأدواء لما يستتبعه الكبر من الضعف والتهشم وما إليهما، وفي معناه يقول الشاعر حميد: (1) وثمة معنى آخر لعله يريده صلى الله عليه وسلم وهو أن الحياة الإنسانية مبنية على أن بعض الضعف نافع لها فلو سلم الإنسان من الأدواء فكفي سلامته داء لأنها تفسد فيه بعض الغرائز الكريمة فيبطر ويطغى إلى غير ذلك مما يشاهد في أهل الغرور وذلك من أخبث الأدواء النفسية. أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلماً ويقول آخر: كانت قناتي لا تلين لغامز ... فلأنها الأصباح والأمساء

ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء وقال زهير: رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برامي فلو أنني أرمى بنبل رأيتها ... ولكنني أرمي بغير سهام وقال رسول الله: الصبر عند الصدمة الأولى وهذه الكلمة أوضح من أن تستوضح، وقال عليه السلام: إياكم وخضراء الدمن تمام الحديث: قيل وما ذاك يا رسول الله، فقال: المرأة الحسناء في منبت السوء - وأصل الدمن ما تدمنه الإبل والغنم من أبعارها وأبوالها فربما نبت فيها النبات الحسن الناضر وأصله في دمنة خبيثة قذرة، وأكل هذا النبات مؤذ - ضرب رسول الله هذا النبات مثلاً للمرأة الجميلة الوجه اللئيمة المنبت، قال أبو عبيد أراد فساد النسب إذا خيف أن تكون لغير رشدة. وقال رسول الله: المرأة كالضلع إن رمت قوامها كسرتها وإن داريتها استمتعت بها. الضلع العود فيه ميل وانحناء، وفي معناه استوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج - وهذا على الكناية، وقال السيد الرسول: ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً الموطأون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون. قوله الموطأون أكنافاً قال ابن الأثير: هذا مثل وحقيقته من التوطئة وهي التمهيد والتذليل وفراش وطيء لا يؤذي جنب النائم، والأكناف الجوانب، أراد رسول الله الذين جوانبهم وطيئة يتمكن فيها من يصاحبهم ولا يتأذى ولا ينبو به موضعه، والثرثارون أي الذين يكثرون الكلام تكلفاً وتجاوزاً وخروجاً عن الحق والمتفيهقون توكيد للثرثارون من فهق الغدير امتلأ ماء فلم يكن فيه موضع مزيد - يريد رسول الله الصدق في المنطق والقصد

وترك ما لا يحتاج إليه، ومصداق ذلك قوله لجرير بن عبد الله البجلى يا جرير إذا قلت فأوجز وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف. من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر لسيدنا السيد المسيح صلوات الله وتسليماته عليه - جاء في الأصحاح الثامن من إنجيل يوحنا ما معناه: ثم حضر السيد إلى الهيكل صباحاً وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم ثم قدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت وهي تزني فقالوا له يا سيد هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل وقد أوصى نبي الله موسى أن مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت - قالوا هذا ليمتحنوه كي يفرط منه ما يؤاخذونه به ويلاحظونه عليه - فأطرق السيد صلوات الله عليه وأخذ ينكث الأرض بأصبعه وأخذوا هم يلحون في تسآلهم فانتصب السيد ثم قال هذه الكلمة السماوية الخالدة التي سرت مسرى الأمثال واحتذاها كتاب الغرب ووضعوا في معناها من الروايات ما لا يكاد يحصي ومن هذه الروايات رواية ماجدولين للروائي الشهير ولكي كولنز وهي تلك التي كان ينشرها البيان في العام الماضي - وهذه المرأة كانت تسمي مريم المجدلية، وقريب من معنى هذه الكلمة قول السيد المسيح أيضاً. هلّا أخرجت الخشبة التي في عينك ثم أخرجت القذى الذي في عين أخيك وهي من الكلمات الحكيمة التي لا خفاء بها. القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم لغد، والأمانة أن لا تخالف سريرة علانية واتقوا الله فإنما التقوى بالتوقي ومن يتق الله يقه. لسيدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن قوله: إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز عن الناس فوالله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوةً للناس، وقال رضي الله عنه: إنما مثل العرب مثل جمل أنف فلينظر قائده حيث يقوده، فأما أنا فورب الكعبة لأحملنّهم على الطريق. الجمل الأنف الذي لا يريم التشكي أي يديم التشكي من فعل الخزامة التي توضع في أنفه يريد أن العرب على الرغم من أنفتهم وإبائهم أن يساقوا بالقوة سأحملهم على الطريق الحق قوة واقتساراً ولا أبالي.

ذاك أوقع له فيه روي أن قوماً ذكروا لعمر رجلاً فقالوا يا أمير المؤمنين فاضل لا يعرف من الشر شيئاً فقال ذاك أوقع له فيه. الخطيب بوالو: من كبار الكتاب الفرنسيين في القرن السابع عشر. (مثل الشرف كمثل جزيرة قفر مترامية لا ساحل لها ولا مرسى فمن خرج منها فلا يستطيع لها عوداً!) (الطعام الذي يعاد تدفئته وتسخينه لا يساوي شيئاً) (انظر إلى الإنسان في ثوبه الحقيقي، فهو أبداً يتنقل من أبيض إلى أسود، ينقض في الصباح ما أقر في العشية، أبداً تلقاه قلقاً نزوعاً عدواً لنفسه، يغير في كل لحظة آراءه كما يغير زيه وبزته، اليوم في قلنسوة وغداً في قبعة، ولفحة واحدة من الهواء تسوءه وقد تقتله). (لا أعرف إلا ثلاثة: كورني وموليير وأنا!) هذا ما أجاب به بوالو إذ سئل كم رجل عظيم أخرجه عصر لويس الرابع عشر. فانبرى له إذ ذاك من سأله، ولكن ماذا تقول في راسين؟ فأجاب لقد كان رجلاً آية في الاجتهاد وكنت أعلمه بكل مشقة كيف ينظم شعراً. . .! وكان بوالو يبعد كثيراً في فضيلة الصراحة، فقد حدث أن لويس الرابع عشر، الملك العظيم كما يلقبونه دفع إليه يوماً بضعة أبيات من نظمه وسأله أن ينبئه برأيه فيها فلم يكن من بوالو إلا أن قال، ليس في العالم شيء يستحيل على جلالتكم فقد أردت أن تنظم قصيدة غثة فنجحت!. . . ولعل هذه الجرأة أشد ما قذف في وجوه الملوك. وجاء إليه كاتب قبل وفاته بآن قريب برواية تمثيلية ليرى فيها رأيه، وكانت تمت إلي السخف والتفاهة بسبب فلم يسع بوالو إلا أن قال له أتريد بروايتك هذه أن تعجل منوني!. . . (إذا استبطأ الجلوس قدوم رجل ينتظرونه فلا يلبثون أن يتذكروا سيئاته قتلاً للوقت). - وكان هذا جواب بوالو إذ سئل عن سبب دأبه على أن يحضر إلى الموعد الذي يضرب

له في اللحظة المحدودة! الكردينال ريشيليو (أروني ستة أسطر كتبها أخلص المخلصين وأنا مستطيع أن أجد فيها ما يبعث على شنقه!). وهذه الكلمة دليل على قوة عارضة الرجل وبراعته في التخريج والتأويل. فردريك الكبير، ملك بروسيا: (لو أردت أن أعاقب ولاية من ولايات دولتي وليت عليها الفلاسفة. . .) قال هذه الكلمة عندما كان فولتير قد أساءه وكان إذ ذاك يضطغنها عليه (أنا فوق النحو) قالها إذ لاحظ عليه فولتير كثيرة وقوعه في اللحن إذا نظم أو كتب وكذلك كان نابليون وكان يتشفع لذلك قائلاً إن رجلاً أكثر دأبه النظر في شؤون الشعب لا يستطيع مراعاة قواعد الإملاء والنحو. (سيدي، إنك أخطأت في مخارج ثلاث كلمات) قالها دي فافرا إلى كاتب الجلسة وهو يقرأ عليه الحكم بإعدامه.! ولعل هذا من أغرب ما علم من ثبات العظماء! (احترمي العبء يا سيدتي) قالها نابليون لسيدة إذ كانت تأمر جماعة من العبيد - يحملون أحمالاً صعداً إلى ربوة عالية - أن يدعوا الطريق لنابليون (لو كان حياً لجعلته أميراً) قالها نابليون عن كورني وكان أكبر شعراء الفرنسيس المتقدمين. وقد ذكر الشاعر جوت هذه الكلمة ثم أردفها بالكلمة الآتية: وإن كان نابليون لم يقرأ حرفاً واحداً من شعره. (إني أغزو المدائن والبلاد وجوزفين تغزو القلوب والأرواح!) قالها عن زوجته: (أردت أن يكون البحر الأبيض المتوسط بحيرة فرنسية)

قالها وهو في منفاه: (ألا تتكرمون يا سادة بإطلاق الرصاص!!) قالها متهكماً وقد عتبوا عليه إنه لم يراع الأدب في أمر الجند بإطلاق رصاصهم! وإنني لأخاف ثلاث صحف سيارة أكثر من مائة ألف سيف!!) الرحمة خور في الطبيعة قالها محمد بن عبد الملك الزيات وزير الواثق العبّاسي - وكان رجلاً قاسياً حجّالجيّ المذهب وله حكايات في ذلك ليس هذا موضعها وهو أول من أحدث التنور لتعذيب خصومه فيه وفي هذا التنور عذبه المتوكل حتى فاظ مات فيه. الجماع جنون وحسب الرجل أن يجنن نفسه مرة واحدة في كل عام لأبي مسلم الخراساني.

الأحزاب الروسية

الأحزاب الروسية التي خلقت الثورة والتي ناوأتها من أعجب أحداث هذه الحرب الكبرى أن تتمخض في قطعة من الأرض عن ثورة أهلية لم تكن في حسبان أهلها من قبل، فتدول دولة حكومة مطلقة كان الذي يعيشون تحتها يظنون أنهم مذعنون إليها يد الدهر، وهذه الثورة ونعني بها النهضة الروسية لا تعد صالحة إلا إذا قام على أطلال الحكومة القيصرية الذاهبة صروح متينة شامخة من الرقي والتهذيب والإصلاح، لأن الثورات الأهلية لا يحكم عليها إلا بنتائجها، وعلينا أن نرتقب زمناً طويلاً للبناء، لأن البناء متراخي الزمن يعوره من المهلة والأناة والحيلة والدأب مالا يعوزه الهدم. ونحن ننتهز هذه الفرصة فنبسط للقراء بياناً مجملاً عن الأحزاب التي تعمل للنهضة ليكون هذا معجماً للناس إذا مرت بهم أخبار روسيا في عرض الصحف، أو قرأوا عنها ما يروقهم في الكتب والمجلات. حزب الكماريلّلا هذا الاسم يطلق عادة على أهل المبادئ الرجعيين من الرجال والنساء الذين كانوا يحوطون القيصر وفيهم السياسيون، ومن بينهم القواد وفي غمارهم الكنيسيون والقساوسة، وفيهم النزاعون إلى ألمانيا وكانوا قبل إبان الثورة يعملون في الخفاء لإقامة صلح بين الدولتين وآخرون منهم مثل راسبوتين همهم إحراز السلطة والاغتناء وإفعام خزائنهم بالمال وجيوب أشياعهم والمحسوبين عليهم ولم تكن قرارات القيصر وأفعال القيصرة إلا رهينة تأثير هؤلاء القوم ولم يكن مستطيعاً أي أمر لا يرتضونه أن يصل إلى مسمع القيصر أو يقع على مرأى القيصرة. حزب الثنوفنيق هم عمال الحكومة القديمة الأصاغر - ولا سيما رجال الشرطة المنشورون في روسيا طولاً وعرضاً، وهم يتكاثرون عديداً ولما كانت رواتبهم ضئيلة استعانوا بالرشوة والأعطية ونهب الناس ولعل قسوتهم وغشهم وإرهاقهم وحيلهم هي العامل الأكبر الذي أساء سمعة الحكومة القيصرية عند الفلاحين وملايين الناس الذين أنقضت هذه القسوة ظهورهم ولذا كان أول الخطوات التي خطتها الحكومة الجديدة هي أن تحذف هذه الفئة حذفاً وتقضي على

أثرها المفسد كل القضاء. حزب المائة السوداء اسم يطلق على أشد حزب الرجيعين رجعية وأكبر أنصار القيصر وصنائعه، وأفراد هذا الحزب رجال من أهل النفوذ والمناصب وكانوا يستخدمون ألعن الوسائل للقضاء على الوطنين والحربين وطالما ذهبت نفوس وسالت مهج وارتكبت شنائع بأمرهم وتأثيرهم وأول من طال نفوذهم واتسع سلطانهم عام 1905 عندما خابت الثورة التي حاول الأحرار إثارتها في ذلك العام ونفوذ هذا الحزب لا يزال باقياً على الرغم من دأب زعماء الثورة في إبادتهم، وهم اليوم قد عادوا يدسون الدسائس ويعقدون المؤامرات لرجعة العرش. طبقة البورجوا أو الطبقات الوسطى هذا الاسم هو الذي يطلق على الطبقة الوسطى في الثورة الفرنسية ولكن هذه الكلمة اتخذت لها معنى جديداً في روسيا منذ بدء الثورة فأصبحت تطلق على كل جمع من الناس يعرف عنهم أن مصالحهم السياسية وأميالهم الاجتماعية لا تتفق وأميال الجماهير وهم لهذا متهمون عند الثوريين وكان من هذا أن اعتبر كثيرون من المفكرين وأصحاب الأذهان السامية ضمن هذه الطبقة وفي هذا خطر شديد على الكتاب والمفكرين، وهذا الخطر نفسه هو الذي وقع في الثورة الفرنسية، فطيح بكثير من الفلاسفة والكتاب فوق الجيولوتين. حزب البولثفيكي هؤلاء جمع مركب من عدة عناصر من الأحزاب الأهلية الفوضية المختلفة، ولهذا فهم ليسوا حزباً مؤتلفاً منظماً، وأشياعهم يمتون إلى أحزاب متعددة، وهم لذلك مختلفو الرأي في كثير من الموضوعات الاجتماعية والاقتصادية ولكن مبدأهم الأول الذي تضافروا عليه هو العمل والاستعداد للذهاب إلى أبعد حدود التطرف ولو إلى القتل في سبيل غايتهم، وهم السبب في المجازر التي وقعت في الأيام الأخيرة في طرف بتروغراد وهم القابضون على أزمة الحكومة اليوم. حزب اللينينيث حزب صغير من الاشتراكيين ولكنه أكثر الأحزاب عملاً ونشاطاً وقد استمد اسمه من

زعيمه نقولا لينين وكان هذا الرجل قبل الثورة اشتراكياً صميماً ثم أصبح بعد الثورة أكبر دعاة الصلح بأي ثمن وأية وسيلة وأكبر المنادين لعقد صلح منفرد بين روسيا ودول الاتحاد وقد اتهم بأنه صنيعة من صنائع الألمان وأنه يتقاضى منهم أجراً على دعوته فأمرت الحكومة الوقتية بإلقاء القبض عليه فتمكن من الهرب، ومنذ ذلك التاريخ أصبح طريد القانون فانتشر أفراد حزبه طرائق بعد ذلك ولكنه مع ذلك استطاع أن يقيم في عدة أنحاء من المملكة مظاهرات ضد تلك الحكومة وكانت مبادئه الاشتراكية ودعواته الشديدة الحماسية هي التي فشت في الجيوش الروسية فبعثت على رجعة الجنود على جاليسيا ومن ريجا وقد استطاع أن يجعل الجنرال كورنيلوف تحت إمرته وأذناً واعية لمبادئه، ويعتقد في روسيا أنه منذ اختفائه يشتغل جندياً في صفوف جنود ذلك القائد. الزمستفوس هي مجالس منتخبة في كل قسم من أقسام المملكة وهم قوم عقلاء يعملون لصالح روسيا وهم لا ريب الذين نشروا في الأمة الرغبة في إقامة حكومة مستقلة وكان البرنس جورج لوف أول وزراء الحكومة الوقتية من أكبر أنصار هذه المجالس الشورية وهو الذي قام بتشكيل مجتمع كبير عام من كافة أحزاب الزمستفوس في أشد عهود هذه الحرب وأرهب المواطن التي وقفتها جيوش الروس - وكان من هذا المجتمع أن قام بتوريد جميع الأغذية والميرة والذخائر والإسعافات الطبية للجيوش في الميدان. وهناك أحزاب وفرق وطرائق متعددة أقل شأناً من هذه بين رجعية وناهضة أغفلنا ذكرها لأنها قلما تجيء في الأنباء والصحف.

يوميات قائد بحري

يوميات قائد بحري هذه اليوميات التي ننشرها اليوم للناس هي أبدع ما خرج في هذه الحرب إذ هي مذكرات حقيقية يلتقي فيها الحب بالقصص ويجتمع في تضاعيفها المأساة بالدرام، وهي خليقة بأن تنسب إلى عقل روائي عظيم كعقل فيكتور هوجو وهي دليل قائم على أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال. وواضع هذه اليوميات هو اللفتنننت كولونل هانز فون تير بنجر قائد الغواصة نمرة 13، وكانت وفاته منذ عدة أسابيع وتناقلت صحائف الغرب خبر موته لأنه قضى منتحراً إذ قتل فجأة وهو لا يدري الفتاة الجميلة التي كانت خطيبته، عندما نسف سفينة أبيها وقتل رجال غواصة شقيقها، فثار الحزن بفؤاده فلم يتمالك جأشه في الغداة ولو ين أن قذف بنفسه من أعلى سطح الغواصة إلى اللج المتقاذف واختفى في لحظة عن عالم الفضاء إلى قاع الأوقيانوس فلما عادت الغواصة إلى مربضها جمع رجالها متاع القائد ومن بينها هذه اليوميات التي كان يحرص عليها أشد الحرص، وأودعوها ذمة صديق له قريب في كوبنهاجن. واليوميات طويلة شائقة تقع في مجلد، ومفعمة بالملاحظات والقطع الرائعة ولكن الجزء الذي نشر في الصحف منها هو الذي نبسطه الآن للقراء. . . . . 5 مارس سنة 1914 لم يكن أبهج لدي وأعز فرحة منذ قدومي إلى ستكهولم من لقائي بصديقي سفن لارسن إذ صادفته وهو يرتشف رشفات القهوة في رحبة الملهى، فانطلقنا إلى داره وهناك التقينا بوالده لارس لاسن ووالدته وشقيقته مينا وقد رأيتهم قوماً كراماً محببين جذابى النفوس، أما الوالد فشيخ ممراح يملأ جو المكان الذي ينزل به ضحكاً ولهواً والفتاة صبيحة الوجه حسناء المعارف أذكرتني إذ وقع بصري عليها بالفتاة جريتشن في رواية فوست التي شهدت تمثيلها ذات يوم لا أذكره. ورأيت أن سفن قد اطلع كثيراً ودرس جملة من العلوم منذ آخر عهدي به في المدرسة وأصبح يحدث الجلوس بلهجة الثبت الثقة في كل موضوع وفن، وكان الحديث الذي دار بيننا في تلك الجلسة الفكهة عن الجمال ولعل ذلك وحي من وحي نظرات شقيقته، فسألتها

إذ ذاك أن توقع لنا نغماً على المعزف البيانو. فلم تتدلل ولم تتمنع، وإنما سألتني في مقابل النزول لي عن ملتمسي أن أغضي النظر عما أجده من النقص في توقيعها وقامت في الحال إلى البيانو وأطلقت أناملها تلعب بالنغم لعباً فبعد أن وقعت بضعة ألحان معروفة سألتها مرة أخرى أن تضرب لنا لحناً من بتهوفن فأنشأت توقع لحن ضوء القمر وكان أعز الألحان لدي وأبهجها لنفسي وانطلقت روحي في عالم الحلم والخيال، وكان توقيع الفتاة جميلاً، وكان السحر الذي فعلته في فؤادي عظيماً. . . . . 5 إبريل سنة 1914 أيكون في الدنيا بأسرها سعادة أكبر من السعادة التي أحسها الآن. . . . أن مينا تحبني وقد نبأتني ذلك اليوم، لقد مضت ثلاثة أسابيع وأنا لا أستطيع أن أجمع شوارد خواطري وأوابد أحلامي فأدونها في يوميتي بل جعلت أنظر إلى صفحاتها البيضاء مذهول اللب لا أستطيع أن أستنزل ما في صدري صدر الصحف ومضيت أعجب كيف أنني لم أتبين فيها نظراتها المفعمة بالحب، وكيف كنت أبله أحمق إذ لم أتشجع من قبل فأسألها أن تكون لي. . مينا. . .! لي. . . . إلهي هل أنا جدير بهذه النعمة الكبرى، أتراني خليقاً بأن أظفر بهذه المنحة الإلهية وهي قلب مينا. . . .؟ 20 يوليو سنة 1914 ألقيت بالقلم جانباً ولبثت أتسمع صيحات الغلمان باعة الصحف وهم يعدون في الشارع في هذه الساعة الواهنة من الليل، إنهم يصرخون بأن الحرب موشكة أن تقع وكانت الجريدة التي يبيعونها تريد أن تقنع قراءها بأن من المحتمل أن تساق أوروبا بأجمعها إلى حرب كبرى من جراء شكاة النمسا من الصرب. . . ياللسخافة وياللتكهن!! إن حرباً أوروبية تنشب اليوم لا تكاد تلبث أسبوعاً حتى تجر الخراب والإفلاس إلى كل شعب ومملكة، إني سأذهب إلى المضجع فأهبط في وادي النوم هادئاً لا خوف ولا رهب من هذه الحرب الموهومة. أما إذا وقعت الحرب حقاً، فإنني من رديف البحرية، وأعلم علم الغواصات وأنا إلى الحرب

ذاهب ولا ريب وقد كنا في هذا المساء في حديث طويل أنا وسفن عن الغواصات وكان هو كذلك يعلم خافية أمرها ويرى أنها ستدخل في الحرب وستقوم بالجزء الأكبر منها، وكان هذا هو الرأي الذي اجتمعنا عليها في هذا المساء. . . . 31 يوليو سنة 1914 لقد تحقق المستحيل ووقع المحظور، وقامت الحرب وأنا غداً شاخص إلى كييل ولعل إصدار الأمر إلي بالسفر إلى كييل هو في سبيل خدمة الغواصات. أما والد مينا ووالدتها - لهما الله - فقالا أنهما لا يعتقدان الحرب ماكثة أسبوعاً أو أسبوعين على الأكثر وأنه إذا خمدت الحرب بعد تلك المدة القصيرة وعدت إليهما تزوجت من الفتاة على الفور. 30 سبتمبر سنة 1914 للمرة الثانية منذ تلقيت قيادة الغواصة رقم 13 عدت إلى كييل طلباً للوقود والميرة ومع ذلك لم أتلق كتاباً من مينا! أترى خطابي لم يبلغ إليها ولكنها تعلم أنها تستطيع أن تكتب إلي من كييل، لا يعقل أنها طردتني من فؤادها بهذه السرعة، كلا إنها مخلصة القلب نبيلة الفؤاد عظيمة الذهن فلا تطاوعها النفس على أن تحل رجلاً غيري مكاني من قلبها لمجرد أنني بعيد عن نظرها ولكن من يعلم. . . . رباه. . . إن هذه الخالجة من الشك تحرق فؤادي. . في الرابع والعشرين من أغسطس أغرقنا سفينة. والتهم اليم من رجالها وكانوا مئة، اثنين وعشرين رجلاً، واتفق أن الموج قذف إليها على لوح من الخشب صبياً من البحارة متشبثاً للنجاة مجاهداً، فالتقطناه من اليم وإذا به لا يكاد يعض على الثانية عشر، وعلمت من الصبي أن أباه وأخوه له ثلاثة ذهبوا إلى فرنسا وأنشأ الصبي يقول. . . وبقيت أنا الرجل الوحيد في الأسرة. . فسألته عما إذا كان يشعر بحزن لتركه أمه، ولعله لم يكن لديه من الوقت من قبل سعة للتفكير فيها، فلما أذكرته الآن ذلك انفجرت عيناه دمعاً وأجهش بالبكاء وطلب العودة إلى وطنه وجعل يحدثني أنه أفلت من الأسرة ناسياً أن أمه وشقيقته مفتقدتاه محزونات عليه.

قلت مواسياً الطفل: أتعدني إذا أرسلتك إلى وطنك أنك غير فاعل أمراً آخر يجرح فؤاد أمك؟ فأجاب أعدك ذلك يا سيدي، إني لأعدك كل شيء إلا. . . . . . وهنا تمهل متردداً قلت. . ماذا. . .؟ قال. . . إلا. . . إلا. . إلا أن يحول شيء بيني وبين قتال أولئك الألمان الملاعين. .! فضحكت ملء قلبي وعجبت كيف يلقي الأطفال كراهية الشعوب ولعل الصبي تعلم ذلك من والدته. . وفي المساء بعينه أشرت إلى سفينة نرويجية كانت تمخر العباب ونقلت الصغير إليها بعد أن استوثقت من القبطان بأن ينزله ساحل وطنه فسر القبطان ذلك وأنبأني أنه كان شاخصاً بالصدفة إلى لندن وكانت قرية الفتى عن كثب منها، والآن أسائل نفسي هل ترى الصبي تاركاً أحد هؤلاء الألمان الملاعين في نجوة من شره إذا وقعت في يديه. . . . . بلغني الآن منذ آونة بأنني سأتلقى قيادة غواصة كبرى فلم أندم على تركي هذه الغواصة رقم 13 لأنها لم تكن تعجبني. . . . . 15 أكتوبر سنة 1915 الأيام الثلاثة التي مضت كانت أرهب الأيام في حياتي ولن تمحي ذكراها من خاطري. لم تكن الغواصة التي استلمت قيادتها وهي الغواصة رقم 34 أرحب صدراً من تلك المسكينة التي تركتها وأفخم حالاً فقط بل كان بحارتها أقل وحشية من أولئك وأرفق قسوة ثم زد على ذلك أن معي صديقي العزيز فرتزلونج، وهو يتلوني في القيادة. . . وعجيب من القضاء والقدر أن يعبث بنا هذا العبث ويقذفنا بتلك الدعابات، إنني عندما تركت استوكهولم لم يكن فرتز قد تلقى بعد الأوامر بالانضمام إلى الصفوف وجعل يقول: وإذا دعيت إليها أبيتها إذ كان يعد الحرب عودة إلى الوحشية ذهابة بالمدنية، مفسدة للكولتور الذي أقمناه ورفعنا بنيانه، ولم يكن في دعاة السلم من هو أشد حمية منه. فلما سألته ماذا غيّره وأحاله جندياً، أنشأ يقول بصراحته المعتادة: لم أتغير ولم يتبدل ذهني، إنني لا أزال أعد الحرب جرماً وفعلة خاطئة ولكن ماذا أصنع لقد وجدتني زنبلكاً صغيراً في وسط ملايين من قطع هذه الماكينة العظيمة التي يسمونها الوطن. . ومن العار الأكبر

أن لا يؤدي هذا الزنبلك الصغير عمله والأداة متحركة دائرة ولذلك ها أنا ذا. . .! كان الثالث عشر من أكتوبر يوم شغل شاغل إذ كنت موكلاً بتوصيل رسالة من أهم الرسائل إلى انجلترا، وكانت في رمز علمت منه أنها تختص بالحصر البحري وكان عليّ أن أدفع بها إلى ربان سفينة سويدية نبئت أنها تبعد عشرة أميال من ثغر يار موث وعليه هو أن يتم الباقي، ولما كانت الرسالة ينبغي أن تكون لدى الربان في الساعة الثامنة من المساء ولم يبق على الموعد إلا خمس ساعات أطلقت لقاربي الحد الأقصى من سرعته. وستبقى الخمسة أميال الأخرى ماثلة في خاطري يد الدهر، فقد سدد أحد القوارب الانكليزية المستكشفة المرمى علينا ولكنه أخطأنا بأربعين ياردة، فغطسنا في الحال وأجبناه بناسفة من نسائفنا. ويلوح لي أن الطوربيد أصاب مخزن بارود تلك السفينة. ولم أجد من الوقت متسعاً لإنقاذ القوم، لأن الرسالة التي كلفت بها كانت تستحثني فتركتهم لأمرهم يفعل القضاء بهم ما يريد. . . أول يناير سنة 1915 كنا على قاب قوسين أو أدنى من الهلاك في أول أيام العام الجديد لو لم تنقذنا المعجزة، فقد كادت تهوى بنا سفينة كبرى من سفن الأعداء. وذلك أنني قبل وشك الساعة الثالثة من الصباح انطلقت أستلم من فرتز نوبتي في الحراسة، وكان يرقب الغواصة الليل كله، ولم يغمض لي جفن طول تلك المدة، ولم يأخذ عيني الكرى، وأسهدتني وساوس مختلجة في صدري من تلك الوساوس التي تهجس في الخاطر، قبل وقوع مصاب، أو حادث سيء، ذلك الإحساس الأليم الذي يشعر به الإنسان من حين إلى آخر قبل نزول النازلة، ولكن كنت أرد السبب إلى ذكرى مينا وكنت أوجس شراً أن يكون قد ألم بها أمر أو وقعت لها ملمة، ولم تستطع الصلاة، ولم يغن الابتهال - ذلك البلسم العذب الذي يدمل جراحات النفوس ويطفئ آلام الذهن - عني في تلك المرة شيئاً، ولم يفد في تخفيف جزعي، وتهدئة اضطرابي. وكان فرتز قد أنهكه التعب، فسره أن يفلت من الحراسة ومضى إلى مخدعه طلباً للراحة، ولم يكد يتركني، حتى سمعت صوتاً لا يجهله رجال الغواصات، صوتاً بدا خافتاً ولكنه عاد

يشتد شيئاً فشيئاً، وهو صوت حركة آلة باخرة، وكنا نسير في رفق غاطسين في اليم نحواً من خمسة عشر قدماً، وللحال حولت مجرى الغواصة بعيداً عن جهة الباخرة واقتربت قليلاً من سطح الماء، لأستخدم المنظار وتبينت فوق دائرة ذلك المنظار شكل السفينة. أول إبريل سنة 1915 يلوح لي أن في هذه المجزرة شيئاً من البهجة والسرور فقد أصبح لديّ إرسال ناسفة في طريقها إلى الموت أمراً لا يزيد في تأثيره عن قذف كرة الكركيت إلى الناحية الأخرى من الملعب، وما أشبه تهالك النفوس على الباخرة المغرقة وسقوطهم إلى اليم كتساقط الأهداف إذ تصدمها الكرة. كنت علم الله أريد لهواً، وأطلب سلوى، إن مينا لم تبرح في ذاكرتي ولا أزال أحملها في خفقة فؤادي، وفي هذا القنص تحت أديم الماء ما يهدئ من ثائرة ذهني بعض الهدوء، وقد قال لي فريتز إن من حسن حظي أنني لست مولعاً بالشراب وإلا لقد كنت عليه ملحاً، وكنت سأكون من السكر منزوفاً طول الوقت وقد حاولت أن أجد في هذه اليوميات العزيزة عليّ، مانعاً يحول بيني وبين الجنون. . . . 30 مارس سنة 1916 تراءت لي مينا ليلة الأمس في الحلم، وعلى الرغم من كثرة ما شغلت خاطري بتذكارها طول نهاري، وعديد ضراعاتي وصلاتي من أجلها كانت هذه أول مرة بانت لي في الرؤيا. . لقد كان حلماً مضطرباً مشوشاً ولم أستطع أن أتذكر إلا اليسير منه، إذ أفقت ويلوح لي أنه حلم مزعج يحمل في أثره شراً وسوءاً لأنه قد ترك أثراً حزيناً وظلاً ثقيلاً على القلب. في السابع والعشرين من هذا الشهر أغرقنا سفينة نرويجية تحمل لحوماً من الأرجنتين وقد كنا أنذرناها بقنبلة فلم تعتد بالنذر فأرسلنا إليها أخرى فأطارت جهازها اللاسلكي، والفضل في ذلك للرامي هالبرت، فهو يعتز بأنه لا يرسل رسولاً من رسل الموت إلا بلغ هدفه، وإذ ذاك وقفت السفينة وهرع البحارة إلى قوارب النجاة، فأطلقنا على الجارية ثلاثاً أخرى فأجهزت عليها، وانطلقنا نعين القوم ونرعى القوارب ورأينا أنهم على مسافة قصيرة من

الساحل، مقدارها مائتا ميل فزدناهم ميرة وأمددناهم بكفافهم من الطعام والشراب، إذ كانت أحمال سفينتهم من اللحوم قد غرقت معها. وكان من بين البحارة رجل قزم أصفر البشرة، أسود الشعر أشبه شيء بالإسباني منه بالنرويجي. . وسمعناه يغمغم لغة من اللغات إذ ابتعد القارب عنا. قال إيجلو أحد بحارتنا وكان منه قريباً: إنه يريد أن يذهب الإمبراطور إلى الجحيم! قال هالبرت وقد وضع يده على مسدسه: هل تأذن لي يا سيدي بأن أرسل هذا الرجل إلى الجحيم ليعلن أهلها أن جلالة إمبراطورنا يرفض الذهاب إليها! وكان هذا القول المجوني منه جداً وعزماً صادقاً. قلت اسأله وكيف عرفت أنه يقول سوءاً عن الإمبراطور؟ فأجاب: إني سمعته لأني أعرف النرويجية! وكان القارب لحسن الحظ قد انطلق عنا مبتعداً فلم أر إلا أن أقول: لعلك مصيب رجلاً غيره إذا أنت أطلقت الرصاص على هذه المسافة الكبيرة. وكنت لا أريد أن أظهر أمام البحارة شيئاً من عدم الاكتراث لإهانة سخيفة كهذه، ولكني مع ذلك كرهت أن يقتل رجل من أجل كلمة طائشة لا معنى لها. . . . . . 2 إبريل سنة 1916 رأيت مينا في المنام مرة أخرى، وكان حلم الأمس ذاك الحلم الفائت بعينه وأنا الآن مستطيع تذكر الحلمين، رأيت مينا في رفقة أبيها وسفن شقيقها، وكانت أمها في الناحية الأخرى بمكان قصيّ بعيد، وكانت واقفة تشير إلى مينا تطلب قدومها إليها، وكانت ذراعا مينا متفتحتين إليّ تطلبان احتضاناً، ولكني عندما هممت بالذهاب إليها وقع انفجار هائل، أخفاها قليلاً عني، ولكن لم يلبث أن تبدّد الدخان فرأيت مينا واقفة بجانب أمها، ترسل القبلات بأناملها إلى وجنتي وإلى أبيها وشقيقها. قال صديقي فرتز عندما أنبأته نبأ هذا الحلم: إذا كان لهذه الرؤيا معنى فلا يكون ذلك إلا أنك لن تلبث حتى ترى الآنسة مينا. على أن تفسيره لم يمح ما عراني من الاضطراب لهذا الحلم وما كنت أشعر به من آلام، ولا أستطيع أن أجتنب تخيل مصاب شديد وقع بمينا أو لا شك واقع أو أمر نزل وانقضى.

6 إبريل سنة 1916 لقد قتلت أعز إنسان لديّ على الأرض. . . أنا قاتل مينا. . . غفرانك ربي وعفوك. . . أواه. . . أواه. . . 10 أكتوبر سنة 1916 مضى زمان طويل منذ ذلك اليوم الرائع الهائل إلى هذه الساعة! لم أكن أعتقد أنني سأعيش هذه المدة المتطاولة، فقد علمت من فرتز أنه وجدني طريحاً والجملة الأخيرة من يوميتي لم تتم وإنني لبثت ثلاثة أيام سوياً في حمى شديدة، أهذي هذيان من به جنة ولم أستطع أن أتمالك جأشي وأعود إلى لبي إلا في هذه الساعة، ولم يكن لدى جلد على متابعة اليوميات إلا الآن. في السادس من شهر إبريل المنصرم رأيت سفينة سويدية تنوء بأحمالها، راجفة في مهب الريح، تعدو صوب السواحل الانكليزية، فأطلق هالبرت قذائفه فأصابت واحدة منها صاريها فهوى متحطماً إلى أديمها، وأحدث وقوعه اضطراباً عظيماً في السفينة فلاح لنا أنها توشك على الغرق، فلما تدانى قارب النجاة منا، بلغ مني العجب مبلغه إذ رأيت فيه لارسن والد مينا وشقيقها سفن، وعلى الرغم من أنني أحسست أشد الحزن إذ خطر لي أن هذا اللقاء قد كلف الشيخ عظيماً، لأنني لم ألبث أن أوحي إليّ أن السفينة المغرقة هي ولا ريب سفينته التجارية التي كان يصيب الرزق منها، فإنني لم ألبث أن شعرت بروح من السعادة يسري في جميع أجزاء بدني، لأني علمت أنني سأظفر الآن بأنباء عن مينا. فصحت بهما والقارب لا يزال على بعد مائتي خطوة منا أنشدكما الله أين مينا؟ قال لارسن الشيخ وهو يشير إلى البقعة التي سقطت عندها السفينة هناك! فلم أدرك المعنى الذي أراده من تلك الكلمة وحسبته يتكلم على سبيل الاستعارة والمجاز كأنما يريد أن يقول أن الفتاة كانت تحب تلك السفينة أشد الحب وأنها ستروح دامية الفؤاد إذ تعلم بنبأ تلك الفادحة ولكنني عندما اقترب القارب وأدركت حقيقة المصاب العظيم تراخت ركبتاي وكدت أسقط لو لم أستند على ذراع هالبرت ورجل من البحارة، فقد علمت

أن قطعة كبيرة انتثرت من الصارى فصدمت مينا وهي خارجة من حجرتها فأماتتها لساعتها، وأسقطتها تحت الأنقاض وعلم أبوها وشقيقها أن القضاء قد نفذ وشهدا السفينة مسرعة إلى الغرق وأن ليس لهما سعة من الوقت، فلم يجدا لهما سبيلاً إلا أن ينزلا قارب النجاة ويتركا رفات مينا يهوي إلى قاع الأوقيانوس. فجاهدت قواي وانطلقت بالرجلين إلى حجرتي، وهناك تلقيت منهما تفصيل القصة. قال سفن شقيقها: فلو أنك كتبت إلينا. . .! أنك لم ترسل إلينا إلا كتاباً واحداً، ثم أعقب ذلك. . .! السكوت التام!. فصحت عجباً. . لك الله أيها الرجل! لقد كتبت عدة من الرسائل أناشدكم فيها إلا ما أرسلتم إلى تذكاران مينا!. . قال الشيخ: ولكننا لم نتلق إلا واحدة منها، تلك التي قلت فيها إنك وإن كنت قد دعيت إلى خدمة الغواصات غير متوقع أن تغيب طويلاً عن استكهولم!. . قلت: ومن كان يظن أن هذه الحرب الملعونة ستطول هذا الأمد الرخيّ كله؟ قال الشيخ: لقد حاولت مينا أن تحتمل آلام الفراق بشجاعة وصبر ولكنها عادت تأخذ في النحول والهزال، ولم تكن تشكو ولم تكن تتأوه ثم لم يمض زمن حتى انقطعت عن الكلام عنك دفعة واحدة لأنها كانت تعلم أننا كنا نعتقد أنك قد نسيتها وطردتها من قلبك، ولم تكن تحتمل أن تسمع كلمة سوء من إنسان عنك! فلما أقبل ديسمبر الماضي، توفي الله زوجتي، وكانت تلك نكبة أخرى أشفقنا منها أن تذهب بحياة الطفلة المسكينة، وقد ذبلت الوجنتان وغارت العينان، فاشتريت تلك السفينة - تلك التي أغرقتها منذ لحيظات - وأجمعت على أن أصحب مينا في سفراتي واستعنت على قيادة الجارية بسفن. وكنا عائدين من الساحل الغربي لإفريقيا نحمل أحمالاً إلى انجلترا وكان قضاء ثلاثة أشهر في عرض البحر كافياً لكي يرد لون الورد إلى وجنة الفتاة، وأوشكت مينا أن تعود إليّ جمالها الأول، كآخر عهدك برؤيته، ولاح لنا الابتهاج مسرع إلينا وإننا لكذلك - وتلك عجائب القدر - إذ بك قد عرضت لنا في طريقنا، فبددت هناءنا إلى الأبد! فما سمعت من الرجل أن زوجته قد توفيت، تذكرت الحلم وما تراءت لي فيه تلك المرأة

الصالحة فنبأته بالخبر كيف أنني رأيتها واقفة عن كثب تشير إلى مينا أن تقدم إليها وإنني رأيت بعد الانفجار مينا بجانب أمها، تقذف في الهواء قبلات حارة إلينا. فتبادلنا العزاء، ما استطعنا سبيلاً إليه، وأمددنا قارب الرجلين بالميرة الواجبة فركباه شاخصين إلى الساحل الانكليزي. وعمدت إذ ذاك إلى يومياتي، أدون أحداث اليوم، ولكنني لم أكد أخط سطرين، حتى علت عيني غشاوة مظلمة، وأعقبها النسيان المطلق، ولما فتحت عيني مرة أخرى بعد ثلاثة أيام رأيت فريتز وكمفر بجانب سريري، وجعل فريتز يقول لي: إنه كان مجمعاً إذا أنا لم أفق على أن يقود الغواصة إلى مربضها لكي يكفل لي من التمريض العناية التامة. الله للرجلين، ما أكرم فؤاديهما. . . . . 12 إبريل سنة 1917 ليكن عدد ما في يومياتي هذه من الكلم سخطات ولعنات، ماذا أصبح العالم الآن في ناظري. . . . جحيماً وعذاباً مقيماً. . .! مينا من قبل ثم الآن شقيقها بل صديقي الكريم عليّ سفن لارسن وعشرة من بحارته!. . لقد كرهت رسل الحرب ومستطيريها. الواجب، الواجب، لا شيء غير الواجب، لا كلمة واحدة تقال عن الإنسانية!! القتل والنسف، والتحطيم والتدمير بالقذائف والمهلكات، يوماً فيوماً، حتى يستدير العالم، وتستحيل دورة السنين، رباه، ما أشد سآمتي اليوم من كل ذلك، وما أكرهني فيه، ولم كل هذا التقاتل والتطاحن، لا شيء إلا أن حاكماً لا يريد أن يذعن إلى حاكم آخر. . . .! والآن إذا كان لا بد من القتل، فإنني سأقتل كنمر مفترس، سأحطم كل شيء في طريقي، إلى الجحيم رجال الحرب جميعاً، إذن فسأجيد القيام بواجبي، سأكون وحشاً ضارياً. . . 25 مايو سنة 1917 لا بد من أنني كنت مجنوناً إذ كتبت الجزء الأخير من يومياتي إنني لا أتذكر مطلقاً أنني كتبتها، ولم أفتح يومياتي منذ ذلك العهد إلا الآن. كان سفن ولارسن والده ضابطين على سطح الباخرة آدا، فلما نزلا قارب النجاة بعد الغرق،

ثار الجنون برأس سفن من أثر هذه المجازر التي أحدثتها فوثب من القارب طافراً إلى عنقي يريد أن يدقه، وكان هالبرت بجانبي فضربه فوق رأسه بمؤخرة مسدسه فسقط سفن منحدراً إليّ أليم فوثبت وراءه، ولكنه كان قد هوى إلى الأعماق ولا يزال في إغمائه، وبحثنا عنه كثيراً فلم نعثر بأثر منه. أما والده المسكين، وقد فقد زوجته وطفلته وابنه - فلم يعتب ولم يلم، كان فؤاده في أشد اليأس، فجلس في مكانه من قارب النجاة يهز رأسه في صمت، ولبثت أرقب القارب وهو يبعد عنا ذاهباً في صميم الأمواج، فشهدت الرجل من خلال المنظار لا يزال يهز رأسه. إن بعض العزاء الذي أشعر به الآن أستمده من الجلوس ملياً أمام صورة مينا وقد جللتها بالسواد وببضعة أبيات في رثائها، نظمتها في خاطري، ما أعجبني كيف استطعت تصويرها بريشتي في هذه الصورة الحية الرائعة. . .! هنا انقطع سير اليوميات فجأة. وقد حدث أحد البحارة الذين كانوا في السفينة النرويجية الملقبة فوكلاند والتي أغرقتها الغواصة بعد ذلك بما رأي من جنون القائد وكيف قذف بنفسه إلى اليم ولا تزال تجري على شفتيه هذه اللفظة الرائعة مينا! مينا!.

آداب

آداب دعا طلحة بن عبيد الله - وكان من أجود قريش - أبا بكر وعمر وعثمان رحمة الله عليهم أجمعين فأبطأ عنه الغلام بشيء أراده فقال طلحة يا غلام فقال الغلام لبيك فقال لا لبيك، فقال أبوبكر ما يسرني أني قلتها وأن لي الدنيا وما فيها وقال عمر ما يسرني أني قلتها وأن لي نصف الدنيا وقال عثمان ما يسرني أني قلتها وأن لي حمر النعم وصمت عليها طلحة فلما خرجوا من عنده باع ضيعة بخمسة عشر ألف درهم فتصدق بثمنها - فتأمل مبلغ أدب القوم ولا جرم فقد أدبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم وأحسن تأديبهم - ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رجل من القراء متقشف متماوت فخفقه بالدرة وقال له أمتّ علينا ديننا يا هذا، فانظر كيف كان بصرهم بالإسلام وإشفاقهم عليه أن يحرف عن موضعه وأن يدال من عزه ذلاً ومن قوته ضعفاً كما يظن كثير من أهليه اليوم ن ويروى أن رجلاً قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم قال يا رسول الله إنما أؤخذ من الذنوب بما ظهر وأنا أستسر بخلال أربع الزنا والسرقة وشرب الخمر والكذب فأيهن أحببت نزلت لك سراً فقال رسول الله دع الكذب فلما ولى من عند الرسول هم بالزنا فقال يسألني رسول الله فإن جحدت نقضت ما جعلت له وإن أقررت حددت فلم يزن ثم هم بالسرق ثم هم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إلى رسول الله وقال قد تركتهن جمع.

أحداث الشهر

أحداث الشهر الرزء العظيم فقيد مصر المرحوم حسن جلال باشا أفجعتنا الأقدار في أوائل هذا الشهر مارس سنة 1918 وأبت علينا إلا أن يختطف منا ريب المنون رجلاً عظيماً من رجالات القضاء، وشيخاً جليلاً من مشيخة القانون، فاهتدمت من حياتنا السامية المهذبة ركناً ركيناً كنا به أعزة رافعي الرؤوس، وكنا من سيرته النقية القوية الطاهرة نتلقى دروساً عالية تكاد تكون المثل الأعلى في العفة والتقى والنزاهة وقوة اليقين. وكذلك أرادت الأقدار إلا أن نعيش لنرى رؤوساً كبيرة من تعتبط بعضها إثر بعض فلا نكاد نغتبط بظهور رجل عظيم وقدوة صالحة تحتذى حتى ينزو القضاء فيسترد ما أعطي ويدعنا عزلاً في هذه الحياة عارين من كل ما ينعشنا ويسمو بنا إلى مستوى الجماعات الفرحة المبتهجة المدلة برجالها النافعين. ولو نحن ألقينا نظرة في تاريخنا الحديث لألفيناه مجموعة من انتظار رجل عظيم والإشفاق من سرعة فقديه، فنحن أمة محزونة لا يكاد يندمل جرح من جروحنا حتى ينفتح بجانبه جرح جديد. مات حسن جلال باشا - رأس كبير في القضاء وفي الخلق فتوارت صورة جميلة من الصور التي يجب أن ترتسم الحياة على غرارها، وليس ثمة عجب من أن يكون الرجل القاضي بين الناس عدلاً إذا كانت الحياة التي يعيشها بريئة غير متهمة بإثم من الآثام التي يقضي فيها، إذ كان حسن جلال باشا رجلاً تقياً نقياً صالحاً لم تدنس صحيفته معابة من المعابات التي لا يخلو تاريخ العظماء من واحدة منها. لقد نشأ الفقيد نشأة صالحة وغذي من تربة قوية وعاش دهراً في بلاد الغرب فلم تستطع مفاتنه أن تحدث أثراً في حياة الرجل لأنه كان يعرف قيمتها في نفسه، وإذ ارتفع إلى منصة القضاء علم إن راحة ضميره تعدل العلم بأسره فلم يرض أن يعيش هو في حرب بينه وبين ضميره لكي يجعل ضمائر المجرمين في هدوء بينهم وبين نفوسهم، فعاش حتى أخريات أيامه رجلاً يأخذ من نفسه حتى يري الناس كيف يجب أن يعيشوا ولا يدع حياته

تجري في أساليب عيش الناس. إن موت رجل نافع مثل الفقيد خسارة كبرى ولا سيما إذا كان رجلاً عدلاً لأن الناس يأبون إلا أن يكونوا فيما بينهم ظالمين ومظلومين، فلا جرم أن يكون عالم القضاء حاداً على الفقيد وعالم الناس في مأتم على قاضيهم، بيد أن ما يجعل العزاء قريباً إلى النفس ويجعل صبر المحزونين أن لا يزال من آل جلال رجل من طراز الفقيد، رجل كله كذلك فضل وتقى ونزاهة وعلم وإباء، رجل يستطيع أن يقول لنا ها أنا ذا أخي بينكم! -: ونعني به الرجل الطيب القلب الكريم المحتد على بك جلال شقيق فقيدنا والقاضي بالمحكمة المختلطة اليوم - فإذا كان الميت قد مات فليحي الحي، وليعش عيشاً طويلاً هنيئاً رغداً. ولو كنا الآن في سبيل تعداد مآثر جلال باشا لجئنا بموسوعات عنه ولاستطردنا طويلاً في تعداد مناقبه ولكنا نترك ذلك الآن مرتقبين الكتاب الممتع الذي سيخرج عن قريب بفضل رجل أديب مهذب من مريدي الفقيد وهو حضرة صاحب العزة محمد توفيق أبو طالب بك باشكاتب محكمة مصر الأهلية الابتدائية.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة التفسرة أي الاستدلال بالبول على أحوال المرض كتاب قيم في نوعه، وموضوعه يدل عليه عنوانه، وضعه العالم النطاسي الدكتور أحمد عيسى بك، والدكتور ليس بحاجة إلى التنويه به وبفضله وأنه من نوابغ الأطباء المصريين الممتازين الذي يحق لنا أن نفخر بهم، وثمن الكتاب 20 قرشاً وهو يطلب من جميع المكاتب.

صفحة من تاريخ الأندلس

صفحة من تاريخ الأندلس الشهامة الإسلامية والفتوة العربية كتبها خصيصاً لمجلة البيان العالم البحاثة المحقق حضرة صاحب السعادة أحمد زكي باشا سكرتير مجلس الوزراء لما انقسمت كلمة المسلمين بالأندلس آذنهم الله بزوال ملكهم وذهاب ريحهم فتقمم الولاة والقضاة والعمال والثوار بقايا ذلك الملك الطويل العريض وادعى كل منهم المملكة لنفسه في البقعة الصغيرة التي احتازها. بل نرى بعضهم قد ألف أول جمهورية إسلامية (كما حدث في قرطبة مع بني جهور) والبعض الآخر ألف حكومة ثنائية على الشكل الذي كان معروفاً عند الرومان باسم (كما حدث في بلنسية ما بين مبارك ومظفر العامريين) وكان من العجائب اشتراكهما في الملك ولا تنافس بينهما حتى أنهما لم يمتازا إلا في الحرم خاصة وقد ذكر ابن دراج القسطلي شاعر الأندلس هذين الرجلين في قصيدة له بقوله: وأظفرت آمالي بقصد مظفر ... وبورك لي في حسن رأي مبارك ولكن اشتد أمرهما وحرصهما في الجباية وأضرا بالناس فاستغاثوا إلى الله فهلك مبارك متردّياً عن فرسه، وضعف مظفر بعده فأخرجه أهل بلنسية فانتزا بشاطبه. أولئك هم ملوك الطوائف، كان كل واحد منهم يطمح في أن يتغلب على جميع أقرانه ويجمع الملك كله في يده ليجعل نفسه خليفة الله في أرضه وليورث الخلافة بنيه من بعده، فكانوا مع ضعفهم وضآلة ملكهم في خصام وعراك لا يكاد أن ينقطعان، هذا إلى انغماسهم في حمأة الترف وهويهم إلى الحضيض الأوهد من الشهوات. نعم وقد كان ملوك الإسبانيين في جهات الشمال كذلك منقسمين بعضهم على بعض ولكنهم استفادوا من تشاحن العرب وتطاحنهم، فكانوا يجمعون كلمتهم عند الحاجة لإضعاف العرب ثم يعودون على خصوماتهم ومنازعاتهم إلى أن تتجدد الحاجة فيجتمعوا لسحق العرب وإذلالهم، وبهذه الوسيلة تمكنوا من استخلاص طليطلة التي هي مفتاح الأندلس الإسلامية. ذلك أنه عند انقراض الخلافة الأموية من قرطبة، كان القاضي في مدينة طليطلة رجلاً اسمه ابن يعيش فاستبد بالأمر فيها ونادى بنفسه ملكاً عليها ولكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى قام

عليه بنو ذي النون - وكان لهم شوكة وعصبية في شرق الأندلس - فانتزعوا الملك منه وقاموا بشأنه خير قيام، وفي أيامهم تقدمت المدينة وبلغت من السعادة المادية والأدبية درجة تغبط عليها. (1) هذه البيانات لم يطلع عليها أحد من الباحثين والمنقبين قبل الآن، ولم يذكرها مؤرخ عربي أو غربي، وقد ظفرت بها في كتاب المغرب بأخبار المغرب لابن سعيد الأندلسي الشهير وكتابه بخط يده محفوظة بقاياه القليلة بدار الكتب السلطانية، وفي خزانتي الزكية نسخة مأخوذة عنها. وكان واسطة ملوك هذا البيت هو المأمون بن ذي النون فإنه تغلب على كثير من ملوك الطوائف وأضاف من أملاكهم إلى ملكه وصنع بطليطلة من العجائب ما تكفل به التاريخ وبسطناه في موضع آخر من محاضراتنا على حضارة الإسلام في الأندلس. وفي أيام المأمون هذا كان معاصره فردينند الأول قد تمكن من التملك على ثلاثة من ممالك الإسبانيين وهي قشتالة وجليقية وليون، فاستفحل أمره وقويت شوكته وحينئذ توجهت أنظاره إلى غزو ملوك الطوائف وتوسيع مملكته على حسابهم فتقدم بجيوشه نحو قلعة هنارس الكائنة بالقرب من مدينة وادي الحجارة فاستغاث أهلها بالمأمون بن ذي النون لأنه أقوى ملوك الطوائف، غير أنه كان في خصام مستمر مع مناظره المعتمد بن عباد فلم يشأ أن يزيد فوق أكتافه عدواً جديداً بل رأى من السياسة أن يستميله ليتمكن من إذلال ابن عباد والقضاء على دولته، لذلك لم يعبأ المأمون بتقدم فردينند الأول وفتوحه في بلاد الأندلسيين من جيرانه بل ذهب بنفسه إلى معسكره وسأله الصلح وأرضاه بكل ما طلب، ثم تقدم إليه في أن يشن الغارة على ابن عباد ليقتلع دولته من إشبيلية، فلما رأى ابن عباد هذا الخطر الداهم، مع علمه بعجزه عن مقاومة هذه الجيوش، بادر هو أيضاً إلى الدخول في صلح فردينند وفرض على نفسه إتاوة سنوية يؤديها إليه وقدم له هدايا جليلة، فأنعم عليه فردينند بما طلب. ولقد بلغ من انقسام ملوك الطوائف بعضهم على بعض أن المأمون وضع جيوشه تحت تصرف فردينند هذا فذهب بها وبجنوده يشن الغارات عليهم حتى بلغ أبواب بلنسية، فاستفحل أمره وأمر دولته إلى أن كان سبباً في سقوط طليطلة نفسها.

ومن العجائب أن سقوطها كان بسب أكرومة فعلها المأمون بن دي النون مع ابن فردينند هذا فعادت هذه الأكرومة عليه وعلى دولته بالو بال وكانت سبباً في زوال ملكه وضياع الأندلس كلها من يد المسلمين، ذلك أن فردينند لما أحس بدنو أجله في سنة 1065 م (458هـ -) قسّم مملكته وهي قشتالة وجليقية وليون بين أولاده الثلاثة: دون شانجه ودون غرسيه والأذفنش، غير أن الأول اغتصب نصيب أخويه وحاز المملكة كلها لنفسه ففر غرسيه ولاذ بابن عباد في إشبيلية فأمده بالمال والرجال لاسترجاع نصيبه، وأما الاذفنش فقد هرب من الدير الذي حبسه فيه أخوه بمدينة برغش واستجار بالمأمون ابن ذي النون فأكرم مثواه وخصص له قصراً فاخراً في أرباض طليطلة خلف النهر، ولا تزال خرائبه موجودة للآن بقرب محطة السكة الحديد ناطقة بما كان فيه من عظمة وجلال. مضت الأيام والشهور وهذا الأمير الإسباني في ضياف ملك المسلمين على أحسن حال، وقد روى مؤرخو الافرنج أن المأمون ذهب في يوم من الأيام مع رجالاته وكبار قواده إلى زيارة هذا الضيف الكريم فأخذوا في المسامرة والمنادمة في روضة القصر ثم جلسوا تحت الأشجار الوارفة الظلال وهبّ عليهم النسيم العليل، فنام الأمير الإسباني أو تناوم بينما كان سادات العرب يتجاذبون أطراف الحديث حتى انساقوا إلى الكلام على حصانة المدينة واستحالة أخذها مهما كانت قوة الجيش الذي يهاجمها، ففرطت عند ذلك كلمة من أحد القواد كانت هي القاضية! فقد قال إن العدو مهما فعل بالمدينة فلن يتأتى له أن ينال منها شيئاً اللهم إلا إذا عول على طرقها سبع سنوات متواليات لإفساد ما حولها من الزروع والغلات، فحينئذ يكون من أهون الأشياء عليه اقتحامها إذ يكون الجوع قد فعل بها أفاعيله. تنبه المأمون بن ذي النون لهذه الفلتة وتفطن سادات العرب لما فرط من صاحبهم وأوجسوا خيفة أن يكون ضيفهم الإسباني متناوماً لا نائماً فيكون قد وعي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها للإسبانيين امتلاك هذه المدينة الحصينة المنيعة، فأخذوا يستخبرون النائم ولكنه أغرق في الغطيط وزاد في التناوم وبالغ في التماوت حتى اطمأن بالهم وظنوا أنه لم يدر ما دار بينهم من الحديث، ولقد بالغ الافرنج في رواية هذا التماوت إلى درجة لا تقبلها العقول فقد زعموا أن العرب تخيلوا أنه وقف على أسرارهم فأرادوا أن يقتلوه ولكن شهامتهم أبت عليهم أن يسفكوا الدم الحرام ولاسيما دم الضيف بغير الحق.

فأرادوا أن يختبروا حالته فتقدم أحد السادات وهزّه بعنف شديد فلم يستيقظ، فجاء آخر وصبّ في يده الرصاص المذاب فلم يتحرك الأمير الإسباني أدنى حركة، قالوا: فكان في هذا البرهان المحسوس على هذا النوم العميق منجاة له من القتل فقد خرق الرصاص يده ولم يتمامل مطلقاً ولذلك لقبه قومه بالملك المخروق الكف، نعم إن فريقاً آخر من مؤرخيهم يقولون أنه إنما لقب بذلك لتبذيره وإسرافه في بذل الدارهم والدنانير. هذا وما زال الأمير الإسباني في ضيافة ملك المسلمين حتى دعاه الأعيان بلاده لتقلد زمام الحكم بعد وفاة أخيه، فتوقف في إجابتهم وعلق قبوله دعوتهم على الاستئذان من ضيفه ووليّ نعمته وحافظ مهجته، فشكره المأمون على هذه المجاملة وقال له ما معناه أنت طليق، وأنا لك نصير! ولقد وجب حقك عليّ منذ لذت بجواري ودخلت في حماي! فلك عليّ أن أزوّدك بما تشتهي من المال وأمدك بمن تريد من صناديد الرجال! عهد أقطعه على نفسي حتى تسترجع عرش أبيك، ولست أطلب منك سوى خصلة واحدة: هي أن تحلف لي بأنك تبقى محافظاً على عهدي فتحترم مملكتي ولا تؤذيني في أهلي وبيتي. فشكره الأمير الإسباني وأقسم له بأغلظ الإيمان على ما أراد، ثم ذهب بجيش العرب وبمال العرب نحو بلاده فتقلد زمام الأحكام باسم ألفونس السادس، وقد لاقى العرب من بعد ما لاقى سنمار، لما سنراه من أفاعيله عما قريب. مازال ألفونس محافظاً على عهده مع المأمون، بل إنه أمده بجنوده في حروبه مع ابن عباد سلطان إشبيلية، فكان ابن عباد ووزيره ابن عمار (الشاعر الأكبر والداهية الأشهر) يواصلان الحيلة والدسيسة حتى أغريا ألفونس السادس بطليطلة وكان بها مغرماً هائماً ولاسيما بعد معرفته التامة بها وبقيمتها الحربية، فقد كان يهجس في ليله ونهاره بطليطلة وبحب طليطلة ولكنه كان يكبح نفسه عن أمانيه وأحلامه إذ كان يذكر عرفان الجميل ووجوب الوفاء بالوعد وضرورة البر بالقسم العظيم، فصار يتربص الفرص وهو يتقلب على أحر من الجمر، حتى وافاه الدهر بما يشتهي، فقد كان من حظّه أن مات المأمون وخلفه ولده هشام فأساء السيرة، على ما يقال، والأرجح أن دسائس ابن عباد وابن عمار من جهة، ومكايد الفونس نفسه من جهة أخرى، فعلتا فعلهما بين أهل البلد حتى جاهروا هشاماً بالعدوان واقتحموا عليه قصره وقتلوا حراسه وحاولوا اغتياله، غير أنه تمكن من الفرار،

فلجأ إلى الفونس السادس، صنيعة أبيه منذ عهد قريب، فأكرم وفادة هشام وأمده بجيش ساعده حقيقة على الرجوع إلى كرسي مملكته، ولكن هذه المعاونة لم تكن صادرة عن أريحية كاملة كما فعل المأمون مع الفونس بل إن الفونس أخذ من ابن المأمون ثمن هذه المساعدة إذ ألزمه أن يتنازل له عن حصنين منيعين متاخمين لبلاده، على أن هشاماً لم يتمتع بهذا الملك إلا قليلاً من الأيام، ولذلك لم يرد ذكره فيما وصل إلينا من كتب العرب وفي بعض تواريخ الافرنج، وخلفه القادر بالله يحيي: وهو أخوه على قول الافرنج، وابنه على قول العرب، وكان غبياً بخيلاً منحط الطباع فاسد الأخلاق فاغتنم الفونس هذه الفرصة وهاجم المدينة الجميلة التي كان يحلم بامتلاكها، وكان من أعرف الناس بعوراتها وطريقة الاستيلاء عليها نظراً للمدة الطويلة التي أقامها بها في ضيافة المأمون بن ذي النون، ونظراً لما علمه أثناء ما كان متظاهر بالنوم في روضة القصر. فمكث ثلاث سنوات وهو يشن الغارات على طليطلة مكتفياً بقطع الأشجار وإتلاف المزارع وإحراق الأنادر والبيادر بما فيها من الغلات والأرزاق حتى جعل المدينة أشبه بروضة أي واحة في وسط صحراء جرداء قحلاء، وكان يأسر الفلاحين وينقلهم إلى بلاده لكيلا يعودوا لغراسة الأرض وتعميرها حول طليطلة فتعود إليها القوة والحياة. بهذه المثابتة وقعت في قبضته المدينتان المجاورتان لطليطلة وهما مجريط (مدريد الآن) ووادي الحجارة، فبقيت طليطلة منقطعة منعزلة، ولذلك تسرب إليها الضعف والوهن فأصبح الاستيلاء عليها من أسهل الأمور: وحينئذ استغاث صاحبها بابن الأفطس ملك بطليوس وبابن هود سلطان سرقسطة وتمكن بمعاونتهما من صد جيوش الفونس السادس، ولكن هذا الملك عاود المدينة بالتخريب وتقليع الشجر وإتلاف المزروعات حتى تأتت له الفرصة التي كان ينتظرها وحلت الساعة التي كان يترقبها، وحينئذ جاء بجنود لا عداد لها وحاصر المدينة ست سنين ففعل الجوع أفاعيله بأهلها ولذلك طلبوا المفاوضة معه على تقرير الصلح، فأراد القادر أن يكون تحت عهده وفي ذمته ولكن الفونس أبى إلا أن يتسلم المدينة ليجعلها كرسياً لمملكة قشتالة، فلما علم أكابر البلد وحماتها بذلك أجمعوا أمرهم على المدافعة عن وطنهم وأهلهم وتحالفوا على الموت في سبيل الجهاد، غير أن العامة واليهود والمستعربين (أي أهل الذمة من الإسبانيين) ألزموهم بأن ينزلوا على حكم الفونس وأن

يقبلوا كل ما يريد مهما اشترط ومهما اشتط في الطلب. حينئذ سلمت طليطلة إلى الفونس السادس في 24 مارس سنة 1085 (24 ذي القعدة سنة 477 هـ -) فدخل بجنوده وجيوشه في موكب حافل يوم 25 مايو من المذكورة (27 محرم سنة 478 هـ -) إلى تلك المدينة الجليلة: مدينة الرومان، عاصمة القوط، مصر العرب، وقد أمر بسد الباب العربي الذي دخل منه فهو لا يزال مسدوداً إلى اليوم، واسمه عند العرب باب شقرا ويسميه الإسبان إلى الآن باسمه العربي محرفاً هكذا بيساجرا. وخرج القادر يحيى بن ذي النون منها على أقبح صورة وأفظع سيرة قاصداً عمالة بلنسية التي رضي الفونس بأن يبقيها له إلى حين، فقد بلغ من سخافته أنه بعد ضياع ملكه العظيم أراد أن لا يخرج من طليطلة إلا بعد أن يتخير بنفسه الطالع ويستخبر الكواكب لمعرفة الوقت الميمون المبارك فسار في الشوارع وبيده الاسطرلاب يحسب الدقائق والساعات ويرصد الطوالع والنوازل، فتعجب منه المسلمون وهم يبكون، وضحك منه الإسبانيون وهم به يستهزؤون. سقطت طليطلة في يد الإسبانيين فوجد الأندلسيون من ذلك ما لا يطاق وكانت هذه النازلة سبباً في احتراق قلوبهم وشدة تخوفهم من سوء العاقبة حتى قال شاعرهم العسال: يا أهل أندلس، حثوا مطيكم ... فما المقام بها إلا من الغلط الثوب ينسل من أطرافه، وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط ونحن بين عدو لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيّات في سفط على أن النازحين من أهل طليطلة ما زالوا يستنفرون إخوانهم في بقية أمصار الأندلس ويستنجدون ملوك الطوائف لاستردادها، لذلك يحدثنا التاريخ بما حاولوه من استرجاعها المرة بعد المرة فكانت سراياهم تراوحها وتغاديها، وتصبحها وتماسيها، وتطرق أحوازها ومغانيها، وتحوم حول حماها وتشن الغارات عليها. ومما يجب ذكره في هذا المقام أن الفونس السابع ملك طليطلة خرج لشن الغارة على بعض حصون المسلمين، واتفق في أثناء غيبته أن سرية من سرايا الأندلسيين ذهبت إلى طليطلة فهاجمتها وكادت تملكها، غير أن زوجة الفونس السابع وهي الدونة برنجويلا المسماة أيضاً بيرنجير أفلحت في إنقاذ المدينة منهم فلقد أقدمت هذه الملكة البارعة في الجمال على حيلة

بلغت من الجراءة مبلغاً ليس له مثيل في التاريخ، فإنها حينما رأت العرب وقد أوشكوا على فتح المدينة عنوة راسلت أميرهم وطلبت منه الهدنة إذ كتبت إليه رسالة هذه ترجمتها: ياوجوه العرب! بأي شرع من شرائع المروة والفتوة، تحاربون امرأة لا حول لها ولا قوة؟ لعمري أن هذا ليس من شمائل قومكم أهل الحمية والنخوة! أفما علمتم أن الملك زوجي قد ذهب لمحاربة إخوانكم في عقر داركم؟ وها أنا قد كاتبته بنزولكم علينا وهو بلا شك سيسارع إلينا، فإن كنتم كما أعهد من أهل النجدة والبأس، فما في انتظاركم ساعة من بأس! وإلا فاذهبوا إلى ملاقاته ومقارعته في جهة أوريجا هنالك يتاح لكم الظهور بمظهر الأنجاد المغاوير! أما إذا بقيتم في هذا المكان فليس لكم من فخار في قتال ربات الحجال! وإنما يحيق بكم الخزي المبين، إذا أقدمتم على امرأة عزلاء ليس لها من ناصر ولا معين. وصلت هذه الرسالة إلى أمير العرب فدبت فيه النخوة العربية فسارع إلى التنصل والاعتذار على أشرف وجه وأنبل أسلوب، مؤكداً أنه لم يكن يعلم أن الملكة كنت وحدها في طليطلة وإلا فإنه ما كان يجيز لنفسه أن يطرق حماها لأنه لم يخطر على باله قط أن يحارب امرأة ولا أن ينتهك حرمتها. ثم عرض عليها رفع الحصار في الحال بعد أن يتشرف بتقديم التحية إليها، حينئذ تقدمت الملكة فوق الأسوار وهي تتجلى كالعروس في أفخر ملابسها وحولها الوصيفات والضاربون بالآلات الموسيقية. فبادر العرب كلهم من وراء الأسوار إلى تقديم مراسم التحية والإجلال، وهتفوا مهللين مكبرين أمام هذا الجمال الساحر ثم انصرفوا تحت جنح الليل، فالتقوا بالملك الفونس في طريقهم فانقض عليهم بجنود لا قبل لهم بها فأفناهم عن آخرهم وكان ذلك آخر العهد بهم. وسنمحص هذه الرواية تمحيصاً تاريخياً علمياً في العدد الآتي، ونردفها بمسألة مشابهة لها من جهة الشهامة العربية، والله ولي التوفيق.

معبد هيبس

معبد هيبس وصف هذا المعبد - دلالة الخط الهير جليفي شكوك حول قراءتها - من (رحلة الواحات) لحضرة الاستاذ الشيخ محمد حلمي طمارة أحد خريجي مدرسة القضاة الشرعي لو كان لي قدرة على التصوير لاستغنيت به عن الوصف هنا، لأن صورة معبد (هيبس) تلقى في الإنسان روعة لا تحدثها العبارة، وتحيي في قلبه شعوراً بعظمة الآباء لا يقوى البيان على إحيائه. فتماثيل السباع الرابضة هناك والتي أصابها من التشويه ما أصاب (أبا الهول) تمثل ما كان له من المناعة، وشدة التحجب، وتخيل إلى القادم أنه مشرف على عرين ليوث وغابة أسود، لا قادم على بيت عبادة ودار تنسك. . . وبقية سياج المعبد الخارجي تدل حجارتها العظيمة على ما عاناه بانوها في نقلها. وما قاسوه من جرّاء وضعها في الجدار ورفعها. . . فإذا تجاوزنا ذلك كله وجدنا مجازاً جميلاً على جداره الشمالي صورة امرأة حسناء واقفة أمام رجل، يزعم أهل الآثار أنه آلة النسل - وعلى الجنوبي رجل جلس على كرسيه وخلفه امرأة وأمامه خادم حلق النسر فوق رأسه، يناول سيده الكأس بيمينه، وبين يديه مائدة عليها أباريق الشراب وأواني الطعام ووراء هذا المجاز قصر فخيم وبناء ضخم، يتقدمه بهو جميل، به ست دعائم منها ثلاثة على يمين الداخل ومثلها على شماله وخلف ذلك ردهة بها اثنا عشر عموداً تؤلف ثلاثة صفوف متوازية تنتهي بردهة أخرى بها أربعة أعمدة في صف واحد تتصف بصفة على جوانبها معاهد الآلهة وحجرات النساك وفي إحدى الحجرات سلم إلى السطح ونفق في الأرض، أما زينة المعبد وزخرفه فنقوش جدرانه وسقفه التي شابهت معرض الصور ودلت على نبوغ الأجداد في التصوير وبراعتهم في تأليف ألوانه وقدرتهم على اختراع الصور وحذقهم في تنويعها فمن صائل برمحه على أفعوان، وشاهر سيفه في وجه إنسان، إلى أسرة حول مائدة الطعام وغلام يعاطي مولاه كأس المدام ومن صورة الشمس وشعاعها ذاهب في أنحاء الفضاء، والطيور تحلق في جو السماء إلي متمخضة عن حملها وآخذة بيد بعلها، إلى غير ذلك من صور جامعة بين جسم الإنسان ورأس الحيوان في أزياء تساعد

المبدع على الإبداع وتهدي المخترع إلى الاختراع وألوان لم تنسخ الأيام آيتها، ولم تنل الدهر جدتها. تلك صورة المعبد وقد كان الواجب يتقاضى البحث عنه من الجهة التاريخية إلا أن تاريخ العصور التي تمخضت عن تلك الآثار يستقى أنباءه من النقوش الأثرية التي بقيت ألغازاً مبهمة وطلسمات معجمة أدهاراً طويلة، إلى أن أعلن اكتشاف (الهيرجليفي) على أثر الوقوع على حجر رشيد فتهللت وجوه أهل العلم لذلك، وظنوا أنهم عثروا على مفتاح التاريخ وفتحوا باب العلم المغلق وربما كان هذا الاكتشاف نافعاً لو بقيت كتب الأقدمين، فأما وليس لنا منها إلا ما بقى على الدمن والأطلال الدوارس، فإن اكتشاف خطهم جاء كآلة قليلة الغناء هذا إذا صحت دلالة ذلك الخط، وفهمت إشارته وساوى في إفادته المعاني سائر الكتابة المقروءة - لكني لا أؤمن بقدرته على تلك الإفادة، وأشك في صحة دلالته على الرغم من كثرة قرائه ووفرة المؤلفين فيه وسهولة تعلمه ونشر طريقته وتعويل علماء العصر عليه وإقرار الجمعيات العلمية لأن طريقة اكتشافه مدعاة للشك، موجبة للريب، فلقد قال لنا مكتشف أنه رأى منشوراً على حجر رشيد مكتوباً باليونانية، ورآه مكتوباً بالمصرية القديمة في ناحية من الحجر ورأى في ناحية ثالثة نقوشاً (هيرجليفية) اعتقد أنها المنشور بعينه، فشرع يستخرج من تلك النقوش الحروف الهجائية لتلك اللغة، وبعد استخراجها قرأ بها سائر الكتابة وفهم دلالتها وكلماتها بعد أبحاث ترجع إلى مثل ذلك - إننا إذا تساهلنا وقلنا أن المكتوب باللغتين المقروءتين، هو المرسوم باللغة غير المقروءة لا نزال نرى أن إخراج الحروف من هذا الحجر، على هذا النحو من الأمور الصعبة. الغريب أن الكتابة المكتشفة لم تكن من نوع الكتابة المعتادة في دلالتها بل كانت على ما يقول مكتشفوها، رموزاً، وإشارات، يختص بها طائفة من رجال الدين، بادوا وبادت دولتهم، قبل أن يطلعوا أحداً على تلك الرموز أو يرشدوا إلى تعليمها بمؤلف مكتوب بلغة معروفة وهذا مما يرجح عندنا أن المنقوش على حجر رشيد (بالهيرجليفي) يخالف المكتوب عليه باليوناني والمصري وإلا لما كان سراً مصوناً عن العامة مضنوناً به على الناس فكتابة المنشورات به تنافي أن يكون سراً محجباً ووضعه على هذه الطريقة يعرض رموزه للحل وألغازه للبيان وهذا ينافي شدة الكتمان.

إن اكتشاف لغة على هذا النحو أولى بوضاع الروايات الخيالية، منه بطلاب الحقائق العلمية، وقد يصدق الإنسان باختراع لغة ووضعها ويتردد في القول باكتشاف لغة باد أهلها ولم يتركوا لمن بعدهم سبيلاً إلى معرفتها، من كتب تعلم قراءتها ومعاجم تفسر مفرداتها ومؤلفات تهدي قارئ جملها إلى دلالة التراكيب بل ولم يدلوا على حروفها الهجائية ورموزها الأولية ولو جاءنا فرنسي لا علم له بالانكليزية مدعياً أنه استعان بمعاجم الانكليز على فهم شعر. . شكسبير لكذبناه في دعواه، وأقمنا جهله بأصل اللغة برهاناً على كذبه مع اتحاد اللغتين الفرنسية والانكليزية في الأصل والحروف وتقارب بعض المفردات في النطق والمعنى ووجود المعاجم والكتب المساعدة على ذلك فما بالنا نصدق رجلاً لا عهد له بلغة ولا معرفة له بحروفها ولا اجتماع له بأحد من أهلها وليس هناك معاجم تحل مفرداتها على فرض قراءة حروفها فيما هو أبعد من ذلك وأصعب. إن اللغة العربية - وهي لغة دين دعا أهلها لتدوينها والمحافظة عليها ونشرها لا تزال - وقد ضبطنا كل مفرداتها، وجمعنا ما قيل فيها من نظم ونثر، ودونا فيها ما لا يحصى من المعاجم والكتب وأخذناها عن أهلها بالرواية والتلقين والمشافهة والمحاكاة - لا نزال إلى الآن نستصعب فهم الكثير من جملها وربما جهلنا جهلاً تاماً بعض ألفاظها التي جاءت في أشهر وأكرم كتبها كالمقطعات في أول السور، ذلك حال العربية والعناية بها كما علمت - فما ظنك بلغة قوم، كانوا يخفونها عن العامة، ويخصون بها الكهنة الذين انقرضوا دون بذلها لسواهم ومضى على انقراضهم طويل الأزمان والآناء. سوف نسمع نعرة حماسية، من قراء تلك الرموز ومصدقي أنبائها، غير أن الباحث عن الحقيقة يجب أن يروض آذانه على الجلبة والصخب. إننا إذا طرحنا السفسطة، وطلبنا أقوى الحجج على صحة دلالة (الهيرجليفي) لبحثها، وجدناها لا تقوى على تحمل النقد الصحيح فأشياعها يقولون أن قراءة (الهيرجليفي) منتجة باطراد وأن الذين تعلموها يقرؤون بها كل مكتوب، وأن قراءها يتحدون في فهم المراد بها، ولو كانت دلالتها غير صحيحة، لظهر الاضطراب عند تطبيقها، وفقدت دلالتها ولم تشف عن المقصود منها، وفي ألواح كثيرة كتبت بها، وإذا صحت النتيجة واطردت الدلالة، دل هذا على صحة المقدمات الموصلة إليها.

ذلك أوجه الأدلة عند الأشياع والناظر في هذا النوع من الحجاج يجده من قبيل الاستدلال بسلامة النتيجة، على صحة الفرض وقد علمنا المنطق أن صحة النتيجة لا تستلزم صحة المقدمات، ليس هذا خاصاً بالقضايا النظرية، بل وبالمسائل العملية أيضاً فإن قدماء الميقاتيين والفلكيين، بنوا جميع حساباتهم وتقاويمهم وأزياجهم على فرض أن الأرض ثابتة وأن الكواكب تدور حولها وجاء المتأخرون ففرضوا عكس فرضهم، وأتوا بنتائج مثل نتائجهم وتقاويم لم تختلف عن تقاويمهم ولا يمكن مع القول بصحة النتيجتين، القول بصحة الفرضين لأن ذلك من قبيل الجمع بين الضدين فتوافق قراء (الهيرجليفي) لا يدل على صحة طريقته لا سيما ومكتشفه قد فرضه حقيقة واقعة وشرع يبحث عن طرق إثباتها لا أنه سلك من طرقها إلى غاياتها. قد يكون هذا تهجماً على العلم، وقد يكون جرأة على معارضته وقد يكون سفسطة ضد الحق، وقد يكون كل ذلك غير أنها شكوك تعترضني كلما حاولت قراءة أي باب من تاريخ مصر القديمة فتحول بيني وبين الاندفاع به شكوك تحقر من أسناد ذلك التاريخ في نظري وتقف دونه عقبة اعترضتني فلم أستطع تذليلها، وكم عرضت لي أثناء الدراسة فزهدتني في حفظ درس التاريخ القديم، نفثة على هذا العلم قديماً ملأت صدري وضاق بها ها أنا ذا أنفثها أمام معبد (هيبس).

الملايو

الملايو أرسل إلينا هذه الرسالة حضرة الأديب الفاضل حسين أفندي عابدين المقيم بسنغافورة اليوم يسكن الملايو شبه جزيرة ملقا وأرخبيل ماليزيا (جزر الهند الشرقية) الذي سمي كذلك نسبة إليهم، وقد اختلف المؤرخون في أصل هذه الأمة، فقال البعض أنهم من آسيا ثم تفرقوا في الجزر وينسبون اليابانيين إليهم، وقال آخرون أنهم من جزيرة سومطرة، وقال غيرهم أنهم من جزر المحيط الهادي نقلتهم الرياح الشرقية نحو آسيا ولا يزال يوجد قوم من نسلهم بجزيرة مدغشقر. وبتوالي الغزوات على بلادهم قد اختلطوا بالعرب والفرس والهنود والصينيين والافرنج وغيرهم، ولكن لا يزال بسومطرة وملقا وغيرهما العنصر الأصلي خالصاً. وهم يشبهون المغول في السحنة، قصار القامة، أقوياء البنية، طويلو الأصابع رفيعوها، ثقيلو الأرجل في السير أقوياء عليه، كرويو الرؤوس مع انبطاح من الخلف وغزارة في الشعر، قصيرو الأنوف ولكنها واسعة الفتحات، واسعو الأفمام ولكنها غليظة الشفاه جميلو الأسنان مربعو الوجوه، مرفوعو العيون بانحراف نحو الأصداغ (البعض أفقيوا العيون) ناميو عظام الوجنات بارزوها، يقل الشعر في أجسامهم ولحاهم، لون بشرتهم بين الصفرة والسمرة، ثديّ نسائهم صغيرة، ولسن جميلات القوام كالهنديات والمصريات والتركيات وغيرهن. من عوائدهم مضع البتل ويسمونه سيرة وهو ورق نبات كاللبلاب (المعروف بمصر) له مفعول صحي قابض، ويضيفون إليه جو زالا رك ويسمونه بينغ والكاس ويسمونه كافور وثمر شجر الكات ويسمونه كمبير والتمباك ويسمونه تمباكو ومن يراهم لأول مرة وهم يمضغونه لا يظن أنهم يأكلون لحماً نيء تسيل منه الدماء فتشمئز منهم نفسه. وقد كانت أسلحتهم السيف ويسمونه فدغ والخنجر ويسمونه كولوء والسهام المسمومة ويسمونها أنق فانه والسباطانة ويسمونها سمفيتن (وهي أنبوبة طويلة توضع بها قطع صغيرة من الطين الجاف أو غيره وينفخ فيها فتصيب الغرض، وهي تستعمل لصيد الطيور الصغيرة) وغيرها، ولكنهم الآن يستعملون الأسلحة النارية الحديثة. وملاهيهم هي المراهنة بالورق والنرد والشطرنج ومضاربة الديكة وفحول البقر والجاموس والصيد والمبارزة والرقص، والميسر منتشرين بعضهم رجالاً ونساء.

وهم ذوو صفات غريزية فاضلة، فلرجالها ذكاء متوقد وحماس غريب، عزيزو النفس يترفعون عن الذل، أولو شجاعة قد تقودهم إلى حتفهم، كثيرو الحذر في المعاملات يتهمهم بعض المؤرخين بالخيانة وقساوة القلوب غير أني لا أعرف فيهم إلا الأخذ بالثأر وكظم الغيظ. وهو من الأمم التي تعيش متكلة على غيرها، ترزق من خدمة الأمم الأخرى دون أن تسعى إلى ترقية نفسها بذاتها بل ولا بغيرها. ولهم استعداد فطري للصناعة كالحياكة والصباغة والحفر على المعادن والنجارة، والصياغة، والدباغة، وعمل الأسلحة، ولا يضاهيهم في بعضها غيرهم من الأورباويين. وقد كانت حكوماتهم قبل استعمار الافرنج لها استبدادية ارستوقراطية بمعنى الكلمة فالوالي ويسمونه راج أو تفكو بسر هو الحاكم المطلق، يتصرف فيهم نساء ورجالاً تصرف المرء في عبيده بل أشد. ومنازلهم يصنعونها من الخشب وهي مربعة الشكل تقريباً، ويقيمونها على أوتاد لتقيم تحتها ماشيتهم وسقوفها مائلة ويصنعونها من سعف نخل يسمونه نيفا ومتى صنعت يسمونها أتف. ويلبس الرجال عادة قميصاً قصيراً (لا على الركبة فقط) وسروالاً فوق قماش (كفوط الحمام المعروفة أو كالتي يستعملها بائعو شراب العرقسوس والخرنوب بمصر) ويسمونه ساروغ وعمامة (كالتي يستعملها مكاريو مصر المعروفة عندهم باللاسة) أو قبعة من القش (مخروطية الشكل) وقد يستعملون نعالاً في أرجلهم وتلبس النساء كالرجال تقريباً ولكن بدون سروال، ويضعن فوطة ساروغ على رؤوسهن (وهذا عوض من المئزر) ويرفعنه على أذرعهن إلى محاذاة الوجنتين، ويمسكن طرفيه بأيديهن فيشدونه بحيث تستر حافته وجههن، فلا ترى منه إلا العينين، فهن في ذلك كبعض قرويات مصر، ولهن شغف بالتحلي بالخواتم والأساور والقلائد والأقراط، ويفتخرن بكثرة ما يكتنزنه من الفوط ساروغ فقد تجد عند بعضهن ما يبلغ ثمنه من هذه الفوط فقط سبعين جنيهاً أو أكثر، وقد يبلغ ثمن الواحدة خمسة جنيهات أو أكثر بحسب صناعتها مع أنها مصنوعة من الحرير فقط؟؟!! وقد كانوا يفتدون القتيل بالمال بدل إعدام القاتل، ويبارزون خصومهم، ويشترون نساءهم والرجل له عليها حق مطلق والفقير الغير قادر على الثمن يشتغل مدة معلومة عند أهل

العروس ويكون عمله عندهم مهرها، ويرث الميت أبناء أخته قبل أولاد أبيه (هذه العادة متبعة للآن عند أهالي مفكابو بسومطرة من المسلمين) وقد احترمت الحكومات المستعمرة هذه العوائد إلى أن زالت ولم يبق منها إلا الأخيرة. وقد كانت الديانة الشائعة بينهم هي الوثنية حتى القرن الثالث عشر (كما يزعم المؤرخون) فقدم إليها تجار من مسلمي الفرس نقلوا إليها آداب العرب وديانتهم، وأول بلد نزلوه هو ملقا، ثم انتقلوا إلى جزيرة سومطرة حيث كانوا بها في عصر ماركوفولو الرحالة الشهير، ثم ازداد نفوذهم في هذه الجزيرة حتى حملوا حكام هذه البلاد على اعتناق الإسلام في القرن السادس عشر (الميلادي)، وبعد ذلك ازداد الإسلام انتشاراً في جميع الجزائر والبر الأصلي. على أنني أظن (كما يظهر لي من بعض الآثار القديمة) أن العرب هم أول قوم دخل هذه البلاد في القرن الخامس الهجري، وأكبر دليل حسي ظاهر أن مذهب الملايوهو الشافعية، أما ملوكهم وهم من أصل مغربي (كما تثبت ذلك الآثار) فقد كانوا مالكيي المذهب، وهم الآن شافعية، وللمغاربة في هذه البلاد آثار قديمة عجيبة. وللغة الملايو لهجات مختلفة وإن كان الأصل واحداً. . وقد شاع استعمالها بينهم وبين التجار على اختلاف أجناسهم ابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي. وقد أثرت مخالطة الأجانب لهم في لغتهم، ففيها الآن كثير من أصل هندي (سنسكريتي) وعربي وبرتغالي وإسباني وغيرها، والأكثرية للأولى مع أنهم أخذوا عن الإسلام كلمات عديدة. وقد أخذوا عن العرب حروفهم الهجائية وزادوا عليها حرف ج (جيم بثلاث نقط) وينطق به كحرفي في الانكليزية وتشا في العربية، وحرف غ (غين بثلاث نقط) وينطق به كحرفي في الانكليزية أو نجا باللغة العامية أو نقا في اللغة العربية حسب نطق عرب حضرموت وغيرهم، وحرف ف (فاء بثلاث نقط) وينطق به كحرف في اللغة الانكليزية أو با في الفارسية وحرف ن (نون بثلاث نقط)، وينطق به ككلمة في الانكليزية أو نيا في العربية، وينطقون بالحروف الهجائية العربية كما هي، غير أن الراء ينطقون بها كالغين كما ينطق بها بعض الفرنسيين، والقاف في آخر الكلمة ينطقون بها همزة، ويحذفون الهمزة في النطق

بحروف الباء والتاء وما تنتهي بهمزة فينطقون بها باتا الخ وكذا حرف الزاي ينطقون به زا. ولا يتغير شكل الكلمات بالتصريف أو الاشتقاق، ولا يثنى الاسم فيها، وفي جمعه يضعون رقم اثنين على كل كلمة يريدون جمعها، مثل كاين؟ ومعناها قماش وأقمشة، وينطقونها كاين كاين ولجعل الكلمة اسماً جامداً أو صفة أو فعلاً مبنياً للمعلوم أو للمجهول يزيدون مقاطع مخصوصة في أوائل الكلمات، وأرقامهم في الكتابة هي نفس الأرقام العربية المستعملة الآن عند الافرنج، وقد انتشرت الآن في بعض الجهات كتابة الملايو بالحروف الافرنجية خصوصاً بين الطائفة المتعلمة في مدارس الحكومات والقسس، ولولا همة البعض لاندثرت الكتابة بالحروف العربية، وقد اشتهر في الكتابة عندهم من الرجال راج علي الأحمدي وراج طاهر ومن النساء راج عائشة وكلهم من العائلة التي كانت حاكمة بجزائر ريهو التابعة لهولنده الآن، ولهم مؤلفات كثيرة مترجمة عن العربية خصوصاً الأخيرة، ونبغ من المولدين السيد شيخ بن أحمد الهادي في لغة الملايو، وليس له إلى الآن غير بعض مقالات وأشعار نشرت في بعض المجلات والجرائد، على أن له الآن همة وعزماً على إتمام ما سيخلده له التاريخ وفق الله الجميع لما فيه الخير. البيان لحضرة صاحب العزة القاضي الفاضل الأستاذ صالح جودت بك رسالة قيمة أتى فيها على كل ما يتعلق بأمة الملايو هذه فمن أراد التوسع في هذا الباب فعليه هذه الرسالة الصافية، وقد أخذنا عنها صورتي السلطان عبد الحميد حليم شاه راجا قدح وهي إحدى ممالك شبه جزيرة ملقا وسمو نجله الكريم والمصور الجغرافي لجميع بلاد الملايو.

رسائل النساء

رسائل النساء أو صورة فلسفية من روح المرأة عيناك من الآنسة انطوانيت ليجراند إلى صاحب السيادة الفيكونت هرفيه دي لافريير: إني لأشك الآن يا سيدي هرفيه - إذ أكتب إليك - في أن اسمي الذي ستجده في ذيل هذه الرسالة سيذكرك شيئاً ويحدثك عن أشياء فقد وقعت لك ولا ريب صيدات كثيرة، وتواتت لك مغازلات عدة، بل أنني لأعد خاطئة إذا سميت الشيء الذي وقع بيننا حادثاً، إذ لم يكن لديك شيء يستحق الذكر بل لقد نسيت بعد لحظة تلك الفتاة الصغيرة ذات الثوب الأسود، التي تبعتها ذات ليلة من ليالي الشهر المنصرم في شارع بداسي دانجلا حتى ميدان الأهرام - هل تذكر الآن ذلك - هناك دانيتي فهمت إليّ وحدثتني فإذا بنا قد مشينا ونحن لا نشعر جنباً إلى جنب حتى شارع مدنتورجي، وهو الشارع الذي يلم على دارنا، وقد كنت أنت في ثوب رسمي وفي صدرك ربطة عنق بيضاء وفي حذاءين لامعتين، إني لأذكرك الآن وأتصور جميع ثوبك، ولقد كان يخيل إلي إذ ذاك جميلاً ومعيباً معاً أن أمشي إليك في بهرة الطريق، متحدثين كأننا نعرف بعضنا بعضاً منذ أمد طويل، وكنت إذ ذاك في خجل ولكني كنت مع ذلك في غبطة وابتهاج، ورحت أحدث النفس قائلة، إنه الآن يمشي بجانبي على أعين السابلة ومن حسن الحظ أن اليوم يجود بنفسه وإن الليل يوشك يعم الأرض فهو ولا ريب لا يجدني دميمة ولا يرى ثوبي قبيحاً غير مشرق، فلما عانقتني عناقك الحار وضممتني إليك تلك الضم الشديدة ونحن واقفان في ظل ذلك الباب الكبير - حقاً لقد كنا إذ ذاك في جنة - وسلمت علي للوداع كنت أعلم جيداً أنني على الرغم مما قلت لك سأوافيك إلى الموعد الذي ضربت مساء الغد التالي في الطابق الواقع في شارع التراس، أواه، لو أنك تعلم ماذا اختلج في رأسي واضطرب في فؤادي، بعد تلك اللحظة، فلما قلت لك، ونحن في الطريق عائدين أدراجنا، إنني ليس لي أحباب ولا أعرف عشاقاً، وإنني لم آثم قبل اليوم ولم ألتمس إثماً، ضحكت أنت عن مزاح واهتز شاربك ابتهاجاً واستوقفتني قليلاً وتأملت عيني، وأنشأت تقول، أعاقلة رزينة إلى الآن؟ أتكون عاقلة فتاة باريسية صغيرة مثلك، بتينك العينين وهذا الفم العذب، أعاقلة في الربيع التاسع عشر، ورأيت أنا إنك لم

تصدقني إلا قليلاً، على أنها كانت الحقيقة الصادقة وأني لا أزال أستطيع عليها قسماً الآن، لو أنك كنت بجانبي، وتستطيع في هذه اللحظة لي تصديقاً لأن هناك لحظات من الزمن لا يجد الإنسان فيها روحاً إلى المزاح أو رغباً في الكذب. أواه، يا مسيو هرفي، إنني الآن في أسوأ حال، وكنت منتعشة القوى، بتوردة الوجنة، عمر الصيف وحياة الربيع، فلما هبت أرواح الشتاء، وطلعت وماكر البرد، عادت إلى ذات الصدر، وأنا أقول لك الآن أنني لم أكن يوماً قوية الصحة، وكيف أكونها، والصناعة التي أحترفها شديدة الخطر على الصدور الرقيقة، واللهي الضعيفة، فنحن أبداً خالعات ثوباً لنجرب أثواباً أو مشداً أو شملة عارية الصدر، على مقربة من حرارة المواقد، وفتحات الأبواب يدخل منها الهواء البارد فيصدم الظهر، وفي كل ذلك واقفات نجري من ناحية إلى ناحية، أو جامدات في أماكننا كالصورة الجيرية الموضوعة في صدور محلات الأزياء ولكني لا أريد أن أحدثك أحاديث حزينة ولا أريد أن أبسط لك سوء ما صنعت بي حرفة الوقوف في محال الأثواب، فلست أحمل لك ضغناً، ولست أحس لك حقداً، ولكن لي ملتمساً إليك أطلب أن أبتهج بتحقيقه وأنت لن ترفض هذه الضراعة إذا جئت على آخر سطر من كتابي هذا. لقد كنت قلت لك ذلك المساء الذي التقينا فيه إذ ضربت لي موعدك، كلا، كلا، ولكنك أدركت جيداً أنني كنت أقصد بذلك أن أقول، نعم، نعم، فلما كان اليوم الموعود، خرجت من المصنع قبل وقت الخروج بساعة فعدوت ألتمس البيت لكي أبدع الزينة، وأتم التطرية، وقلت لشقيقتي الكبرى أنني ذاهبة إلى دار التمثيل وصواحب لي فصدقت الخبر، وكانت خلية الذهن من خافية الأمر، ولتعلم أنني كنت فاتنة رائعة السمت عندما بلغت إلى ناحية شارع تراس، الذي كنت قد طلبت إلي أن أرتقب قدومك إليه عند الساعة التاسعة من المساء، ولم أكن إذ ذاك بثوبي الأسود الذي شهدته بل كنت مرتدية ثوباً جميلاً أزرق اللون مفصلاً على المنوال الذي تحاك به في مصنعنا أثواب الأميرات فجئت إلي الموعد متهللة الأسارير متفتحة الفؤاد، لا خجل أشعر به ولا ندامة، فقد فكرت منذ فهت أنت بكلمتك الأولى أنه لا يليق بنا أن نكون نحن الفقيرات عاقلات رزينات طول الحياة، وإن أبدع السوانح أن تتزوج الفتاة الآثمة بالفتي الذي أثم معها، على أنك تدرك يا مسيو هرفي أنني

لم أفكر في أنك ستتزوجني إذ كنت أعلم أنك ستنطلق بعد ذلك عني لكي تتزوج فتاة غنية عريضة الجاه ولكن ذلك لم يحزنني بل لقد كنت في غبطة وابتهاج إذ أتصور أنك ستحبني برهة من الزمن، وأنني سأكون لك دون أن أكون قد هبطت من قبل أن ألقاك في أحضان رجل سواك، فكأنك ستكون في تلك البرهة من الحب زوجي، فقد كنت حقاً تلذني ولا تستطيع أن تتصور التأثير الذي أحدثته في فؤادي وقد رأيت رجالاً كثراً يجيئون إلى المصنع ماشنين إلى أكتاف سيداتهم أو حبابئهم، ولكن لم يكن في هؤلاء الرجال رجل له شاربك وأسنانك الجميلة وعيناك البديعتان، ولاسيما عيناك، عيناك، حتى أنني لما وقفت في شارع تيراس أستطلع قدومك، انطلقت أتخيل تينك العينين وأحدث نفسي أننا إذا احتوتنا حجرة واحدة سأجترئ فأقبلك في عينيك أحر القبل. انتظرت ساعة فساعتين، ثم انتظرت حتى منتصف الليل، وأنا أتمشى فوق الافريز حتى لا يستوقف منظري المارة فيستريبون بي، لقد دنا مني جمع من الشباب يقولون لي كلما نكراء وكنت في حيرة لا أعرف كيف أتجنبهم لأنني خشيت أن أبتعد عن المكان مخافة أن أفقدك، فلما دقت الساعة الأولى بعد منتصف الليل وألفيت مكاتب الحافلة - الأومنيبوس - قد أقفلت أبوابها وأطفأت أنوارها أجمعت الرأي على العود إلى البيت حتى لا أزعج شقيقتي. وأؤكد لك يا مسيو هرفيه أنني أويت في تلك الليلة إلى المضجع كسيرة الفؤاد محزونة وبت أتقلب في الفراش لا تغمض لي جفن، وبكيت طويلاً وعبثاً حاولت أن أقنع ذهني إذ أقول لنفسي، لعل عائقاً اعتاقه، أو لعل الأسرة حالت دون المجيء لي موعده أو عل شاغلاً من شواغله زجره عن موافاتي، فلم يستطع إنبائي بمعاذيره، إذ كان يجهل عنوان داري. . . وجملة القول أن أشد ما أحزنني وابتأست له أنني لا أعرف السبيل إلى لقائك مرة أخرى فإنني لم أقل لك عن عنواني وأما أنا فأعرف اسمك والنادي الذي تذهب إليه ولكنني لم أجد جلداً على الكتابة إليك وانتهى بي مطاف الفكر إلي أنك لو كنت تحمل في فؤادك شيئاً من الرغبة في فإنك ولا ريب باحث عني فواجدي، إذ تعرف المحل الذي أعمل فيه والساعة التي فيها أنطلق عنه. وكذلك ظلت بضعة أسابيع إذا انصرفت من محل شغلي أتمشى زمناً أمام الباب، أستطلع الوجوه، وأغيب النظر في معارف السابلة، لعلي مشاهدتك في غمارهم ثم لا ألبث أن

أنطلق في رفق صعداً في الشارع عائجة على الشوارع التي مشنا فيها معاً، فلم أكن يوماً لألقاك واستبان لي إذ ذاك أنني لم أخطر في ذهنك مطلقاً، وكان على أن أنساك، أليس كذلك. وهذا هو ما حدثتني به النفس ولكني لم أستطع عليه صبراً، وكلما مضى يوم زدت لك تذكراً واشتد الحزن بفؤادي، ولشد ما يسوءني أن تضحك يا مسيو هرفيه مما أقول لك الآن فغن رجلاً مثلك من الطبقة الرفيعة السامية له من ملاهيه ومباهجه ما يشغله عن سماع صوت الفؤاد، ونجوى النفس، وأما نحن الفقراء فليس لنا غير المصنع نذبل فيه، وغير المنزل الصامت لا يحتوي لهواً ولا مبهجاً وإذا قيض الله لنا شهود دار التمثيل فذلك هو النعيم الأكبر والحادث الأعظم، فإذا نحن انطلقنا في النهار نجرب قميصاً أو نخبر معطفاً، فنحن إذا الليل هجم مضطجعات في السرر محزونات مكدورات، نفكر في رجل وكذلك مضيت أتذكرك وأفكر فيك حتى سئمت كل شيء، ولقد كنت من قبل فرحة راضية العيش وثيقة الأمل في المستقبل دون أن أعلم ماذا يمسك هذا الأمل، أما اليوم فلا رغبة لي في شيء، ولا شهوة لدي إلى الطعام، ولا نزوع إلى النوم، ولتعتقد أنني خلال الأيام الأخيرة كنت أتمشى أبداً في مقتبل المساء فوق الافريز أمام ناديك ولقد رأيتك ثماني مرات يا مسيو هرفيه ولكني لم أكلمك لأنك قلما كنت تخرج في النادي بمفردك، وإذا فعلت ذلك فقد كنت تثب الوثبة إلى مركبتك، وإذ ذاك جعات أضطرب وأرتجف، حتى لا أستطيع كلاماً ولا مشياً. حوالي نهاية شهر يونيو ارتحلت أنت إلى الريف، وقد علمت ذلك من الصحيفة التي تجيء غداة كل يوم إلى صاحب المصنع فهدأ ثائري قليلاً في غيبتك إذ علمت أنك لم تعد تحتويك باريس وأن لا وسيلة إلى رؤيتك، وجعلت أقول: إنه سيعود مع الخريف، ونحن لم نكبر بعد، لا أنا ولا هو، وقد جئت حقاً ورأيت عند يوم عودتك إلى باريس، وأنا محدثتك كيف كان اللقاء، وضراعة إليك أن لا تغضب على فإن بي حزناً منه مستطيلاً. على دقة الساعة التاسعة كنت في موقفي أمام ناديك، وإذا بمركبة وقفت ببابه، ورأيت في المركبة سيدة فخرج إليها من النادي خادم فكلمها وعدا راجعاً إلى النادي وهنا أتوسل إليك أن لا تتألم يا مسيو هرفيه، إذا أنا قلت لك أنني لم أجد تلك السيدة على شيء من الحسن

ولا مسحة من الروعة، ولم يكن ثوبها الثوب الذي يتم عن سيدة محترمة كبيرة المكانة، وأخيراً جئت إليها من النادي وقبل أن تصعد إلى المركبة فتتخذ مكانك بجانبها قلت للحوذي شارع تيراس!!. فإذا بي قد أحسست انقباضاً في فؤادي إذ تذكرت ما قلت لي يوم كان اللقاء إن لدي في شارع تيراس طابقاً أستخدمه لهذا الغرض، فعلمت إذ ذاك ماذا سيحدث بينكما. . . . . . . . . .! أتظنها حماقة مني وطيشاً ولكن إن أردت الحق فاعلم أنني لم أكن غيري عليك إلى تلك الساعة، ولا أعلم لذلك سبباً إلا أنني كنت أؤمن بأنك ولا ريب لا تستطيع أن تعيش عيشة القديسين والرهبان، ولكنني إذ عرفت المرأة التي ستضاجعها، وعلمت المكان الذي اضطجعتها إليه ثارت ثورة الألم في فؤادي حتى لم أعلم كيف بلغت بي قدماي منزلي، وإذا احتواني البيت انطلقت إلى المخدع فتراميت فوق السرير ووعكتني إذ ذاك الحمى بعد موهن من الليل واحتبس صوتي وأخذ لساني السعال واشتد بي ذلك حتى لقد مضى على الآن وأنا طريحة الفراش شهر كامل ولا أستطيع نهوضاً وأخشى أنني لن أستطيعه أبداً. وأنت فتعلم يا مسيو هرفيه أنني لا أقرفك بتهمة حزني ومرضي فلم أكن يوماً قوية الصدر متينة اللهي، ولكن لعلك كنت السبب في تعجيل علتي ونضج مرضي وإن كنت خلي الذهن بريء النية والآن وأنت تعرف أن من المزعج المؤلم أن أرتحل عن الأرض وأنا ملمة على الربيع العشرين ولما أشهد يوماً صبوحاً في الحياة، ولما أرتشف كأساً من السعادة، فقد اجترأت على أن ألتمس إليك أمراً وأطلب إليك حاجة لو حققتها أثرت أكبر السرور في نفسي الخافتة، وإن كان في تحقيقها بعض المتعبة لك، وهذا الرجاء الذي أسوقه إليك هو أن تحضر إلي في منزلي للتوديع الأخير إذ كنت لا أستطيع إليك حضوراً، فلا تخش يا مسيو هرفيه ألماً فلست محدثاً أحداً غيري ولا ملتقياً بإنسانة سواي، بل أنت صاعد إلى الطابق الثالث من المنزل رقم 15 فدق الباب وستفتح لك شقيقتي وتكون بيننا خلوة صغيرة واعلم إنني قد أصبحت مهزولة ضامرة ولكن وجهي لا يزال بعد صغيراً رائعاً كعهدك به أول مرة وستحدثني وتنظر إلي - وسأستمع إلى صوتك - وسأشعر بآخر نفثة من السعادة إذا أنت أذنت لي إذ ذاك أن تكون فوق شفتي. . . . . . عيناك!!

للمتنبي: إلف هذا الهواء أوقع في الأنف ... س أن الحمام مرّ المذاق والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق

في سبيل الكلام

في سبيل الكلام لحضرة العالم الكاتب الدكتور منصور فهمي الكمال قوة أزلية تدب في الكون دبيب الماء في العود الأخضر، والكمال إما أن يكون كلياً عاماً وهو كمال هذا الوجود الذي لا تبلغ مداركنا إلا بعض جهاته، وليس في طاقة عقولنا إدراك كنهه على أنها تعترف بوجوده الظاهر في حركة الكون المستمرة على سبيل لا ينتهي وإلى غير قصد معلوم، وإما أن يكون كمالاً نوعياً وهو أجمل صورة يصل إليها كائن من الكائنات بما أوتيه من استعداد ترقى به إلى الغاية المقدورة فإذا بلغها يتحول إلى نوع مغاير وتظهر تلك المغايرة إما من سبيل الانحلال والفساد أو من سبيل وجود يخالف به الوجود الأول ومثل ذلك مثل الشرنقة تبلغ كمالها النوعي في صورة معروفة وعلى نحو معلوم فإذا تخطت تلك الصورة فإنما تتخطاها لكائن آخر بينها وبينه اختلاف في الشكل. كما أن للكون جميعه كمالاً هو أول معنى لتأويل وجوده وهو الباعث لتطوره وحركته كذلك لكل جزء من أجزاء الكون كمال نوعي وللجماعات والأمم كمال خاص بها ينبع من أفئدة مصلحيها، فبينا ترى جماعة لا تبصر إلا أفقاً محدوداً من آفاق الحياة الواسعة، وبينا تراها تجمد عند حال تزعم أنها خير حال تجد بين أفراد تلك الجماعة من يبصرون بأعينهم ما لا يبصر هؤلاء ويتمعون نغمات لم تصل بعد إلى آذان الجماعة، أولئك الأفراد هم سدنة الكمال المقدور لذلك الكائن الاجتماعي، ليس للأمة إلا كمال واحد لا يتكرر تبلغه وفقاً لطبيعتها، وانسياقاً مع تاريخها فإذا هي بلغته في عصر من العصور فإنها تنتقل بعد لحال مغايرة فتتحول الجماعة القديمة إلى أخرى وتصبح تلك الجماعة الثانية في حكم كل كائن جديد من حيث أهليته لقسط آخر من الكمال حرى به. كان لمصر في السالف قسط من الكمال العمراني موفور وحضارة منمازة بلغت أوجهاً في عصر معلوم فهل يحق لواهم أن يزعم لأمتنا االمصرية الحالية سبيلاً إلى نفس الكمال الاجتماعي والحضارة التي كانت للسلف في زمن مضى وانقضى؟؟ كلا فأمة اليوم غير أمة الأمر لها كمال خاص تستطيع أن تكسبه كما كان لسلفها ما كسبته من الكمال. كما أن لكل جماعة ولكل أمة نصيباً واحداً من الكمال لا يتكرر كذلك لها نصيب معين يختلف مزاجه عن أنصبة الجماعات الأخرى، لها كاس من الكمال تنتشي هي به ولا

يستمرئه سواها، فعبثاً محاولة الوصول إلى حضارة قدت لباساً لغيرنا دون تحوير فيها وتعديل، الكمال المرجو لأمتنا هو ما يهتف به الهام المصلحين وليس هو ما تجود به يد المقلد ولا ما يجيش في صدر الجامد والفرق بين المصلح وبين المقلد وبين الجامد، هو أن الأول يوحي إليه صورة سامية يدخرها المستقبل للأمة التي يتناجى بإصلاحها، وأما المقلد فيحمل في نفسه صورة لأمة معاصرة راقية يود لو اتخذت مثلاً للأمة التي هو منها، وأما الجامد فينشد نظاماً عتيقاً لا ينفرج ذهنه لخير منه. نزعات المصلحين وحدها هي القيمة الجديرة بالاعتبار لأنها المنزل المستطاب الذي يحط الركب عنده رحاله وتستريح عنده الأمم وهي سائرة في سبيل مالها. أما بعد فما أشد حاجتنا إلى المصلحين يرشدوننا كما يرشد الراعي سربه العزيز ليصل إلى المرعى الخصيب، ليت شعري ماذا قطعنا اليوم في سبيل الرقي، ومن ذا الذي يسدد خطانا إلى الكمال المنشود؟؟

الصحافة عندنا

الصحافة عندنا لحضرة صاحب الفضيلة العالم الأديب الشيخ مصطفى عبد الرزاق كرتير المعاهد الريفية كان الغريب إذا حل بلداً فأراد أن يلم بجمال أهله زار المعابد وغشى الملاهي ليرى أثر العقائد الدينية وهو أكبر مظاهر الجد ويرى ذوق القوم في اللهو واللهو من جوانب الحياة أيضاً وما برحت المعاهد والملاهي موضع استكشاف لمن يحاول أن يتعرف حال الجماعات عن كثب في عقولها وأخلاقها وأذواقها ويتتبع تطوراتها ويوازن بين جهاتها. ولكن العصور الحديثة أوجدت مرآة جديدة لتبين ما عليه الجماعة في مدنيتها، تلك هي الصحافة التي تصور منازع الناس في أخلاقهم وأفكارهم وحركات تقدمهم وانحطاطهم وتفصح كل إفصاح عن مذاهبهم في الجد وذوقهم في اللعب. وقد لا تكون صحافتنا خارجة كلها من أعماق قوميتنا بيد أنها مثل لما نحن عليه في حياتنا الاجتماعية وفيها مظاهر أخلاقنا. تنشر الصحافة كما يدل عليه الاستقراء نشرات تدون أخبار الوقائع المتفرقة التي يجمعها المؤرخون عادة في مؤلفاتهم وذلك عهد السذاجة التي يكون فيها دعوة الإصلاح خافتة وحركة الأفكار ضعيفة فلا تتجه الأذهان إلا للحوادث الجزئية من غير تحليل فيها ولا تركيب ولا استنتاج ثم تشتد دعوة الإصلاح الاجتماعي وتقوى فتؤسس الأحزاب السياسية والجماعات الإصلاحية وتحتاج في تأييد دعوتها إلى لسان ناطق هو لسان الجرائد وتنمو الحركة الفكرية وتنهض حجتها وتقتضي بياناً يجليها ويدفع شبه خصومها هنالك تخرج الصحافة من طور الطفولة إلى طور جديد تصير به لسان حزب ذي مبادئ يريد أن تسود في الناس لأنها عنده أساس الخير للجماعة أو تصير مجلات تحمل إلى العقل البشري ثمرات جديدة في العلم. وقد تجاوزنا من غير شك عهد السذاجة الصحافية وعرفت بلادنا جرائد الأحزاب وعرفت المجلات العلمية. ولئن كانت جرائدنا الحزبية اعتبطت كلها بأسباب يرجع بعضها إلى عيب في القيام بتدبير شؤونها، فإن مجلاتنا أيضاً لا تزال تنازع الحياة نزاعاً.

ليس الوقت مناسباً للتفكير في أمر ما مضي من جرائدنا وأن كنا من أمره في حسرة وألم ولكن في مقدورنا أن نطب لداء مجلاتنا رجاء أن تحيا حياة طيبة ولها في ظل العلم حرية لا ينالها ضيم. يشكو أصحاب المجلات من قلة إقبال القارئين عليها ومطالهم في أداء حقوقها ومن الإنصاف أن نعترف بعدل هذه الشكاية. ونرجو أن يحمل حب العلم قومنا على الاطلاع فإن من أدوائنا المستعصية أننا نقرأ قليلاً كما نرجو أن يكبر في النفوس خطر المروءة فلا يجرح المرء مروءته وهو ذو شرف وذو سعة من أجل دريهمات يؤدي بها ديناً لامرئ شريف النزعة باعه بها ليالي ساهرة وحشاشة نفس مجهودة. على أنه يجدر بأصحاب المجلات أن لا ينسوا أنهم وضعوا أنفسهم في مقام الإدلاء لطلاب العلم ورواد البحث فعليهم أن يكونوا نصحاء أمناء أوفياء للعلم يعطونه قسطه من أنفسهم، نطالبهم بأن يؤدوا الموضوعات حقها فيبرزوها ناضجة محصها فضل الروية والبحث وأن يفسحوا صدورهم لآراء المخالفين ومناقشاتهم، نطالبهم بأن يخدموا تقدم العقول وحريتها وأن يحببوا العلم للناس ما استطاعوا بحسن اختيارهم وحسن بيانهم وحسن تصرفهم في نظام البحث ومناهجه. والأمل معقود بالمجلات الشابة التي تقوم على إخلاص من أصحابها وعزيمة صادقة أن تحقق ما نرجو لمجلاتنا المصرية من الترقي وإنا لنرقب نهضتها ترقب الساري طلعة الهلال، ونحيي كل خطوة من خطواتها في سبيل الكمال.

فكاهة الفاكهة

فكاهة الفاكهة للكاتب الصحافي المشهور سليم أفندي سركيس يريد صاحب البيان مقالة لعدده الخاص، والذي أعلمه من مطالعة البيان أن كل عدد من أعداده خاص، حافل بالموضوعات الجليلة، وأنه امتاز بصراحته في النقد وأمانته في النقل، وامتاز أيضاً بحسن انتقاء الموضوعات على أن صاحب البيان امتاز بأمر آخر هو التشبث بإصدار مجلته كل هذه السنوات تشبث شهيد، فإنني على ثقة من أنه ينفق في هذا السبيل أكثر مما يستفيده من قرائه، إنهم يعطونه فضلات أموالهم بشيء من التردد والتسويف وهو يعطيهم وقته كاملاً واجتهاده وأكثر ماله، ما علينا من كل هذا، إنه يريد مقالة لعدد خاص، وهذه مقالتي - فكاهة من الفاكهة. يتساءلون: لماذا ينجح الغريب المتاجر في مصر دون المصري فيها، أما أنا فإنني لا أعرف شيئاً من أسرار التجارة ولكنني عرفت حادثة من حوادث جمة علمت منها بعض الأسباب التي من أجلها يكون التاجر الغريب ناجحاً دون المصري، أوردها للقراء لعلّ في إيرادها عبرة ورادعاً. كانت الساعة السادسة مساءً، وكنت في منزلي، فخطر لي أن أمتع نفسي بشيء من المشمش الحموي وخشيت أن لا يحسن خادمي مشترى ما أريد من الباعة ثم تذكرت أن هناك رجلاً مصرياً أنفق مالاً كثيراً على الاتجار بالفاكهة وله مخزن كبير في نقطة مشهورة فتناولت دفتر التلفون ولبثت أقلب صفحاته إلى أن عثرت على نمرته فخاطبته وكان حديثنا كما يأتي: - هالو - هالو - هذا محل فلان الفكهاني؟ - نعم وأنا هو - أهلاً وسهلاً، سعيده - سعيده يا سيدي. - قل لي بحياة أبوك عند كشي مشمش حموي؟

- مين حضرتك؟ - إنك لا تعرفني فهل عندك مشمش حموي؟ - ليه؟ - أريد أن أشتري قليلاً منه فإن كان عندك عرفني عن ثمن الاقة لأرسل خادمي بالثمن. - ومين حضرتك؟ - لا يهمك معرفتي لأنك لا تعرفني. - إذاً ما أعرفش. وترك التلفون. . وتركني، وترك ما عنده من المشمش وترك الفلوس في جيبي وترك تأثيراً سيئاً في نفسي. هذا الحادث ردّد إلى خاطري الحادث الآتي: كنت في منزلي، وكانت الساعة الخامسة، وفاجأني بعض الزائرين، وأردت أن أحسن الضيافة، فتناولت دفتر التلفون وطلبت نمرة بقال يوناني وهذا ما جرى بيننا من الحديث على علاته: - هالو - هالو - هذا مخزن فلان؟ - أيوا يا سيدي. - أريد قليلاً من الماكروني. - حاضر أفندم، من أي صنف. - من الأحسن. - مين حضرتك. - أنت لا تعرفني فلا يهمك أن تعرف من أنا، ولكني سأرسل خادمي إليك فأرجوك أن تعطيه أحسن صنف. - ماعليش يا سيدي، بلاش ترسل الخدام، أخبرني عن اسم حضرتك ونمرة البيت والشارع فأرسل لك العينات مع خادمي وهو يعرفك عن الثمن.

وفعلاً جاءني خادمه واشتريت ما يلزم ثم اشتريت ما لا يلزم أيضاً ولا أزال أشتري منه حاجات بيتي. الفاكهاني يخسر ومحله يصغر، وبضاعته تفسد ويقل عدد زبائنه. والبقال يكسب، وصار محله كبيراً، وبضاعته جديدة ورائجة، وعدد زبائنه يزيد أما أنا فأرى رأي البقال الرومي.

قصيدة منثورة

قصيدة منثورة بقلم حضرة الأديب الشاعر الكاتب الشريف السيد حسن القاياتي جعلت فداك أيها الخليل الرغيب، إن نفسي وقيت شكاتها، وعدتك بلواها. هذه قصيدة كنت عملتها في هذا الغرض الخلقي ولا مر ما بدالي أن ألبسها هذا الثوب النثري فإن نالت رضى فذاك ما اعتمدت وإن كانت الأخرى فلعل من المعذرة لصاحبها أن هذا الضرب من الشعر المنثور طراز حديث لم نحسنه يعدوان أن الباكورة ربما جاءت فجة غير ناضجة. تكاد تذوب مما تجد من لوعة، وتطوى عليه من جمر الأسى، حتى ليخيل إليّ أنها تسيل حسرة، وتتحدر حرقة، بل يخيل إلى أن هذه الدموع الحمراء التي تستنزلها الفجيعة، وتساقطها الشكوى، إنما هي ذوب تلك النفس الآسية، وقطرات تلك الكبد المتفطرة، وفي سبيل المجد والسؤدد، ما تلقين أيتها النفس: ضلالاً لنفسي، بل رحمة لها من نفس سرية ماجدة، كيف سرت إليها خدع الأماني، وتمشّت نحوها أباطيل الأمل الخلوب الكاذب، فجعلت تمنيها الحياة الشهية، والمنزلة الشماء، أجل إن من خدع الأماني، وأباطيل الأمل، أن تسمو نفس حرة إلى مستعذب من الحياة، وشهيّ من العيش، وإن فيما تشكوه تلك النفس الحرة هماتها الكبيرة، وعزائمها الناهضة المتوثبة، هيهات منها ذلك: ليست نفسي الطموح البعيدة الهمّ بدعا من النفوس الكريمة حين تلبس ثوب الليل مسهدة الجفن، نابية المضجع، حتى يتفرّى دجاه عن مستنير الفجر، وتشيع في نواحيه ثقوب الضوء، وينصل صبغه بلون الصباح المشهر، فكم أنفس سامية طماحة يؤرقها أسى برح، وهمة مترامية، فتبيت ترعى النجوم، وتناجي ساهرة الكواكب، كأنما تتلمس منزلها المسلوب بين تلك النظائر، وتسمو بنفسها إلى مكانتها بين تلك الأخوات من الكواكب: ليل يصادفني ومرهفة الحشد ... ضدين أسهره لها وتنامه واكبدي للمجد، وحر قلبي على كل فتي نبيل سباق إلى الحمد، سريع إلى الكرامة، يحتوي المجد من أطرافه، وينزل في بحبوحة الشرف الصميم أين - لا أين - العلى من مثل هذا المتحبب النبيل الذي غزا القلوب بوده وإحسانه، فأنزلها على حكمه، ورادها بلباقته حتى نزل في حياتها، وحلّ في الصميم منها، أنه لخليق بمثل ذلك المعشّق الطلعة، الرقيق

الحاشية، المحبب إلى كل القلوب حتى كأنه خلق منها، أن تدنيه القلوب، وتقر بمرآة العيون، حتى كأنه الزهرة التي رفت حلاوة، وندت غضارة، وغضاضة، فراحت تحملها صدور كل رقيق من الفتيان، ورشيق من الحسان: يقولون مثر طويل الذيل، تنزل المني على حكمه، ولا يناله الدهر إلا بما يريد، أجل إنه لكما يذكرون، ولكن ليس الثراء كل ما تنزع إليه همة طالب المجد، إن وراء ذلك لغرض ضخم، وآمالاً كبار، يقض لها المضجع، وتذهب عليها نفسه حسرات وماذا يغني الثراء عن ذلك وهل يستخفّ ثكلى محزونة تألق الحليّ في لباتها، وتزدهي بإشراق اللآلئ عليها، وفي صدرها داء دخيل، وغلة هي ما هي، أهلاً بما يهدي إلينا الدهر، وتنفحنا به أيامنا من عطاء سني، ونعمة مبتدأة ومستأنفة، إن كانت العلياء والمجد بين تلك الهبات، وفي جملة تلك العطايا، ولا أهلا بها إن لم يكونا فيها، ولا أبعد الله إلا هبات لا تكسب مجداً، ولا تسمع حمداً، بعدا لطالب المجد يقنع في طلبه بالدون، ويرضي في مسعاه بما دون السماء، إن الحر الكريم النفس، الحمي الأنف، لا يزال ينزع إلى كل عمل جسام، ويسمو للجميل من المسعاة كما يسمو ورد الخدود فيحل في الوجنات الرقاق، ويرتفع رمان النهود فينزل في صدور الحسان، واسوأتاه من أن الرجل السري النابه لا يأبه إلا لأمر طعامه وشرابه، ولا يعمل إلا على نيل حاجته من مطعم شهيّ، وشراب لذّ، وشهوة ممتعة، ثم لا يبالي بعد ذلك أثلم عرضه أم سلم، وخمل ذكره أم نبه، تلك حياة إنما نالها بذلة وخسة كما تبذل البغيّ نفسها، وتبتذل شرفها، لحفظ حياتها، وإمساك حشاشتها، ولخير من تلك الحياة موت مريح، وهلاك شريف: يعيبون عليّ وقاري، ويستنكرون مني أخذ نفسي بالسكون، وحملها على عزة الجلال، والعزوف عن الطيش، ويقولون إنما هو شاب ناشئ، ماله وما للوقار والجلال، هلّا أرسل نفسه على سجيتها، ومضي مع الصبا والصبوة، مطلق العنان، خليع الرسن، وليس الوقار بهجنة ولا عار على ناشئ حميد السيرة، رقيق الأدب، تطيب سجاياه على علاتها، وترضي خلائقه كلها: إن في الناس لفريقاً استخفهم سكر الشباب، وسكر الشراب، يحسبون أن السمو كله، والرفعة بجملتها، إنما هي في احتساء العقار، وكأس تدار، فإن كل ما تخيل أولئك حقاً -

ولن يكون - هتفنا مثلهم بإخوان الأنس، وندامى الكأس، هاك أيها النديم، وهات أيها الساقي الجميل، ولو كان الرقيّ في غزال يتصبى الحسناء، ويمكن من صعب المخبأة الجموح، وفي أن يكون الفتى زير نساء، وقيد ظباء، فإن لي من نفثات السحر، ورقيّ الشعر، ما ينبت مضجع الخريدة الحيية العفيفة شوكاً، ويصيد البكر عن رقودها حنيناً إلى بلبله الغرد، وطائره الصائح، لو شئت - لا شئت - أن أذهب مع السفاهة والطيش، وأجرى مع أسباب الغواية واللهو، لم أبت ليلة إلا ثاني قمر أو شمس، ولم تزل كل مليحة تهدي إليّ زورتها، وتتحفني بمواعيدها، ولكنت كمن يقول: رعى الله دهراً لم أبت فيه ليلة ... خليّاً ولكن من حبيب على وعد أجل بصرك فيمن ترى من الناس، وأنا الضمين لك ألّا يزال يصادف سوءة، وتقع به على مخزاة فاشية، وفعلة فاضحة، يروح ويغدو بها أولئك الذين يخيلون إليك أنهم الفضيلة حية، والخلال الحميدة، تطالعك في زيّ الأناسيّ، فلو أن كريه هذه السير، ومساوئ تلك الخلال، يمزج به طيب الثغور لصد العاشق المهجور عن قبلات الحسان، أو يخلط به العذب القراح لثنى عن الري الظمآن، آداب ناشئتنا متكلفة مصنوعة، تخلق لا خلق، ورياء لاحق، إذا أعطاك أحدهم بعضه فلكي يأخذ كلك، كما يصنع الصائد الدرب بتلك الحبات التي يغر بها الطائر حتى يسقط بأجرامه في حبائله، وما أشبه أخلاق نشأتنا المكذوبة المزورة هذه بخدود نسوتنا المصبوغة بصبغ الحقاق لا صبغة الخلاق، لا يغرك ممن تصطفيه منهم وجه يفيض بالبشر، وثغر بسام يزوّر لك القول، ويخلبك بسحر الحديث، فإن وراء ذلك صدراً يغص بأفانين الخداع، ويفتن في ضروب الحيل والكيد، وضلوعاً تنطوي لك على دخيلة شر، ومضمر غلّ، وحذار أن يزدهيك ذلك الوجه المشرق فيودي بك، فإنما هو كالزهر الأنيق يروعك منه مرآة وحسنه حتى إذا أدني من الأنف بعث بجرثومته إلى صدر حامله فلم تخرج إلا في صحبة روحه، همّ الشباب منهم ووكده أن يروح ويغدو آية الحسن، وفتنة القلوب، وأن يشار إليه بكل بنان مخضب، وينزل من الحسن في كل قلب، حتى لقد أزرت البراعة في ملابس الفتيان على البراعة في ملابس الحسان. هذه آصال مصر وعشياتها، ألست تنظر إلى متنزهاتها، ومسارح ظباءها، كيف تطلع كل مخبّأة، وتبرز كل كريمة مصونة فلا تزال تهدى إلى شبه الظبي ملاحة من فتيانها، شبه

المهاة حسناً ورشاقة من فتياتها من كل فتانة المحاسن، ساحرة الجمال، زهراء القناع رقيقة تخالها من ذلك القناع المهلهل الذي يصف وجهها، ويحكي محيّاها، قد أشرفت على مرآتها بعد طول تعهد بالصقل والجلاء، من تلك الحسناء التي تخطر في العشيات فتكاد تتوثب إليها القلوب من صدورها، وتثبت في محاسنها الأحداق والنظرات، تلك التي توحي إليّ خطراتها خطرات شعري وينفث سحر طرفها سحر قوافيّ، أجل من تلك التي يغرى بحركاتها الدل كله، ويكمن في لفتاتها الموت، وينزل في نظراتها السحر، ولمن في الفواتن من الغيد تلك النهود المسددات كالرماح إلى صدور العشاق، يطيح عنها الثوب ويتكشف الملبس، فإذا هي كالثمرة اليانعة تساقط عنها كمها وبدت من غلافها، قامت تتأود كالغصن الأغيد، وأقبلت تصف لنا الغصون النواعم في طيب نشرها، وضائع أريجها، واهاً لها من طفلة غريرة غضة السن صغيرتها في مثل سن البدر، بل في حسنه وإشراقه، تقوم مقام البدر إن نام ضوءه عن ليالي وصالها، وساعات ازديارها، فهي ملء القلب حسناً وحباً، ملء العين إشراقاً وقرة، وما أنس من شيء فلا أنس هذه الدرة الزهراء، واللؤلؤة المتخيرة، لم يزل بها دعاة العهر والفحش، ورواد الريبة والخنى، يرقونها بكل رقية من رقي الفسوق، وينفثون لها في كل عقدة من عقد السحر، حتى أخرجوها عن صدفتها، وأنزلوها من سماء عفافها وعزتها، رحمتا لتلك الفتاة العذراء الغريرة، وحرّ قلباه لهذه الفريسة المغتصبة، فلعهدي بها كبعض الملائكة طاهرة الذيل، عفيفة الإزار، آمنة كبعض حمامات الحرم، يطوي ضميرها على نقاء، ويكشف صدرها عن صفاء، كما تتكشف الصدفة عن درتها، وتنم المزنة الشفوف على الشمس دونها، بل عهدي بتلك الخفرة الحيية أيام كان وجهها بحيائه ومحياها يشرق بمائه، تكاد النظرة تدمي وجنتها الرقيقة، وتستنزل عبرتها حياءً وخفراً، صب عليها نكد الدهر، وتعس الجد، ظبياً من الظباء الآنسة، لا الظباء الكانسة، معشّق الحسن، فتان المحيا يرتقي جب القلوب، لا نوّار الكثيب، ويتشهى من الأفئدة منهوباتها دون موهوباتها، فلم تزل بها ضحكات ذلك الثغر الخائن، وابتسامات هذا المستهتر الفاتك، حتى استتزاتها عن عرش كرامتها، وألقت بها بين يديه محترقة بجمر تلك الضحكات الخائنة، كما تهوي الفراشة على جمرة الشهاب المحرقة، بنفسي هي، ما أشرف نفسها وأسمى همامتها، لم تسلم قلبها لمهاجمه إلا بعد طول مغالبة وفضل مصاولة ومدافعة،

فلشد ما جاذبته فؤادها، ونازعته قيادها، حتى أدركها الضعف - والفتيات ضعيفات - فسقطت تتخبط في حبالته كتخبط الطائر في شبكة الصائد، تجاذبه حيناً، وتقر حيناً، فإذا هي أخيذته، كم ظلت لدى ذلك الوحش المفترس محبوسة به عن أهلها - ممنوعة من ذويها، وهو يتلهى بها، ويتعلل بمحاسنها، قبل أن يصل إلى فؤادها، وينفذ إلى قلبها، كحامل الكأس يحبسها طويلاً في يده ليلتذ بمرآها الأنيق، ويتعلل بمنظرها الشائق. تلك الرياض الناضرة المونقة في الجزيرة شهدت هذه الزهرة الذابلة تهصرها كف ذلك الجاني الآثم، هناك حيث لا ينفك تهتصر الغصون، وتجتني الأزهار، ومن لها بالجلادة والامتناع، وأنى لفتاة مثلها بالصبر والعصمة، وإن في صدرها لنارين متأججتين: نار أسى وشجو، ونار صبابة والتياع، ضرمهما الخائن الخادع، وأوقدهما على كبدها المتصدعة بما جنى على عفتها، وشب في قلبها من حب، وكم اعتمدت أن تبرّد من ناريها، وتطفئ من جمرتي فؤادها، بما تفيض من نيل دموعها الهامية، فما أطفأ ذلك وقداً، ولا أهدي لصدرها برداً، لقد ألحّ الحزن عليها وشرد من لبها فألقت بنفسها، وتساقطت بين تلك الرياض محزونة ذاهلة مقسمة اللب، حتى ليخيل إلى من يراها أنها إحدى زهرات الروض الساقطة الذابلة، ويحي على مصر وأواه من هذا البلد المحبوب المفدى بالنفوس ألا يبرح من خلائقه ودأب أهليه أن تظل ناشئته المرجوة، والشباب المرتقب من شبانه، حرباً عواناً على الغيد الملاح من فتياته الكرائم، وعقائله المصونات، بما يكدرون في كل آونة من ماء الحسن، ويدنسون من نقيّ الأعراض، بعض هذا أيها القوم ومهلاً قليلاً، فما هكذا يكون عهد الإصلاح، ولا هكذا تكون المدنية، والأخذ بأسباب الرقيّ والحضارة، ومتى كانت الأحرار تسترسل في سوءاتها وتذهب في مخازيها في كل مذهب، تساءلتم طويلاً وتناظرتم كثيراً في أي الأمرين من السفور والحجاب، أجدى على مصر، وأعود عليها بالفلاح والرفعة، وهذه مصر تشكو إليكم سافراتها ومحجوباتها وتبرأ إليكم من عصرياتها ورجعياتها، إن النساء قلوبنا التي نقيم دونها الصدور، وعقولنا التي تسددنا إلى كل عمل حميد، ومسعى كريم، ولطالما أرخينا الاعنة لهذه القلوب المحبوبة، فجعلت تتناهبها الأهواء، وتعبث بها الأضاليل ولشد ما شف القلب ركوبه الذلة، وأودى به غشيانه كل ملهاة شائنة لله أنتم فما أرجح أحلامكم، وأوفي عقولكم، وأكرم شمائلكم، أين يذهب بكم هداكم الله عن طريق الهداية

وأين - لا أين - تبتغون الجدوى من غير متطلبها، إن الذي يسره أن يصلح من حال أمته وينشؤها نشأة فاضلة كريمة يعمل على أن يغرس الفضيلة في الأمهات اللواتي يربين شبان الغد في حجورهن، ويخلق التهذيب في تلك المدارس الأولى لنشأتنا المرجوة المخائل، هناك فلتقرّ عينه بأمة رشيدة عاقلة، وشعب سامٍ نبيل، والله المستعان.

جولة في الأصيل

جولة في الأصيل معربة عن الانكليزية بقلم حضرة الكاتب الشاعر الأشهر محمود أفندي عماد: أعط الفكر هدنة، ودعنا نخب في أحشاء هذه المروج الخضر، ونتسنم متن ذلك الساحل الرملي، أو ننحدر إلى مسارب تلك الغابة الغلباء، طائرين بأجنحة الخيال بين مجاهلها الموحشة لنشهد الطبيعة تختال في ثوب عرسها القشيب. اطرح آنة ما صحفك الميتة التي كنت تقرؤها في ليالي الشتاء لترى فيها وصف غيضة أو غدير، وحسبك فاقرأ هذه الصحيفة الحية، صحيفة الطبيعة الحكيمة ن واجمع من أساطرها نخبة صالحة من العظات البالغات، فما أرى كل نجم أو شجر أو ورقة أو زهرة غضة كانت أو يابسة ألا تحتوي على سفر ضخم مكتظ بالحكم الرائعة، والطرف المستملحة فلنقرأ ثم لنقرأ، ولننهب بالعين مخبوءات هذا السفر القيّم. رويدك وانظر قبل أن نغادر عتبة الدار هذه الزهرة التي يسمونها (فلة الوادي) واقرأ طرفتها المعلقة بأجراسها المتدلية البيضاء، أنها لا تنبت على جوانب الطرق العامة حذراً من أن تلهبها شمس الظهيرة المحرقة، وهي ليست على شيء من حب التبرج المكذوب والظهور الخادع، بل تراها قانعة بقميصها الأبيض العادي الذي يتضوع من أردانه ريحها الطيب فيرشد المعتسف إلى منبتها الخفي البعيد. وفي الوقت الذي تطأطئ فيه أترابها الشامخات رؤوسهن أمام سلطان النسيم القاهر تتنفس هي بسكينة ورفق في مخبئها الوادع الأمين، وسواء عليها مرت الريح رخاء تتخلل ثنايا الكروم الدانية أو نكباء تنطح هامات أشجار الحور والبلوط العالية فتحطمها بشراسة وبأس: وكذلك النفوس المتواضعة لا تشعر كثيراً بضربات القضاء المتوالية التي تهز بقوة عرش الملك العظيم. وليست العلياء على منعتها إلا رصداً للمهالك، فلنقنع ولنتواضع نعش في سكينة وسلام، ولكن هلمّ، فقد أبطأنا، وتسلّل برشاقة وحذر لئلا توقظ زهر (الزعفران) النائم أو يراك (الأقحوان) اليقظ الذي يولي وجهه دائماً شطر قرص الشمس، وانظر على كثب منه (زهرة الربيع) التي كأنما أضناها الحب فنكست رأسها لتخفي صدرها المجروح أو زهرة (الدمروز) الملساء ذات الطرف الساجي، وإلى جانبها زهرة (الهندبا) التي تذكرني بالتلميذ يمرح زماناً في ثوب المدرسة الذهبي، ثم تمسه يد القسيس فإذا هو في ثوب روحاني

ساذج. أو هل بصرت بتلك الزهرة الحزينة، زهرة (الهيكنت) التي يقولون إنها تحيا الليل باكية والنهار منكسة الجبين؟ لله ما أنضر هذا الحقل، وأبهج منظره الذي ترتاح إليه النفوس، إنه كصبي غض الصبا يخب لاهياً في طيلسان من حرير وقد تهدلت على كتفيه خصل شعره الناعم الأثيث ولكأني بالنجوم التي تنتثر في زرقة السماء أقل عدداً من زهرات (كأس الملك) المنتثرة في خضرة هذه الأرض وقد تخللتها زهرات الأقحوان، لشد ما عانى الفلاح الماهر في تهذيب هذه الغروس وتشذيبها وأخص من بينها أشجار (التنوب) الصلبة فنشطت تحمل سلالها الذهبية. على رسلك يا صاح، ولا تدن منها، فإني لأشفق عليك من نصالها المشحوذة التي تدب بحماس عن زهراتها المتدلية. لقد زعموا أن (الأرواح) يألفن كثيراً هذه الأشجار ويهرعن إليها إذا جن الليل جماعات جماعات، وفي يد كل واحدة منهن زهرة من زهرات (كأس الملك) تحتسي بها سلسال النسيم العليل، ثم يأخذن في الرقص والطفر على وقع النغمات البعيدة التي ترويها الريح عن تلك القرى، أو سجعات البلابل الأنيقة التي ترددها عند انتصاف الليل. وما أحسب هذه الدائرة الصغيرة إلا مكان التئام الحفلة، فهنا أتى أبيرون (ملك الأرواح) يقود رهطه على ضوء مشعلته الكبيرة وأخذ معه في اللهو والمرح ولعل ذلك هو سر ما نراه من احتشام الشاة هذه النواحي الخصبة، وتهيبها مراعيها على ما بها من نضارة وإيناع. ويقولون إن هذه الأرواح لا يزلن على حالهن تلك إلى أن ينشطر الليل نصفين ويصيح الديك صيحته المعهودة، فيقفن رقصهن وزمرهن ثم ينصرفن أسرع من سنحات الفكر، ويتبعن (نصف الليل) أينما حل في أنحاء الأرض!! هكذا ينسج الخيال نسيجه الشفاف، ويعجب العقل بهذا الصنع الدقيق، فيفلت من أسره، ويطير بجناحي النسر، محلقاً فوق الشمس. ألم تر إلى تلك الغابة التي تكسو هذا المنحدر كيف تتموج أوراق أشجارها عندما يحركها النسيم فتعكس لوناً فضياً بهيجاً؟ خذ بنا إليها، ولنسلك هذا الدرب الأرنّ، ولنلقف بأسماعنا

بعض ما يساقط علينا من الأنغام المطربة التي تعجز عن أن تخرجها الصنعة الموسيقية الحديثة. أو تدري ما الذي يلقى إلينا بهذه الأنغام؟ أنها آلة دقيقة تطير حول الشمس يسميها الناس البلبل. إن الطبيعة كثيراً ما تصر آلاءها في دائرة ضيقة!! أنصت! ها هي البلبل تغنينا، ولا أحسب كل من لعب على سمعه شيء من غنائها بقادر على أن يفلت منه. إنها لطائر ذات مروءة، تسعى دائبة في سرور غيرها، وليست كأولئك المغنيات اللائي يغريننا بأصواتهن المصقولة حتى إذا ما استعدناهن أشحن عنا متدللات متكبرات وتركننا بين الراحة والألم!! وهذا هو (الحسون) الصغير، ذو الريش الجميل، يلتقط حبات (البابونج) ثم يقفز برشاقة على فروع (التفاح) المزهرة، فيتأنق في جلسته ما يشاء، ويحيينا بصوته الأغن. ولا أراني ممارياً إذا قلت أني أضن به على القفص ولو أعطيت الدنيا وما فيها. على أني أستميحك وقفة لدى هذا العش الصغير، أو إذا شئت ذلك البناء الحصين وأرجو أن تستظهره ببصرك وتستنبطه، ثم تفضي إليّ بما عساه أن ينالك من الدهش عندما تعرف أن (العصفور) لم يستعن على بنائه بآلة من آلات البناء!! فلا أثر لقاطعة تشذب شواذه، أو مسمار يربط أجزاءه، أو مبرد يصقل خشونته، أو غراء يلصق جوانبه، بل تراه غني عنها جميعاً بمنقاره الصغير!! وبناؤه مع ذلك آية في الدقة والأحكام! فأية يد ماهرة تستخدم كل أسباب العمل، وتفرط فيه عقدين من السنين، ثم تغدو علينا بآخر يحكيه متانة وإتقاناً؟؟ ألا أن حقاً علينا أن ندهش ونعجب من هذه المهارة التي تفضل مهارتنا الفطرية أو لست ترى (النحلة) تلك الصناع الحاذقة، كيف تهزأ بالإنسان الذي يعمد إلى النماذج والأدوات عندما يراد على صنع جرم سداسي بينما هي لا تعمد في صنعه إلا إلى النظر؟ إنها لمهندس داهية كبير، أما رأيت كيف تبدأ بناءها بالسقف عندما نبدؤه نحن بالأساس؟؟ على أنها رغم ما تصرفه في هذا البناء من الجهد تظل هائمة بياض يومها بين الأشجار

متنقلة من زهرة إلى أخرى بعزمة لا يتطرق إليها الملل. فقل لأولئك (الكسالى) الذين حق عليهم القول إنهم يسرقون قوتهم هلموا فانظروا كيف تبتغي الحياة الشريفة من طريق الكد والعمل!! لقد انكشفت حكمة الحياة لجماعات النحل فانطلقن يكدحن بعزم ومضاء، ولا قوت لهن إلا ما يصدفنه من المن، فإن العالم النباتي - ذلك الكيماوي الكبير - يقطر لهن الذهب فيستحيل إلى سائل عسليّ سائغ الطعم سهل المزدرد. ولكن حسبك وانظر إلى الشمس، إنها تطرق أبواب المغرب تتهادى في غلالة ذهبية آية في الوراء، وتتسلل متباطئة خلف السحب المتقطعة القانية، وإن في فتور حرارتها وانحدار قرصها الأحمر ما ينذرنا بهجوم الليل. رويدك أيتها الفارّة الحسناء، إن الأزهار الحزينة تنكس رؤوسها بوهن وخور فمديها بروح من عندك. . أما وقد أظلنا المساء فلنعد أدراجنا ولنمر من بين تلك الأغصان المشتبكة لنلمح من خلالها الفضاء الأزرق المهيب الذي يسقف الوادي الفسيح المزدحم بالأكواخ وقد تكدست حولها كومات الأعشاب الذابلة، وإلى جانبها ينساب ذلك الغدير الفضيّ في حلة فضفاضة من حقول (البرّ وحشيشة الدينار) وهنالك على مدى البصر ترى غابات البلوط الكثيفة متلعة رؤوسها إلى السماء. كل ذلك قد نسق بمهارة تنسيقاً يعجب الطبيعة. فلله ما أسعد الرجل يشرب قلبه حب بلاده فلا يبتعد عن داره إلا بمقدار جولتنا هذه وهو لا يعدم خلالها وحشة تجذبه إليها حتى إذا عاد فوطئ عتبتها استشعر فرحاً وسروراً يحمد معهما العودة كما نحن الآن. ذلك مثال مما يستقبل به الغربيون ربيع بلادهم، وهو وإن لم يخل من إبداع إلا أنه لا يعادل إبداع الطبيعة عندهم، فلقد خلعت على نواحيهم حللاً مفوّفة عريت من مثلها نواحينا، وصار حقاً على شعرائهم أن يبزوا شعراءنا في الإبانة عن خوالجهم كلما طلع عليها الربيع، فما صحيفة الشاعر إلى صورة لصحيفة الطبيعة في بلاده. وذلك مصدر ما نراه من التباين في خيال الشعراء الغربيين والشرقيين، ولو أن لنا ما لهم

من الغابات المرنة التي انفصلت عن الجنة لكان للخيال في نواحينا شأن آخر. فلا يكونن هذا التباين مدعاة لتحقير الشاعر في الشرق، فهو إنما ينطق بما توحيه إليه طبيعة أرض وسمائه، وإذا كان ثمة تقصير فمرجعه إلى الوحي لا إلى الشاعر. وما عسى أن يقول المسكين في ربيع لو لم تشعره به التقاويم السنوية لحسب أنه لم يطلع عليه بعد؟؟ فإن للربيع آثاراً واضحة لا تكاد تري العين بعضها في هذه البلاد إلى بمنظار يقيها (رياح السموم) التي تبث فيها (الصحراء الكبرى) تحياتها السنوية المعهودة إلى مصر والمصريين. . فحسب الشاعر المصري في مثل هذا الفصل أن يشغل شعره بأكبار الطبيب الذي أبرأه من الحمى والرمد، لا أن يشغله بأكبار شيء لم تعرف له نفسه إلا النقمة الخالدة واللعنة المؤبدة. . . وهل الشعر إلا ما تعرفه النفس؟؟ يقولون إن ربيع هذا العام قد أظلنا، فهل هذا صحيح؟؟ إني لا أكاد أومن بما يقولون وإلا فأين ما قرأناه عن جوّه السجسج ونسيمه العليل؟؟ لا عهد لنا بشيء من ذلك، وكل ما في الأمر أنا انتقلنا حقاً من برودة حادة جمدت الدم في عروقنا إلى حرارة قاسية غلته فجأة فانبعث من مسام أجسامنا عرقاً حاراً صبيباً. . . وليس ذلك إلا كناية عن خروجنا من الشتاء ودخولنا في الصيف، فأين الربيع؟ هذا هو السؤال الذي اختلج في نفسي عندما قرأت في (تقويم الأوقاف) خير حلول الربيع فنظمته في هذين البيتين. يقولون بين الشتا والمصي ... ف ربيع أنيق اللباس خليع وهذا الشتاء تولي حميداً ... وجاء الصيف فأين الربيع؟ وهما كل ما قلته في الربيع. . .

اللغة العربية

اللغة العربية لحضرة الأديب الكبير العالم المفضال الشيخ فؤاد الخطيب أفندي لا جرم أن اللغة العربية أجزل اللغات السامية وأوسعها مجالاً وأحكمها استعمالاً. لا يذهب مر العشي بسلاستها ولا يعبث كر الغداة بطلاوتها، ولقد طاحت دول وبادت ملل فاستسرت لغاتها وعفت آياتها، وتلك اللغة تدور مع الأحقاب في غلائل الآداب وغلواء الشباب، لا يرهقها هرم ولا يخلقها قدم، فكأنها وهي ابنة القرون الخالية والأمم الماضية، نشأت في اليوم الحاضر أو أمس الدابر، فجاءت دفعة واحدة مستوفية أقسام جمالها وصحة أبنية أسمائها وأفعالها، تجول بها أسلات الألسنة وأطراف اليراع، في صدور المحافل وبطون الرقاع، فتنتظم فوائدها وتعقل شواردها فلا تشذّ نادرة ولا تند بادرة. أجل، إن السيف الباتر والجبروت القاهر والمكاتب المتماوجة بالزحام والمدارس المكتظة بالطلاب والصحف الذائعة في الآفاق والوفود الضاربة في الأصقاع - لم تحول لغة عن أصلها ولم تجذب أمة بحبلها، فأين ذلك مما وقع للعربية مع تلك الشراذم البدوية، فإنها لم تنهب الأرض في قطار ولم تجزع الفضاء في منطاد ولم تمخر البحار بالبخار بل جابت المسارح ورادت المكامن وطافت المجامع، فولجت كل مصر وسكنت كل نفس وقالت لكل شيء: حسبك فإنك عربي منذ اليوم. فسقى الغيث ذلك العهد القديم، ورعى الله ذلك العربي الصميم فلقد كان نوراً في الظمات وهدىً في الشبهات، إذا جال في مضمار الفكر، وراوح بين النظم والنثر، صور على الطرس حقيقة النفس فناجتك بأسرارها، وحدثتك بأخبارها، فإذا الغيب تكاد تراه عيناك، وإذا الوهم تكاد تلمسه يداك. فهكذا الأدب وكذلك العرب، فلقد سبروا غور العلم ومشوا إلى أعماق الفهم. فانتزعوا العقول من عقالها واستلوا الوجود من العدم واستخرجوا اليقين من الريب وتغلغلوا بين الذرة وأجزائها، وتسربوا بين العصا ولحائها، وكانوا وكل سحر غير سحرهم باطل، وكل بلد خيموا فيه بابل. اللهم سبحانك، أينطق العربي بالحكمة الناصعة ويهتف بالقافية الرائعة، فتكاد لحلاوة أبياتها تقبل أفواه رواتها - وهو في ذلك المنقطع من الأرض، يهيم في ظلمات بعضها فوق

بعض، إذا مشت عيونه ففي صميم القفز وإذا وقفت به فعلى أديم الصخر. فلا يزال في الوجود كالمثل الشرود، تتلقفه الأقطار وتتخطفه الأسفار، فمن هضاب يحوم فيها كالعقيان إلى بطاح يعسل فيها كالسيدان، ومن مجالدة زعزع نكباء تنسف التلال، إلى مكابدة هاجرة سجراء تأكل الظلال. فما ثم مرتع شائق فيستمد من جماله البيان، وما ثم مورد رائق فيمتح من عذبه اللسان، وإنما هي أرجاء عابسة وبيداء طامسة، تجول فيها الأفكار فتكل وتدور فيها الأبصار فتضل. فسلام على تلك الجزيرة الجرداء ومرحى لتلك المجاهل الخلاء فوالله ما تعوزها الرياض مبثوثة الزرابي والأنماط، ولا الحقول مبسوطة البرود والرياط، ولا النمير يترقرق على حصباء تتألق، فقد نبتت فيها حسنات الزمان، وتفجرت منها ينابيع العرفان، فغنيت بنضرة الآداب عن بهجة الأعشاب، وبكمال السكان عن جمال المكان، بل كانت مسبح الروح الأمين وموئل الدنيا والدين فتبارك الله أحسن الخالقين. فأي نياط لا يتقطع، وأية مهجة لا تتصدع، فقد أودى أولئك الكرام، وتنكرت تلك الأيام، حتى تبازى الرهام، واستنسر الحمام، ولم يبق غير أمة مكسال، لا تتحرك إلا بزلزال، ولا تقطع من أشواط الدهر، إلا مسافة العمر إلى القبر. فأين بنو قحطان، وفتيان عدنان، فيهبوا بالنفوس من غمرتها، وينهضوا باللغة من كبوتها، فتلك مفاخر بلادهم ومآثر أجدادهم، ملء الأنجاد والأغوار وطلاع الدفاتر والأسفار، وأنها لتنطوي بالمرء مراحل العصور والأجيال، وتطل به على عالم الحقائق من ملكوت الخيال. أما والله لولا تنطس بعض المتزمتين وسدهم على اللغة أبواب التعريب والاشتقاق فحجروها في الحواشي وأقبعوها في المتون، لما ازورّ الطلاب عنها وامتلأوا نفوراً منها وكأن العلم كل العلم أن يمضغ المرء كلام غيره ويلوك أقوال سواه، فيتشدق بالمذاهب العقيمة ويتبجح بالأمثال السقيمة، وإن قعد به العجز عن إنشاء فقرة وتصوير فكرة، ولم يغن عنه سواد الحدود والمصطلحات، وما أفتن فيه من الشواهد والنكات. ولا بدع فإن الأصول وسيلة والأنشاء غاية، ولشد ما بينهما من شاسع الفرق وواسع البون وكم بين الماء والسراب، والقشور واللباب.

وأما من رزق قريحة وقادة وبصيرة نقادة وأحاطة بما لا مندوحة عنه من قواعد اللغة وأصول العربية، ثم راض نفسه على مزاولة أساليب العرب ومناحيهم وتوفر على مطالعة تراكيبهم ومراميهم، فقد اكتسب من ملكتهم ما أخرجه إلى لهجتهم، فبات وما يعترضه عيّ ولا ترتهنه لكنة ولا تتحيف بيانه عجمة. وهل البلاغة لعمري إلا بصقال الديباجة ومتانة الأسلوب وحلاوة الأداء، لتكون المعاني أعلق بالخاطر وأسرع في السمع وأفعل في النفس، أرأيتك وقد ثقفت الألفاظ المتخيرة وعرفت أين تضع يدك في سبكها وتأليفها، كيف تهز القلوب وتخلب الألباب وتملك قياد الأهواء. ولله در أبي هلال العسكري إذ قال في الصناعتين إن مدار البلاغة على تحسين اللفظ، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً وقال ابن الأثير أن اللفظة الواحدة تتنقل من هيئة إلى أخرى فتحسن أو تقبح، هذه كلمة (الأرض) فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة سواء أفردت بالذكر عن السماء كما في قوله تعالى (والله أنبتكم من الأرض نباتاً) أو قرنت بالسماء مفردة كما في قوله تعالى: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) أو مجموعة كما في قوله تعالى (الله الذي خلق السموات والأرض)، ولو كان استعمالها بلفظ الجمع مستحسناً لكان هذا الموضع أو شبهه أليق به، ولما أراد أن يأتي بها مجموعة قال: (لله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن)، وكذلك قول أفصح الخلق لبعض النساء (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، وحسبك أن المعاني المنقولة من لغة إلى أخرى تفقد ماءها وتفارق صفاءها، وما ذلك إلا لأنها انسلخت من برودها المعلمة وانخلعت من قوالبها المحكمة فكانت شبحاً ناحلاً وخيالاً ماثلاً. وليت شعري ماذا يضر المعاني إذا أجيدت لها المباني، فكانت شرعاً في المتانة وسواء في الصياغة ولاسيما وقد جاشت غوارب العجمة وفشت لوثة اللحن، ومست الحاجة إلى شد أواصر اللغة وتقويم منآد اللسان. إلا وأنه لمن البر بالأدب والغيرة الصادقة على العرب، أن ينسج المتأدب على منوال الفصحاء ويطبع على غرار البلغاء فذلك تاريخ آبائنا يصيح بنا من ورائنا وكله دموع تترى لا ألفاظ تتلى (وما يذكر إلا أولو الألباب) والله الموفق إلى الصواب.

شبابنا والإسلام

شبابنا والإسلام ترى الرجل المتدين - وأكثر ما يكون من المتقدمين في السن - فتسر، ثم (البيان) بين شباننا اليوم أفراد مهذبون مستقلوا الفكر ذوو شجاعة أدبية اهتدوا بفطرتهم القوية إلى المنهج القويم في تربية أنفسهم فانتهجوه وأصبحوا قرة أعين أهليهم وأصدقائهم والغيورين على رجال المستقبل. . . نعرف من هؤلاء الشباب الصالح - الشاب الفاضل محمد بك جلال نعرف منه شاباً يتقد ذكاء جمع بين حرارة الشباب ورصانة الشيوخ وقد أردناه على أن يكتب في البيان كلما بداله أن يكتب تشجيعاً له وانتفاعاً بمواهبه، وهذه هي الباكورة الأولى من ثمرات فضله. لا تلبث حتى ترى أنه يعوزه شيء من نور الحقائق العلمية الحديثة فتأسف. وترى الرجل الذي أصاب حظاً وفيراً من العلوم العصرية - وأكثر ما يكون من الشباب - فتطرب لحديثه، ونفاذ بصيرته واستنارته، ثم تلاحظ حاجته الشديدة إلى شيء من الدين فتألم. تسر من الأول لأن تدينه يضمن بدرجة ما، تقدمه الخلقي واحتفاظه بالكمال ثم تأسف لجموده وعدم وقوفه على شيء من أسرار العلوم الحديثة، لأنه لو وفق بين الأمرين لا شك يجد مجالاً أوسع لخدمة بلده وعشيرته. وتسر من الثاني، لأنه شاب في مقتبل عمره ومع ذلك تراه ملماً بكثير من أسرار العلوم مما يزيد أملك في نفعه، وتتألم لأن نقص دينه نقص في دوافعه إلى الخير، وفي زواجره عن الرذيلة، وتأسف ثانياً وتعجب أكثر، لأنك ترى تقدمه في العلم فتقرر النتيجة المنطقية الواضحة وهي أن استعداده الفكري الذي أهله لدرجته العلمية كفيل بأن يفهمه الحقائق الدينية ولكنك لا ترى ذلك في الواقع. تلك هي حالنا اليوم يضحك الفريق الأول من الثاني ويسخر هذا من ذاك يظن الأولون أن العلوم الحديثة مؤثرة على العقيدة، نزاعة بالمرء إلى الخروج عن أوامر دينه ونواهيه، ويرى الآخرون أن لا طائل تحت التمسك بالدين، وبعضهم يظن أن الدين لا يساعد على الرقي وخصوصاً المادي منه. أن أنس ما أنس كلمة سمعتها من ناشئ لم يتجاوز الخامسة عشر بعد، زرت أخاه، فاجتمعت به، ثم أخذت أسأله عن سيره في دروسه، فما لبث أن قال: إني لا أبغض من بين الدروس

غير درس الديانة لأنه ثقيل وقد أخذت فيه درجة أقل من العلوم الأخرى. علقت هذه الكلمة بذاكرتي علوق الدرن بالرئة فأخذت أفكر في سبب بغض الطلبة تعلم دينهم وأبحث في سبب بعدنا عن الفكرة الدينية. إنا لا نتلقى في عهدنا الأول، أيام تثمر التعاليم أي في دور التربية المنزلية شيئاً من أركان الدين وقواعده، حتى نصل إلى سن (الكتاب) فنتلقى شيئاً، بطرق عقيمة، على فقهاء من الطراز القديم، فلا نخرج من المكتب إلا ونحن ناسون. أما في المدرسة، فالحصة المقررة للديانة لا تكون إلا بعد انتهاء الدروس وهذا أمر يؤثر على الطلبة من جهتين. أولاً: يجعلهم ينظرون إليها نظرة ثانوية ويعتقدون أنها ليست على شيء من الأهمية. ثانياً: يكون قد مضى على الطلبة وقت كبير يشتغلون أشغالاً عقلية، فلا يستطيعون فهمها كما يجب. هذا النظام شائع في مدارس الحكومة والمدارس الأهلية اللهم إلا مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية. وليس من العدل أن ننسب بعدنا عن الفكرة الدينية إلى طريقة تعليم الدين في المدارس فقط بل إن المرء لينشأ في أسرته فلا يرى أثراً للتعاليم الإسلامية فإما يرى أسرته قد مسخت وتطرقت إليها التعاليم الافرنجية مشوهة أو لا يرى فيها غير تعاليم إسلامية محرفة عن أصلها ففي الأولى يخلب لبه بتلك التعاليم التي تتبعها الأمم المتمدينة ظاناً أن ملأه خير ملأ يتبع نظام التطور والارتقاء ولو عرف الحقيقة لعلم أنهم ما أخذوا إلا سفاسف المدينة ونفاياتها. وفي الحالة الثانية يرى ما يبغضه في دينه ويدعوه إلى التمرد عليه ولو علم حقيقة دينه لاستسهل أن يفدى تعاليمه الصحيحة بالروح. حالان كلتاهما خطر على الدين وتشويه للحقيقة أما سفور وتبرج محرمان يظنهما المرء أشهى ثمار المدنية الغربية وأما جمود وتحريف في الأمور الشرعية نزاعان بالمرء إلى المروق من دينه. يسمع من عشيرته أن من قرأ دعاء نصف شعبان مرت عليه السنة قبل أن يموت، يري أن

هذا أمر لا يقبله العقل ومع ذلك رواته مسلمون فيظن أن هذا من الإسلام فيزري على هذا الدين لأنه لو قام حقيقة على مثل هذه التقاليد لكان هناك مجال للظنون. يرى أن رأس أسرته يبرم الأمر دون استشارة محقراً رأي الأفراد الآخرين ويرى أن روح الصراحة معدومة بينه وبين أبيه وأبوه مسلم فينسب هذا إلى الدين مع أن الإسلام هو الدين الذي يعضد الشورى ويحض عليها. ثم يظهر التحريف والخطأ المحض في الخطبة والزواج فيتم هذان الأمران دون استشارة مع أنه محور الأمر وإليه يرجع الرأي وهو الذي سيجني الفائدة إن وجدت ويحمل الضرر إن حدث فيظن أن هذا ناشئ من الدين. ولا أبالغ إذا قلت أن سلطة الآباء ورؤساء الأسر في مصر وعلى الأخص في الأرياف تقرب مما كانت عليه في العهد الروماني. وتظهر هذه المخالفات بل الطعنات التي يطعنها في الدين أهله منذ الصغر منذ توضع التمائم والأحجبة، عندما يتذكر المرء ذلك بعد أن يكبر يراه منافياً للشريعة. مع أن الإسلام في حقيقته دين الفطرة دين التقدم والرقي وقد قص علينا التاريخ ما بلغ أسلافنا من الرفعة حين اتبعوا صحيح تعاليمه. ويظهر الفرق بين الأسر المسلمة وغير المسلمة في اختيار المدارس فترى المسيحي واليهودي كل يختار لابنه مدرسة تكون بقدر الإمكان موافقة لروح ديانته، وتراهم يختارون المدارس ليهذبوا أبناءهم لا ليضعوهم بعد في الوظائف فتجد الرجل على فقره يعد ابنه للأعمال ذات الكسب فيعرف مثلاً أن اللغة الفرنسية مفيدة في التجارة فيدخله مدرسة فرنسية فإذا تعلم أخذه بجانبه فيساعده في أعماله ويتمرن عليها وينتهز فرصة خلو ابنه من المشاغل في المساء فيدخله إحدى المدارس الليلية كالقسم التجاري مثلاً أو الحقوق فلا يحرم نصيبه من عمل ينفعه في عمله أيضاً فيما بعد، أما نحن والحمدلله فلا أمل لنا إلا وظيفة في الحكومة كذلك علمنا آباؤنا قلا يهمنا إذا تربية كفاءتنا الشخصية ما دمنا سنصبح مرؤوسين نأتمر بأوامر سوانا. وأقرب طريق لهذا المستقبل الباهر مدارس الحكومة حيث لا نتعلم شيئاً عن الإسلام. وهنا أبين كيف تسلط على عقول البعض أن الإسلام لا يساعد على الرقي المادي.

إننا نتربى كما بينت سابقاً على النحو الذي يرسمه لنا آباؤنا، لا يبلغنا شيء من حقيقة ديننا لا في البيت ولا في المدرسة، ونوع تعليمنا يقتل كفاءتنا وحب العمل على الاستفادة فلا ننجح ونحن مسلمون أستغفر الله مسلمون اسماً فقط ثم إذا قارنا بين أسرنا والأسر المسيحية نجد الثانية مرتقية، وحيث إن الآباء ليسوا على شيء من حقيقة الدين ولكنا نعتقد أنهم يعرفونه حق المعرفة لا نلبث حتى نعزي إلى الدين هذا التأخر والدين من ذلك كله براء. . ورحم الله الشاعر عمر الخيام إذ يقول يخاطب حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بما معناه - لقد زخرفوا لك دينك وقلبوه ظهراً لبطن حتى لو عرضوه عليك أنت لأنكرته - فاللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون. محمد محمود جلال

حفلة تكريم البيان

حفلة تكريم البيان في أواخر شهر مارس الماضي - بعد ظهور العدد الرابع من بيان هذا العام ارتأى جماعة من أهل الفضل الغيورين على العلم والأدب أن يقيموا حفلة تكريمية لهذه المجلة لمناسبة مرور سبعة أعوام عليها، والحرى لذكرى ظهورها في مثل هذه الأيام من سنة 1911 وأخيراً اعتزموا أن يكون برنامج هذه الحفلة كما ترى (1) أن تقوم جوقة الأستاذ عبد الرحمن رشدي الممثل المصري المشهور بتمثيل رواية جديدة توضع أو تترجم خصيصاً لهذا الغرض وتكون ذات مغزى مفيد (2) أن يطرب حضرات المحتفلين أحد مشهوري المغنين (3) أن يخطب في الحفل حضرات أصحاب العزة والفضل ابراهيم بك الهلباوي ومحمد أمين واصف بك وخليل أفندي مطران وحفني بك ناصف والدكتور محمد حسين هيكل والدكتور منصور فهمي والأستاذ سليم أفندي سركيس وحسن بك الشريف والدكتور عبده البرقوقي (4) أن يطبع عدد ممتاز من مجلة البيان يكون فيه أثر لكل كاتب عصري معروف ويوزع ليلة الحفلة على المحتفلين، ثم شرعوا في إنجاز الفكرة وإبرازها من خدرها فاتفقوا مع جوقة الأستاذ رشدي ووكلوا إلى حضرة الأديب عباس أفندي حافظ ترجمة رواية فرنسية بديعة للغاية آثرها الأستاذ رشدي واستحسنها ورآها موافقة فأخذ الأستاذ عباس في ترجمتها ثم مصرها وأصارها بلباقته المعروفة رواية مصرية آية في الإبداع، بيد أن طوارئ خاصة ألمت بالأستاذ رشدي بعد ذلك حالت دون تمثيل هذه الرواية ولاسيما أنها جاءت بعد البرح البارح الذي عرا جوقته من جراء تمثيل روايات عدة جديدة في هذا العام فكان ذلك سبباً في إرجاء الحفلة وتغيير برنامجها إذ كانت النية أن تكون الحفلة في أواخر شهر إبريل. . . وإذ أن المراسح التي اعتاد الأستاذ رشدي التمثيل فيها كانت في ذلك الوقت مشغولة اضطر القائمون بأمر الحفلة أن يولوا وجوههم شطر جوقة أخرى ومرسح آخر فكان أن اتفقوا مع الأستاذ جورج أبيض على أن يمثل رواية عطيل لأن الوقت لا يتسع لتمثيل رواية جديدة وأن يكون الاحتفال في كازينو الكورسال عصر يوم الجمعة الموافق 17 مايو. في أثناء الاشتغال بأمر الحفلة كتبنا إلى كثير من الكتاب أن يكتب كل منهم في أي موضوع يختاره هو وتجيش به نفسه فوعدوا جميعهم، غير أن أكثرهم طال علينا طوله حتى سبب ذلك تأخر العدد وعدم ظهوره ليلة الاحتفال. . .

أما الخطباء فقد تأهبوا جميعهم للخطابة - ولكن لأن الصيف اشتدت وقدته، واحمرت حمارته، فأرغم أكثرهم على مزايلة القاهرة والهرب من هجيرتها ثم ألم بساحة بعضهم ما لم يمكنه معه أن يحضر الحفلة بتة - هذا إلى أن رواية عطيل استوعبت لطولها الوقت المقرر للحفلة على الرغم من أنهم حذفوا منها نحواً من الفصلين - كل ذلك لم يترك مجالاً لحضرات الخطباء أن يخطبوا حتى الذين حضروا الحفلة منهم لأن خطبهم كان أولى بها أن تلقى في حفلة قاصرة على الخطب لا يشركها في الوقت شيء آخر لأنها خطب مستوفاة لا كلمات مقتضبة مخطوفة، أما صاحب هذه المجلة فقد قام آخر الحفلة على الرغم من ضيق الوقت وألقى شيئاً من كلمته التي يراها حضرات القراء بعداً، وقد ألقى بعده حضرة الأديب الشاعر مجدي أفندي ناصف نجل حضرة صاحب العزة حفني بك ناصف بيتين نالا من الاستحسان ما يستأهلان، من هنا يدرك قراؤنا الأفاضل سر تأخر عدد إبريل إلى اليوم، أما من جهة حضرات المدعوين لمشاهدة الحفلة فقد كانوا من خيرتنا علماً وفضلاً وجاهاً إذ كان في طليعتهم حضرة صاحب المعالي عدلي يكن باشا وحضرة صاحب المعالي سعد زغلول باشا وحضرة صاحب السعادة محمود فخري باشا وحضرة صاحب السعادة أحمد زكي باشا وحضرة صاحب السعادة الحسيب النسيب سيد العراق السيد طالب النقيب وحضرة الأديب الكبير الشيخ فؤاد الخطيب أفندي وحضرة صاحب العزة العالم الفاضل الجليل نور الدين بك مصطفى وحضرة صاحب العزة الأصولي المفضال حلمي بك عيسى وحضرة صاحب العزة القاضي الفاضل السيد بك فوده والقاضي المبجل علي بك جلال وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق وكثير من أعيان المحامين والأطباء والأدباء والعلماء والوجهاء وأساتذة المدارس وطلبتها، مما دل على عناية القوم بكل ما هو بسبيل من العلم والأدب، والمطلع على هذين العددين يرى آثاراً طيبة لبعض علمائنا وأدبائنا مما وضعوه خصيصاً لهذين العددين لمناسبة هذه الحفلة وكلهم على أن سيوافوا البيان دائماً بما سيرضي قراءنا الرضا كله إن شاء الله. أما كلمة صاحب هذه المجلة فها هي تي: سادتي: إني لأرى أن لكل منكم على ديناً من الفضل يجب أداؤه، وحقاً من الشكر يلزمني وفاؤه،

فقد والله سقيتم بنداكم من هذا الضعيف أرضاً، وجعلتم عليه بهذا التكريم نافلة من الشكر وفرضاً، وحقق الله بكم أمل الآملين، وجعل رضاكم من ثواب العاملين، غير أني وإن بالغت في الثناء فما يحسن اللسان، أن يكافئ بعض ما قدمتم من الإحسان، ولو كنت صاحب ألف بيان. . . علم الله يا سادتي أن هذا الضعيف الواقف أمامكم قد صارع الدهر في سبيل خدمته الأدبية فلم أزل أثير في وجهه غبار العزيمة، حتى ثار من خلفه غبار الهزيمة وكم أشرعت في نحره القلم وكم براه، ولكن الله أجارني وأجاره، وكم أوتر هذا الدهر قوسه ونبل، ورماني من أحداثه بعدد الحصى ورميته من نفسي بجبل. يكاد صاحب المجلة العربية في بلادنا أيها السادة فيما يكابد من الناس وما يلقى من الأرزاء والإزراء في سبيل الإصلاح وما يجب عليه من الثبات لقاء ذلك - أن يكون كصاحب الكتاب المنزل في أول دعوته وفاتحة نبوته وهيهات يفلح إلا إذا صبر على المكاره كما صبر أولو العزم من الرسل فلو أني حدثتكم بما لقيت في سبيل هذه المجلة وما ألقى الله عليّ من عنت الدهر لرأيتم من أمري كأنما أهدم نفسي أمامكم قطعة قطعة حتى لا يبقى مني إلا هذا القلب وحده وليس فيه غير اليقين بعون الله والثقة بأهل الفضل. ولو كنت أرمي بعملي هذا إلى الريح لكان أمساكي عن الإنفاق وترك المجلة من السنة الأولى ربحاً كبيراً، فما كانت تلك السنة إلا صدمة زلزلت فيها أركان ثروتي زلزالاً جعلها لا تتماسك فيما بعد! أقبل عليّ الناس بالطلب يتساقط كالمطر وأقبلت عليهم بالثقة فكنت أرسل أعداد البيان في مهاب الرياح الأربع وكان يخيل إليّ أنه يطير في الآفاق على أجنحة الملائكة ولما تم الحول رأيت أن الرياح لا ترجع بشيء وأن الملائكة لا يحصلون قيمة الاشتراك وأن الفساد في أكثر الناس يرجع سببه إلى النية الصالحة في بعض الناس. يريد الأكثرون عندنا أن يقرأوا وأن يتأدبوا أن يجدوا في خدمتهم عقولاً كبيرة ونفوساً الهية من الشعراء والكتاب والفلاسفة ولكن على شرط أن يكون ذلك كله أو أكثره بلا ثمن بل سلف لله تعالى فإن انخدع بهم صاحب المجلة وذهب يؤاتهم على هذه الرغبة لم تكن الأسنة أو بعضها فإذا هو قد شقي بمجلته وأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية لا على عروشها، ولكن على غروشها، وما زال الفقراء عندنا يريدون أن يقرأوا ولا يستطيعون أن

يدفعوا والأغنياء يستطيعون أن يدافعوا ولا يريدون أن يقرأوا، فمجلة البيان لبثت في حياتها تقاتل الموت ولولا ذلك لماتت. لم أقصد أيها السادة إلى الربح من عملي ولا فكرت فيه ولا عملت له فإني أرى أن النفس المادية لا تستطيع أن تتصل حق الاتصال بمجموعة الروحانية التي تتألف منه جمهرة القراء وبالتالي فهي لا تستطيع أن تنبسط على هذه المجموعة شعاعاً ولا أن تخطر عليها نسيماً ولا أن تترقرق فيها ندى فإن غذاء الأرواح كغذاء الأزهار - بالنّير النّير والرقيق الرقيق، ولهذا كان كل أهل الإصلاح من الأنبياء فمن دونهم لا يبالون بالمال ولا بالغنى لمكان الاتصال منهم بتلك المجموعة ومكان الإفاضة عليها، ولهذا أيضاً قنعت قناعة الزهاد، ووقفت نفسي على ما قدّر لها من الجهاد وأبيت أن يكون اتصالي بالقراء من هذا النوع السوقي الذي يشبه اتصال البائع بالمشتري، وأنا أعلم يقيناً أن هذا غرض تتزلزل النفس من دونه ولا يثبت عليه إلا من كان حجراً تحت ضرس الدهر لا يقضمه ولا يهضمه. فعلت كل ذلك لأنه مبدأ نشأت عليه في صحبتي للأستاذ الإمام حكيم الشرق وأكبر المصلحين فيه المرحوم الشيخ محمد عبده، فقد صحبته وأخذت عنه تسع سنوات كاملة بعد أن قطعت عمراً قبلها في الأزهر وكنت من الذين يدرسون وأخلاق الأستاذ ونفسيته العالية ويستمدون من روحه العظيمة ويقدّرون مستقبلهم على ما يرون من حاضره، ولو أنه رحمه الله تفرغ لإنشاء مجلة لكان له منها أعظم الربح أو أعظم الخسار لأنه لا يبالي بكليهما ولا يسعى لأحدهما وإنما يكون الأمر صورة لذمم القراء. . . ولما استأثرت رحمة الله بالأستاذ جعلت همي أن أستثمر أدبه فيّ فانصرفت نفسي إلى منزع من الإصلاح أتأتى إليه بعمل ينفع الناس ولم أر إلا الأدب واللغة والرقائق النفسية ففرغت للامتلاء من آثار الأولين والآخرين وما زلت أرصد في مراقب الأيام حتى خرجت من صحف الغيب في أوائل سنة 1911 صحيفة البيان. ولا أراني في حاجة أن أبسط لكم خطة المجلة ولا ما وقفتها عليه فقد مرّ على ذلك سبع سنوات وهي ربما أغنت في شرح ذلك عن سبعة السن ولكني أشهدتكم على قليل مما لقيت في سبيلها وما أنا بآسف ولا نادم ولا متبرم لأني جد واثق أنه لا يوجد اليوم في مصر المحبوبة رجل مفكر ولا أديب بليغ ولا عالم محقق ولا متأدب يتهيأ لمستقبله العالي إلا وهم

يقرؤون البيان ويحرصون عليه ويكرمون صاحبه بمودتهم وانعطافهم عدا طائفة كبيرة من أمثالهم في أقطار المشرق، فالبيان والحمدلله بعناية هؤلاء قائم على بنيان متين من عقول سامية يقوم عليها كذلك بناء الأمم. نعم إننا لا نزال نشكو مطل كثير من قومنا في حقوق الأدب وبخاصة طوائف من الأغنياء بلغ بهم الانصراف عن معنى الأمة ومقوماتها التي من أهمها نشر اللغة والأدب وما يعين على تهذيب الطباع إلى أنها عفا الله عنهم ولم يعودوا يرون أن في الإسلام زكاة إلا ما يدفعونه بقوة المحصل وكثرة الإلحاح اشتراكاً في مجلة أو صحيفة. نشكو من هؤلاء وهؤلاء ومن طائفة ثالثة هم من أهل العلم والفكر ولكنهم يكرهون ما كان عربياً، ولا يقرأون ما هو عربي ويأنفون أن يشتركوا في مجلة عربية كأن هذه اللغة ليس في أفواه آبائهم وأهليهم وجميع قومهم ولم ذلك؟ لأنهم تعلموا في أوروبا، أفترى كل من تعلم في أوروبا لا بد أن يصير أوروبياً في لغته ومنزعه ومذهبه واحتقاره للشرق. وهب ذلك صحيحاً وحقاً وضرورياً لهذه الأوروبية، أفلا تعلمهم أوروبا أن لكل أمة حقوقاً على أبنائها ولكل شعب لغة وعادات ومذهباً خاصاً في التاريخ وأن كل فرد من الأمة يجب عليه أن يحتفظ بمجد تاريخها ويبالغ في إظهاره والتعلق به ويزيد فيه بما يقتبس لأمته من محاسن غيره من الأمم. وبالاختصار ألا تعلم أوروبا أن من كان مصرياً وجب عليه أن يبقى مصرياً مصرياً مصرياً ولو انتقل إلى القمر؟ أيها السادة - إني أعد من سعادة مصرنا المحبوبة أن نشأنا الجديد المبارك الذين يتخرجون من المدارس العليا سنة فسنة أخذوا يدركون أن من أجل الأعمال في خدمة الأمة مساعدة المصلحين ممن تفرغوا لخدمتها، وكنا قديماً نحسب أن شمس بلادنا الحارة تقضي بأن يكون لنا من شباب وشيوخ كثير من الأعمال الباردة ولكن هذه الآية قد الزمان إلى الأمام وأخرجت التربية الحديثة جيلاً مباركاً ميموناً يرى أن هذه الشمس الحارة تقضي عليه بأن يكون حارّ النفس والفكر والرغبة في التقدم والإصلاح والأعمال الجدية، فعلى هذا النشء الصالح الذي أدعو له من صميم قلبي أعلق مستقبل البيان. . . ولهذه المناسبة كتب حضرة الشاب المهذب ناجي أفندي البرقوقي الذي اختار الله له أن

يشركني في هذا العمل غيرة منه على البيان واحتفاظاً به وخشية أن يصيبه لا سمح الله ما يلتاث معه أمره - كلمة هي عنوان الوفاء والنبل والإخلاص - قال حفظه الله: الكتاب والشعراء هم عندي أنبياء هذه العصور، وما الكتب والمطبوعات النافعة إلا معابد متنقلة - معابد يجتلي فيها القارئون أسرار هذا الوجود وسر عظمة مبدعه، وليس بخاف أن المجلات والجرائد اليوم قوة لا يستهان بها، قوة لها أكبر الأثر في الجماعات والشعوب - فلا صولة الملوك، ولا سطوة الجيوش، ولا فعل القوانين ببالغة شيئاً لقاء هذه القوة التي يصل لنا أن نسميها قوة القوى، وبقدر نصيب الأمة من الحضارة والتمدين يكون تأثير صحافتها ومكانة كتابها وأدبائها. ونحن إذا ألقينا نظرة على أدبائنا والمفكرين فينا وجدنا حالهم مما يؤسف له، وجدنا أمتنا المحبوبة مهملة شأنهم معرضة عنهم غافلة عن قيمتهم وتقديرهم وتقدير ما يعانون، ويمين الله لأهون عندي أن أمسك الفأس أحفر بها الأرض تحت حرارة الشمس شهراً كاملاً من أن أتناول القلم أخط به مقالاً في ساعة أو ساعتين أجهد فيهما ذهني وأعتصر أعصابي واحترق دمي ثم لا أحظى بعد ذلك كله بطائل، فليت شعري ماذا يلاقي أولئك الذين وقفوا حياتهم على الكتابة والوضع والتأليف ووصلوا الليل بالنهار، وضحوا كل مرتخص وغال في سبيل خدمة الأمة، وما هو جزاؤهم منها وماذا بعد ذلك؟ إن أمثال هؤلاء العاملين إما أن يكونوا من طينة غير طينة الناس العاديين. ناجي أفندي البرقوقي هو شقيق الدكتور عبده البرقوقي وابن المرحوم الشيخ عبد الله البرقوقي ابن عم صاحب هذه المجلة - شاب فاضل مهذب حصل على الشهادة الابتدائية وتلقى جميع دروس القسم الثانوي - ثم حبب إليه أن ينقطع لثروة أبيه يديرها وينميها ولم يهمل مع ذلك واجبات الذهن فلا يكاد يمر عليه يوم دون أن يقرأ ويطالع ويدارس، فنعم الشاب هو. فهم سائرون في طريقهم بقوة غير عادية فلا يثني عزائمهم ثان، وهذا ما لا يدركه تصوري، وإما هم - إذا نحن استرسلنا في غفلتنا عنهم وتركنا حبالهم على غواربهم - صائرون إلى اليأس والانثناء والخمود ضرورة أنهم بشر مثلنا وإذ ذاك نردد قول أبي العلاء المعرّي:

نلوم على تبلّدها قلوباً ... نعاني من معيشتها جهاداً إذا ما النار لم تطعم وقوداً ... فأوشك أن تمر بها رماداً ظهر تحت سماء مصر منذ سبعة أعوام على حين حاجة منا إلى ذلك - مجلة البيان مجلة قيّمة امتازت بصفاء لغتها وطلاوة موضوعاتها وعنيت كل العناية بنشر آثار سلفنا الصالح وترجمة أطيب ما أنتجته عقول الغربيين وبالجملة سدت فراغاً كنا كلنا نشكو منه ونألم له - ولعل كثيراً من قراء البيان يعرفون مقدار الضحايا التي ضحّاها حضرة الأستاذ في سبيل هذا البيان، وأنه أوذي بسبب إيذاء لو أن بعضه أصاب شركة غنية مؤلفة من عدة أفراد من ذوي الثراء الطائل لكانت قد نفضت يداها من هذا العمل بمجرد شعورها به ولكن الأستاذ قد أشرب قلبه حب هذا العمل وامتزج منه باللحم والدم إذ قد فطره الله على حب العلم والأدب وعلى ذلك نشأ وفي هذا السبيل قضى زهرة شبابه بين دراسة وقراءة وترجمة وتأليف. مضى الأستاذ في سبيله وما بالى بالمصاعب التي اعترضته ولا بالخسائر المادية التي أصابته، ولقد كانت هذه العزيمة الثابتة القوية كافية في أنت تصبح مجلة البيان في مقدمة المجلات العربية نظاماً وأكثرها انتشاراً لولا ما نشأ عن هذه الحرب من غلاء الورق إلى الدرجة القصوى التي قضت على كثير من المجلات والجرائد. وهذا ما حملني على أن أبادر بوضع يدي في يد الأستاذ وأن أحتمل عنه شيئاً من أحماله كما هو الواجب على كل من آتاه الله بسطة في الرزق أن ينصر العاملين على خدمة المصلحة العامة ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهنا أتقدم إلى جميع الناطقين بالضاد ولا سيما المصريين منهم وعلى الأخص قراء البيان أن يؤازرونا بأن يقدروا هذا العمل حق قدره وأن يعذروا الأستاذ عما أرغم عليه في الماضي إرغاماً من اضطراب المجلة في ظهورها وأن يكونوا على يقين من أنا لا نألوا جهداً ولا ندخر في سبيل الإبقاء على البيان سدد الله خطانا إلى الخير أجمعين.

سنة 2900

سنة 2900 هذا مقال فكاهي طريف، نقدمه للناس لكي يتكهنوا هم في أنفسهم عن حال الدنيا يوم تدور دورة الدهر ألفاً، وتجري عجلة القرون عشراً، ويتخيلوا مصير الأرض في المستقبل البعيد والزمن الرخيّ القادم، ويتفكهوا بخيال كاتب من كبار كتاب الملح والنقد المضحك والفلسفة البهيجة، ويذكروا ما قد رأوه له في أعداد البيان السابقة من أفكاره البليدة وآرائه الممتعة التي يلبسها ثوب التهكم والأضحوكة العذبة، ونعني به الكاتب الروائي المشهور جيروم. ك، جيروم الذي وسم نفسه بلقب المفكر البليد. وقد عثرنا بهذا المقال في كتاب من كتبه الفرائد، ومقالاته المبدعة، فآثرنا أن نسوقه إلى القراء، لأننا أحوج إليه في زمن يظن أهله أنهم قد لمّوا على المرقاة الأخيرة من مدارج الحضارة. كنت ليلة الأمس في سمر طيب، ومحضر جميل، إذ جلست إلى العشاء في ناد يجمع طائفة من أصحابي الراقين على الاصطلاح الجديد، وكنا جلوساً أمام عشاء فاخر، يحتوي صحافاً عذبة المذاق، وألواناً من الطعام متعددة، فلما نهضنا إلى جلسة التدخين، لم نلبث أن سقطنا في جدل طويل عن موضوع المساواة القادمة بين الناس، وتوحيد الثروة، وإبطال الغنى الفردي. ولم أكن أستطيع أن أسهم في هذا الجدل، أو أهجم مع صحبي في مثل هذا الحديث، لأنني لم أجد فرصة من زمني مذ كنت صبياً تؤاتيني على أن أذاكر هذه الأبحاث، إذ كنت فقيراً أسعى إلى الرزق طفلاً. على أنني لبثت أستمع إليهم، وهم يشرحون كيف أن الدنيا قد ظلت منذ آلاف من الأجيال، قبل أن ينحدروا إليها، تسير على خطأ، وتدور دورة شمالية وكيف أنهم يستطيعون في بضع سنين أن يصلحوها ويردوها إلى مدارها المضبوط. وكان محور حديثهم المساواة العامة، المساواة في كل شيء، في الثروة والامتلاك والعمل، والمساواة في الرضى والسعادة، وكيف أن الدنيا حق للجميع، وخلقت للجميع، ويجب أن تقسم القسمة العدل على الجميع، وأن عمل الفرد ليس له ولكنه حق المجموع، وعليه أن يطعمه ويكسوه، ويجب أن يكون هذا العمل يقصد به إسعاد الجنس الإنساني كله، لا إسعاد صاحبه.

أما الثروة الفردية - هذه السلسلة الاجتماعية التي ربط فيها القليلون الكثيرين، هذا المسدس الذي يحمله بضعة من اللصوص فيسرقون به ثمرات أتعاب الجميع فينبغي أن ينتزع من الأيدي التي ظلت تقبض عليه كل هذا الزمن الطويل. إن ثدي أمنا الأرض يجب أن يرضع جميع أطفالها بالسواء، فلا يجوع أحد، ولا يبشم بالغذاء آخر، وليس للقوى أن ينال نصيباً أكثر من الضعيف، ولا للذكي أن يظفر بما لا يستطيعه المغفل الأبله. ولم يكد ينتهي صحبي من حديثهم الحار، حتى رفعنا الكؤوس عالية فشربنا في صحة المساواة، المساواة المقدسة الجميلة، ونادينا غلام النادي فاستزدناه شراباً وتبغاً. وانطلقت آخر السهرة إلى البيت مفكراً متعب الذهن. ولم تغمض لي جفن ساعة طويلة، بل أمسيت أتقلب في الفراش، أفكر في هذا العالم الجديد الذي فتح أصحابي مغاليقه لعينيّ. ورحت أقول لنفسي ما ألذ الحياة لو يتحقق مشروع أصحابي فلا يعود في الدنيا كل هذا التنازع وكل هذا التقاتل، ولا يصبح ثمة غيره ولا تنافس ولا مخافة فقر، ولا يشتغل الإنسان في اليوم إلا ثلاث ساعات - هذا على تقدير أصدقائي، فلا يطلب مني أن أشتغل بعد ذلك - وهذا هو الفرح الأكبر من ناحيتي، ثم لا فقراء فيحسن إليهم، ويرثي لأمرهم، ولا أغنياء فيحسدون ويلعنون. وإذ ذاك نسيت نفسي فانحدرت في سبات عميق لا يعرف غوره. . . . ونمت!. فلما أفقت وجدتني نائماً ممدداً في تابوت زجاجي، في حجرة عالية السقف، ساكنة، لا يسمع فيها صوت ولا حس، وفوق رأسي يافطة معلقة، فالتفت لأقرأ، فإذا هي بهذا النص: إنسان - نائم التاريخ - القرن التاسع عشر وجد هذا الرجل نائماً في بيت بلندن سنة 1900، ويلوح من أقوال صاحبة البيت أنه يوم العثور عليه كان نائماً نحو عشر سنوات (ويظهر أن صاحبة البيت نسيت أن توقظه) ولهذا تقرر إذ ذاك لغرض علمي أن لا يحاول أحد إيقاظه، حتى يعلم كم مدة يظل فيها نائماً، ولذلك نقل إلى متحف الغرائب لحفظه، وتاريخ دخوله المتحف هو 11 فبراير سنة 1900. ملحوظة: الرجا من حضرات الزائرين أن لا يسكبوا ماء من خلال فتحات الهواء حتى لا

يستيقظ. ورأيت رجلاً أشيب تلوح عليه مخائل الذكاء، يرتب بضعة ضباب في تابوت قريب من تابوتي، فلما لمحني دنا مني ورفع الغطاء عني وهو يقول ماذا حدث، هل أزعجك شيء. قلت - كلا، هذه عادتي عندما أفيق من النوم، بعد تعب شديد، وسبات ولكن في أي قرن نحن الآن؟. فأجاب الرجل - نحن في القرن التاسع والعشرين، وقد نمت ألف سنة! قلت - لا ضرر عليّ من ذلك، فقد شبعت من النوم، وليس أعز لديّ من إخراج كل مادة النوم التي كانت مختزنة في أعصابي وبدني. ولم أكد أتم القول حتى قفزت من التابوت. فأنشأ الرجل يقول وقد لمحني وأنا أشتمل بأثوابي وكانت موضوعة في التابوت بجانبي أظن أنك كالعادة ستطلب إليّ أن أجول جولة معك في المدينة، وأشرح لك التغييرات التي طرأت عليها، وتنطلق تسألني أسئلة طائشة، وتبدي أموراً ودهشات سخيفة. قلت - هو ذلك، وهذا ما يجب عليّ أن أفعل. . فتمتم يقول: ليكن ما تريد، هلم بنا إلى التجوال، ومشى أمامي يدلني على الطريق. فلما نزلنا السلم رحت أقول - أبخير الآن؟ قال - أي شيء بخير تعني؟ أجبت - الدنيا، فقد كان جماعة من أصحابي يفكرون قبل أن يضرب الله على أذني ويرسل النوم إلى عينيّ في أن يفكوا القطع المركبة منها ماكينة الدنيا، فيركبوها كما يجب، فهل استطاعوا تصليحها الآن، هل الناس متساوون اليوم، وهل انتهى عهد الآلام والأحزان وأشباهها؟ فأجاب دليلي، نعم بالتأكيد، وستجد كل شيء الآن بخير، لقد اشتغلنا كثيراً وأنت نائم، ويمكنني أن أقول لك أن الدنيا قد تحسنت الآن. . وانطلقنا نسير في مناكب المدينة، فإذا بها آية النظافة والسكون وإذا الطرق متشعبة بعضها من بعض على شكل زوايا قوائم وعلى نظام واحد، وطريقة مفردة، ولم أجد بها من جياد ولا مركبات، بل تسير حركة الطرق فيها بالكهرباء، وكان جميع الناس الذي تمر بهم على

سمت واحد، وغرار متساوٍ حتى ليخيل للرائي أنهم أهل عشيرة واحدة وكان الجميع يرتدون كدليلي سراويل سوداء، وسترة سوداء كذلك تمتد حتى العنق ولها منطقة في خصرها وكل رجل منهم حليق اللحية والذقن، والكل سود الشعر فحمه. قلت لصاحبي - أيكون هؤلاء الناس جميعاً توائم؟ فصاح الرجل: أتقول توائم؟ لك الله من ماجن، كلا، كلا، وماذا بعثك على هذا الظن؟ قلت: وكيف لا والجميع متشابهون، وكلهم سود الشعور، فأجاب الدليل: هذا هو اللون الرسمي القانوني للشعر، إذ ينبغي أن يكون الجميع كذلك، فإذا ولد رجل بطبيعته غير ذلك فعليه أن يصبغه صبغة سوداء. قلت - ولماذا؟ فأجاب الرجل - وفي لهجته دليل الغضب والاهتياج من كثرة أسئلتي، أتسألني لماذا، لقد كنت أظن أنك قد أدركت أن الناس قد أصبحوا الآن متساوين، فماذا لعمرك الله يكون مصير مساواتنا إذا سمحنا لرجل أو امرأة أن تخطر بيننا إعجاباً وإلالاً بشعر ذهبي إزاء آخر بشعر كلون الجزرة، فنحن بإكراهنا الجميع نساء ورجالاً على أن يكونوا حليقين وأن يكونوا سود الشعور وأن تكون شعورهم متساوية الطول، نصلح بعض أغلاط الطبيعة. قلت: ولم اخترتم اللون الأسود؟ فأجاب بأنه لا يعرف السبب ولكنه اللون الذي أقروا عليه. قلت: ومن الذي أقر عليه؟ فرفع الرجل قبعته وحسر عن رأسه وأطرق بعينيه خاشعاً كأنه في موقف من مواقف التسبيح والعبادة، وقال: الأغلبية!. وانطلقنا حتى إذا بلغنا جمعاً كثيراً من الرجال، أنشأت أقول: ألا يوجد في هذا البلد نساء؟. فأجاب الرجل وهو في أشد الدهشة: أتقول نساء، بلا ريب، لقد مر بنا مئات منهن. . . قلت: يلوح لي أنني أعرف النساء إذا أنا لمحتهن، ولكني لا أذكر أنني أبصرت امرأة واحدة في طريقي. . . قال: وهو يشير إلى شخصين يمشيان على مقربة منا، وهما في الثوب العادي، السراويل والسترات السوداء انظر هاك امرأتين تسيران هناك!.

قلت: وكيف عرفت أنهما من النساء!. فأجاب الرجل: كيف لا أعرف ذلك، ألا ترى القطعة النحاسية المرقومة بنمرة التي يلبسها كل شخص في عنقه؟. . قلت: نعم، لقد رأيت ذلك وجعلت منذ لحظة أفكر كيف جعلتم هذا العدد العظيم من رجال الشرطة، وإذا كان كل هؤلاء من البوليس فأين أذن الناس؟. . أجاب صاحبي: لا حاجة بنا إلى شرطة ولا إلى بوليس، بل إن أهل القطع النحاسية المكتوب فوقها نمر زوجية هم النساء وأما النمر التي بالفرد فهم الرجال. قلت: وقد مشينا قليلاً، ولم وضعتم لكل امرأة ورجل نمرة. فأجاب: لنميز كلاً منهما بها. قلت: إذن أليس لكل اسم يعرف به؟ قال: كلا. - ولماذا؟ - لك الله، لقد كان في الأسماء ظلم أي ظلم، فقد كان قوم من قبل يسمون أنفسهم عبد العزيز ولطيف وكانوا بهذه الأسامي ينظرون نظرة احتقار وازدراء إلى الذين يدعون زعرب وجحلش وهؤلاء بدورهم يهزأون بالذين يلقبون أنفسهم زعزوع وحجلوف فلكي نمنع هذا الهزء ونريح الجميع قررنا أن نلغي الأسماء بتة ونضع لكل إنسان نمرة! قلت: ولكن ألم يحتج على ذلك عبد العزيزيون واللطيفيون؟ قال: نعم، ولكن الزعربيون والجحلشيون كسبوا منهم القضية، لأنهم كانوا الأغلبية!. قلت: ثم ألم يصبح حملة نمرة 1 ونمرة 2 يحتقرون نمرة 3 ونمرة 4؟ قال: نعم، كان ذلك في أول الأمر، ولكن عندما ألغيت الثروة، فقدت الأرقام قيمتها، ولم تصبح لها قيمة إلا في الصناعة فقط، ولكن الآن نمرة 100 لا يعد نفسه أسمى أو أكبر مكانة في شيء عن نمرة مليون. ولم أكن اغتسلت منذ خرجت من التابوت، إذ لا سبيل إلى الاستحمام في المتحف وأحسست الألم من حرارة الجو، وما عراني من الأوساخ، فقلت ألا سبيل إلى الاستحمام الآن؟. قال: كلا، فليس لنا أن نستحم بأنفسنا وعليك الصبر حتى تأذن الساعة الخامسة من المساء،

فيذهب بك إلى الحمام!. . لكي. . يحموك؟ قلت في دهشة يحموني؟ ومن ذا الذي يقوم بذلك. قال: الحكومة! ومضى يحدثني كيف أنهم لم يستطيعوا أن يحتفظوا بمساواتهم إذ أذنوا للناس أن يستحموا بأنفسهم، فقد كان فريق يدخل الحمام ثلاث مرات أو أربعاً في اليوم وآخرون لم يمسوا الصابون والماء من أول السنة إلى آخرها، حتى انقسم القوم إلى طبقتين، الطبقة النظيفة، والطبقة القذرة، وعادت إلى الظهور مناوءات الأحزاب، ومنافسات الطبقات فالفريق النظيف جعل يزدري الفريق القذر، وهؤلاء جعلوا يكرهون الأولين، فلكي نقطع هذا الخلاف، ونذهب بأمر هذا العداء، أقرت الحكومة أن تقوم هي بنفسها بعملية الاستحمام، وأصبح كل فرد من أهل المدينة ملزماً بالحضور إلى الحمام مرتين في اليوم، وأبطل الاستحمام الخصوصي. ولاحظت ونحن مغذان في المسير أننا لم نقف ببيوت، ولم أشهد منزلاً واحداً، بل لم أر إلا أبنية شاهقة عظيمة أشبه بشيء بالقلاع والثكنات، والجميع على نظام واحد، وسمت واحد، ولكني بين آونة وآونة كنت أمر بأبنية صغيرة موسومة بكلمة متحف مستشفى قاعة المناظرة، الحمام، مجمع العلوم، معرض الصناعة، مدرسة الكلام الخ ولكني لم أجد بيتاً. قلت: ألا يسكن أحد في هذه المدينة؟ فأجاب الرجل في حنق: إنك لتسألني أسئلة حمقاء، أين إذن يسكنون؟، إذا لم يقيموا بالمدينة؟ قلت: هذا ما أحاول الاهتداء إليه، لأني لا أجد أمام عيني منازل ودوراً. فأجاب: لسنا بحاجة إلى المنازل والدور، نحن نعيش اليوم على الاشتراكية، ونقيم معاً في ظلال المساواة والأخوة العامة، ونسكن في تلك الأطواد الشامخة التي ترى فكل بناء منها يحتوي ألفاً من أهل المدينة، وألفاً من السرر والمهاد الموطأة وفي كل قاعة مائة منها، ثم فيها الحمامات وقاعات الملابس، وقاعات الطعام والمطابخ، فإذا أذنت الساعة السابعة من الصبح دق الناقوس فنهض كل نائم فأصلح ما اضطرب من أفراشه ثم ينحدر الجميع إلى قاعات الملابس فينظمون من زينتهم، وفي الساعة الثامنة يطاف عليهم بطعام الفطور، وقد

أصبحنا اليوم جميعاً نباتيين، نعيش أكثر غذائنا الخضر والبقل، فإذا أقبلت الساعة الأولى من المساء نفخ في الصور مرة أخرى فهرع الجميع إلى الطعام، وإذ تدق الساعة العاشرة من المساء تطفأ الأنوار والمصابيح، ويذهب كل إلى مضجعه، وكذلك نعيش سوياً في إخاء تام، الكاتب بجانب الكناس، والسمكري بجانب الصيدلي، أما الرجال فيسكنون في الأبنية القائمة في هذا الجانب من المدينة، وأما النساء ففي الناحية الأخرى. قلت: وأين يسكن إذن الأزواج؟ فأجابني: لا أزواج بيننا ولا زيجات، فقد أبطلنا الزواج منذ مائتي عام أو تزيد فإن العيشة الزوجية لم تنجح معنا البتة وألفينا الحياة البيتية نقيضة الاشتراكية، لأن الرجال في شغل إذ ذاك بأزواجهم وعشائرهم عن التفكير في الأمة، وكانوا يجنحون إلى العمل والدأب للإجداء على أحبابهم القلائل ونسوا صالح المجموع، واحتفلوا بمستقبل أصبيتهم وذراريهم أكثر من احتفالهم بمستقبل الإنسانية العامة، وكان من روابط الحب والدم أن جعلت في الناس عشائر وأسرات صغيرة، ولم تؤلف بينهم فتجعلهم جميعاً عشيرة واحدة وأثار الحب رذيلة الطمع في قلوب الناس، فلكي يظفروا بابتسامات النساء اللاتي يحبونهن، ولكي يتركوا وراءهم اسماً مذكوراً وأحدوثة طيبة يحملها أبناؤهم من بعدهم، تدافع الناس جميعاً وراء البحث عن السمعة والرفعة، وكان دأب الرجال أنهم إذا أحبوا امرأة حسبوها أسمى من أية امرأة سواها وأعلنوا ذلك على رؤوس الأشهاد، واعتقدت البعولات أن أزواجهن أسمى وأعقل وأروع من أزواج غيرهن، والأمهات يؤمنّ بأن أبناءهن لا يدانيهم في الفضل والحسن أحد، وتعلم الأطفال من آبائهم أن أمهاتهم وواديهم هم أفضل الأمهات، وأعظم الوالدين، في العالم كله. وكذلك رأينا الأسرة من كل وجه عدوة المساواة ورأينا في الحي الواحد الرجل يعيش في ظل زوجة حسناء فاتنة وله ولدان جميلان، وفي البيت المجاور لداره رجل يبني بامرأة دميمة وقاح، تخرج له ذراري سوء، بالعشرات، فهل كنت ترى ذلك في شيء من المساواة. ثم لا تزال الأسرة قائمة، يرفرف عليها ملك الأحزان وملك الفرح، فإذا أدجنت السماء، وأرخي الليل سدوله، ألفيت زوجين مكدودين ينتحبان في الكوخ، وفي الناحية الأخرى من المدينة يخطر حبيبان يضحكان من آلام الناس، ويرتشفان كؤوس النعمة والحب. وكذلك رأينا الحب عدونا اللدود، لأنه قتل روح المساواة، وجاء إلى العالم بالألم والفرح،

وساق الدموع والعبرات، وجلب النعمة والهموم، فحذفناه من الحياة حذفاً، ومحوناه محواً، وطمسنا على آثاره وآثار ما فعل. ولم يعد الآن في العالم زيجات، ولذلك لم تعد الآلام تزور الناس، ولم يبق في الدنيا دموع ولا قبلات. قلت: يخال إلي أنها نعمة الطريقة، ويا حبذا المذهب، ولكني أسألك ولي معذرة في هذا السؤال، إذ لا باعث عليه إلا الغرض العلمي، وكيف تحتفظون بالنسل؟ قال: ما أبسط الوسيلة، وما أسهل السبيل، وكيف كنتم في زمنكم تحفظون نسل الخيل والبقر، أم يكن ذلك بالتعشير والتنطيط كذلك نحن، فإذا أقبل الربيع، وضعت الحكومة تقديراً لميزانية الأطفال الذين يلزمون لها، وأخذت العدة لذلك، وأجرت الترتيب، فإذا ولدوا أخذوا من أحضان أمهاتهم (حتى لا يعتدن على حبهم) وربوا ونشأوا في المستشفيات العمومية وفي مدارس الأمة حتى يبلغوا الربيع الرابع عشر، وإذ ذاك يفحصهم رجال يعينون لهذا الغرض، ليعلموا الصناعة التي تلائمهم في الحياة، فإذا اختاروا لهم السبيل، وربوهم على الصناعة، ولقنوهم العلم والفن، وألموا على العشرين، ظفروا بحق الانتخاب ذكوراً وإناثاً على السواء. وسرنا كذلك بضعة أميال، فلم أرَ غير أبنية شاهقة، وصروح عالية، فقلت: أليس في المدينة حوانيت للبيع والمخازن وأسواق؟ أجاب: كلا، ما حاجتنا إلى الحوانيت والمخازن، إن الحكومة تطعمنا وتكسونا وتكننا وتطببنا وتحمينا وتزيننا وتحصد غلاتنا وتواري سوءاتنا، فما حاجتنا إذن إلى الحوانيت. قلت وقد أحسست تعباً من أثر المسير، ألا نستطيع أن نجلس في أي مكان ونلتمس شراباً؟ قال: شراباً! ماذا تقصد بكلمة شراب إننا نتناول مقداراً طيباً من الكاكاو في جلسة العشاء، هل تريد ذلك، فلم أشأ أن أشرح له وأفسر، إذ أدركت أنه لم يكن ليفهم لو شرحت له. قلت: نعم، هذا ما أردت. ومر بنا رجل حسن الخلقة، وشاب جميل السمت، ليس له إلا ذراع واحدة، فلفت إليه نظر الدليل وطلبت الشرح. قال: نعم، إننا إذا وجدنا رجلاً فوق المسوى العادي، قطعنا ذراعه، أو ساقاً من ساقيه،

لنجعل كل شيء متساوياً، لأن الطبيعة كما ترى، أبداً في اختلاف وخطأ، فنحن محاولون دائماً أن نصلح سيرها، ونهذب من شأنها. قلت: فماذا تفعلون لو خرج إليكم رجل ذكي أوى من النبوغ وتوقد الذهن ما لم تؤتوا. قال: لسنا نجد ذلك الآن، ولو يخرج لنا منذ زمن طويل قوة ذهنية خارقة للعادة حتى الآن، ولكن لو عرض إنسان له مثل ما وصفت من حدة الذهن، فليس علينا إلا أن نؤدي له عملية جراحية في مخه حتى تجعل ذهنه يبرد وبهذا يكون في مستوى الأذهان العادية. وانطلقنا. حتى إذا مشينا قليلاً قلت: ثم ألا يؤذن لكم بقراءة الكتب. أجاب: أما عن الكتب فإني أقول لك أن ليس لدينا الكثير منها، إذ كنا نعيش الآن عيشة كاملة، خلوا من المظالم والآلام والفرح والأمل والحب والحزن، فلم بعد لنا ما نكتب عنه! قلت وماذا صنعتم بالكتب القديمة، وماذا كان مصير شكسبير وسكوت وملتون وغيرهم من سادة كتاب العهد القديم، وماذا صنعتم بالكتاب أو الكتابين اللذين وضعتهما أنا في زمني، ماذا جعلتم من كل هذه الكتب والتواليف البديعة؟ فأجاب الرجل: لقد أحرقناها جميعاً، فقد كانت كلها مفعمة بوصف الآلام القديمة، يوم كان الناس دواباً كدواب الحمل. فسألته: أليس لكم دين تدينون به. قال: نعم. قلت: ألكم إله تعبدونه. قال: نعم. قلت: وماذا تسمونه. قال: الأغلبية!. قلت: دعني أسألك السؤال الأخير، وأرجو أن تغفر لي كل جرأتي هذه. هل كثيرون منكم يرتكبون جريمة الانتحار؟ فأجاب: كلا، لم يكن هذا ليوجد لدينا. فنظرت إلى الوجوه التي أمر بها، وجوه النساء وملامح الرجال فرأيت في معارفها هيئة

صامتة هادئة، فجعلت أسائل النفس حائراً، أين رأيت مثل هذه الوجوه، لأنها لاحت لي كأنني كنت أعرفها من قبل. ولكني لم ألبث أن تذكرت، لقد كانت بعينها الهيئة الهادئة المذهولة الحائرة التي كنت ألمحها في وجوه الخيل والثيران التي كنا نرعاها ونربيها في عالمنا القديم. نعم، بلا ريب، أمثال هؤلاء الناس لا يستطيعون أن يفكروا في الانتحار!. . . . يا الله! لقد أمست الوجوه مظلمة والأشباح معتمة في ناظري، وأين دليلي، لقد ضللته، ولماذا أنا الآن جالس فوق أفريز الشارع، آه، ماذا أسمع! هذا ولا ريب صوت مسز بجل صاحبة البيت الذي أنا فيه، هل كانت في سبات مثلي ألف عام، إنها تقول لي الآن أن الساعة الثانية عشر صباحاً، الثانية عشر فقط، هالوا!. . . . هذا أنا في فراشي، أكان كل ذلك حلماً! وهل عدت إلى القرن التاسع عشر؟ فتحت النافذة فإذا بي أسمع حركة معركة الحياة القديمة، والناس يتقاتلون ويدأبون ويكدون والناس ضاحكون وباكون ومبتئسون ومبتهجون، يفعلون السوء، ويؤدون الخير، ويقعون وينهضون. إذن إلى العمل، إلى العمل، فقد تأخرت في النوم، وليتني لم ألح على كؤوس الوسكي ليلة الأمس!

حالة الأدب اليوم

حالة الأدب اليوم أيها السادة: ما دمنا نحتفل اليوم بمجلة البيان فلا شك في أنا نحتفل بالأدب والأدباء، فقد أخذت هذه المجلة من أول عهدها إلى اليوم بناصر الأدب، مقدمة إياه على كل فن أو باب آخر، جاعلة له المقام الأسمى في كل ما تعنى به من اجتماعيات وتواريخ وغيرها، بل أنا لا أغالي إذا قلت أن مجلة البيان قصرت نفسها على نصرة الآداب والكتابة حيث جعلت جل همها بل كل همها النظر إلى ما يختص بالأدب من جهة ما تعالجه من سواه من الموضوعات، كما أنها جعلت غرضها الإصلاحي الذي ترمي إليه - ولكل منا نحو الإصلاح غرض - جعلته إعلاء شأن الأدب وإدخال الإصلاح إليه. لهذا كانت تعني بنشر ما يظهر من آي الأدب وبدائع الشعر عنايتها بنقدهما جميعاً واسمحوا لي أيها السادة أن أقول أني لست أقصد بالنقد ما يسرع إلى ذهن الكثيرين تصوره من البحث وراء عيوب الشيء واستظهارها واتخاذ ذلك وسيلة للطعن على الشيء والانتقاص منه، ولكني أقصد بالنقد تمحيص الشيء والنظر إليه بعين نافذة وعادلة معاً واستظهار الحسن منه والسيء، وتلك هي وحدها الطريقة المثلى، وهي الطريقة التي اتبعها كبار كتاب الغرب، وهي أيضاً الطريقة التي عالج البيان الأخذ بها في كل ما تعرض لنقده من أعمال الأدب ورجاله. على هذه الطريقة في النقد أيها السادة، على هذه الطريقة الحيادية التي لا تعرف التعصب المذموم ولا تهتم إلا بقول الحق، أريد أن ألقي على حضراتكم كلمة موجزة في حال الأدب عندنا اليوم، وقبل أن أتقدم بشيء منها أتقدم بالاعتذار إليكم عنها، أتقدم بنقدها على هذا الأساس، وهو أنا نعيش في زمن توترت فيه أعصاب العالم كله واتجهت نظراته نحو نقطة غامضة يريد أن يجد حولها شعاعاً يبصره بما تحتويه، هذه النقطة الغامضة هي المستقبل، ولقد بلغ من توتر الأعصاب أن نسيت الأذهان التفكير فيما سواها إلا ما تعلق بالحياة المادية حياة البطون والأبدان، والأدب أبعد الفنون عن التفكير في حياة البطون والأبدان، كما أنه لا يستطيع أن يتمركز حول هذه النقطة الغامضة السوداء لأن من أهم خواصه التوسع والانتشار في كل نواحي الحياة من إحاطة بظواهرها وامتداد إلى خوافيها وهجران إياها للهيام وسط الأجداث والتسرب بين الرفات وارتفاع عن هذا وذاك إلى أجواء الحزن

والسرور والحب والكراهية واللذة والألم والترف والزهد والنعيم والبؤس وسائر ما في الحياة عذا ذلك من إحساسات ومشاعر ومظاهر ومناظر وعادات وأخلاق وعواطف ومنافع وما في الموت من سكينة ووقار ومن جمود وفناء وما بعد الموت من عوالم تملؤها الأرواح في سعادتها وتعسها وفي هيمنتها وتسبيحها وفي بقائها وتطورها، فمهما كان الاضطراب الذي يهز جوف العالم اليوم عظيماً فإنه منبع لأدب عظيم قوي في الغد، ولكنه فيما يتعلق بالحاضر وفيما يتعلق بنا نحن مخفت صوت الأديب المترنم فلا تسمعه الآذان المأخوذة بأرعاد المدافع وهزيم الطيارات ولا تهتز له القلوب الواجفة أمام الأخطار المحدقة من كل صوب وحدب. لهذا كان الكلام في حال الأدب اليوم عرضة لأن يقع فيه شيء من الاضطراب ولأن ينسي صاحبه كثيراً من الأشياء المتعلقة بهذا الفن لأنه كما قدمت لحضراتكم مأخوذ بغيره، فإذا تكلمت أنا اليوم ووقعت فيما أخشاه فأرجوكم المعذرة، وما كنت لأقف وأتكلم في مسألة شأنها ما ذكرت إلا لما على كل محب للأدب من واجب نصرة مجلة البيان وتعضيدها. الأدب في مصر اليوم أيها السادة خافت الصوت معقول اللسان، لعل صوته أشد خفوتاً في بلادنا منه في كل بلد آخر، بل ربما كان الخفوت في وصفه غير كاف لأنه في الحقيقة مختنق الاختناق كله، فلا نكاد نسمع بعمل يظهر من أعمال الأدب ذي قيمة، ولا أحسب ذلك شخصياً بالنسبة لي وراجعاً لأني لا أقرأ ما يظهر، بل أحسبه حقيقة واقعة، ولا شيء أدل على ذلك من أن جرائدنا - حتى الأسبوعية منها - مجلاتنا لم تتناول بالنقد إلا رواية ماجدولين التي استنبطها قلم الأستاذ السيد مصطفى لطفي المنفلوطي من رواية (تحت ظلال الزيفون)، وإلا قصيدة حافظ بك ابراهيم في مناقب عمر، أما ما سوى ذلك من المؤلفات والقصائد في الأدب فلم ينل من حق البقاء أكثر من يوم نشر، اللهم إلا بعض دواوين شعرية جمع فيها أصحابها المقطوعات التي كانوا قد نشروها من قبل في الصحف ويعثر الإنسان في بعضها على شيء جيد. والسبب في هذا الخفوت، أو الاختناق، ووجوده عندنا أضعاف ما هو عند غيرنا أن أدبنا كان ولا يزال إلى اليوم صحافياً، أقصد أنه أدب قصير النفس غير مكتمل مواد الحياة، أدب هو ابن ساعته أو يومه، فكانت تروجه الصحافة التي كانت تعنى به عناية غير قليلة،

وكانت تسمح له أن يلبس صفات حياتها هي، وصفاتها الانتشار والرواج على ألسن العامة والخاصة كل فيما يروق في نظره، فلما احتبست الصحف المصرية الكبرى احتبس هذا الأدب في صدور أصحابه، ولقد ظلوا بدأ هذه الحرب ولا تزال تجول في خواطرهم هواجس منه أظهرها بعضهم على صفحات بعض الصحف السيارة ثم أخمدت جذوتها فيهم نيران أقوى منها تلتهم العالم بأسره. لكن بعض الكتاب استمر يثمر، لم تجمد قريحته أمام الجمود العام الذي أصابنا بل رأيناه مستمراً في طريقه، على أنه لم يستطع أن يتخلص من التأثر بالجمود العام بل سرت إلى روحه الكتابية ريح من النفس العامة فصرت ترى الآنسة مي وقد عرفناها فيما مضى ذات قلم عصبي مرتعش كله الصور والإحساسات والمشاعر والخيالات تدخل بنا في جمود الفلسفة الناشفة معظم الأحايين، والآنسة مي سيدة، أي يجب أن يفيض قلمها بالعواطف الناطقة لا بالصور المبهوتة ولا بالفلسفة الناشفة. ذكرت لحضراتكم أن أحسن ما ظهر في عالم الأدب أخيراً أو بالأحرى أكثر ما نال شهرة، ماجدولين والعمرية، وماجدولين مستنبطة، والعمرية قصة شعرية تنقصها الروح الشعرية، ولهذا يجب أن نفتش في غير عالم الشعر والنثر علنا نجد روحاً غير الروح الجامدة المتأثرة بالحرب المذهولة أمام فظائعها. الكتاب الذين استمروا يثمرون هم من الكتاب الذين ظهروا إبان هذه الحرب أي الذين كانوا قبلها مكتفين بعجالات يدرجونها في الجرائد، أو كانوا مشغولين بأشياء أخرى غير الأدب، هؤلاء الأشخاص جميعاً بقيت متغلبة عليهم فكرة الكتابة للنشر قبل الكتابة للأدب، فلما لم يجدوا في الصحف معينهم حولوا نظرهم شطر مسارح التمثيل فكتبوا روايات لا شك أن من بينها ما يغتبط المصري له، ولسنا ندعي أن غبطتنا ناشئة عن أنا وجدنا بين هؤلاء نابغة كشكسبير أو راسين أو موليير أو جيت وأضرابهم من كبار كتاب الأمم الأخرى، وإنما اغتباطنا لأن فكرة الظهور أمام الملأ المصري بالرأي والفكر لم تخمد من نفوس الشباب المصري، فأدى ذلك بأحسن ما تهيئه له ملكته وتمليه عليه موهبته، والنبوغ يستلزم الجمع بين بذل الجهد وحسن الملكة فإذا قدم إخواننا الشباب المثل لبذل الجهد فربما كانوا السبب في ظهور النابغة عاجلاً أو آجلاً ومن بينهم هم أو من بين جيرانهم.

هؤلاء الكتاب التمثيليون وضعوا نصب أعينهم معالجة أمراض اجتماعية متفشية في البلاد بالطعن عليها أو الاستهزاء بها أو إظهار أصحابها مظهر السخرية، وقد نجحت بعض القطع التي وضعوها، ولكن لم يكن نجاحها ناشئاً عن اعتبار السامعين بالمثل الذي يقدم ولكن لأن في هذه القطع أجزاء حازت الصفات اللازمة في القطع التمثيلية، أي حازت روعة المظهر ودقة الوضع وحسن الأداء من الممثلين. نعم أيها السادة، فليس التمثيل مدرسة كما يزعمون، ولكنه سلوة النفس المتعبة عن بعض نصبها، والنفس المتعبة لا تتسلى بالنصيحة ولكن بالعاطفة القوية ظاهرة أمامها تذكرها شيئاً من عظمة النفس الإنسانية فتتسلى بذلك عما تلاقي في الحياة من الصغائر، أو رقة العواطف فترجع إلى ماضي الشباب أو تترنم بحلو حاضره، أو مضحكات الحياة فتتسلى بذلك عن محزناتها، التمثيل سلوة للنفس كما أن الغناء والموسيقى سلوة لها، كلاهما ينسيها هم الحاضر ويحملها على جناح الخيال والعاطفة والأمل إلى حيث ترى خيراً مما كان أمامها فتبيت مغتبطة مسرورة. لهذا أيها السادة كان أحسن وقت يسمع فيه المغني أو الموسيقي أو التمثيل أول الليل حين نرجع متعوبين من عملنا وفي أشد الحاجة إلى ما يسلينا، حين نكون مستعدين لنسيان أنفسنا لنذهب مع صوت الكمنجا أو ترنم المغني أو حماس الممثل إلى أبعد الغايات. ولهذا وجب أن يعني الكاتب التمثيلي بأثر روايته من هذه الجهة جهة استفزاز العاطف لينسى السامع نفسه ويذهب مع الممثل إلى حيث يشاء غير مهتم بإهداء النصيحة للنصيحة. على أنا مهما قلنا في هذا الباب وسابقه فإنا لا نزال نتكلم عن الأدب الصحيح، الأدب الذي نحترمه ونعني بالإشادة به وإعلاء شأن ما يروقنا منه، ولكن هناك نوعاً جديداً من التمثيل الهزلي أبدعته الحرب الحاضرة لتسلي به النفوس المثقلة بكل شيء والمتقززة من كل شيء، نوعاً تعيساً، نوعاً قذراً، ولكنه يستهوي بقذارته مع عظيم الأسف نفوساً كثيرة جداً ونفوساً لا تكتفي بما يجب من مشاهدة ما يظهر منه مرة ولكنها تستظهره وتتغنى به أغنيات العرب بأشعار أصحاب المعلقات هذا النوع الجديد هو ما يسمونه الكوميديا فرانكو أراب، أو إذا أردنا أن نطلق عليه اسم كبراء رجال الفن من أهله فهو أدب كشكش

والبربري. ربما يكون خطأ مني ذكرى هذا النوع حين التكلم أمام حضراتكم عن الأدب ولكن ساقني لذلك ما أرى من تهافت كثير من شبابنا الراقي عليه، وتهافت الشباب الراقي من شأنه أن يبعث إلى هذا النوع حياة لا شك ستنتهي بانتهاء الحرب التي كانت سبباً في قيامه ولكنها تكون إلى ذلك الحين حياة قوية تؤثر في أعصاب المجموع القاهري ومن يلجأ إليه تأثيراً سيئاً. من ذلك ترون أيها السادة حال الأدب اليوم، اختناق الأنواع المهمة منه، وجمود ما يظهر أو ضعفه، وفوق هذا وذاك انصراف الجمهور عنه، ولا شيء أتعس على الأدب والأديب من انصراف الجمهور. إنا لم نتعود في هذه البلاد تقدير أعمال الأدب تقديراً عالياً، ولذلك لم يخرج أدبنا يوماً عن أن يكون أدباً صحافياً، لم يستقل بذاته ولم تتكون له حياة خاصة، ولا عجب فحياة الأدب مرآة حياة الأمة، ولكنا كنا إلى زمن أخير نهتم لهذا الأدب الصحافي ونعني به ولو بعض العناية، وكان هذا الأدب الصحافي نفسه يقوم أساساً لبعض أعمال أدبية وأخرى أدبية اجتماعية لا بأس بها، ولكنا اليوم قد فقدنا حتى هذا الأدب الصحافي ولم يبق لنا إلا مقاطيع الشعراء وبعض قطع كتاب التمثيل. ولست أريد أن أظهر أسفاً على هذه الحال فالأسف لا يجدي نفعاً، ولكني أريد أن أقول أن هؤلاء الذين استمروا يثمرون يستحقون كل إعجاب، لأنهم ظلوا لم يغيرهم التيار العام تيار اليأس الروحي والأمل المادي، ومن هؤلاء كتاب مجلة البيان، فليحيى البيان.

الرئيس ويلسون

الرئيس ويلسون وأمريكا الحديثة لقد كانت أمريكا ابتكاراً من ابتكارات أوروبا، وخلقاً من خلقها، وهي اليوم من حدود المكسيك إلى رأس هورن في أقصى جنوبها أشبه شيء بإسبانيا والبرتغال لأنها تتكلم بلسانيهما، وتتخلق بأخلاقهما، وتحوي سلالات وذراري من أحفادهما وأما الولايات المتحدة وكندا فصورة من بريطانيا وفرنسا. على أن أمريكا ليست نسخة حقيقية أصلية من أوروبا، فإن أولئك الطلائع الغربيين الذي انحدروا إليها بقلوب مخاطرة، وأرواح وثابة جريئة، ومادئ جليلة صادقة، لم يفروا من أوطانهم لكي يؤسسوا بناء الاستبداد في الناحية الأخرى، فإن الانكليز البيوريتان وإخوانهم الإيقوسيين الأولين كانوا على جانب عظيم من الشعور بالواجب وتقديس الحقوق الدينية والسياسية، فلم يعانوا المشقة في إبدال الحكومة الملكية القائمة على أساس من قوة الماضي والتاريخ والبطش ديمقراطية جميلة، وشادوا بناء حكومة الأمة وراء نوابها المختارين، وأصبحت أمريكا حكومات جمهورية وشعوباً من الجمهوريين. بينما أوروبا تنظر إلى هذا التطور الغريب، والانتقال المدهش، إذ بالحرب الكبرى قد نشبت في العالم المتحضر بأسره، فأثارت مبدأين متعارضين، متقابلين، هما الحق والقوة، ولم يلبث أن قامت الحرب النفسية في قلوب الأمريكيين، بين الدولار - الريال - وبين العقيدة الروحانية القديمة، مبدأ واشنطن وبن، ولبث حزب الحق ينتظر الموقف الذي ستقفه أمريكا في هذه الحرب، ولكن ذلك الرئيس الذي ألقى إليه تقاليد العالم الجديد نهض أمام شعبه فأعلن الحيدة في الحرب ورفض أن يدلي بسهم في تلك المجزرة، لأن هذا الرئيس ودرو ويلسون رجل ثاقب الرأي، بصير بالأمور، ولم تستطع الأحداث يوماً أن تسوقه إلى مخاطرة مجازفة، لأنه انحدر من أسرة كان مبدأها الاحتفاظ بالمشاعر الدينية منذ القدم، ثم نشأ نشأة علمية، وغذى من القانون، ولذلك لم يسلك نفسه وأمته في سلك المحاربين. والرئيس ويلسون ولد عام 1865 في ولاية فرجينيا، من والدة إيرلندية المنبت وأب إيقوسي المحتد، وكان أبوه قسيساً فدفعه إلى الجامعة إذ شب عن الطوق، وأتم تعليمه الابتدائي والعالي ووضع كتابه الذي ظفر من أجله بشهادة الدكتوراه ووسمه بعنوان

الحكومة المؤتمريةعام 1885 ثم عين أستاذاً للتشريع في إحدى الجامعات حتى كان عام 1902 وإذ ذاك أسندت إليه رئاسة تلك الجامعة، ونهض به الحزب الديمقراطي فتقلد وظيفة محافظ نيويورك في اليوم الثاني من شهر نوفمبر سنة 1910 ولم يمض عامان حتى سما إلى رئاسة جمهورية الولايات المتحدة، وأعيد انتخابه عام 1916. ولعل أكبر المهام التي يعانيها رجل واحد أن يعهد إليه الحرص على مستقبل مائة مليون، وأن يجد أمامه قرنين عنيدين، وعدوين لدودين وهما روزفلت وتافت الرئيسان السابقان وكان من ذلك أنه في عام 1914 فقد شيئاً كثيراً من أصوات أنصاره، ثم ألفى نحو عشرة ملايين من أهل جمهوريته يمتون إلى الألمان بالود أو القرابة ولكن روزفلت جعل يقول إن لأمريكا معدة قوية وستهضم بسرعة الأغذية الغريبة عنها ولم تلبث الولايات المتحدة أن انقسمت أقساماً واختلفت في الحرب شيعا، ولكن الرئيس ويلسون أبى إلا أن يحاول إلى النهاية الحرص على الحيدة الدائمة، فوقف في نادي الصحافة يخطب قائلاً: إن هذا الشجار قد ساق المتشاجرين المسهمين به إلى حدود نسوا فيها واجب المسؤولية، وقد جعل قوم يقولون لي إذا كان نصف الدنيا قد جن جنونه، فلماذا نأبى أن نندفع وراءهم، ولماذا لا ندخل في صميم الزوبعة ثم نعود إلى الإصلاح والبناء إذ تمر العاصفة، ويسكن الريح!. ولكن ألمانيا أرادت إلا أن تكون هذه الحيدة مستحيلة الإنفاذ، بذلك الحصر البحري الذي قامت به في أول الحرب، إذ أغرقت الباخرة لوزيتانيا، وكانت تقل بين مسافريها 124 أمريكياً. وإذ بلغ هذا الحادث أسماع الأمريكان ضجت الولايات المتحدة، وقامت المظاهرات والجلبة والصياح، فلم يكن من الرئيس ويلسون إلا أن أخرج شعبه من هذه الفتنة سالماً، لأنه علم أن ليس الغضب المؤقت هو الذي يستطيع أن يحل عقدة تلك الحرب، ولكن توقع الفائدة الكبرى هي التي يريدها هذا الشعب المختنق بالتجار وأهل الأدب والمزارعين وكان مبدأ ذلك الرجل العظيم الذي حررهم من الأسر، ونعني به جورج واشنطن مقدساً لديهم، معبوداً في قلوبهم، إذ علمهم أن لا يعقدوا محالفة ما بينهم وبين أية دولة غربية. وظلت عقيدة مونرو عزيزة لديهم، وهي تقضي بالامتناع عن التداخل في شؤون الغرب، وهذه العقيدة نشأت منذ عام 1823 يوم كان مونرو رئيساً للجمهورية فأدرك ويلسون كل

ذلك وجعل يضرب على نغمته حتى استطاع أن يسود على العواطف، ويمتلك في قبضة يده مشاعر الشعب، حتى أقبل عام 1916 بانتخاباته، إذ كان قد مضى عليه في الرئاسة أربعة أعوام وهو الزمن المحدد لبقاء الرئيس، والانتخاب للرئاسة في الولايات المتحدة حادث عظيم، وشان مذكور، يعدون له العدة أشهراً، ويظلون يهيئون له واجبه ليالي وأياماً، ويشترك كل فرد من الأمة فيه اشتراكاً عملياً محسوساً ولا يفتأ الشعب في سعي متواصل، وتحت تأثير عظيم، من شهر مايو حتى أوائل شهر نوفمبر. أما الحزب الجمهوري، فكان تحت زعامة روزفلت، وقد بايع رجلاً يسمى هيو، وأما الحزب الديمقراطي، فظل على مبدئه الذي سنه لنفسه منذ عام 1912 فاختار ودرو ويلسون، وكذلك بقيت الولايات المتحدة تلك المدة في نزاع وجدل، وتصويت حتى كان اليوم الثامن من نوفمبر إذ بويع ويلسون ظافراً بأصوات تبلغ 251 صوتاً إزاء 242 لمنافسة، وإذ ذاك أظهر الرجل نفسه، وكشف الحجب عن مضمره، فكتب دعوة عامة إلى الشباب الأمريكيين يقول فيها: إن الذين ينظرون إلينا من مسافة بعيدة، لا يشعرون بما يخفق بين جوانحنا من هزة المبدأ الروحاني الحار الذي يثب في أعماق نفوسنا، إنهم لا يدركون أننا وراء نشاطنا المادي الذي شدنا بفضله بناء سامياً شامخاً من المجد الصناعي المزهر لا زلنا أمة من الإيدياليين طلاب الكمال الإنساني، نبذل الحياة مسترخصة في سبيل الفكرة، كما نبذلها في سبيل الريال!. فلما كان اليوم الرابع من شهر فبراير سنة 1917 أطارت أسلاك البرق في العالم كله النبأ بأن الولايات المتحدة موشكة أن تقطع علاقاتها وألمانيا وأن ويلسون قد دفع بجواز السفر إلى الكونت برنستورف سفير الألمان في جمهوريته وبعث أمراً إلى مسيو جيرارد سفيره في برلين أن يقفل عائداً إلى أمريكا. ومضى ويلسون إلى مقر الحكومة لكي يقرأ على المؤتمر إعلان قطع العلاقات وكانت الحجرة غاصة بالقوم، وقد جلس جميع النواب في مقاعدهم، وساد السكوت، فلما أقبل يخطر في المجلس نهض الجميع فصفقوا له أحر تصفيق فلم يكد يفه بالكلمة الأولى من خطابه حتى عاد السكون إلى نصابه، وكان من قوله: لقد ساقتنا الظروف إلى تأكيد حقوقنا تأكيداً فعلياً حاراً صريحاً ولعلنا مشتركون في هذه المجزرة بأشد ما يكون من قوتنا على

الرغم منا. على أن استمرار الاعتداء على السفائن الأمريكية في عرض البحار من غوائل الغواصات، ولاسيما السفينة فيجلانسيا والسفينة ممفيس وغرق عدد عظيم من الأمريكيين جعل إعلان الحرب مؤكداً لا ريب فيه، وكذلك كان شهر فبراير عام 1917 تاريخاً مشهوداً في سجل الولايات المتحدة منذ حرب الاستقلال، إذ أعلن ويلسون الحرب على ألمانيا، وهو يقول: إنه لأمر رائع مخيف أن يساق هذا الشعب العظيم الهادئ إلى الحرب، بل إلى أكبر حروب الدنيا هدماً وتخريباً ولكن الحرص على الحق أثمن من الحرص على السلم.

الأيدي القارئة

الأيدي القارئة كيف استطاع العلم الوصول إلى تعليم العميان القراءة والكتابة ما أثقل عبء الحياة، وما أعتم الكون، إذا عاش الإنسان في ظلام دامس، ومر بالعالم مروراً، ولم ير الشمس، إلا حرارة في اليدين، ولم يحس منها إلا دفئاً في البدن، ولكن ليس نور الشمس هو الذي يبدد وحده ظلام الحياة، فكثيرون من المبصرين، يعيشون في حلكة شديدة في أعمق مخابئ العيش، لأنهم أوتوا البصر، ولم يؤتوا البصيرة، ولم ينالوا حظاً من العلم، ولم يضربوا بسهم في التهذيب. ولذلك جاهد العلم في خلال القرن الماضي وخاتمة القرن الذي جاء قبله ليرسل نوراً ساطعاً يغني عن نور الشمس، إلى عين الأعمى، ليبدد حزنه، ويفتح إزاء روحه مغاليق الفكر، ويلهمه التأمل والابتهاج بأنه يعيش في قلبه، ويحيا في صميمه، والقراءة للأعمى هي البلسم العذب لجراح عينيه، والكتاب لديه هو الخدن الذي لا تمل عشرته والولي الذي لا يبرم بولائه ورفقته، أنه يعلمه وينسيه آلامه، وهو الذي يزكي روحه ويطهر فؤاده وينير بصيرته، وقد كتب رجل أعمى إلى صديق له إن لديّ كتباً أقرأها، هذا هو البعث، هذا هو الرجوع إلى الحياة، إلى النور، إلى حرية الفهم والإدراك. ونحن نذكر هنا تاريخاً موجزاً للعلم من هذه الناحية، ونبسط للقراء نبذة عن أولئك العظماء من سادة أهل العلم الذين وقفوا حياتهم على الوصول إلى الطرائق الميسرة لتعليم العميان كيف يكتبون ويقرأون، ولعلهم في التقدير الإنساني يقومون في الصف الأول من أبطال العلم الذين خدموا الإنسانية، وكفكفوا دموعها وآسوا جراحها. إن الرجل الذي مهد السبيل ووقف في الطليعة، هو العالم فالنتان هوى، فقد أوحي إليه في عام 1771 أن يخرج الفريق الأعمى من الإنسانية من آلامهم بتعليمهم العلم، إذ كان مقتنعاً بشدة ذكائهم ففكر في وضع كتب لهم بحروف بارزة، وفعلاً قام بعمل حروف طبوغرافية عادية ولكنها كانت كبيرة الحجم، وظاهرة التعاريج بحيث لا توجد أي صعوبة في معرفتها باللمس. على أن هذه التجربات الأولى التي قام بها ذلك الرجل لم تكن إلا تجربات طويلة ذات نتيجة ضئيلة، وأكبر عيوب الطريقة التي ابتكرها هي أن الكتاب الصغير يستلزم حجماً

عظيماً، وسفراً كثيفاً ثقيل الوزن، لأنه لا يمكن طبع حروفها، لشدة نتوءها، إلا على وجه واحد من الصفحة، وكذلك تجد القراءة على تلك الطريقة بطيئة لأن الحروف لا تتميز بسرعة وقد استطاع بها فالنتان هوى أن يجعل العمي يقرأون، ولكنه لم يجد الطريقة التي بها يكتبون على أنه ولا ريب كان ممهد السبيل وكان الغازي الذي فتح طريقاً جديداً في العلم. ولكن مجد هذه الخدمة الجلية للإنسانية لم يقع إلا للعلامة لويس براي، ولد عام 1809 وكان تلميذاً في معهد الشبان العميان وقد اخترع الطريقة التي سميت بعد ذلك باسمه عام 1825. وأهمية طريقته أنه ابتكر أحرف هجاء خاصة، مدارها الرموز على شكل نقط أفقية وموازية، وأعطاها الأحجام المناسبة والنتوء الواجب بحيث لا يتكلف القارئ إلا تحريك أنامله تحريكاً منتظماً لملاحظة الخطوط وبهذه الطريقة استطاع العميان قراءة 150 كلمة في الدقيقة وهو المقدار الذي يقرؤه المبصر عادة، بصوت جهوري في نفس الوقت. وكان من هذه الطريقة كذلك أن تمكن العمي من الكتابة وهذا بإحداث نتوء الخطوط والنقط بواسطة مخراز على الورق، ولكن الصعوبة الأولى في ذلك هو إيجاد وسيلة للمحافظة على اطّراد الخطوط والكلمات وسيرها على الورق بنظام، دون أن يقوم بعضها فوق بعض، ويختلط الكلام بالكلام، ولكن العلامة لويس براي، أزاح تلك الصعوبة، فوضع جدولاً على شكل لوحة من المعدن الرقيق محفورة خطوطاً متوازية، توضع فوقها صفحة من ورق خاص. وفي هذا الإطار الذي يحتوي اللوحة النحاسية والورق توجد مسطرة صغيرة مثقوبة ثقوباً على شكل مربعات مستطيلة قائمة الزوايا كل منها في حجم الحرف، وفي هذه المربعات يخط مخراز الأعمى بواسطة هذه المسطرة النقط التي يريدها. والرموز التي وضعها العلامة براي للكتابة هي نفسها التي وضعها للطبع، ولكن الأعمى يستخدم في الطبع حروفاً متحركة ويصف هذه الحروف في لوحات، كالمتبع في الطبع عادة، وكثيرون من العمي يحترفون الآن حرفة الطباعة وصف الحروف، ويشتغلون بجانب زملائهم المبصرين، ولا يقل عملهم في الإحسان والإتقان عن عمل رصفائهم،

ولكنهم لا يستطيعون مساجلتهم في السرعة، لأن الصفاف الأعمى يضطر إلى قراءة الحروف بملمس أصابعه قبل أن يشرع في جمعها. حتى إذا انتهى الأعمى من رص حروفه، في اللوحات المعدة لها أخذت هذه اللوحات وهيئت للطبع، والورق الخاص به عادة يختار من النوع الكثيف الخشن ولذلك يبل قبل إعداده للطبع ثم ينشر على اللوحات ويضغط عليه بواسطة قطعة ناعمة من الجلد بشدة حتى تنقل الحروف على الورق دون أن تثقبها، ثم يسحب الورق إذ ذاك وينشر لتجفيفه، وقد اخترع العلامة باري بعد ذلك آلة تسمى الأستروميت وهي في غاية البساطة، واستعيض بها عن وضع صفحات الورق فوق اللوحة، وذلك أن ليس على الصفاف الأعمى إلا أن يكتب مباشرة بمخراز من الصلب فوق صفحة من الجلد أو الزنك، وهذه الطريقة تشبه طريقة حفر الكليشيهات ولكن هذه الآلة لا تزال ناقصة من ناحية، إذ من الصعب تصحيح الحروف، وتستلزم نفقات كثيرة لشراء لوحات من المعدن، ولكنها حسنة مغنية من ناحية السرعة في العمل. وأصعب ما في الطباعة العمياء موضوع الورق فإن الكتاب يستلزم مقداراً عظيماً منه لأن كل حرف 7 ملليمترات طولاً و 5 ملليمترات سعة ولا مقدرة على تصغيره دون هذا الحجم ثم ليس في الاستطاعة طبع الحروف على ظهر الصحيفة، ولا بد أن يكون الورق من الغراء الخشن والضرب الكثيف ولذلك كانت الكتب الأولى التي طبعت على طراز براي نادرة جداً وغالية الثمن، وعظيمة الحجم. ولكن مهارة العميان وذكاءهم وقوة تفكيرهم استطاعت التغلب على هذه العيوب إذ اخترعوا طريقة الكتابة بين السطور وبها تمكنوا من الطبع على وجهي الصحيفة. وقد أدخلت على هذه الطباعة ضروب كثيرة من التحسينات، ولا يزال العلماء المشتغلون بتهذيبها يفكرون في الإكثار من وسائل التحسين، ولكن لا تزال الكتب التي تخرج للعميان عظيمة الحجم، غالية الثمن، والكتاب الواحد المؤلف من مائتي صحيفة يزن كيلو غرام، وقد طبع كتاب العلامة سورل للعميان وهو أوروبا والثورة الفرنسية، فاستغرق 114 مجلداً، وكان ثمن الجزء الواحد منها قبل الحرب ثمان فرنكات، ولهذا كان تأسيس مكتبة صغيرة منزلية من هذه الكتب يكلف صاحبها مالاً طائلاً، ولا تجد كثيرين من العميان

يتيسر لهم ابتياعها ثم هي كذلك تتطلب مكاناً رحيباً لكي يسعها. ولهذا كسدت الكتب التي طبعت على طريقة براي في السنين الأخيرة لأنها تكلف الناشرين مبالغ عظيمة ولا تجد قراء وطلاباً عديدين. ومثل هذه الكتب لا تطبع في فرنسا إلا بفضل مجمع الشبان العميان والعميان التابعين لجماعة القديس بولص. على أنه سيبقى عدد الكتب المطبوعة منها محدوداً، ولكن بفضل الكتب الخطية، يجد جمع كبير في فرنسا من العميان ما يسد حاجتهم إلى القراءة والتعلم والاطلاع، فإن جمعية فالنتان هوي التي تأسست عام 1883 في باريس قد أنشأت للفريق الأعمى من أهل فرنسا مكتبة تحتوي كتباً خطية مفتحة الأبواب للجميع، وهي اليوم غنية بالكتب وإن كانت لا تكفي وحدها لسد الحاجة فقد كان لديها في أول الأمر مائة مجلد فصارت إبان الحرب خمسين ألفاً تحتوي اثني عشر ألف كتاب، وهذا العدد لا يزال آخذاً في التكاثر والنماء. وهذه الكتب تعار للجميع الراغبين في استعارتها، وترسل إليهم في الولايات والريف وفي المستعمرات، بل وفي كندا، وهي متعددة الفنون، مختلفة الأنواع، ولا تزال قائمة كتبها تحتوي ما يوافق أذواق الجميع، والعميان يقبلون على قراءة الروايات، ولكنهم أشد ما يكونون إقبالاً على كتب التاريخ والفلسفة والعلوم، وفي المكتبة كتب للشباب والأطفال، من كل نوع وفي كل فن. والشعراء المختلفون إلى تلك المكتبة يقرأون جزأين عادة في الأسبوع، ولكن منهم من يقرأون مئات في العام وكانت المكتبة تعير قبل الحرب ثلاثة آلاف مجلد في الشهر. ولعل السبب في تكاثر عدد الكتب الخطية، هو بفضل أهل القلوب الرحيمة، والإحساس الحار المتوقد، وذلك أن الجمعية لا تكاد تنشر في الناس الدعوة إلى من يتطوعون من المبصرين إلى نسخ مجلدات للعميان على طريقة براي، حتى يتبرع الكثيرون، رجالاً ونساءً وشباباً، بل وأطفالاً إلى الخدمة، لكي يتعلموا الحروف الهجائية التي ابتكرها براي ويتمرنوا على الكتابة بها، ولا تستغرق مدة التمرين زمناً طويلاً، بل من هؤلاء المتطوعين الكرماء من يقدمون للمكتبة خمسة وعشرين مجلداً منسوخاً من مؤلفات الكتاب على الطريقة العمياء، في العام.

تلك خدمة جليلة قدمتها الإنسانية البصيرة إلى الإنسانية العمياء، في قطعة متحضرة من الدنيا، فلماذا لا ندرس هذا الموضوع ونهيئ له الأسباب في هذا البلد الذي يبلغ فيه العميان عدداً عظيماً مذكوراً، ولماذا لا تعمد جمعية تحسين حال العميان إلى إنفاذ هذه الطريقة في مصر، فتؤدي أكبر خدمة للذين تأسست من أجلهم.

مطالعات

مطالعات نوادر العميان حدث بعضهم قال: نزلت في بعض القرى وخرجت بعد هدأة من الليل لأقضي حاجة فإذا أنا بأعمى على عاتقه جرة ومعه سراج فقلت له: يا هذا، أنت والليل والنهار عندك سواء، فما معنى السراج؟ فقال: يا فضولي، حملته معي لمن كان أعمى البصيرة مثلك، يستضيء به فلا يعثر بي فأقع أنا وتنكسر الجرة، وقال بعضهم: يقال أن أهل هيت يكون أكثرهم عوراً، فرأيت رجلاً منهم صحيح العينين، فقلت له: إن هذا لغريب! فقال: يا سيدي إن لي أخاً أعمى قد أخذ نصيبه ونصيبي، وتزوج رجل أعمى من امرأة قبيحة، فقالت له: رزقت أحسن الناس وأنت لا تدري فقال لها: يا بظراء أين كان البصراء عنك قبلي؟ وكان بحرم سيدنا الخليل عليه السلام شخصان أعميان أحدهما ناظر الحرم والآخر شيخه فأراد الناظر عزل الخطيب فعارضه الشيخ ومنعه فقال له الناظر كأنك قد شاركتني في النظر فقال له، لا بل في العمي فاستحى واستمر الخطيب، وجاء رجل بشار بن برد الشاعر الأعمى فسأله عن منزل رجل ذكره له فجعل بشار يفهمه ولا يفهم فأخذ بشار بيده وقام يقوده إلى منزل رجل وهو يقول: أعمى يقود بصيراً لا أبالكم=قد ضل من كانت العميان تهديه فلما وصل به إلى منزل الرجل قال له: هذا منزله يا أعمى، وإذ جر الحديث إلى ذكر بشار فلنورد شيئاً من نوادره عامة، أنشد بشار يوماً أبياته التي يقول فيها: جفت عيني عن التغميض حتى ... كأنّ جفونها عنها قصار إلى أن قال: كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين أن نفع الحذار يروعه السرار بكل أمر ... مخافة أن يكون به السرار فقال له رجل: أظنك أخذت هذا من قول أشعب، ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء: فقال بشار: إن كنت أخذت هذا من قول أشعب فإنك أخذت ثقل الروح والمقت من الناس جميعاً فانفردت به دونهم، وحدث بعض الشعراء، قال: أتيت بشار الأعمى وبين يديه مائتا دينار فقال لي خذ منها ما شئت أو تدري ما سببها قلت لا، قال:

جاء فتى فقال لي أنت بشار فقلت: نعم فقال إني آليت أن أدفع إليك مائتي دينار وذلك أنى أحببت امرأة فجئت إليها فكلمتها فلم تلتفت إليّ فهممت أن أتركها فذكرت قولك: لا يؤيسنك من مخدرة ... قول تغلظه وإن جرحا عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعد ما جمحا فعدت إليها فلازمتها حتى بلغت منها حاجتي، ولولا أن الفسوق قد استشرى في عصرنا هذا، وأن شبابنا حرسهم الله قد سبقوا بشاراً في معنى بيتيه هذين وأمعنوا إلى ما لا يخطر على بال بشار وتكشفوا عن أقصى غايات الصفاقة ورقاعة الروح لكنا اختشينا ذكر مثل هذين البيتين في البيان، وإلا فإن المهدي الخليفة العباسي لما بلغه عن بشار هذا الشعر ثم قدم عليه بشار فاستنشده إيه فأنشده طار الغضب إلى رأسه - وكان المهدي غيوراً - وقال لبشار: تلك أمك يا عاض كذا وكذا من أمه؟ أتحض الناس على الفجور وتقذف المحصنات المخبآت والله لئن قلت بعد هذا بيتاً واحداً في النسيب لآتين على روحك، ثم إن بشاراً لم يحظ من المهدي بعد ذلك بشيء على الرغم من ائتماره بأمر المهدي وإقلاعه عن النسيب وإكثاره من تمداحه حتى أن بشاراً لما ضاقت عليه الدنيا من جراء ذلك هجا المهدي أقذع الهجاء فسعى به يعقوب بن داود وزير المهدي، وكان يعقوب هذا مضصغنا على بشار إذ هجاه بقوله: بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزق والعود فدخل يعقوب على المهدي فقال له يا أمير المؤمنين إن هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك فقال بأي شيء فقال بما لا ينطق به لساني ولا يتوهمه فكري فقال له بحياتي إلا أنشدتني فقال والله لو خيرتني بين إنشادي إياه وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي فحلف عليه المهدي بالإيمان التي لا فسحة فيها أن يخبره فقال أما لفظاً فلا ولكني أكتب ذلك فكتبه ورفعه إليه فكاد ينشق غيظاً، وعمد على الانحدار إلى البصرة للنظر في أمرها فلما بلغ البطيحة سمع أذاناً في وقت ضحى النهار فقال انظروا ما هذا الأذان فإذا بشار يؤذن وهو سكران فقال له يا زنديق عجبت أن يكون هذا من غيرك أتلهو بالأذان في غير وقت صلاة وأنت سكران ثم دعا بابن نهيك فأمره بضربه بالسوط فضربه بين يديه على

صدر الحراقة سبعين سوطاً أتلفه فيها فكان إذا أوجعه السوط يقول حس - وهي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع، فقال له بعضهم انظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين يقول حس ولا يقول باسم الله فيقول بشار ويلك أطعام هو فأسمي الله عليه فقال آخر أفلا قلت الحمد لله قال أو نعمة هي حتى أحمد الله عليه فلما ضربه سبعين صوتاً بأن الموت فيه فألقى في السفينة حتى فاظ مات.

تفاريق

تفاريق لماذا نكبر؟ سؤال صعب، وموضوع خطير، لا يزال العلماء يحاولون له جواباً، ويلتمسون له حلاً، ومنهم أكبر علماء هذا العصر، وسادة فلاسفته، ويلوح لهم أن السبب الأكبر في الشيخوخة هو تجمع مقدار معين من الفضلات الحية في الجسم على مدى العمر، والجسم يتخلص من كثير من هذه الفضلات بكل سهولة، ولاسيما من الغازات كحامض الكربونيك، ولكن منها ما لا يستطيع البدن أن يتخلص منه كل التخلص ويؤول به الأمر إلى تسميم الأجهزة وتصلب الشرايين والمفاصل، وإسقاط الشعر أو تشييبه، وإحداث الغضون والمكاسر في البشرة، والناس هم الذي يعجلون إحداث هذه التغيرات أو يبطئون أثرها في أبدانهم بحسب لون الحياة التي يحيونها، وسبل المعيشة التي يسلكونها. وقد ترى رجلاً في الأربعين يلوح أهرم وأكثر شيباً في المفارق، وأظهر شيخوخة من رجل في الستين، وليس كر الغداة ومرّ العشي هما وحدهما اللذان يحدثان الشيخوخة، ولكن ما يحدث في أجهزتنا على ممر أعمارنا، فأما اللذين يعيشون عيشة رزينة عاقلة، ولاسيما الذين لا يسرفون على أنفسهم شراباً وطعاماً وينامون النوم الذي يكفي جسومهم ويعدم أو يطرد السموم التي حدثت لها في يومهم، لا تعجلهم الشيخوخة كما تعجل الذين لا يعيشون عيشة منظمة، ومن الناس قوم خلقت لهم أرواح هادئة وطبائع ساكنة وهؤلاء تبطئهم الشيخوخة، ويمهلهم الهرم، والناس مصيبون في الاعتقاد بأن الهموم والأحزان تكبر الناس قبل أعمارهم، والحقيقة أن هذه الآلام النفسانية تضعف القوة التي في البدن على قتل السموم، وكذلك ترى ذوي الطبائع المضطربة العصبية يموتون قبل أهل الطبائع الهادئة الساكنة. وجملة القول أنا نستطيع أن نقول إن اللذين لا يهرمون سريعاً هم الذين يرعاهم الأطباء الثلاثة، الهدوء والحمية والعقل. لماذا يعد العيش في الريف أصح من عيش المدن؟ ليس هناك في الحقيقة إلا سببان يرجحان بعيش الريف على أخيه عيش المدن، ولكنهما لا يزالان من الخطورة بمكان عظيم فأولاً الهواء الذي نتنفسه دافعاً إلى اللهي والرثات من

الحقول هو بلا ريب أنقى من الهواء الفاسد الذي نعيش في صميمه في المدينة، ولا يحتوي ما يحتويه عيش المدن من الأتربة التي أكثر ما تكون خطرة فاسدة، ولأنه غير مفعم بالغازات السامة التي يحملها هواء المدينة، ثم إن فعل أشعة الشمس أشد أثراً في الريف منه في المدينة حيث الناس مختنقون في الدور المظلمة والمساكن البعيدة عن مهبط الشمس، والشمس من أكبر معدمات الجراثيم والنور من أشد أعداء القذارة والتعفن. ونستطيع كذلك أن نزيد على هذا أن السكون والهدوء المستتب في القرى والريف يسكن الجهاز العصبي، وإن الإنسان في الريف أبعد ما يكون من الملاهي والملذات ووسائل الفساد والترف ويستطيع في الريف أن يتلهى برياضات تحصن الجسم وتنقي الروح، ولا يتيسر ذلك في المدائن. على أننا لا نستطيع أن نجزم بأن المعيشة الريفية بريئة من العيوب من ناحية قانون الصحة، بل هناك ضرران عظيمان، ومنقصتان كبريان، إحداهما من ناحية المياه الصالحة للشراب، وثانيتهما المجاري والمصارف والبالوعات، إذ لا تجد في كثير من بلدان الريف ماء للشراب غير ماء الآبار ويجب اتخاذ الحيطة من هذا الضرب من المياه، لأن الآبار من العادة أن تحفر في أراضي متخللة كثيرة المنافس والنبعات قريبة من المساكن ولذلك قد تمتزج المياه القذرة والمياه الراسبة الآسنة بمياه الآبار وتفسدها وتلوثها بجراثيم أمراض خطيرة معضلة، وكذلك عدم وجود المجاري والمصارف التي تسوق هذه الرواسب والمواد البرازية التي تخرجها الحيوانات والناس إلى مسافات بعيدة عن الدور قد تحدث أضراراً لا يستهان بها ولو كان في مكنة الإنسان إذا أراد أن يجعل في الريف مقامه أن يجعل داره على منال ماء ظاهر متدفع غير آسن أو آبار صخرية عميقة الغور تخرج مياهاً نقية، لتحصن من شر هذه الآفة الضارة، وعندما يدور الزمن دورته ويتبين للشعوب الفوائد الجلى التي تعود على الناس من الهواء الطلق الطاهر والنور قد يجمعون الرأي على أن يكون بناء القرى الريفية على حال بريئة من هذه المضار. ويجب على الحكومات أن تعمل على أن لا يلوث الهواء في المدينة بهذا الدخان الكثيف والروائح الكريهة والغازات والأبخرة الضارة التي أكثر ما تخرج الآن من البيوت المتجاورة المختنقة في المدينة ويجب أن لا تكثر هذه البيوت الصغيرة المعتمة القاتمة، بل

يحسن أن يكون لكل بيت حديقة وأن يكون مرتفعاً ارتفاعاً متناسقاً مع البيوت المجاورة له، ويجب أن يعمل على قتل هذه الضوضاء الصخابة في الطرق بأن يغشي أديم الطريق بطبقة تجعل حركة العجلات المتدحرجة فوقها هادئة ساكنة لا يسمع لها هذه القعقعة المزعجة.

الصحيفة النقية البيضاء

الصحيفة النقية البيضاء صحيفة الحساب الختامي لوقف المغفور له أحمد منشاوي باشا لعل أعدل السنن التي استنها الناس للتوريث أن تنحدر الثروات والأملاك إلى الوارثين أوقافاً ثابتة، في نجوة من شر البيع وغوائل التبديد، وكثيراً ما ضاعت ثروات عظيمة، وباد وفر طائل، لم يحرص عليه صاحبه فأرسله إلى ورثته إرسالاً وبسطه لهم بسطاً ولم يقيدهم به ويقيده بهم، وكثيراً ما يقذف المورث بتراثه فلا يدع لهم فيه متنفساً للزكاة والخير والبر وإيتاء المعروف فينطلق من بين أيديهم لا بركة فيه. نقول ذلك وقد وقع لنا منذ أيام صحيفة الحساب الختامي للعام المنصرم لوقف من أكبر أوقاف مصر وأذخرها بالحسنات والصدقات والمبرات، تركة رجل من أعرق أهل هذا البلد أرومة وأكرمهم عنصراً، من أولئك الذين ودّوا لو يملأون الأرض بهجة ونعمة وبراً، وينضبون مادة الدموع من الحياة، ويقتلون الحزن الإنساني قتلاً، ويرسلون النور في الأكواخ والكهوف والدور، ونعني به الرجل العصامي المعطاء المحسن المرحوم أحمد باشا المنشاوي، فقد مات ذلكم الرجل عن وقفه العظيم الحافل بالبنود والنصوص البارة بالفقراء، الضاربة بأسهم في البر وفعل الخير، فما عتم أن وقع في يد رجل من غرسه، وزرع من زرعه، فاحتفظ بالتراث وأزكاه، ونهض بالوقف وأنماه، والرجل العظيم الذي يكل إليه عظيم مثله البصر بأمر عظيم مثلهما خليق بان ينهض به، ويقوم عليه أحسن القيام لأنه لا يلاقي في ذلك من الجهد غير ما ينبعث من طبيعته النقية وضميره الحي وخيمه الصالح ونشاطه المتوثب، فلا غرو أن يحرص على فضل ذلك الوقف وإنفاذ وصاية الواقف، الناظر الفاضل الشريف الذي ظل أعواماً يدير شؤونه وينظر في أموره ونريد به حضرة بسيوني بك الخطيب، فقد ملأ قلوبنا فرحاً وأثلج منا الصدور إذ قرأنا صحيفة ذلك الحساب فألفيناها مفعمة بالأدلة الجلية الساطعة تشهد على فضل ذلك الرجل الحازم البصّار بالأمور المضطلع بعظائمها، ورأينا الحسنات فيها تتلاقى بالصدقات، والمبرات تزدحم والمكرمات، بين مساجد تعمر، ومعاهد علم تعضد، ومستشفيات تأسو الجراح، وتفتك بالأمراض، وفقراء يطعمون، وعشائر يكسون ويرعون إلى ما في شروط الوقف من خير، وما في فؤاد الناظر من وجدان يتعرف أقوم السبل لصلاح أمر الوقف وإنعاشه، وتثمير الثروة واتساعها،

وكذلك أراد الله للمنشاوي البار الرحيم العاطفة رجلاً حفظ له الذكرى الجميلة، وناب عنه في الحرص على مواضع الخير فارتحل المنشاوي عن الحياة، وقام بعده في الفضل فضل مثله، فنعم الرجلان، المورث والقائم على التراث.

أناطول فرانس

أناطول فرانس ومختارات من كتبه يعيش اليوم في العالم شيخ أربى على السبعين، ولا يزال يشارك الدنيا في شؤونها بنشاط الفتيان، ويعني بالبحث في أسرار الحياة وفلسفتها بحدة الشباب، وهمة الأقوياء، وقد ظفر بالسيادة في الأدب، وامتلك القمة العالية في التفكير، وأصبحت كتبه وتواليفه فرحة رواد الأدب وعشاقه، وأفكاره وخواطره حديث أهل الفكر وسادته، إذ جاء بآراء جديدة، وانحرف في الفلسفة عن سبيل الفلاسفة الذين تقدموه فقذف إلى الدنيا بنظريات طلية طريفة، وهو محبوب من كل قارئ متأدب، أصاب الإعجاب عند كثير من المهذبين، ذلكم هو أناتول فرانس، الكاتب الذائع الذكر في فرنسا، الطائر الشهرة في كل مملكة يفتح فيها كتاب، ويدرس فيها أدب. وهو اليوم قد بلغ صميم الشيخوخة، وانتهى إلى سن القعود والوهن، ولكنه لا يزال يكتب ويفكر ويسهم في كل ما يشغل أذهان الكتاب، إذ كان مولده عام 1844 ولعل الفضل في نبوغه أنه منذ طفولته وعهد شبيبته كان يعيش بين المجلدات الضخمة والتواليف العظيمة، محاط في كل مكان بالكتب والأسفار، فقد كان أبوه ورّاقاً كتبياً يصيب رزقه من بيع الكتب، فنشأ أناتول مجلداً صغيراً متحركاً في المكتبة، ينقل الكتاب من الدرج إلى الدرج ويحمل السفر الممتع من ناحية إلى ناحية ولا يفوته أن يلقى نظرة على عنوان الكتاب ليعرف اسم المؤلف، حتى إذا شب عن الطوق جعل يوغل في فهم الكتاب أثر الكتاب، فكان كل ذلك غذاءً طيباً لذهنه الخصيب زاده نبوغاً ومدى فسيحاً تجري فيه عبقبريته، ونحن نقتطف قطعاً قصيرة مختلفة من طائفة من تواليفه. مختارات من كتاب صديقي بين كتب أناتول فرانس مؤلف وسمه بهذا العنوان كتاب صديقي وهو تاريخ أناتول فرانس، ووصف لحياته، وأغرب ما في كتب هذا الفيلسوف الغريب أن بطل كل كتاب من كتبه وقصة من قصصه، كأنه صورة من أناتول فرانس نفسه، ورسم حقيقي لخلقه، وكتاب صديقي هذا سفر بديع رائع تلتقي فيه الفلسفة الفكهة، بالأدب المطرب الخفيف الروح. 1

الكوكب أتمت ابنتي سوزان في هذا المساء اثني عشر شهراً من عمرها وقد امتلأت في الاثني عشر شهراً هذه التي عاشتها في هذه الدنيا القديمة والكوكب العجوز المسن، بالشيء الكثير من علم الحياة، وخبرت العالم، ولو أن رجلاً استطاع أن يكشف في مدى اثني عشر عاماً الحجب عما اهتدت إليه ابنتي سوزان في اثني عشر شهراً، إذن لكان رجلاً إلهياً مقدساً خالداً، والأطفال الصغار لا تزال لهم عبقرية مجهولة لا تدركها الأبصار، وهم يصلون إلى إدراك الحياة بنشاط يفوق طاقة القوة الإنسانية، وخفة لا تزال تقرب من الخفة الشيطانية. فهلا تعتقدون أيها الناس أن هؤلاء المخلوقات الدقيقة تنظر وتحس وتتكلم وتقارن وتفكر وتتذكر، هل ترونهم وهم يمشون ويدرجون ويغدون ويروحون، أتشهدونهم وهم يلعبون ويلهون، بل أعجب أمورهم، وآخذها باللب، وأبعثها على الحيرة والذهول أنهم يلعبون، لأن اللعب هو أساس جميع الفنون، هو المادة التي استمد منها العالم جميع الآداب والعلوم، أليس شكسبير عمركم الله إلا لعباً وعرائس، وأغاني وأناشيد ولسوزان سلة كبيرة مفعمة باللعب، منها لعب من صنع الطبيعة، وأخريات من صنع الصانع، ومن يد العامل، بين حيوانات من الخشب وأولاد من المطاط، ومنها كثيرات لم تخلق لتكون لعباً فأسعدها الحظ أن أصبحت على يد سوزان كذلك، فمن أكياس نقود قديمة ومن صندوقات محطمة، ومن مساطر ومن مقصات ومن دليل من دلائل السكة الحديد ومن كراسة بالية ممزقة، وفي كل يوم تخرجها سوزان فترتبها فوق مخدتها وتدفعها إلى أمها، ولا تعلم لها شكلاً، ولا ترى فارقاً بين هذه الأشياء الصغيرة، وبين الأشياء الأخرى التي في العالم، وعندها إن العالم بأجمعه ليس إلا لعبة عظيمة مقطوعة ومرسومة. فلو أننا تعمقنا في نظر هذه الفكرة التي تجول في تلك الروح الصغيرة، وهذه العقيدة في الطبيعة وفي الحياة، إذن لا عجبنا هذا المنطق، ولكن نحكم عليها من ناحية أفكارنا، لا من ناحية أفكارها هي وخواطرها، ولأنها لا تملك العقل الذي لنا نحن نحكم بأن ليس لها عقل، فياللظلم وياللجور وياللطيش، ولكني أنا الذي أعرف كيف أنظر إلى الأمور من ناحية حقائقها أرى روحاً وعقلاً حيث لا يرى الناس إلا ثرثرة وغرائب لا اتصال بينها ولا رابطة.

على أنني لا أحب أن أروح طائشاً أمامكم وأرمى بالغلو في حب ابنتي إلى حد العبادة فلست عابد أطفال، ولست أقول أن ابنتي أجمل وأذكى من أية طفلة أخرى، ولست أغالي وأذهب بعيداً في الوصف، بل أقول لأمها صديقتي العزيزة ها نحن قد ظفرنا بطفلة جميلة ذكية. قالت زوجتي: حمداً لله أنه خلقها كذلك وراحت تعد الفراش لرقاد الطفلة وجاءت تأخذها إلى النوم ولكن سوزان أصرت بعناد شديد على أن تظل يقظى، ولا تأوى إلى المهاد المعد لها، لأنها جعلت تغيب يديها الصغيرتين في جوف دولاب في الحجرة مفعم بالأمتعة. قلت لزوجتي انظري ما أجملها في هذا الدولاب أن سوزان ليست بديعة فيما تعرف فقط بل إنها لأبدع فيما لا تعرف، إن جهلها بالأشياء مع اهتمامها بها، لا يزال يدل على أنها أوتيت روحاً من الشعر! فلم أكد أفه بهذه الكلمات حتى التفتت إلى زوجتي ضاحكة ساخرة مني وأنشأت تقول، لك الله! أتقول أن سوزان شاعرة! أتتكلم عن شاعرية طفلتك! ولكن ابنتك لا تتلهى إلا في المطبخ بل لقد رأيتها منذ أيام مشرقة الوجه متهللة الوجه وهي في وسط الزبالة وكناسة المطبخ، فهل تسمي هذا منها شعراً؟ قلت: بلا ريب يا زوجتي، بلا ريب أن الطبيعة بأسرها تلوح لديها طهارة تامة كاملة حتى لا نرى في العالم شيئاً قذراً مطلقاً، حتى ولا في مقطف الزبالة ولهذا ترينها غائبة مضطجعة بالأمس وهي فرحة مسرورة في وسط أوراق القرنبيط وقشور البصل وشراشير الجزر، تلك مسرة عظيمة لها لأنها تغير الطبيعة عندها بقوة ملائكية وكل ما تلمسه بيدها يشعرها بفكرة الجلال والجمال،. . . وبينا نحن في هذا الحديث إذ تركت سوزان الدولاب ودنت إلى النافذة فتبعتها أمها وأخذتها بين ذراعيها، وكان الليل ساجياً دافئاً والسكون سائداً، فصمتنا نحن الثلاثة. ففي هذه الهدأة الساحرة رفعت سوزان ذراعيها عالية بقدر ما استطاعت، وبطرف أصبعها أشارت إلى كوكب هناك في بهرة السماء، وهذا الإصبع الدقيق جعل يتلوى بين الفترات كأنما ينادي أحداً. وكذلك راحت سوزان تكلم الكوكب. . .!

وأما حديثها الذي طارحته النجم فلم يكن كلمات وألفاظاً، بل كان حديثاً غامضاً ساحراً، بل أنشودة غريبة، فلم يسع أمها إلا أن قالت وهي تحتضنها حقاً إن الطفلة لشاعرة!. آراء مسيو جيروم كونيارد مسيو جيروم كونيارد اسم كتاب وضعه أناتول فرانس ليرسم فيه صورة من صور رجال الدين وآرائهم في الحياة وقصد به إلى التهكم عليهم والسخرية من مذاهبهم في الحياة ونحن نقتطف آراء مسيو جيروم في العلم. 2 الفلسفة والعلوم إن الإنسان يا بني ليس إلا حيواناً أحمق وليس تقدم روحه إلا نتيجة من نتائج ضلاله واضطرابه ونزقه، ولهذا تراني يا بني أهزأ بذلك الذي يسمونه العلم وتلك التي ينعتونها الفلسفة فهما ليسا عندي إلا صوراً متناقضة وخيالات طائشة وهما فتنة من فتن الشيطان يغوى بها الأرواح، وضلة يستهوي بها النفوس، وأنت فإنك تراني في نجوة من الاعتقاد بتلك الشيطانيات التي تغلب على أذهان العامة، وتسيطر على رؤوس السوقة، وأنا لا أزال مع سادة رجال الدين في أن الشيطان لا يزال في قلوبنا ودمنا، بل نحن عفاريت الشر في صميم وجداننا، وما أشد غضبي من ذلك الذي يدعونه الفيلسوف ديكارت وجميع الفلاسفة الذين سلكوا مسلكه وجروا وراءه في طريقه، فأرادوا أن يجدوا في الطبيعة نظاماً للحياة، وسنناً للوجود، إذ ما هو علم الطبيعة يا بني إلا خيالات تتوارد على مشاعرنا وعواطفنا وماذا عمرك الله قد أحدث العلم، وماذا جاء به كل هؤلاء العلماء، وجميع أولئك الفلاسفة من ديكارت وشيعته إلى هذا الرجل الأحمق الجميل البديع مسيو فونتنل، لم يحدثوا يا بني إلا نظارات يضعونها فوق أعينهم، كتلك التي أضعها الآن فوق أنفي، أجل، ليس تلك المناظير التي يسمونها الميكروسكوبات والتلسكوبات وأخواتها ويغترون بها ويتفاخرون إلا نظارات لا تفترق عن نظاراتي هذه، بل يا فتاي ما تلك الآلات والأدوات التي يملأ بها العلماء مكاتبهم ومعاملهم وخزائنهم؟ ما تلك المناظير والاسطرلابات والبوصلات؟ أليست هي وسائل تعين العواطف على أوهامها، وتمدها في طغيانها وتزيد في الجهل، وتقربنا من الطبيعة وفي معرفة أسرارها كل الأذى والضر بل أن أكبر هؤلاء العلماء الجلة وأولئك

المشيخة العظماء لا يختلفون عن العامة في شيء إلا في مقدرتهم على التلهي بأوهامهم التي يهيمون فيها وأغلاطهم المعقدة المتفاقمة التي يصيبونها، إنهم ينظرون إلى الكون من وراء زجاجات متشعبة المناظر، منعكسة الصور، بدلاً من أن ينظروا إليها بأعينهم نفسها خلواً من تلك المناظر، ويشهدوها بأبصارهم كما خلقها الله لهم، ولكنهم يمين الله لا يغيرون من جوهر العين باستخدام نظاراتهم، ولا يبدلون طبيعة الأحجام باستخدام تلك المقاييس ولا يغيرون الأوزان باستعمال تلك الموازين، بل إنهم ليكتشفون من وراء ذلك صوراً ظاهرة ليس غير، إن كراهتي للعلم لتشتد وتثور كلما رأيته بين الناس محبوباً معززاً مكرماً!! حديقة أبيقور هذا هو الكتاب البديع من بين كتب أناتول فرانس وتواليفه، لأنه ليس إلا خواطر متفرقة غير موصولة، وآراء منثورة متتابعة في شؤون شتى وموضوعات متباينة، على نحو تواليف نيتشه وخواطره، ولعل أمثال تلك الكتب أخف مساغاً على الروح وأقرب منالاً من النفس. 3 كثير من الناس في هذا العصر تغريهم الحياة بالإيمان بأنا قد بلغنا نهاية الحضارة، وألممنا على خاتمة الدنيا، ووصلنا إلى الدرجة الأخيرة من المدنية، وإن العالم بعدنا سينساق إلى خاتمته، ويهوي إلى الهاوية، ويسرع إلى الفناء والانقراض، وهم في ذلك أشبه بسادة المسيحية القديمة إذ ظنوا أن الدنيا لا تستطيع أن تجوز العام الألف من تاريخ مولد سيدهم ولكنهم لا يزالون متكهنين عصريين، أوتوا ذوق الجيل والمدنية، ولعل ذلك باعثه العزاء والزهو كأنهم يريدون أن يقولوا أن الكون لا تطاوعه نفسه أن يعيش بعدهم. أما أنا فلست ألمح في الإنسانية أي دليل أو نذير للانقراض، ولست بنهاية الحياة مؤمناً، ولست لها مصدقاً، بل لا أعتقد أننا بلغنا شيئاً عظيماً من المدنية، وجزنا الخطى إلى نصيب وافر من الحضارة بل أرى أن ترقى الإنسانية نهاية في التراخي والبطء والمهل، وإن الفروق والاختلافات التي تبدو بين الجيل والجيل في الأخلاق والآداب من الضؤولة والدقة بحيث لا يكاد يلمسها الحس، ويشعر بها الذهن وإن كانت تدهشنا وتبغتنا وتقع منا على غرة على أننا قلما نلاحظ مظاهر الآداب وفروع الحياة التي لا نزال نجمد عليها كما عض

آباؤنا من قبل، ولا تختلف في شيء عن آداب العصور القديمة، بل إن قطار الحياة بطيء، ومركبات المدنية متراخية، والإنسان دأبه الاحتذاء وعبقرية التقليد، وندر ما يحدث، وقل ما يكتشف، وضؤل ما يخترع ويبتكر بل إن قانون الثقل الذي ننسبه إلى الأرض إذ تجتذب إليها الأشياء الصغيرة الحجم عنها لا يزال يطرد في الحياة وفي كل أنواع العلم والحضارة ولقد كنت أجتاز أمس عرض الطريق فرأيت بناة يهدمون داراً قديمة مهجورة وأطلالاً بالية فشهدت الفعلة يحملون الصخر كما كان يحمله من قبل عبيد طيبة ونينوى ورأيت أزواجاً وبعولاً يخرجون من المصلى والمعبد القائم في ناحية من الشارع فيدخلون ألحان الواقع في الناحية الأخرى منه طلباً لأقداح الشراب والتماساً للكأس يلحون عليها ولا أزال أشهد الدنيا تتبع شرائع وقوانين قديمة يوم كان قيصر رومة شاباً يانعاً، فلذلك لا أنى أقول. . . لا شيء جديد تحت الشمس.

فتاوى في الحب والزواج

فتاوى في الحب والزواج وضعت إحدى المجلات الانكليزية المشهورة عدة أسئلة خطيرة في الحب وألقتها إلى جمع من أكبر كتاب العصر في انجلتره، وآثرت منهم الروائيين على سائر الكتاب، لأنها علمت أن الروائيين هم كتاب العواطف، وأساتذة علم النفس، وهم أخبر بأسرار النفوس، وأوسع علماً بأفانين الحب من غيرهم، فجاءت أجوبتهم غريبة في بابها، لا تخلو من تناقض، ولا تزال متعارضة متباينة، ونحن ننقل إلى قراء العربية جملة من هذه الآراء بعد أن نبسط لهم هذه الأسئلة بترتيبها: الأسئلة السؤال الأول - أي الحبين أقوى من صاحبه، حب المرأة، أم حب الرجل؟ السؤال الثاني - هل ينبغي للمرأة أن تظهر حبها؟ السؤال الثالث - هل يجوز أن يحب المرء أكثر من شخص واحد في آن واحد؟ السؤال الرابع - هل يحدث الحب يوماً بمجرد النظرة الأولى؟ السؤال الخامس - أترون الزيجات القائمة على الحب خير ضروب الزيجات؟ السؤال السادس - هل يجوز أن تحب المرأة ذات الوجه الدميم كما تحب الحسناء؟ السؤال السابع - هل يمكث الحب إلى الأبد؟ الأجوبة فأجاب على هذه الأسئلة الكاتب الطائر الصيت والروائي المبدع هوراس انسلي فاتشل فقال: 1 - حب المرأة أقوى من حب الرجل عامة لأنها ترى في الحب معنى غير ما يرى فيه الرجال ويشغل الحب في فؤادها جميع أفكارها ووحي نفسها. 2 - أعتقد أن الحب باعث الحب والهوى وليد الهوى والعالم ممتلئ بالنساء النصف والسيدات اللاتي اجتزن حدود الصبا يعشن وحيدات مبتردات العاطفة مريرات العيش لأنهن في بعض أدوار أعمارهن لأمر عظيم أو حادث تافه في تيار الحياة وآذيها، أخفين عواطفهن عن الرجل الذي كن يحببن حياء منهن وخجلاً أو كبراً وعزة أو تيهاً ودلالاً. 3 - بلا ريب فإن متعددي الزيجات يؤكدون جواز هذا الحب وإني لأذكر رجلاً أخلص في

حبه لزوجتين في عصمته إذ جعل يقسم بينهما بالسواء زمنه وماله وعواطفه ولم يعرف المرأتان قدر هذا الحب إلا بعد وفاة الرجل فراحتا تخلصان إحداهما إلى الأخرى وتحملان الحب الذي كان في جانحة الرجل لكل منهما. 4 - لا شك في ذلك فقد حدث أن رجلاً من كبار القواد التقى بفتاة في صبيحة يوم فتزوجها في مسائه وعاشا على محض الحب والوفاء. 5 - لا مشاحة في ذلك لأن زوجاً بلا حب إذا راح موفقاً مسهماً في النجح فإنه أشبه شيء باشتراك في متجر وتضامن على عمل. 6 - أتظنون أن المرأة الدميمة تلوح كذلك في عيني الرجل الذي يحبها؟ فلكم من نساء قبيحات أرسلن وحي الحب في أفئدة على مر الزمن وكر الغداة والعشي. 7 - هذا سؤال صعب الاهتداء إلى حله ولا يستطيع إنسان أن يجيب عليه ولكن لنتوقع أن يزهر الحب في تأثيره العظيم فيبقى آخر الحياة فكذلك يعتقد الروحانيون. آراء البارونه اورسازي وقالت البارونه اورسازي، وهي من أكبر الروائيات في العصر الحديث، وأخبر الكاتبات بالحب، وقد وضعت عدة من الروايات في الثورة الفرنسية، بذت فيها ديماس وأبدعت الإبداع كله، وقد اختلفت آراؤها في بعض النقط عن آراء الكاتب الذي بسطنا أجوبته: 1 - يصعب في المسائل التي تمت إلى علم النفس بسبب أن يرسل الإنسان القول عامة، ويعمم في رأيه، ولكن لنا أن نذهب إلى القول بأن حب المرأة أقوى من حب الرجل، لأنه أجلد منها على المقاومة والمغالبة، وأقدر على الاستمرار والبقاء، والحب عند الرجل - ونعني بالحب أسمى مراتبه وأطهر أنواعه، ولا نقصد بذلك إلى الحب الجنسي وإن كان قوياً شديداً - يجب دائماً أن يكون مقروناً بالاحترام والإعجاب بالخلق أو الذكاء النسائي - والرجل لا يستطيع أن يطاوع النفس فيتزوج بالمرأة التي لا يشعر من ناحيتها بشيء من الاحترام، ولذلك كان خليقاً بنا أن نذهب إلى أن في حب الرجل للمرأة تقديراً وتفكيراً معيناً إذ يحسب لحبه حساب الشرف والنبل وفضل المرأة التي يحب ومحاسنها، ولكن حب المرأة نقيض هذا الحب، إذ المرأة لا تحب الرجل لنبل قدره وفضله، ولكن كثيراً ما يكون حبها إياه على الرغم من ذلك، فإنها قد تخف إلى بذل مهجتها وسويداء قلبها طوعاً

وبإخلاص نية إلى مخلوق حقير، خفتها إلى بذلها لرجل عظيم، وتمنح فؤادها مجرماً شنيعاً إذا وقعت في هواه، كمنحه البر الطاهر أخا الفضل، والرجل دائماً يقول في أعماق نفسه إذ يحس عيباً من العيوب، أن هذه المرأة ليست خليقة بأن تكون والدة لبني وأطفالي: وإن كان يحس نفسه أسيرة تلك المرأة ومفتونة بشخصها، ولكني أشك في أن تاريخ هذه العاطفة العظيمة كلها يحوي ذكر امرأة واحدة من نساء الدنيا قاطبة قالت في ظروف شبيهة بتلك. . كلا، إن هذا الرجل ليس خليقاً بأن يكون لأطفالي أباً، ولأسرتي رأساً!. . 2 - إذا أحبت المرأة حقيقة فستجد نفسها لا تطاوعها على مغالبة كتمان حبها فإن هذا الحب سينم عن نفسه في مئات من السبل وألوف من الظروف التافهة الصغيرة، ولعل حبيبها لا ينتبه لذلك وإن كان يعمل على أن يجتذب حبه إليها إذ ليس في الحياة ما هو أشد من الحب الكامل الحقيقي مغناطيساً. 3 - لا يقع ذلك مطلقاً، إذا كنا نقصد بالحب إلى الحب الحقيقي التام، حب الروح، أو القلب أو النفس أو أي اسم تختار للتعبير عن الجزء السامي في الإنسان إذا امتزج بحب البدن، وإنما قد يجوز أن يروح حب الرجل أو المرأة أسير شخص آخر بالحواس بينما يحتفظ بعاطفة عميقة نحو شخص غيره، ولكن هاتين العاطفتين في نفسهما لا تسميان حباً. 4 - ليس الحب نباتاً ينمو وزرعاً يزكو، بل الحب قوة عنصرية روحانية تخلق خلقاً. 5 - بلا شك، فليس أكره لنفس المرأة الحساسة، من زواج بلا حب، فإذا لم تكن امرأة ذات جانحة حساسة، بل كانت عروساً خشبية لا أقل ولا أكثر وكانت مادة بلا روح، ومدراً من الآجر الجميل، أو مخلوقاً بلا تفكير، يرضيها أن تكون فقط في بيت رجل، أو ذات مكان اجتماعي، فلا يرتقب من مثلها أن تجعل الرجل سعيداً، وهذا من ناحية المرأة، أما الرجل الذي يتزوج لسبب غير الحب، للمال أو للمركز أو لسبب من الأسباب المادية التجارية فليس إلا مخلوقاً أبله ضعيفاً لا يستطيع أن يجعل أية امرأة سعيدة. 6 - تحب المرأة الدميمة أكثر من المرأة الحسناء، وفي أغلب الأحيان، لأن الرجل يحبها أولاً بجزئه السامي فإذا نجحت بعد ذلك في فتنة حواسه كذلك فلا يلبث حب الرجل لها أن يكون أشد وأروع وأثبت على البقاء من الحب الذي تظفر به المرأة الحسناء بكل سهولة، واعلم أن الرجل الذي يحب امرأة ليست جميلة لا بد أن يكون أرق طبعاً، وألين روحاً،

وأقوى أعصاباً، وأشد وفاء من الرجل الذي يقع فريسة سهلة ذلولاً لفتنة امرأة حسناء، وهنا لا بد أن نقصد كذلك بالحب في أرق جوهره وسلطانه ونعني به العاطفة الكبرى، لا الرغبة الشهوانية الجسدية ليس غير. 7 - الحب الحقيقي التام يبقى بلا ريب آخر الحياة، ولا يستطيع شيء في الأرض أن يقتله أو يذهب به ويبلى جدته، وقد تسأمه الحواس، ولكن الرابطة الروحانية تظل باقية بعد أن خطت يد الزمن خطوطها ووضعت طابعها وغضونها ومكاسرها في وجه الحبيب، والحب التام معناه الإيمان التام والثقة التامة والرفقة التامة للذهن والبدن، والاشتراك التام في المصالح والأفكار والخواطر والمطامع والأماني، وجميع قوى الظلام من حزن ومتعبة وسآمة وضجر وإغراءات نفس لا تستطيع أن تحدث أثراً في تلك القوة. ومثل هذا الحب الطويل العمر يوجد فعلاً، أكثر مما يتوهم الناس ولكنه لا يريد أن يعلن عن وجوده أمام عالم شهواني وقح. أجوبة وليام لكيه ورد وليام لكيه وهو من أكبر الروائيين في العصر، وتعد رواياته بالعشرات، ولا يزال اسمه كل يوم يدور في صحف الغرب فقال: 1 - المرأة عادة هي التي تقوم بتضحيات أكبر من تضحيات الرجل وكل امرأة تحن إلى الحب، على حين ترى الرجل كثيراً ما يعد قلب المرأة صغيراً ويستخف بعاطفته والرجل الكبير لا يلبث أن يروح عند المرأة معبوداً، وعبادة البطولة وهي إعجاب يكاد يكون حباً، لا تزال في جانب المرأة. 2 - إن إظهار المرأة حبها قبل أن تستوثق من أن الحب بينهما مبادل، قد يصغر في بعض الأحيان من قدرها في نفس الرجل فلعله قد يقرفها بالطيش ويرميها بخفة الحلم، ويتهمها بالتسرع، فينبغي للمرأة أن تحاذر من إظهار حبها وعليها أن تأخذ بالثبات وتتظاهر بعدم الاكتراث وتبدو في سكون وصبر حتى يعلن الرجل أولاً عن حبه. 3 - كلا، ولا ريب، فإن الحب الصادق هو عاطفة موقوفة على شخص واحد، والعلم بعده ضئيل في النظر، والناس دونه تافهون، على أن الحب الأفلاطوني - وهو لا يزال يختلف عن الحب الحقيقي - قد يجوز للرجل أو المرأة أن تستشعر عاطفة عميقة لأشخاص

متعددين ولكن الحب الروحاني السماوي بين الرجل والمرأة لا يتقبل أكثر من شخص واحد يمنح العبادة كلها. 4 - توجد هناك جرثومة معينة تصيب أهل الشباب ولم يستطع العلماء المحدثون أن يضعوا لها اسماً، ولكن اسمها هو، مكروب الحب! وهذه الجرثومة كثيراً ما تلتقي بها في قاعات الرقص ودور الملهى وفي المصطاف والمتربع، والذين تصيبهم يقعون في الحب للنظرة الأولى، وهذا الضرب من الحب هو عرض من الأعراض المعدية المريضة التي يأتي بعدها في مستقبل الحياة الحب الحقيقي. 5 - لا مشاحة في أن زيجات الحب خير الزيجات، ولكن في هذه الأيام التي أصبحت لوازم الحياة غالية، وحاج العيش باهظة الثمن، قد أصبح الحب في كوخ أكثر نفقة من الحب في دار فسيحة منذ سنين عديدة مضت وعندي أن لا يحب الإنسان مطلقاً خير له من أن يحب لأجل المال وأنا لم أشهد في حياتي مثلاً واحداً من هذه الزيجات المالية دامت بعد وقوعها هانئة سعيدة مطلقاً. 6 - بلا ريب، إن أكبر نساء عصرنا هذا وأكبر بطلات التاريخ كن عادة نساء دميمات، ولكن اعلم أن الرجل المفكر الثابت الراجح اللب يعرف جيداً أن الجمال ليس إلا حلاوة جلد وعذوبة مظهر، وإن أجمل الأزهار، ما كان أشد سرعة إلى الذبول وأقصر نضرة، والرجال ذوو القلوب المليئة بالحب الحقيقي لا يحفلون بنظرات النساء الحسان، والرنوات الفاتنة من محاجرهن بل هم يأبهون باستعدادهن وطبائعهن وحلاوة خلقهن، وعذوبة حديثهن، وأما الذين يطلبون الوجه الجميل فكثيراً ما يهتدون إلى الخبث كميناً وراءه، ولا أريد بقولي هذا إن النساء الجميلات جميعاً شريرات خبيثات ولكن الجمال البهي الفاتن وا أسفاه كثيراً ما يكون باعثاً على الخفة والطيش وحب اللهو، وتحبباً وتدللاً لا يلبث الرجل أن يجد منه السآمة القاتلة. 7 - نعم، فقد كان لي عمة ذات بعل تزوجا وبقيا في ظل الزواج سبعة وخمسين عاماً، فإذا أقبل المساء جلسا حول الموقدة كعاشقين مفتونين بعضهما بالبعض، إذ يمسك الزوج بيد زوجه فيلاطفها بين راحتيه في رقة وعطف، وقد اعتادا أن يعلنا للناس أنهما لم يتشاجرا في حياتهما اللهم إلا لأمر تافه، لفتح نافذة، أو إغلاق شرفة، فإذا حان موعد النوم أخذ

الزوج وقد بلغ التاسعة والثمانين يد زوجته الضامرة المهزولة فينحني إليها ويطبع فوق تلك اليد الذاوية قبلة حارة، وقد ماتا معاً في مسافة قصيرة، واستيقا إلى مضاجع الأبدية في خلال شهر واحد وقد ظلا حبيبن إلى أنفاسهما الأخيرة، هذه هي المشاهدة التي وقعت لي، ولا شك في أن العالم حافل بمئات منها. ردود تمبل ثيرستون وقال تمبل ثيرستون، وهو في الصف الأول من الروائيين: 1 - إن العنصر الأكبر في حياة المرأة هو تربية أطفالها والسبيل إلى خلق هذا العنصر الذي أرادته الطبيعة هو عواطفها وجوانحها، ولكن العنصر الأكبر في حياة الرجل هو عمله وواجباته فالحب لدى المرأة هو القوة المسيطرة على حياتها، هو أكبر من الوحي ومن الباعث والدافع، هو الغرض والغاية. 2 - فإذا كان الحب كما قلت هو من ناحية المرأة الغاية والغرض فعليها أن تظهر شيئاً منه لتتم لها منه غايتها، وكما أن الرجل لا يسترخص ولا يبخس عمله قيمته، كذلك المرأة لا تستخف بأعماق حبها. 3 - إذا كان القصد من هذا السؤال أتم ضروب الحب، إذ يتلاقى فيه الولاء بالعطف، والعاطفة بالثقة والاحترام، فأقول كلا. 4 - الحب لمجرد النظرة الأولى يجب أن يحدث غالباً، وكما أن بعض هزات منسجمة من الموسيقى تكسر في لحظة واحدة آنية من الزجاج إذ تتموج فيه تموجات النغمة فتهز الآنية فتلقيها من فوق رفها إلى الأرض، ترى بعض الطبائع تحس لمجرد الملامسة بقوي جاذبة تدفعها وتثير فيها الحب، وما يقال في ذلك عن الحب يقال عن العداوة والكره. 5 - قد يكون الزواج الخلاء من الحب نافعاً للأمة إذا كانت المرأة التي لا تحب زوجها تحب بلا أدنى ريب أطفالها وتحسن تأديبهم والقيام على رعيهم، ولكن ذلك يقصد به أن يكون الزواج عقداً من العقود الرسمية لا يعتبر الفريقان فيه إلا خداماً من خدمة الأمة، ولكن هذا ولا شك ليس المقصود من السؤال والزواج المعقود على الحب في نظر الفرد أرضى أنواع العلاقة، ومن هذا قامت الإصلاحات الجديدة في شرائع الطلاق. 6 - محاسن الوجه لا أهمية لها في الحب، وإنما هو الخلق الذي يسيطر على الحب

الحقيقي فالمرأة القبيحة الوجه الحسناء الخلق لا تخلو من نظرات جميلة ومقتبل ناضر في عين الرجل الذي يحب منها خلقها. 7 - هذا السؤال لا يخلو من غموض فإذا كان يقصد به أيجوز أن يبقى الحب مدى حياة العاشقين فجوابه نعم، إذ يجوز أن يحب الرجل والمرأة بعضهما البعض جميع حياتهما ثم يعودان في ظل الشيخوخة إلى حب الأطفال وهو حب لا عاطفة فيه ولكن لا يخلو مع ذلك من تأثير نفساني، أما إذا كان القصد به بقاء الحب إلى الأبد فإن الكاتب لا يسعه إلا أن يظل صامتاً لعدم خبرته بهذا الأمر. آراء الكاتبة ماي ادينجتون وهنا نختم هذه الفتاوى الفلسفية بذكر آراء كاتبة مشهورة عارضت الفتاوى السابقة جميعاً في السؤال الأول، وجاءت برأي لا يزال صالحاً ولعله أقرب إلى الحق وأدنى إلى اليقين، ومن جميع هذه الآراء المتضاربة المتعارضة يستطيع القارئ أن يخرج منها الفكرة الصائبة والرأي الحصيف. قالت: 1 - إن حب الرجل عامة أقوى من حب المرأة، لأن النساء عمليات في الحب شأنهن في كل شيء وهن يأخذن الحب عملاً من الأعمال ومأمورية من المأموريات ووقوع المرأة في إشراك الحب يختلف في جوهره عن وقوع الرجل في أحابيله إذ حب الرجل يعميه ويذهب بلبه، ويحجب قوة المنطق فيه، والحب الأعمى لقب احتكره الرجال دون النساء لأن حب المرأة لا يكاد يعميها أو يذهب بلبها والرجل يتناول الحب فيجري به في طباق الخيال، وهو مفتون بالخيالى ولوع بالكمالى أما المرأة ببصرها الناصع فأحب إلى نفسها الحقائق، والرجال أغلب عليهم الإذعان لعواطفهم وقليلات في النساء ذوات العواطف وكثيرون من الأزواج يحبون نساءهم، وقليلات منهن يحببن أزواجهن. 2 - لا ينبغي للمرأة أن تظهر حبها إلى الحد البعيد وتتجاوز الاعتدال وإنما قد تأمن المرأة إذا تظاهرت بالحب الشديد. 3 - نعم ولكن ليس الحب نفسه في درجته ومرتبته وليس في شدته وحدته ولأن يحب الإنسان شخصين في آن واحد معناه أن كل منهما يظفر بحب جزئي فقط وأن يحب لصفة

من الصفات ليس غير لا أن يحب بجملة فضائله ومناقصه ومحاسنه ومقابحه فإن في الناس من لا يجلدون على أن يحبوا إلا الحب الجزئي، على حين ترى الكثيرين غير خليقين بأن يحبوا أكثر من حب جزئي. 4 - لا يقع ذلك كثيراً ولكنه يقع ولا ريب وهو عادة حب حقيقي متطاول الأجل متراخي الأمد ولعل في بغتته والفكرة الخيالية التي تمازجه ما يكسبه شذى وعبقاً وعذوبة لا تكاد تذهب أو تزول والناس رجالاً ونساءً يقعون مرضى في الخيال ولا دواء لهم منه. 5 - لا ريب في أن زيجات الحب أكثرها عسيلة، فإذا استمر الحب، كان الزواج فخر الزيجات، وأمجد القرآن، فإذا لم يعش الحب فسيبقى للزوجين ذكرى تلك السعادة الكبرى التي كانا ينعمان بها وستظل لديهما رابطة تضمهما وتشدهما، وخليق بكل إنسان أن يجعل مطمح بصره، وأمنية نفسه أن يجد حباً تاماً كاملاً، فإذا كان الزواج يخلو من تلك الروح فليس إلا عقداً صرفاً قد يسرق رجلاً وامرأة من أعز فرص الحياة وتجاريب العيش. 6 - بلا ريب فإن الجاذبية النسائية لا تزال سراً غامضاً من مبهمة الأسرار، وإن كان معروفاً من صاحبه - أي المرأة - وقد تكون المرأة الحسناء بلا جاذبية، ولا فتنة مطلقاً، وقد تروح الدميمة بالفتنة مفعمة وقد تكون آية الجاذبية وليس السبب في اجتذاب المرأة الرجل هو الجمال، بل إنه لذلك الشيء الغامض المستسر الذي لا نستطيع أن نصفه إلا بأنه هو ولا نعرفه، فإذا وقع هذا الشيء هو للمرأة الدميمة فلن يعرف أحبابها أنها دميمة، ولن تدعهن يعرفون ذلك عنها، وقد لا يعرف حقيقة ذلك إلا نساء أخريات. 7 - نعم، ولكن ذلك نادر، من ناحية المحب والمحبوب، والمرأة قد تظفر بحب ثابت من زوجها، إذا كانت فاتنة كثيرة الحيلة، وقد لا يظفر الرجل بهذا الحب منها ولا شك في أن الحب المتبادل الثابت المقيم هو أجمل شيء في هذه الأرض.

الاشتراكية

الاشتراكية تعريفها وأركانها من الصعب أن يأتي الإنسان بتعريف موجز وشامل لجميع العناصر المكونة للشيء المراد تعريفه خصوصاً إذا كان هذا الشيء مبهماً غامض المعنى كالاشتراكية فإنها لا تزال إلى الآن مفككة الأوصال تتشكل بأي شكل يراد منها وتقبل أي تعريف يعطى لها ولذا اختلف الاقتصاديون في تعريفها اختلافاً بيناً وذهبوا فيها مذاهب شتى وقل أن تجد اثنين متفقين في تكييفها وتبيان معالمها وحدودها، فقد اقترحت جريدة الفيجارو في 5 فبراير سنة 1892 على قرائها أن يوافدوها بتعريف الاشتراكية وعينت المسيو دي مولان حكماً لفحص ما يرد لها من الأجوبة فورد عليها ما يربى على الستمائة تعريف، ولضيق المقال نضرب صفحاً عن هذا الخلاف ونكتفي بتعريف المسيو ديشان فإنه أقرب إلى الصواب. قال المسيو ديشان: الاشتراكية هي إلغاء الملكية الفردية وجعلها ملكية اجتماعية طلباً للمساواة في مرافق الحياة ومراعاة لصالح الفرد وحب العدل. ومن هذا التعريف يستنتج أن الاشتراكية تتكون من ثلاثة أركان وهي أولاً المساواة، ثانياً إلغاء الملكية الفردية والاستعاضة عنها بالملكية الاجتماعية، ثالثاً الحامل على هذا التغيير وهو مراعاة العدل وإيثار صالح الفرد على الجماعة. يقول الاشتراكيون أن الأغنياء بتملكهم رؤوس الأموال قد تملكوا زمام الإنسانية وسخروها في خدمتهم وامتصوا دمها ولم يتركوا لها إلا ما يسد الرمق ويمكنها من مداومة خدمتها لهم، يريد الاشتراكيون المساواة بين الأفراد في مرافق الحياة ومصادر الرزق وذلك لينتفي الظلم بين الناس فلا يتخذ بعضهم بعضاً إرقاء يشغلهم ويسخرهم في توفير أسباب رفاهيته ويرهقهم تعباً ونصباً. لا تعبأ الاشتراكية بالهيئة الاجتماعية ولا تهتم بسعادتها وإنما تهتم بسعادة الأفراد خصوصاً المعوزين والفقراء دون تمييز بينهم بخلاف الفردية فإنها وإن اهتمت بسعادة الفرد وتوفير أسباب هنائه إلا أن بغيتها الحقيقة هي تقوية الهيئة الاجتماعية وتثبيت أركانها، فسعادة الفرد لدى الفردية وسيلة أما لدى الاشتراكية فغاية، إن المساواة التي تنشدها الاشتراكية هي المساواة الحقيقية في الانتفاع بالثروة والاستفادة بمرافق الرزق لا المساواة أمام القانون فقط

فهذه من شأن الأحزاب السياسية وهي مساواة اسمية لا حقيقية لها. وليس من الاشتراكية كذلك محو الفروق الطبيعية التي قد توجد بين الأفراد ومحاولة جعل الناس سواء في القوي الجثمانية والعقلية والأدبية لاستحالة تحقيق هذه الرغبة، ولكن ماذا تفيد هذه الفروق وما عساها أن تأتي به إذا لم يكن لها أثر في الخارج ونتيجة ظاهرة في الحياة للمتفوقين من أبناء البشر الذين خصوا بموهبة سامية أو قوة جثمانية عظيمة، إن عدم الاعتداد بهذه الفروق في توزيع الأرزاق مدعاة لإزالتها ووسيلة لجعل الناس سواء في المدارك والقوى، ولكن هذه الغاية التي قد تؤدي إليها الاشتراكية ليست بالغاية المباشرة التي ينشدها الاشتراكيون إنما غايتهم هي هدم جميع الفروق الصناعية التي أوجدها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. ظهرت فكرة المساواة في الوجود من قرون عديدة وهي فكرة لذيذة تصبو إليها النفوس وترنو إليها الأنظار لجمالها الفتان، ولم تعدم الإنسانية في زمن ما أبطالاً يدعون الناس إلى الرفق بالفقراء والإحسان إليهم وإلى محاربة الفقر ومحو دائرته من الوجود وإشراك الناس جميعاً في الأموال بالتساوي، فأفلاطون كان يمقت الفروق الشاسعة التي توجد بين الأفراد بسبب الغنى والفقر وكان ينادي بضرورة محو هذه الفروق ومساواة المواطنين الأحرار في الانتفاع بالأموال، وهذه أفكار شبيهة بالاشتراكية استهوت عقول بعض العلماء فقالوا إن الاشتراكية مذهب قديم وإن أفلاطون هو المؤسس لها وهذا خطأ عظيم فإن أفلاطون لم يقترح المساواة بين الناس لأنه كان يرى في عدم المساواة ظلماً وإجحافاً شأن الاشتراكية وإنما لأنه كان يرى أن المساواة تكسب المدينة الراحة والسكينة وعلى الأخص تزيدها قوة واقتداراً. فأفلاطون لا يعبأ بالفرد بل على العكس يضحيه في سبيل المدينة والاستزادة من قوتها. وعلاوة على ذلك إن المساواة التي يطلبها أفلاطون قاصرة على طبقات مخصوصة لا تشمل جميع سكان المدينة ولا يتمتع بها غير الأحرار أما الأرقاء فلا حق لهم فيها ويجب أن يكونوا بمعزل عنها يعملون لتوفير أسباب الرخاء والرفاهية للأحرار بل كان أفلاطون يرى أن وجود الرق ضروري ولازم لسعادة المدينة، فالمساواة التي كان يطلبها أفلاطون مساواة أرستقراطية أما المساواة الاشتراكية فهي مساواة ديمقراطية يشترك فيها جميع

الأفراد من كل الأمم والشعوب دون قيد ولا شرط. إن لفظة الاشتراكية حديثة جداً وضعت حوال سنتي 1835 و 1836 ثم شاع استعمالها بعد ذلك، ولم يلتفت علماء ذلك العصر إلى الحالة الفكرية التي كان عليها العالم في قديم الزمان وغرتهم فكرة المساواة التي كانت تتردد على ألسنة الفلاسفة القدماء وظنوا أنها اشتراكية مع أنها ليست من الاشتراكية في شيء فإنها مساواة قاصرة على طبقة أو فئة مخصوصة كما سبق بيانه ولأن الحامل عليها هو حب النفع العام وتقليل الشقاء بقدر الإمكان وذلك لا لأن البؤس ظلم وإجحاف بل لأنه مؤلم للعواطف الشريفة: أما الاشتراكيون فإنهم يرون في عدم المساواة ظلماً وإجحافاً ويبغضون الأغنياء ويمقتونهم من كل جوارحهم فالمساواة التي كان يطلبها الفلاسفة القدماء هي مساواة هادئة وقاصرة على الأحرار لاقتسام الأرزاق فيما بينهم دون أن يكلفوا أنفسهم مؤنة العمل فإن العبيد كانوا هم المكلفين به وإذن فهي مساواة استهلاكية بخلاف الاشتراكية فإنها لا تنشد المساواة في الاستهلاك فقط وإنما تنشد المساواة في العمل أيضاً. إن الاشتراكية مذهب عام لا يخص أمة دون أخرى بل يعطف على الجميع خصوصاً البؤساء والفقراء ورائده حب العدل والتغالي في خدمة الفرد. وإذ ثبت أن المساواة الاشتراكية تشمل جميع الأفراد ولا تستثني منهم أحداً ظهر أن المسيحية بعيدة عن الاشتراكية وإن جمعيات الرهبان التي تأسست في القرون الوسطى لم تكن اشتراكية بالمعنى الحقيقي ولو أنها كانت مقامة على دعائم المساواة الحقة فإنها كانت قاصرة على أفرادها خاصة لا تتعدى إلى سواهم ولا تسعى إلى نشر المساواة بين الأفراد الآخرين ولا إلى قلب النظام الاقتصادي بل كانت عائشة بمعزل عن العالم تزرع أرضها على الشيوع وتقتات منها على الشيوع لا يهمها من الحياة الاقتصادية الخارجية شيء. نعم كان السيد المسيح عليه السلام يعطف على الفقراء ويمقت الأغنياء ويحتقر المال ولا يقبل إنساناً ضمن أتباعه إلا إذا تجرد من أمواله وأملاكه وطرح عن كاهله شواغل الدنيا، ولكنه مع هذا لم يكن اشتراكياً فليس من رأيه عدم التداخل في شؤون الحكومة بدليل قوله أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ولم نر من بين أقواله ما يدعو إلى المساواة بين البشر. ومما لا شك فيه أن الدين الإسلامي مشفق بالفقراء رؤوف بالمعوزين لم يدخر وسعاً في

حث المؤمنين على الصدقة وتحبيب الإحسان إلى قلوبهم ولم يترك الفقراء تحت رحمة الأغنياء إن شاءوا أعطوا وإن شاءوا منعوا، بل جعل له نصيباً من الأموال ففرض الزكاة وخصهم بجزء منها حتى لا يكونوا هدفاً للموت جوعاً وأجاز الرق ولم يحرمه تحريماً باتاً ولكنه يمقته ويعطف على الأرقاء ويرثي لحالهم ويدعو إلى معاملتهم بالرفق والي عتقهم حتى جعل العتق كفارة عن الذنوب غير أنه أبقى للأغنياء أموالهم وأملاكهم وأباح لهم التمتع بها ولم يلغ الملكية ولم يشرك الفقراء في أموال الأغنياء وإنما أشركهم في الغلة فقط ولكن بدون مساواة فإن الزكاة مهما بلغت لا تبلغ النصف وجملة القول إن الدين الإسلامي دين غير اشتراكي بالمعنى الحقيقي أيضاً عبده البرقوقي

أبطال الحرب

أبطال الحرب الجنرال فوش قائد جيوش الحلفاء لا تزال كل أمة مسهمة في هذه الحرب تضحك ساخرة مستخفة من قواد عدوتها ورجالات الحرب فيها، والشعوب المحاربة لا تفتأ منذ قامت هذه الحرب تتقاتل في حلبات الصحف قتالاً أعنف وأشد عداء من قتالها في حومة الوغى، وقد تعايبت أمم الحرب الحاضرة، وتنادرت كل أمة على قواد بالأحرى، وراحت تصور كل قائد صوراً ماجنة، وتخرجه في أمتها في مظهر مضحك، وتستخف بقوته وكفاءته، ولكن الرجل الذي سلم من ألعاب في أرض عدوه، وخلا من الذام في المملكة التي نصب لقتاها، ولا تزال صحف الألمان تقول عنه قولاً كريماً، وتقدره حق قدره حتى قالت عنه كبريات صحفهم: ذلكم رجل خليق بأن يجالد بسيفه أطول سيوفنا نجاداً، وأحد ظباة قوادنا غرباً، هو الجنرال فوش قائد جيوش الحلفاء اليوم في سوح الغرب. هذا هو الرجل في صورته التي صورها أعداؤه، وأكبر مميزات هذا القائد هدوءه الذي لا يعكره شيء وسكونه الذي لا يمازجه اضطراب، وقد خلا خلقه من تلك البساطة التي كانت دأب جوفر وشيمة من شيمه، وتلك الطبيعة اللينة العريكة التي كانت لسلفه، ولكنه رجل صامت حفيظ على كلمه وإشاراته وأفعاله، وإنه ليجمد على رأيه، في برود العظماء وسكون جأشهم وهو قليل الكلام كثير الفعل. وقد صوره أحد الضباط الذين يعملون تحت إمرته فقال: إنه لرجل ما أن يزال يبدو فتياً في عنفوان الشباب وحدة الفتيان، وهو خفيف اللحم، رطيب الغصن، بسيط المظهر، ذو رأس فخم أشم متطاول. وأشد ما يدهش الرائي منه نظراته الجلية النافذة الذكية العميقة اللامعة، فإن عينيه الغريبتين تضيئان جميع معارف الوجه، ولولا عيناه لبدا الرجل مغضباً مقطباً وهو يتجلى في ذلك الشارب الغزير الذي يمتد على صدغيه فإذا راح يتحدث، رأيت ضوءاً في محياه، وبريقاً غريباً يضيء وجهه، على أن وجهه الساكن لا يزال ينم عن حزن عميق لأنه افتدي في سبيل فرنسا ابنه وزوج ابنته، ولا يدري أحد سر هذا الرجل إذ لا يمضي يوم واحد حتى

يرى الضباط هذا القائد العظيم قد انطلق إلى الكنيسة فقضي فيها تضع لحظات في عبادة صامتة وتفكير وقد تكون الكنيسة طللا مهيلاً من أثر قنابل العدو، أو دمناً عافية، فلا يحول ذلك بينه وبين هذه العبادة التي اعتادها، وإنه ليمضي وحده ولا يخبر أحداً من ضباطه بذهابه، ولا تحسب ذلك منه مظهراً من مظاهر الورع والتدين، وإنما هي حاجة إلى الاختلاء كل يوم بضع دقائق بنفسه والانتباذ ناحية بعيدة عن متاعب حياته وضوضاء عمله، وليس ذلك تمثيلاً منه وعملاً مسرحياً كما يفعل الملوك والقواد، وإنما هو أثر بسيط من التقى النقي الخالص يؤديه رجل بسيط سهل الخلق. وهو رجل جنوح إلى العزلة، ولوع بالاختفاء، متواضع عطوف على مرؤوسيه وعماله وهو أكره الناس لكسر خواطر الصغار ورفض سؤال السائلين، ولكنه لا يسمح لنفسه أن يعرض على الجماهير، ويرفض الرفض كله أن يطلب منه أن يصور صوراً فوتوغرافية أو يظهر في لوحات الصور المتحركة السينماتوغراف فلا يدع قصة تلك الصور يصورونه وهو يصافح بيده أيدي الفلاحين أو متقبلاً باقات الأزهار من أيدي بيضات الخدور في القرى، وعذارى الريف، أو محياً السلام العسكري في الاستعراض، وفي زيه يتجنب ما يجعله مترفاً أنيق الملبس، والأثواب العسكرية الزاهية الألوان المزركشات بالذهب عدوته والبغيضة إليه، بل دأبه أن يرتدي بثوب بسيط لا ينماز عن ثوب الجندي بشيء حتى ليخال إليك إذا وقفت منه على شرف إنك ترائي عسكرياً في الصفوف. ويقول الذي اختلطوا به أنه لا يكاد ينام أو يعقد الكرى جفنيه، إذ ليس لديه وقت للراحة. ولقد مكث يدير معركة المارن خمسة أيام وليالي خمساً يقظاً وأذنه مسندة إلى سماعة التلفون فيلقي ويخابر قواده وأعوانه العديدين. ومن مائدته والألوان التي تقدم إليه في مواقيت الطعام تعرف طراز الحياة التي يعيشها فهي تعيينات رجل عسكري تلتهم بسرعة، وفي صمت، وإن له لشهية قوية بالنظر إلى أنه رجل عمل ما تفتر له همة، صفحة لحم، وطبق خضر وفنجان من القهوة، هي قائمة طعامه وشرابه في اليوم. وقد اضطر مرة واحدة في العمر أن ينحرف عن النظام الذي وضعه لنفسه فدعا مكاتبي بعض كبريات صحف فرنسا إلى الحضور إليه في مكتبه، وكان يقيم في دار قديمة، قد أفرد

له فيها حجرة بسيطة الأثاث، أشبه شيء بحجرات المتوسطي الحال وقد كان يخيل إلى هؤلاء إذ أقبلوا على الحجرة وأوشكوا على المثول بين يدي ذلكم القائد أنهم سيرونه جالساً إلى مكتب حافل بالخرائط والمصورات والمذكرات والأوراق المتراكمة، ولكنهم لم يلبثوا أن عجبوا العجب كله إذ ألفوه جالساً أمام مكتب ليس عليه إلا دواة وقلب وأداة التلفون، وكذلك فوق ذلك المكتب يضطرب مستقبل الإنسانية وفيها تخفق حياة العالمين، ولا خرائط في الحجرة ولا زينات غير مصور جغرافي عظيم قد أطل من ركن من أركانها. وكان والده عام مولده في السادسة والسبعين من عمره وكان كاتم سر حاكم المدينة وهي بلد صغير من فرنسا يدعى تاربيس فتلقى فوش في صغره العلم في مدارس سانت اتيين، وأما والدته فابنة ضابط أدرك عهد نابوليون وكان فخر العشيرة وجعل فردينان فوش، بطل الحرب اليوم يلقن الأقاصيص البديعة الحربية عن جده، وألوان الشهامة التي بدت منه في أيام البلاء، ومعرك الفخار. وأتم فوش العلم في ميتز، وتعلم فيها حب اللورين، واغتذى من الحمية الأهلية فيها وكان يوم إعلان حرب السبعين يعد نفسه لدخول الامتحان النهائي في المدرسة. وهو من أكبر المعجبين بنابليون، وعنه أخذ كثيراً من أفانين الحرب، ودرس جميع خططه، ووعي جميع مبادئه الحربية، ولذلك عين عام 1896 أستاذ الفنون العسكرية وخطط الحرب في المدرسة الحربية في فرنسا ووضع كتاباً قيماً في ذلك كان له من ورائه الذكر الأكبر. وغريب أن يكون فوش رجلاً من أبطال السيف، وقائداً من حملة القلم، فإن الكتاب الذي عده الناس حجة في فنون الحرب، وأكبروه إلى مصاف الثقة الفنية، كتابه الذي وضعه قبل عام 1904 وأسماه مبادئ الحرب وتنبأ فيه بالأحداث التي نشهد اليوم أهوالها ومناكرها. والقائد فوش بعيد الآن عن الأنظار، قلما يراه جيوشه، فإن عمله العظيم الذي لا يزال أكبر من القوة الإنسانية يمسكه بمكتبه، ويشده إلى مركز قيادته، وهو في ذلك على نقيض القائد جوفر، فقد كان جوفر لا يفتأ يروح ويغدو ويجوب وينتقل، بل إذا دفعه الأمر إلى التنقل بين جنده للتأكد من أمره، والتثبت من مكانه، فلا يكاد يقف، ولا يكاد يتمهل، بل يمضي مسرعاً مخفاً بلا تردد ولا ونى، ويكره أن تنتقل آراؤه من فم إلى فم، في صفوف عسكره،

ولكنه لا يستطيع أن يمسكهم عن الكلام، بل ما فتئت كلماته حديث الجند يتذاكرونه، وقصص الجيش يتبادلونه، ومنها يستمدون الصبر على البلاء، والاطمئنان إلى الاستماتة، والرضى بالمكاره، إذ يقولون نحنفي أمن وسلام ما دام فوش معنا!. ونحن ننقل إلى الناس كلمة بليغة مبكية من الكلم الروائع التي فاه بها منذ ارتفع إلى قيادة الجيوش. قال أواه إنكم لا تعرفون الألم الذي يعانيه والد إذ تنزل الأحزان بساحته إلى الأبد، لقد استشهد فتاي، وأصبحت إحدى بناتي أرمل، وسأعود إلى داري التي تركتها مفعمة بالهناء في يوم صائف جميل فأجدها تضج بنشيج أطفال يتامى لم يعرفوا أباهم، ولم يشهدوا وجهه، لقد أدركت اليوم فخر حياتي وأراني كنت خادماً أميناً لا طماعية لنفسه في غير رضي ربه، ولست وحدي في هذا المصاب، بل هناك ألوف وألوف من الآباء والشيوخ فقدوا جميع أحبابهم وفلذات الأكباد التي كانت أمنياتهم، ولكن لا حق لنا نملك في الشفقة، فإن مملكتنا بل إن وطننا المحبوب هو أهم من أكبادنا، وأكبر خطراً من أفراخنا، فلنتقبل هذه التضحية، ولنرتض الأسى صابرين، إن الإنسانية كلها في خطر، فلتنتصر الحرية أولاً، وبعد ذلك لنا أن نبكي، وندع الفيض للعبرات.

مطالعات

مطالعات الشنقيطي في أقصى جنوب مراكش - بينها وبين بلاد السنغال - في بهرة صحراء خرساء مقفرة تكاد تأكل الشمس فيها حتى ظلها - تقوم بلاد عجيب أمرها للغاية التي لا وراءها فقد كان المنتظر لمثل هذه البلاد أن يكون قطانها قوماً موحشين بعيدين عن العلم واللغة والأدب وسائر ما يتصل بذلك مما تستتبعه الحضارة والتمدن، وينكره التبدي والتوحش، بيد أن أمر هاتيك البلاد على العكس من ذلك، فهي اليوم كأنها البصرة أو الكوفة بالأمس، أو كأنها جامعة عربية قد انتبذت مكاناً قصياً وتغلغلت في أحشاء الصحراء خشية أن تعدي طلابها عجمة المتحضرين. - شنقيط وما أدراك ما شنقيط؟ هي ما علمت، هي التي أهدت إلينا أصمعي هذا العصر المأسوف عليه محمد محمود بن التلاميد التركزي المعروف بالشنقيطي، ونحن فقد رأينا هذا الشنقيطي وخالطناه، وقرأنا عليه بإيعاز من المرحوم الشيخ محمد عبده المعلقات السبع وكتاب الكامل للمبرد، ووقفنا منه ومن كثير ممن وقف على جلية أمره على شيء من نوادره وغرائب أطواره وشواذ أخلاقه وما إلى ذلك مما يصح أن يتحف به قراء البيان. كان هذا الشنقيطي رحمه الله نادرة الفلك في الحفظ والاستظهار، وكان آية في اللغة والحديث وعلم الأنساب، وتلك شنشنة الشنقيطيين جميعاً، ومن ثم كانت القوة المفكرة في أكثرهم مشلولة، وهي سنة طبيعية معقولة، فكلما كانت الحافظة قوية يقضي حاضره، كانت المفكرة ضعيفة مسلوبة نائمة، وهو قانون التعويض يعطي ويمنع، ويقوى من هنا ويضعف من هناك. انفصل الشيخ من بلاده بادئ ذي بدء وقصد إلى مكة المكرمة واتصل بالشريف عبد الله أمير مكة وقتئذ فأكرمه وقربه إليه ولبث عنده زماناً وكان يحرش بينه وبين علماء مكة حتى وجدوا عليه وصارحوه العداء والشر فلم يطق الإقامة هناك فعمد إلى المدينة المنورة فوقع بينه وبين علمائها كذلك ما سبب تألبهم عليه حتى أخرجوه منها، وكان الرجل لبياض سريرته ونقاء طويته ولأن فطرته الطيبة لم يشبها شيء من المكر والخداع والمداهنة كان آية فيما يسميه المهذبون الشجاعة الأدبية وينعته السواد الأعظم من الناس بالحمق والسفه

وسوء الخلق فكان لذلك لا يخشى في الحق ذاماً وكان يقول للمخطئ أنت مخطئ وللكذاب أنت كذاب تصريحاً لا تعريضاً ومن هنا لم يستقر على حال من القلق وكلما حل مكاناً ضاق به أهلوه من العلماء وشغبوا عليه وناوأوه وسخروا منه اللهم إلا من كان منهم لا يعرف من نفسه نقصاً يخشى اشتهاره أو من كان يعرف أن ليس عالم إلا وهناك من هو أعلم منه فلا يستحي أن يفيد من هذا الرجل علمه مثل المأسوف عليه الشيخ محمد عبده الذي كان من شأنه مع الشنقيطي ما سيمر بك. فلما نبت به المدينة وأهلوها ولم ير المقام صالحاً ولى وجهه شطر القسطنطينية وكان ذلك أزمان السلطان عبد الحميد فاتفق وهو هناك إن لفت بعضهم عبد الحميد إلى الكتب العربية الموجودة في إسبانيا وأشاروا عليه أن يوفد الشنقيطي إلى تلك البلاد لأنه خير من ينهض بهذه المهمة فأرسل إليه السلطان أن يتأهب للسفر فلم يقبل ذلك إلا على شريطة أن يعزل ناظر وقف الشناقطة في المدينة المنورة وأن يعد له طباخاً ومؤذناً وأن يكافئه أحسن مكافأة بعد أن يرجع، وقد أشار الشنقيطي إلى ذلك في قصيدته المسماة هذا حظ جد من المبناه، وبراءة محمد محمود من عاب الجهل الذي عبناه بقوله: فكان من السلطان أمرك بعد ما ... شرطت أموراً لم تصادف أولي عزم ثم إن السلطان أرسله في وابور خاص وأعطاه مؤذناً وطباخاً وبعث معه أحد أدباء تونس فذهب إلى إسبانيا وكتب أسماء الكتب العربية النادرة التي لا توجد في القسطنطينية ثم رجع فتقدم إليه السلطان بأن يعرض عليه الأوراق التي عنده فتأبى حتى يأخذ مكافأته فأرسل إليه السلطان أن مكافأته ستصرف إليه فأصر على إبائه فما كان من السلطان إلا أن غضب منه وأهمل شأنه وشأن أوراقه فصادف إذ ذاك أن أوسكار ملك السويد والنرويج طلب إلى السلطان عبد الحميد أن يوفد إليه وفداً من علماء العربية يقف منهم على أشياء تتعلق بالقرآن الكريم وأشياء من الشعر العربي وأن يكون من هذا الوفد الشيخ الشنقيطي فأرسل السلطان إليه أن يتهيأ للسفر فقال حتى تعطوني مكافأتي فطار الغضب في رأس السلطان وأمر أن يزايل القسطنطينية في التو واللحظة. وبعد أن فارق الاستانة قدم إلى مصر ونزل على السيد توفيق البكري نقيب الإشراف والكاتب الشاعر المشهور فأكرم السيد وفادته واستأجر له ولجاريته داراً ووظف له وظيفة

ماهية شهرية قدرها خمسة جنيهات، فمن نوادره مع السيد البكري أن السيد طبع بعد اتصال الشنقيطي به بمديدة كتابه شرح أواجيز العرب فأقام الشنقيطي الدنيا وأقعدها وادعى أن البكري سرق هذا الشرح منه ونسبه إلى نفسه زوراً ولجأ آخر الأمر إلى المحاكم فلم تحكم له ونحن فلا نظن إلا صدقه - ومن نوادره أنه لما قدم إلى القاهرة ونزل على السيد البكري وكان يوم عيد فجاء إلى السيد البكري جماعة من العلماء يعيدون عليه وفيهم المرحوم الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر إذ ذاك والشيخ عبد القادر الرافعي فلما اطمأن بهم المجلس أراد الشيخ الرافعي أن يداعبه أو يحرش بينه وبين الشيخ سليم وكان يعرفه من قبل - فقال: لقد تنصرت بعدنا يا مولانا إذ تلبس الخف الأسود، فقال الشيخ البشري أجمع على كراهة لبس الخف الأسود، فقال الشنقيطي: ثبت في الصحيح أن النجاشي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خفين ومسح عليهما فما لونهما فقال البشري لا أدري فقال الشنقيطي: عجباً لك تدعى الإجماع ثم تقول لا أدري فسكت الجمع وكان في المجلس أحد الأفندية فقال للشنقيطي أفدنا إذن يا مولانا عن لون الخفين المذكورين فقال له سأعلمه للعوام فتلقوه من هناك، وعلى ذلك انفض المجلس، ثم أراهم الشيخ الشنقيطي بعد ذلك كتاب الشمائل وأن الخفين كانا أسودين فلما بلغ ذلك الشيخ البشري قال إن في رواته ضعيفين فهو غير مقبول ووضع في ذلك رسالة فلما اتصل ذلك بالشنقيطي قال ما معناه: إن الضعيف لا يرد إلا بما هو أصح منه والشيخ البشري أضعف منهما. ولعل القراء قد سمعوا بمسألة عمر وإن النجاة جميعاً على أن عمر ممنوعة من الصرف فجاء الشنقيطي وخطأهم جميعاً وذهب إلى أن عمر مصروفة وفي ذلك كلام يطول نرجئه إلى فرصة أخرى كما يجمل أن نرجئ الآن الشطر الآخر من الكلام على الشنقيطي وماذا أفادته اللغة العربية والناطقون بالضاد من علم هذا الرجل وسائر نوادره إلى عدد آخر قادم إن شاء الله. كلمات حكيمة قال عمرو بن العاص: إذا أنا أفشيت سري إلى صديق فأذاعه فهو في حل فقيل له وكيف ذاك؟ قال: أنا كنت أحق بصيانته، ويعزي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وكان

يكثر إنشاده - فقائل يقول هو له وآخر يقول أنه كان يتمثل به: فلا تفشين سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحاً وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً وأسر معاوية رضي الله عنه إلى عثمان بن عنبسه بن أبي سفيان حديثاً، قال عثمان فجئت إلى أبي فقلت أن أمير المؤمنين أسر إلى حديثاً أأحدثك به؟ قال: لا، إنه من كتم حديثه كان الخيار إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً بعد أن كنت مالكاً، فقلت له: أو يدخل هذا بين الرجل وأبيه؟ فقال لا ولكني أكره أن تذلل لسانك بإفشاء السر، قال فرجعت إلى معاوية فذكرت ذلك له، فقال معاوية: أعتقك أخي من رق الخطأ، ومن قولهم أصبر الناس من صبر على كتمان سره ولم يبده لصديقه فيوشك أن يصير عدواً فيذيعه وقال بعض الشعراء: ولي صاحب سري المكتم عنده ... مخاريق نيران بليل تحرق عطفت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمان لا تتتخرق فمن تكن الأسرار تطفو بصدره ... فأسرار صدري بالأحاديث تغرق وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأريب الموفق إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: إن هذا الرجل - يعني علياً - قد اختصك من دون أصحاب رسول الله فاحفظ عني ثلاثاً، لا يجربن عليك كذباً ولا تفشين له سراً ولا تغتب عنده أحداً: فقيل لابن عباس كل واحدة منهن خير من ألف دينار فقال كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف، وقال المهلب بن أبي صفرة: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر وأعلى أخلاقه نسيان ما أسر إليه وقال معاوية للأحنف بن قيس في شيء بلغه عنه فأنكر ذلك الأحنف فقال له معاوية بلغني عنك الثقة فقال الأحنف يا أمير المؤمنين إن الثقة لا يبلغ وفي ضد هذا كله يقول بعض الشعراء: لا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي وإن أحق الناس بالسخف لامروء ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب فما رأى القراء في هذا الشاعر الذي يحق لنا أن نشكره إذ أفهمنا أن الشعراء ومن إليهم من

ذوي العواطف المضطربة والأعصاب المريضة لا يطيقون كتمان الأسرار فينبغي لذلك أن لا يفشى إليهم سر. هذا ومما يستحسن أن يذكر هنا وإن لم يكن من هذا الباب قول القائل: كتمت الهوى حتى إذا نطقت به ... بوادر من دمع تسيل على خدي وشاع الذي أضمرت من غير منطق ... كان ضمير القلب يرشح من جلدي الحسن البصري والخليل بن أحمد يعجبني من زهاد سلفنا الصالح الأولين نفر تعمر سيرتهم وأحوالهم صدري ويملأ كلامهم أذني صواباً وحكمة سماوية تنحدر من الأذن إلى صفحة القلب فينبثق لها نور يجلو ظلام البصيرة - من هؤلاء النفر رجلان كانا المثل الأعلى للعقل والورع واحتقار الدنيا ثم للبيان الإلهي الذي كانه وحي يوحى، هما الحسن البصري والخليل بن أحمد، أما الحسن البصري فكان من جلة التابعين الذين أدركوا أصحاب رسول الله وساداتهم، وهو من أبناء الموالي إذ كان أبوه يسار مولى زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وأمه خيرة مولاه أم سلمة زوج النبي قالوا وربما كانت تغيب أمه في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فيدر عليها ثديها فيشرب منه فيرون أن تلك الحكمة من بركة ذلك، قال أبو عمرو بن العلاء ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف الثقفي فقيل له فأيهما كان أفصح قال الحسن - ونشأ الحسن بوادي القرى وكان أجمل أهل البصرة حكي الأصمعي عن أبيه قال: ما رأيت أعرض زنداً من الحسن، كان عرضه شبراً، فمن كلامه رضي الله عنه: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت: وله: كان الناس ورقاً لا شوك فيه وهم اليوم شوك لا ورق فيه: ورأى يوماً رجلاً وسيماً حسن الهيئة فسأل عنه فقيل إنه يتنادر للملوك يضحكهم بمجونه ونوادره ويحبونه، فقال لله أبوه ما رأيت أحداً طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا - وكانت أمه تقص للناس ودخل عليها يوماً وفي يدها كراثة تأكلها فقال لها يا أماه ألقي هذه البقلة الخبيثة من يدك فقالت يا بني إنك شيخ قد كبرت وخرفت فقال يا أماه أينا أكبر. وإذا أنت أردت استقصاء كلمات هذا الرجل العاقل الحكيم فعليك مطولات كتب الأدب والتاريخ ونحن إنما نأخذ من كل شيء طرفاً.

وأما الخليل بن أحمد فأنت تعلم أنه الذي وضع علم العروض وأخرجه إلى الوجود، قال حمزة بن الحسن الأصبهاني، وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه ولا على مثال تقدمه احتذاه وإنما اخترعه من ممر له بالصفارين من وقع مطرقة على طست ليس فيهما حجة ولا بيان يفسران غير جوهرهما، فلو كانت أيامه قديمة، ورسومه بعيدة، لشك فيه بعض الأمم لصنعته ما لم يصنعه أحد منذ خلق الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره ومن تأسيسه بناء كتاب العين الذي يحصر لغة أمة من الأمم قاطبة ثم من إمداده سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه الذي هو زينة لدولة الإسلام: انتهى كلام حمزة - وليس هذا الذي نقصد إليه وإنما الذي نعجب به من هذا الإمام عقله وتقاه وزهده في حطام الدنيا، قال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال، ولقد سمعته يقول: إني لأغلق على بابي فما يجاوزه همي: وكان يقول أكمل ما يكون الإنسان عقلاً وذهناً إذا بلغ أربعين سنة ثم يتغير وينقص إذا بلغ ثلاثاً وستين، وأصفى ما يكون ذهن الإنسان في وقت السحر - واجتمع الخليل وعبد الله بن المقفع ليلة يتحدثان إلى الغداة فلما تفرقا قيل للخليل كيف رأيت ابن المقفع فقال رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله وقيل لابن المقفع كيف رأيت الخليل فقال رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه - وكان له ولد متجلف فدخل على أبيه يوماً فوجده يقطع بيت شعر بأوزان العروض فخرج إلى الناس وقال إن أبي قد جن فدخلوا عليه وأخبروه بما قال ابنه فقال مخاطباً له: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا وكان يتردد إليه شخص يتعلم العروض وكان بعيد الفهم فأقام مدة ولم يعلق على خاطره شيء منه، قال الخليل فقلت له يوماً قطع هذا البيت: إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته ثم نهض ولم يعد يجيء إلي، فعجبت من فطنته لما قصدته من البيت مع بعد فهمه - وكان رحمه الله كثيراً ما ينشد هذا البيت:

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال

قتل الأطفال

قتل الأطفال يعلم الناس أن العرب في جاهليتهم الأولى كانوا يئدون البنات، ويقتلون البنين، خوفاً من عار يصيب شرف العشيرة من فتياتها، وخشية إملاق من تكاثر فتية العشيرة وغلمانها، إذ كان الرزق في الصحراء شاقاً على أهلها، وكان الطعام لا يظفر به إلا بشق النفس، وتهالك الروح، وكان الطعام لا ينال إلا قسراً، والأكل لا يقع للفم إلا انتهاباً، فخشي القوم أن تجوع بطون الجميع، فآثروا أن يقضوا على أنفس القليل، ليعيش الكثير، وقد يكون في تلك العادة الجاهلية روح من الوحشية والقسوة، ولكنه لا يزال بعد نظاماً اجتماعياً، وتنفيساً للحياة من أن تخنق فينقرض الأهل، ولا يبقى طفل يوأد، ولا وليد يخنق، ولكنا لا نستطيع أن نرتضي ذلك النظام، لأن الرحمة مادة العيش، ولزام الشرائع، ونحن يهون علينا أن نصاب في كثير من فروع الحياة من وراء الرحمة إذ نستخدمها في مواطن غير مواطنها، وتسلم الرحمة من الأذى فتعيش بجانبنا. ولا يظن القراء أن عادة قتل الطفل والصبية، إناثاً وذكراناً، قد انقرضت إذ بادت الجاهلية الأولى وأن العرب هم واضعو ذلك النظام الخشن وحدهم، وأن الشمس اليوم تطالع العالم فلا تشرف على والد يغيب أصابعه في عنق وليده وتغيب عن الدنيا وتنيب عنها أخاها القمر فلا يدرك إما تخنق طفلتها وهي في نشيجها مفحمة من البكاء، بل لا تزال تلك العادة شائعة في كثير من أقطار الدنيا وبلاد الله، وفي أقاليم لا يعز فيها الطعام، وتخوم سرية بالغذاء وخبأ الأرض والسماوات ففي قبائل الأسكيمو الغربيين يقتل الأطفال لا خشية مسغبة أهلهم وإنما يخنق الضعفاء منهم والمشوهون، ولا يسمح للولدان التوائم بالحياة، لأنهم يعتقدون أن الشؤم واقع بمولدهم، وأن النحس ملم بخروجهم إلى نور الشمس وفي قبائل تسمى الإيبونز في أمريكا الجنوبية يقتلون الأطفال الذكور أكثر من قتلهم الإناث، فإذا أبقوا يوماً على طفل منهم، لم يلبثوا أن يبيعوه ويستبدلوا به زوجة، وأما الفتاة فغالية الثمن سامية القيمة. وقد أرجع العلماء الكبار مثل هربرت سبنسر ودارون ووستر نمارك وماك لينان عادة قتل الطفل إلى أربعة بواعث، نحن باسطوها للقراء. فالباعث الأول ثورة غاضبة في النفس وسورة حادة تغذوها الوحشية فقد ذكر دارون أن الرجل في جزيرة تيارا دل فيوجو ومعناها في الإسبانية أرض النار وهي تلك الجزيرة

المترامية على سفح قارة أمريكا الجنوبية، يثب إلى طفله فيفدخ جمجمته، لأنه قلب سلة السمك، وفي أستراليا إذ يرى الوالد ضبيه مريضاً يقتله فيضع لحمه فوق النار فيعده شواء شهياً لمائدة الغذاء، وفي بلدان من بلدان أفريقيا اعتاد الصائدون أن يضعوا أطفالهم في حفر الأسد ليغروا الأسد على الوقوع فيها والارتطام في قاعها. والباعث الثاني هو تنازع البقاء ففي بولينزيا إذا أجدبت الأرض وحل المحل وضع السكان ضريبة من اللحم الآدمي يقدم من كل أسرة من أسر البلد فلا يختارون إلا جيد تلك اللحمان، وهو لحم الأوزي أي لحوم الأطفال، وفي جزر واي هاي واي يخنقون الأطفال أو يئدونهم بعد الطفل الرابع، لأنهم لا يستطيعون أن يحتملوا أكثر من أربعة أطفال للمرأة وبين القبائل الصائدة والعشائر الحربية التي دأبها الحرب والقتل، يرى الرجال أن النساء لا يستطعن أن يستخدمن كدواب للحمل كما هي في الجماعات الزراعية إذ يعتقدون أن الفتيات قد يقعن في إشراك فتية القبيلة المعادية لهم، ولذلك يقتلون البنات في طفولتهن على أن الدافع الذي كان يدفع جاهلية العرب إلى وأد البنات لا يزال يغري قبائل من الهنود بذلك القتل وتلك سنة فاشية في راجبوتا وغيرها من البطون والعشائر ففي الطبقة النبيلة، وبين أشراف رجبوتا يعتقدون أن من العار الأكبر أن تظل الفتاة بلا زواج وأنه لا يجوز للعذراء أن تتزوج من دونها في طبقتها ومركزها الاجتماعي، ثم لا يزال زواج البنات أمراً غالياً باهظاً يستنفد ثروة والدها، إذ قد يكلف زواج البنت والدها الراجا ما يربي على مائة ألف جنيه فلاجتناب كل ذلك وللتفادي من هذه الأداة جعل كل رجل يقتل نسبة محفوظة من بناته. والباعث الرابع أن يكون سبباً من الأسباب الاجتماعية أو شرعة من الشرائع السياسية فقد كان الأطفال في اسبارطة وفي كثير من بلاد الرومان القدماء يقتلون بأمر الحكومة إذا كانوا ضعفاء أو مشوهين. وقد كان أرسطو وأفلاطون يمتدحون تلك الشرعة ويمجدونها ويرون سدادها ورجاحتها، وإن كان الناس اليوم يعيبون على الفيلسوف نيتشه أن خرج إليهم بذلك المبدأ الذي كان أبوه أرسطو وهو سيد فلاسفة الأرض يحترمه ويؤمن بصلاحه. على أن جريمة قتل الأطفال ليست سيئة تشين أهل الممالك البعيدة عن تخوم المدينة، بل لا تزال شائعة في أهل الحضارة، ومدنية القرن العشرين، وكم نسمع عن أطفال وجدوا

طريحين في عرصات الطرق أو مخنوقين وملقاة جثثهم في ركن من أركان الدور والحوانيت، وهي كثيراً ما ترجع إلى الجنون أو الكراهة الشديدة التي لا موجب لها للطفل أو للزنا مخافة العار الذي يصيب الأم من مولد طفلها.

التصوير المضحك

التصوير المضحك والنقد العجيب توماس كارلايل من كتاب انجلترا المعدودين، وأعلام فلاسفتهم المخلدين، كاتب غريب الأسلوب يهز الفؤاد هزاً وينقل روح القارئ من عالم الأرض إلى عالم السماء، وهو فيلسوف ولوع بالعظمة، مفتون بالمثل الأعلى يحزنه أن يسف إلى الأرض ولا يرضيه أن يعيش إلا عيش الملائكة ولعل كتابه الأبطال والبطولة أول كتاب في نوعه، وأحر مؤلف أسلوباً وفلسفة وخواطر. على أن كارلايل كان لا يزال غريب الأطوار، متقلب الخلق، لا يرضيه أحد من الناس، ولا يعترف بوجود أحد، ولم يفلت كاتب ولا شاعر من شعراء زمنه وكتاب جيله، ولم ينج الكتاب الذين سبقوه، من سخريته ونقده والتهاتف به، وقد جمع الناس بعده الآراء التي أدلى بها عن كثيرين من الكتاب والشعراء، وطائفة من الصور المضحكة التي اخترعها عنهم، فلم يجرأ أحد أن يرمي الرجل بالجنة ويقرفه بالتحامل ويتهمه بالسخف، بل احترم الناس منه آراءه وإن كان بعضها باطلاً، والآخر مغالى فيه. ونحن نقتطف للقراء جملة من هذه الصور تفكهة لهم وترويجاً: قال عن الشاعر بيرون وهو ومكانه في طليعة شعراء الأرض - بيرون ولد رقيع اتخذ الحزن عياقة والهموم زياً من الأزياء المستحدثة. وعن توماس مور - وهو من كبراء الشعراء - تفاهة شهوانية ذات اسم عظيم وقال عن استوارت ميل، صاحب كتاب الحرية - أقرب شبه رأيته للرجل الحقيقي. وعن الشاعر ورد سورز - نوع غريب من الإنسان، ولكنه في جوهره ومظهره إنسان صغير، وقال عنه بعد سنين عدة، وقد بلغ الشاعر عهد الشيخوخة، رجل عجوز غلباوي بريالة، وقال عنه كذلك. . . عود صديء قديم يلزمه وتران أو عدة أوتار حتى يستطيع الإنسان أن يسمع نغمه! سدني سمث - رجل من الشحم والعضل لا غير، ويظهر أن ليس فيه روح قط. الشاعر كولريدج - نفس يائسة لا أمل لها، ولا شغل لها إلا الوعظ. وعلى ذكر ذلك - سأل كولريدج الكاتب شارلز لام هل سمعتني يوماً أعظ، فأجاب لام، لم

أسمع منك طول حياتي شيئاً آخر!. وقال عن الشاعر ما كولي مؤرخ انجلترا العظيم، يحتاج إلى أصول الإيمان. ثم كتب عنه بعد ذلك، مخلوق مسكين، لا حيلة له إلى فهرسة الأدب والتاريخ ولا خيال فيه ولا روح، كافر ملعون له نظارات، ولا عينان وراءها ووصفه في موضع آخر فقال هو شلال نياغرا في الكلمات والنظريات والآراء العادية السقيمة، وكل ما كان فيه قد تحول الآن إلى لسان، وقال عن كتب التاريخ التي وضعها ما كولي ليس فيها معنى قط، بل هي ليست إلا مجموعة من الرياح الكلامية الفارغة. وقال عن الكاتب شارلز سامر، لا إيذاء منه مطلقاً، هو أشبه بقطعة النقود الممسوحة التي زالت عنها جميع آثار سكتها!. ولم تقتصر دعاباته هذه على الكتاب والشعراء بل تناول جمعاً من القواد والعظماء أيضاً ونحن ننقل شيئاً منها. قال عن مازيني - رجل من قواد إيطاليا العظماء - أنه رجل صغير جميل مفعم بالإحساسات والنغمات والفضائل! وعن لويس نابوليون - رجل غشاش نصاب رأى الناس مستعدين لقبول الغش فغشهم، وقال عن نابليون بونابرت: إن ذهنه أشبه شيء بمنجم منطفئ، هو ممثل تراجيدي مضحك، أو ممثل مضحك مبك، وذكر أيضاً عنه هو نابليون هو قاطع الطريق في التاريخ الإنساني! وعلى ذكر ذلك نبسط للقراء حادثة غريبة، وهي أن نابليون عندما كان في إيطاليا، لتتويجه ملكاً عليها، أقيم ثمة مرقص عظيم في ميلان - بعد حفلة التتويج بزمن قصير، فلمح نابليون سيدة وضعت في مشدها باقة من الزهر فخطفها من صدرها وقال: إن الطليان كلهم لصوص! فأجابت السيدة بكل أدب - كلا يا مولاي ليسوا جميعاً، ما بونابرت! ومعنى العبارة الأخيرة، أنت فقط يا لصي! وكتب يوماً نابليون إلى الماجور شل وكان رئيس حزب في إيطاليا كتاباً بهذا العنوان: إلى شل زعيم اللصوص! فرد عليه بكتاب جعل عنوانه: إلى بونابرت زعيم جميع اللصوص!. وقال عن ثكري - وهو من أكبر كتاب انجلترا المعدودين - رجل متوحش عياط، جائع.

فلو أن رجلاً قام اليوم فبسط آراء له على هذا النحو في الكتاب والشعراء والمفكرين في مصر لقامت ولا شك قيامة الناس عليه، ولرموه بالهوس والتخريف، واضطغنوها عليه إلى الأبد لأننا لا نجلد على النقد وتجزع نفوسنا من الدعابة.

أحداث الشهر

أحداث الشهر النكبة الأهلية الكبرى من أكبر أحداث هذا الشهر أكتوبر في مصر، نازلة ألمت بساحة هذا البلد فأدمت القلوب، وسحت لها العيون، وعم الأسى الأرواح، وحد عليها عالم الأدب، وعطل العالم النسوى من أكبر فخره وأروع حليته، وأنهد ركن من النهضة الأدبية التي نحن بسبيلها، وفقد عالم التفكير علماً خفاقاً من أعلامه، وخسر طلاب التهذيب والدعاة إلى الإصلاح والواثبون إلى ترقية الأسرة المصرية والسمو بها إلى التربية الحديثة القويمة، عنصراً من ألزم العناصر لرقي الأسرة، وهادياً من أسمى الهداة إلى السنن الصالح، والتهذيب المنشود، ذلك أن اغتالت المنون سيدة من كرائم الكاتبات، وزوجاً من خيرة الأزواج، وابنة رجل من مشيخة الأدب، وأهل الأسماء النبيلة، والذكر الرفيع، والعمل الصالح، فلم يبق في مصر إنسان فتح في حياته صفحات كتاب، ولا رجل أدرك شيئاً من تاريخ النهضة الحديثة، ولا زوج عرف فضل الزوجة الكريمة المهذبة، ولا أب اعتز بفلذات كبده، وازدهى بكرائم بناته، إلا جزع للنبأ، وطار لبه للمصاب، فبكى العلماء والأدباء والمتأدبون وعامة القراء في أثر تلك الراحلة الكريمة، إذ فقدوا أدباً رائعاً، وتفكيراً طلياً طريفاً، وخواطر عليها أثر الإخلاص والنبل والسمو الذهني، وابتأس الأزواج إذ غاب عن حياة الأسرة المصرية المثل الأعلى للزوجة، والقدوة الحسنة لحياة العشيرة، واذكروا مصاب زوج أسيف كان عزيزاً بتلك النعمة العظيمة، فخوراً مغتبطاً بتلك النفيسة الغالية، وتقطعت أكباد الآباء، وزفرت زفرات الشيوخ، إذ انتهى إليهم جزع أب كان خير الآباء لخير البنات، وكان بكنزه العظيم عزيز الجانب، وكان بتلك السيدة الممتعة الأدب، المستضيئة الخاطر فرحاً قرير العين. تلكم هي المرحومة ملك ناصف، باحثة البادية، التي لها الشأو البعيد في الأدب، والسهم الأكبر من البحث، والنصيب الأجزل من الفلسفة العصرية، والخواطر الجميلة المهذبة، سيدة هي فخر نسائنا، وكاتبة في طليعة أديباتنا، أخذت الذكاء والفضل مطبوعاً، وجرى في غريزتها من أبيها حفني ناصف، الشاعر الحلو الأغاريد، الفكه القريض، الجم الأدب، فتجلى فيها أدبها الخصيب، وذكاؤها المفرط، غريباً شاذاً نادراً آية عجب ودهشة، في وسط عالم نسائي ما فيه إلا معجبة بسوارها، مزهوة بأقراطها، ومزركشة بأثوابها، وحرائر

معاطفها وإلا من برزة خلت من خفر وحياء فأخذت الظهور في عالم الأدب مصيدة، وبدت بين الكتاب والكاتبات لتتم لها الأحبولة، وادعت العلم وتكلفت التفكير، ولا تفكير ولا علم إلا بأمور نسائيتها وسخفها، ولذلك كان رحيل سيدة فضلة وكاتبة بليغة ومفكرة رائعة التفكير، أوقع في النفس من وفاة رجال عديدين من النافعين، وطائفة من العظماء الكبار الأذهان، لأننا نستطيع عن الرجال تأسياً، ولهم بديلاً وإضراباً، ولكن فقد كاتبة نحن في أشد الحاجة إلى قلمها وذهنها وروحها السامية أبلغ أثراً من ذلك وأعظم وقعاً، إذ هيهات أن تجود الأقدار بمثلها، وهيهات أن يخرج العالم النسائي في مصر ضريبة لها إلا على فترة من القرون وهون من الأجيال، وإذا كانت الطبيعة تضن على الدنيا بالعظيم فتدع بينه وبين التالي له صفحات خالية في سجل الدهر ولا تخرجه إلا بعد أن تعد له العدة من الظروف والوسط والزمن، فهي لا تزال أضن بالعبقريات، وأبخل بالسيدات العظيمات، لأن العظمة عنصر غريب لا يوافق النساء، والعبقريات منحة لا تزين الغانيات، ولكن الأقدار تتخير المرأة التي تصلح لغرضها الذي تريده القوة الإلهية فتحبوها بكل الألوان والمستلزمات التي تطلبها العظمة والعبقرية، ولذلك كانت السيدة التي يؤتيها الله تلك الهبة أروع من الرجل الذي قد يمنحها، ولو أنت أردت أن تحصي عدد النساء العظيمات في تاريخ أمة من الأمم، لما أعجزك الإحصاء، ولا شرفن عليك من خلل القرون والأجيال، فإذا هن قلائل وإذا بك ترى بين كل منهن والتالية لها زمناً طويلاً، وعهداً بعيداً. فكيف عمركم الله نستطيع صبراً على نكبة أهلية كهذه غمت حياة الشعب جميعاً، وتناولت أهم فروع عيشنا فنزلت بها، ولكنا خلقاء بأن نتجمل بالصبر، طوعاً أو كرهاً، ونسوق العزاء إلى الثاكل الذي دمي فؤاده من أثر نكبته، ذلك الشيخ الجليل، والأديب الممتع العذب المحضر، وإلى الزوج الأسيف المحزون، الذي ألم به هذا المصاب العظيم، فكان منه ذا أثرين، وهد منه ركنين، إذ فقد زوجه الصالحة، وربة بيته العامر، وكان من هذه الناحية زوجاً، ثم خسر ضوء ذلك الكوكب الذي كان متسامياً في أفق الأدب والتفكير، وكان من هذه الوجهة أديباً متعلماً مهذباً، ولكن حسب ذلك الزوج الكريم، عبد الستار بك الباسل فخراً أن زوجه ستروح وإن غابت عن حياة هذه الأرض، في القلوب، وذكرها في الأسماع، وطيب أحدوثتها في الأفواه، وإن الله قد أراد لها نعمة الخلود.

هذا وسنأتي على ترجمة حياة الفقيدة ملخصة بقلم حضرة الأستاذ الأديب الشيخ مهدي خليل المدرس بمدرسة عبد العزيز الأميرية مع اختيار شيء من منظومها ومنثورها في العدد القادم إن شاء الله.

مجموع المتون

مجموع المتون للعمرية والبكرية والعلويتين لما نظم سعادة حافظ بك ابراهيم متن العمرية تكلفنا أن نكتب لقرائنا كلمة عن هذا المتن الذي جاء بدعاً في نظم المتون، وما كنا علم الله نظن يومئذ أن لهذا المتن ذيولاً وحواشي، وأنه سيحدث في الأدب إحداثاً تفتق في جوانبه، وتطفئ من كواكبه، حتى جاء عبد الحليم أفندي المصري ببكريته وجاء العرب بعلويته والشيخ القصري بما لا نعرف كيف يسمى، أعلوية، أم سفلية. . . رأينا قراءة متن العمرية تميت النشاط وتخمل الرغبة في الأدب فلا ندري كيف انبعث القوم لتقليده كأنه لا ذوق لهم في الشعر ولا بصر لهم بفنونه وصناعته، ولو عرفوا لعرفوا أن الأحق بالشاعر الفحل أن يصلح غلطة حافظ ويكفر عن سيئته ويستن للأدب غير سنته فيقرض عمرية جديدة يدور لها الفلك وينقض تلك البنية الخربة المتهدمة ويرفع في مكانها صرحاً من الشعر العربي المتين يتراءى فيه الذوق والفن والقريحة أحسن ما تكون ثلاثتها في أثر من آثار البيان. انحدرت بكرية المصري كما انحدرت عمرية حافظ بين الرايات والمقاعد وكان لكلتيهما حفل ومنبر ولكل من الرجلين قوم يعضدونه وينهضون بأمره ويدعون إليه ويلقون من شهرتهم على قصيدته فما كدنا نفهم من هذه الظاهرة الاجتماعية شيئاً لأن القصيدتين سواء حذوك مثلاً بمثل إلا أن في البكرية عامية وتهافتاً وهنات أخرى تسقط بها دون العمرية، ثم أرسل العرب علويته بلا طبل ولا زمر فكانت هذه فضيلة فيه لأنه أخلص النية ولم يحاول أن يسترهب الناس ويسحر على أعينهم بالأسماء والألقاب وقد نظم كما نظم صاحباه وتمت لنا ثلاثة متون. ونحن فلا نشك في أن حافظاً والمصري والعرب يعدون من شعراء البلد والبلد متخلف في أشياء كثيرة فلعل لهم عذراً ونحن نلوم، ولعله ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولعل نسق الشعر الذي نتخيله في مثل هذه السير التاريخية الكبرى مما يفوت طوقهم ولا يمكن أن يواتيهم بحال من الأحوال لقصور علمهم بوجوه الكلام وسياسته وقلة بضاعتهم من الأدب ولضعف ملكة التمييز في أكثر قومنا وانصراف كبرائنا عن الأدب وفنونه حتى ليس فيهم

متوسم به ولا محقق فيه ولا من يقام لرأيه في تلك الصناعة وزن. ولا أدل على ما نحن فيه من قاصمة الظهر وغصة الحلق وهذه القصيدة التي سموها علوية القصري والتي يقول في مطلعها: عبرت بالعبرة المجراة لا الكلم ... عن حال قلب سليمٍ بالهوى كلم له عليه من الحكم المنفذ ما ... للعاصفات على الخيزور والسلم يسيل سيل سحاب الدمع منك على ... وادي الخدود وقلب القلب في ضرم فهذا الشعر الذي لا يسك سمع أديب حتى يتخيل من ألفاظه ونسقه أن جداراً ينقض على رأسه حجراً حجراً ولا يكاد يأتي على آخره حتى يمثل له أنه يسمع معاول رجال التنظيم ينبشون عنه تحت الردم. . . هو الذي نصب له فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية نفسه فنوه باسم ناظمه ودعا العلماء والكبراء والأدباء إلى الاحتفال به وسماع قصيدته فذهبوا وسمعوا ورجع بعضهم كالمغشى عليه من الموت. لا تعنينا هذه المتون ولا شعراؤها فهي هي وهم هم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؟ ولكن ما بال هؤلاء الكبراء عفا الله عنهم لا يميزون الخبيث من الطيب؟ وما لهم يحدثون في الأمة هذه الأحداث ويشهرون ببعض أدبائها تشهيراً وكانوا في ستر وعافية من الله وهم لا يجهلون أن صنيعهم هذا مما تفسد به أذواق الناشئين في الأدب وتخبث عليه نفوسهم وتضعف منه قرائحهم، وأنه يبعث على الغرور ويزينه للناس ويخلط في ألوان الأخلاق، وجملة القول أنه يجني على الأدب والأخلاق معاً. إنهم إن يكونوا يعرفون ذلك ويأتونه فتلك مصيبة وإلا فالمصيبة أعظم، والحق فيما نرى أن كبراء الأمة لا يبالون بالأمة من هذه الجهة وإنهم لا يزالون على أثر من العهد القديم الذي جعل احترام بعض الطبقات ديناً وأمرهم شرعاً وسن لهم من مذاهب الاجتماع حلالاً وحراماً وأوجب على الضعفاء حق المنصب والجاه، وكأنهم أيضاً لا يبالون بما حولهم من عيون تبصر وآذان تسمع وقلوب تشعر وأفهام تعي وأذهان تنتقد، وكأنه لا حكم عليهم لأحد مع أنهم في عهد جعل لكل الأمم على كبرائها ما للعاصفات على الخيروز والسلم. . . كما يقول شاعرهم القصري. ربنا إن أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الجمعية الجغرافية السلطانية

الجمعية الجغرافية السلطانية جمعية المؤاساة الإسلامية بالسويس أهدى إلينا حضرة صاحب العزة عبد العزيز بك فهمي سكرتير الجمعية الجغرافية السلطانية نسخة من برنامج أعمال هذه الجمعية - ونظراً إلى أن هذا العدد لا يتسع للقول على هذه الجمعية بتفصيل أرجأنا ذلك إلى العدد القادم - وكذلك أرجأنا مضطرين كلمتنا على جمعية المواساة الإسلامية بالسويس إذ أهدانا حضرة سكرتيرها الأديب علي أفندي عبد السلام نسخة من قانونها.

تاريخ الأدب التركي

تاريخ الأدب التركي كثير من قراء العربية لا يعرفون شيئاً من أدب اللغة التركية وتاريخه وتطوره ومناحي أدباء الترك في منظومهم ومنثورهم - لذلك رأينا أن ننشر في البيان كلمة ممتعة تبصرنا بعض الشيء بآداب هذه اللغة، نقلها من الانكليزية حضرة الأستاذ الفاضل حسين أفندي لبيب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي - قال: أدب العثمانيين مثل حضارتهم مستمد من الفرس بواسطة السلاجقة ومن الطبيعي أن تجد مشابهة عظيمة بين كتاباتهم وكتابات أساتذتهم الفرس ولا يدهشنا أن نرى في آداب الشعبين الفارسي والتركي روحاً واحدة واستعارات وتشابيه متوافقة وأوزاناً وبحوراً للشعر متشاكلة، وترى الشعر التركي أرقى في مجموعه من النثر التركي كما أن الشعر الفارسي أرقى من النثر الفارسي وأمهات القصائد الفارسية والتركية البليغة من مميزاتها عذوبة اللفظ وصفاء المعنى والتناسب بين أبياتها عبارة وموضوعاً على أنها من الجهة الأخرى مظهر من مظاهر الصناعة والتكلف فترى الشاعر ينحو نحو الإغراق والمبالغة ويأتي بالمعاني المبتذلة المألوفة ويكثر من التورية ونحوها من أبواب البديع حتى لقد تسقط معانيه للهوه بهذه المحسنات اللفظية إلى درجة المعاني الصبيانية وأبواب الموضوعات الشعرية التركية والفارسية محدودة ما عدا القصائد التاريخية الطويلة فإن موضوعاتها متعددة ومعانيها مختلفة، والعشق بما فيه من الآلام واللذائذ يحق له أن يكون في المحل الأول من الأدب التركي وكذلك يتغنون بمدح الربيع ويصفون أصوات البلابل وجمال الأزاهر ومظاهر الكون الجميلة كل هذا ممزوج بالإحساس الديني كشكر الله والابتهال إليه والتضاؤل أمام قوته ومن الغريب أن الترك مع أنهم من الشعوب الحربية ليس لهم من الشعر الحماسي ما يعتد به وهذا إنما سببه أن الفرس أساتذتهم لم يرد لهم شعر حماسي إلا ما جاء في قصائدهم القصصية الطويلة. والقصائد التاريخية المشار إليها فيما سبق مقفاة كل بيتين من قافية واحدة من أول بيت لآخر بيت والقصائد التركية في العادة لا تزيد على 24 بيتاً يضمن البيت الأخير اسم منشئها. أما النثر التركي على أحسن حالاته عندهم فإنما يصفه الفرنجة يميل كتابه إلى الغلو والمبالغة وحب المحسنات اللفظية والإسجاع مع تكلف المعاني وتشويش العبارة، والفرنجة

وأصحاب الأذواق السليمة من كتاب العرب يكرهون تكلف الأسجاع والتزامها في كل عبارة فلا بدع إذا عابوا على أدباء الترك شغفهم بالسجع إلى درجة الإفراط مثل سعد الدين المؤرخ التركي القديم أما حيث لا يلتزم السجع في النثر التركي فترى المعاني أقرب إلى الطبع وأدنى إلى الذوق السليم. وإذا بالغ الكتاب في تجريد كتاباتهم من المحسنات اللفظية وأقصوا كل سجعة أو لفظ رشيق أصبح كلامهم جافاً غير جذاب. والأدب العثماني واسع غني فالمنشئون من كل نوع وخصوصاً الشعراء وجدوا في كل العصور وكانوا متعددين يقصدون القصائد الكثيرة العدد والطويلة المدى ولذلك سنكتفي في هذه العجالة بذكر قليل من أشهر مشهوري الشعراء الذي لهم المحل الأرفع في تاريخ بلادهم الأدبي. فمن أقدم الشعراء العثمانيين الغازي فاضل وقد دبج يراع الشاعر شيخي القرمياني قصيدة تاريخية طويلة ضمنها ذكر خطوب شرين البطلة الفارسية المشهورة في حكايات الفرس كما أن يازجي أوغلو كتب السيرة النبوية الشريفة شعراً وسمى قصيدته المحمدية وأهم كتب منثور العصور التركية القديمة كتاب حكايات الأربعين وزيراً جمعه جامع في النصف الأول من القرن الخامس عشر سمى نفسه شيخ زاده ولعل اسمه الحقيقي كان أحمد والحكاية الآتية بلسان الوزير العشرين تظهر روح حكايات هذا الكتاب وترى منها أن عبارته كانت بسيطة لا تكلف فيها. كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك عظيم الشأن وقد خرج مرة للصيد والقنص وفيما هو عائد إذ بصر بشبح فقير في أسمال بالية وحال رثة ينادي من نقدني ألفا ذهباً بعته نصيحة من النصائح الغاليات قال الراوي فلما سمع الملك مقالته وفهم دعوته لوى عنان فرسه إليه وأقبل عليه وسأله ما هي تلك النصيحة الغالية فقال إذا أردت ذكرها فانقدني مهرها فأمر الملك حاشيته وغلمانه بإعطاء الشيخ المدعي ما طلب - ألفاً من الذهب - فلما حصل على غنيمته شرع يشدو بنصيحته قال: أيها الملك المهيب الرفيع الجناب إذا هممت بفعل أمر فاحسب حساب عاقبته فلما أتم مقالته سخر منه غلمان الملك وأهل حاشيته وقالوا هذه نصيحة مألوفة معروفة على أن الملك لم يكترث بهم وزاد الشيخ إكراماً وإحساناً

وأمر بكتابة النصيحة على جدران قصوره وأبوابها، قالوا وكان لهذا الملك خصم لدود ملك جبار عنيد يتربص به الفرص ويكيد له ما استطاع لذلك سبيلاً ولما أعيته الحيل ولم يصل إليه بمكروه قال في نفسه لماذا لا أذهب إلى حلاق الملك وأعده بالمال الجزيل وأعطيه موسى مسمومة يفصد بها الملك فيموت وأتخلص منه علي أهون سبيل وسرعان ما غير ملابسه وتنكر وذهب إلى الحلاق وأعطاه ألفاً ذهباً وموسى مسمومة فأجابه الحلاق وكان شرهاً يحب المال حباً جماً إلى ما طلب ووعد بتنفيذ ما رغب ولما مرض الملك أرسل في طلب الحلاق ليفصده فسار إليه ومعه الموسى المسمومة فوجد الغلمان قد هيئوا له آنية يتلقى فيها دم الفصد وكان مكتوباً على حافتها نصيحة ذلك الشيخ الذي اعترض الملك وهو راجع من الصيد والقنص وهي إذا هممت بفعل أمر فاحسب حساب عاقبته فلما تأملها الحلاق قال في نفسه إنني الآن على وشك فصد الملك بهذه الموسى المسمومة فلا بد أنه يموت وإذا مات لا يتركونني حياً بعده وإذن لا أنتفع بالمال الذي أعطيته قال هذا في نفسه ثم أخفى الموسى المسمومة وأخرج غيرها بريئة من السم فلما رآه الملك يبدل موسى بغيرها سأله عن السبب فقال إن الموسى الأولى قد علا حدها التراب فراب الملك أمره وقال له إن الموسى الأولى لم تكن من المواسي الخاصة بي فلا بد من سر دفين وأمر خفي أخبرني سريعاً وإلا أذقتك كأس المنون فعندها لم يسع الحلاق إلا أن يقول الحق وحكى له السر من أوله إلى آخره وإن عزمه على الإيقاع بالملك قد تحول منذ وقع نظره على النصيحة المكتوبة على الإناء قال الراوي: فسر الملك من صراحته وانتصاحه بالنصيحة فخلع عليه خلعة سنية وأجاز له الانتفاع بالذهب الذي أخذه من عدوه ثم قال الملك: حقاً إن نصيحة ذلك الشيخ المبارك تقدر بمئات الألوف من الذهب لا بألف واحدة. على أن الآثار القلمية للترك قبل الاستيلاء على القسطنطينية سنة 1453 ليست بذات شأن كبير أما بعد الاستيلاء عليها بقليل فقد راجت فيها أشعار غزلية لأمير تتري اسمه الأمير علي شير نواي فتن بها الوزير أحمد باشا أحد رجال السلطان محمد الثاني ونقلها وكان هذا الوزير شاعراً أديباً وكاتباً مجيداً له المقطعات البليغة ذات المحل الرفيع في الأدب التركي وقد نسج فيها على منوال الأمير التتري وفتح بنظمها عهداً جديداً للغة التركية فأقبل الترك على تلاوة الأشعار ونظمها وكان سنان باشا من وزراء محمد الفاتح أيضاً من الذين فازوا

على الأقران في حلبة النثر الرقيق الحاشية الخفيف الروح كيف لا وهو مؤلف الكتاب الديني المشهور الموسوم بالتضرعات وهو كتاب ممتع جليل فيه الأسجاع اللطيفة والإشارات الظريفة ننقل منها ما يلي: أنت الخالق الذي لا يحتويه ظرف مكان، البارئ الذي لم ينشأ من أي شيء كان، الحكيم الذي ضلت في معرفة حقيقة أمره الإفهام، المنيع في ملكه فلا سبيل إلى أن تصل إلى دائرة وجوده الأوهام، قد عجزت العقول البشرية عن أن تحلق قريباً من سماء وجودك الرفيع، وحاول أحد الأذهان تصور مكان عظمتك القدسية فلا تستطيع. وجاء بعد أحمد باشا الشاعران المتغنى بشعرهما نجاتي وزاتي ففاقا عليه وممن هن جديرات بالذكر من شاعرات هذا العصر عصر محمد الثاني زينب ومهرى وقد كان محمد ينشط العلوم والآداب ويخلع الخلع السنية ويعطي العطايا الحاتمية للشعراء والأدباء. هذا وقد كان محمد الثاني نفسه شاعراً أديباً وكاتباً مجيداً له الشعر الرقيق الذي لا يزال محفوظاً في بطون كتب الأدب على أن حفيده السلطان سليم الأول المعروف بياوز أو الغضوب كان أعظم سلاطين آل عثمان فلم تكن كفاءته الشعرية بأقل من كفاءته الحربية والإدارية وأن من الخمسة والثلاثين سلطاناً الذين تولوا الأريكة السنية العظمى واحداً وعشرين نظموا شعراً معروفاً لهم وليس بينهم من يستحق فضل السبق غير السلطان سليم فإنه كان شاعراً لا يجاري وأديباً لا يبارى على أن مما له يؤسف له أنه نظم معانيه الرائقة وضمن أفكاره الشيقة اللغة الفارسية فلم ينظم بلغة آبائه وأجداده ولو أنه نظم بالتركية لعادت عبقريته على اللغة بأعظم الفوائد على أنا نثبت هنا ترجمة معنى شيء من قصائده التركية القليلة. فمن ذلك أنه ندب خلانه وأقرانه ووصف هطول الدمع من عينيه أبدع وصف وقد شبه حاجبيه وأنفه بجسر تمر منه الأفكار الحزينة الكثيرة البارزة من مخه على جبهته وجعل الدموع بمثابة بحر عظيم في أسفل ذلك الجسر ثم أشار إلى عبث الأقدار به وهو شريد طريد ثم ذكر صعوبة العثور على الخل الوفي وقال إن العثور عليه أصعب من معرفة أسرار الأكوان. أما كمال باشا زاده أحمد المعروف بابن كمال فكان من رجال القضاء الممتازين وكان له

القدح المعلى في الشعر والنثر، من آثاره قصيدة تتضمن قصة يوسف وزليخة زوج بوطيفار كما أن له بحثاً يسمى النيجارستان يشبه في عبارته وأسلوبه بحث الشاعر الفارسي المشهور بالسعدي المسمى جولستان أو حديقة الورد، وكان الشاعر مسيحي من معاصري سليم الأول وله قصيدة فذة في الطبقة الأولى بلاغة وفصاحة وحسن انسجام خلدت اسمه عند المشارقة ولدى أدباء الفرنجة أيضاً وهي قصيدة في وصف الربيع نورد من معانيها ما يأتي: اسمع يا صاح صوت البلبل الشجي فهو يناديك، لقد أقبل فصل الربيع الجميل كم في خمائله من الأزهار اللطيفة وفي رياضه من المشاهد الظريفة فأشجار اللوز تنثر من لآلئ الندى الناصعة البياض ما تقر به العين وينشرح له الصدر فلا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب، ما أجمل الورد والخزامى وقد تفتحت أكمامهما وعلقت حلقات من قطر الندى البراق بآذانهما الجميلة فلا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب، لا تسكب عيون السحاب كل فجر دموعها الرقراقة المتألقة على خد الورود الأرضية ولما يختلط نفس الصبح البليل ونسيمه العليل بعبق كالمسك التتري ولما يكون وجه الدنيا ضاحكاً مستبشراً لا تقف وقفة الغافل ولا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب، ألا ترى إلى الجنان المزهرة والبساتين المثمرة كيف يعطر شذاها الهواء وكيف تذكو رائحة قطر الندى قبل أن تبلغ الأرض، ألا ترى إلى السماء كيف انعقد فوق الأرض كالفسطاط العظيم فلا تحرمن نفسك من مشاهد الربيع فاشرب واسرح وامرح فإن أيام الربيع الحلوة زائلة عما قريب. ولغاية عهد سليم الأول كانت الآثار القلمية التركية ساذجة غير مصقولة فلما ولي سليمان الأول 1520 - 1566 انفتح عصر جديد زاهر فقد نبغ في أطراف دولته في الشرق والغرب شاعران عظيمان مجيدان وهما الفضولي والباكي وكان الفضولي نزيل بغداد وأحد المقدمين الأربعة في الشعر التركي القديم أول شاعر نال بحق سبق الإجادة الصحيحة في الآداب التركية ولم يفق عليه ممن تقدمه أحد ولأقاربه في الفضل وكان من خصائص هذا الشاعر أنه لم يتقيد بمعاني من تقدموه رغماً من احتذائه الفارسية ذوقاً وعبارة فقد اختط

أسلوباً جديداً في التعبير عن المشاعر الحقيقية فكان يكتب وجدانه كتابة يخيل لقارئها أن نفساً تخاطب نفسه ومشاعر تتصل بمشاعره فلا يحس بتكلف أو صناعة ولا يسمع غير هاتف نفس الشاعر المحزون، وكان الفضولي له السلطان على القلوب يوجهها كيف شاء إن شاء فاضت النفوس بالحزن وإن شاء طغى السرور على القلب وله ديوان شعر رقيق كما أن له قصيدة عامرة في حب ليلى ومجنونها كما له ي النثر الآثار التي لا تقل عن شعره إجادة وحسن سبك وصفاء معنى وكانت أساليبه تخالف الأساليب المألوفة لدى أدباء العاصمة وهذا هو السبب في قلة من احتذاه ومن معاني الأبيات الآتية تعرف قدر ذلك الشاعر. أيتها الحبيبة إني لأستقل عداوة العالم أجمع ولا أعبأ بها ما دمت راضية عني، وإني لأستصغر صداقة الأصدقاء بالنسبة إلى حبك، هل تبلغ نكاية الأعداء مني ما بلغه الحب وتباريح الغرام، إن حياتي سلسلة آلام وأحزان وأنا أبداً المعنى الدنف، لقد كنت قبل الحب لا أعلم لذة الوصال ولا أعرف مرارة الفراق ولقد أعماني النوى فلا أرى أشباح الأشياء الواضحة الجلية، ألا ترى أيها القلب نور هذا البدر الزاهي، وأنت يافضولي لو أن جسمك الفاني أصبح تحت جنادل وأحجار فإن معنى الحب الذي ملك عليك قلبك خالد لا يموت، إني كلما ذكرت أيام الشباب ولذات الوصال ذاب جسمي الناحل الفاني الذي بلغت به الشيخوخة باب القبر، وإذ قد حان مماتي فقد آن لك أيتها النفس والطائر المحبوس في قفص أن تكون طليقاً، ما ألذ ظلم الحبيب، لقد وطنت نفسي على تحمل جميع آلامه وشرب كأس عذابه حتى صباته وإذا كان من المستحيل الآن أن أتصل بك أيها الحبيب فحسبي أن أستعرض صور الوصال الماضية، فاستعراضها خيالاً ينبوع سعادة عظيم لي الآن، لقد فاقت أخبار عشقي أخبار مجنون ليلى فأصبح اسمه بي نسياً منسياً. أما الباكي شاعر القسطنطينية فكان دون الفضولي في المنزلة الأدبية ولكنه مع ذلك فاق سائر من تقدموه، له في السلطان سليمان مرثية خالدة نثبت منها هنا ترجمة منثورة لبعض أبيات استهلها بتوجيه الخطاب إلى القارئ. أيها المغرور بالدنيا وزخرفها متى تفيق من نومك وتعلم أن الدنيا متاع الغرور، ليكن نصب عينيك ذلك اليوم الذي فيه تفارق الدنيا ولذاتها، لا بد أن تذبل خزامى الربيع وتسقط أوراقه

الخضراء وأنت أيها الإنسان لا بد من صيرورتك إلى حفرة من تراب، لا بد للزمان من أن يرنق كأس سرورك المترع الصافي إنما الإنسان حقاً وصدقاً من صغت نفسه لقبول الحقائق، وما أحرى الرجل المتصف بصفات الإنسانية الراقية بأن يتحلى بالشفقة ويخلص نفسه من أشواك القسوة والوحشية ألا يفيق الإنسان وقد سطا ريب المنون على أمير لا ككل الأمراء أمير خضعت لسيفه رقاب الكافرين وخلعت صوارم كفه قلوب الفرنجة والمسيحيين وبعد أن كان له في الحياة بأس تذل له الهام أصبح الآن ساكناً تحت جنادل وركام. لقد كان سليمان بهجة الأنام وزينة أعيان الإسلام فكان في عزم الاسكندر وأبهة دارا ولقد طأطأت الأرض رأسها إجلالاً وإعظاماً لسدته العلية وكانت أصغر عطاياه تصير الشحاذ المعدم أميراً سخياً. . . . (وبعد أن أفاض في مدحه). . . قال وهو وإن خضعت عنقه لداعي الموت فقد كان له عزم القدر والسلطة القاهرة. وظهر نجم الشاعر القدير نافع الأرضرومي في أفق عصر السلطان أحمد (1603 - 1607) فجدد معالم الشعر التركي القديم وقد اشتهرت قصائده بالرقة والانسجام كما اشتهر غزل الفضولي بحسن الذوق وسلامة البيان وقد خط لنفسه طريقاً في التعبير ونهجاً في الأسلوب فكان شاعراً حراً كالفضولي وقد حذا حذوه شعراء كثيرون اشتهر منهم صبري على أن نافعاً كان نقاداً شديد الوطأة فسبب له ذلك غضب الناس والعظماء الملتفين حول مراد الرابع فما زالوا به حتى أمر بقتله وهاك إحدى قصائد نافع المشهورة وهي مدح في السلطان مراد قيل أن السلطان أمره بمدحه فارتجلها ولكنا لا نميل إلى تصديق ارتجالها لأنها من البلاغة بالمحل الأرفع وقد وصف الربيع فأبلغ الألفاظ وأجمل المعاني وهو موضوع محبوب من الشعراء الترك. يهب نسيم الربيع المبكر وتفتح أكمام الزهر في الفجر فلتفرح قلوبنا، أيها الساقي املأ الكأس واسقني بيدك لقد حلت أيام شهر مايو الجميلة وتعطر الهواء وأصحت السماء ولبست الأرض حلة عدنية وليس في الأرض مكان إلا كأنه ناحية منعزلة من بستان أنيق. ومنها، ليحضر الساقي بكاس الخمر وتعزف القيان على الأوتار وإن أعقل العقلاء من اغتنم ساعة السرور وأسعد السعداء من قبص بإحدى يديه على قدح من النبيذ المعتق وأخذ

يعبث بالأخرى بشعر حبيبه الجميل وأنت أيها الساقي لا تن في أن تترع الأقداح واحذر أن تنقصها شيئاً، ويا غصن البان أشرق بوجهك المنير علينا ويا شفاهاً تزري بحمرة الورد أبسمى فإن الزمان يبتسم لابتسامك. سلم أمورك للقدر ... واغنم أويقات السرور والحزن لا يمنعك من ... شرب العتيق من الخمور وإن خمر المحبين ترياق الهموم وراحة النفوس، وقد كان لها من المنزلة في فارس القديمة إن كان يجلها رجال الدين، وإن الخمر مجلبة السرور في مجالس العاشقين، وإنما مثل الخمر إذا صبت في الكاسات مثل ذوب الحديد وقد صهرته النار ولها لمعان الخزامى وهي في كؤوسها الدرية، وإن مثل الخمر في كاساتها كمثل الندى في شقائق النعمان، فاسقنا أيها الساقي من خمر الأمير الهمام وأترع الكاسات فإنا نريد أن نبدد الأحزان واجبنا إلى طلبنا ولا تبخل علينا ببنت الكرم فإنا عشاق معذبون قد برح الغرام بأجسامنا. ومن مشاهير الشعراء نابي وكان في عصر السلطانين ابراهيم (1640 - 1648) ومحمد الرابع (1648 - 1687) وكان في فارس عصرئذ شاعر قدير نحا بالأسلوب الشعري نحواً جديداً مؤسساً على الروح الفلسفية الحكيمة فقلده نابى ونقل تلك الروح إلى التركية، لذلك تجد غالب شعره أدبياً حكيماً فلسفياً وقد احتذى أستاذه الفارسي في بعض الأحيان إلى درجة فقد فيها شخصيته التركية وسار على نهجه من الشعراء المشهورين راغب باشا والشاعر سامي وكثيرون غيرهما. أما في عصر أحمد الثالث (1703 - 1730) فقد ظهر نابغة الشعراء الأتراك القدماء نديم، ويمتاز نديم بكونه نحا أسلوباً خاصاً به خالف فيه كل من تقدمه من الشعراء ولم يستطع أحد ممن أتوا بعده محاكاته فيه، ولنديم هذا من الشعر الغزلي ما يسيل رقة وانسجاماً فيه من خفة الروح والظرف والرشاقة ما ليس في شعر غيره من شعراء التركية في أي عصر من العصور، وقصائده مع كونها أظرف وأرشق من قصائد نافع إلا أنها ليست دونها متانة ودقة صناعة وتمتاز عنها بخلوها من التنميق وبعدها عن التزويق ولا يعرف من أمره غير أنه كان من أبناء القسطنطينية وكان أميناً على المكتبة التي أنشأها الصدر الأعظم إبراهيم باشا كما أنه معروف أنه كان حياً لغاية سنة 1727 وهاك شيئاً من غزله:

أتلفني الحب والغرام، وأضعت في مداعبة الغيد الحسان الأيام، وقد نفد صبري وذهب جلدي وبلغ الحنق بي مبلغاً ذهبت فيه إلى تمزيق ثيابي، وما عانقتني ووضعت ثديها الجميلين وصدرها المحبوب على صدري حتى استلت راحة الضمير والهناء من بين جنبي فلا أعرف لهما الآن مستقراً، أيها المخلوق الظريف الصغير ما أقساك كأن قلبك قلب الكفرة الذين لا يعرفون للرحمة اسماً ومع أنك جميل، جميل في كل شيء في شعرك وعينيك إلا أنك مع ذلك نصراني العاطفة، وإن جمالك فيه قسوة عليّ ورب الكعبة كم مرة أخلفت وعدك وحنثت في يمينك. ما أجمل تلك الغدائر المدلاة من رأسك! كل من رأى وجهك المشرق بالجمال يصرع ويجن ويذهل عن نفسه، ألا يحق لي الحزن والبكاء، ألست أشقى البرايا وأتعس العالمين، أنا النحيل المضني، أيها المعشوق الجميل من خلق ذلك القد المعتدل والعيون الساحرة، إن لك لعبقاً أطيب من الطيب وإن لك لوجهاً يزري بالأزاهير وقد فتحت أكمامها، إني أخاف على جسمك الناعم الحريري من وخز أشواك تلك الأزهار المعلقة في صدرك، ما أجملك وأنت تخطرين وفي إحدى يديك زهرة وفي الأخرى قدح خمر ولست أعرف أي الثلاثة تحملين الخمر أم الزهر أم الثغر الباسم. والعصر القديم للآداب التركية ينتهي بنهاية حياة الشاعر نديم وأزهى فترات ذلك العصر العهد الواقع بين ابتداء حياة نافع وموت نديم أو من جلوس أحمد الأول (1603) إلى خلع أحمد الثالث (1730). أما النثر وقد أغفلنا ذكره من عهد محمد الفاتح فمن أشهر ما كتب فيه الهمايومانه وهي ترجمة أنور السهيلي الفارسي ترجمها علي سلبي لسليمان الأول وقد ألف بعد ذلك بقليل العلامة سعد الدين لتلميذه مراد الثالث (1574 - 1595) كتاب تاج التواريخ وهو تاريخ أعمال السلاطين التسعة الأول وهذا التاريخ هو الحلقة الأولى من سلسلة كتب تاريخ الترك التي لم تنقطع، وقد عرف بتحريه الصواب مع بلاغة أسلوبه ورشاقة عبارته وهو من أوله إلى آخره مسجع وقد زينه مؤلفه بقطع غالية من الشعر النفيس بعضها له وبعضها لغيره من أدباء الترك والفرس، ومن المؤرخين الذين اشتهروا بعد سعد الدين المؤرخ ناعمة وتاريخه يتعرض لذكر الحوادث الواقعة بين (591 - 1659) ويختلف عن تاج التواريخ

من جهة أن كاتبه لا يتكلف الأسجاع وإنما يكتب بالأسلوب البسيط السهل الذي تفهمه العامة ولا تنكره الخاصة فضلاً عن أنه ماهر الوصف دقيق في إبراز الماضي البائد في صورة الحي الماثل للعيان، أما أولياء أفندي فإنه ساح واخترق الآفاق وضرب في عرض القارات الكبرى الثلاث القديمة ثم ألقى عصا التسيار في القسطنطينية حيث دون رحلته في كتاب عظيم، أما الحاج خليفه المعروف أيضاً بكاتب شلبي المتوفى سنة 1685 فقد تعددت مؤلفاته القيمة في التواريخ والأخبار والسير وتخطيط البلاد وغيرها من العلوم وفي سنة 1728 ظهر أول كتاب مطبوع في تركيا وكان ترجمة قاموس عربي، والذي أنشأ أول مطبعة كان الوزير الأعظم إبراهيم باشا صاحب الأيادي البيضاء على الشاعر نديم وقد جعل عليها رجلاً مجرياً أسلم وسمى نفسه إبراهيم. وآخر الأربعة المشهورين من الشعراء الأتراك القدماء الشيخ غالب وكان معاصراً لسليم الثالث (1789 - 1807) له قصيدة طويلة نهاية في الإبداع وغاية في حسن الانسجام بعنوان الحسن والعشق، ولقد صاغها في قالب روائي جميل من أبدع ما أبرزته العبقرية التركية، وقد تمثل بفضولي ونافع ونديم واختط له في الأسلوب خطة خاصة به ونحا نحواً جميلاً ناجحاً أربى به على الأقران. ولقد كان عصر محمود الثاني (1808 - 1839) عصر تطور وانقلاب في التاريخ التركي فلقد تناول التغيير والإصلاح النظم والقوانين والمرافق القديمة قليلاً وكثيراً فليس من العجيب أن تتأثر الآداب بالروح التي أثرت في غيرها ودخل في الشعر والنثر مذهب أوروبي ملك على اللغة التركية أمرها إلى اليوم غير أن النثر كان أسرع من الشعر في التأثر بمناحي الآداب الافرنكية وأشهر شعراء وشاعرات عصر الانتقال هذا واصف، وقد كتب أسفاره بلغة القسطنطينية الشائعة لعهده، وعزت منلا والسيدتان فطنت وليلى. ولقد دخل التغيير جوهر الآداب التركية بشكل عظيم فعال واضح منذ ثلاثين سنة فقط وقد تعاظم أمر هذا التغيير والانقلاب من يوم إلى آخر وتناول الآداب التركية في المعنى والمبنى والجوهر والعرض شعراً ونثراً بحيث لا نبالغ إذا قلنا أن قصيدة أو مقالة من قلم شاعر أو أديب تركي من أهل هذا العصر الحاضر لا تفهم ولايكون لها قيمة عند أديب من أدباء الترك الماضين وهذا التغيير إنما سببه مطالعة دروس اللغة والآداب الفرنسية الأمر

الذي لم يتعاظم شيوعه إلا منذ الثلاثين سنة الأخيرة وقد كان تأثير ذلك مدهشاً غريباً يدلك على ذلك أن غاية ما يرجو الأديب العصري في الأستانة وكل ما يصبو إليه ويريد أن يعرف به ويشهر عنه أن يكتب من غير تكلف، وقد دالت دولة السجع والبديع والمحسنات اللفظية وحل محلها الكلام البسيط الممتع الوافي بالغرض الصاعد بالمعنى إلى عقل القارئ من غير إجهاد نفس وأعنات فكر، وقد أدخل على اللغة التركية النمط الروائي في الكتابة وهو أمر جديد عليها لم تكن تعرفه من قبل وقد نبغ جم غفير من أدباء الترك في إنشاء الروايات الممتعة تمثيلية وغير تمثيلية وقد تناول حب التشبه بأدباء الفرنج الشعراء فهجر الترك إنشاء القصائد على الأنماط والقوافي القديمة واحتذوا الفرنجة في سائر أميالهم الشعرية وقد تناول التغيير اللغة نفسها فأهملت كلمات كثيرة قديمة لأنها أصبحت غير مفيدة وغير وافية بالغرض وعدلوا معاني كلمات أخرى بحيث أصبح يستطاع بواسطتها التعبير عن الأفكار والمصطلحات العصرية الحديثة التي لم يكن في الإمكان التعبير عنها بالأساليب والمفردات القديمة ولم تكن كل هذه التغييرات لتتم من غير معارضة ونضال فإن كثيراً من الأتراك المحافظين على القديم ممن يعجبون بالأساليب الفارسية ويكرهون كل ما كان أوروبياً لم يرقهم هذا التغيير وقاوموا العصريين طلاب الإصلاح بعنف وشدة ولا يزال منهم نفر قليل يجهر بالمعارضة والشكوى إلى اليوم. وتظهر روح الإصلاح واحتذاء الأساليب الأوروبية الجديدة في تضاعيف منشآت عاكف باشا ورشيد باشا، أما شناسي أفندي المتوفى سنة 1871 فإليه يرجع كل الفضل في القيام بحركة الإصلاح الأوروبي دون غيره وقد عضد شناسي أفندي بكفاءة وقدرة كمال بك ذو المواهب الباهرة والآثار الخالدة وخير من عكف على خدمة الأدب من الأتراك وكذلك عضده وسار في ركابه كل من الأديبين الشاعر أكرم بك الذي كان إلى عهد غير بعيد أستاذ الآداب في المكتب السلطاني والروائي حامد زعيم الروائيين الأتراك وحامل لوائهم.

الأستاذ ويلسون

الأستاذ ويلسون رسول السلام ونهوض العالم الجديد لإطفاء نار العالم القديم دخلت أمريكا الحرب العامة، وهي المرة الأولى في تاريخ تلك الديمقراطية العظيمة التي إنما أسست على السلام، لا للحرب ولا للقتال والصدام، سمع فيها الناس جميعاً باشتراكها في حرب الإنسانية العامة على حين أنها بعيدة عن ميدان القتال بآلاف الأميال، ولا مطمع لها في أرض، ولا صالح لها في مستعمرة، ولا مطامع لها تمد إليها عينها، ولا أغراض تريد من دخول الحرب تحقيقها، بل وثبت من مكانها فاجتازت الأوقيانوس يقودها رجل عظيم، ويحركها رأس جبار، لإطفاء نار الحرب، وتهدئة تلك الجنة التي تولت أهل العالم القديم، وتسكين سورة تلك الحرب التي كادت تودي بالحضارة العظيمة، حتى استطاع ذلكم الرجل النادرة رسول السلام أن يظفر بالاحترام والتقدير للجميل والاعتراف بالصنيع المحمود، من كل رجل يحب الحق، وينتصر للحرية، ويجنح إلى السلام. وقد قرأنا في إحدى المجلات الكبيرة بحثاً طلياً ممتعاً كتبه عضو مشهور من أعضاء البرلمان البريطاني عن الأستاذ ويلسون رئيس تلك الجمهورية الكبرى، وهو بحث جديد لم ينشر نظيره في الصحف، ولم يكتب ضريبه في المجلات، فإن الكاتب - وهو مستر اكونور - ظل أعواماً عدة يدرس آراء ويلسون وكتاباته، ويعجب بمبادئه السياسية، وزار أمريكا فلبث فيها عاماً أو يزيد، صرف أكثره في واشنطن، وزار ويلسون وتحدث إليه، حتى استطاع أن يصور الرجل الصورة التامة الحقيقية، وقد آثرنا أن ننشر ذلك البحث الجميل الممتع، تخليداً لأكبر شخصية في التاريخ الحديث، وتقديراً لعظمة نصير الإنسانية الضعيفة، ومؤيد الدعوة إلى السلام العام. هذا الرجل هو وليد المتحف والمكتبة وابن أمريكا وإيرلنده، وإن فيه لجميع ملامح العنصرين، ولم أر قبله رجلاً تبدو عليه دلائل أصله، وأمارات الجنس الذي انحدر عنه، في روعة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فإن جده وجدته هبطا من مقاطعة الصتر وكان الجد صحفياً صفوة عمره، وكان والده قسيساً عصرياً مستنيراً، ولهذا كان الجد والأب من الطبقة المهذبة، وكانا معاً من أهل المواهب الذهنية، وكانا قارئين مشغوفين

بالقراءة ودارسين مولعين بالبحث والدرس، فإذا كان مستر ويلسون اليوم من كبار العلماء والباحثين، ورجلاً من أكبر المفكرين، وسيداً عظيماً في عالم الأدب وميدان الخطابة، فإنه إنما أوتي جميع أولئك رأساً من أجداده وعشيرته، والوسط الأول الذي نشأ فيه، ولئن كان تربى في كثير من المدارس، وتخرج من عدة من الجامعات، فإن الفضل في جميع مشاعره الأدبية، وعظمته الذهنية، يعود إلى أبيه، وعن أبيه أخذ كذلك الروح المجونية في الحياة، المحتجبة في تضاعيف التعبير الشديد وعبوسة اللغة التي يتكلم بها، وذلك التقطيب الذي يبدو في معارفه، وقد حدثني أولياؤه وخلطاؤه عنه فقالوا إن صورة الفوتوغرافية لا تشبه حقيقته عند الذين يعرفونه، فإن الجبين العالي والفم المنطبق الشفتين، الثابت التقطيب والفك القوي، والصدغ العريض، والملامح المتجهمة، إنما تقدم للناس صورة ويلسون آخر يخالف ويلسون الذي يعرفونه، ولعل ذلك راجع إلى الثقة بالنفس، لأن الثقة بالنفس تكسب الوجه شيئاً كثيراً من الرزانة والوقار لا حقيقة له في النفس التي تختفي وراء ذلك الوجه، فإن وردر ويلسون المعروف في الحياة الخصوصية وبين الأصدقاء والخلطاء يتجلى وفي عينيه بريق ساطع، وفي فمه حركة مستمرة، وشفتاه لا تفتران عن الابتسام وإن تراءى في صورة الفوتوغرافية مقطباً، وأكبر مزايا ذهنه أن الكاتب الذي أولع بقراءة كتبه ولبث طول حياته ثابتاً على مطالعة تواليفه هو الروائي شارلز دكنز ومنه استمد قوة الملاحظة، وأدرك معرفة جميع الذين حوله، وإن نظر إليهم عن كثب في وسط الزحام العظيم أو في غمار الحفلات وسهرة الملاهي والاجتماعات، أو وهو مشغول الذهن بإعداد الخطابات، وإنه ليعود قافلاً من احتفال أهلي عظيم حيث الأمور تنهك الرجل الكبير وتذهب راحة الوالي العظيم السلطان، غير متعب ولا متراخي القوي، لأنه اعتاد أن لا يجد لهواً إلا في ملاحظة الناس الذين حوله، ولا يبهجه إلا الاطلاع إلى الذين يحوطونه. ومن هذا يستطيع المرء أن يصف ويلسون على الرغم من أنه من أصل إيرلندي بأنه أشد الأمريكيين أمريكية، لأن الذهن الأمريكي إنما ينظر إلى الأمور الرزينة رزيناً، وإذا باشر عملاً - كهذه الحرب مثلاً - فلا يدعه حتى يتهمه، ويهجم عليه بصبر لا رحمة لنفسه فيه ولا إشفاق، ولكن العادة أن الأمريكي لا ينظر إلى الأمور نظراً محزناً رزيناً جد الرزانة، لأن الأمريكي لا يزال يحب المجون والتهييص ولاسيما في الحديث، حتى ليخيل للإنسان

أن الأمريكان أقرب إلى الفرنسويين أرواحاً ومشاعر منهم إلى الانكليز أو الاسكوتلنديين، والأمريكي لا يريد أن يلوح رزيناً ولكن البساطة - وهي الخلق السائد في ذلك العالم الجديد - تجعل الرزانة إذا هو اتخذها مضحكة متباينة، ولذلك - على الرغم من معارف ويلسون المتجهمة ولهجته القاسية التي تدل على حدة الطبع وحمية النفس، وتوقد الوجدان - لا ينبغي أن تحسب الرجل على رزانة مصطنعة غير طبيعية، ولا يجمل أن يظن الرجل متكبراً متغطرساً صلفاً كما اعتاد الناس أن يحسبوه ولكن من بين الفضائل التي أخذها عن أبيه وتعلمها عن والده هو أن يكون رجلاً بين الرجال، وكل إنسان عرف ذلك القسيس الشيخ المهذب، وإن لم يكن إلا أستاذاً للعلوم الدينية الغامضة - يعلم أنه كان يكسب فؤاد المرء بتلك الحرية والصراحة في الحديث التي يستمدها من قلب طيب كريم بين جوانحه. فلما انتقل الأستاذ ويلسون من التدريس في الجامعة لكي يتقلد ولاية مقاطعة نيوجرسي كان الناس يذهبون إلى أنه سيصبح لعبة في أيدي السياسيين العمليين ولكن ظهر بعد ذلك أن نيوجرسي تلك المقاطعة الصغيرة أصبحت أرقى مقاطعات الولايات المتحدة الأمريكية في القضاء والتشريع والحكم والإدارة، ولو أننا قارنا ويلسون وهو حاكم تلك الولاية به وهو اليوم على رأس مملكة عظيمة، لرأيناه في الأولى صغيراً بالنسبة إليه الآن، ولكن عندما يذكر تاريخ الماضي يعلم الناس أن أعماله في تلك المقاطعة كانت مثالاً من أبهر الأمثلة على رجل برلماني وقائد حمي يسوس الحوادث والرجال ويسوقهم إلى غرضه الذي يعمل له. ولعل سائلاً يسأل عن الطرائق والصفات والمميزات التي جعلت حاكم ولاية جرسي قديراً على هذه المعجزات، فليعلم الناس أنه نقيض ما يحسبه الناس والصورة المعارضة لما كان يتأول القوم فيه، فلم يكن أستاذاً غامضاً عليه خشونة العلم وثقل روح العلماء، بل كان محبباً رفيقاً متسامحاً، وديعاً هادئ الطبع، يعرف الرجال ويعرف كيف يسوسهم أو بعبارة أخرى كان رجلاً مفكراً ودارساً باحثاً أوتي رزانة الغرض مع شيء كثير من روح الدعابة، فاستطاع بذلك أن يلقى جميع صنوف الرجال ويمتزج بهم ويكسبهم إلى صفوفه ويظفر بهم في جانبه، ويحركهم كما يحرك حجارة الطاولة وأدوات الشطرنج ومن هذا تعلم أن ويلسون لم يدرس شارلز ديكنز عبثاً وبلا جدوى.

ولكن لا ريب في أن هناك صفات أخرى كان لها الفضل في نجاحه الباهر وذلك أنه كان أميناً، شجاعاً، جلداً رابط الجأش، ولم يكن الرجل أخا عزة مصطنعة وكبر متعمل، ووقار متكلف، ولم يكن من أساتذة الجامعات المزهوين بأنفسهم المعتزين فإذا غلبته المصاعب، وعرضت شدائد لا يستطيع لها مغالبة، ترك مكتبه بكل سكون، وغادر كرسيه الهزاز ومضى إلى منصة المنبر يحدث الناس الحديث ويقص عليهم الأمر، وهو لا يعبأ بأن يقال عنه خطيب مكثار، أو متكلم خداع، بل يعلم أنه إنما التجأ إلى شعبه الذمي يحبه ويدافع من أجله، وينضح عنه. وهنا انتقل إلى شرح الرجل من ناحية أخرى، فأقول أن ويلسون رجل إنساني، والمخلوقات الإنسانية لا تستطيع أن تثبت على قسوتها التي تحشدها للغرض الذي تضع نصب عينها ما لم توجد لنفسها شيئاً من اللهو لا تستطيع أية قوة أن تعيش بدونه، ولكن الأستاذ ويلسون تابع عمله إلى غرضه بكل ما تستطيع القوة الآدمية، وليس الأمر المدهش أن يكون ويلسون رئيساً للجمهورية، وأن يكون في هذه الساعة الرجل الصالح للرئاسة، بل لقد يكون ادعى للدهشة وأعجب لدى الناس، أن لا يكون كذلك، لأن تقلده الرئاسة ليس إلا نتيجة طبيعية منتظرة لإعداده نفسه منذ رجولته وتدريبه إياها في سبيل الرئاسة، وكما يدرب اللاعب نفسه ويمرن عضله وساقيه وشدة أسره لكي يظهر في ميدان المصارعة والألعاب الرياضية، ظل ويلسون يمرن نفسه لهذا المنصب العظيم الذي يتقلده اليوم وللساعة الرهيبة التي تبدو فيها عظمته العامة المعروفة في الخافقين ولم يكن ويلسون باحثاً طالب علم منذ صغره، إذ ورث ذلك عن أبويه والوسط الذي نشأ فيه، بل كان طول حياته بعد ذلك باحثاً يدرس الشؤون والعلوم والموضوعات التي تخلق برجل يتصدى للحياة العمومية، فقد كان يتناول الرياضيات - أي علوم الرياضة - في جرعات صغيرة تكفي لاجتيازه الامتحانات، حتى لقد روي عنه أنه كان في المدرسة يأخذ أقل درجة - أي النهاية الصغرى - في علوم الفلك، وإنما توفر على إجادة العلوم التي لا بد منها في الحياة العمومية، كالتشريع والاقتصاد السياسي والتاريخ، وهذه هي العلوم بأعيانها التي التجأ إلى تدريسها عندما كان يسعى على الرزق أستاذاً عادياً من الأساتذة، وبتدريسها كذلك زادت معارفه فيها وتوسعت معلوماته ولا أظن أن هناك أدباً من الآداب القديمة أو شيئاً من الأدب

الحديث لم يدرسه ويلسون ويأخذه بالشرح والتحليل، وكتب بعد ذلك كثيراً في مسائل التشريع والقانون والأنظمة الاجتماعية. على أن ويلسون أذن لنفسه دهراً وجيزاً أن يتحول قليلاً عن خطته التي اختطتها وهي تدريب نفسه لأجل الحياة العمومية وذلك أن اشترك ورجلاً آخر في إنشاء مكتب للمحاماة في المدينة ولا يصح أن نقول بوجه عام أن أمر الاشتغال بالقانون ومعالجة القضايا مضيعة لزمن الرجل الذي أعد العدة للحياة العمومية، فإن أبراهام لنكولن، وهو ذلك الرئيس القديم الرائع الذي تولى أمر الولايات المتحدة في زمن الحروب الداخلية وكان من أكبر أهل الأدب والخطابة لم يعرف أخلاق الناس، ولم يخبر الأمور، ويدرك أسرار الحياة إلا بعد أن كان محامياً طوافاً يتقلب في البلاد بحثاً عن القضايا، ويجول في المدائن للحصول على المرافعة في الخصومات، ولكن ويلسون لم يكن له طباع ذلك الرئيس - لنكولن ولم تكن نشأته مثل نشأته وكان ولا ريب سيصيب من تضحية نفسه سنين طوالاً للبت في حقوق الأفراد وظلامات الأشخاص تأثيراً في ذهنه وبدنه كان سيكون ذا خطر شديد عليه فيما بعد، على أن حسن الحظ أنقذه من هذه الصناعة، لأن مستر ويلسون لم يخلق ليضحي نفسه للزبائن وأرباب القضايا والحادثات، لأن الله لم يفتح عليه بزبون ولا راجت المحاماة على يده فلم يكن انحرافه عن خطته التي رسمها لنفسه وسلوكه طريقاً غير صالحة له ولا صالح لها إلا أمراً عرضاً لم يلبث أن زال. وعاد بعد ذلك إلى أمره الأول، ورجع إلى حجرات التدريس، وإلى تعليم الطلاب، وقد ذكرت أن الموضوعات التي توفر عليها ذهن ذلك الرجل هي التشريع والاقتصاد السياسي والتاريخ، ولكن هناك فرعاً من العلم برع فيه وحشد كل ذهنه له، ونعني به الأدب، ولا ريب في أن الولوع بالأدب ورثه عن أبيه، وشجعه والده على الإقبال عليه، ونشأ لذلك عليه من طفولته، ولكن لو لم يرثه عن أبيه، وعن المدارس والجامعات، لكان ويلسون ولا ريب سيروح من نفسه بالأدب ولوعاً، وهو رجل أديب بكل معنى هذه اللفظة، بل لعلني مصيب إذا قلت أنه أكبر أديب في رجال السياسة العصريين وهو قارئ يلتهم في القراءة كل نوع من الكتب، وقد أخبرني طبيبه المشهور الأميرال جرايسون أن من عاداته الخطرة أنه قد يهتم بقراءة رواية من الروايات فيسهر على قراءتها حتى الرابعة بعد منتصف الليل،

أي أنه يختلس بضع ساعات من الزمن اللازم للترفيه عن بدنه من متاعب حمله العظيم. ولعلكم سائلون ما أحب شيء إلى ذهنه في القراءة، فأقول أنني كلما قرأت أو سمعت خطب الرجل، لا أفتأ استنتج منها أنه هذب أسلوبه من كثرة قراءة الأدب اليوناني القديم فإن أكبر مزايا ذلك الأدب هي البساطة المتناهية وقوة التعبير والوضوح، والوضوح هو لازمة من لازمات البساطة، ولو أنت استعدت إلى ذهنك القطع والمختارات التي آثرت حفظها من الأدب اليوناني القديم وآثرت في فؤادك أشد التأثير وهزت روحك هزاً، لرأيتها أبسط ما يكتب ولألفيتها خالية من التعمل والطلاء وخذ لذلك مثلاً قصة موت سقراط التي وضعها أفلاطون في كتابه فيدو. . . فإنك لا تجد في أضعافها شيئاً من المحسنات، بل هي نهاية في البساطة والوضوح، على أنها تصل إلى أعماق الأعماق من الأفئدة، وكان حدسي هذا وأخذي بالظنة في الأسباب التي هذبت أسلوب الأستاذ ويلسون حقاً وصواباً كما عرفت ذلك من بعد إذ نبأني صديق له أن ويلسون درس جميع خطابات الخطيب اليوناني العظيم ديموستنيس حتى استطاع أن يقرأها في اليونانية بكل سهولة ولباقة كأنه يقرأ في كتاب انكليزي، والذين يذكرون ديموستنيس يعلمون أن أول مزايا خطبه المأثورة هي البساطة المتناهية، بل لقد حدثني من أثق بحديثه أن ويلسون حتى الساعة وهو في وسط متاعبه الرسمية لا ينى يعود من الحين إلى الحين إلى فتح تاريخ ذلك الخطيب العظيم يتلمس من خطبه الوحي ويستنزل منها الإلهام ويتطلب العزاء والحكمة والهدى، وأنا أذهب إلى أن ويلسون استمد أسلوبه العجيب أيضاً من سادات الأدب الفرنسوي وهو أقرب آداب الغرب في بساطته إلى آداب اليونان، وهذا التفاني في الأدب لم يكن وراءه غرض إلا إعداد نفسه للحياة العمومية، وهذا التهذيب الذي كان يستعد به الرجل لم يكن معروفاً للعالم، ولاسيما أهل السياسة ورجالاتها فلما طلب إليه أن يترك هدوء المدرسة وسكون المدرسين إلى ضجة الانتخابات وجلبة الحياة السياسية، ظن الناس أن أمامهم رجلاً جديداً عليها حديث العهد بشؤونها فلم يلبثوا أن عجبوا إذ رأوا إزاءهم رجلاً مدرباً منذ عهد طويل عليها، ويوم كان يدرس ديموستنيس ويعني كلمة الجوامع، لم يكن يقصد بذلك إلى الجلوس في امتحان الجامعات، ونيل نمرة طيبة فيه، وإنما كان يريد من ذلك غاية أكبر ومقصداً أسمى، وهو إعداد نفسه لمنصة المنبر ومواقف مجلس التشريع في ترينتون وواشنطن وإعانته مزية

أخرى على أمره، فقد منحته الطبيعة صوتاً أجش عميقاً فهذبه وأخذه بالمران والتدريب في الأندية ولكنه لم يكن يريد أن يكون مغنياً، بل خطيباً مفوهاً، وكان تهذيب صوته، أشبه بتهذيب المغنين أصواتهم لأنه عرف علم ضبط تنفسه عند الكلام ولعل هذا هو السبب الذي جعل صوته، وإن لم يكن جهيراً مرتفعاً يصل إلى آخر رجل في الصفوف المتأخرة من الزحام العظيم في القاعة الرحيبة وجعل كل كلمة ترن في الفؤاد فتأخذ مجامعه. والآن أصل إلى النتيجة الباهرة من هذا التدريب الذي أعده لنفسه وهو ويلسون في مقعد الرئاسة، فهو في كثير من الوجوه قد أعاد استخدام الطرائق التي سلكها في ولايته على مقاطعة نيوجرسي، وأنقذ الجمهورية الأمريكية العظيمة من كثير من أخطارها الكبرى، وكانت العادة من زمن بعيد أن الرئيس يلقي الكلام إلى المجلس قولاً ملفوظاً - لا خطبة مكتوبة - ولكن لما ولي على الجمهورية الرئيس جفرسون جعل يتلو خطاباته في رق مسطور، ولعل ذلك لأن مقدرته الكتابية كانت أسمى من براعته الخطابية، فاحتذى الرؤساء بعده حذوه وطرسوا على آثاره، ولكن جاء ويلسون فحطم هذه القيود وذهب بأثر تلك السنة ولم يدع بينه وبين نواب الأمة غير قلبه ولسانه. وهنا أذكر نبذة عن الحياة اليومية التي يعيشها الرئيس ويلسون والعادات التي اعتادها في نظام عيشه، وهي جميعاً مختارة من المعلومات التي كان يدلى بها إلى الصحف طبيبه الخاص - الأميرال جرايسون - ولم يكن لأحد تأثير على ويلسون أشد من أثر طبيبه الخاص، ولما جاء ويلسون إلى الدار البيضاء وارتقى إلى الرئاسة لم يكن على صحة جيدة، وكان ككل المفكرين الذين ينهكون أذهانهم في أعمال شاقة، يعاني مرض عسر الهضم فأكرهه الطبيب على أن يتخذ لنفسه ألواناً من الرياضة، ويختار ضروباً من التلهي والترويح، وكان من ذلك أن اعتاد الرئيس أن يخرج في وقت محدود غير حافل بالجو إذا أمطر أو السماء إذا غامت، أو العاصفة إذا عصفت، فينطلق إلى حلقات لعبة الجولف وهو منذ طفولته ماهر خبير بركوب الجياد ولذا يؤدي أكثر رياضته على ظهور الصافنات، وهو حذر حريص من ناحية طعامه وينصاع لمشورات الطبيب إذا وصف له لوناً من الطعام لا تقبله نفسه ولا يشتهيه، وهو لا يزال يشارك أبناء وطنه وأفراد أمته في الولوع بالحلوى إلى حد خطر، ولكنه استطاع أن يضبط استهتاره هو نا ما، وهو شريب كبير لا

شريب خمر وإنما شريب ماء مثلج، فهو أحب شيء إليه، واشتد طبيبه في النصح له بأن يعمد إلى التلهي كذلك بجانب الرياضة فلم يسع ويلسون إلا الانتصاح ومضى يزور دور التمثيل وحفلات الموسيقى وحلقات الغناء على فترات صغيرة من الأيام، ومن أكبر مزايا خلقه أنه قادر على أن يخلع عنه مظهره الرسمي، ويتجرد من شؤون عمله، ويتحرر من مسؤولياته، إذا هو كان في لهوٍ أو ترويج، فلا يكاد يستقر به المقام في مقصورته من دار التمثيل وترتفع الستار عن المسرح، حتى ينسى ويلسون أنه رئيس الولايات المتحدة، وهذا التجرد من الرسميات يتجلى في حلقات لعبة الجولف حتى أن شركاءه في اللعب لا يجرأون على ذكر أية كلمة تتعلق بالشؤون العمومية أمامه وهم لاعبون وقد نسي رجل من الذين كانوا مقربين في تلك الحلقة إليه، ومكثرين من اللعب معه يوماً هذه العادة فذكر أشياء بسبيل ذلك، فلم يسمح له الرئيس بعد ذلك بلقائه أو الاشتراك معه في تلك الحلقة. والرئيس ويلسون قصاص أحاديث طلبة، ورجل عذب المحضر، مفعم الجعبة من النوادر والحكايات حتى لقد قص على حكايتين أو ثلاثاً يوم لقائي به، وهي حكايات نذكرها في موضوعاتها وظروفها ونجيء بها تأييداً لحديث، أو شفاعة لحكمة أو موعظة. ذلكم هو الرجل الذي أخذ على نفسه أن ينقذ الدنيا جميعاً من الشبح المخيف الذي عم الأرض: وهو الحرب، وهو الرجل الذي أراد أن ينثر نعمة الحرية في كل ركن من أركان الدنيا، ويعمم الديمقراطية في الشعوب أجمعين، وإذا كان في الدنيا رجل يستطيع أن يؤدي هذا الأمر العظيم الجليل الهائل فهو هو ذلك الرجل الذي أصبح اليوم بغريزته وعقيدته ورأسه وفؤاده سيد أنصار الحرية والسلام العام. هو الرئيس ويلسون.

خواطر الطفولة

خواطر الطفولة هذا مقال فلسفي فكه، بديع المنحى، رائع المغزى، وضعه في هذه الأيام الأخيرة رجل من أكبر كتاب الدنيا في الروايات وفي الصفوف الأولى من العلماء المحدثين، وأدباء انجلترا العصريين، وهو السير كونان دويل، ولا يذهبن القارئ إذ يقرأ هذه الأسطر إلى أنه سيقرأ رواية جديدة عن شرلوك هولمز وهو ذلك الضرب من الروايات الشرطية، والأقاصيص التي افتن كونان دويل في سبكها وإظهار حيل اللصوص والشرط في تضاعيفها، ولا يحسبن أنها تدخل في باب تاريخ الحرب الكبرى الذي كلفت الحكومة الانكليزية هذا الكاتب العظيم بوضعه، ومنحته في سبيل إتمام هذا التاريخ مائة ألف جنيه تنشيطاً له واحتثاثاً، بل هذه ليست إلا صوراً رسم فيها ذلك الروائي المبدع وجهاً جديداً من حياته الخاصة، وصور بها أطفالاً له نجباء، وسيعلم القارئ أن السير كونان دويل ولا ريب وجد في تصوير هذه اللوحات الصغيرة ترويحاً لنفسه في هذه الأيام العصيبة التي تركت أثرها في كل روح، وشغلت كل ذهن، ونحن نعتقد أنها ستقع هذا الموقع من نفس القارئ وتخرج به من قراءة أخابير الحرب ومشاغلها وهمومها إلى قراءة قطعة عذبة لذة ذات مغزى طيب نافع. هذه الصور التي أرسمها هي عن ثلاثة أطفال، ولكن أشخاصها في الحقيقة خمسة، على أن الشخصين الآخرين ليسا إلا من باب الصور الإضافية فقط أما الأطفال الثلاثة فهم مختلفون جد الاختلاف وأكبرهم سناً صبي في الثامنة ندعوه لادي وإذا كان في أهل الإنسانية فارس انحدر إلى الدنيا جاهزاً. . وتام الفروسية فهو هو، فإن له روحاً أشجع ما يكون من الأرواح وهي أنكر الأرواح لذاتها، وأطهرها صفحة، وأنصعها أديماً، وهي تسكن بدناً طويلاً نحيفاً كامل الهيئة، خفيف الحركة، وهو صبي خجول، ولا يشرق أمام الغرباء، ثم يتلوه الطفل دمبلس وهو يناهز السابعة، ولن ترى في الدنيا طفلاً مثله استدارة وجه ونعومة خد، تحت عينين واسعتين شريرتين تلمعان مجوناً حيناً، ثم تنطفئان حيناً فتلوحان حزينتين ذابلتين، وفي هذا الطفل بذور الرجل العظيم، وأساس الجبار الهائل، وإن لروحه عمقاً وسكوناً ووقاراً تتجلى في كثير من الأحايين، ولكنه في ظاهره طفل الأطفال، وأشد الصبيان صبيانية، وهو أبداً يطلب العبث والأذى والمجون ويصرخ دائماً قائلاً، الآن أريد أن أتملعن وأمجن!. . فإذا قالها أتمها وإذا فاه بها أنفذها، وهو يحمل حباً خالصاً ووداً لجميع من حوله من المخلوقات، وهو أشد الناس ميلاً إلى خبر الحشرات ومعرفة أسرار الكائنات،

وقد شوهد كثيراً وهو يمسك بيده حشرة من الحدائق فيدنى فمها من حافة آنية مفعمة بالزبد ليعلم إذا كانت تحب الزبدةكما يقول: وهو يتفحص الحشرات ويخرجها من مكامنها بشكل عجيب، وطريقة غريبة ولك أن تضعه في أجمل حائط. . وتدخله أبهج بستان فإنك غير لابث قليلاً حتى تراه طالعاً عليك يحمل في يده ضفدعة أو بزاقة أو فراشة، ولا شيء في الدنيا يحرضه على إيذائها وإنما يمنحها ما يظنه كرماً وحسن معاملة ثم يعيدها إلى أوطانها ويردها إلى أماكنها التي التمسها فيها، وقد اعتاد أن يكلم أمه كلاماً خشناً إذا سمعها تأمر الخدم أن يقتلوا الفراش إذا وجدوه فوق الكرنب ولا يرضيه أو يقنعه أن يسمع منها أن تلك الحشرات مؤذية للخضر ضارة به. وإن له لمزية على أخيه لادي، وهي أنه لا يعتريه الخجل مطلقاً ولا يغريه بالسكوت، بل لا يلبث في لحظة أن يألف أي إنسان ويهجم عليه بالحديث ويسأله الأسئلة المتكاثرة وهو مخلوق فرح ولكنه (خلقي) أحب الأطفال إلى الشجار إذا قطب جبينه واحمر خده، وتقلصت شفتاه، فإذا عاودته هذه الحال استطاع أن يدفع أخاه الأكبر ويلصقه بالجدار، وذلك لأن أخاه يشعر بالفروسية، وتمسكه طبيعته النبيلة عن إيذائه أو مقابلته بالمثل، ولو قدر الله أن تظهر عظمة هذا الطفل الدفينة فيه النامية بين جوانحه، فهل تعرفون فيم تظهر، وأي منحى تنتحي، في قوة الخيال، فقل له أيتما حكاية فلا تلبث أن تجد الطفل قد راح مذهولاً مبهوتاً سارحاً في ملكوت الله، وإنه ليجلس جامداً في مكانه - لا حراك يتحرك، ولا يد يرفع، ولا رجل يهز، ولا يدع عينيه تتوليان عن عين محدثه وهو يلتهم كل غريب من الأقاصيص - وغامض مبهم من النوادر والحواديت وهو في ذلك نقيض أخيه، فإن هذا قلق لا يستقر به مكان، ولا يطمئن له مجلس، شغوف بأن يتحرك ويجري ليؤدي عملاً، أو ينفذ أمراً، ولكن دمباس الأصغر ينشغل ويثبت في مكان لا يبرحه، إذا كان هناك شيء خليق بأن يسمع، وإن له لصوتاً هو أحد مزاياه، وخاصة من خصائصه، فإذا كان قادماً عرفت ذلك عن كثب وهو مستهل طالع عليك من مسافة، وهو بهذه الرهبة الطبيعية، فضلاً عن جرأته وبلاغته واستفاضة كلامه يتخذ الرئاسة على إخوته في أي مكان يحتله على حين ترى أخاه الأكبر - وهو من نبله يرى نفسه أرفع من أن يحسن شيئاً من عوامل الغيرة - يرضى بأن يكون إزاء أخيه الصغير بمثابة الجمهور المتفرج الضاحك قبالة

المغنى الجهير الصوت. وأما الطفل الثالث فمخلوقة في الخامسة جميلة كملاك وعميقة الروح كبئر، والطفلان بجانبها قليلاً الغور وبركتان ظاهرتا القاع بالنسبة إلى هذه الطفلة الصغيرة، في وضوح نفسها واعتزالها وإخلادها إلى ذات روحها، ونحن نعرف الولدين أما البنت فلا نستطيع لكنها إدراكاً، إذ يلوح وراء هذا البدن الضئيل الصغير شيء قوي، وعنصراً شديد التأثير وإن لها إرادة هائلة، وعزيمة صارمة فلا شيء يردها عن أمرها، ولا أمر في الدنيا يغريها بترك منتوى نفسها، وإنما تستطيع النصائح والإرشادات الرقيقة اللينة أن تهذبها وتكبح جماحها هو نا ما، والطفلان لا يستطيعان شيئاً ولا حيلة لهما ولا رجاء، إذا هي أصرت على شيء، أو أجمعت النية على شأن من الشؤون، ولكنها لا تبدي هذه النية القاسية إلا إذا أرادت أن تعلن عن عظمتها، وتظهر جلالها، وهذه لا تكون إلا على فترات ولا تقع إلا في أحايين إذ أن عادتها أن تجلس صامتة هادئة معتزلة متنبهة لجميع ما يحدث حولها، دون أن تسهم فيه إلا بنظرة أو ابتسامة وهي وأخوها الصغير دمبلس حليفان صديقان وإن كانا لا يفتآن يقعان في شجار المحبين ومعاكسات العشاق، فإذا كانت يوماً غضبي منه لم تذكر اسمه في صلواتها وراء أمها فتقول اللهم بارك كل إنسان إلا دمبلس وإذ ذاك تصيح بها أمها، ما هذا؟ ما هذا؟ يجب أن تذكري اسم أخيك!. وحينئذٍ تقول متكرهة. . إذن، فاللهم بارك دمبلس الفظيع!. . بعد أن تخص بالابتهال إلى الله قطتها وجديها وعروسها الخشبية. وإن حبها عروسها خلق عجيب من بين أخلاقها، وهو يثير في الذهن نظرية علمية يؤيدها الأساتذة والفلاسفة، فقد بلغ من حبها لها أنها لا تذهب إلى أي مكان إلا اصطحبتها معها، وإن جميع لعبها الأخرى لا تعزيها عن غياب هذه العروسة، فإذا سافرت الأسرى إلى المصطاف على ساحل البحر فلا غنى عن سفر العروسة معها، ولن يغمض جفنها إلا إذا كانت بين ذراعيها - وإذا دعيت العشيرة إلى مأدبة، أصرت على حملها إلى الوليمة - وهذا الخلق يوحي إلى الفلاسفة شيئاً من تاريخ النوع الإنساني، فإن هذه العبودية التي تشعر بها الوليدة نحو عرائسها، صورة حية من نشوء الأديان، وهي أثر من آثار ساكن الكهوف والإنسان الأول، والوثني القديم، وفي حب هذه الطفلة لعروستها عبادة الوثنية فإن الهمجي المتوحش يختار الشيء التافه الذي لا يستحق العبادة فيعبده، وكذلك ترى هذه

الهمجية المتوحشة الصغيرة تعبد عروسة من الخشب. هؤلاء أطفالنا الثلاثة، صورتهم صورة خشنة لا دقة فيها ولا تلوين ولا تجميل بقدر ما استطاع قلمي الضعيف أن يصف ويرسم، والآن دعنا نتخيل أننا في فصل الصيف، والوقت مساء، والظلام قد عسعس، وقد جلس الوالد يدخن في مقعده، والأم عن كثب تسمع والأطفال قعود كالحزم على السجادة وهم يتباحثون ويتناقشون ويجتهدون في حل عقد مسائل الحياة الصغيرة الغامضة عليهم، وعندما يجلس أطفال صغار يلعبون بفكرة جديدة، يروحون أشبه شيء بالقطط أمام الكرة، فكل منهم يقذفها إلى صاحبه، وأحدهم يلاطفها بيده، والآخرون يحاولون اختطافها بعضهم من بعض. وكانت الطفلة تتكلم، وهي تحضن عروستها التي تؤثرها على جميع لعبها، فلم يسع الوالد إلا أن يخفي وجهه وراء الصحيفة التي كان يجيل البصر في أسطرها، ويشحذ سمعه للحديث الذي راح يدور بين الأطفال. قالت الطفلة: إنني لفي عجب - لا أدري هل سيسمحون لي بدخول عروستي معي إلى الجنة أم لا. فضحك الصبيان، وكانت عادتهما أن يضحكا لجميع ما تقول - فأردفت تقول. . إنهم إن لم يسمحوا بذلك، فلن أرتضي الدخول أبداً إلى الجنة وحدي. قال دمبلس: ولا أنا إذا لم يسمحوا لي بدخول نمري! وهنا عادت الطفلة تقول: سأقول لهم أنها عروس نظيفة هادئة ساكنة جميلة لا تؤذي أحداً في الجنة. . قالت ذلك وهي تحتضن العروسة وتلاطفها. وهنا نظر لادي إلى أبيه فقال. . . ما رأيك في هذا يا أبي؟ هل تظن أن في الجنة لعباً وعرائس!. . قال الوالد. . بلا ريب، يوجد فيها كل شيء يستطيع أن يسعد الأطفال ويبهجهم. قال دمبلس: وهل فيها قدر ما في ألف صنف؟ قال الشيخ: وهو يبلع ريقه متحيراً. . بل أكثر!. . فصفق الأطفال الثلاثة فرحين مبتهجين لهذا النبأ الخطير.

قال لادي: وهو أحب الأطفال إلى الحشرات وعلم الحيوان. أبتاه العزيز: إنني متحير في أمر الطوفان، متعجب منه أشد العجب. فسأله أبوه. . ومم العجب يابني؟. قال الطفل: من مسألة السفينة، فقد تعلمت أن جميع حيوانات الدنيا كانت فوق ظهرها، وإن من كل حيوان زوجين اثنين، أليس كذلك؟ قال الوالد: هو ذلك! فسأل الطفل: إذا كان ذلك كذلك، فماذا كانت تأكل الحيوانات آكلة اللحوم؟ وأنت فتعلم إن الإنسان يجب أن يكون أميناً مع الأطفال فلا يدلى إليهم بأجوبة مضحكة على أسئلتهم الغريبة، فإن أسئلتهم في العادة أكثر عقلاً وحكمة من أجوبة آبائهم. قال الشيخ: وهو يزن كل عبارة يقولها - الحقيقة يا بني، هذه الأقاصيص قديمة جداً جداً، وضعها اليهود في التوراة، ولكنهم استمدوها من القوم الذين كانوا في بابل، ولعل أهل بابل التقطوها من قوم قدماء أدركوا شباب العالم، وإذا تنقلت قصة مثل هذا التنقل، فقد يضيف إنسان عليها شيئاً ويردف آخر على ما أضاف الأول أشياء، ولذلك لا يمكن أن تنحدر إلينا الأحداث على حقائقها التامة. قال الطفل مستنتجاً: إذن فهي كاذبة لا حقيقة لها!. . فأجاب الوالد: بل أريد أن أقول حقيقية، فقد كان في الدنيا طوفان عظيم، وأظن أن قوماً استطاعوا النجاة منه وأنقذوا معهم حيواناتهم، فلما أقلعت السماء، وجفت الدماء، نزلوا إلى الأرض وحمدوا الله على سلامتهم. فسأل الطفل: وماذا كان رأي الذين لم ينجوا من هذا الطوفان. قال: هذا ما لا علم لنا به. فقال الطفل: بل بالطبع لم يشكروا الله ولم يحمدوا. فقال أبوهم: لقد لقوا عقابهم وحسب. وهنا انبرى دمبلس الأوسط فسأل فجأة. . هل ينبغي لنا أن نفعل كما كان يفعل عيسى؟ قال أبوهم: بلا ريب يا بني العزيز، فقد كان أنبل رجل. فسأل الطفل: وهل كان ينام من المغرب يا أبي؟

قال الولد: لا أعلم عن ذلك شيئاً. فقال الطفل: لو كان عيسى ينام حقيقة من المغرب فأنا لا أريد أن أقتدي به في هذه العادة. قال الطفل الأكبر: وهل كان يأخذ شربة زيت من الحين إلى الحين. فأجاب الوالد: إنه كان يصدع بما يؤمر، يا بني لقد كان رجلاً طيباً، ولذلك كان ولا ريب طفلاً طيباً في طفولته. قال لادي: إن أختي الصغيرة رأت الله أمس!. وهنا سقطت الصحيفة من الوالد رعباً وحيرة. فأردف الطفل يشرح الأمر وهو يقول: لقد أجمعنا أمرنا على أن ننام على ظهورنا ونحملق في السماء حتى نرى الله عياناً ولهذا وضعنا السجادة على العشب وامتددنا جنباً لجنب، ورحنا نحملق بقدر ما استطعنا، فلم أر شيئاً، ولم ير دمبلس شيئاً، ولكن الطفلة تقول أنها رأت الله. فأطرقت الطفلة برأسها ضاحكة وقالت أجل لقد رأيته. فسألها أبوه وما شبهه يا طفلة؟ قالت الطفلة شبهه شبه الآلهة تماماً، وأمسكت ولم تزد. قال لادي: وهو يمسك بأطراف الموضوع، أبي، من هو الأقوى، الله أم الشيطان؟ قال أبوه، الله بلا ريب لأنه يحكم كل شيء. فسأله ثانية: إذن فلماذا لا يقتل الشيطان؟ وأردف أخوه: ولماذا لا يسلخه؟ وقال الأول: ولو فعل لزال كل سوء من الأرض. أليس كذلك يا أبي؟ فوقع الوالد في الحيرة الكبرى فجاءت زوجته إلى عونه وراحت تقول للأطفال، لو كان كل شيء طيباً في الحياة سهلاً في الدنيا، إذن لما كنا واجدين شيئاً نحاربه ونجاهد إزاءه يا أبنائي الأعزاء، وإذ ذاك لم تكن لتتهذب أخلاقنا، وتتحسن نفوسنا، وتستقيم أرواحنا. قال الوالد مردفاً على قول الوالدة: وكانت تكون الحياة أشبه بميدان لعب الكرة، واللاعبون في صف واحد لا يجدون لاعبين أمامهم يقاومونهم.

وعادت الأم تقول: لو لم تكن الهموم والشرور والنقائص والمضار، لم نجد شيئاً نميز به، وبضدها تتميز الأشياء. قال الطفل: بذلك المنطق الغريب الذي يجنح إليه الأطفال، إذا صح ما تقولين يا أماه، فإن الشيطان نافع أكبر النفع وهو في النهاية ليس رجلاً مسيئاً كما كنا نظن. قال الوالد متحيراً: لا ينبغي أن نتصور الشيطان شخصاً بل نتصور جميع الدنايا والمعابات التي نرتكبها وجميع القسوات والفظاعات والشنائع، فهي الشيطان الذي نحاربه، فهل تظن في جميع هذا شيئاً نافعاً، أظنك لا تقول ذلك. ففكر الأطفال في هذا ملياً، ثم رفع لادي رأسه فسأل والده وهل رأيت الله أنت يا أبي؟ فأجاب الوالد: كلا، بل شهدت أعماله، وهذا كل ما نستطيعه في هذا العالم انظر إلى الكواكب في الليل وانظر إلى القوة التي جعلتها في نظام متين، ومسيرة مضطردة لا تغيير لها ولا تبديل. قال أحد الأطفال: لعله لم يستطع أن يجعل هذه الكواكب الشهب تقف في مكان واحد. قال الشيخ: بل لقد أراد بها أن تكون شهباً لا مقر لها ولا مطمأن. قال الطفل: ليتها كانت جميعاً شهباً، فيا الله من ذلك المنظر الجميل لو أنها راحت كذلك. قال الأب: نعم، ولكنها في ليلة واحدة قد تنفذ في كبد السماء ثم لا تلبث أن تحتجب، فانظر ماذا يكون حال الدنيا إذ ذاك. فلاحظ دمبلس: أحقاً أن الله يسمع جميع ما نقول؟ فأجاب الوالد: لا أعرف وهو خائف أن يساق إلى موضوع مخيف ولكن الأم كانت أثبت منه فقالت أجل يا بني، إنه يسمع كل شيء. فعاد الطفل يسأل: وهل هو يتسمع علينا الآن؟ قالت: أجل. فأردف الطفل يقول: إذا كان هذا فإن ذلك ليس من الأدب في شيء. فابتسم الوالد لأنه أدرك المأزق الذي وقعت فيه زوجته، وتنهدت الأم حسري مرعبة لا تعرف ماذا تقول. وهنا كان قد أمسى الليل، وحان موعد نوم الأطفال فنهضوا من مكانهم. قالت الأم: لتقولوا دعواتكم عند النوم قبل الذهاب إلى المضاجع.

فركع الثلاثة فوق السجادة، ولا تزال الطفلة مصرة على احتضان عروستها قال دمبلس صاحب الصوت العميق الأحش، وهو في موقف الإمامة، اللهم بارك كل إنسان أحبه واجعلني صبياً طيباً خير مثال للأطفال، ونشكرك اللهم ونحمدك على أن جعلت يومنا مباركاً ناعماً، اللهم أطل عمر أبي، وبارك في والدتي. وهنا أردفت الطفلة تقول: اللهم أرسل سكراً كثيراً للمساكين. وزاد عليها دمبلس، اللهم رخص لنا ثمن الغاز حتى لا يشكو أبي. قال الوالد: آمين. وانطلق الأطفال بعد تقبيلة المساء إلى المضاجع.

كتاب الانحطاط

كتاب الانحطاط للكاتب ماكس نوردو الفيلسوف الهدامة البديع كتاب سماه الانحطاط بحث فيه على طريقته المعروفة عن أسباب الانحطاط السائد على العالم اليوم وبخاصة أوروبا، وعن مظاهره ونتاجه، ولعل القراء يذكرون أنا نقلنا إلى العربية كثيراً من آراء هذا الرجل، واخترنا له مذ السنة الأولى من كتابه الغرائب وأكاذيب المدنية الحاضرة وكتاب الانحطاط هذا واليوم نلخص لهم آخر فصل من كتاب الانحطاط وهو الذي عقده للبحث عن انحطاط أوروبا ومصير هذا الانحطاط قال: أصيبت أوروبا في هذه العصور الأخيرة بالمرض النفساني أو العقلي الذي اصطلح علماء البسيكولوجيا والباثولوجيا (علماء النفس وعلماء الأمراض) على تسميته بالانحطاط، وهو مرض في الجهاز العصبي له تأثير شنيع على الحياة الذهنية والأخلاقية للفرد وبالتالي للجماعة، وأول من فطن إلى حقيقة كنه هذا الداء واستجلى غوامضه وأحاط بظاهره وباطنه ثم وضع له تعريفاً فنياً أصولياً هو البحاثة موريل إذ قال: إن أوضح فكرة يمكننا تكوينها عن مرض الانحطاط هو أنه انحراف فاسد عن صورة أصلية يترك المصاب به عاجزاً عن تأدية وظائفه الاجتماعية في الحياة، وهذا الداء ينتقل إلى الذرية بطريق الوراثة ويزداد ويتجسم مع التسلسل، وخواص هذا الداء - تعطل في نمو الملكات الذهنية والأعضاء البدنية وضعف وسقم فيهما. وأهم أعراض هذا الداء النفسية هي: عدم الشعور بفروض الآداب وواجبات الفضيلة أعني قلة التمييز بين الخير والشر، فالمصابون به لا يعرفون ما يسميه الناس قانون الحشمة واللياقة فتراهم لأقل باعث من شهوة أو هوي يقترفون الإثم والجريمة بكل طمأنينة وارتياح، ولا يكادون يحسبون أن في فعلهم هذا ما يسوء الغير ويؤذيه، وهذه الخصلة في أقصى درجاتها تسمي الجنون الأخلاقي، ولها سببان نفسيان، الأنانية الشديدة، وسرعة التهيج العصبي، أعني العجز عن مقاومة الإرادة متى همت باتيان أي شيء، ومن أعراض الداء أيضاً سرعة تأثر العواطف (وإن كان هذا العرض ربما شوهد في الرجل السليم عندما يصاب بعلة وقتية كالمرض الجثماني أو انتهاك القوى أو بصدمة ذهنية، ففي هذه الحالة يزول العرض بزوال السبب) فترى المصاب يضحك حتى تسيل دموعه أو يبكي منتحباً بلا داع ولا موجب، فالشعر البارد السخيف يطربه ويشجيه، والغناء الفاتر الضعيف يميته

ويحييه، وهو بين هذا وذاك يفخر ويتيه بما قد أوتي من رقة الإحساس وحدة الشعور، ويحسب أن الله قد خصه من دقة النظر ونفاذ البصيرة بما حرمه العوام والغوغاء من الطبقة الغبية البليدة، فيدلّ على أولئك المساكين ويرمقهم بعين الإصغار والاحتقار، وقد فاته أنه هو المسكين الخليق بالازدراء بل بالرحمة والرثاء، وإنه إنما يتيه ويفخر بداء وفساد في العقل. ومن أعراض الداء أيضاً نوع من الكآبة والضيق والهم يعتري المصاب ويظهر فيه على صورة اليأس والتشاؤم والتبرم بالناس والكراهة لجملة ظواهر الحياة والكون، أو الكراهة لنفسه والتأفف من ذاته، قال العلامة موريل وأمثال هؤلاء لا تكاد تسمع منهم إلا الأنين والشكوى يندبون حظوظهم ويلعنون القضاء والقدر بألفاظ وكلمات محدودة معدودة لا تتغير ولا تتنوع ويصورون لأنفسهم بأيدي الخيال صوراً شنيعة من الخسران والخراب والتلف. وهذا الضيق والهم والضجر تكون في العادة مصحوبة بالعجز عن القيام بالعمل أياً كان إلى حد الكراهية الشديدة للحركة على الإطلاق وموت العزيمة، والمريض المصاب بهذه البلية لا يخطر بباله أن سبب ما هو فيه من الضيق والملل ونتيجتهما من البلادة والتقاعد إنما هو فساد في الخلقة ومرض في العقل، ولكنه ترى أن الحالة التي هو بها هي نتيجة مشيئته الحرة واختياره فيعتقد أنه هو الذي فضل بمحض إرادته ترك الأعمال ترفعاً واستنكافاً من خسة العمل وحقارته وهو الذي تجنب السعي احتقاراً للدنيا وطلابها وعملاً بسنة الزهاد والمتصوفة وإيثاراً لمبدأ الرهبنة ودين البوذية، مادحاً نرفانا بأنه أكمل إنسان وأفضل مخلوق، فمثل هذا المصاب وأشكاله قد أعدتهم الفطرة لأن يكونوا شيعة الفيلسوف النابغة والمريض المصاب آرثر شوبنهور وليس عليهم إلا أن يتعلموا أصول البوذية حتى يعتنقوا هذه الديانة. وعلى ذكر الفيلسوف العظيم الذي كان من زمرة المصابين بذلك الداء (الانحطاط) نقول إنه لا يتحتم أن يكون (المنحط) (المصاب بداء الانحطاط) خلوا من النبوغ والعبقرية، فلقد أجمع الباحثون طرا على عكس ذلك، قال العلامة ليجران (ربما كان المنحط عبقرياً، وذلك لأن الذهن المختل التوازن هو بطبيعة خلقته وتكوينه جدير أن يعظم فيه بعض الملكات بقدر ما يصغر فيه البعض الآخر فبينما يسوؤك ويحزنك بأخبث الرذائل وأنكر القبائح إذ

يروعك ويفتنك بأعجب البراعات وأبدع المزايا) وقال العلامة روبينوفتش أن المنحط قد يبلغ من حيث ملكات التفكير والتصور (أي الملكات العقلية) درجة عالية جداً ولكنه لن يكون من الوجهة الأخلاقية إلا فاسداً فساداً تاماً، فهو يستخدم ملكاته الباهرة سواء في أشرف الأعمال وفي أخسها وأحقرها. أما منشأ هذا الداء (الانحطاط) فهو ضعف الأعصاب وانتهاك القوى وهما نتيجة لسببين رئيسين، أولهما الانهماك في الشهوات والملاذ وما يقتضي ذلك من معاقرة الخمور وتعاطي المخدرات وكد الأعضاء وإقلاق البال وتهييج العواطف وثانيهما ما كابدته أوروبا في القرن السالف وما تكابده الآن من الثورات والحروب ونحن قائلون هنا كلمة في شرح تأثير الحرب على الشعوب بإنهاك قواها وإضعاف أعصابها بمناسبة الحرب الحاضرة. قد اكتشف العلم الحديث الأمراض العصبية الناشئة من صدمة عصبية كطروء خطر فجائي مثلاً، فأثبت أن كثيراً ممن نجوا من الغرق أو النار أو حوادث القطارات أو ممن هددوا بالقتل قد فقدوا عقولهم أو أصيبوا بأمراض عصبية خطيرة مزمنة عقيمة، فما بالك بمن يغشون ساحة القتال ويغامسون حومة الوغي وأنهم ليكافحون كل هذه الأخطار مجتمعة في وقت واحد، فهم يبقون الأشهر والسنين مهددين في كل لحظة بالعاهات الفظيعة والموت الذريع محفوفين بمناظر الخراب والدمار والغرق والنار والجراح المخيفة وكثبان القتلى مكدسة مركومة مما تهلع له القلوب وتطيش العقول، أضف إلى ذلك الأعمال الشاقة التي تستهلك قواهم وتستنفذ مجهوداتهم، من الزحف المؤدي إلى الإعياء والحفا، وسوء الغذاء، والقحط أحياناً، وقلة النوم، واهتياج العواطف، ولا يقولن معترض إن الجندي يكتسب بالاستمرار مرانة على استقبال هذه الأهوال حتى يصبح عديم التأثر بتلك الفظائع المحيطة به، فرداً على هذا الاعتراض نقول إن قلة تأثر الجندي تؤول بأن منظر الفظائع الماثلة أمامه قد لا يستفز شعوره ولكنه يقع في حواسه بلا شك وتنقله الحواس إلى المراكز العصبية فيترك أثره في الجهاز العصبي، فكون الجندي لا يشعر بالصدمة العصبية - بل بالتحطم العصبي - ليس دليلاً على عدم حصول الصدمة، لأنه كثيراً ما شوهد في حوادث القطار والحريق والغرق أن المصاب وإن فقد الشعور أثناء الصدمة فلم يحس بهولها إلا أن آثارها من الأمراض العصبية لا بد أن تظهر ولو بعد مرور الأشهر على حدوث الصدمة.

وعلى ذلك فلا ريب في أن الحرب هي منشأ لداء الانحطاط بين الجماعات وأن معظم الجنود العائدين من المعارك يحملون إلى أوطانهم أعصاباً مريضة، وهذه النظرية قد تكون أقل انطباقاً على الفريق الغالب منها على الفريق المغلوب لأن الشعور بالفوز من ألذ إحساسات النفس البشرية، ونتيجة هذا الإحساس اللذيذ من تجدد النشاط والقوة خليق أن يقاوم المضار الموبقة الناشئة من تأثير فظائع الحرب، ولكنه لا يستطيع محو هذه المضار البتة، وهكذا يعود الغالب والمغلوب إلى وطنيهما وقد خلف كل منهما على ساحة القتال جانباً عظيماً من قوته العصبية والأدبية. إن تفشي الغلظة والوحشية في الشعوب غب الحروب قد أصبح من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل، فقد عرف الناس أن الشعوب المتحاربة تخرج من الحرب أسوأ أخلاقاً وأخشن طباعاً مما كانت عليه قبل، فيزداد في كشوف إحصائياتها تعداد الجرائم والفظائع، ولا يحسب أحد أن الجندي الذي يعود من الحرب سريع الغضب يسحب خنجره على الناس لأقل باعث - إنما يفعل ذلك لأنه قد صار أشجع قلباً وأخشن جانباً - كلا بل لأنه قد صار أشد تهيجاً، وقد أثبت العلم أن سرعة التهيج ليست إلا إحدى ظواهر الفساد العصبي. ولما كان هذا الداء الانحطاط شاملاً لم يخل منه فريق المفكرين من الكتاب والشعراء والمصورين والموسيقيين فقد خرج جانب عظيم من مؤلفات الأجيال الحاضرة متلبساً بعاهات هذا الداء وشوهاته ومقاذره وهو على ذلك أروج من الكتب السليمة القيمة النقية وقامت الجماهير المصابة العليلة فأجلست على أريكة دولة الآداب والفنون رجالاً أدهشوا القراء ببدائع الخيال وروائعه ولكنهم أصفار من الآراء الناضجة والأفكار المنتجة الخصيبة مجردون من المبادئ القويمة والمذاهب السليمة منحرفون عن سنن الحق والمنطق والطهر والفضيلة يشحنون مؤلفاتهم بأصناف الباطل والخرافات والخزعبلات ويفعمونها فوق ذلك بأفانين الفسق والفجور والإثم والرذيلة، والجماهير الحمقى السخيفة تسميهم قادة الدنيا وأعلام الهدى ومصابيح المستقبل، وما هم إلا فئة من المرضى المصابين لولا مزية الخيال القوي والأسلوب الرائع لكان المستشفى أولى بهم من غرفة الكاتب والمؤلف. فأوروبا الآن قائمة في حومة داء ذهني فتاك - أو بعبارة أخرى في حومة موت أسود من الانحطاط فلا جرم إذا تساءلنا ماذا يكون بعد ذلك؟

لا يسعنا إزاء ما نبصر من أعراض هذا الداء العضال إلا استنباط النتيجة الآتية هي أنه إذا كان الداء المذكور لم يبلغ بعد أقصاه وأنه سيزداد شدة وعمقاً واتساعاً فلا بد أن يأتي زمن تصبح فيه الظواهر المقصورة البوم على سكان مستشفيات المجاذيب فقط قد شاعت في المجتمع الأوروبي وصارت من أحواله وصفاته العادية، وإذ ذاك ترى الحياة قد أخذت الصورة الآتية أو نحوها: تؤسس أندية الانتحار في كل مدينة، وإلى جانبها تقام أندية التذابح أي قتل الأعضاء بعضهم بعضاً عن اتفاق وتراض بواسطة الخنق والشنق والطعن بالمدى والخناجر، وبدلاً من الحانات والفنادق تنشأ أماكن لتعاطي الأثير والكلورال والنفط والأفيون والحشيش، ويزداد عدد المصابين بفساد حاستي الذوق والشم ازدياداً يستوجب فتح دكاكين تقدم فيها على صحون الذهب وأواني البلور جميع أصناف القاذورات للزبائن الذين يجلسون على فاخر الكراسي محفوفين بكافة ضروب الأوساخ متلذذين باستنشاق روائح النتن والعفونة، وتخلق وظائف وأعمال جديدة - كوظيفة الحقن بالمورفين والكوكايين، ووظيفة أناس يقفون على معاطف الطرقات يمدون أيديهم للمصابين بمرض الأجورافوبيا (مرض ذهني من شأنه أن صاحبه يعتريه الخوف الشديد إذا أراد عبور طريق واسع) ليساعدوهم على عبور الطرق والساحات، ووظيفة أناس يهدئون - بجميع أساليب الأيمان والتأكيدات - خواطر المصابين بداء الشك والارتياب كلما جاءتهم النوبة العصبية. يشتد في الناس التهيج العصبي إلى حد أنك تجد المصابين به يطلقون الرصاص من نوافذهم على الأطفال الذين يصفرون أو يصرخون تحت بيوتهم صراخاً غير موسيقي خالياً من الأوزان والقوافي، أو تجدهم يهجمون على مدارس الموسيقى فيقتلون صغار الفتيات اللاتي يتلقين دروسهن الابتدائية في الكمنجة والبيانو لأنهن صدعن رؤوسهم وهيجن أعصابهم بضوضائهن الأليمة، أو تجدهم يحاولون أن ينسفوا بالديناميت شركات الترام لأن السواقين يطيّرون عقولهم بالأجراس والصفافير، فلهذه الأسباب كلها تسن الحكومة قوانين لمنع التصفير والصياح في الطرق، وتبنى مدارس الغناء والموسيقى بكيفية تمنع نفاذ الأصوات إلى الخارج، وتوضع في القانون مادة لتحذير المركبات من إحداث أقل صوت أثناء سيرها، ونظراً إلى أن نباح الكلاب يصيب الكثيرين بالجنون ويغرى الكثيرين

بالانتحار يسن قانون بمنع إبقاء الكلاب داخل المدن إلا بعد إخراسها بقطع العصب الحنجري وآخر يحرم على الصحافيين وأرباب المجلات أن ينشروا موضوعات تتعلق بحوادث الانتحار والإكراه والاغتصاب وإلا فهم مسؤولون عن كل ما يرتكبه القراء من الجرائم تقليداً لما دونوه في صحائفهم. تفسد العلاقة الجنسية (التي بين الذكور والإناث) فساداً يستدعي تغيير النواميس المشروعة والعادات المألوفة ملاءمة للحالة المستجدة، فترى المخنثين - الذين يصبحون يومئذ السواد الأعظم من الناس - يلبسون أزياء نسائية لوناً وتفصيلاً، أما النساء فلا يستطعن إذ ذاك إرضاء الرجال إلا إذا لبسن أزياء رجالية - أحذية طويلة غليظة بمهاميز ونظارات على عيونهن وعصيّ وسياط في أيديهن وسيجار طويل في ثغورهن، وتشرع القوانين القاضية بتزويج الرجل بالرجل وإباحة مواطأة الأخوات والأمهات وغيرهن من المحرمات ومواطأة الحيوانات والموتى، وكذلك يصبح العفاف والتقى من خرافات الماضي ويعدان من قبيل الوحشية والصفات الرجعية المنافية لروح الرقي والتقدم ويعد الشغف بسفك الدماء مرضاً بسيطاً يقدم المصاب به إلى عيادة الطبيب بدلاً من محكمة الجنايات. ويشتد ضعف العقول بدرجة تستدعي تقصير وقت الدراسة بالمعاهد العلمية فيجعل ساعة واحدة في اليوم، وكذلك لا يسمح للمحاضرات والخطب بل للروايات التمثيلية والمناظر السينماتوغرافية أن تستغرق أكثر من ربع ساعة على الأكثر وعلى ذلك يحذف من بروجرامات المدارس كافة المواد المتعلقة بالتربية الذهنية وتكثر المواد الخاصة بالألعاب الرياضية ولا يمثل على المسارح إلا مناظر الفسق والدعارة وقتل الآباء والأبناء وإلى هذه المسارح يهرع الآلاف من غواة الفن للتبرع لأرباب الأجواق بتمثيل هذه المنكرات حتى يفوزوا بلذة هذه الميتات الحلوة الشهية بين هتاف الجماهير المأنوفة. وينسلخ معظم الناس من الأديان المعروفة ويتكون عدد عظيم من الشيع الروحانية التي تستخدم العرافين والكهان وضراب الرمل ومحضري الأرواح والمنجمين والسحرة وقراء الأكف بدلاً من القسوس والأساقفة. وتشتد مبالغة الشعراء والكتاب والمصورين في تعمية أغراضهم وإخفاء مقاصدهم واستعمال الرموز الغامضة والكنايات المبهمة بدلاً من الجمل الواضحة والعبارات

الصريحة وذلك لاختلاط أذهانهم وتشويش عقولهم وخلوها من المعاني المحدودة والأفكار البينة الجلية - نقول ويبلغ من تعاظم هذه العيوب الكتابية إن المؤلفين لا يضعون الكتب والأسفار، والمصورين لا يرسمون الصور والنقوش كعهدنا بها الآن ولكنك تجد الكتاب مطبوعاً على ورق أحمر أو أسود أو أزرق أو ذهبي، وعلى هذه ترقم ألفاظ متنافرة غير متسقة ولا متصلة وأحياناً ترقم مقاطع من الألفاظ أو أحرف أو أرقام ولكنها منطوية على رموز خفية يطلب من القارئ حلها بواسطة لون الورقة وصنف حروف الطباعة وحجمها وشكلها، والمؤلفون الذين يطلبون الشهرة والرواج يستعينون على بلوغ ذلك بتحلية الأسطر بنقوش رمزية وإشباع الصحيفة بنوع معين من الروائح العطرية يرمز به طبعاً لغرض معين ومعنى مقصود، ولكنّ هذا المذهب الكتابي يعد مستهجناً مبتذلاً عند علية القراء ومهذبيهم وذوي الفطنة والبصر بأسرار البلاغة منهم، فهؤلاء يعدون أحسن الكتب والدواوين ما ضمنت صحفها حروفاً مبعثرة مفرقة من أحرف الهجاء، وأفضل منها الكتب التي تضم أغلفتها صحفاً غفلاً خالية من كل أثر ولكنها مصبوغة بألوان مختلفة وهناك جمعيات تؤلف خاصة لشرح هذه المؤلفات وتفسيرها وحل ألغازها وفك طلاسمها، وهذه الجمعيات تتضارب آراؤها في تأويل الكتب المذكورة وتتباين مذاهبها فيحدث بينها من المشاجرات والمشاحنات ما يؤدي في معظم الأحايين إلى سفك الدم وإزهاق الأرواح الخ الخ.

الطلاق وتعدد الزوجات

الطلاق وتعدد الزوجات نظرة فلسفية عامة في هذا الموضوع للفيلسوف دافيد هيوم لما كان الزواج عقداً يبرم بين الذكر والأنثى عن اتفاق وتراض وكان الغرض منه المحافظة على النوع فمن البديهي أنه لا يمكن أن تكون شروطه واحدة بعينها في جميع الأحوال المختلفة ولكن متنوعة حسبما يقتضيه الاتفاق ولذلك كان من الحماقة أن يحسب الناس أن الزواج يمكن أن يكون على صورة واحدة في جميع العصور والأمم، ولولا أن الناس مقيدون بالقوانين والشرائع لم تكد تجد زيجتين متماثلتين في الدنيا، بل لكنت تبصر بين كل زيجة وأخرى من الخلاف ما تراه بين سائر أنواع العقود والمساومات. فعلى حسب اختلاف الظروف ومزايا القوانين المتعددة تختلف شرائط الزواج التي تفرضها هذه القوانين في الأماكن والأزمان المختلفة، ففي ميناء طونكين من بلدان الصين اعتاد البحارة الافرنج الذين يرسون بهذه الميناء أن يتزوجوا من الوطنيات مدة موسم البطالة، والأمر المدهش العجيب أن هؤلاء الزوجات بالرغم من قصر عمر هذا الزواج ويأسهن من بقائه يعطين أزواجهن أوثق العهود على ملازمة العفاف والصون لخدورهن وحسن القيام بجميع ما لهم عليهن من الحقوق. وتتابعت مرة حروب وأوبئة على جمهورية أثينا (في عهد قدماء اليونان) فأفنت جانباً عظيماً من أهلها فأباحت الجمهورية للرجال زواج الاثنتين تعجيلاً بتعويض خسائرها، واتفق في ذلك الوقت أن الشاعر التمثيلي الكبير يروبيديز وقع بين امرأتين شريرتين فسامتاه سوء العذاب بكثرة مشاجراتهما ومنازعاتهما حتى بغضتا إليه النساء فبقى إلى آخر عمره من ألدّ أعداء الجنس اللطيف. وحدث في بعض الأزمان أن سفينة غرقت على كثب من ساحل بلد قفر غير معمور فنجا جانب من ركابها ولاذوا بذلك الساحل وتصادف أن عدد الرجال فيهم كان أضعاف عدد النساء، فوقع الخصام والنزاع بين الذكور لتزاحمهم على الإناث ففض القبطان المشكل بتقسيمه العنصر اللطيف على رجاله بالطريقة الآتية: اختار امرأة جميلة لنفسه خاصة، وأعطى امرأة واحدة لكل اثنين من النوتية المتوسطي الدرجة، وامرأة واحدة لكل خمسة من

النوتية الأصاغر. ولقدماء البريطان أسلوب في الزواج لا يوجد بين غيرهم من الأمم، وذلك أنه كان يجتمع عدد منهم - عشرة أو اثنا عشرة - فيعيشون معاً وهو أمر ضروري ضمان البقاء في تلك العصور الهمجية، ثم لتوثيق عري الألفة والاتحاد بينهم كانوا يتخذون مثل عددهم من النساء ليكنّ زوجات مشتركة بينهم جميعاً بلا تخصيص، وكل ما يولد لهم من الذرية يعدونه ولداً للجميع على السواء، ويقوم الكل معاً بتربية هذه الأولاد وتموينهم. أما بين الحيوانات فلما كانت الطبيعة هي المشرّع الأعلى فهي التي تقوم بوضع القوانين الضابطة لشؤون زواجها وتنوع هذه القوانين تبعاً للظروف الخاصة بكل حيوان، فحيث تسهل الطبيعة أسباب الغذاء والحماية للحيوان المولود فإن زواج الأبوين ينتهي عند انقضاء النزوة الأولى، إذ يترك الفحل ولده للأنثى ويمضي لشأنه، أما في الظروف التي يصعب فيها استحضار الغذاء فإن الزواج يستمر مدة موسم كامل حتى يصبح الولد قادراً على تموين نفسه وعند ذلك ينحلّ عقد الزواج من تلقاء ذاته ويصبح كل من الطرفين حراً مستعداً للدخول في تعاقد آخر في الموسم القابل، أما الإنسان فلما كانت الطبيعة قد وهبته العقل فلذلك لم تعن العناية التامة بتحديد كل مادة في عقد زواجه ولكنها أباحت له تحديد هذه المواد حسبما تقتضيه ظروفه الخاصة فنشأ عن ذلك الصور المختلفة للزواج كتعدد الزوجات في أمم المشرق وإباحة الطلاق عند قدماء اليونان والرومان، أو تقييد رجل بامرأة طول حياته في أوروبا الحديثة وهنا يجدر بنا أن نبحث في مزايا ومضار كل واحد من النظامات المختلفة. قد يقول أنصار تعدد الزوجات إن هذا النظام هو الدواء الوحيد لآفات العشق والوسيلة الوحيدة لتحرير الرجل من استبعاد المرأة إياه الذي هو نتيجة لزومية لعاطفة الحب، فهذا النظام وحده (أعني تعدد الزوجات) هو الكفيل لنا باسترداد حق سيادتنا على المرأة، لأنه بإشباع شهوتنا للنساء يعاد إلى نفوسنا سيطرة العقل على الهوى وبالتالي يعاد لنا نفوذنا وسلطتنا في بيوتنا، فالرجل مع النساء كالحاكم الضعيف مع رعيته فكما أن هذا لا يستطيع أن يقاوم مكايد الشعب ودسائسه إلا بتسليطه بعض الأحزاب على بعض فكذلك الرجل بإشعاله نار الغيرة بين نسائه يصبح مطلق النفوذ والسلطان عليهن، وفي المثل السائد فرّق

تسد وإن ترك هذه الخطة هو الذي أوقع الأوروبي من الرق والعبودية فيما هو أمر واد هي من حالة رعايا ممالك الشرق الذين يخضعون لحاكم هو على كل حال بعيد عنهم ولكنهم في بيوتهم حكام مطلقون وملوك مستبدون. وعلى نظام تعدد الزوجات قد يعترض بحق بأن استعباد الرجل للمرأة هذا إنما هو ضرب من الظلم والاغتصاب وأنه يفسد صلة المساواة التي يجب أن تكون بين الرجل والمرأة وإن الطبيعة قد جعلت من الرجل حبيباً للمرأة وعاشقاً وصديقاً، أفيليق به بعد ذلك أن يستبدل من هذه العلاقات الودية المحبوبة علاقات العبودية الكريهة ولقب الجبار المستبد والغشوم الطاغية. وماذا نستفيده من هذا النظام، هل نستفيد من وجهة كوننا عشاقاً أو من وجهة كوننا أزواجاً، كلا لا فائدة البتة، لأن هذا النظام الاستبدادي يفسد في نفوسنا صفات العاشق وصفات الزوج معاً، ألا ترى أنا بهذا النظام نفقد ألذ أدوار الحياة أعني دور المغازلة والتودد الذي يقع بين الخطيبين قبل الزواج الاختياري القائم على رغبة الطرفين ورضاهما، فإن هذا الدور اللذيذ لا يتفق مع النظام الاستبدادي الذي تباع فيه المرأة للرجل بيع السلع في الأسواق، وإن الزوج الذي يهتدي إلى إتلاف جميع عناصر الحب إلا عنصر الغيرة لملئ بالخيبة والخسران، فإن الغيرة بين سائر أركان الحب الممتعة الشهية هي كالشوكة بين أوراق الوردة الناضرة، والويل للأحمق المأفون الذي ينتزع أوراق الوردة فينبذها ويحتفظ بالشوكة. وهكذا نرى أن هذا النظام الاستبدادي (القاضي بتعدد الزوجات) الذي يتلف كل عناصر الحب إلا الغيرة إنما هو عامل فعال في حل روابط الحب والصداقة فإن الغيرة تقطع أسباب الألفة والوداد بين الأفراد وتفصم عرى الثقة والعقيدة، فترى الرجل لا يجرأ أن يدعو إلى داره صاحباً أو صديقاً مخافة أن يكون قد جلب إلى زوجاته عاشقاً مغراراً، ولذلك ترى البيوت والأسر في بلاد المشرق منعزلة منفصلة كأنها الممالك المستقلة، فلا عجب والحالة هذه أن تلقي سليمان (الملك والنبي) يذم الدنيا ويعدد آفاتها ومصائبها مع ما أوتي من أبهة الملك ورغد العيش وسط زوجاته السبعمائة وسراريه الثلاثمائة لأنه كان مع كل هذه المتاعب لا يجد صديقاً واحداً يشاركه في أفراحه وأتراحه، ولو كان جرب لذة الحياة

الغربية التي تنعم بها أوروبا الحديثة وهي زوجة أو رفيقة واحدة وبضع أصدقاء وعدد وافر من الجلاس والسمراء لوجد الحياة أخف محملاً وأحلى مذاقاً، عجباً للإنسان يمحو من حياته عنصري الحب والصداقة ماذا بقي في الحياة - لا درّ درّه - بعد ذلك؟ ومن نتائج هذا النظام الزواجي الشرقي أيضاً سوء تربية الأولاد لاسيما أولاد السراة والأعيان، وماذا تنتظر من ذرية تنشأ بين أمهات رقيقات وآباء جبابرة إلا أن يشبوا على طبائع الذل والجبروت فيصبحوا عبيداً أذلاء وطغاة جبابرة، فتراهم في مخالطتهم رؤساءهم ومرؤوسيهم لا يكادون يذكرون أن الله قد خلق الناس أمثالاً متساويين بالفطرة وماذا تنتظر من والد له خمسون ولداً أن يكون مبلغ اهتمامه وعنايته بغرس مبادئ الآداب والعلوم في ذرية لا يكاد هو نفسه يلم بأطرافها أو يعرف أفرادها لهذه الأسباب كلها يظهر لنا أن الانحطاط والبربرية نتيجة لزومية لنظام تعدد الزوجات. ومما يزيد النظام المذكور شناعة آفة الحجاب وتضييقه الخناق على الجنس اللطيف في كافة أنحاء المشرق، ففي هذه الأقطار يمنع الرجال البتة من كل اتصال بالإناث حتى الأطباء والجراحين فلا يسمح لهؤلاء أن يعودوا النساء في أمراضهن إذ يكون المرض قد أخمد فيهن كل شهوة بريئة أو أثيمة وصيرهن من الوهن والذبول بحيث لا يطمع فيهن طامع، وقد حدثنا الطبيب تورنيفورت أنه لما استدعي إلى سراي الحرم السلطاني بالاستانة أدخلوه صالوناً فسيحاً فنظر فإذا أذرع ممدودة خارجة من ثقوب في جانبي الصالون يمنة ويسرة فتناهى عجبه من ذلك المنظر المدهش وسأل عن سر ذلك فأعلموه يفحص شيئاً منها خلاف تلك الأذرع، وإنه محظور عليه أن يسأل المرضى أو غيرهن من الخدم والوصفاء أدنى سؤال خشية أن يؤدي ذلك إلى التساؤل عما لا يصح إعلانه من حديث القصر، ومن ثم كان ما يدعيه أطباء الشرق من استطاعة معرفة كافة الأمراض بواسطة النبض فقط شبيهاً بدعوى الدجالين عندنا (انكلترا) معرفة المرض بمجرد النظر في البول، وظني أنه لو كان الطبيب تورنيفورت من أولئك الدجالين لما سمح له أهل البلاط الملوكي في الاستانة بهذه المادة (البول) يستعين بها على ممارسة فنه وصناعته وذلك لفرط غيرة الأتراك على المرأة. أما وقد دحضنا نظام تعدد الزوجات وقضينا عليه لنظام توحيد الزوجة فلنبحث الآن في

موضوع الطلاق هل يصح أن يكون اختيارياً كعهده أيام اليونان والرومان، وهنا نورد الحجج التي يقدمها أنصار مذهب الطلاق والأسباب المبنية عليها هذه الحجج. يقول أنصار هذا المذهب أن الزواج كالقرص من عسل النحل فيه الشهد والشمع - فالشهد هو ما يسبق العرس من زمن المغازلة والزلفى إلى المعشوقة والتودد وما يحتويه ذلك الزمن من حوادث القرب والبعد والوصل والهجران والخصام والتصافي - وبعد هذا الدور اللذيذ ينتهي العسل ولا يجد الزوجان أمامهما سوى الشمع، ثم يحدث بينهما الفتور والجمود والملل والضجر والمشاحنات والأذى، وهذه الجراح لا يزيدها الزمن إلا اتساعاً، أليس الأصوب والأليق بنا والحالة هذه أن نفرق قلوباً لم تخنق على مثال واحد ولم يرد الله أن تتآلف وتمتزج، ولكنها قد تجد أشكالها وأشباهها في أناس آخرين إذا هي انفصلت وتزايلت، وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته. هذا وحرية الطلاق ليست فقط دواء التشاحن والكراهة العائلية، بل هي أيضاً وقاية من هذا الضرر، وهي السر الوحيد في استبقاء تلك المودة التي ألفت بين الزوجين في أول الأمر، وبيان ذلك أن الرجل يفرح بنعمة الحرية ويغتبط ومجرد فكرة المضايقة والتقييد تؤلمه أشد الألم، فإذا قيد قلب الرجل بعشرة المرأة التي لم يضمها لنفسه إلا عن محض إرادة واختيار فإن العاطفة تتغير في الحال وتنقلب عن الميل والرغبة إلى النفور والزهد، فإذا كانت القوانين تحرمنا بنظام توحيد الزوجة لذة التنويع والتنقل التي هي من أكبر لذائذ الحب أفلا أقل من أنها تبقى لنا مزية الحرية التي هي من أوجب ضروريات الحب، ولا يقولن أحد لصاحب مبدأ الطلاق ارض بزوجتك فإنك أنت الذي اخترتها بمحض هواك وغرضك فعلى مثل هذا المعترض نرد بالكلمة الآتية نعم لقد اخترنا سجننا بأنفسنا ولكن لا عزاء لنا في هذا إذ كان لا مفر من بقائه لنا سجناً مؤبداً. ويقدم المعارضون لمبدأ حرية الطلاق نفياً للحجج الآنفة ردين قاطعين وهما: (أولاً) ماذا يكون مصير الأولاد بعد افتراق الزوجين، لا مناص من ترك معظمهم لامرأة أب يلقون على يديها كراهة عدوة لهم أو إهمال أجنبية غريبة باردة القلب من ناحيتهم، أفليس في الطلاق الإجباري (الموت) كاف لا يقاع تعساء الأطفال في هذه البلية حتى تضاعف عدد هؤلاء التعساء بمضاعفة حوادث الطلاق ووضع سلطته الرهيبة في أيدي

الأزواج ينفذونها لأقل باعث من هوي أو شهوة مما يسوق الذرية إلى موارد العذاب والأسى. (ثانياً) لا مشاحة في أن الإنسان يثور بفطرته ضد الأسر والتقييد ويفرح بالحرية ولكنه من وجهة أخرى يخضع للضرورة ويوطن النفس على السيء الذي لا مناص منه ولا موئل، وهذان المبدآن - مبدأ كراهة التقييد والرضا بالواقع الذي لا محيص عنه - إن قلت أنهما متناقضان فهذا حق، ولكن أليس الإنسان إلا خليطاً من المتناقضات ومزيجاً من الأضداد، هذا وإن الضدين من أخلاق المرء لا تراهما في العادة يتحاربان ويمحو أحدهما الآخر، ولكن ترى أحدهما يتغلب على الثاني تبعاً للظروف الخاصة الملائمة له المؤيدة لسطانه، فطبيعة النفور من التقييد وكراهة التضييق تقوي وتستفحل في دور العشق الذي يسبق الزواج لأن العشق بطبيعته عاطفة قلقة نزقة وثابة مملوءة بالأهواء المتضاربة والنزعات المتباينة فهي تنشأ فجأة من تأثير لحظ أو ابتسامة أو ملاحة أنف أو وجنة أو حركة أو جلسة أو خطرة أو من لا شيء ثم تنطفئ وتزول على هذا النحو، فمثل هذه العاطفة تتطلب الحرية قبل كل شيء، أما مبدأ الصداقة والعشرة فهو خلق ساكن هادئ يدبره العقل وتؤيده العادة، وينشأ عن طول الصحبة وتبادل الأفضال والمنن - وهو خال من أسباب الغيرة والظنون والمخاوف، مجرد من طوارئ الغضب والرضا وحوادث الهجر والوصل ونوبات الحميات الباردة والحارة التي يتألف من مجموعها هذا العذاب العذب والألم اللذيذ الخاص بعاطفة العشق، فمثل هذا الخلق الهادئ (أعني الصداقة بين الزوجين) التقييد أكفل باستمراره والتضييق أضمن لقوته وبقائه، فهو لا يبلغ أقصى غايته إلا إذا ارتبط الزوجان بروابط المصلحة والضرورة حتى يتفقا في المقصد ويتحدا في الغرض والغاية، فلا خوف إذن من إبرام عقدة الزواج الأبدي فإنه أوكد لمودة الزوجين إذا كانت متينة من الأصل وأحرى أن يكسبها قوة ومتانة إذا لم تكن كذلك، وكم مشاجرات تافهة وأكدار بسيطة يتغاضى عنها الزوجان اللذان يعلمان أنهما مربوطان بقيد الزواج الدائم، وهي إذا وقعت بين اثنين غير مقيدين هذا القيد كانت مليئة أن تهيج الشر بينهما إلى أقصى درجات المقت والعداوة.

أكاذيب الحب

أكاذيب الحب مقال فكاهي طريف ترجمه من الانكليزية محمد السباعي ما زال الحب مصدراً للخيال فهو لا يزال يولد حتى في أجهل الطبقات وأغلظها آلافاً من الهموم الوهمية والأمراض الشعرية (أعني الخيالية) فهو يطلق لسان الحوذي والبواب بما يماثل رقيق الغزل وحلو النسيب ويترك الجندي الغليظ سهل الجانب سلس المقادة، فترى أحط السوقة وأخشن العمال إذا أصابه الحب يدمي حشاه ويذوب صبابة وعليه من آيات الظرف والأدب ما هو من مستلزمات هذه العاطفة. وهذا الذوبان النفساني الداخلي قد أحدث في اللغة لفظاً أصبح شائعاً في هذه الفئة الذائبة وأعني بهذا اللفظ ميت صبابة. والروايات والقصص التي قوامها ومنشؤها هذه العاطفة مملوءة بهذه الميتات المجازية فترى الأبطال فيها والفرسان والغانيات والقيان كلهم في حالة النزع والاحتضار ومن ثم صار الشعراء يشبهن الجنس اللطيف بنوع الأفعى التي تسلط لحظها على الطائر حتى تقتله بسحر عينها، ولكن أبدع من هذا وأدق تشبيه الشاعر (كولي) المرأة الجميلة بالقنفذ الذي يرسل السهام (كناية عن أشواكه) من جميع أجزاء جسده. ولقد بحثت في هذا الأمر فرأيت أن أحسن علاج لهذا المرض العام هو أن يتأمل العاشق حقيقة معشوقته التي هي مصدر الداء، فإذا رأى أنها قد تيمته بجمال صحيح وفضل صريح فليسترسل في حبه وإعجابه، أما إذا وجد أن سبب مصابه ومحنته هو سفاسف وسخافات من تصنعات امرأة متبرجة خداعة فلا عذر له في التمادي واللجاجة. بهذه الفكرة استعرضت عدداً وافراً من رسائل الحب التي جاءتني من هؤلاء الأموات فكونت منها كشف إحصائية الوفيات الآتي الذي سأقدمه الآن للقارئ بلا مقدمة ولا تعليق خدمة له إذ قد بينت فيه مواضع الخطر ومظان الداء وأوضحت أفظع الأساليب والحيل التي تتخذها الحسان لسفك دماء الأبرياء والطائشين المستر أ. قتل في السينا ماتوغراف في 3 سبتمبر. المستر ب. أصيب بطلق من بعض النوافذ فخر قتيلاً. المستر ج - أصيب في دار الأوبرا بلحظ من عين زرقاء وكان المقصود رجلاً آخر فمات

بالقضاء والقدر. المستر د. قضى نحبه في مرقص. المستر هـ -. مات بخبطة مروحة على كتفه الأيسر من كف الآنسة كوكيتيلا دلوعة بينما كان يحادثها وهو في حالة اطمئنان وعدم استعداد. المستر و. أصيب بجراح بليغة في جنبه الأيسر بفردة شراب المسز اما الأحمر أثناء نزولها من مركبتها. المستر ز. قتل في دار التمثيل بتكشيرة. المستر ح. أصيب بجراح قتالة من الآنسة (نل) بينما كانت تزرر فستانها. المستر ط. وافاه الأجل في الحمامات في 31 إبريل. المستر ي. لقي حتفه من يد مجهولة كانت تلعب بالقفاز (الألدوان) على الجانب الأيسر من البنوار الأمامي بدار التمثيل. المستر ك. أصيب برضوض شديدة لاحتكاكه بفروة كم فستان فزدقي. المستر ل. أصيب بطلق نفذ إليه من خروق مروحة في كنيسة سانت جيمس. المستر م. انضرب في قلبه بعقد لؤلؤ. المستر ن. والمستر س. والمسترع. والمسترف، بينما كانوا واقفين صفاً إذا سقطوا جميعاً في لحظة واحدة بغمزة من عين الأرملة (ترابلند) (صائدة). المستر ق. داس غير متعمد على ذيل سيدة أثناء الانصراف من التياترو فاندارت عليه فجأة فخر ميتاً في الحال. المستر ر. قتل في مجزرة حفلة العرس الأخيرة. المستر ش. قصف غصن شبابه الغض في الحادية والعشرين من عمره بتأثير البودرة. المستر ث. قتل بسهم خرج من غمازة في خد ماري الأيسر. المستر خ. بينما كان يقدم إلى المسز فلافيا قفازها - وكانت ألقته على الأرض عمداً - أخذته منه وأخذت روحه بانحناءة (علامة الشكر). المستر ذ. أصيب بجرح خفيف من عين سوداء وبينما كان يحاول الفرار أصيب بابتسامة أجهزت عليه.

المستر ض. أصيب وهو طائر بسهم من فتاة في الخامسة عشرة إذ أطلت عليه برأسها من المركبة عن غير قصد. المستر ظ. أغرق في بركة من الدموع بواسطة المسز (مول).

قاعة الموت

قاعة الموت وآلام الظمأ الظمأ إحساس عام يتناول أجهزة البدن كلها، وإن كنا لا نفتأ نعده إحساساً في جزء واحد من الجثمان فقط، أي إحساساً نشأ من جفاف الفم والحلق والحنجرة، ولكن هذا الجفاف الذي نحسه جميعاً ونعرفه ليس إلا أثراً من نقصان السائل في الجسم، على أن الظمأ قد يحدث دون أن ينقص البدن شيء مما يستلزمه من هذا السائل، وإنما هو اضطراب جزئي يحدث إحساساً جزئياً فإن جميع ألوان الشراب والقهوة والتوابل تحدث رغبة شديدة في الماء، وتثير ظمأ حاراً ملهباً، وإن كانت الخمر والقهوة تزيدان السائل الذي في البدن دون أن تنقصه، وكثيراً ما كان السائل على كثرة مقاديره لا يستطيع أن يطفئ جذوة الظمأ في أحوال كثيرة، ولاسيما الظمأ المتطاول الشديد. فقد وصف الرحالة أندرسون في عرض تواليفه عن رحلاته في صميم إفريقيا ومجاهلها الآلام التي كان يعانيها أتباعه وحيواناتهم فقال بعد كلام طويل حتى إذا امتهد للقوم السبيل إلى الماء وشربوا حتى استجموا فكأنما فقد الماء مزيته الأصلية لديهم، لأن جميع الوسائل التي اتخذناها لتخفيف شرة الظمأ لم تجد فتيلاً وذلك الظمأ الطويل والصبر مدة كبيرة على آلامه أحدثا ضرباً من الحمى لم تذهب آثارها بمجرد استجمام البدن من حاجته إلى السائل، ومن هذا تعلم أنه وإن كان السبب الأولي للظمأ هو نقصان السائل في البدن لا يزال له ثمة سبب خفي وذلك ألم جزئي موضعي استثار الظمأ. على أن هذا الإحساس الموضعي لا يزال متوقفاً على أجهزة البدن فلو أنك أنفذت الماء إلى الأمعاء أو العروق انطفأت حدة الظمأ وإن لم يمس الفم أو الحلق، والجو الرطب البارد يمنع الظمأ والاستحمام يطفئ من جذوته ولهبه لأن الجلد يمتص الماء. وكما أن الجوع ينشأ من نقصان مقدار الطعام اللازم للأجهزة ينشأ الظمأ من نقصان مقادير الماء، لأن الماء الذي نشربه إنما يذهب كل لحظة في التنفس، لأننا كلما تنفسنا أضرمنا مقداراً من الماء في شكل بخار، ويتجلى ذلك في الشتاء عندما يتجمد البخار المتصاعد مع أنفاسنا، ولكن العرق أيضاً سبب لنقصان الماء في البدن، والماء هو العنصر الأكبر في البدن، لأنه يحتوي سبعين في المائة من وزن الجسم كله، وليس في جميع الأجهزة، ولا في

العظام ولا في الأسنان، كذلك عضو واحد يخلو تركيبه من الماء ففي الأنسجة العصبية يتألف الماء من 80 جزء من ألف، وفي الرئة 830 من الألف. وكثيرون من الناس استطاعوا احتمال الحرمان المطلق من الطعام بضعة أسابيع، ولكن الحرمان من الشراب ثلاثة أيام - إلا إذا كان ذلك في جو رطب - قد يكون الحد الأقصى لاحتمال الإنسانية، لأن الظمأ أشنع عذابات الدنيا، وأفظع الوسائل التي اتخذها الحكام المستبدون، في الشرق والغرب لتعذيب أعدائهم والناقمين عليهم، بل إن الظمأ هو السبيل التي يستعين بها الناس على تدجين حيواناتهم وتأليفها وكسر شرتها، فقد كان من عادة أحد العلماء - وكان لديه جواد شكس شامس رذل - أن يستخدم الظمأ لكبح جماحه وكسر حدته، فإن هدأ الجواد قليلاً منحه من الماء قليلاً، حتى لم يلبث الحيوان أن راح ذلولاً سهلاً مطمئناً للركوب، مطواعاً للأعنة. ولعل أغرب أحداث الظمأ التي ذكرها التاريخ تلك القصة التاريخية المأثورة التي وسمنا هذا الفصل بعنوانها، أعني قاعة الموت وهي الحجرة السوداء في كلكتا عاصمة الهند وهي التي حبس فيها مائة وستة وأربعون نفساً ونحن ننشرها هنا كحادثة تاريخية ممتعة ونظرية علمية تدل على آلام الظمأ في أشنع صوره. وتفصيل الحادث أن حاكم قلعة وليام بكلكتا أيام الفتح الانكليزي لمستعمرة الهند، حبس تاجراً من الهنود لذنب ارتكبه، وجريمة أحدثها، فلم يكن من سراج الدولة طاغية ولاية بنغال إلا أن تذرع بهذا الحادث واتخذه شفيعاً مبرراً لغارته على تلك القلعة في جيش جرار، وحاصرها وافتتحها ثم حبس البقية الباقية من الحامية في حجرة من حجراتها تسمى القاعة السوداء وقد وضع قائد الحامية - وكان أسيراً محتبساً في تلك القاعة الشنيعة مع القوم - وصفاً بليغاً يستدر الشؤون ويرعب الأبدان، ونشر هذا الوصف عام 1758، ونحن نقطتف منه النبذة الآتية: صور لنفسك حال مائة وستة وأربعين مسكيناً قد هد التعب قواهم هداً وتراخت نفوسهم بعد متعبة الحرب والقتال، يركمون بعضهم فوق بعض في حجرة مساحتها ثمانية عشر قدماً، في ليلة حارة قائظة من ليالي الهند الدافئة، يقوم على جوانبها حيطان شاهقة، وأسوار منيعة ولا فتحات فيها إلا في الناحية الغربية منها، حيث لا يوجد إلا نافذتان مسورتان بقضبان

الحديد، لا يكاد ينفذ منهما شيء من الهواء - فما لبثنا بضع دقائق حتى راح كل منا يحس عرقاً متصبباً مستفيضاً يجري من بدنه، لا يستطيع القارئ له تصويراً، وهذا أحدث ظمأ ملهباً مضى يزداد في سعرته كلما تحدر العرق وتصبب، وجعلنا نفكر في عدة وسائل لتفسيح المكان واستجلاب الهواء، فلكي نصيب الطلب الأول، اهتدينا إلى فكرة صائبة، وهي التخفف من الأثواب، وخلع الأردية، فأجمع القوم على استحسانها واستصوابها، ولم تكن إلا لحظة حتى خلع الجميع أثوابهم كلها، إلا أنا ومستر كورت واثنان بجانبي، فتهللت وجوه الجمع إذ ذاك فرحاً إذ حسبوا أنهم قد أصابوا مأمناً ومضوا يلوحون بالقبعات في الفضاء ليحدثوا جرياناً في الهواء، وهنا اقترح أحدهم بالجلوس القرفصاء، ففعل القوم ذلك، ولكن الضعفاء المهزولين، الذين أضواهم التعب، لم يستطيعوا النهوض، عندما أمروا به لأنهم فقدوا قوة سوقهم، ولما جلس الجمع جنباً إلى جنب وتساندوا وطلب إليهم بعد ذلك النهوض، جاهدوا جهاداً شديداً في سبيل القيام على أقدامهم، ولم تكد تحين الساعة التاسعة من المساء، حتى كان الظمأ قد بلغ الغاية القصوى، ولم يستطع الإنسان له احتمالاً فحاولوا كسر الباب فلم تجد محاولاتهم نفعاً، فعمدوا إلى قذف الإهانات الشنعاء والمثلبات النكراء وعور الكلم للحراس حتى يستنفروهم إلى فتح الباب وإغضابهم حتى يرمونا بالرصاص فلم يفلحوا، أما عن نفسي فلم أكن حينئذٍ قد شعرت بشيء من الألم الشديد، اللهم إلا على القوم وسوء مصيرهم، فقد جعلت صدري وفمي بين قضيبين من قضبان النافذة، لأجعل للهواء سبيلاً إلى رئتي، وإن كان الظمأ قد بدأ يثور في نفسي، والعرق يجري شديداً صبيباً من أجزاء جثماني، وإذ ذاك شعرت برائحة كريهة صدرت من الجمع المتألم المسكين، حتى لم أطق أن أحول وجهي عن النافذة فراراً من شمها. الآن بدأ كل إنسان - إلا أولئك الذين جاءت أمكنتهم على مقربة من النافذتين - يلهث ويصرخ، ومنهم قوم غشيتهم الغاشية وأصبحت الصرخة العامة، الماء! الماء! وهنا أخذت الرحمة بفؤاد رجل من الحراس فأمر للقوم بقرب من الماء، وكان هذا ما أخشاه لأنني توقعت إذ ذاك أن تكون تلك المقادير من الماء الضربة القاضية التي تذهب بما بقى من أمل فحاولت مراراً أن أتوسل إليه فيما بيننا أن يمنعها عن الجماعة ويمسك عن تقديمها إلى القوم ولكن حال صياح الجمع وتهافتهم على الماء دون ذلك، فلما تقدم إليهم الماء ولاح

لأعينهم اللهفى الظامئة، فهيهات للقلم أن يستطيع أن يرسم الصورة المخيفة التي بدت من القوم إذ رأوا مطلع الماء عليهم، وتجلت لأعينهم هذه الضالة المنشودة، وقد كنت أعلل النفس من قبل بأن بعض هذا الجمع، من أولئك الذين ظلوا حافظين لقواهم العقلية قد يعيشون حتى نهاية تلك الليلة ويشهدهم الصبح أحياء ولكني إذ رأيت ذلك الهول، توجست خيفة وأشفقت أن لا يبقى منا أحد يقص على الإنسانية قصتنا وينقل إلى العالم أمر هذه الجريمة العظيمة، وقبل أن يظهر الماء لم أكن أحس ظمأ شديداً إليه، ولكنني لم ألبث إذ لمحته أن علا ظمئي واشتد واضطرم ولم نجد وسائل لحمل الماء من القرب إلى تلك القاعة إلا باغترافها في القبعات، ونقلها في أجواف القلانس، بعد مدها من خلال قضبان النوافذ ولكن الماء لم يحدث إلا تخفيفاً عارضاً ولم يطفئ جذوة الألم إلا لحظة قليلة، وبقى العذاب على حاله، والعناء برمته، ولئن كنا نحمل الماء في القبعات من خلال القضبان، ونجلب في القرب مقداراً طيباً، ونملأ القلانس حتى حفافها، فإن ما كان بين القوم من التنازع والاحتيال على الظفر بالجرعات منه والحسوات الصغيرة من القبعات لم يترك في كل قبعة إلا قدر ما يملأ الفم، أو قدح الشاي، على أن هذه الغوثة كانت أشبه شيء بتقطير قطرات من الماء على النار المشبوبة، تزيد النار اشتعالاً واللهيب التهاباً، أواه، أيها الناس، كيف عمركم أستطيع أن أصف العذاب الذي أحسسته والألم العظيم الذي ثار في فؤادي للصيحات والوثبات والاعوالات والأنات التي زفرت وتصاعدت من أقصى القاعة، وأبعد أركان هذا المحبس، من أولئك الذين لم يستطيعوا مد أيديهم إلى الماء أو الاقتراب من القبعات، واستيأسوا من الظفر بقطرة تبل حلوقهم، واستعصت عليهم الحيل لنوال حسوة واحدة تخفف شدة ظمئهم، وهم يصرخون عليّ متوسلين، مستحلفين بجميع الأقسام المقدسة، مستصرخين بكل حرمات الود والحب والرثاء، وإذ ذاك أصبح الاضطراب عاماً مخيفاً مرعباً، وقد اشتد التدافع والتزاحم حتى أصبح غير محتمل، واندفع كثيرون من الذين كانوا وقوفاً في الناحية القصوى من الحجرة يطلبون وصولاً إلى النافذة فألقوا إلى الأرض كثيرين من أولئك الذين تهدمت قواهم، وتحطمت أعصابهم، فوطؤوهم بأقدامهم، وخنقوهم خنقاً، ولبثت من الساعة التاسعة إلى الحادية عشرة أنظر إلى هذا المشهد الفاجع ولا أستطيع شيئاً، وأنا أمد الجمع بالماء في القبعات وقد كادت ساقاي تتحطمان من أثر الضغط

الشديد عليهما، ولكن لم ألبث أن وجدت الجمع قد تدافع حتى كدت أختنق، ووقفت لا أستطيع حراكاً من مكاني، فلما أضواني التعب، وكدت أروح صعقاً، أجمعت أمري على أن أترك النافذة، وأخلي نفسي من أمر إمداد الجمع بالماء، فصرخت في القوم وتوسلت إليهم أن ينقذوني من هذا الضغط الخانق، ويدعوا لي السبيل إلى ترك مكاني إذا كانوا يشعرون بشيء من الاحترام لي، ويسمحوا لي بأن أفارق النافذة وأموت في مكان بعيد من الحجرة، فخلوا السبيل، وأزاحوا الطريق فاخترقت الجمع بكل صعوبة حتى بلغت بهوة السجن، حيث كان الزحام أقل منه في أركان الحجرة، من جراء الجثث التي سقطت موتى وهلكى تحت الأقدام، فركعت فوق جثة من تلكم الجثث وأسندت رأسي إلى جثة أخرى وأسلمت نفسي في ذمة الله العلي العظيم وشعرت بشيء من الراحة، إذ ارتقبت أن تكون آلامي وعذاب نفسي قد كادت تنتهي، أو لعلها على مختتم، وإنني عما قليل أستريح من إحساس الحياة، وإذ ذاك بلغ ظمئي أشده، وصعب تنفسي واختنق ولم ألبث كذلك عشر دقائق حتى أحسست ألماً في صدري وخفقاناً شديداً في قلبي، لا أستطيع تصويره، فنهضت من مكاني مكرها ولكن زاد الألم في صدري، وعظم الخفقان، واشتد الاختناق، على أن حواسي لم تتبدد، ولبي لم يذهب، وأحزنني أن لا أرى الموت مني على قاب قوسين، وآلمني أن أجدني لا أزال بحواسي، ولم أستطع احتمال الآلام أكثر مما احتملت، وللحال أجمعت على أن أخترق الطريق إلى النافذة المقابلة وبقوة أحسست أنها ضعف ما كنت أشعر به من شدة الأسر بلغت الصف الثالث دون النافذة، فتشبثت بقضبان الحديد، وبذلك كنت في الصف الثاني، ولم تكن إلا بضع لحظات حتى زال عني ألم الصدر، والخفقان في القلب، وصعوبة التنفس، ولكن الظمأ ما فتئ يتزايد ويعظم ويلتهب فرحت أصرخ بأعلى صوتي: الرحمة أيها الناس، الرحمة، شربة ماء، شربة ماء فحسبني الجميع هالكاً على محضر الموت، ومشرف المنون ولكن القوم إذ رأوني لا أزال واقفاً في غمارهم، أحسوا بأن الاحترام لا يزال واجباً لي، والعطف أخلق بمثلي، فصاحوا، أعطوه ماء، أعطوه ماء!. ولم يجرأ أحد منهم على لمس القبعة التي امتدت إليها الأيدي حتى اجترعت جميع ما فيها ولكن الماء لم يحدث ترويحاً، ولم يخفف ألماً، ولم يكسر حدة الظمأ، بل زاد ظمئي به وتفاقم واضطرم، فأجمعت على أن لا أشرب ثانية وإنما وطنت النفس على الصبر، وأسلمتها إلى الألم

والاحتمال، على أنني جعلت فمي رطباً إذ رحت أرشف من الحين إلى الحين وأمتص بين كل لحظة وأختها العرق المتحدر من أكمامي وقميصي وألتقط القطرات المتصببة، وهي تسقط كقطرات المطر الوابل من وجهي ورأسي، ولا أصف لك اليأس والحزن والآلام التي كانت تثور بفؤادي إذا فرت قطرة منها أو أفلتت من فمي المتفتح لها، المفغور لتلقيها وقد لاحظني أحد رفاقي وأنا أعالج هذه الوسيلة فالتقط الفكرة، واسترق الوسيلة ومضى يمتص ما يتحدر من أكمامي ووجهي وأطراف بدني، وبذلك نهبني جزءاً عظيماً من كنزي، وسرقني نصيباً طيباً من هذا المختزن العزيز لدي إذ ذاك فلما أحسست ذلك منه، وأدركته عليه، جعلت كلما امتلأ كم من ثوبي أسرع فأمتصه قبله وأزاحمه على رشفه، وكثيراً ما التقت أنفي بأنفه، واصطدم فمي بفمه ونحن متنازعان على الثوب متقاتلان، وهذا الرجل كان من بين الذين نجوا من غائلة الموت بعد ذلك وهو اليوم يؤكد لي ويقنعني بأنه لا يزال مديناً بالحياة لي، بفضل القطرات العديدة التي امتصها من أكمامي، والحق أقول لكم لم يكن في العالم نمير عذب، ولا فرات كان أسوغ وأعذب وألذ من تلكم القطرات التي جعلت أحسوها من العرق المتصبب من ثوبي وبدني!!. ولم تكد تنتصف الحادية عشرة حتى كان عدد عظيم من الجمع في حمى مرعبة، وغشية صارعة محزنة هاذية، وآخرون منهم علا ضجيجهم، واستحكم هذيانهم، وارتفعت الحمى لديهم، ولم يبق من القوم أحد ظل على شيء من الهدوء والسكينة إلا الذين نجوا بأماكن على مقربة من النافذتين، وقد وجد الجميع الآن أن الماء لا يسكن سورة الظمأ ولا يطفئ جذوته، بل يزيدها اشتعالاً، ويضرم نارها إضراماً، وأصبحت الصرخة العامة من جميع الأفواه، الهواء، الهواء! وراح الجمع يبتكر ألعن الشتائم، وأنكر السباب، وأقبح الكلم العوراء، لكي يخرج الحراس عن طورهم، ويثور حقنهم، فيرمونا بنيران بنادقهم، ويطلقوا علينا قذائفهم، حتى نستريح من العذاب، وننجو من الألم، ولو فعلوا لهرع كل إنسان من القوم يستقبل الرصاص بصدره، ويزاحم إخوته على الاستباق إلى ورود حياض الموت، ولكن هذه الحيلة لم تنجح فتراخى الذين اضمحلت قواهم، وخفت للموت أرواحهم، واضطجعوا على أديم الحجرة فوق صدور إخوانهم الهلكى، ورفقائهم الموتى الذين فارقوا هذه الآلام واستراحوا بالموت من العذاب الشديد في ظل الحياة، وآخرون لا يزال لديهم

شيء من القوة والجلد اقتحموا السبيل مستيئسين إلى النافذة وكثيرون على اليمين وعلى الشمال سقطوا عياء وكلالاً، ولم يلبثوا أن سكنت نأمتهم، وفاضت أنفاسهم الأخيرة، إذ علت الآن من جثث الموتى وجسوم الأحياء ريح خانقة خبيثة شنعاء. وفي تلك اللحظة لم أكن أشعر بشيء من الإحساس، بل رأيت غشية متقدمة إلي، آخذة بعنقي، فسقطت قريباً من ذلك الرجل الشهم العظيم وهو ضابط من خيار الضباط اضطجع ميتاً خامد الأنفاس بجانب فتى له من الشباب المساعير ويده في يده، والرأس بجانب الرأس، وفي الفترة التي تلت ذلك إلى الساعة التي أنقذنا فيها من شر قاعة الموت، وحجرة الشنائع والأهوال، لا أستطيع أن أدلي إلى الناس بوصف، أو أشرح لهم شيئاً. هذه هي النبذة التي اخترناها من ذلك الوصف الرهيب. فلما كانت الساعة السادسة من الغد فتح باب القاعة فإذا بثلاث وعشرين شخصاً فقط من المائة والستة والأربعين، هم الذين تتردد فيهم الحياة، وتتصاعد أنفاسهم مرجّعة خافتة، فأنقذ هؤلاء بجميع الوسائل وتعافوا بعد لأي وجهد.

الاشتراكية

الاشتراكية ركن المساواة المساواة فكرة قديمة جداً ظهرت في العالم قبل ظهور الاشتراكية بقرون عديدة ومن الجائز أن تموت الاشتراكية وتبقى المساواة بعدها، وذلك لأن المساواة أمنية ومثل أعلى، أما الاشتراكية فوسيلة من ضمن الوسائل العديدة التي تتخذ لتحقيق هذه الأمنية، والأمنية حسب الترتيب الطبيعي وقواعد المنطق سابقة لوسائلها وعمرها أطول من عمر وسائلها، فإن الإنسان لا يفكر في اختيار طريق دون طريق إلا بعد أن يعرف لنفسه غرضاً ما، وقد يظهر له عوار الطريق الذي اختاره فيعدل عنه من غير أن يضطر للعدول من غرضه الأصلي. ظهرت فكرة المساواة في العصر اليوناني الروماني وقام البليبيان وطلبوا من البريسيان أن يساووهم بأنفسهم في الحقوق السياسية والدينية وذكر أريستوفان في رواية له على لسان براسكاجو زوجة أحد قضاة أثينا أن من الواجب أن تكون الأشياء كلها ملكاً للمجتمع وأن يكون لكل إنسان نصيب فيها وأن تكون كل الأنصبة متساوية وأن يعيش الجميع كعائلة واحدة وعلى وتيرة واحدة وطعام واحد ومن يخالف ذلك يعاقب عقاباً صارماً، وهذه هي الاشتراكية بنفسها، ولكن لا يغيبن عن الأذهان أن العبيد في هذه العصور القديمة كانوا بمعزل عن الأحرار لا يقاسمونهم هذه الحياة الاشتراكية. وبعد انقضاء هذا العصر اختفت فكرة المساواة وانطفأت جذوتها وبقيت كذلك مدة طويلة حتى أشرقت المدينة الحديثة فأرثت نارها وأشعلت لهيبها وألبستها حلة خلابة استهوت العقول وتبعها خلق كثيرون يسبحون باسمها ويستهدون بنورها. وقد يقال لماذا ظهرت في هذين العصرين فقط ولم تظهر في العصور التي بينهما؟ وما الداعي لظهورها في جهة وعدم ظهورها في أخرى؟ وهل لهذا من سبب وما هو؟ إن مرجع الإجابة على هذه الأسئلة علم النفس والوقوف على حقيقة الهيئة الاجتماعية في هذين العصرين والعصور التي بينهما وتحليل الأخلاق والمعتقدات ومقارنتها بعضها ببعض، وهذا بحث يضيق المحال عن إيفائه حقه، وكل ما نقدر أن نقوله هو أن لتقارب الأجزاء التي يتكون منها المجتمع أو تنافرها وعدم التئامها وكيفية امتزاجها بعضها ببعض

تأثيراً كبيراً في حمل النفوس على تطلب المساواة وأن طبيعة الشريعة تدعوهم إلى القناعة والرضا بما قسم لهم والاكتفاء بما لديهم وعدم التطلع إلى ما في أيدي غيرهم، وهذه أخلاق لا تساعد على انتشار المبادئ الاشتراكية بينهم، وكيف تنتشر المبادئ إذا كانت التربة غير صالحة لغذائها والنفوس غير مستعدة لقبولها. محا التاريخ الفرنساوي الامتيازات السياسية والاجتماعية التي كانت لبعض الطبقات ومهد السبيل لقيام الطبقات المغبونة ومطالبتها لحقوقها المهضومة وفي سنة 1848 نال الفرنساويون عموماً حق الانتخاب وأصبح للعمال نواب في المجالس التشريعية يدافعون عنهم ويناضلون عن مصالحهم ويتطلبون لهم حقوقاً جديدة. ومما زاد العمال قوة واقتداراً اكتسابهم حقوقاً لم تكن لهم من قبل بل كان القانون يحرمها ويعاقب عليها كحق الاجتماع وحق الاعتصاب، وساعدت المصانع الكبرى على تآزر العمال وتكاتفهم إذ من لوازمها اجتماع عدد كبير من العمال في بناء واحد وكانوا من قبل مبعثرين في أنحاء البلاد، والاجتماع من أهم العوامل الفعالة على نشر المبادئ خصوصاً المبادئ الخلابة. تسلح العمال بكل هذه الأسلحة الماضية وقاموا في وجوه الملاك يناضلونهم ويحاولون التغلب عليهم وملء قلوبهم الحقد والضغينة على الملاك الذين خدعوهم في الثورة الفرنساوية وحملوهم على القيام معهم في مناهضة الإشراف والقسس، وبعد الثورة اشتغل الملاك بالقوة والمال أما العمال فقد رجعوا بخيبة الآمال، ولا يزال الملاك يخادعونهم ويسوقونهم إلى حروب لا فائدة لهم منها. ليس للاعتصابات العديدة التي كثيراً ما تنتاب أوروبا أسباب مخصوصة خلافاً لما يظهر للعيان لأول نظرة، وإنما كلها ناشئة عن سبب واحد هو تمسك العمال بمثلهم الأعلى وتطلعهم للمساواة التامة وهم يعتقدون في أنفسهم أنهم أساس الثروة العمومية ومصدر الخير ومنبع الأرزاق وأن كل ما في العالم من متاع وزخرف صنع أيديهم، وإن ثروة الأغنياء آتية من الظلم والسرقة لأن العامل ينتج أكثر من حاجياته بكثير ولكنه لا يأخذ منه إلا القدر الضروري لحياته وما زاد عن هذا القدر يدخل في جيوب الأغنياء ظلماً وعدواناً، فاعتصاب العمال مهما اختلفت أسبابه الظاهرية حركة اقتصادية غرضها الحقيقي انزال

الملاك عن عروشهم. المساواة الاقتصادية والمساواة القانونية هل يجوز لنا أن نستنتج أن المساواة الاقتصادية تولدت عن المساواة القانونية وأنها درجة من درجات تطورها ولولا المساواة القانونية لما وجدت المساواة الاقتصادية ولما شعر بضرورتها وعد لها إنسان؟ كلا فإن المساواة الاقتصادية مساواة تامة تشمل المساواة القانونية وزيادة فهي الأصل وغيرها الفرع، والأصل حسب ترتيب الوجود الطبيعي سابق للفرع. إن القول بأقدمية المساواة القانونية وأسبقيتها المساواة الاقتصادية خطأ محض، وسبب هذا الخطأ الخلط بين أمرين مختلفين واعتبارهما كشيء واحد وهما الرغبة في المساواة وحركة المساواة، فالرغبة في المساواة الاقتصادية سابقة للرغبة في المساواة القانونية لأنها هي الأصل كما سبق بيانه، أما حركة المساواة فبخلاف ذلك أي أنها ابتدأت أولاً بالدعوى إلى المساواة القانونية فلما أدركها العالم اتخذها وسيلة للوصول إلى المساواة الاقتصادية، والسبب في البدء بالمساواة القانونية سهولة فهمها وقرب نوالها فإنه يكفي للوصول إليها بضعة أسطر أو كلمات من قلم الشارع أما المساواة الاقتصادية فغامضة المعنى حتى لدى المتشيعين لها تحفها الأوهام والخرافات وليس لها حدود معروفة. الركن الأولى للاشتراكية ليست الاشتراكية بالمذهب الوحيد الداعي إلى المساواة بل هناك مذاهب أخرى تنشدها وتسعى إليها، وهذه المذاهب ليست من الاشتراكية في شيء بل تخالفها وتحاول القضاء عليها، وإذن فمن الخطأ البين الاكتفاء بركن المساواة في تعريف الاشتراكية بل يجب أن نضيف إليه ركناً آخر وهو الركن الأولى أو الحامل النفساني على طلب المساواة، وأعني بالحامل العواطف التي تخالج النفس وتستفزها للعمل. إن للعواطف النفسانية تأثيراً كبيراً على المرء في سلوكه واختياره الطريق الذي يوصله إلى غرضه، وسترى فيما يلي أن العواطف التي تأتمر بها الاشتراكية تخالف العواطف الخاضعة لها المذاهب الأخرى التي تتبارى مع الاشتراكية في طلب المساواة وإن لهذا الخلاف أثراً ظاهراً في أعمال القائمين بنشر هذه المذاهب واتخاذ القوة أو اللين وسيلة

لتحقيق آمالهم. تنشد المساواة لسبب من اثنين الأول رقة القلب وشرف العواطف والتأذي من رؤية الفاقة والفقر، والسبب الثاني عدم الرضا عن الأغنياء لأثرتهم الشديدة، والسبب الأول هو الحامل على تأسيس المذاهب التي تخالف الاشتراكية وهذه المذاهب وديعة ساكنة لا تنقم على أحد ولا تبغض الأغنياء لأنها لا تري في غناهم ظلماً للفقراء أو سبباً للشقاء وإذن فلا تسعى إلى قلب النظام الحالي بل تحافظ على كيانه وترد عنه كيد أعدائه لأنه كفيل حسب رأيها بإسعاد الإنسانية والصعود بها إلى أوج الرفعة والرفاهية. أما الحامل الثاني فخاص بالاشتراكية لأن الاشتراكيين لا يطلبون فقط الرحمة وإنما يطلبون النصفة والعدل ويعتبرون الأغنياء قوماً أنانيين. لم يثروا إلا بإجهاد الفقير واستنفاد قواه، وهم قد استأثروا بالأموال من غير عمل وبدون حق ولا يبذلونها إلا في المفاسد وزيادة الأرباح، ولن تهدأ الإنسانية وتذوق طعم الراحة، ما دام في الأرض فقر مدقع ولا يخيم السلام على العالم إلا إذا حاسبنا الأغنياء لا بالذبح والقتل بل بإلغاء الملكية الفردية التي هي بيت الداء ومظلمة الفقراء. ومن هنا يرى القارئ أن الركن المادي للاشتراكية وهو إلغاء الملكية الفردية نتيجة لازمة للركن النفساني وإن الاشتراكية ليست بالمساواة فقط بل تزيد عليها بحبها للعدل، ولو كانت الاشتراكية قاصرة على فكرة المساواة لكان من العبث واللغو تسميتها كذلك ولوجب الاكتفاء بلفظة المساواة وتسمية الاشتراكيين بالمتساوين أو طلاب المساواة، على أنها مع ذلك أقرب إلى الحلم اللذيذ منها إلى الحقيقة الممكنة. إلغاء الملكية الفردية إن للوصول إلى المساواة في نظر الاشتراكيين طرقاً عديدة وسبلاً شتى منها توزيع الأملاك والأموال على جميع الأفراد بالتساوي وفرض ضرائب ثقيلة على الأغنياء بحيث تكون مانعة إياهم من التغالي في الغنى وتأخذ منهم ما تكدس في خزائنهم من الأموال لتعطيه الفقراء، ومنها هدم الملكية الفردية وتأسيس الملكية الاجتماعية على أنقاضها، وهذا المثل الأخير دون سواه بغية الاشتراكية الصميمة وأمنيتها الوحيدة، وما عداه فمن المذاهب الأخرى.

تحاول الاشتراكية أن تلغي الملكية الفردية بمعنى أنها تحرم على الأفراد امتلاك الأشياء التي من شأنها الإنتاج كالأراضي الزراعية والمعدنية ومحلات الصناعة والتجارة أما الأشياء التي تقتنى للاستهلاك كالطعام والثياب فيجوز للأفراد أن يملكوها لا على سبيل الاحتكار بل للانتفاع بها. إقامة الملكية الاجتماعية ولكن لا تكتفي الاشتراكية بهدم الملكية الفردية بل تسعى إلى تأسيس ملكية اجتماعية تكون شاملة لجميع موارد الرزق وخاضعة في الإدارة والاستثمار إلى رأي الجماعة. إن الاشتراكية إدارة مترامية الأطراف يشترك فيها جميع الأفراد كموظفين يتقاضون على عملهم أجراً وتشمل جميع مرافق الحياة لا تترك كبيرة ولا صغيرة إلا وتضع لها نظاماً. وليس من شأنها الهدم والتخريب والقضاء على كل نظام وإماتة كل قانون، وإنما هذا من شأن الفوضوية التي تبغض النظام وتسعى في استئصال شأفة الحكومات مهما كان شكلها السياسي والاقتصادي. إن الاشتراكية والفوضوية على طرفي نقيض، هذه تسعى إلى تخريب النظام الحالي وتحول دون إقامة أي نظام آخر، وتلك تحترم جميع القوانين ما عدا الخاص منها بحماية الملكية الفردية وتسعى في تأسيس نظام جديد يكفل للأفراد السعادة والرخاء وتكون الحكومة هي المالكة الوحيدة لمنابع الرزق لتديرها لخير الأفراد بطريقة عادلة تكفل لهم أقل ما يكون من التعب وأكثر ما يكون من الراحة. الاشتراكية والحكم الجمهوري ليس من مستلزمات الاشتراكية الحكم الجمهوري بل من الجائز أن تعيش وتزهى في أحضان الملوكية فإن همها الوحيد الحصول على المساواة الاقتصادية فلا يهمها بعد النظام السياسي إلا إذا عارضها في أغراضها وانضم إلى أعدائها، ففي هذه الحالة تثل عرشه وتقوض أركانه. قال - كانت - الاشتراكي الشهير رب ملوكية خير من جمهورية. ولكن ليس هذا بالرأي السائد بين الاشتراكيين الحديثين فإن أغلبيتهم من أنصار الجمهورية وأعداء الحكم الملوكي فإنهم في الحوادث الأخيرة ثلوا عروش ملوك عديدين ونادوا بالحكم

الجمهوري من قبل أن يبدأوا بتنفيذ برنامجهم الاقتصادي. عبده البرقوقي

مطالعات

مطالعات شعر الفلاسفة من المعروف أن العلماء ومن إليهم من الفلاسفة وجماعة النظار الذين ألفوا البحث المنطقي وألفهم حتى ملك عليهم أمورهم لا يستطيعون أن يقولوا شعراً جيداً يبارون فيه سادة الشعر، لأن العلماء إنما يستمدون من عقولهم ومعلوماتهم التقريرية، أما عواطفهم فقد أطفأ العلم جذوتها فترى لذلك شعرهم فاتراً لا يهز العاطفة ولا يحرك الأرواح، أما الشعراء فإنما يناجونك بوجداناتهم وإحساساتهم ويفرغون قلوبهم في كلامهم إفراغاً، فهم لذلك يزلزلون القلوب زلزالاً ويعبثون بالعواطف عبثاً شديداً لا قبل للإنسان بالجمود إزاءه ما دام لا إنسان بلا قلب وسلطان القلوب والأهواء، فوق سلطان العقول والآراء، بيد أنه على الرغم من ذلك ترى لبعض كبار الفلاسفة شيئاً من الشعر البارع الجيد لا يكاد بتخلف في معنى الشعر عن شعر الفحول فضلاً عن أنه يمتاز بالمعاني الفلسفية الرائعة، فمن أولئك الفلاسفة الذين ضربوا بسهم صائب في الشعر أبو علي الحسين بن عبد الله بن يوسف المعروف بابن شبل البغدادي المتوفى سنة 474 فقد كان هذا ابن شبل كما قال صاحب طبقات الأطباء حكيماً فيلسوفاً ومتكلماً فاضلاً وأديباً بارعاً وشاعراً مجيداً، ونحن نختار له هنا شيئاً من شعره - فمن ذلك قصيدته الفلسفية المشهورة التي تستأهل أن نأتي عليها كلها في البيان - قال: بربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار مدارك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا منك انبهار وفيك نرى الفضاء وهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار وموج ذا المجرة أم فرند ... على لجج الدروع له أوار وفيك الشمس رافعة شعاعاً ... بأجنحة قوادمها قصار وطوق في النجوم من الليالي ... هلالك أم يد فيها سوار وشهب ذا الخواطف أم ذبال ... عليها المرخ تقدح والعفار وترصيع نجومك أم حباب ... تؤلف بينه اللجج الغزار تمد رموقها ليلاً وتطوى ... نهاراً مثل ما طوى الإزار

فكم بصقالها صدي البرايا ... وما يصدى لها أبداً غرار تبارى ثم تخنس راجعات ... وتكنس مثل ما كنس الصوار فبينا الشرق يقدمها صعوداً ... تلقاها من الغرب انحدار على ذا ما مضى وعليه يمضي ... طوال مني وآجال قصار وأياماً تعرفنا مداها ... لها أنفاسنا أبداً شفار ودهر ينثر الأعمار نثراً ... كما للغصن بالورد انتثار ودنيا كلما وضعت جنيناً ... غذاه من نوائبها ظؤار هي العشواء ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار فمن يوم بلا أمس ليوم ... بغير غد إليه بنا يسار ومن نفسين في أخذ ورد ... لروح المرء في الجسم انتشار وكم من بعد ما ألفت نفوس ... جسوماً عن مجاثمها تطار ألم تك بالجوارح آنسات ... فكم بالقرب عاد لها نفار فإن يك آدم أشقى بنيه ... بذنب ما له منه اعتذار ولم ينفعه بالأسماء علم ... وما نفع السجود ولا الجوار فأخرج ثم أهبط ثم أودى ... فترب السافيات له شعار فأدركه بعلم الله فيه ... من الكلمات للذنب اغتفار ولكن بعد غفران وعفو ... يعير ما تلا ليلاً نهار لقد بلغ العدو بنا مناه ... وحل بآدم وبنا الصغار وتهنا ضائعين كقوم موسى ... ولا عجل أضل ولا خوار فيالك أكلة ما زال منها ... علينا نقمة وعليه عار نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار وننتظر الرزايا والبلايا ... وبعد فالوعيد لنا انتظار ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أحرجه الوجار فماذا الامتنان على وجود ... لغير الموجدين به الخيار وكانت أنعماً لو أن كونا ... بخير قبله أو نستشار

أهذا الداء ليس له دواء ... وهذا الكسر ليس له انجبار تحير فيه كل دقيق فهم ... وليس لعمق جرحهم انسبار إذا التكوير غال الشمس عنا ... وغال كواكب الليل انتثار وبدلنا بهذي الأرض أرضاً ... وطوح بالسماوات انفطار وأذهلت المراضع عن بنيها ... لحيرتها وعطلت العشار وغشى البدر من فرق وذعر ... خسوف للتوعد لإسرار وسيرت الجبال فكن كثبا ... مهيلات وسجرت البحار فأين ثبات ذي الألباب منا ... وأين مع الرجوم لنا اصطبار وأين عقول ذي الأفهام مما ... يراد بنا وأين الاعتبار وأين يغيب لب كان فينا ... ضياؤك من سناه مستعار وما أرض عصته ولا سماء ... ففيم يغول أنجمها انكدار وقد وافته طائعة وكانت ... دخاناً ما لقاتره شرار قضاها سبعة والأرض مهدا ... دحاها فهي للأموات دار فما لسمو ما أعلا انتهاء ... ولا لسموك ما أرسى قرار ولكن كل ذا التهويل فيه ... لذي الألباب وعظ وازدجار وقال يرثي أخاه وكان اسمه أحمد: غاية الحزن والسرور انقضاء ... ما لحى من بعد ميت بقاء لا لبسيد بإربد مات حزناً ... وسلت عن شقيقها الخنساء مثل ما في التراب يبلى الفتى فالح ... زن يبلى من بعده والبكاء غير أن الأموات زالوا وبقوا ... غصصا لا يسيغه الأحياء إنما نحن بين ظفر وناب ... من خطوب أسودهن ضراء نتمنى وفي المنى قصر العم ... ر فنغدو بما نسر نساء صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء بالذي نغتذي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء

راجع جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يسترد المساء ليت شعري حلماً تمر بنا الأيا ... م أم ليس تعقل الأشياء من فساد يجنيه للعالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء قبح الله لذة لأذانا ... نالها الأمهات والآباء نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... د فإيجادنا علينا بلاء وقليلاً ما تصحب المهجة الجس ... م ففيم الأسى وفيم العناء ولقد أيد الإله عقولاً ... صحة العود عندها الإبداء غير دعوى قوم على الميت شيئاً ... أنكرته الجلود والأعضاء وإذا كان في العيان خلاف ... كيف بالغيب يستبين الخفاء ما دهانا من يوم أحمد إلا ... ظلمات ولا استبان ضياء يا أخي عاد بعدك الماء سما ... وسمو ما ذاك النسيم الرخاء والدموع الغزار عادت من الأنفا ... س ناراً تثيرها الصعداء واعد الحياة عذراً وإن كا ... نت حياة ترضى بها الأعداء أين تلك الخلال والحزم أين ال ... عزم أين السخاء أين البهاء كيف أودي النعيم من ذلك الظ ... ل وشيكاً وزال ذاك الغناء أين ما كنت تنتضي من لسان ... في مقام ما للمواضي انتضاء كيف أرجو شفاء ما بي وما بي ... دون سكناي في ثراك شفاء أين ذاك الرواء والمنطق الموف ... ق أين الحياء أين الإباء إن محى حسنك التراب فما لل ... دمع يوماً بصحن خدى انمحاء أو تبن لم يبن قديم وداد ... أو تمت لم يمت عليك الثناء شطر نفس دفنت والشطر باق ... يتمنى ومن مناه الفناء إن تكن قدمته أيدي المنايا ... فألى السابقين تمضي البطاء يدرك الموت كل حي ولو أخفت ... هـ عنه في برجها الجوزاء ليت شعري وللبلى كل ذي الخ ... لق بماذا تميز الأنبياء موت ذا العالم المفضل بالنط ... ق وذا السارح البهيم سواء

لا غوى لفقده تبسم الأ ... رض ولا للتقى تبكي السماء كم مصابيح أوجه أطفأتها ... تحت أطباق رمسها البيداء كم بدور وكم شموس وكم أط ... واد حلم أمسى عليها العفاء كم محى غرة الكواكب صبح ... ثم حطت ضياءها الظلماء إنما الناس قادم أثر ماض ... بدء قوم للآخرين انتهاء وقال: إذا أخنى الزمان على كريم ... أعار صديقه قلب العدو وقال: قالوا القناعة عز والكفاف غنى ... والذل والعار حرص النفس والطمع صدقتم من رضاه سد جوعته ... أن لم يصبه بماذا عنه يقتنع وقال: ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح وقال: تسل عن كل شيء بالحياة فقد ... يهون بعد بقاء الجوهر العرض يعوض الله مالا أنت متلفه ... وما عن النفس إن أتلفتها عوض

تفاريق

تفاريق القناع العجيب يلوح لنا أن العلم يجري اليوم أشواطاً بعيدة في تخفيف ويلات الإنسانية وتهذيب الدنيا وتطهير العالم من علله ومساوئه وآلامه ولا ريب في أن العلم لا يلبث قليلاً حتى يبتكر لكل علة أشفية، ويخلق لكل مرض علاجاً، ومن أعجب عجائب المبتكرات التي وصل إليها العلم في هذه الأيام هي القناع العجيب الذي يعين الأعمى على رؤية المحسوسات ويمحو ذلك الظلام الدامس الذي يحجب نور الدنيا عن تلك العيون الغائرة المغلقة. وهذا المبتكر ابتدعه رجل من أهل بولونيا يدعى كان، وهو جندي من الذين جاهدوا في فرنسا وانتظموا في صفوف جيوشها، ولئن كان حد هذا الابتكار لا يزال اليوم قصيراً ولم تنتج الفائدة الكبرى منه، فلا تزال آمال العلماء كباراً في إمكان تعميمه، والظفر بالنتائج الحسنة منه. وهذا القناع يلبسه الأعمى، فيعم جميع وجهه، وهو متعلق بأداة كهربائية تشتمل على عدسات مخروطية الشكل وحجرة صغيرة لتشعع النور وإذا تقنع به الأعمى استطاع أن يميز جميع الألوان والأشباح والمحسوسات. وقد جرب هذا الاقتراح التجربة الأولى فاستطاع أحد العميان أن يدرك به الفرق بين أصبعين وثلاثة أصابع رفعت أمام عينيه ليدل على عددها، وتمكن بهذا القناع العجيب من أن يبصر قطعاً متجاورات وغير متجاورات من أمتعة الحجرة وأثاثها، ويرى الفروق في ألوانها وأحجامها. فإذا تحقق هذا المخترع وعم الدنيا، فلن يعود في الدنيا بعدئذٍ قوم يمسكون بأيدي قوم، ليدلوهم على جادة الطريق، ولا يعتز جمع على جمع بأنهم يرون الشمس في أبهى حلالها، ومشرقة أشعتها، ويشهدون الطبيعة في مظاهر جلالها وفرحها وعبوسها وكدرها، والآخرون لا يحسون ذلك إلا في أفواه الذين يحدثونهم عنها الأحاديث، ويقرأون لهم الأشعار والكتب والأسفار. الاستصباح بلحوم العجول منذ أشهر طويلة كان الناس في هذا البلد يضجون ويفزعون، ويصيحون خشية ورعباً، من

أن يعز عليهم وسائل الاستصباح ومواد الإضاءة والاستنارة فيبيتون في ظلام حالك، وتنحدر البلاد في هوة سحيقة من الأعتام، والبلاء الذي يختفي وراء أستار الظلام، وكان القوم يقتصدون في الغاز، ويستحثون بعضهم البعض على استخدام الحكمة والروية والحزم والتدبير في إنارة مصابيحهم، واستهلاك المواد المختزنة لديهم، ولكن ظهور وسيلة أخرى في هذه الأيام تزيد مواد الاستصباح مادة، والاهتداء إلى طريقة طريفة للإنارة والإضاءة، نبأ عجيب، وحادث طلي جديد. وذلك أن العالم موليش - وهو من كبار علماء النمسا - وسادات الاختراع فيها - قد أكد في بعض ما أخرج من أبحاثه الأخيرة أن في الإمكان القراءة على نور قطعة من لحم العجول أو الضان أو قطعة من البفتيك أو لحم الخنزير ولكن لم يقل ذلك العالم شيئاً عن المقدار الواجب الذي يستطيع الإنسان به أن يحدث ضوءاً كافياً يهتك حجب الظلام، وعجيب أن يستطيع الإنسان أن يجلس إلى قطعة من اللحم فيستضيء بها، ويقرأ كتبه الممتعة وأسفاره المحبوبة على نورها، ثم يعود فيأكلها كلها ويتعشى بها. على أن الحقيقة المقررة هو أن جميع اللحمان تحتوي ميكروبات تحدث نوراً وتخرج ضوءاً، ويقول أن السجق أي اللحم المحتوي على التوابل يزيد في ذلك الضوء، ويخرج نوراً باهراً ويعين الميكروبات التي في اللحم على أن تضطرم فيكون منها نار كافية للجلوس إلى مكتبك وقراءة كتبك ودروسك وأبحاثك. فمتى يحقق هذا المبتكر، حتى يكون القصابون في الدنيا مشاعلية كذلك!.

أحداث الشهر

أحداث الشهر مسألة آدم حدث في هذا الشهر حادث دوَّى صداه في المجتمع المصري تدوية بعيدة يتضاءل إزاءها دوى المدافع الضخمة، مدافع لياج وانفرس. . . وأحدث في أنفس الطبقات المهذبة المستنيرة أثراً سيئاً أعقبه سخط عام وتذمر شديد متميز يدل على نفسية هذا العصر ومزاجه العصبي الحساس الذي يهيجه إلى ما به ويستثير مقته وغضبه أهون الشيء من الحماقة والسخف وفساد الذوق، إلى غيرها من المعاني التي لا تتمشى مع روح العصر ومطالب الأمم الناهضة الوثابة، ولا تتكافأ مع حاجات الاجتماع وتكاليف الحياة الإنسانية العالية. لا يزال في الناس ناس كأن عيونهم في أقفائهم فتأبى طبيعة النظر فيهم إلا أن تمتد إلى وراء وتخالف سبيل الحياة في الأحياء، فهم يعيشون بأرواح ماضية قد فرغ الموت منها ويبتعثون سنن الأعصر الخالية التي أفاض عليها تاريخ الإنسانية سيولاً من دمائه ودموعه، ويحتذون حذو من قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع فيزرون على سماحة الإسلام ويغضون من بهجته ويضيقون من رحبه ويرسلون في لجته الصافية من لهبات محاكم التفتيش الإسبانية في القرن الخامس عشر وإن كان اللهب لا يحرق الماء ولا يغور إلى أعماقه. والحادث الذي نحن بصدده هو أن (الشيخ محمد أبو زيد) وهو أحد خريجي مدرسة دار الدعوة والإرشاد رجل فيما بلغنا صالح تقى غيور على دينه، فارتأى أن هناك حاجة ماسة إلى الإصلاح الديني غير أنا نلاحظ عليه أنه احتذى في ذلك حذو زعيمه الشيخ رشيد رضا صاحب صحيفة المنار، وأنه ظن أن كل ما هنالك هو مسائل الزار وكرامات الأولياء وهل الأنبياء معصومون أم غير معصومين وهل آدم نبي أم غير نبي إلى أمثال هذه الموضوعات التافهة العقيمة التي لا طائل وراءها، والتي يعد الفائز فيها والمهزوم سواء في السخف، والتي أنبأنا التاريخ أن أمة من الأمم لا تأبه لمثلها وتكثر من الجدل والمناظرة فيها ألا في دور انحطاطها كما كان من زعماء النصرانية البيزنطيين إذ كان كل بحثهم في اللاهوت المسيحي والأتراك على أبواب القسطنطينية، وكما كان من علماء الشيعة وأهل السنة من الخلاف في بغداد أواخر الدولة العباسية والتتر على أبواب دار السلام.

فاتفق للشيخ محمد أبي زيد أن أقام في بلده ومسقط رأسه دمنهور ينشر دعوته ويبث تعاليمه، وفي دمنهور هذه يقيم عالم أزهري من العلماء الغيورين كذلك يسمى الشيخ عبد الباقي سرور وطائفة أخرى من العلماء، ولعل قراءنا قد سمعوا بتلك الحرب الدينية القلمية التي نشبت على صفحات إحدى الجرائد اليومية بين الشيخ عبد الباقي سرور هذا وبين الشيخ رشيد رضا والتي أفضت إلى أن رفع الشيخ رشيد قضية على صاحبه ثم انتهت بأن صالحتهما المحكمة، فكان ذلك مضافاً إلى كثرة تشنيع الشيخ رشيد على علماء الأزهر وتشهيره بهم واستطالته عليهم في كل عدد تقريباً من أعداد مجلته سبباً في حقد الأزهريين جميعاً على الشيخ رشيد هذا وعلى كل من يمتّ إليه بسبب. فلما أخذ الشيخ أبو زيد يصدع بتعاليم دار الدعوة والإرشاد في دمنهور بين هؤلاء الواجدين على أستاذه مدوا عليه أعينهم وأحاطوه بأبصارهم فكان منه أنه جعل يعظ بكلام أستاذه ويخوض فيما رده الشيخ عبد الباقي عليه ومن ذلك نبوة آدم عليه السلام فقطع بأنها ظنية، ولم يحسن أن يعرض على الناس رأياً أكبر الإحسان فيه أن يخرج منه لا عليه ولا له، فأخذه بها القوم واحتسب أحدهم فرفع إلى المحكمة الشرعية دعوى تفريق بين الرجل وزوجه لأنه فيما زعموا قد مرق من دينه بإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وكان خليقاً بالمحكمة أن تكون فوق العواطف والأهواء وإن تستصلح الرجل إذا تبين لها فساده وتستتبه إذا قامت الأدلة على ذنبه وأن لا تقطع بكفره وارتداده قبل أن تيأس منه وتستفرغ جهدها فيه فإن الحكم بالكفر ليس كالحكم بالنفقة وإخراج الدين ليس كإخراج الدَّين، غير أن المحكمة قضت بالتفريق وأثبتت فسق الرجل من دينه فلم يكن منه - فيما نقل إلينا - إلا أن بعث بزوجه إلى أهلها حتى لا تكون التفرقة قهراً وإرغاماً وحتى لا يذهب رجال الشرطة إذ يذهبون لتنفيذ الحكم فينادون بكفره على باب داره فإن ذلك كفر آخر للدار بين جيرانها من مطلع الدرب إلى مقطعه. . . ثم رفع الشيخ أبو زيد استئنافاً عن الحكم تنظر فيه محكمة اسكندرية في اليوم الأول من شهر ديسمبر. وليس من شأن البيان كما يعرف القراء أن يخوض في مثل هذه الأمور غير أن لنا كلمة في الردة وأمرها في الإسلام سنأتي بها كأنها تعليق على هذا الحادث الغريب ولعل فيها بياناً لشيء من الرأي إن شاء الله.

الجائزة الواصفية نحن نعلم أن الجوائز من شأنها تنشيط الفنون، وتشجيع الصناعات، وتزكية العلوم، ورفع مستوى الآداب، وهذا هو سبيلها في البلاد المتحضرة، وهذا شأنها في ممالك الغرب، ولكن الجوائز في بلدنا هذا أبعث على الفتور، وأدعى إلى الخمول والتراخي والاستيئاس، وأجنح إلى سقوط الخلق، والذهاب بالحياء، وأخلاق ديباجة الوجوه، لأن الذين يستحقونها ويعلمون أنهم مليئون بالظفر بها، وإنها إنما وضعت لهم، ورتبت لفنونهم وآدابهم، يضيعون بجانب الذين لا يصلحون لها ولا حق لهم فيها، ولا قدر يجيز لهم نوالها، لأن الأدعياء والواغلين على الآداب، والدخلاء بين أهل الفنون، لا يعدمون وسيلة تمكنهم من الحصول عليها، ولا تعز عليهم سبيل من تلك السبل الدنيا الحقيرة لأجل التمتع بها واحتكارها وقصرها على أنفسهم، ومن عمركم الله من العلماء والسادة الأجلاء في الأدب يرى هذه الحالة النكراء من سيادة الوسائط والأحابيل والخدائع والوسائل المذمومة، على الفضل والنبل والأدب الناضج، والفن الذي لا يمازجه سقم، ولا يخالطه علة أو مرض، وتنهض همته للإسهام لنوال الجوائز مع المسهمين، ويثب نشاطه لابتكار الشيء الطريف البديع الذي يظفر بالجائزة، ويأخذ بضبع المنحة أو الهبة ولذلك ترك الأدعياء وشأنهم يتوسلون ويمسحون الجوخ ويتشفعون ويبذلون ماء الوجوه ويتحككون بأصحاب الجوائز والذين قرروا المنح ورتبوا الأعطيات والهبات، ففاز بالجوائز من لا يجوز لها، وظفر بالمنحة من لم يمنح من مواهب الله ونعمه على عباده ما يجعل له حقاً في نوال أو عطية، ولذلك لم تحدث الجوائز في مصر إلا سوءاً وشناعة ولم يكن منها إلا أن استعلى الأدعياء على أهل الفضل، وكثرت جنود السوء على جنود الخير، وراجت البضائع المزجاة والتجارات العفنة الخاسرة، وكسدت الصالحة ونامت الطيبة الممتعة. هذه هي الجائزة الواصفية، جائزة من الجوائز المقررة في كل عام - مقدارها عشرون جنيهاً - لخير كتاب يخرج للناس وأبدع سفر ينشر بين القوم، فهل تعلم من الذي ظفر بهذه الجائزة من يد سعادة حسين واصف باشا في هذا العام - ظفر بها عبد الحليم المصري، وبم استحقها - بديوانه - وهذه ولا ريب فضيحة من الفضائح الأدبية التي تسجل على تاريخ الآداب في مصر هذه السنة، وشناعة وإثم عظيم لأن الاعراف بأن ديوان المصري خير

كتاب أخرج للناس في سنتنا هذه دليل قاطع على أن هذا البلد أخرس أصم لا أدب فيه ولا كتاب ولا شعراء ولا تفكير ولا نهضة ولا رقي، لأن شعر عبد الحليم المصري لا يزال شعراً فوق البيعة وشعراً أخلق أن يسمى نصف سوا إذ لا نضوج فيه ولا مادة مغذية، ولا يسمن ولا يغني من جوع، والشاعر عبد الحليم لم يظفر بالزعامة على الشعراء، ولم يقل أحد بأنه شاعر إلا مجازاً واستعارة وتسامحاً، وكان خيراً لنا أن لا نصرف هذه الجائزة في هذا العام ولا ينالها من نالها، ونقول جهرة بأن هذا العام كان مقفراً من الكتب خلواً من الأسفار الجديدة الممتعة، وإننا لم نفكر عاماً كاملاً، ولم نكتب ولم نؤلف ولم نعرب ولم تخطر لنا خواطر، ولم تتلجلج في صدورنا نزعات وآراء من أن نقول أن أحق بها فيه ديوان من الدواوين الإضافية المسكينة التي لا رائحة فيها للشعر المتين المفعم بالمعاني السرية والخواطر الطيبة النافعة، والأمة التي يظفر بإكليل الغار في تاريخ الآداب فيها لعام كامل مثل شاعرنا عبد الحليم، يجب أن تبكي نفسها وتأسى على أدبها وتفكيرها وكيف يكتب الكتاب الحقيقيون، وكيف يضعون التواليف الفاضلة والأسفار الطيبة، في بلد يظفر فيه بالمال الوفر والجوائز السنية، والأختام الماسية والذهبية مثل الشيخ القصرى وعبد الحليم المصري وإضرابهما، وتقام الحفلات الحافلة والأسمار الكبرى لسماع أدبهم وأشعارهم، لعمري أنها لمعرة للأدب العصري، وفضيحة من أكبر فضائحه. ثم ألم يكف السيد عبد الحليم أن ديوانه هذا قد طبعه على نفقته أحد كبار المثرين ثم زاد على ذلك أن وزعه على جميع بيوت الأغنياء وقصور الذوات والأعيان وألقاه في كل مغنى من المغاني وفي كل دار من دور الأكابر والمترفين والأسامي النبيلة وأهل الألقاب الضخمة، وظفر بثمنه منهم أضعافاً مضاعفة ونال على أتعابه أموالاً طائلة، حتى يجري وراء الجائزة الواصفية، ويدحلب لأجلها ويوسط الناس في سبيل الحصول عليها، ويقنع الباشا الكريم أنه أحق إنسان بها، ويقبض على العشرين على عينك يا تاجر بلا خشية ولا خجل ولا اتقاء لله في هذه الأمة التي أعطته أكثر مما يستحق. وعلى هذا القياس لا يسعنا إلا أن نعد حسين باشا واصف أكبر عليم بفنون الشعر، نقادة به بصير، فقد وضع نفسه موضع نابغة ذبيان في سوق عكاظ واستعرض جميع الشعر والقصيد الذي ظهر في هذه السنة فلم يجد غير ديوان المصري أحق بجائزته وأجدر بنوالها

والتنعم بها، فهنيئاً للظافر بالجائزة، وتهنئة للباشا الهمام على تقلده وظيفة الحكم الأكبر في شعراء الأمة. نحن لا نحسد عبد الحليم المصري على ما أوتي من براعة أساليبه العديدة، ولا نريد أن ننافسه فيه ونعارضه ونزاحمه، فتلك أرزاق يمنحها الله لمن لا يستحقونها، ولا شأن لنا في محاسبة الله، وإنما نخشى على هذه الأمة أن تتفشى فيها بعد الحمى الإسبانية حمى الملق ومسح الجوخ، فتذهب بأقدار الكفاءات وأهلها، ويصبح أشد الناس ملقا، أظفرهم بالخير وأملأهم بالذهب والمال جيوباً. مصاب آل المهيلمي كثرت الوفيات في بلدنا هذا منذ أيام، وذهب إلى مساكن الفناء فيمن ذهب من الناس أفراد من كبار الأمة وأعيانها، والنافعين من أهلها، واغتال الموت في وسط هذا التزاحم على الأبدية والتنافس على التلاحق إلى مضاجع الآخرة طائفة صالحة من القوم الذين كنا بهم أعزة، وكنا سعداء بوجودهم في وسطنا، وتألقهم في سماء الحياة المصرية، ومنهم التاجر النافع، والأريحي العظيم، وذو النفس الكريمة، والإحساس البار المحمود، والغني الممتلئ حياة ونشاطاً وفتوة ووجداناً، والكهل الناهض بعمل مفيد، والمؤدي الخدم الجليلة، وعميد العشيرة الكبيرة، ورب الأسرة التي لا نصير لها سواه ووالد إلا صبية الذين لا حول لهم في الحياة إلا حوله، ولا عزة لهم إلا به، والشيخ الصالح الذي كان رأس القبيل، وزين إلا كليل، ووقار المجالس، وهيبة الأسمار، حتى لم نكد نفرح بعقد الهدنة، ونبتهج بعود السلام إلى العالم، وقتل شبح الحرب الشنيعة، وتنفس الصعداء، والسكون إلى الحياة بعد ما شقت وصعبت وكاد المرء يتلمس منها خلاصاً، حتى دهمتنا هذه الداهمة العظيمة، والكارثة المرعبة، فأمسكنا عن الفرح، وراح في كل بيت بكاة يبكون حول مريض، وحادون يلبسون السواد على فرد نافع، والقوم مشيعون بعضهم بعضاً إلى المقابر، واجفون إذا وضعوا أيديهم في أيدي صحابهم مصافحين محيين، مرعبون إذا ألفوا رجلاً بينهم يسعل، أو أحداً منهم يرجف أو ساخن اليد دافئ الحرارة، وبات الناس على جزع، وأصبحوا على خشية وفرق، فقل الابتهاج بالسلام، والفرح للصلح، ومضى الناس في شغل بمرضاهم وموتاهم وهلكاهم عن الشؤون التي كانوا لا ينشغلون لحظة عنها، ولا يتركون التحدث بها والمناقشة

في أسرارها وتكهناتها. ولكن ليس في الفاجعات التي غشيت الناس اليوم فاجعة تستدر الشؤون وتبعث الأسى، وتقنع الإنسان بتفاهة الحياة، وغرائب الأقدار، من المصاب الذي نزل بآل المهيلمي فاختطف السيد الكبير، والرأس الجليل، والعميد الوطني الغيور، والشهم الأريحي المشهور، عبد المجيد المهيلمي بك فقد كان فرحاً بالحياة، رجل خبر يبذله لا طالباً جزاء ولا سائلاً شكوراً، وكان زعيماً من زعماء التجار، وبطلاً من أبطال المتجر، أراد قبل أن عاجلته المنية أن يفرح بفتاه ويغتبط بتزويجه، فزوجه وأقام له العرس الفخم، وأنشأ الزينة، ودعا الصحب والعشراء والخلطاء، وهو صحيح معافى، لا يخطر للقوم أنه على مقترب منيته وفي الطريق إلى مقبرته، فلم يلبثوا الأعشية أو ضحاها حتى اغتاله الموت، وفتاه لا يزال في فرحة العرس، وغبطة شهر العسل، ثم لم تكد تمضي أيام قلائل، حتى التحقت به قرينة أخيه عبد الغني بك، ثم اكتمل المصاب بأن انحدر العريس الفتي عبد الفتاح بأبيه في مساكنه، ووافاه في العالم الذي اختاره الله له، وكذلك قضي الوالد وابنه نحبهما على فترة صغيرة، كأنما كانا على موعد مضروب وكأنما أبى الوالد أن لا يهنأ له مضجع في الأبدية ويطمئن به المقام أو يزوره فتاه ويعيش ثمة على مقربة منه. مصاب جليل، ونكبة عظمى، وقعت في عجلة، ودهمتنا بسرعة، فكان الأسى عظيماً، والحزن أليماً، ولا رد لقضاء الله، ولا حول ولا قوة إلا به. ونحن نسوق العزاء إلى شقيق الفقيد عبد الغني بك ونسأل الله له السلوى وتخفيف وقع المصاب وأن يطيل حياته ويزيدها ما انتقص من الكريمين الراحلين.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة تاريخ مصر وضع حضرة الأديب الفاضل عمر أفندي الاسكندري الموظف بوزارة المعارف المصرية - وأسعده في ذلك حضرة الفاضل الأستاذ سليم أفندي حسن والميجر ا. ج. سفدج الموظفين كذلك بوزارة المعارف - كتاباً مدرسياً لطلبة المدارس الثانوية من أبدع ما يوضع لطلبة المدارس - في تاريخ مصر القديم والحديث، والكتاب يقع في جزأين مستقلين يقعان في قريب من ستمائة صفحة، وقد عنون حضرته الجزء الأول بهذا العنوان تاريخ مصر إلى الفتح العثماني مع نبذ في أخبار الأمم التي ارتبطت بمصر من ذلك العهد والثاني بهذا العنوان تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر مع نبذ الخ وفي الكتاب نيف وثلاثون ومائة صورة بين مصورات جغرافية وتاريخية وبين صور أشخاص وآثار، ولغة الكتاب لغة صحيحة بريئة من التبذل والضعف والأخطاء النحوية واللغوية وقد توخى فيه الإيجاز غير المخل جهد استطاعته بحيث يؤاتي محبي الاطلاع من غير طلبة المدارس، وهو مطبوع في مطبعة المعارف المشهورة بدقتها وجمالها على ورق جيد صقيل، وقد قررته وزارة المعارف ليدرس في مدارسها الثانوية، وهو يباع باثنين وأربعين قرشاً صاغاً ويطلب من مكتبة المعارف بشارع الفجالة بمصر. تاريخ الأتراك العثمانيين وأهدى إلينا حضرة الأديب الفاضل الأستاذ حسين أفندي لبيب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي كتابه الذي سماه تاريخ الأتراك العثمانيين وأتى فيه على تاريخ الدولة العثمانية منذ نشأتها إلى اليوم - وهو مترجم عن الانكليزية، وهو الذي نشرنا منه الفصل الخاص بالأدب التركي في هذين العددين، والكتاب يقع في نيف وأربعمائة صفحة من الصفحات الطوال ولغته جزلة متينة وفيه أبحاث قيمة انماز بها عن غيره من الكتب الموضوعة في تاريخ آل عثمان وثمن الكتاب ثلاثون قرشاً صاغاً وهو يطلب من صاحبه الفاضل وعنوانه مدرسة القضاء الشرعي.

هل

هل (1) هل من سبيل إلى قتل شبح الحرب في الأرض واستقرار السلام إلى الأبد؟ (2) هل من وسيلة إلى إبطال الشراب في العالم؟ (3) هل يجوز للأزواج أن يتكلموا في المجالس عن زوجاتهم (4) هل ثمة شيء مما أفسدته هذه الحرب هو أولى بأن يبادر بإصلاحه قبل غيره؟ وما هو ذلك الشيء؟ (1) هل من سبيل إلى قتل شبح الحرب في الأرض في هذه الأيام - ونحن على أبواب سلم بين الأمم، ومستهل صلح بين الشعوب. بعد جنة هذه الحرب النكراء، ولوثة هذا القتال العنيف الذي لبث بضع سنين - لا نجد فرصة أطيب، ولا سانحة خيراً من هذه، لنشر آراء طائفة من العظماء، كتاباً وشعراء وساسة وقساوسة ومتدينين، ومؤرخين وعقليين، عن هذا السؤال الذي وضعته مجلة من كبريات مجلات الغرب منذ أيام قلائل. رأي جيروم. ك. جيروم الكاتب المفكر الطائر الصيت، صاحب كتاب (أفكار بليدة لمفكر بليد) الذي نشرنا من قبل عدة من مقالاته المختارة لا سبيل إلى السلام العام المقيم إلا إذا انتزع حب الحرب من روح الفرد. ولعل من بين الوسائل المهذبة التي قد تؤدي إلى هذا الغرض، وتحدث هذه الخاتمة، عصبة الأمم، واللاتجنيد، أو إبطال إكراه الناس على الجندية، فلعل فيها بعض الفائدة، ولعلها قد تجدي شيئاً من الجدوى، على انه ينبغي بجانب عصبة الأمم أن ننشئ عصبة أخرى، هي عصبة الصحف، تأخذ على نفسها إثارة الكراهية في قلوب الشعوب للحرب، وتنفيرهم من الاستماع لحكامهم وآلهتهم الأرضيين، وتبغيضهم في التنازع بين الأمم والأمم، والتقاتل بين الشعوب والشعوب. رأي الأب برنارد فوغان من أكبر خطباء إنجلترة

على قدر مبلغ علمي، أظن أن لا وسيلة لاستتباب سلم أبدي عام إلا بتجربة المسيحية، فقد جربت جميع الوسائل إلا هذه فلم يفكر فيها أحد، وكانت نتيجة جميع تلك التجاريب الخيبة، وكان مآلها الفشل، فلماذا لا نجعل المسيحية سبيلاً من سبل التجربة، ونضعها تحت الاختبار. رأي سير كونان دويل لا أرى سبيلاً ميسورة، ولا أجد طريقة معبدة، وأود لو أنني استطعت، وليتني أجد، أن عصبة من الأمم ننضم إليها ستحدث عصبة أخرى من الأمم تضادها وترى غير ما ترى الأولى، ومن هذا تعود الحرب إلى الدنيا. رأي اللورد أولفرهولم من كبار المهندسين في رأيي أنه لا إبطال التسليح العام ولا عصبة الأمم ولا احتكار الحكومات عمل الذخائر ولا إلغاء الجيوش الحاضرة ولا إبطال التجنيد، ولا وسيلة أخرى من تلك الوسائل التي فكر الناس فيها لإحداث سلم عام في الأرض، تساوي جميعاً ثمن المداد الذي كتبت به في الورق. فنحن الآن نعيش في حياة وتطور غريب في الطبيعة البشرية من شأنه أن لا يعبأ بالمحالفات. ولا يكترث بالمعاهدات، ولا يعتد بالقوانين والشرائع، إذن فما الجدوى اليوم من البحث في إنشاء عصبة أمم، ومحالفات عديدة، والإكثار من وضع المعاهدات. ونحن رأينا أن المعاهدات السابقة لم تعتبر إلا قصاصات ورق ولكن كما شاهدنا أمراء الإقطاعيات القديمة في التاريخ كفوا عن الإغارة على جيرانهم وأعدائهم، إذ اكتشفت طريقة عمل البارود، لأن الغارة على الأعداء أصبحت لا تجلب ربحاً، وتؤدي إلى الخسار، كذلك قد أظهرت الحرب الحاضرة أن الحروب حمقاء، والقتال بين الأمم طائش وأن الرابح فيها والخاسر سواسية، كما قال المستر نورمان أنجل واضع هذا المذهب. إن الاهتداء إلى هذه الحقيقة والإسراف العظيم الذي تجره الحرب والنفقات الهائلة التي تضيع هباء منثوراً، والخسارة الكبرى في الأموال والأنفس والحياة، ستعمل على إبطال

الحروب في المستقبل وتجعل الحرب بعد اليوم مستحيلة صعبة جموحاً لا تذل لطالب. وهذه الحقيقة خير ولا ريب من جميع المعاهدات وتقليب وجوه الرأي في النيات وإيجاد الوسائل والطرق العديدة، وأجدى من المنافسات والأبحاث والنظريات. رأي سير وليام كروكس العالم الطائر الصيت ستقتل الحرب على مدى الزمن بالبارود الذي صنع لأجلها، وستلغم بالقذائف التي أعدت لها، فإن هذا العلم الذي أخرج جميع هذه المخاوف والمهالك وأدوات التدمير، وقتل النفوس، وإبادة الحياة، سيؤدي بنفسه من جراء إكثاره من الابتكار من تلك المدمرات، وحشد ألوان كثيرة من تلك المخترعات، إلى بغض الإنسانية العامة ويثير في الدنيا مقتاً شديداً وكراهية ملعونة نحوه، ويحدث في نفوس البقية الباقية من سكان الأرض اشمئزازاً منه وأنفة واحتقاراً له، فيجمعوا بينهم فيما بينهم على أن يعتبروا هذا الضرب الخطر من العلم جر ما يعقب عليه في قوانينهم، ويعيشوا في وئام وتحاب وصفاء، مؤثرين ذلك على أن يدعوا قوماً منهم يخترعون أداة حاصدة جديدة لقتل صفوف الفريقين المتخاصمين معاً. فتوى اللورد روبرتسون وزير التجارة فيما سبق لا تطمئن الشعوب إلى السلام إلا إذا اجتمعت كلها على تخفيض تسليحها إلى الحد الأدنى الذي يكفيها مؤونة حفظ قواها الداخلية ونظامها في صميم مملكتها وضد العالم الخارجي، وذلك بإنشاء قانون دولي يسري على الإنسانية أجمع، وهذا العهد الدولي الذي يستطيع أن يكره الأمة الثائرة إلى تهديد السلام على أن ترضخ لإبطال التسلح فإذا أبطل التسليح قل ولا ريب الاعتداء، وإنما لكي يتم الأمان، ويسود الاطمئنان، يجب إنشاء عرف دولي ونظام عام لكي يكون ألباً واحداً على أي معتد يريد أن ينفض يده من العهد، ولعل مصادرة التجارة وقطع سبيل مواردها عن الأمة المعتدية وسيلة صالحة كافية، هذا رأيي في عصبة الأمم. (2) هل من وسيلة إلى إبطال الشراب في العالم

وطائفة من فتاوى الكتاب والفلاسفة في ذلك من بين المسائل الاجتماعية التي أحدثت المناقشات الكبرى، وجرت فيها الأبحاث، وتشعبت الآراء، وتضاربت الأحكام مسألة الشراب، وإمكان إبطال الخمر في العالم بأسره، وقد اشتدت المنافسة فيها في بلاد الفرنجة أبان الحرب، وخلال أيامها وأعوامها، ولا ريب في أن وطيس الجدال سيحتدم، وحرارة البحث ستشتد، بعد أن أصبح السلام على قاب قوسين وأدنى، وأوشكت عهود السكينة تستقر، وأيام الهدوء والوئام تستتب، ولعل هذه المسألة الحيوية الكبرى، إنما أقامت الكتاب والاجتماعيين وأقعدتهم، ولفتت إليها الأنظار، وأصابت المكان العظيم من الأذهان، لأنها تتعلق نفوس ألوف من الناس، وأكباد جموع عظيمة من الإنساني، ولأنها تفتح أبواباً كثيرة من القول، وتتباين فيها الآراء، وتصطدم فيها الأحكام. وقد وضعت إحدى المجلات الكبرى في الغرب هذه المسألة على بساط البحث، واستنزلت آراء كثيرين من كتاب الفرنجة وأقطاب فلسفتهم ومفكريهم، فجاء من نواحيهم طائفة طيبة من الخواطر، لا تزال مختلفة جد الاختلاف، وقد أثارت الخواطر والأذهان تلك الحقيقة الجديدة الغريبة، وهي أن كندا وأمريكا استطاعتا أن تبطلا الشراب بتاتاً في بلادهما ومدائنهما فضجت ضجة الغرب وأرادت إلا أن تجد لها سبيلاً على أن تحتذي حذوهما، وأن تبتكر الوسائل لقتل هذا الشبح الذي اشتدت أذاته بالناس. وستجد أيها القاريء أن الفتاوى التي نسوقها إلك فيما يلي إنما جاءت من الكتاب والمفكرين، ولا ترى أثر للساسة وأقطاب الحكوميين، ولذلك نقول أن جميع الوزراء والسياسيين الذين طلب إليهم الإدلاء بآرائهم، رفضوا أن يصدعوا بها ويجاهروا إشفاقاً على مراكزهم السياسية، ومكانهم في الحكومة. وإليك هذه الفتاوى وأسماء أصحابها: رأي برنارد شو الفيلسوف العظيم إن الرأي الذي أدلى برنارد شو رأي قاطع، وحكم لا تردد فيه ولا زعزعة ولا اضطراب، إذ أجاب وقد سئل رأيه: يجب أن يمنع بيع المشروبات الكحولية الشديدة طلباً للربح، وطمعاً في الكسب الوفر، منعاً

باتاً، في العالم كله، وفي مدائن الدنيا بأسرها، وإلى البد، وآخر الدهر، ولا حل لهذه المسألة ولا سبيل إلى ابتكار وسيلة لإبادة الشراب، حتى يكره عصارو الخمر وتجارها ومنتجوها على أن يتحملوا نفقات الأمراض والجرائم والخمول وقتل النشاط والمواهب والكفاءات التي تحدثها خمورهم، فإذا تيسر ذلك، وضربت عليهم الضريبة الفادحة، وتحملوا إصر جرمهم، انحلت مسألة الخمر من نفسها، وابتهج دعاة إبطال الشراب بتة، وغلغاء الخمر دفعة واحدة. فتوى الكاتب المشهور هيلير بيلوك لا يعجب الإنسان أن يرى هيلير بيلوك ينتحي منحى مخالفاً لبرنارد شو، ويرمي بفكرة متباينة مع فكرته. لأن هيلير بيلوك كثيراً ما اصطدمت آراؤه بآراء زميله، وتعارض الرجلان، ولا غرو أن يشذ بيلوك ويخرج على هذه الفكرة، وهو يحبذ الشراب في جميع قصائده، وتبين رائحة الخمر في عرض كتبه وأشعاره: قال المستر هيلير بيلوك: لا أجد ما أقول غير أن هذه الضجة الكبرى التي قامت تناويء الشراب، وتحارب استخدام المشروبات الكحولية تلوح لي ضجة مجنونة في نهايتها، وحركة حمقاء في بدايتها، ولا أعتقد أن هناك رأياً مذكوراً أو حجة رجيحة تؤيدها وتشد أركانها، وما أحسب إلا أن جموعاً عظيمة من الناس تدعي أنها تعارض في فائدة الشراب، لأنها ممتزجة في أذهانهم بالآداب، وتثير خواطرهم المسؤولية الأدبية، كما ترى كثيرين من الناس يدعون أنهم ضد لعب الورق، أو الرهان على الخيل في السباق، بل وشرب التبغ، إذ يرى الناس أن المودة تحكم عليهم بإظهار آرائهم، لا ينون يدلون بها سواء اعتقدوا صحتها أم لم يعتقدوا، وإذا أنت نظرت إلى السواد الأعظم من أهل الأمم البيضاء في العالم الجديد أو في أوروبا، علمت لأأنهم جميعاً يشربون الخمر ويبتهجون بشرابها، ويسمنون ويتقدمون على احتسائها وقد كان هذا رأيهم من قديم الزمان، وسابق العهد والأوان. فإذا سعى قوم إلى منع الإنكليزي من الاستطراد في عاداته التي نشأ عليها فستكون النتائج مخيفة، والعقبى مرعبة، أما إذا ذكرت هذه النية أمام الفرنسي أو الطلياني، فإنه ولا ريب ضاحك في وجهك ساخر منك ومن نيتك. وقدعقبت المجلة على آرء هذا الكاتب بقولها: إن في آراء مستر هيلير بيلوك شيئاً كثيراً

من الحق، فإن الإنكليز والطليان والفرنسيين مولعون بألحان، ولا نظن إلا أن الألمان سيحتجون إذا كان إبطال الشراب سيهدد جعتهم وحدائق البيرة التي أنشأوها في جميع مدنهم. فتاوى أخرى وقد كتب الأميرال السير برسي سكوت في أسطر قلائل فقال: لا أرى أن في الاعتدال شيئاًُ من الأذى، فإن شرب الجعة أو النبيذ أو الكحول على المائدة، أو في ثنايا الأكل، وخلال الطعام، لا يحدث أي ضرر. ويقول الأميرال سمث، وهو من بحرية الولايات المتحدة: إن المسألة هي من كثير من الوجوه سياسية بحتة، ويلوح لي أن أمثال هذه المسألة يجب أن تبت فيها كل أمة بنفسها بما يبوافق طبائع أهلها وعاداتهم ومشاعرهم. ولعل الرجل مصيب فإن مطالب ساكن لابلند أو البلاد القصية في القطبين المتجمدين لا تشابه مطالب سكنة المناطق الحارة أو المعتدلة، ولهذا كان حقاً على كل أمة أن يكون لها من ناحية هذه المسألة الاجتماعية تشريع خاص، وسنة منفردة، تصلح لها ولجوها عادات أهلها. رأي كونان دويل أما الروائي المشهور كونان دويل: فلم يرض لنفسه أن يكون متطرفاً في الرأي، بل آثر أن يبكون وسطاً بين الطرفين، ويصلح بين النهايتين، فلم يوافق طلاب إبطال الشراب دفعة واحدة، ولم يسكن إلى دعاة الإكثار منه والإدمان عليه، بل أوجز يقول: إنني أميل شخصياً إلى إنقاص قوة الكحول، وشدة الشراب، حتى تكون المشروبات الخفيفة من نبيذ وجعة مباحة مشروعة، ولا أستطيع أن أقول بإباحة شراب المشروبات الكحولية بأية حال. رأي المستر والتر باروت وقد جاء والتر باروت برأي مزجه بالفكاهة، وخلطه بشيء من المجون، ولكن لا يزال يشتم من رأيه الفكاهي رائحة تحبيذه الكاتب هيلير بيلوك إذ قال: هؤلاء المنهجيون

المتسخطون إنما يغضبون ويلعنون ذنوباً لا يعرفونها ولم يذوقوا لها طعماً، لكي تتفشى في العالم ذنوبهم التي يجنحون إليها ويميلون، بعض الناس يشربون كثيراً، وفريقاً آخر يأكلون كثيراً، وهؤلاء نفراً من الآخرين، وألوف من الأطباء يثولون أن الين يموتون من كثرة الأكل أكثر من أولئك الذين يقضون نحبهم من كثرة الشرب، وقد قال سدني سميث إذ كان في السبعين من عمره أنه أكل وشرب أكثر مما يلزمه، وأن حجم شرابه وطعامه في ذلك العمر الطويل كان يستلزم أربعين مركبة - ذات أربعة جياد مطهمة - ومع ذلك كان بعد أن حطم تلك السن المتقدمة قوياً نشيطاً إلى النهاية، وكان كثيرون غيره في المائة ويشربون في كل يوم زجاجة من النبيذ، وهذا رأيي ولبك أن تستنبط منه ما تريد. رأي مستر ميار وبسط المستر ميار رأيه - وهو من رجال الدين - فقال بفائدة إبطال الشراب وإليك ما كتب: لا أتردد هينهة واحدة في القول بأن منع شاربي الخمر إثني عشر شهراً بعد الحرب منعاً باتاً مطلقاً سيكون ولا ريب أنجع الأدوية، وأنفع وسائل الإصلاح التي يستطيع الذهن أن يبتكرها، فلو أننا فعلنا ذلك لامتلأت خزائننا من المال بما لا تستطيعه القروض واليانصيبات، ويكون الوسيلة الحسنى لإبادة الفساد والنتائج الطبيعية والعواقب البدنية التي تحدثها الخمرة، وبذلك نستطيع أن نوفر كثيراً مما يذهب من طفولتنا من الوفيات، والمراض، وما يحصدهم من جراء الإدمان على الخمر حصداً، وليس الأمر قاصراً على هذه النتائج، بل ثمت نتائج أخرى، وفوائد جلى، لو أن في استطاعة الساسة والحكام أن ينفذوا هذا القانون في بلاد لا زال الرأي فيها مقسماً والناس مختلفين خواطر وأذهاناً، على أن كثيرين من قواد الأمم، وعظماء الممالك يرون الأرض الجميلة الطاهرة فيما وراء البحار ولكنهم لا يستطيعون إليها وصولاً، لأن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال. فتوى سميتر وهي الموسيقية الذائعة الذكر ومن بين السيدات المشهورات اللائي صدعن بآرائهن في مسألة الشراب الدكتورة إيتل

سميتر، وهي من أنبغ نوابغ فن الموسيقى وأكبر وضاع الألحان، قالت: لا أعتقد أن الذين لم تكن لهم علاقة بالمسألة التي سألتموني أن أدلي برأيي فيها، يستطيعون أن يدعوا أن لهم حق الإدلاء بآرائهم، وهذا أمري، وتلك حالي، على أنني أقول أن لي حاسة قوية ضد إبطال أمر لا ضير منه إلا إذا أكثر الناس منه وتغالوا فيه، وطلبوا المزيد والغاية منه، لأنني أرى أن ذلك يبعث على تشجيع التحبب إلى الشيء الذي يمنع، والأمر الذي يبطل، ويقتل الإرادة ويودي بفضيلة ضبط النفس، ومغالبة الشهوات. رأي الشاعر دويسون ولعل أغرب الآراء التي جاءت في هذه المسألة، وأحسن ما نختم به هذا البحث كلمة الشاعر دويسون، وهو رجل يسند اليوم في حدود الشيخوخة، وإن كان قد قصر البحث على نفسه ونظر إلى الأمر من ناحيته، ولم يوغل في الموضوع، ويتناوله من جميع أطرافه قال: أنا رجل شريب ماء منذ أعوام عديدة، ولهذا أميل بالطبع إلى تعميم شرب الماء، قبل غيره من ألوان الشراب. وقد أصاب الشاعر مقطع الحق، بعد جميع هذا البحث والتحكيم (3) هل يجوز للأزواج أن يتكلموا في المجالس عن زوجاتهم وضعت مجلة من كبريات المجلات في إنجلترا هذا السؤال الغريب، على مائدة البحث وساقت الكتاب إلى الإجابة عليه والإفصاح عن رأيهم فيه، فكان من بين الذين أنشأوا الأبحاث المستفيضة عنه كاتب من كبار الكتاب، آثرنا أن ننقل رأيه لقراء البيان، قال: هناك وسيلتان راجحتان للفرار من متاعب الزوجية، وإغناء النفس عن هموم الأسرة، والعيش في نجوة من آلام الزيجات وهي إما أن لا يتزوج الإنسان مطلقاً وإما أن لا ويلد ولا يخرج إلى نور الدنيا. ومن العبث أن نكسر جرة اللبن، ونسقي الأرض شراباً، ونبكي عليه، ونندب ما سال منه، ونقول يا ليتنا كنا تراباً، ومن السخف أن نجر علينا الهموم بأيدينا، ثم نبكي من أثقرها ونعول ونأسف ونتلهف، بل لا فائدة مطلقاً من وراء التسخط على زوجة غير صالحة، وذك شريكة لا خير منها، فإن ذلك لا عدل فيه ولا طائل تحته ولا يليق بك ولا بزوجك،

والرجل الذي يطيل الشكوى من زوجه، ويكثر الأنين منها، ولا يفتأ يصدر الأنات والزفرات من عدم صلاحها، لا يصيب في المجالس إلا سخرية، ولا يجد في الناس إلا تهافتاً وهزؤاً، ويضيق القوم به ذرعاً، ويبرمون بحديثه وشكواه، بل لعله مثير في النفوس الرحمة لزوجه التي يلعنها، مكسبها من القلوب شفقة، غير ظافر من السامعين بسخط عليها أو غضب منها أو مشاركة معه في التبرم بها. والقول السائر: وهو أن الرجال مختلفون، ولكن الأزواج سواسية لا بد أن يكون مصدره امرأة، ولا ريب في أنه أول ما قيل في الدنيا إنما خرج من فم زوجة، فإن النسوة المتزوجات إنما يعتبرن جميع الأزواج في نطرهن طائفة واحدة، هي آفة لا بد منها، وأما النساء فثلاث عند الرجال: المرأة التي لا يتكلم عنها زوجها في المجامع مطلقاً. والمرأة التي لا يفتأ زوجها يتمدحها في المجالس ويغالي في وصف محاسنها ومفاتنها. والمرأت التي يذمها رجلها ويعيبها وينتقدها ويحدث الناس أسوأ الحديث عنها. أما النوع الأول من الأزواج فلا نجد عاباً نسوقه إليهم ولا ذاماً نلحقه بهم، بل نوصيهم بالدأب على عادتهم والجمود على شيمتهم تلك، وأما الفريق الثاني والطائفة الثالثة فأحق بالذم، وأدعى إلى النقد، وأخلق بالتأنيب، وإني لا أجد شيئاً يستحق الذم أن أسمع رجلاً لا يفتأ يحدث الناس عن زوجه فيقول أنها طاهية صناع أو مربية صالحة التأديب، أو حائكة تجيد الزركشة والتطريز. فإن للناس أن يذكروا كلما تجاذبوا أطراف الحديث شيئاً عن هذه التفاهات والسخافات وإلا انتفى الحديث وبطل السمر، وذهبت لذة المحادثة والحوار، وإنما أشد ما أكره من المتزوجين ذلكم الرجل الذي يختلي بعد الاستراحة في الفصل الأول أو الثاني من الرواية في دار التمثيل أو الملهى، فيقول لك: إن جميع أولئك الممثلات المليحات، وهؤلاء الراقصات والفتيات لا يدانين امرأته في جمالها، ويمضي يحدثك عن جمال قامتها، وسمو كتفها وأن ذراعيها أجمل ما في الدنيا وما في العالم النسائي كله من أذرع وساعد. ولو أنك اطلعت إلى بيته وشهدت زوجته لعلمت أن كتفيها موضوع سخرية لداتها وأترابها، وملتقى استهزاء الجيران وهدف لتهانف الأقرباء والمليحات، ولو علمت بعله بهذا الكذب الذي يكذبه زوجها على الله وعلى الناس لخجلت وراحت منه غضبى

نافرة. أما الرجل الذي يسلق امرأته في المجالس بألسنة حداد ويشتد في نقدها ويتعسف في تأنيبها وإظهار مساوئها فأحق بالسخرية، وأجدر بالاحتقار، لأنه امرؤ ضئيل، ورجل صغير غير حازم، ولا عاقل، ومن هذا الفريق معشر كثر لا نستطيع أن نقول عنهم أنهم يميلون إلى نقد بعولاتهم وإظهار مساوئهن، وأنهم يتحدثون فيما بينهم عن أمور تتعلق بهن، ولا يصح إظهارها أو التحدث بها، ولهذا يقعون تحت هذا الضرب من الأزواج، فمنهم من يقول مثلاً لصاحبه وهو يحاوره، إن زوجتي يا صاح لا تدعني أستطيع مغازلة السيدة التي تسكن الطابق المقابل لنوافذنا، ولا أجد من غيرتها سبيلاً إلى - البصبصة - فهي (غيرى - موت) ولا أستطيع أن افلت من مراقبتها، يا لله من هذا الزواج، لعنة الله عليه، إنه احتكار فظيع، واستعباد مرذول، بل إذا رأتني يوماً وأنا في سبيل التحبب إلى الفتاة التي أمامنا من الشرفة أرعدت وأزبدت ولبثت في السرير تؤنبني وأمست إلى منتصف الليل يقظى لا تغمض لها جفن، تبكي وتعول، لأنها غيرى تكاد هذه الحاسة تأكل قلبها أكلاً، نبئني أيها الولي كيف السبيل إلى تهريب الغزل من هذا الجمرك الرقيب العتيد، وكيف الوصول إلى تجمش الحسان؟ مغازلتهن. وهذه الذنوب التي يقع فيها الرجال ينبغي أن تزول وتبطل من عالم المتزوجين، ويجب أن يعلم المتزوجون أن الرجل ينبغي أن يرضى ببعله على كل حال، ويتذكر أنها امرأة وأنه رجل، وعليه أن يحميها ويظلها برعايته ويرفعها فوق تمثال وينصبها فوق دمية أمام الناس وبين الجماعات، وإن علم في قرارة نفسه أن هذا المعبود الذي رفعه وأقام له التمثال لا يزال ينهض على ساقين من الفخار. ولعل قلة الزواج الآن وكساد سوقه ونفار الشباب منه. من المسائل الاجتماعية الخطيرة التي تهدد الحياة. وتنذر الجيل الحاضر بالسوء والويل، وإذا لم تبتكر الوسائل الصالحة لدرء هذا الخطر وإزالة هذا الضرر فإنه يخشى أن تزداد الحال سوءاً ويتفاقم الخطب إذ يوجد اليوم نفور عام بين فتيان اليوم من تحمل أعباء الحياة الزوجية والاضطلاع بأوزار المعيشة العائلية: والسبب الأكبر الذي بعث هذا النفور وأقام هذه الخشية هو أن الزواج قد فقد روح الخيال، وانتزع منه العنصر الروحاني، فإن ابن اليوم، وفتى العصر، يختلط

بالمتزوجين ويجلس في مجالس الكهول من الأزواج، ويسمر مع العجائز والشايخين ويشربهم نخبهم، ويشاطرهم الكؤوس ولذة السمر والمحاضرة، فيلاحظ منهم السخط الذي يبدونه من أمر الزواج، والآلام التي لا يفتأون يبالغون في صوفها ورسماه في أشنع تصوير، وتركيبها في أشعث صورة، ويشهد الأنات والزفرات واللعنات التي تتصاعد منهم إذا جاءت سيرة الزواج، فلا يني الفتى يقول في نفسه: مالي ولهذه الغمة، وما أنا وهذه الأحمال الثقيلة، وقد رأيت الذين جربوا قبلي باؤا من التجربة بالويل والحرب. فلكي نرغب العزاب والفتيان في الزواج، ونجعله جميل المنظر، فتان المحيا، يجب أن نعطيه لون الإيديال وينبغي أن نلبسه لبوس الكمال والروحانية، ونغدق عليه من مفاتن المثل الأعلى، ولا ننظر إليه من الناحية المادية، وإذا نظر إليه من الناحية الروحانية الكمالية التي تفتن العواطف، وتجتذب النفوس، فلا نلبث أن نرى أمثلة طيبة من الزواج الكامل، ويظل فيه الزوجان حبيبين راضيين بعضهما عن بعض إلى النهاية. (4) هل هناك شيء مما أفسدته هذه الحرب هو أولى بأن يبادر بإصلاحه قبل غيره رأي الليدي روندة وهي من كبار المفكرات وزوج اللورد روندة مراقب التموين الصحة إن أول أمر ينبغي النظر فيه لبناء ما تهدم من أنظمتنا الاجتماعية والأهلية في العصر المقبل هو أن نهتم بأن يكون الأساس الذي ينهض عليه ما نبني متيناً قوياً صحيحاً، ولا ريب مطلقاً في أن الأمر الواجب الأول للظفر بهذه البغية هو العناية بالصحة فلنحشد اليوم جميع قوانا ولنبذل الجهد كله ونتضافر على أن يكون كل فرد يرد في هذه الدنيا مستطيعاً بما يعد له من الفرص، ويهيأ له من السباب أن يظفر ويتنعم بالصحة التامة الكاملة فإذا فعلنا ذلك وتمت لنا هذه النية الأولى استطعنا أن نأخذ في سبيلنا من ترميم ما تهدم من بناء الحياة ونحن مطمئنون عليمون بأننا نرفعه فوق أساس طيب متماسك.

رأي كونان دويل إصلاح قوانين الطلاق السير كونان دويل - هذا الروائي العظيم - أقدر المفكرين على تناول مسائل الزواج بالإصلاح، وأعلم الكتاب بمطالبه وما يستلزمه من الإصلاح، وإليك الرأي الذي ذهب إليه، وهو رأي جديد سديد لا تردد فيه، ولا باعث عليه إلا الرغبة في كثرة المواليد، وتوفير الزيجات لتنمية السكان والتعويض عن الجماهير العديدة من فتيان الأمم وأقويائها الذين طاحت بنفوسهم الحرب الماضية. قال: البحث الأول الذي ينبغي أن نهبه جميع قوانا هو موضوع الخسارة التي لحقت الجماعات من ناحية عدد السكان فلكي نملأ الفراغ الذي أحدثته الحرب ونسد الثلمات والفرجات التي فغرت فاها من جراء القتال، يجب أن نشرع شرعة جديدة، ونصدر قانوناً طريفاً يقضيه بأن يذلل السبيل إلى الطلاق لتلك الجموع العظيمة من أمم الغرب من أولئك المتزوجين المفصولين عن زوجاتهم بحكم الخصومات والفشل الواقع بينهم، حتى يتسنى لهم بعد ذلك الزواج ثانية وتأسيس الأسرات، وستنتفع الآداب العامة من هذا القانون وتستفيد الأخلاق الاجتماعية من هذه السنة، وهي الآن متقهقرة راجعة فاسدة من جراء الوساوس الدينية وما غليها من المنازعات والآراء المتضاربة من ناحية الكنيسة. رأي برنارد شو الشنق لا يزال برنارد شو رجلاً قاسياً في حكمه، قاطع الرأي، لا يتلجلج ولا يتجمجم ولا يضطرب، وهو يميل إلى المجون، ويجنح إلى العبث، فقد كتب إلى صاحب المجلة التي دعته إلى إرسال رأيه في أوجب طرائق الإصلاح، ما يلي: لا ريب في أن تقصدون من هذا السؤال الذي أرسلتموه إلى أن أكتب إليكم كشفاً ببيان أسماء الأشخاص الذين يجب أن نشنقهم، قبل أن نأخذ الطريق إلى الإصلاح، فلهذا لا أميل إلى أن أرد عليكم. ولعل برنارد شو يريد بهذا الشنق طائفة من الساسة وقواد الحروب، وليته وضع القائمة

حتى نعلم رأيه البديع في المجرمين الذين يجب أن تثأر الإنسانية منهم. فتوى محافظ لندن التضحية وقد جنح السير هوريس مارشال إلى الاعتقاد بأن تلك المشاعر التي استثارت الإنسانية إلى الحرب، وتلك الوجدانات الحية التي بدت على الأمم في هذا النواع التي أسهمت فيه الدنيا، يجب أن تعاد ثانية ويعض عليها بالنواجذ في أيام السلم، إذا كانت الإنسانية تريد أن تظفر بالنجاح والترقي قال: أول الواجبات التي ينبغي أن نضعها في البرنامج الذي نسير عليه في عهود السلام، وبعد هدأة الحرب، هو ذلك الاستعداد العظيم للتضامن والتضحية الوطنية، والمشاعر الطبيعية نحو الدفاع عن الأمة، أولئك جميعاً التي ظهرت في أيام الحرب، وهذه تتطلب الشجاعة وإنكار الذات، واحتمال المصاعب والمشقات، وتبعث الناس كما ابتعثتهم في أيام الحرب منذ أربعة أعوام، على تغيير حياتهم وتهذيب وجوه عيشتهم التي اعتادوا على سلوكها والأخذ بها من قبل. رأي مستر هري لاندر الصناعة الأهلية يجب أولاً أن لا تسمح الأمة بقبول المصنوعات الأجنبية في بلادها فإذا صنعت الأمة حاجياتها من المصنوعات، واستغنت عن غيرها ولم تشتر شيئاً من ذلك من جيرانها، تم الإصلاح الأولـ، ووجد العمال في البلاد العمل الذي يغنيهم ويكفل لهم تكاليف الحياة، فإذا كان لا بد من أن يرد إلى المملكة من المواد الخام التي لم تصنع في المصانع فيجب أن تدفع المملكة الموردة من الضرائب ما يغني عن الصناعة كثيراً من النفقات، ويغري المورد بالرغبة عن التزاحم في التوريد. رأي اللور هاملتون المنازل الموضوعان الخليقان بالعناية قبل كل شيء، الجديران بأن نتضافر على إنقاذهما بعد

الحرب، هما تهذيب المنازل التي نسكنها وتهذيب صحة الأمم، والحرب كما تعلمون أبعث على التساوي بين أفراد الأمم، وهي التي تنفذ المساواة في الجماعات، فقد كان الفتية على اختلاف المراتب والطبقات التي أخذوا منها إلى ميادين الحرب على مساواة واحدة في الحرب من ناحية النظام والطعام والميرة والإخطار والنجاح، ولهذا يجب أن سنتمسك بهذه المساواة التي منحتنا إياها الحرب، وينبغي أن لا نعود إلى عدم المساواة، كما قلنا قبلها، فإن الطبقات العاملة الفقيرة، التي تعيش من أجورها وجزاء عملها لا تبتغي من الحياة إلا أن يكون لها نصيب أطيب وحظ أوفر من مباهج الدنيا وطيباتها، ولا مناص لنا من أن نكفل لهم هذه الحاجة، ونغني عنهم مطالب هذه الأمنية. خواطر الطفولة عاد السير كونان دويل، الروائي الطائر الصيت، إلى تلك الصورة الجميلة التي ينشئها عن الأطفال، وتلك اللوحات الرائعة التي يرسمها لخلق الصبية، وعجائب ما يخرج من أذهانهم الصغيرة، وغرائب ما يصدر من أعمالهم وحركاتهم، ونعود نحن إلى نشر تلك الصور كلما رأينا شيئاً منها في الصحف، وننقل الآن الصورة الأخيرة التي ظهرت في هذا الشهر في عرض المجلة الإنكليزية الكبرى التي آثر كونان دويل أن يخصها بصوره، وقد رسم هذه بعنوان الشقاوة وبحث عن الضفادع والصور التاريخية. يوجد من أنواع شقاوات الأطفال ألف صنف وصنف، ولشقاوتهم أعرا وحالات وظواهر يعرفها كل والد محنق وأم متعفرتة من أصبيتهما، وشقاوات الأطفال الثلاثة الذين صورتهم في القطع الماضية شقاوة ممتازة، متبانية، ولكل منهم شخصية ممتازة في هذه الخاصية، ولكل ماركة مسجلة منها، فأما الطفل الأكبر لادي فقلما يظهر شقاوته فإذا أظهرها فإنما دون إرادته، كأن شقاوته تحدث الكبار فتقول: لا أستطيع إمساك نفسي. إني متأسفة ولكن ما عليكم إلا الصبر والاستسلام ولا جلد لأحد إذ ذاك على مغالبتها ومناوءتها، أما دمبلس الأوسط فشقي بارد الإحساس، صارم الإرادة، شعاره الآن سأتملعن وأتشاقى يوخرج بعدها القول فعلاً، وللطفلة شقاوة صخابة عالية، تحوطها الضوضاء واللجب والبكاء والأعوال، كأنما شقاوتها تقول، لا أكترث مطلقاً بأحد، وسأرمي بشرابي إلى السقف ولا يستطيع امرؤ أن يضبط هذه الحمى الصاخبة، فلا يسع الوالدة المتألمة المغتاظة والوالد وهو يبتسم خفية

وتبين نواجذه سرقة مسروراً من هذه الإرادة الأنانية الملعونة، إلا أن يصبرا حتى تنقشع العاصفة وتهدأ الزوبعة. وقد كانت شقاوة دمبلس الأوسط قد ظهرت بأجلى مظاهرها في اليوم الذي أكتب فيه هذه الصورة، والحقيقة أنه كان منحرف المزاج معكنن وعندما يكون كذلك، لا يهدأ حتى يقذف به على الناس، ويطلعه على دماغهم، ويطلعه على دماغهم، ويتشفى من الناس الذين حوله، وقد حدث له في اليوم المنصرم حادث أقلق أعصابه، وأثار نفسه، وهي مأساة تراجيدي ذات ثلاث فصول، فالفصل الأول منها أنه في بعض جولاته الحشرية، في البستان. اكتشف عشاً من أعشاش الزنابير فحركه وأهاجه، والفصل الثاني أن الزنابير اكتشفته وحركته وأهاجته، والفصل الفاجع الأخير سمع في جميع أنحاء الحديقة وتردد صداه في حجرات الدار، ودوى دويه في القرية الصغيرة لأن لهذا الطفل حنجرة كل ركن فيها يتسع أجهر الأصوات. ولذلك، بعد هذه الرواية المحزنة التي مثلها وكان فيها خاسراً، لا يزال له شفيع للغضب وانحراف المزاج وطلب الانتقام من الإنسانية، وقد اتخذت هذه كلها منحى غريباً، شأنه في جميع غرائبه وأطواره، لأنه لا يزال طفلاً مبتكراً، فبدأت أولاً تظهر في بضع ملاحظات جعل يضعها في صلواته ويهذب بها النصوص التي اعتاد تلاوتها، إذا أكرهته أمه على الترنيم والوقوف أمام الله، واعلم أن صلواته لا رائحة فيها للصلاة، ولا دليل فيها على الخشوع، بل تمتزج بالكبر، ويبين في أضعافها الإباء والعظمة والزهو، فقد قال تشفياً وحنقاً في ذلك اليوم وقد دعي إلى الصلاة مخاطباً الخالق عز وجل من فضلك اجعلني طفلاً طيباً - وإني لكذلك. . . .!، فلما أرادت أمه تنقيح هذه التلاوة وتهذيب هذه الصلاة المبتكرة، وأملت عليه فقال: اللهم علمني ضبط نفسي نحو الناس لم يشأ أن يدع هذه الصلاة تمر دون أن يردف عليها وعلم الناس ضبط أنفسهم نحوي! وخرج من الصلاة فأظهر حاجته إلى ضبط النفس، إذ تولاه الغضب وبلغ به الحنق أشده، فجرى وهو يبكي حانقاً مفترساً، وهو يصرف بأسنانه، ويرفع قبضة يده، نحو أخيه الأكبر لادي يردي أن يهوي عليه بألوان مبتكرة من ضرب البوكس، على أن لادي وقف مكانه لم يبرحه، وجعل ينظر إلى هذا الغاضب باحتقار وازدراء ولم يزد عن أن قال بكل برود إتلهي على عينك فحطمت غضب الصغير تحطيماً، وسكنت روعه، وعاد مخذولاً مدحوراً، وكذلك ترى من

الطفل الأكبر تلك الروح الفارسية العالية والفخار والتكبر والزهو والسكينة والثبات أمام التهديد والوعيد كما تجد الحب إزاء النعومة واللطف والميل والاستسلام. فلم يكن من الشقي الصغير إلا أن خرج على وجهه يطلب الحديقة لكي يخفي خجله وخزيه، وكان ذلك عقاب له حتى يستشعر جريرة ذنبه، على أن الأبوين لم يلبثا أن ندما وأحسا الحنان، فمشيا إلى الحديقة لرؤية الأزهار، أو لتنسم الرياح واستنشاق علائل الهواء، أو لتفقد البطاطس أو لأي عذر من الأعذار، يستطيعان ادعاءه ليخفي كل عن صاحبه غرضه الحقيقي، ومقصده الأول من الذهاب إلى الحديقة، وكو لكي يرى ما إذا كان من المنفي وما كان من علامه، فلما تقدما خطوات في البستان، لم يشهدا أثراً للمذنب الصغيرـ، ولكنهما لم يكادا يقتربان من التعريشة الدانية الأغصان إلى البحيرة حتى سمعا صوتاً طفولياً عالياً صخاباً عميقاً، فأصاخا إلى تلك الأغنية التي كان يترنم بها الطفل، فأشار الوالد إلى زوجته أن تسكت وتستخفي وتخف الخطى، وتقتدي به في حركاته الخافتة، ففعلت كما أشار وكان الوالدان أشبه في ذلك بالأطفال إذ يلعبون لعبة الاستخفاء، وقد أطلا من خلال الأغصان ينظران خلسة إلى الطفل وكان منظر لا ينساه كل منهما آخر الحياة، إذ ألفيا الطفل يلوح بيده مطرقاً برأسه وهو منطلق في غناء تعلمه من مرضعه وأنشودة أخذها عن مربيته، وأمامه بضع ضفادع، رافعات الرؤوس محلقات الأبصار، جالسات فوق حافة البركة أشبه شيء بصف من الحضور النقادين جالسين في المقاعد الأول من التياتر وينقدون الممثلين ويرقبون حركاتهم. فلم يستطع الوالد أن يمسك نفسه عن البقاء في مكانه بل انطلق من مكمنه فظهر أمام الطفل وهو يصرخ هالو! فلم يكن من الضفادع إلا أن هربت إلى الماء فغابت فيه. فأجاب دمبلس عليها بصرخة مثلها، وهو فرح مسرور ونسي حزنه الأول. فسأله أبوه: أتغني للضفادع يا بني؟ قال الطفل وهو يعلم أن له رقابة شديدة على الحيوانات والحشرات، نعم ولخنفساوين اثنتين، وكان هنا الساعة ضب ولكنه لم يشأ البقاء. فقالت الأم وهي تحتضن عظيمها: وهل تظن يا بني أنها تستلطف غناءك؟ فقال الطفل: إني أعتقد ذلك وأؤكد أتنها تحب الغناء فإنها عندما يروقها شيء تنفخ برقابها

وأنوفها، ولقد غنيتها دورين فظهر السرور عليها بكل معالمه. وإذ ذاك أقبلت الطفلة وأخوها الأكبر، وكانت الطفلة تمشي منتفخة زهو وخيلاء لأنها ذهبت بالأمس إلى لندن لأجل فحص عينيها، وعادت بنظارة فوق عينيها، وقد ظلت طول يومها تضع المنظار فوق عيني عروستها الخشبية وتنظر إليها نظر الطبيب إلى العليل، وكانت قد أصرت على أن تصطحب العروسة معها إلى لندن ولكن لما نبئت أنه لا يليق أن تأخذها مكشوفة ظاهرة للعيان، أبت إلا أن تكون في سفرها، ولو توضع في صندوق، فكان ما أرادت، ولكنها عندما عادت من سفرها، وسئلت رأيهما في لذة السفر قالت لأمها: لقد كان والله سفراً لذيذاً، وإن كانت عروستي محبوسة داخل الصندوق، ولم تشم الهواء مطلقاً وقد تخيلت الطفلة منذ زمن أقارب وأنسباء وسلالة وعشيرة للعروسة، وابتكرت لها عائلة وأسرة، حتى لقد أخبرت أمها أنها قد تزوجت، فارتعبت الأم وسألتها أن تشرح معنى ما قالت، فلم تزد الطفلة عن أن قالت نهم يا أماه لقد تزوجت شقيق ريجلي عروستي وظلت بعد ذلك تمشي الخيلاء مراحاً وبهجة، مشي الفتاة العروس في الأيام الأولى من زواجها. وقد لمحت في الصور السابقة إلى آثار الطبيعة انسانية الأولى التي تنم عنها هذه الأخلاق التي ظهرت في هذه الطفلة والأدوار التي تقلب فيها الجنس البشري، وهنا أزيد عليها دوراً آخر يزيد حيرة العلماء ويثير فيهم الدهشة، وهو دور التقليد والمحاكاة والتمثيل ذ ترى الطفل في ذلك الدور من حياته يقلد أشياء كثيرة ويدعي مظهر حيوانات مختلفة ويجد في ذلك ويؤديه برزانة ويقوم به لا عن هزل أو مجون، وإنما حقيقة وجداً ويحب التمثيل ويتقن الدور الذي يلبسه، فتجد دمبلس يقول: أنا الكلب كروسو! فيأخذ أخوه عنه قضية مسلمة ويصدقها منه فيقول: جر العصا يا كلب! ثم لا يلبث كل منهما أن يفهم روح صاحبه، فيعارضه في أمره وينتقد وجوهها من ضعف تمثيلية، إذ يقول لادي الأكبر: أنا ثعبان ثم يظل على شخصيته هذه ساعات طوالاً، فلما عسعس الليل، وحان موعد النوم، سأله أخوه: كيف إذن تنام في الفراش يجب ان تنكمش وتلتف وتستدير. وقد يتعب الطفلان من إطالة التمثيل والتقليد ويتبينان حماقة أمرهما ويدركان الروح المجونية فيها، فيضجان بالضحك، ويرتفع الصوت من كل منهما عالياً شديداً، ولكنها عادة أشبه في ذلك بالقضاة جداً ورزانة إذا أرادا التقليد.

وقد حدث ذات يوم في أوائل الحرب أن رأت الأم طفلها الأوسط واقفاً وقفة جلال وعظمة وأبهة وزهو وكان قد اعتاد في كل يوم أن يتخذ شخصية إنسان يختارها من بين الشخصيات المعروفة في التاريخ فلم يسع الأم إلا أن سألته قائلة: من أنت اليوم يا عزيزي. فأجابها الطفل على الفور: أنا الإمبراطور! فصاخت أمه مرعبة، لك الله. وكيف تقول ذلك يا بني فلو سمعك والدك الآن لغضب أشد الغضب، فلم يكن من هذا الإمبراطور إلا أن قال: أبي!. . . ليس أبي إلا رجلاً إنكليزياً من عامة الناس. وكثيراً ما يغلب الأطفال الميل إلى انتقاد الكبار ويعتريهم الجنوح إلى التعريض بهم والقدح في أقدارهم. فقد سأل يوماً أحد الزوار الخلطاء دمبلس: ماذا تريد أن تصنع في الحياة عندما تكبر؟، فأجاب الطفل: لن أفعل شيئاً وسأكون في ذلك كأبي!! فإذا أنت أردت أن تدرك الغرائب التي يحدثها ذهن الطفل، وتدرس عجائب خواطرهم، فعليك بكتاب حافل بالصور التي تهتاج الخيال ثم سل الأطفال عنها ورأيهم فيها، فإن لوالد هؤلاء الصبية تاريخاً مصوراً عن العالم القديم والأجيال الغابرة، وهذا الكتاب فرحة الأطفال وأستاذهم معاً، إذ يجلس ثلاثتهم في دائرة يحملقون الأبصار في الصور ويحاولون إدراك معانيها، على حين يجلس الولد وراءهم في مقعده، مدعياً أنه أعلم منهم بها، وأكثر معرفة بأسرارها من أطفاله. وأنشأ أبوهم يسألهم: احزروا ما هذا! وكانت أمام أعينهم صورة قبر من القبور التي يصنعها أهل الأدوار الحجرية من عهد الإنسان الأول، فيب وسطها عظام وحولها أواني. فظل الأطفال يمعنون في النظر إليها يوتفرسون في معارفها، وانبرى دمبلس فقال: هذا جوف فيل أكل إنساناً وهذه بقايا الجثة في أمعائه. فرد أخوه عليه يعارضه فقال: الفيلة لا تأكل بني آدم إنما تأكل الأرانب. وقال الطفلة، وكانت قليلة الكلام، فإذا تكلمت فإنما تقول عن نية وقرار وتبت رأياً قاطعاً وقد يكون في أغلب الأحيان الحق والصواب: هذه أواني! فلم يجد الوالد مناصاً من أن يشرح الأمر فيقول نعم هذه أواني يا بني هذا إنسان مات ودفن وهذه الأواني وضعت حوله لكي تكون معه في الآخرة لينتفع بها ويستخدمها إذا شاء، وكانت هذهفكرتهم في تلك الأيام!

ثم قلب الأطفال الصفحات فاستقرت أنظارهم على صورة من صورها. قال دمبلس: هذا طفل آدمي يرتضع ثدي أمه فقال الوالد أجل هذان روميولاس وريماس، مؤسسا مدينة رومة العظيمة، وكانا في طفولتهما قد فقدا ثدي الوالدة فجعلت ترضعهما ذئبة. قال دمبلس: يا للذئبة من أم جميلة. تصوروا أن نقول صلواتنا في العشي إلى ذئبة! إنها لا تكون إلا صلاة وحشية. فاستطرد الوالد في شرحه فقال: ولكنهما مع ذلك نشآا قويين ولم يلبثا أن أسسا مدينة فتحت العالم بأسره. قال دمبلس: إلا إنجلترة بالطبع فأجاب الوالد: بل وإنجلترا كذلك. فلم يكد يسمع الثلاثة هذه العبارة حتى صاحوا معها صيحة احتجاج قائلين أوه لا يتقل هذا يا أبي!. وأردف لادي وهل كان هذا يليق يا أبي! فأجابه أبوه: لقد كان في ذلك الخير كله لإنجلترة. لقد كنا يومذاك قوماً همجاً متوحشين فجاؤوا لتهذيبنا والآن ما هذه الصورة يا أولادي! وكانت الصورة الأخيرة والحق يقال لغزاً من الألغاز إزاء هؤلاء الأطفال فقد كانت صورة عراف من قدماء المصريين وقف يتلو نبوءته أمام صف من الجند وهم وقوف رافعي الأذرع. قال الطفل لادي: هذا رجل واحد يلاكم ستة! وأصدر دمبلس قراره فقال: هذه امرأة وستة رجال يريدون الزواج بها! ولم يكن من الطفلة إلا أن هزت رأسها المتجعد وقالت: عساكر! وكذلك جعل الأطفال يحدسون ويخمنون، كلما قلبوا صفحات الكتاب بين أيديهم، وكانوا في ذلك أشبه شيء بآخر الأكمام الجديدة في نهاية أحدث الأغصان في شجرة الحياة العظيمة وكانوا في ذلك الكتاب ينظرون إلى ما صنعت تلك الأزاهر القديمة الغابرة التي طلعت فوق الأفنان الماضية التي أبلت وذوت منذ أقدم عهود الزمان، وستثمر أيضاً هذه الأكمام وستذوي وتذهب ويجيء بعدها غيرها يبعد عنها بعد بابل عنا فتحملق وتنظر إلى هذه الأكمام وتسخر منها وتضحك إذ تتراءى لها في كتب التاريخ وصوره ولوحاته رسوم

طياراتنا وسفائننا وجوارينا والأدوات التي ابتكرناها للتغلب على الطبيعة. وكذلك كانت الإنسانية تصنع وتثمر وتبتكر، ولكن ما القصد، وما النهاية، وما الخاتمة، لقد كان أذى الحياة مخيفاً وصخاباً رائعاً، وكان يدفعهم جميعاً ويسوقهم أمامه إلى الساحل المجهول.

الإسبريتيوالزم

الإسبريتيوالزم أو الحركة الفكرية القائلة بوجود الروح والرأي الأخير الذي صدر من زعيمها سير أوليفر لودج العالم الطائر الصيت سير أوليفر لودج هو العالم الكبير الذي يناضل اليوم ويسعى بكل قواه إلى إثبات وجود الروح والحياة بعد الموت، وقد أثار بأبحاثه وتواليفه ولاسيما كتابه الأخير رايموند أو الحياة بعد الممات ضجة كبرى في عالم العلم، وقام العلماء وأقطاب المفكرين في آثاره بين معارض ومنتصر، وقد أوفدت مجلة من المجلات الذائعة الذكر في الغرب رجلاً من كتابها ليقف على آراءه الأخيرة في أمر الإسبرايتيواليزم وقد نشر هذا الحديث في هذا الشهر ونحن ننقله للقراء قال السائل يا سير أوليفر لودج، لقد كلفت أن أسألك ماذا تم في أمر الإسبرايتيواليزم اليوم.؟ فأجاب سير أوليفر، أما عن الإسبرايتيواليزم فلا أجيبك لأنني لا أحب هذه الكلمة كثيراً اللهم إلا إذا كان يردا بها التعبير عن فرع خاص من الفلسفة، أما من ناحية أنها تؤلف طائفة خاصة، فلا أنتسب إليها ولا علاقة لي بها ولا شأن لي معها وإن كان لا ريب في أنها تجتذب إليها جموعاً عديدة من الناس. قال الكاتب، ولكن لا شك في أن لهذا البحث وجهة علمية كما أن له وجهة عاطفية دينية. فأجاب ذلك العالم، نعم ككل شيء سواه في الدنيا، وهي من ناحيتها العلمية تسمى عادة الأبحاث النفسية وقد بدأ هذا البحث حول تلك الموهبة الإنسانية المجهولة، ومنذ اكتشفت التليبائي أو الاتصال الموجود بين الذهن والذهن، أصبح يجوز لنا أن نستنبط منها أن الجسم والذهن لم يكونا منفصلين بعضهما عن بعض وأن أحدهما قد يعيش بالآخر، وقد دلت التجاريب التي أداها بعضنا إلى أن يعد مسألة هذه الحياة التي قد تكون بعد موت أحدهما حقيقة تقوم عليها الأدلة. قال الكاتب وهذا ولا ريب أمر يعد من الأهمية الأولى أليس هذا ما ترى؟ فأجاب: نعم. هذا ما أنكره فإنها من الأهمية بحيث يجب اتخاذ الحيطة والعناية قبل أن نعدها حقيقة مقررة نهائية، على أنني لا أوال في ريب من أن الدليل عليها سيصبح من

القوة والسلطان والتأثير بحيث يشستطيع التغلب على الذين يعارضون فيها ويصرون على أن لا يروها. وأنا لا يسعني إزاء بعض أولئك غلا أن أشترك معهم في العاطفة وأشفق عليهم لأنني أرى الصعوبات التي تحول دونهم. وأنا لا أدعي القول بأنه من السهل الاقتناع بأن الشخصية والذاكرة يعيشان بعد فناء الذهن. بل كل ما أقوله هو أنه قد وجدا يعيشان. وهذا يمكن أن يشير إلى أن الذهن ليس إلا أداة أو عضوا يستخدمه شيء غير محسوس مطلقاً، شيء يوجد في العالم النفساني لا العالم البدني، شيء لم يكتمل ويصيب النماء إلا باشتراكه مع البدن أو المادة. ومن هذا يصح أن نعرف الذهن بأنه أداة من أدوات البدن، أداة صلة واتصال، لا أداة مفكرة قائمة بذاتها لأن الذهن الذي لا هيئة له والغير مجسم لا بد له من وسيلة إلى إعلان نفسه وإثباتها وإظهار حقيقة وجود ولكن هذا لا يستلزم أن تكون هذه الوسيلة من المادة العادية التي نعرفها أو إذا كان لا بد من ذهن لأجل الاتصال بنا في هذه الأرض فيجوز أن يستخدم جزء من ذهن شخص آخر لهذا الغرض الوقتي، فذهن هذا الشخص هو الذي نسميه - الواسطة - أي واسطة الاتصال والمخابرة. قال الكاتب: إذن فهل أتعقد أنكم ترون استقلال الذهن عن المادة أمر ثابت؟ قال العالم: أجل إن الذهن أبقى وأثبت من أداته البدنية وهو يعيش ولا ريب بعد هذا البدن الحاضر الملموس ويبقى على حاله قائماً بلا تغيير. فسأله الكاتب: أيمكن أن تشرح لي كيف أهتدي إلى تقرير هذه الحقيقة؟ فأجاب: من الناحية العامية بما يشهده بعض الأشخاص الذي يفقدون أحبابهم والأعزاء لديهم ومن الناحية العلمية بطريقة التخاطب وضروب أخرى معقدة من الأدلة لا تزال في استمرار. قال السائل: هل يمكن أن تشرح لي الطرق العامية أو العادية لإثبات هذا الأمر؟ فأجاب: بلا ريب، فإن فريقاً كبيراً من الناس الذين يفقدون أقاربهم يذهبون إلى - واسطة - يوثق به فلا يذكرون له أسماءهم ولا يتطلب الواسطة منهم معلومات أو استفهامات. ولا يقول الأشخاص لهم كذلك شيئاً منها، والواسطة كذلك يفضل أن يكون جاهلاً بزبائنه كل الجهل. وفي بعض الأحيان يصحب شخص آخر ليثبت ما يدور من الكلام، ففي كثير من هذه الأحوال بل أقول في معظم هذه الأحوال، يرى أن الدليل قوي جداًـ قاطع مدهش إذ

يتحقق الشخص من شخصية الميت الذي فقده ويرى أنه في لهفة واشتياق إلى مخاطبة أقاربه وإرسال رسائل لهم، وهي رسائل محبة وعطف في الغالب. وتحقيق شخصية وإثبات وجود. قال السائل هل لك يا سيدي أن تذكر لي طائفة من هذه الأمثلة؟ فأجاب السر أوليفر: خذ مثلاً شاباً قتل في هذه الحرب وتصور أن أبويه استطاعا أن يتخاطبا معه فإنه سيحييهم كعادته يوم كان في هذه الحياة ويدعوهما بامسيهما، أو قد يناديهما بأسماء الدلال التي اعتاد البنون أن ينادوا بها آباءهم وقد يسألهما عن أخوته وأخواته بأسمائهم جميعاً أو بما يشير إليهم من طرف خفي، لأن الأسماء في بعض الأحيان متعبة من ناحية الوصول إليها، وقد يذكر أدلة وتعليقات وغشارات معروفة تميزهم عن أبويهم، وكثيراً ما يذكر ما يدل على أنه يعرف ما يفعلون إذ ذاك والأمر الذي يشتغلون به وقد يبسط معالم هيئته وشكله، وقد يذكر الواسطة علامات وإمارات صغيرة ولكن حقيقية كالبقع في الوجه أو الخدوش أو الحالات أو علامة من العلامات المختلفة. وأما عن ذكر الحوادث فإنني لأذكر أن في حالة من هذه الحالات قال ميت من الفتيان لأبويه أنه كان قد ضرب موعداً بينه وبين أخيه على اللقاء في فرنسا على كوبري معرفو فلما توافيا إلى الموعد وأقبلا إلى المكان المضروب لم يكت للكوبري أثر بل طار على أثر القذائف وتبدد من القنابل ثم جاء بعد ذلك خطاب من أخيه الذي عاش بعد هذا الحادث، ونجا من القذائف مؤيداً هذا الأمر مؤكداً هذه الحقيقة. وكان الأبوان لا يعرفان من هذا شيئاً عند ما جلسا إلىمخاطبة فقديهما. وغليك ثملاً آخر: ثلاثة أخوة قتلوا جميعاً، فذكر الواسطة أسماء الثلاثة إلى أبويهم، وكان أحدهم وهو أصغرهم هو المتكلم، فقال على لسان الواسطة، قل لأبي أنني لم أتكلم كل هذه المدة التي غبت عنها! وكان الفتى في الحياة ثرثاراً وكان أبوه كثيراً ما أنبه على ثرثرته وعاقبه على كثرة كلامه. وفي حالة أخرى كان المتكلم فيها من العالم الآخر صبياً صغيراً فطلب من أبويه أن يعطيا ما في جيب صداره إلى أخيه الصغر، فلما فتشا جيوب الصدار وجدا قطعة من النقود في الجيب الذي وصفه.

والوصف الشائع في مثل هذه الأحوال هو وصف المنزل القديم الذي كان يقيم فيه الميت والأثاث والصور المعلقة فوق الجدران، بل كثيراً ما يذكر أسماء الكتب المصفوفة في المكتبة. قال السائل: وهل يجيب الموتى على أسئلة معينة؟ فأجاب سير أوليفر لودج: إنهم لا يتذكرون دائماً ما يتوقع السائل منهم أن يتذكروا، لأنه من الصعب أن تكره روحاً على أن تعود إلى ذكرى شيء نسيته وتعفى واندثر من لوحتها، ومن الحوادث التي نستشهد بها هو أن شابين صديقين حميمين ماتا من مرض في أثر بعضهما البعض ولكن كان كل منهما في بلد بعدي عن بلد صاحبه، فلما مات أصغرهما وهو هربرت حبس الأصدقاء هذا الخبر عن الصديق الآخر، على أنه عندما مرض هذا وجاءت ساعة المنية، قال وهو يبتسم: أهلاً بك يا هربرت مسرور لرؤيتك! ومن الأمثلة التي ذكرها السير وليام باريت في كتابه الحادثة التالية: وهي أن ضابطاً من المستشهدين في الحرب قال بعد انتقاله إلى العالم الآخر على لسان الواسطة أنه يريد أن يرسل دبوس ربطة عنقه، الموجود في أمتعته إلى سيدة ذكر اسمها وعنوانها وقال أنه خطبها سراً وأراد الاقتران بها، ولم تكن أسرته تعرف شيئاً عن هذا من قبل، فلم يسعهم إلا أن يكتبوا خطاب استعلام بالعنوان الذي ذكره ولكن الخطاب أعيد إليهم وقد كتب فوق الغلاف (غير معروف) فظن القوم أن الأمر خيال متخيل. ووهم من الأوهام على أنه عندما جاءت أمتعته من ميدان القتال. وجدوا بينها الدبوس الذي أشار إليه ولما اكتشفوا وصيته التي كتبها قبل مماته، رأوا اسم السيدة صحيحاً كما ذكر، وقال عنها في الوصية أنها الوارثة له، فقبلت الخطبة واعترف بزواجه بها. وكذلك كان كل شيء مما قال صحيحاً إلا العنوان، وأنا لا أعرف سبب هذا الخطأ في العنوان، على أن العادة في مثل هذه المخابرات أن يكون جزء منها خطأ، ولعل هذا يرجع إلى الصعوبات التي تعاني في مثل هذا التخاطب، أو على عودة الواسطة فجأة إلى حالته الطبيعية، كما يكون من الإنسان إذ ينتبه بغتة من الحلم ثم إذ تغفى عينه ثانية يعود إلى حلمه فيسترسل فيه. قال السائل: إن أمثال هذه الأغلاط تجعل م الصعب الاهتداء إلى أدلة مرضية مقنعة. فأجاب ذلك العالم المشهور: بلا شك فإن هذه الأدوات الإنسانية التي تستخدمها في التوسط

بيننا وبين الأرواح مهما كانت مخلصة لا يمكن أن تكن كاملة القوى في جميع الأحوال وليس في الإمكان تجنب هذه العودة الفجائية إلى الحالة الطبيعية، ولكن هناك فرقاً عظيماً بين الواسطة الطيبة والواسطة الرديئة. قال السائل: إذن أنت مقتنع بأن الحياة غير محدودة بالحياة على الأرض وأن هناك عالماً آخر ننتقل إليه؟ فأجاب: هذا ما لا ريب عندي فيه، ويلوح لي اليوم أن الموت أمر لا يخشى منه بل حادث يؤمل وأمر يبتغى، لأنه ولا شك رحلة لذة طيبة ولا أعتقد أن هذا الانتقال أليم معذب مرير، بل أن الإفاقة من الغشية قد تكون مؤلمة، ولكن الانتقال في العادة ليس فيه ألم أو عذاب.

الغازات الخانقة في عالم الحشرات

الغازات الخانقة في عالم الحشرات لا تحسبن أن العلم الحديث، بجميع ما ابتكر واستحدث وابتدع، من هذه المخترعات العديدة التي لا يكاد يحصيها العد، يستطيع أن يبز عظمة الطبيعة أو يغلبها على جلالها أو ينتقص من أطراف روعتها، ولا نظن أن العلماء وأهل الفنون والمبتكرين يدانون الحشرة الصغيرة في فنها، أو سيحاكون النملة في جلائل أعمالها، ولعل خير ما قال الحكماء في عظمة الإنسان والفارق بينها وبين عظمة الطبيعة ما قال المؤرخ جبيون إذ وصف في كتابه سقوط رومة روعة كنيسة أيا صوفيا في مدينة القسطنطينية وما كان من الفنون البيزنطية وبراعتها وسموها حتى لقد استغرق وصفه فيها بضع صفحات ثم ختمها بقوله على أن الكنيسة بجميع ما فيها من آثار الفن الإنساني لا تعادل في جلال صنعها العش الصغير الذي تنشئه حشرة العنكبوت في ركن من أركان قبابها العالية. ولقد يتوهم القراء أن هذه الغازات الخانقة التي ظهرت على يد العلم في هذه الحرب مخترع عجيب، ومبتدع طريف، لم تشهده الدنيا، ولم تأت بمثله الطبيعة، ولكن هذا هو الخطأ وذلك هو الوهم، فقد وضع أحد العلماء الحشريين المشهورين مقاله في إحدى مجلات العرب التي ظهرت في هذا الشهر يثبت فيها أن فكرة صنع غازات خانقة للفتك بالعدو تحصين النفس من غارة المغير لا تزال فكرة منفذة في عالم الحشرات، ونحن ننشر هذا البحث لفائدته وغرابة ما جاء فيه من تلك الحكمة الطبيعية التي لا تخص القوة الإلهية به عالم الإنس وإنما يشترك فيها الحيوان والإنسان على السواء. نحن نعلم أن الحشرة لا تفكر ولا تعيش على هدى فكر منظم ولكن أعمالها مع ذلك غريزية محضة فالغريزة هي التي تدفعها في ما استمدته من أدوار تطورها على مدى الزمن لحماية نفسها من شر أعدائها أو مخادعة خصومها أو لجلب كفافها من الغذاء وما تتوارثه عن بعضها البعض وما تهذب فيه من عادات آبائها ولهذا كثيراً ما نلتقي بأمثلة مدهشة فتتوهم لأول وهلة أنها حيل مدبرة وأخاديع منظمة أحدثها عقل كبير، دون أن ندري أنها من صنع الغريزة، وقد دلتني الأبحاث الأخيرة التي قمت بها في فحص بيض ضرب من الدود على أمور مدهشة يحار لها الفكر الإنساني وهذا النوع يسمى لدى الحشريين () وهو حشرات تتغذى بأوراق أشجار التوت والحور، وطريقتها في تغذية نفسها منها طريقة عجيبة خارقة للعادة، وذلك أنها قبل ان تتغذى على الورقة تبتدئ بشمروخها أو ساقها وتنفث فيه بضع

قطرات من لعابها، ولكما نفثت نقطة رفعت رأسها لكي يتسنى لها أن تجعل السائل الذي تنفثه من لعابها على خط مستقيم وخيط ضعيف وكذلك تضع عدة خيوط من لعابها كالشعرات فوق ساق الورقة ثم تحرك هذا الساق إلى الجزء الأخضر وتبتدئ في غذائها، وتنطلق من طرفها في طريقها إلى الورقة وكلما أكلت قطعة تحوطها بدوائر من لعابها، من الناحيتين العليا والسفلى من الورقة، حتى إذا تم لها ما أرادته من وضع متاريسها حول الورقة، اطمأنت وأخذت في طعامها ثم تسترسل في وضع دوائر من لعابها كلما تقدمت في الأكل. ولا شك في أن الغر من ذلك هو لوضع خطوط دفاعية ولإنشاء متاريس تحصينية ولكن رب سائل يسأل وعلام الدفاع، ولم التحصين وإليك الشرح وهاك السر: يعرف الحشريون أن الحيلة العامة التي تتخذها النباتات من شر الحشرات في أن تضع خطوطاً وشعرات وخيوطاً على سوقها وعيدانها وشماريخها وأوراق أغصانها ولا سيما ما يختص منها بثمارها وأرهارها، وذلك لترد غارة الحشرات الدابة إليها، ومنها النمال وهي أفظع الحشرات شراً على النباتات. وقد كنت أعرف هذه الظاهرة الطبيعية. ولذلك استحضرت جملة من النمل الأسمر الموجود في حديقتي ووضعت واحدة منها على حافة الورقة التي أنشأت تلك الحشرة الأولى فيها متاريسها وخطوط دفاعها، فكان من اهتياج النملة أن انطلقت بسرعة فوق أديم الورقة واندفعت رأساً على تلك الخيوط السائلة، فتكسر خيط منها وتشبث برأس النملة، فبدأ هذه تتململ وتحاول التخلص وبعد أن عانت مشقة طويلة نجحت في الخلاص من أشراكها على أنه لم يصبها الرعب فقط من هذا الحادث، بل جعلت كذلك تلمس وجهها بمقدمة أرجلها ولاح لي أنها أخذت تعطس بكثرة إذا صح أن النملة تعطس وإذ ذاك وضعت نهاية بطنها تحت أقدامها وأطرقت برأسها وجعلت كذلك تتدحرج كالكرة ويحتمل أنها كانت تخرج إذ ذاك شيئاً من الحامض لتفسد مفعول ما تناولته من ذلك السائل الذي نفثته الحشرة الأولى، لأنها بعد لحظات أخذت تفيق وتنتعش ومضت تتحرك بكل احتراس حول الورقة، وما كادت تداني بقايا تلك الخيوط حتى ارتدت على أعقابها ويلوح لي أنها استطاعت أن تشم رائحة ذلك السائل، ولذلك أصبحت متنبهة يقظة.

فأعدت التجربة في نمال أخرى غيرها فوجدت أن هذه النمال في كل مرة تصاب بهذه الغازات الخانقة كلما لمست هذه النقط الدفاعية.

روايات البيان

روايات البيان مسألة محتاجة إلى بوكاسيو لا أظن أنك تستطيع أن ترتضي لنفسك لقب الرجل العادل أو تنسب إلى نفسك الإنصاف إذا أنت اعتدت أن تهب الوليد الذي لا يزال يناهز العامين من العمر في كل ذات صباح، وفي العشي والأصائل، قطعة من الحلوىـ، ثم يدعوك الاقتصاد وينذرك نذير الحرب، ويطالبك مراقب لجنة المواد الغذائية أن تمنع عن ذلك الوليد تلك الحلوى، وتحرمه تلك الهدية، فتقطع عنه هذا الراتب، وتحول بينه وبين ما تعود فإن الطفل ولا ريب لن يدرك إذ ذاك حججك، أو يستمع إلى منطقك، أو يفهم السبب الذي من أجله أنكرت عليه هذه اللذة العذبة التي كان ينعم بها من قبل، بل أنه لا مراء فاتح يديه، باسط ذراعيه، معول في وجهك، مطالبك بالحلوى مستكثر منها، وسيهز قبضته في الهواء، ويعض أصابعه سخطاً متألماً، وينام على وجهه فوق الأرض وينطلق في بكاء مستطيل وصياح، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه ولا نفع من عبراته، فيحتال الحيل، ويريد المخلص وربما اعتزل في مكان قصي واستبدل الذي شر بالذي هو خير، واستعاض عن أكله قطعة الحلوى بقطعة من الفحم. إن حرباً قلبت الدنيا رأساً على عقب كحربنا هذه لا يكون منها ولا ريب إلا أن تحدث أحداثاً في نظرنا للحياة، وتغير الآداب وتدخل أموراً وعبراً في الخلق والاجتماع. ومن الصعب أن نتوقع من أبناء آدم أن يتخلوا دفعة واحدة عن طلابهم السعادة ويقفوا عن نشدان الهناء، إذ ينهض في الأفق صوت الطبلة الأولى الداعية إلى السلاح المنادية القوم إلى الأمة والتجالة على ميدان الحياة، على أن سواد الناس مع ذلك استطاعوا أن يحتالوا لذلك حيلهم. ويتخلوا عن سعيهم، وقد حبست السعادة اليوم بعد أن طبقت كالثياب في الدواليب، وأغلق عليها بالقفل، واستعاض عنها الملايين من الناس تلك الأثواب الرهيبة الأليمة - أثواب الأسى والحداد - وبذلك قام السواد الأعظم من الناس بالمستحيل، والأمر الذي لم يكن في الحسبان، إذ صبروا على فقدان السعادة وجلدوا على تبدد العناء،

واعتصموا عنه بأجمل العزاء، ولكن هناك قليلين من الخلائق المعذبة الطاهرة الأذهان البريئة النفوس، البلهاء الضعاف القلوب أولئك الذين لا يستطيعون صبراً، ولا يجدون تجملاً بعزاء، أولئك الذين يصرخون في أثر سعادتهم الضائعة وهنائهم الزائل، ويرفعون الأذرع طالبين قطعة الحلوى التي منعت عنهم متوسلين جازعين لهفى على تلك الفاكهة الصغيرة التي حرموا منها. من هذا الفريق الأخير كانت شيلا سورسيل لها ذهن طفل، وقلب وليد، وكانت تعمل أنها حسناء، وكانت بما تعلم فرحة، وكانت بحسنها جذلى مبتهدة، وكان لهوها أن تقف ساعات أمام المرآة تطيل في وجهها وتقصر، وتبتسم لصورتها، وتقطب، شأن الطفل الصغير، فإذا أغضبها شيء من معارف وجهها أو بزتها، ونفضت خيوط قبعتها، فإنما كان ذلك منها لأنها كانت وهي طفلة غضوب، تعض أناملها، وإذا غنت فرحاً واغتباطاً، على مشرق الشمس ومطلع ذكاء من خدرها، أو إذا مس لج البحر عند الشاطئ بدنها الناعم يوم الاستحمام فكذلك كانت في طفولتها الأولى، حتى لقد أصبحت وهي في التاسعة عشر على طفولتها التي كانت تنم عنها وهي في العاشرة. فإذا كان هذا أمرها، وتلك خليقتها، فلا عذر ولا شفيع لأبويها أن يفارقا الحياة في مبتكر عام 1914 ويرحلا يداً في يد إلى عالم الأرواح، ويتركاها وحدها بلهاء كأشد ما كانت بلاهتها وهي وليد تدرج في البيت. ولقد كان الثلاثة ينعمون بالسعادة لا تفوتهم فرصة تستطيع أن تجعل الحياة أسعد وأبهج إلا أدركوها واستقبلوا سوانحها، ولكن لم تلبث فجأة بلا نذير ولا إعلان ولا نبأ، أن نكست أعلام السعادة، ولم يبق للفتاة شيلا إلا قلب معذب ودار قفراء وموقدة لا عشيرة حولها، وحساب ثروة طيبة في المصارف. ولما كانت تجهل ماذا تصنع بهذا التراث، ولا تدري ماذا تفعل بهذه التركة أوت إلى فندق في مدينة يورتموث، وانطلقت تبحث عن السعادة التي فقدتها. والأقدار دأبها أن تردف النكبة بأخوات لها، وتجيء بنوائبها متلاصقة متسابقة، إذ ما كادت شيلا تحس أن أحزانها قد بدأت تزول، والأسى يخف، حتى فكرت الأمم أن تعلن الحرب وتنادي بالقتال.

فلم تدرك شيلا شيئاً عن الحرب، ولم تفهم المعنى الذي وراء هذه اللفظة، وإنما حسبتها مسألة من مسائل الصحف والجرائد، على أنها أسوة ببقية الإنسانية شعرت بتلك اليد الباردة التي مست قلب أمتها في خريف عام 1914. وكانت شيلا إلى ذلك العهد لا تدري شيئاً كثيراً من طبائع الإنسان، ولكن الآن جعل هذا المخلوق يبدو لناظريها في منظر جديد ومظهر غريب خطير، وعلمت إذ ذاك أن الشقاء والاضطراب والأحزان قد هاجمت العالم، واحتشدت في الأرض، ولما لم تجد ذراعاً رحيمة رؤماً تفزع إليها وأحضان أم حنون تهبط فيها، جعلت تنظر إلى الأسى الذي حولها صعقة آسية حزينة على أنها لم تلبث أن شعرت بشيء من التسخط وأحست روح التذمر تجول في صدرها، إذ شعرت بأن الحرب قد أساءت إليها ولم تسيء هي إلى احد من أهل الدنيا وأن الحرب قد جارت عليها واعتسفتها بدون ذنب ولا جرم. ورأت أن لا دخل لها في الحرب ولا يد ولا سهم ثم هي قد مست حياتها وجرت عليها ذيولها المظلمة وامتزجت بعيشها وتغلغلت في ثنايا روحها. وكان في فؤاد شيلا سوريل نبعات عميقة من نبعات الإحساس والشفقة والرحمة، فلما لم تجد أحداً تفيض عليه من أنهار تلك النبعات، وأمواه تلك الإحساسات، أفاضت بها على نفسها وخصت بها ذاتها فأثارت فيها طائفة من الآلام والهموم، فكان تطوف وتهيم وحيدة معتزلة في بستان الفندق ودروب حائطه وتراضي البحر وعينها ندية بالدمع ثرة بالعبرات. وأنت تعلم أن كثيرات من النساء يقبحن بالدموع، ولا تحسن في عيونهن العبرات ولكن البكاء كان يلوح جميلاً في عين شيلا سوريل، وكانت الدموع تحسن لديها وتروع وتبدو فاتنة جليلة المظهر، وكانت تلك النقط المريرة الأجاج إذ تنحدر فوق وجنتيها المتوردة وتتحير في خدها المستدير الرخص الناعم تجعل منها صورة حسناء تفتن عواطف الإنسان وتثير أجمل وجدانات القلوب. وكان هذا على الأقل رأى الفتى النبيل إزلي وتوكر الضابط برتبة الملازم الثاني في فرقة الهايلندرز، فقد كان هذا الضابط الفتي الحمي الرقيق العاطفة ينسل فوق عشب الحديقة تحت شجيرات الزنبق يحفظ كتاب القوانين العسكرية. فقد كان في ذلك اليوم بعينه قد ألقى تهمة من التهم على جندي من الفرقة، لا أساس لها من القانون، فانتهز قائد جماعته هذه الفرصة لتأنيبه واستحثه على أن يستبدل كتب الأدب التي فتن بها

بقراءة كتب القانون العسكري، فلبث لزلي ساعة يستوعب طائفة من الإجراءات العسكرية والبنود والمواد التي حشدها وضّاع تلك الشرائع الحربية في قوانينهم حتى برمت نفسه بالقراءة وإذ ذاك وقع نظره على الفتاة شيل سوريل، وهي تلوح من فرجة بين أغصان الزنبق. وكانت شيلا وحدها، وقد جلست فوق العشب، وعيناها نديتان رطبتان ويداها غائبتان في الأغصان تقطف الدانيات من أزاهرها، وأنفاسها صاعدة وزفراتها راجعة، تبعث الرحمة والحنان. فلما أبصر بها الفتى لزلي وهي على هذه الحال، اتقدت عواطف الفروسية بين جنبيه، فنسي دراسة القانون العسكري وواجبه المدرسي من حفظه واستظهاره، فاسترق الخطى وانسل بين العوسج والأفنان والدوالي، يريد التقدم نحوها، حتى إذا داناها قال بلا روية ولا تفكير إني أقول، هل تعرفين ما أقول، أقول أنك تلوحين مروعة حزينة مغمومة متألمة، أتعرفين ذلك! فكان جواب شيلا إني لكذلك. ولكني لم أكن أعرف أن إنساناً يستطيع أن يشهد مني ذلك. قال لزلي: إن المرء ليحزن إذ ينظر إلى وجنتك وخدك على أنني لم أستطع أن أتمالك نفسي، وأرجو أن لا يسوءك ما فعلت فأجابت بعد تمهل وقد رأت أمامها فتى جميلاً: كلا لا يسوءني ذلك مطلقاً لأنه لا يحسن أبداً أن يكون الإنسان حزيناً متألماً وحده بلا أحد يواسيه. فأجاب لزلي بكل تحمس: لا يحسن أن يكون الإنسان حزيناً مطلقاً إني أعرف ذلك إذ كنت اليوم غير مبتهج. فكان جواب شيلا دليلاً على أن عواطفها قد تحولت عن نفسها والتفتت إليه إذ قالت: أتكون حقاً كذلك. هل أنت حزين، ولم الحز؟ قال: وقعت في خلاف والقائد، فعسفني واشتد في لومي يا الله إنه أمر فظيع. قالت شيلا: يا للعار. ويا للسوء ألم نقل له أنه كان في ذلك قاسياً لعيناً! فأجاب الفتى: أنت تعلمين أن الإنسان لا يستطيع ذلك، وأن هناك كتاباً كنت أقرؤه الساعة

يقول ذلك. قسوة كله وخشونة ووحشية. وبذلك ترين أن النتيجة تقع على رأس الإنسان وحده، وهذا ما يجعل الإنسان حزيناً. قالت شيلا: ذن حالك كحالي. إن النتيجة تقع على رأس الإنسان وحده. قال لزلي: إن لك وجهاً جميلاً ولكن نبئني ماذا يحزنك إنك تلوحين كأنك كنت الساعة تبكين؟. فأجابت شيلا لقد كنت اليوم في بكاء ولكن الدموع صغيرة ولو لم تتحدث إلي لعظمت دموعي، واستهلت صبيباً منهمراً. قال: وما سبب بكائك؟ فأجابت: لا أعرف كل شيء في الطبيعة حزين الحرب. . . الحرب. . والناس يقولون أنها ستنطلق كذلك أجيالاً وأعماراً واستزادا الأحزان أحزاناً وتصبح الحياة أشقى وأنكد وأظلم، وأنا لا أريد أن أكون محزونة شقية، فإن أشنع الشنائع أن تفلت السعادة من بين راحتي الإنسان بل أكبر مناي أن أكون سعيدة كل السعادة وأن أكون فرحة حسناء جذلى راضية العيشة، وأن أضحك وأبتسم للأمور التافهة التي تبعث الضحكات والابتسامات ولكن هل أنت ترى أن الإنسان لا يستطيع ذلك. ولذلك يبكي؟ ولم يكن للفتى ليزلي دهن عميق يبحث الأمور ويستقصيها ويقلب فيها وجوه رأيه فبدت له الحجج التي قالتها الفتاة حججاً عاقلة لا ظلم فيها ولا فساد فقد أدرك أن الحرب أمر خطير رهيب، ونتائجها محزنة أليمة، وزاد هذه الفكرة لديه أنه أحس العزلة ورأى نفسه وحيداً، وألفى الدنيا أمام ناظريه صحراء جدباء، قضى عليه أن يشق طريقه فيها منفرداً معتزلاً، وكان هناك شعاع واحد من الضياء يستطيع أن ينتشله من مخالب العزلة وينقذه من الأسى، وهو أن يجد إنساناً مثله متألماً يركن إليه ويختصه بذات نفسه وينفض له أسرار وجدانه، ولذلك لا تعجب أن يأخذ الفتى وهو في أشد انفعالات النفس وحرارة العاطفة تلك اليد الصغيرة البضة التي كانت منذ هنيهات تقطف الزنبق وناضر الزهر، فيشدها في صمت أبلع من الكلام، ويصافحها في سكون أروع من التفاهم، فلما أتم هذا أحس بشيء من السكينة تجري في نفسه وشعر بالطمأنينة، وسرى عنه بعض الألم الذي اضطرم في صدره، ولكي يقيم أساساً أمتن من هذه المصافحة الصامتة ويشيد فوقه بناء صداقة متينة

وود عميق، راح يتلو عليها تاريخه واسمه وعشيرته وألقاب الشرف التي ورثها عن أبويه النبيلين، والفرقة التي سلك فيها والرتبة التي تقلدها وقال أخيراً، وأما أنت فإنني أعرفك وإن كنت أود أن أسمع ذلك من شفتيك! 3 فأجابت شيلا سوريل. . قال: أنه لأبدع أسماء فتيات العالم، وأجمل ألقاب عذارى الأرض وأنه ليلائمك ويناسبك أشد المناسبة والملاءمة ولكني لا أعرف هل لك عشيرة أم فقدت الأهل! قالت شيلا: فقدتهم. فقد مات أبوي العام الماضي. قال: إذن فأنت هنا وحيدة؟ فأومأت برأسها قأل: أمر عجيب وكذلك أنا فقدت أهلي في العام الماضي ولكن لا ريب في أن المقام بهذا الفندق محزن أليم لك. إن أهله على خشونة لا تطاق. فأومأت إيماءة أخرى، واسترسل وهو يقول: وأنا أيضاً ليست لي عشيرة، بضع أعمام وأبناء أعمام، وعمات وخالات، وأولئك لا يعدون عشيرة، أليس كذلك. قالت: بلى. فسرح لزلي البصر نحو البحر وراح يقول: إن فتى مثلي ليشعر بالوحدة الأليمة ولا أعلم السبب، ولكطن لعلني أريد أن أكون مفهوماً لدى الناس، وأنا لم يفهمني أحد في حياتي. قالت شيلا: ولا أنا، لم أكن يوماً مفهومة من أحد. وتولاهما معاً إذا ذاك الحزن أنهما لم يكونا مفهومين لدى الناس ولم يعرفا الصفات التي جعلت كلاً منهما يطلب أن يكون مفهوماً ولكن السبب ظاهر جلي. قال لزلي: استمعي إلي فقد فكرت ملياً في هذا الأمر، ولكني لم أهتد إلى شيء. وكان الفتى صادقاً فيما قال، وقالت شيلا أنها كذلك لم تكتشف السر من ناحيتها. والعزلة أشد الحالات النفسية اهتياجاً للعواطف وإثارة للوجدان، ولذلك لا غرو أن تقول أن الفتى الذي يلتقي بالفتاة ويقنعان بعضهما البعض بأنهما وحيدان منفردان لا يفهمهما العالم، ولا ينيان يتحاضنان ويقع أحدهما في ذراعي صاحبه للتو والساعة. وكانت شيلا لم تعرف من قبل الهبوط في أحضان إنسان آخر، اللهم إلا أبويها ولكن كانت الطبيعة تثير إذ ذاك فؤادها عواملها ونزعاتها ولذلك استسلمت وهي لا تكاد تدرك السر إلى

وحي نفسها إذ تقول أن الضمة التي لم تبعث عليها القرابة وأواصر الدم والعشيرة لا تستحق أن تطرح، بل خليقة بالنوال والرضا، ولما كانت الفتاة مخلصة الطبيعة، نقية الغريزة، لم تر أية ضرورة للتردد والدلال والنفور إذ كان أمامها فتى عذب جميل كان مثلها يطلب السعادة والمراح فلا يجدهما، فتى وحيد حزين معتزل لا يود لو أن الناس فهموه، ولذلك كانت هذه الفرصة قاطعة والنتيجة بينة ظاهرة. فما عتمت إذ ذاك أن وضعت في ذلك السكون يدها في يده علامة الود وشارة الصداقة. وتنهد ليزلي وزفر، وقال: تالله لا أعلم السر ولكنني أعتقد أننا نستطيع أن يفهم كلانا الآخر. وفي ذلك المساء بعينه التقيا مرة أخرى، ومشيا عن تراض واتفاق إلى الخمائل المعتزلة في بستان الفندق، وهناك اقتعدا مجلسين، مستندين إلى جذع سرحة عظيمة ولأن الحب نفذ إلى قلبيهما أشرق القمر، وبسط أشعته اللؤلؤية فوق أديم البحر وتغنت الرياح بغناء غرامي عذب، في أضعاف الفنان المشرقة فوق رأسيهما. قال لزلي: وقد أدرك أن الشعراء لم يكونوا قوماً حمقى كما كان يظن. يا للذة والعزوبة الفاتنة. يخيل إلي أنني قد أصبحت مفهوماً آخر الأمر. وهمست شيلا قائلة: وأنا كذلك تقريباً. وإذا كانت شيلا رأت في عالم التصور والخيال أن هبوطها في أحضان رجل لذة لا حد لها، فلم تكن مع ذلك تدرك أولاً مقدار تلك اللذة، إذ تنفذ وتحقق، وتخرج إلى حيز الفعل، فما عتمت إذ ذاك أن أغمضت جفنيها الواسعين وتنفست من شدة العذوبة واللذة. وزفر لزلي كذلك وتبين أن خير دواء للزفرات أن يعيد التجربة فأخذها بين ذراعية مرة أخرى. وما أوسع المعرفة التي تنال من وراء القبلات، إذ لا يلبث الإنسان أن يدرك أنه لا بد من إعادة التقبيل، ولا يكاد المرء يطبع القبلة فوق الخد الأسيل حتى يشعر بأن لا قبل له بإمساك نفسه عن طبع أخوات لها وصواحب، وكذلك كان الحال مع شيلا ولزلي فقد وجدا من التحاضن والعناق لذة لا يستطيعان على السكوت عنها صبراًُ، لذة لا يمكن أن توصف بألفاظ، بل تكرر بمثلها وتعاد.

وصعدت شيلا إلى الفندق على جناح المصعد وتلهف لزلي وقد تركها عند بابه من غيابها، فجعل يأخذ السلالم وثباً ويرمي عدة منها بالوثبات، لكي يلحق بها عند وصولها إلى الطابق ويحلي عينيه منها. قبل أن تأوي إلى المضجع. قال متوسلاً: متى نتزوج! قالت: في أقرب وقت من فضلك! فكانت تلك الألفاظ دليلاً على أنهما صغيران ساذجان مفعمان حباً وحمية وإحساساً. وكان الزواج عسكرياً والعرس جندياً، وتم بعد أسبوعين من اللقاء الأول، وإن كان كل منهما قد أحس أنه عهد طويل، وفرصة بعيدة، وأنه لا يكاد الإنسان يصل إليه، ولكن أعان لزلي على التسلي والتلهي عن آلام هذا الطول واجباته العسكرية. ووجدت شيلا من الطواف بالحوانيت استعداداً لأثواب الزفاف، ما خفف من عذاب تلك المدة. ، اقيمت بعد حفلة الإكليل مأدبة، واي مأدبة. . إذ كان الجو كله مفعماً بالتهاني، والضحكات، وأصوات فدام الزجاجات، وقناني الشراب، والهتاف والتصفيقات وفي كل مكان وجوه ناضرة مستبشرة، وأيد متصافحة متلازمة، ورقص وغناء. وحان الموعد، وأزف الوقت، وانطلقت سيارة بالعروسين إلى شهر العسل. وكان الفندق الذي بلغت إليه السيارة نزلاً سماوياً رائعاً بهيجاً، وجلسا إلى العشاء فوق مائدة صغيرة تطل على ساحل البحر، وجعلا يتساءلان هل أدرك الناس الذين حولهما أنهما عروسان جديدان، وزوجان لم تمض الليلة الأولى على زفافهما، وراحا ينظران إلى بعضهما البعض في أشد الخجل، ممتزجاً بأشد السرور وخانتهما الألفاظ، وتحيرت الكلم في الشفاه فلم يستطيعا من الخجل كلاماً. فلما فرغا من العشاء تسللا تحت الأشجار اليانعة والأفنان الدانية، وفوق الروابي الشاهقة، ولم يلبثا أن طلعت النجوم ونهض القمر في صفحة السماء وأصبح العالم في ذمة الليل، وتلقى الظلام عهد الأرض، فأعادا الطوفة، وهما لا يشعران وكررا الجولة عن رضا صامت وهما لا يدريان، فما كادا يبلغان النقطة التي ابتدأ التطواف منها، حتى أدركهما التعب وبان في حديثهما، وتجلى في الألفاظ، فضمها إذ ذاك إلى صدره وانزوت في أحضانه، وحيتهما الأضواء الساطعة في النوافذ وتلقتهما الحجرة التي أعدت للعروسين

بفرح وزهو. وفي جلسة الفطور غداة الغد كان وجه شيلا مشرقاً بجمال عجيب لم يكن له من قبل حتى لم يستطع لزلي أن يمتلك جأشه فأمسك بيدها واجتذبها إلى صدره فأسقطت حركته تلك فنجان القهوة فوق الثوب الجميل الذي كان تشتمل به فجرت شيلا إلى الحجرة لتغييره وعدا هو في أثرها لمساعدتها ولم يكن بين العروسين عتاب ولم تحدث ملامة، بل جعل يكرر إنه أمر عجيب، إنه لأمر عجيب. ولكن هذا العجب لم يذهب يومذاك بل مضى أياماً وظهر سره بعد أيام العسل، وجاءت الأحداث بما كان له شارحاً مبيناً. واستأجر لزلي بيتاً صغيراً لفتاته فوق الرابية، وجعل على ختام عمله ينطلق إليها مسرعاً متعجلاً، يكاد يصل إليها على جناح البرق. وفتن فؤاد شيلا أنها أصبحت سيدة بيت وربة أسرة، وحسبا أن الحرب خير ما يبتغى، وحمدا لها الفرصة التي جمعت بينهما ولم يذكرا بلاءها ونكباتها ولم يجدا فيها سوءاً ولا شراً. ولعل الحرب غضبت إذ رأت منهما هذا الاستخفاف، واستنفرتها هذه السخرية فأرادت أن تعلن لهما عن خطورتها وهولها فأوعزت إلى وزارتها أن تأمر الفرقة التي فيها الضابط لزلي بأن تخف الرحال إلى المشرق. فذهب لزلي برأس مذهول وذهن مشتت، وقلب واجف، يحمل إلى زوجه هذه أنباء، فبكت من كل أعشار فؤادها، وتشبث الزوجان بنحرهما وأنساهما هذا أحزانهما شأن العشاق والأحباب. وأعطى لزلي صورته الشمسية إلى شيلا. ووهبته هي صورتها. وكتب هو في ذيل صورته ما أملى عليه الحب، وخطت هي تحت صورتها ما أوحى إليها الفؤاد وفي ليلة ضربت للفراق وكان غداها طالعاً بالبين تعانقا أشد العناق، ولم يتكلما كلمة واحدة، وخرير أمواه البحر يضج عن كثب. والرياح تئن والمطر يعول ويتنفس فوق النافذة. بين جموع القواد والضباط، وعلى صفير القاطرات، وزحام الأفاريز، اجتذب الفتى لزلي زوجة جذبة الوداع الأخير.

وبكى الزوجان وشكرا الله أن أنعم عليهما بنعمة الدموع، وأرسل عيونهما تسح أحزانهما سحاً، وعلى مقربة منهما وقف ذلك القائد المشرف على الفرقة، يودع امرأة دميمة، وكثيرون آخرون وقفوا يخفون وجوههم وراء الصحف وقطع الجرائد وقد علمت الحرب الجميع أمانة الدموع، وإخلاص العبرات. وقال لزلي وهو يختنق: إلهي. . أواه. . يا عزيزتي. وقالت شيلا: لا تذهب. .! لا تدعني. ولكن لم يلبث أن ارتفع صفير القطار. وبدأت القاطرة تتحرك وفي لحظة انطلق وعادت شيلا فارغة الفؤاد مسرعة إلى المحطة. وحيدة مرة أخرى! وهاهي الطفلة قد أكلت من قطعة الحلوى، ثم قطعت عنها الآن وحرمت من طعامها. .! وعادت شيلا عن ذلك الفرح العظيم الذي كانت تنعم به إلى عذاب الوحدة وغمة العز، وآلام الاكتئاب، ورأت صواحبها الفتيات في شغل بعواطفهن وآلامهن عن مؤاساتها، فأحست بثقل الألم وحدها. فلما اضجعت في السرير الذي كان قد وسع بدنين وضم جسمين، أدركت أثر الوحدة، وجعلت تسائل النفس حزينة ماذا كان من القدر ومنها، ولم تجد في تلك الألفاظ التي قيلت لها، وهي دواعي الخدمة وأوامر الحرب، شفيعاً لظلمها ومعاذير للأسى الذي نالها. كان ليزلي بطبيعته الجندية، رجلاً لا يجيد التراسل، ولا يعتمد على بلاغة البيان في إنشاء الرسائل ولم يكن أديباً ولم تكن صنعته الأدب والبديع، وقد كتب إليها كثيراً، ولم يتأخر ولم يهمل، ولكنه لم يصب شيئاً من فن الإبداع، ولم تكن له مقدرة على أن يرسم شخصيته والعواطف الثائرة في صدره فوق الورق. وأخذت شيلا الحنين إليه، وتطلعت روحها إلى رؤية روحه في رسائله، فلم تجد أثراً وجعل الحنين يزداد كلما انصرمت الأسابيع وأصبحت أشهراً. ولم تكن المدة التي لبثاها معاً في جناب الحب وعهد الزواج تزيد عن ستة أسابيع وكانا فيها في أحضان كل منهما وكانا قريبين متلاصقين فلم يستطع كل منهما أن يدرك أسرار نفس صاحبه. فلم يكد يحول الحول على الفراق، حتى فقد لديها شخصيته، وأصبح ذكرى مرتبكة حلوة

معاً، وطيفاً جميلاً تحوطه الحجب، وكان الوحي الذي ظهر في حياتهما الصغيرة. وهنا تقوم المسألة، وينهض السؤال يطلب البحث، وهو هل العواطف التي نحسها في أعماقنا من ناحية إنسان تحدث من ذاته وشخصيته، أو من التأثيرات التي يحدثها هذا الشخص، رجلاً أم امرأة، فإذا كان الأمر الثاني، أفلا يجوز أن ينهض إنسان آخر من حجب الأقدار يستطيع أن يحدث هذه التأثيرات بعينها يظفر بعواطفنا التي ظفر بها الأول. على أن شيلا لم تفكر في هذا الأمر، ولم يخطر على بالها ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنها في ذلك الوقت كانت تحن إلى اللذة والبهجة لا إلى الشخص الذي كان يحدثها ولئن كان الرجل هو الذي وهبها تلك اللذة، فإن اللذة كانت أقوى في نفسها أثراً واشد حيوية من واهبها، وإذا كانت اليوم تبكي ليزلي وتطلب أن يرد إليها فإنما كانت في الحقيقة تبكي سعادتها ولذتها الراحلة عنها. ولم تظهر دلائل على أن ليزلي سيعود إليها، وكانت أصوات الصحراء تحف به، وقلما يجاز للجندي أن يقضي أياماً في المغرب، وعمله لا يزال يناديه في المشرق. ولعل أشد مآسي الحرب وفواجعها أنها خنقت الحب وأودت به، وهذا هو الجرم الذي يجب أن تؤخذ الحرب به وتعاقب عليه، ويصلى الذين آثارها ويله وجريرته، ولا نظن أن فتاة غفلاً غريرة كشيلا تلك تستطيع أن تتحمل وقع حزنها بلا اعتراف وتصبر على الآلام بلا طلب المؤاسي، والتماس المخفف، وإذا أنت علمت أن اعترافات المصابين في سعادتهم، الذين يعانون آلام الوحدة ومناكد العزلة، لا تصيب في أغلب الأحيان عاطفة الناس الذين يشاركون المعترف في جنسه، فلا غرو ولا عجب أن تكون شيلا قد نفضت هم نفسها وكشفت غمة فؤادها إلى رجل. على أن قصر المدة التي لبثتها في ظل ليزلي وعدم مقدرتها على أن تدرك نفسيته فيها، لا تزال شفائع لها على أنها اختارت لذات صدرها رجلاً خطيراً مثل جفري ستايتون ذلك الذي خصته باعترافها، وركنت إليه واعتمدت على مؤاساته. وفي العالم فكرة شائعة لعلها انتشرت بفضل كتاب الروايات والقصيين وهي أن الرجل الذي يغتصب ظلماً وعدواناً زوجة رجل آخر ليس إلا رجلاً مجرماً شريراً مشهود له بذلك، وهو في الكتب معروف، بتبيينه في التو واللحظة، بلهجته المخادعة وهيئته الخلابة،

وملاحة حديثه وحلاوة محضره، وفيض ألفاظه، وقارئ الروايات لا يلبث أن يدرك في لحظة واحدة أنه إزاء رجل ينشر الإثم، ويعيث في الأرض بغياً وفساداً، ولكنه عند كاتب الرواية ليس إلا رجلاً طيباً وشخصيته حلوة في عرض روايته، ولكن واآسفاه، أن هذا الرجل المخادع في الحياة الحقيقية، بعيداً عن الحياة الروائية وعالم القصص، ليس من هذا الضرب، ولا يشبه هذه الصورة، وإلا لو كان ذلك كذلك لاستطاع رجل من دعاة الآداب والمهيمنين على أخلاق الأمم والناصبين أنفسهم حكاماً على الفضيلة وأنصاراً لها، أن يعين رجلاً من رجاله ليمشي أمام هذا الإنسان المخيف بعلم أحمر حتى يحترز العذارى من شره، وتفتح الفتيات والسيدات أعينهن فلا يقعن في أشراكه. إن هذا الإنسان الذي يخشاه الناس ويختصونه بمقتهم لا يزال كسائر الناس، وهو مثلنا جميعاً وهو رجل خير من أكرم خلق الله، وهو إنسان مقبول محبب نعرفه جميعاً ونحبه ونمد إليه يد الود، وتهتز قلوبنا فرحاً بعناقه وتخفق أفئدتنا ابتهاجاً إذ تلتقي بخفقان فؤاده، وليس له إلا هفوة صغيرة، ولا عيب فيه إلا ضعف واحد، ولكنه لم يحدث ذلك الضعف، ولم يلتمس تلك الهفوة، ولم يبتكرها لنفسه ابتكاراً، ولا يبين سوء القصد في عينيه، ولا تنم معارف وجهه عن فساد نيته بل كل ما يعيبه أنه مفرط العاطفة، بعيد مدى الفتون، مستسلم إلى شهوة نفسه، تارك مقادته إلى وجدانه، فهو يحس آلام الناس، ويألم لها أشد الألم، ويصيب من هموم غيره أحدُّ العذاب، وأشد الأسى، فإذا أراد أن يخفف منها ويؤاسي صاحبها، ويزيل عنه آلامه أغفل كثيراً من الاعتبارات، لا تبلغ في أهميتها خطورة ذلك الأسى الذي يحاول أن يبدده عن ذلك القلب الكبير. وكان جفري ستايتون هذا مستجمعاً كل صفات الرجل التام، وكان على جميع ما يحب الناس أن يكون عليه الرجل، فقد كان شهماً تضطرم في جوانحه عواطف الفروسية وكان حيياً ناصع صفحة لاقلب وكان رقيق الجانحة لا يبلغ قلب من القلوب الإنسانية حد عطفه ومدى رفقه وحنانه، وكان مؤمناً مستمسكاً بعقائده الدينية وكان مؤدباً ما شئت من حسن أدب، طيب اللقاء ما شئت من كرم عنصر، وكان من فرط أدبه يتلعثم إذا تحدث إلى الغرباء عنه، ويتعثر في النطق إذا جلس إلى رجل لم يلتق به من قبل وكان يحن إلى الحرب والاشتمال ببردة الجندي والرحيل إلى ميدان القتال ولكن الأطباء إذ فحصوه هزوا

رؤوسهم وقالوا أنه لا يليق لخوض غمراتها لأن له قلباً ضعيفاً وكانوا في حكمهم على حق. ففي بعض مجالسه ونزهاته التقى بشيلا سوريل، فوجد كل في صاحبه ناحية يشبهه منها، وألفيا أنهما متماثلان من عدة وجوه. وأشد ما فتنها منه لأول وهلة تلعثمه وفرط حيائه، ورأت في تعثر منطقه دلائل رجل حيي طيب القلب جبان الفؤاد فلم يلبثا بعد دهر قصير أن مال كل بنفسه إلى صاحبه، ورأت أنها مسارعة إلى الإفضاء بأسرار همومها إليه والتحدث أمامه عن آلامها وأحزانها. فلم يكن منها إلا أن قال وهو يتلعثم، ليتني أستطيع أن أؤدي لك أمراً ولكن شيلا هزت برأسها. فكانت هزتها المحركة له إلى العمل المهتاجة في نفسه بواعث الاحتيال على تخفيف أساها. وانطلق ودهما مسرعاً، ومضى الولاء بينهما يعدو ويستبق، حتى أصبحا على ممر الأيام صديقين حميمين، وكان رثاء كل لرفيقه عظيماً، وراج جفري يحدثها عن ليزلي كثيراً ويتكلم أمامها عنه، وهو في أكرم لهجة، وأرفق حديث، بلا نية في إساءته، ولا قصد إلى غيبته أو سعي إلى فساد ولكنه مع ذلك كان يحاول عبثاً أن يقنع نفسه بأن هذا الزوج الغائب خليق بمثل هذه العروس ورأى جلياً أن ليس في الدنيا كلها رجلاً يستطيع أن يسبغ عليها السعادة التي تستحقها والهناء الواجب لها، ولكنه لم يفه بكلمة واحدة عن هذه العقيدة، ولم ينطق ببنت شفة عن ذلك أمامها، إذ تأبت عليه فروسيته أن يدع لشفتيه حق التلفظ بها، وأنكرت عليه الشهامة أن يبوح بما يكنه صدره، فذا عسعس الليل، واضطجع في فراشه، لم تغمض عينيه، وباتت نفسه رهينة عوامل كثيرة، ومضت روحه تستعيد آلام تلك الفتاة وسوء حظها، ولعله في تلك الظلمة قد دعا الله دعوة أو دعوتين، وانطلقت شفته تتمتم ضراعة أو ضراعتين، لأنه كان رجلاً مخلصاً لربه الدين، مؤمناً عميق الإيمان. وكانت صداقته لها على أتم الحزم، وكانا صديقين، ولا شيء أكثر من ذلك، والطبيعة هي الملوم، والذنب ذنبها، ولا أصر عليهما ولا عتب ولا ذنب، إذا تعدت صداقتهما بعد ذلك حدود المودة فخطت متقدمة إلى عاطفة أخرى هي الحب! وقد اعتادا أن يطوفا طوفة صغيرة تحت ضياء الأنجم الزهر، إذ يتكلمان عن أمور تافهة وسخافات بذلك الوقار وذلك الجد الذي تقال به عظائم الأمور وأعقل الأحاديث، وقد تخرج

من شفتيها على رغم من إرادتها لفظة اسمه بلا تكلف ولا احتشام ولا تسويد، وهي واقفة بباب دارها بعد طوفة المساء، ومادة يدها إليه بتوديعة الليل، فيبتسم ابتسامة صغيرة ممتزجة بالأسى، وينطلق مطرق الرأسي في صمت مفكراً في طريقه إلى داره. ولكن ذات ليلة أخذ برأسه جنون عظيم، فبدلاً من أن يشد يدها في حرارة التوديع، كما هي عادته في ختام المطاف كل ليلة، همس إليها بلا لفظ مسموع، ولا صوت يصل إلى الأذن، بل بإشارة صامتة وشفة مقفلة، وفم مستطيل، يطلب قبلة. .! فجرت شيلا إلى البيت وأقفلت وراءها الباب بعجلة مرعبة، ولم يثب إليها رشدها إلا وهي واقفة في بهو الدار مختنقة الأنفاس من غير ما تعب ولا لغو من عدو أو جري ولأنها تذكرت إذ ذاك أنها كانت مصعدة الأنفاس كذلك يوم ألفت نفسها في أحضان ليزلي وبين ذراعيه، عجبت وأخذتها الدهشة وراحت تسائل النفس حيرة أية قوة مجهولة جعلتها إذ ذاك تشعر بما شعرت به من قبل، لقد كانت الزفرات نفسها الزفرات تلك، ولكنها لم تكن واحدة. . فقد أحست اليوم أن السعادة على منال يدها ولكن هيهات أن تصل يدها إليها. . وأبصرت فوق المتكأ خطاباً من ليزلي وقد كتب إليها على سبيل تخفيف آلامها وإرسال السكينة إلى فؤادها يقول أنه على خير حال لأن الرجل لا يكتب كثيراً عن الآلام التي يسعر بها في الفراق وعلى شط النوى إلا خلال الأشهر الثلاثة الأولى، وبد ذلك يصبح ظلاً فقط أو طيفاً في ذهن قارئ رسالاته، لأنه يأخذ إذ ذاك في تخفيف لهجة الحزن في صحائفه، وقد يكون حينذاك في أشد آلام النفس، وقد يكون رهن عذاب لا يطاق. ولكن تأبى عليه مشاعره إلا أن يرسل برد السكينة إلى حبيبه أو وليه أو أليف نفسه.، فيخطئ في أغلب الأحيان ويحدث هفوة قد يرى مغبتها في المستقبل. فلما تناولت شيلا ذالك الكتاب بيدها وفي نفسها تلك العوامل التي أثارها ذلك الحادث لم تجده إلا بارداً ولم تر سطوره إلا قسوة وخشونة وإحساساً ميتاً، وقام ذلك أمامها دليلاً على أنه قد نسيها والتمس منها السلوى، واشتف كأس التلهي حتى الثمالة ليخفف ذكراها من فؤاده. وكانت شيلا لم تدع منذ أيام السبيل لشؤونها وعبراتها، فذا بكت يوماً من أيام البين فقد كانت تمكث الساعات الطوال ودمعها يسح بلا انقطاع ولا حاجز يرده، فجعلت الآن تبكي

ثم تكفكف عبراتها المهراقة هوناً، وتحملق البصر في صورة ليزلي وهي بين يديها وتحاول أن تعيد ذكراه في فؤادها، وتجدد الأثر الذي كان له في جوانحها، ولكنها واآسفاه لم تفلح في ما قصدت إليه فإنه بدا لعينيها أثراً تافهاً ضئيلاً في تلك الصورة لا يوحي شيئاً من عهود تلك الأيام التي قضتها في أحضانه. ومضت شيلا إلى منامتها في حيرة شديدة وأسى بليغ وأمضها النوم ونبا بها المضجع، ولبثت ليلتها على أشد المضض والألم، ونهضت في الصباح مدعوكة مصدعة الرأس مريضة. وعادها جفري ضحى، فلما نبأته الخادمة نبأ سيدتها، فزع وارتعب وهرع إلى الصيدلية فابتاع عدة من الأشافي الصالحة للصداع، ومر ببائعة الزهر فاقتنى من باقتها أجمل الباقات، وعاج على الفاكهي فاشترى أنضر ما حلا من فاكهته وعذب من ثماره، وجاء من جميع ذلك بما يكفي مائدة حفل عظيم من المدعوين، فدفع به إلى الخادم، لتضعه على عين سيدتها ومستشرف ناظريها، وجعل يعاود الدار مستفسراً عن صحتها ثلاث مرات في وقت وجيز. على أن شيلا لم تلبث أن شفيت بسرعة عجيبة، وما كاد يقبل المساء حتى رأتهما الرابية يمشيان في دروبها، ويبتنزهان في مجاريها ومنافسها، وبعد أن حمد جفري على مسمعها القوة التي لها الفضل في شفائها، وهي قوة الرحمن في السموات، أفاض يؤنب نفسه ويتلوم ويعتب فؤاده، ويرسل التعنيف أثر التعنيف، ويطلب المغفرة، ويسأل الصفح، وإذا نحن أردنا أن نختصر حديث ساعتين كاملتين فنخرج منه عناصره فقد ولبه وصميمه، فما كنا واجدين إلا عبارات قصيرة لا تزيد عن هذه: إنني لوحش ضارٍ. . يا لحماقتي، لقد كنت قاسياً لعيناً. . وجواب الفتاة على ذلك: كان ينبغي أن لا تسألني ذاك الذي سألت. إني أعرف أنك لم تستطع أن تتمالك نفسك ولكن لم يكن ينبغي. . ثم العبارة الآتية منه. . . لقد كان ينبغي أن أضرب بالرصاص وأستهدف لقذائف البنادق تكفيراً لهذا الذنب العظيم. ولكنهما مع ذلك لم يكادا يصلا إلى باب الحديقة حيث التوديع. حتى لبث جفري في مكانه لا يتحرك. . ووقفت هي لا تمد له يدها كعادتها.

وقال: عمي مساءً وقالت: عم مساءً ولكنهما مع ذلك ظلا واقفين لا يفترقان. ولم يشعر بغتة إلا وقد وجد أن ما كان بالأمس يسأله كمنحة وهدية وعطاء قد انتهبه الآن اقتساراً وعنفاً واغتصاباً. وقالت شيلا وهي تتململ وتلوي رأسها وتتخلص من يديه (كلا، كلا) وسقطت القبلة فوق كتفها وشعرها الجميل، ولم تمس الخد الأسيل. وإذ ذاك - على ضوء القمر، وهو الذي يحعل الناس أشرارً، كما يجعلهم أخياراً، وقفا ينظر كل إلى صاحبه. وقال جفري في صوت لم يكن به أثر من صوته العادي، بل في صوت مضطرب جديد، لا نستطيع أن نفترق الآن على هذه الحال. فهزت شيلا رأسها، ولعلها كانت إطراقة نفي، أو هزة إيجاب، لأنها تحتملها معاً، وهمس الضمير في أذن جفري أن ينثني إلى داره وينهي هذا الموطن بكتابة خطاب مستطيل يشرح قضيته. فمضى في سبيله ووقفت هي ترقبه ويدها فوق قلبها الخافق. وكتب جفري رسالته، وللحب منطق على هواه الخاص به لا يمشي مع المنطق الآخر ولئن كانت ذنوب غيرنا تحوزننا أشد الحزن وتفت أكبادنا، فإن ذنوبنا لا تزال تجد من الظروف التي تحوطها مبرراً لها وشفيعاً، فإذا كان جفري قد سألها في رسالته أن تفر معه وتأوي في رفقته إلى فندق في أبعد بلاد الله، فقد كان يحس إذ ذاك أنه لم يرد بذلك أمراً حقاً عدلاً لا جور فيه ولا عسف فقط، بل فعلاً شريفاً نبيلاً سامياً محموداً، وإذا كانت السخرية من شرائع الناس والتغلب على الرسوم المقررة في العالم تتطلب التضحية فقد أعد نفسه لها، وتهيأ لبذلها، لعل في تضحيته جميع أمره رداً للسعادة التي فقدتها، وأقنعها في آخر الأمر في رسالته بأن الله ولا ريب سيبارك ارتباطهما ويشد عراه وأردف الرسالة بالحشية الآتية: وسأطلب إجازة من عملي وأنتظر قدومك إلى فندق. . . وستكون السيارة واقفة ببابك بعد حسوة الشاي في المساء ذ يحسن أن لا نلتقي قبل الرحيل أو نصطحب في السفر. ليباركك الله. نحن نؤدي أمراً حقاً. وتلقت شيلا الكتاب وهي في شربة الشاي في الصباح فقرأته بعين محملقة وأنفاس مترددة

وزفير وأنين وألق به بعد تلاوته تحت الوسادة، وأخفت نفسها وراء أغطية الفراش، وتحت اللحاف كان بصيص من النور من أثر انعكاس ضياء الشمس وعلى البصيص راحت تقرأ الكتاب مرة أخرى، وكلما قرأت سطراً ذرفت فوقه عبرة سخينة، وهمست تقول لنفسها، لن أذهب بلا ريب. لن أذهب. لن يغريني أمر في الدنيا وإن عز وغلا، بالذهاب، وآلمها صوتها إذ فاهت بتلك الكلمات. وجيء إليها بطعام الإفطار فرفضته وتوقعت أن تسمع من وصيفتها فاني شيئاً من كلمات المواساة على أن الخادمة لم تفعل شيئاً من ذلك ولكنها قدمت إلى سيدتها طلباً أن تعفيها من خدمتها فراع الطلب فؤاد شيلا فاحت في وجهها كلا، كلا إنك لا تجدين في هذا الطلب، فأجابت الخادمة وفي قولها لهجة العزيمة الصارمة: إني منصرفة إلى عمل آخر لأني لا أستطيع احتمال المقام في بيت لا رجل فيه فزادت هذه العهبارة من التثير المضطرن في جوانح شيلا ووجدانها. ومشت شيلا إلى شاطيء البحر، وكان الربيع في كل مكان يتفتح عن جماله والفتان ويرسل أنفاس الحب في أفئدة الشباب، ويهب بعلائله ونسائمه على القلوب النقية النضرة وكأنما يخيل إلى شيلا أن الريح تعزف قائلة إلى السعادة، إلى السعادة. وتحمل إلى أذنها كلمة الخادمة. . لا أستطيع احتمال العيس في بيت لا رجل فيه. . وأخرجت كتاب جفري مراراً فأعادت تلاوته، ولكنها في هذه المرة لم تهز رأسها كما هوتها من قبل. وعادت إلى الدار فإذا السيارة بالباب، ولم تشعر بعد لحظات إلا والسيارة تقلها منحدرة في الطريق موفضة إلى الموعد، فنسيت كل شيء وراحت تقول لنفسها وهي مستندة إلى وسائد السيارة وزرابيها أريد أن أكون سعيدة مرة أخرى، وسأكونها الآن! ولكن على الرغم من أنها أعادت هذه العبارة عدة مرات لم تحس بأن الألفاظ صادقة في مسمعها. بلغ جفري الفندق في الساعة السادسة من المساء، ولا تزال على الموعد المضروب ساعة ارتقاب، ولكنه ألفى الارتقاب أليماً لا يطاق وتصبب العرق من جبينه، وجعل يرسل الطمأنينة في فؤاده ويكرر: إنني أؤدي أمراً حقاً عدلاً لا ظلم فيه.

ولفت اضطرابه غير واحد من جلساء الفندق فحاول جفري إخفاء انفعالاته وراء صحيفة التيمس وأطلق بصره يجول في أسطرها وأنهارها، وكانت الصفحة التي أمام عينيه تحتوي قائمة بأسماء الذين فقدوا وضلوا من ضباط الجيش ونهض من بين تلك الأسماء اسم فأخذ عينيه فإذا هو يقرأه الليفتننت ل. . . وتووكر من فرقة الهايلندرز قتل في الميدان فصاح جفي: رباه! هذا هو الرجل الذي ينتظر هو قدوم زوجته. . . فراح يساءل نفسه هل علمت شيلا بأمر هذا النبأ فإذات لم تكن علمت به وجاءت وهي لا تدري فماذا لعمري هو صانع. هنا وثبت في فؤاد جفري شهامته وقامت عواطف الفروسية وعوامل الرقة والعطف فوقفت في وجهه، فرأى أن الخطة التي اختطها والنية التي رسمها والحياة التي أعدها يجب أن تلغى وتنسخ وتزول من ذاكرته، فإن سرقته زوجة رجل حي على قيد الحياة، واستلابه من زوج يمشي في مناكب الدنيا امرأته شيء، وسرقته الموتى واستلابهم زوجاتهم شيء آخر، ولئن كان هذا المنطق ضعيفاً غير راجح في بعض نواحيه، إذ كان الموتى قد أصبحوا في نجوة عن شؤون الأرض، بعيدين عن هماهم العاجلة، فلا ريب في أن عواطف المستلب تثور فيه وضميره يأخذ باللائمة، إذا كانت له عاطفة أو أحس بين جوانحه ضميراً. لذلك أجمع جفري نيته على أن ينزع حبه من فؤاده نزعاً. ولكنه شعر بغتة بأنه لن تطاوعه قواه ولن يجد له جلداً على أن يخبر شيلا بنباً موت زوجها، وبينا هو على هذه الحال من الحيرة والذهول، وقفت سيارة بالفندق وبانت شيلا على عتبتها حيرى مترددة جازعة. فنهض جفري ودنا منها وبلا كلمة ولا لفظة مشى بها إلى البهو وصاح بسائق السيارة: انتظر! ودلف إليها فهمس في أذنها: إذن فقد جئت. . قالت وهي تتلعثم: أجل. . لقد. . جئت! قال: إذن فلتعودي أدراجك. . فقد كنا على باطل، وكنا نجري إلى إثم، وكنا قادمين على حماقة وطيش وأنا الملوم وحدي وأنا الذي أستحق التعنيف واسوأتا. . على أين كانت نسيتنا ستسوق بنا. .

قالت شيلا: إني أعرف ذلك! فأجاب: إذن اذهبي واحمدي الله أننا عرفنا قبل أن نقول لات حين معرفة! وكان الظلام قد هجم إذ وقفت السيارة بالشارع الملم على دار شيلا، وكانت من اضطرابها قد نسيت المفتاح قبل الذهاب فلبثت تدق الجرس ولم تجد جواباً سريعاً على دقاتها، إذ كانت الخادمة قد أوت منذ ساعات إلى فراشها وهوت إلى نوم طيب عميق. فدقت شيلا مرة أخرى وقد سمعت صثوت سيارة تدنو من الباب وفي الحال سمعت صوتاً يناديها باسمها العادي، وأحست بعد لحظة بيدين تطوقانها، وبقبلات عنيفة متلاصقة فوق خدها، قبلات عظيمة فيها كل حرارة الحب. بل قبلات لا تصدر إلا عن فم واحد عرفته وخبرت تقبيله!! وفتح إذ ذاك الباب، ودخل الزوجان البهو وورائهما الحوذي يحملالمتاع. وقالت شيلا تخاطب الخادم وقد نهضت من نومها مذعورة، أنه قد عاد،، إن زوجي قد عاد! فلما احتوتهما حجرة الاستقبال، هبط كل في أحضان زوجه وتعانقا واستعبرا، وانهلت الدموع من المحاجر وزفر ليزلي يقول: ألا ترين هذا اللقاء الفجائي عظيماً ما كنت وحبك أريد أن أفسد هذه اللذة الكبرى بإنبائك قبل الوصول بقدومي، وكما كنت أرضى بالعالم كله بديلاً عن هذه البغتة الحلوة المعسولة. إني لم أحس من قبل إحساسي اليوم. ولم أشعر بسعادة كهذه في حياتي. أواه يا زوجتي،، هل افتقدتني في هذا العهد المتطاول، وهل استوحشت البين؟ قالت شيلا: كل الوحشة. . وأمسكت ولم تتم إذ علمت الآن الفرق بين قطعة الحلوى وقطعة الفحم. وكان القضاء الإلهي قد رسم أن يكون القتيل لورنس وتووكر، ابن عم ليزلي، فتشابه الاسم على جفري ستايتون، وتلك قسوة من الأقدار، ولكنها أرادت باستئثار لورنس دون ليزلي، حكمة كبرى وصلاحاً وخيراً. هنا بقيت نقطة واحدة استعصى حلها، وهي معرفة الشعور الحقيقي الذي وثب في فؤاد جفري إذ علم بنبأ رجعة الميت، وبعث القتيل. أترى ذلك الشاب المفعم الفؤاد بالرفق والنبل والخير أحس البهجة العظيمة إذ علم أنه

بتنازله عن تلك الفتاة الصغيرة المعتزلة المحزونة خشوعاً أمام اسم زوجها في سجل الموتى، إنما ردها إلى سرير العرس مرة أخرى نقية طاهرة الذيل كما كانت من قبل، أم تراه حزن وابتأس وبكى أمر البكاء. . هذه مسألة تحتاج إلى عقل شاعر عظيم مثل بوكاسيو فهل لكتابنا وشعرائنا وأهل الوجدان الحساس بيننا من يتناول هذه الفكرة بالتحليل، ويجيء فيها بالقول الفصل؟.

مطالعات

مطالعات شعر الملوك لكثير من الملوك والأمراء والأشراف ومن إليهم من ذوي الرآسة والسلطان شعر مختار ينماز عن سائر الشعراء برقته وهلهلته وليونته لأن كل ما يحف بهم من الترف والنعيم والرخاء لا يبعثهم على أن ينهجوا مناهج غيرهم من الشعراء وأن يفتنوا في الشعر افتتانهم وأن يحسنوا في سائر ضروبه إحسانهم ولله صاحب الأغاني إذ يقول عن أمير المؤمنين عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي الشاعر المشهور - وهو الشاعر بحق على الإطلاق من بين الملوك الشعراء - وهذه الكلمة - كلمة الأغاني - من أروع كلماته وقد دافع فيها عن ابن المعتز أحسن دفاع، وهي وحدها صفحة من أبدع صفحات الأدب، قال: وشعره أي ابن المعتز وإن كان فيه رقة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين فإن فيه أشياء كثيرة تجري في أسلو بالمجيدين ولا تقصر عن مدى السابقين، وأشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبه فيها بفحول الجاهلية، فليس يمكن واصفاً لصبوح في مجلس شكل ظريف بين ندامى وقيان وعلى ميادين من النور والبنفسج والنرجس ومنضود من أمثال ذلك وفاخر الفرش ومختار الآلات ورقة الخدم أن يعدل عما يجانس ذلك من السلام السبط الرقيق الذي فهمه كل من حضر إلى جعد الكلام ووحشيه، وإلى وصف البيد والمهامة والظبي والظليم والناقة والجمل والديار والقفار والمنازل الخالية المهجورة، ولبا إذا عدل عن ذلك وأحسن قيل له مسيء، وإلا أن يغمط حقه كله إذا أحسن الكثير وتوسط في البعض وقصر في اليسير، ولكن أقواماً أرادوا أن يرفعوا أنفسهم الوضيعة ويشيدوا بذكرهم الخامل ويعلوا أقدارهم الساقطة بالطعن على أهل الفضل والقدح فيهم فلا يزدادون بذلك إلا ضعة ولا يزداد الآخر إلا ارتفاعاً، ألا ترى إلى ابن المعتز قد قتل أسوأ قتلة ودرج فلم يبق له خلف يفرطه ولا عقب يرفع منه وما يزداد بأدبه وشعره وفضله وحسن أخباره وتصرفه في كل فن من العلوم إلا رفعة وعلواً - إلى أن قال: وكان عبد اله حسن العلم بصناعة الموسيقى والكلام على النغم وعللها وله في ذلك وفي غيره من الآداب كتب مشهورة ومراسلات جرت بينه وبين عبيد الله بن عبد الله بن طاهر تدل على فضله وغزارة علمه وأدبه، ولقد قرأت بخط

عبيد الله رقعة إلى ابن المعتز وقد بعث إليه برسالة في أنه يجوز ولا ينكر أن يغير الإنسان بعض نغم الغناء القديم ويعدل بها إلى ما يحسن في خلقه ومذهبه وشاوره في ذلك، فكتب إليه عبيد الله: قرأت أيدك الله الرسالة الفاضلة البارعة الموفقة فأنا والله أقرؤها إلى آخرها ثم أعود إلى أولها مبتهجاً وأتأمل وأدعو مبتهلاً وعين الله التي لا تنام عليك وعلى نعمة عندك فإنها علم الله النعمة المعدومة المثيل. ولقد تمثلت وأنا أكرر نظري فيها قول القائل في سيدنا وابن سيدنا عبد الله بن العباس: كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي أربة في القول جداً ولا هزلا ولا والله ما رأيت جداً في هزل ولا هزلاًَ في جد يشبه هذا الكلام في بلاغته وفصاحته وبيانه وإنارة برهانه وجزالة ألفاظه، ولقد خيل إلي أن لسان جدك العباسي ينقسم أجزاء، لك أعزك الله نصفها والنصف الآخر مقسوم بين أبي جعفر المنصور والمأمون رحمة الله عليهما، ولو أن هذه الرسالة جبهت الإبراهيمين إبراهيم ابن المهدي وإبراهيم بن الموصلي وابنه إسحاق وهم مجتمعون لبهت منها الناظر وأخرس الناطق ولأقروا لك بالفضل في السبق وظهور حجة الصدق ثم كان قولك لهم فرقاً بين الحق والباطل والخطأ والصواب. ووالله ما تأخذ في فن من الفنون إلا برزت فيه تبريز الجواد الرائع. عضد الله الشرف ببقائك وأحيا الأدب بحياتك وجمل الدنيا وأهلها بطول عمرك أهـ. وإليك شيئاً من مختارات ابن المعتز - يقول - يصف سحابة ممطرة: باكيةٌ يضحكُ فيها بَرقُها ... موصولةٌ بالأرض مرخاةُ الطُّنبْ رأيتُ فيها برقها منذ بدا ... كمثل طرفِ العين أو قلبٍ يجبْ جرت بها ريح الصبا حتى بدا ... منها إلى البرق كأمثال الشُّهبْ تحسَبهُ طوراً إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعاً يضطربْ وتارةً تخاله كأنَّه ... سلاسلٌ مفصولةٌ من الذهب. ويقول في الخط والشكل: فدونكهُ موشّى نمنمتهُ ... وحاكتهُ الأناملُ أيّ حوك بشكلٍ يؤمنُ الأشكال فيه ... كأنَّ سطوره أغصانُ شوكِ وقال:

قد أنكرتْ هندٌ مشيباً ... عمًّ رأس واستعرْ يا هند ما شابَ فتى ... إنما شاب الشعرْ وقال: ضعيفةٌ أجفانه ... والقلبُ منه حجرُ كأنما ألحاظه ... من فعلهِ تعتذرُ وقال: ولقد قضت نفسي مآربها ... وقضت غيّاً مرةً ورشدْ ونهار شيبِ الرأس يوقظ م ... ن قد كان في ليلِ الشبابِ رقدُ وقال يصف جدولاً: يمزّقُ ريِّاً جلودَ الثم ... ار إذا مصَّ الثّمار العطَشْ وكفيلٌ لأشجارها بالحي ... اة إذا ما جرى خلته يرتعشْ وقال: وندمانٍ سقيت الراحِ صرفاً ... وأفقُ الصبح مرتفع السُّجوفِ صَفَتْ وصفتْ زجاجتها عليها ... كمعنى رقَّ في ذهنٍ لطيف وقال في الصيد لمَّا تعرَّى أفُق الضَّياء ... مثلُ ابتسام الشفةِ اللّمياءِ وشمطت ذوائبُ الظّلماء ... وهمَّ نجمُ الليلِ بالإغفاءِ قدْنا لعين الوحشِ والظباءِ ... زاهيةً محذورةَ اللقاءِ شائلةً كالعقربِ السمراءِ ... مرهفةً مطلقةَ الأحشاءِ كمدِّةٍ منْ قلم سوداءِ ... أو هدبةٍ من طرفِ الرداءِ تجملها أجنحةُ الهواءِ ... تستلبُ الخطو بلا إبطاءِ تمشّى الأنكبُ في الرّمضاءِ ... أسرعَ من جفنٍ إلى إغضاءِ ومخطفاً موثّقَ الأعضاء ... خالفها بجلدةٍ بيضاءِ كأثر الشهابِ في السماء ... ويعرف الزَّجرَ من الدعاءِ بإذنٍ ساقطةِ الأرجاءِ ... كوردةِ السوسنة الشهلاءِ

ذا بُرثنٍ كمنقبٍِ الحذاءِ ... ومقلةٍ قليلة الأقذاءِ صافيةِ كقطرةِ من ماءِ ... ينساب بين أكمِ الصحراء مثل انسياب حيةٍ رقطاءِ ... آنس بين السفحِ والفضاءِ سربَ ظباءٍ رتع الأطلاءِ ... في عازبٍ منوّرٍ خلاءِ أحوى كبطنِ الحيّة الخضراءِ ... فيه كنقشِ الحيّة الرقشاءِ كأنّها ضفائرُ الشّمطاءِ ... يصطاد قبل الأَينِ والعناءِ خمسين لا تَنْقُصُ في الأحصاء

مطبوعات

مطبوعات حديث العمدة أهدى إلينا حضرة صديقنا الأديب الفاضل عبد العزيز ثبري بك عمدة الخيارية إحدى قرى مديرية الدقهلية - كتابة حديث العمدة الذي وضعه أخيراً واستوعب في صفحاته التي تقارب المائتي صفحة جميع ما يجمل بكل عمدة معرفته - وإذ أن هذا الكتاب يكاد يكون منقطع النظير فسنكتب عنه كلمة إضافية في العدد القادم نشرح فيها موضوع الكتاب وقيمته - وهنا نعجل القول بأن جديراً بوزراة الداخلية أن تبادر بأخذ هذا الكتاب وتوزيعه على جميع عمد البلاد والكتاب يباع بعشرة قروش صاغ ويطلب من إدارة البيان ومن حضرة صاحبه المفضال وعنوانه الخيارية دقهلية.

الإسلام

الإسلام أنصار الإسلام من كتاب الفرنجة وفلاسفتهم كثيرون، وآخرون منهم تعمقوا في بحث شرائعه وروحه ومبادئه فجاؤوا بما لم يسبقهم إليه أحد، ولكنا ما علمنا فيلسوفاً وفى البحث في الإسلام حقه، وتناول الشريعة المحمدية من جميع وجوهها، وصدع برأي بديع، وجاء بتحليل فلسفي طريف في هذا الدين المتين، مثل الدكتور لتنر الأستاذ المشهور في جامعات إنجلترة، وإنا لننشر اليوم مقاله عن الإسلام، ونحن سعداء أن ظفرنا برجل من الفرنجة مثله ينتصر للإسلام هذا الانتصار الرائع المدهش: قال: بدأت خبرتي بالإسلام في معهد ديني بالقسطنطينية عام 1854 إذ قرأت القرآن واستظهرت جزءاً عظيماً منه ثم عاشرت طوائف مختلفة من المسلمين. واختلطت بفرق عديدة منهم، وصنوف كثيرة، في تركية والهند وغيرها من بلاد الله، ودرست العربية، وهي لغة كتابهم، ولسان دينهم، ومن ذلك أدركت أن الإنسان لا يستطيع بدون اللغة العربية أن يجتذب قلوب المسلمين، أو يكون له على أذهانهم سلطان، وإن كان هناك شيء آخر لا غناء عنه، وهو العاطفة فإن العاطفة هي مفتاح العلم، والسبيل إلى قلوب الناس، وهي التي ترسل أنفاس الحياة فيما لولاها لكان جثة هامدة وعظاماً بالية ورفاتاً سحيقاً. وقد كان من وراء فقدان العاطفة أن أساء كثيرون من أساتذة العلم وأقطاب البحث والنظر الحكم على الإسلام، ومنهم السير ويليام موير فقد أدى به فقدان العاطفة إلى الوقوع في أغلاط خطيرة ضد هذا الدين. إذن فلنتوقع أن يعين هذا البحث الذي نحن بسبيله على تأسيس تلك العاطفة وشد عراها، وتقوية الأخوية العامة التي يجب أن تسود بين الأديان جميعاً. وفي هذا يقول هربرت سبنسر: على قدر حبنا الحقيقة وتغليبه على حبنا الانتصار، لكون ولوعنا بمعرفة ما يؤدي بخصومنا إلى أن يروا غير ما نرى ويفكروا غير ما نفكر!. بل أعمق من هذا المبدأ تلك اليمين التي اعتادت قبائل البوذيين في بلاد التبت أن يقسموا بها وهي أن لا يروا ولا يفكروا ولا يقولوا مطلقاً أن دينهم خير الأديان جميعاً، وأيضاً توصي شرائع الملك أسوكا المنحوتة في الصخر بأن يمدح قومه أديان غيرهم من الناس. والآن نقول أن دين محمد لم يكن دين ذلك النبي وحده لأنه إنما كان يدعو الناس إلى دين عيسى وموسى، وليست المسيحية والموسوية إلا مرحلتين من مراحل الإسلام وكان في

الإسلام الذي جاء به محمد الكمال لهما وحسن الختام. وآية التمام. فإن الإسلام إلى إرادة الله والاعتقاد بأنه يطلع على جميع أمرنا. كل ذلك ندين به ونؤمن بحقه جميعاً، ولكن هذه العقيدة في الإسلام ليست نظرية فقط كما هي الحال لدينا، بل عقيدة عملية منفذة وأساس بناء ذلك الدين. فالإسلام من ناحية يحكي المسيحية ويشبه الموسوي، وهو من الناحية الأخرى يختلف عنهما ويبين، فإن دعوة الناس إلى التسليم لإرادة الله والاعتقاد بأنه مطلع إلينا في جميع أمورنا. هي نفس الدعوة التي كان ينادي بها عيسى وموسى، ومن هذه الناحية كان هذان النبيان يدينان بدين محمد. ومن الناحية الأخرى لم يكن دين محمد اقتداء وتقليد فقط كما هي الحال في المسيحية والموسوية. بل كان كذلك وحياً يوحى. إذا صح أن في الدنيا شيئاً يسمى الوحي، ولكني أجترئ وأقول أنه إذا كانت تضحية الذات والأمانة في الغرض والاعتقاد الثابت الذي لا يزحزحه أي أمر من أمور الدنيا والإيمان بأنه على الحق، ونفاذ البصيرة إلى صميم الباطل والعمل على إزهاقه، كل أولئك من بني الظواهر المحسوسة للوحي. فإن رسالة محمد كانت وحياً. على أن دين موسى الذي كان يعرفه محمد هو الدين الخالص بما دخل عليه من الأوهام، والتأويلات والشروح والتعاليق، وكانت المسيحية التي يريد محمد أن يردها إلى نقائها الأول وطهرها هي تعاليم عيسى الخالصة من غموض القديس بولص وتعاليمه وتعاليم غيره من الطوائف المتعددة. وكان محمد يعتقد أن اليهود سيرتضون دعوته ويقبلون عليه. ولكن عصبية اليهود تأبت عليهم أن يتقبلوه بقبول حسن. فلم يكن هذا بمزحزحه عن مبدئه. وهو أن يدعوا المؤمنين كافة إلى الاشتراك في تلك الأنعم التي تركها جدهم الأكبر إبراهيم. ولهذا كان الإسلام هو بعينه دين موسى خالصاً من شوائبه مجرداً من مناقصه، والمسيحية خالية من تعاليم بولس. وكانت هذه الفكرة التي اعتزمها محمد، وهي أن لا يقصر محاسن دين إبراهيم على أمته وحدها، بل يذيعها في الخافقين، وينشرها في مشارق الأرض ومغاربها، هي الوسيلة التي أعانت على أن يدخل في هذا الدين السامي، ويدين بهذه المدنية العالية ملايين من الناس،

ولولا ذلك لظلوا في حمأة الهمجية مرتطمين ولم يسموا إلى هذه الأخوة الرفيعة التي ينادي بها الإسلام ويعمل عليها وينفذها إنفاذاً. وقد أساء المسيحيون الحكم في أمر مؤسس هذا الدين وتكلموا عنه بما هو غير لائق، وقدحوا في حقه، فقالوا عنه مارق، وزنديق، وذكره دانتي في جحيمه فعده كافراً، وآخرون قرفوه بأن دينه مأخوذ من التلمود ولكن يلوح لي أنه لا يوجد ثمت تعريف أوجز أو خير من ذلك التعريف الذي تقدم، وهو أن الإسلام هو الدين الموسوي الحر الخالص من الشوائب والمسيحية المطهرة من تعاليم بولص. وهذا من الناحية النظرية. أما من وجهته العملية فهو ولا ريب أسمى من المسيحية بجميع الحضارة الغربية في هذا العصر. إن كل مسلم معبد قائم بذاته، ولكل مسلم الحق أن يدلي برأيه في أمور الدين بما يتفق والعقيدة العامة لأهل دينه، ولم يكن المسلمون يوماً عبيداً للقساوسة أو غيرهم من رجالات الدين، وهم يعبدون الله بلا وسيط، ويرفعون إليه الدعوات بلا سمسار، ومكان صلواتهم وعباداتهم أي درب من دروب الأرض وأي فج من فجاج الدنيا يثقفون به إذا آذنت مواقيت الصلاة. ولعلمائهم كذلك والزعماء الدينيين فيهم أن يشتغلوا بصناعاتهم ويحترفوا الحرف ويسعوا لاكتساب أرزاقهم من وجوه العمل، ولا يوجد شيء بينهم يسمى (بابا) بل يستطيع أي رجل عادي من عرض القوم أن يقول على رؤوس الأشهاد (بإسلامي نفسي إلى إرادة الله أنا ممثل هذا الدين الذي كان محمد نبيه) ولذلك ترى السواد الأعظم من المسلمين في بقاع الدنيا كلها لا هادي لهم ولا مرشد إلا الإيمان العميق في حبات أفئدتهم، وهم السنيون أهل الجماعة، وذلك تمييزاً لهم عن الطائفة الخطيرة الأخرى وهم الشيعة الذي يعتقدون أن محمد وىل بيته وذريته معصومون على أن محمداً نفسه لم يدع العصمة، بل تنزل عليه الوحي يوماً مؤنباً لائماً عاتباً، إذ تولى عن رجل أعمى وكان في مجلس جماعة من سروات القوم، فنشر هذا العتاب بين الملأ وأعلن الوحي، ولو كان محمد أخا خداع كما يسميه الجهلاء من أهل المسيحية لما فعل ذلك ولما أعلن النبأ. أما من ناحية مظاهر المسلم والفرائض التي يؤديها من صلاة وزكاة وصيام وحج فإن في كتب الدين منها الشيء الكثير وفي الكتاب مبادئها وأصولها، فأما الصلاة فشعارها (النظافة

من الإيمان) لأن الوضوء في الإسلام يستبق الصلوات ولكل رسوم وشعائر وواجبات، على أن ليس في قساوسة المسيحية من يستطيع أن يقول ما يقوله عالم من علماء الإسلام للمسلم أن هذه الشعائر تستطيع أن تتعلمها من أي مسلم تلتقي به في الطريق. أما زكاتهم فتقضي بأن يهب المسلم جزءاً من أربعين من ماله للفقير والمسكين وذوي الحاجات وهذه الأموال التي تجتمع من الزكاة توضع في بيت المال، ومن بين الوجوه التي تصرف فيها فك رقاب الموالي والعبيد، والرق من الأمور التي اتهم بها المسيحيون عن جهالة دين الإسلام وإن كان محمد استطاع بدأبه وجهده أن يخفف من شدة نظام الرق بأن وضع قانوناً يبعث على إبطال الرق على مدى الزمن واستن سنة تؤدي إلى إلغاء امتلاك رقاب العبيد ولكي تكون الزكاة مقبولة عند الله ينبغي للواهب أن يثبت أن الزكاة التي رضخ بها من حر ماله، وله أن يزيد الزكاة عن القدر المحدود، على أنه غير مكلف بزيادة، أو مكره على دفع دون طاقته، ولكن من يعطي عن طواعية أكثر من الجزء المعين من الزكاة، فله عند الله أجر عظيم. أما الحج إلى مكة فمن أشد فروض الإسلام أهمية وخطورة لأن المسلمين يقبلون من جميع بلاد الله فيلتقون في صعيد واحد، فالحج هو رابطة الاتحاد، ومجتمع الوئام، والحج هو الذي ينشئ من المسلمين معبداً محمدياً زاخراً عظيماً، مما لا تبلغ مثله المسيحية بجميع فرقها ومنازعها وطوائفها. ثم لا يزال الحج وسيلة من وسائل نشر الآداب بفضل اللغة المشتركة العامة، وهي العربية، كما كان من اللاتينية في الغرب إذ كانت اللغة الفذة التي يتعلمها العلماء علاوة على لغاتهم، ومعرفة اللغة العربية هي مفتاح مغاليق الدين الإسلامي، بل السبيل إلى قلب الإنسانية المسلمة جميعاً. وأما الصوم فليس إلا نظاماً من الأنظمة، ولكن لا يزال له بعد من ناحية قوانين الصحة فضل ونفع أي فضل وأي نفع، وإن أداء فريضة الصوم والوضوء والطهر لا يعد فقد من الحكمة والسداد، وإنما في تأديتها كذلك إنفاذ قوانين الصحة التي ينادي بها الأطباء، وإني في الحقيقة أرى أن هذه القواعد والسنن التي استنها الإسلام من ناحية تحريم الخمر ولحم الخنزير وما لم يذبح من الحيوان على السنة، وما إلى ذلك لم توضع ولم تشترع لإحراج الذين استنت لهم وإرهاقهم، وإنما جعلت صلاحاً لهم ونفعاً وفائدة لجسومهم وعقولهم.

أما من الوجوه الاجتماعية ومراتب الناس في الإسلام فإن الغني يعد حامي ذمار الفقير، وحارسه ونصيره، وللفقير أن يجلس إلى موائد الغني، ويشاركه الطعام في مباهج الخوان، ولا تجدن في الجماعة الإسلامية أي فرق أو أي بون بين الفقير والغني يبعث على الكراهية، ويستنفر الحب والولاء، بل ترى العبد الرق في الدار يعد عضواً من أعضائها، والمولى فرداً من هل العشيرة، بل أن للموالي الفرص السانحة للظفر بمراكز في الحكومة أو نيل مكان طيب في الجماعة، قلما يصيب مثله الصعلوك في مدنيات الغرب، والطعام مكفول لمن يحتاج إليه، يوهب لمن يعوزه، بل أن إعطاء الصدقات في الدين الإسلامي، كما هو في دين بوذا يجعل المتصدق الواهب مديناً للفقير الذي أصاب منه تلك الصدقات، لأن التصدق يعين صاحبه على تنمية روح الخير في فؤاده، ويبعث في نفسه ملكة العطف والرفق، فإنك تجد البراهمة يشكرون الفقير الذي يطرق أبواب بيوتهم سائلاً الحسنة، مستجدياً معتراً طالباً القرى والضيافة، لأنه مهد لهم بذلك الفرصة لتأدية الخير وإيتاء الزكاة، والرضوخ بالصدقات. وترى الخدم في الإسلام إن أكلوا بعد مواليهم وجلسوا إلى الطعام بعد أن يرفع خوان سادتهم، لا يزالون يصيبون في المآكل قدر ما يصيب أولئك ويشاركونهم في ألوان الأطعمة وصحاف المائدة، وتجد في المسجد والمصلى المساواة بين العابدين تامة، فلا مقاعد من ناحية تخص السروات، ولا أماكن خاصة مهيأة للأغنياء وأهل المراتب السنية في الحياة، بل الجميع في المسجد سواء يأتمون بالإمام في صلواتهم أو يقفون خلف أي مسلم منهم يندبونه للإمامة، وليس أروع ولا أجل منظراً من رؤية جمع من المسلمين وهم في صلاتهم خاشعون وقوف في صمت وسكون ورفق ونظام، وأنت ترى الشعب الإنكليزي يكره الرسوم والمظاهر الخارجية، والرياء والتصنع في الشرائع والسنن ولكن الإنكليز كثيراً ما يكونون عبدة لألفاظ القوانين، تاركين روحها ومعناها التي يراد منها، وقد يصح أن نقول أن حب الإنكليز للتدقيق والاختصار لا يزال مصدر شر كثير، واصل بلاء عظيم، فإذا كانت الصدقة في معناها الأكبر رأس الفضائل فإن تلك الرسوم التي تحوط أمر جمعها وتوزيعها في هذه الأمة البريطانية تذهب بجمالها وتفقدها الوجه الجليل الرائع منها، ونحن قلما ندرك أن القوانين إنما وضعت لإرشاد الناس جميعاً، وأن نصوص تلك القوانين وألفاظها وظواهرها الخارجية لا ينبغي أن تكون لها سلطان علينا،

بل يجب أن لا يذعن إلا إلى روح تلك القوانين ولبها وصميمها. ومن ذلك كانت صدقتنا وعقائدنا وسنننا وشرائعنا الصلبة السريعة الخشنة تباين تلك الشرائع الشخصية الفردية المحسوسة والسنن العملية الكمالية الحليلة التي تمتاز بها العقائد الشرقية، ولو كانت الجماعات في الغرب قد أسست على قواعد الإسلام لما احتاج الأمور في أوروبا إلى وجود عدميين وفوضويين واشتراكيين، لأن الفرد في الإسلام لا يلقن السخط، كما ترى في الغرب إذ تجد غرض حضارتنا وقصدها ونتيجتها وغايتها الكبرى أن تثير السخط في روح الأفراد. وهنا أنتقل إلى موضوع الزواج في الإسلام فأقول أن عقد الزيجة لا بد فيه من شهادة شاهدين اثنين، وهو قانون ديني ولكن لا تقييد فيه ولا عل ولا إسار كما هي الحال في المسيحية ودين الهنود، بل للزوج أن ينعم بعشرة زوجه ولكنه لا يستطيع أن يكرهها على مرافقته إلى مملكة أخرى غير موطنها، وإن أرادها على ذلك وتأبت، فعليه أن يكفل لها نفقتها وهو عنها بعيد، فإذا وقع بين الزوجين خصام ويبست الثرى بين الرجل وبعله، فإنه يجمل إذ ذاك توسط المصلحين، واختيار حكم من أهله وحكم من أهلا، لعلهم مستطيعون توفيقاً فإذا لم يستطع الزوجان أن يعيشا لبعضهما مع البعض في وئام فلا سبيل إلا الطلاق، ومن هذا ترون أن التشريع الإسلامي في الزواج لا يستحق ذلك النقد الفاضح الذي اعتاد كتاب المسيحية أن يحشدوه على الإسلام، وهذا الاعتقاد الساري في الغرب وهو أنه يوجد بين المسلمين زواج لا حد له ولا قيد وطلاق مثله لا مدى له ولا حائل دونه ولا مانع يقف في سبيله، لا يزال اعتقاداً مخطئاً لا أساس له من الصواب، فإن الطلاق ليس من السهولة في الإسلام بحيث يتوهم المسيحيون، لأنه لا يمكن أن يتحقق إلا بعد تحكيم الوسطاء ورسل السلام والسعاة بالصلح والتوفيق، ثم لا تنس أن هناك صداقاً مؤجلاً لا بد من أن يدفع إلى الزوجة عند الطلاق وكثيرات من النساء يحددن مقداراً باهظاً من المال لمؤخر صداقهن ولا سبيل للزوج إلى دفعه إذا أراد طلاقاً، وهذا لكي يأمن النساء مضرة الطلاق وخطره وبلاءه. ولا ريب ولا نكران في أن نظر المسيحي أو الهندي إلى الزواج أكثر روحانية من نظر المسلم إليه، على أنما نراه من الممالك المسيحية عامة من معاملة الزواج يدلنا على أن

المسيحيين أقل مراعاة لقداسة الرابطة الزوجية وعناية واحتراماً لروحانية الزواج من المسلمين. فالزواج عند الهنود لا يمكن أن تحل رابطته وتنفصم عراه، لأنهم ينظرون إليه نظراً روحانياً، على حين تجحده بين الكاثوليك الرومان لا يحل إلا بشق النفسي، وبالمشقة الكبرى، على أنه يحزنني أن أقول وأعترف بأنني قد عشت بين ظهراني المسلمين واختلطت سنين طوالاً بهم فلم أشهد على فرط ما يتهمهم به المسيحيون من سهولة الطلاق عندهم وفسحة حدوده، واتساع مداه من حوادث الطلاق عند المسلمين ما يعد أكثر منها بين المسيحيين ثم إنني لا أتردد في القول بأن المسلمين من ناحية صلة أرحامهم والعطف على عشائرهم واحترام علمائهم وشيوخهم وتوقير الكهول والمتقدمين في السن، والغرباء والحيوان الأعجم والبهيمة والنعم الخرساء أسمى بكثير من المسيحيين وهم مثال حسن لهم وقدوة كبرى خليقة بالاحتذاء. ثم لا أدع هذه الحلقة من البحث دون أن أقول بضع كلمات عن ذلك الموضوع الذي كثر ما أساء فيه أهل الأديان الأخرى، وأعني به موضوع تعدد الزوجات في الإسلام، فأقول أنه بصرف النظر عن أن تعدد الزوجات يكفل العيش للألوف من النسوة اللواتي يزيد عددهن عن الحاجة، في الممالك المكثرة من عدد الإناث فيها، وأنه وقاء من الإثم، وعاصم من الفساد، وحمى من الخنا، وما ينجم عنه من مضاره اللاحقة به، وأذاه الفارع عنه، وحائل دون النغولة وفساد انسابن وصحة المواريث لا نستطيع أن ننكر أن السواد الأعظم من المسلمين قانعون بزوجة واحدة وهذا بفضل مبادئ الإسلام. وقد نشأ محمد بين قوم كانوا يعدون الرجل الذي يرزقه الله بالإناث امرئ منكود الحط منكوباً، ويرون في البنات سوءات وهوناً لهم، وكانوا يئدون البنات في طفولتهن ويدسونهن في التراب فراراً من انتسابهن لهم واحتفاظاً بشرفهم وأعراضهم، ولم يكن ثمت حد لعدد النسوة التي يستطيع الرجل أن يتزوج بهن، وكن جميعاً متاعاً من أمتعته يقتسمه ورثته بعد موته، فلم يكن من محمد إزاء هذه الزيجات المتعددة التي لا حد لها ولا نظام ولا نهاية إلا أن كبح جماحها، وحال دونها، ووضع الحد المقرر لها، فاستن للناس سنة تبيح للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع إذا استطاع أن يعدل بينهن ويقسم حبه وعاطفته عليهن

بالسواء، فإذا خشي اعتسافاً، وخاف أن لا يعدل، فواحدة وحسب، ولما كان بطبيعة الحال من المستحيل على الإنسان أن يعدل في حبه امرأتين أو ثلاثاً، ويهب كلاً قسطاً عدلاً من جانحته فإن المرء ليأخذ من روح التشريع الإسلامي في الزواج أن محمداً كان في صف فردية الزواج والاكتفاء بزوجة واحدة. ثم هو كذلك رفع المرأة من حالها الأولى وهي أن تكون متاعاً الرجل وملكاً من ملاكه، فجعلها صاحبة ملك وجعلها شريكاًَ للرجل، ومشاطراًن وعدها الشريك الأول الذي يجب أن تراعى مصلحته ويحتفظ بحقوقه، إذا أراد الزوج أن يأخذ في وجه من وجوه عمله، أو ابتغى شأناً من شؤون حياته. وقد رمى المسيحيون محمداً بتهمة أنه من ناحية نفسه قد برر تعدد الزواج، ونصب نفسه مثالاً للإكثار من الابتناء بالنساء، فلنفحص هذه التهمة ولنقلب فيها وجوه الرأي، ومن حسن حظنا أننا لسنا إزاء رجل خيالي ولا لقاء شخصية م الشخصيات الخرافية في التاريخ، ولا إنسان مصطنع اخترعته القصص، وابتكرته الروايات، ولكنا أمام رجل من رجالات التاريخ، قد دونت كل كلمة من كلمه، وسجل كل فعل من أفعاله، في أحاديثه، وهي بعد القرآن الشرعة التي ينبغي للمسلمين الأخذ بها، والأدب الذي يجب عليهم التأدب به، وهذه الأحاديث لا يمكن أن تصدق وتصيب الإجماع على صحتها إلا إذا رواها أحد صحابة النبي، واستطاع المسلمون الاستدلال عليها من سجل حياة أنصار محمد وخلطائه، فإذا لم يصب حديث من تلك الأحاديث هذا التحقيق، ولم يحط بهذه الأسانيد، سقط من الاعتبار، ولم يعتد به، ولم يذكر بني الأحاديث، وهذا فضل لم تظفر به المسيحية، إذ ليست لدينا أسانيد صحيحة مثبوتة عن أحاديث المسيح وأفعاله وكلماته وأعماله، والآن لنتساءل على أي داعمة وبأي حجج يقرف الناس محمداً بأنه كان مزواجاً كثير الابتناء بالنساء، وأنا أجيب على هذا بلا أدنى تردد بأننا لو توخينا البحث وتقصينا تاريخ النبي. وأخذنا كل قصة من القصص التي يستند إليها المتهمون المتجنون على ذلك النبي بالتحري والفحص والتشريح والتحليل، لما لبثنا أن ألفينا التهمة قائمة على أساس، ولم نر لها جداراً تستقيم عليه، ولا بناء تنهض فوقه. بل لوجدنا محمداً على نقيض هذه التهمة يستحق الإعجاب ويعد قميناً بالإكبار، إذ احتفظ على فرط ما كان أمامه من غوايات، وما قامت إزاءه من

إغراءات، بالعفاف الشديد والاستقامة التامة في وسط مجتمع لم يكن يعرف هذه الفضيلة. فقد عاش محمد في الجاهلية الأولى فظل عفيفاً على أكمل العفاف حتى ناهز الربيع الخامس والعشرين وغذ ذاك تزوج بامرأة في الربعين (وهي تعدل امرأة في الخمسين من نساء الغرب) وما كان زواجه بها إلا لأنها كنت المحسنة غليه وكانت توليه عطفها وعنايتها، وكانت تعتقد ببعثته وتدين برسالته، كما أعلن بعد ذلك بسنين عدة بعد وفاتها لزوج من أزواجه فتية حسناء فاتنة كانت غيرى من خديجة العجوز وقد سألته كيف تؤثر تلك عليها وهي تقول ألست مثلها طيبة وخيراً إذ أجابها بأنها لست مثلها. لأنها صدقت به يوم كان الناس جميعاً مكذبين، وكانت أم المؤمنين وكانت تكبره وتحميه وترعاه، يوم كان عائلاً مطرحاً لا يرى له نصيراً، وظل على محض الوفاء لها عشرين عاماً كاملة، ونحن لا ننكر أنه عندما أشرف على الخمسين، راح يتزوج بالمرأة أثر المرأة، ويبتني بالنساء مترادفات متلاحقات، ولكن أليس من العدل أن نذهب إلى أن رجلاً قد أظهر ضبط النفس بأكمل معانيه حتى الخمسين وتعفف العفاف كله إلى تلك السن لا بد من أن تكون ثمت أسباب غير تلك التي اختلقها كتاب المسيحية، ولرب سائل يسأل وما تلكم السباب، وأنا أعتقد أن السبب الحقيقي لكثرة زيجاته في شيخوخته هو التفضل والإحسان وذلك لكي يرعى ويظل بعطفه أرامل أنصاره الذين أصابهم العذاب، من جراء إيمانهم وتقطعت بهم الأسباب بفضل توفرهم على كلمة الإسلام. وقد أصاب أتباع محمد وأنصاره والمؤمنين الحرب والويل من ناحية إيمانهم حتى كان تعذيب الكفار لهم وأعداء الدين أن منعوهم وحرموهم خبأ الأرض يقتاتون به واضطر كثيرون منهم إلى الفرار إلى الحبشة فازعين إلى ملكها المسيحي فتأبت شهامة النجاشي أن يسلمهم إلى أعدائهم، بل أظلهم بحمايته في أرضه، وقضى نحبه فريق منهم في الحبشة، وبقيت أراملهم في بلاد العرب، فأخذهن محمد إليه وابتنى بهن، وأدخلهن في عشيرته، ولولا ذلك لتضورن جوعاً، وهلكن مسغبة وتشريداً وأما الذهاب إلى أن محمداً كانت له في ذلك مآرب أخرى ونيات شهوانية فلا أساس له ولا حجة قائمة ولا سيما ذا علمنا أنه أظهر في عهد شبيبته الحادة، وعنفوان شبابه وغلواء فتوته الأدلة العظيمة القاطعة على عفاف جيبه، ونقاء نزعته، وزجر شهوته، وقد أساء كثيرون كذلك فهم قصة زواجه بزينب التي

طلقها من مولاه زيد الذي تبناه ونحن نقول أن العرب في الجاهلة الأولى كانوا يأنفون من أن يتزوج الرجل بامرأة مطلقة كانت قبله تحت متبناه، وإن لم يكونوا يأنفون من التزوج بزوجات أبيهم بعد وفاته، فأراد محمد أن يذهب بفساد هذه السنن، ويطمس على آثار هذه الشرعة الطائشة الحمقى، فعلم الناي أن الابن بالمتبنى ليس ابناً حقيقياً ولذلك كان التزوج بالمرأة التي طلقت منه غير محرم، ولا ممنوع، وتأييداً لهذه الحقيقة، لا تبريراً لعقد زواج جديد، نزل الوحي على محمدـ، فأوله أعداء محمد ودينه بأنه لم يكن إلا شفيعاً ومبرراً لإثم اقتحبه، وعمل جائر ارتكبه، وأنه ليلوح لي أنه لو هذب الناس عاطفة الحنان في أفئدتهم، واشربوا قلوبهم جانحة الكرم والترفق والتسامح لنظروا إلى الأديان التي تخالف دينهم بغير ما ينظرون به إليها الآن، ولاجتهدوا أن يتقصوا البحث عنها من مصادرها الخاصة بها، غير آخذين بقول أعداءها، أو جانحين إلى الاستماع إلى ما قال الخصوم عنها. والعزوبة نادرة الوجود بين المسلمين وقلما تجد نساء صالحات للزواج يعشن في ظلال العزوبة، بلا أزواج، والزنا يصيب العقوبة الصارمة، إذا ارتكبه رجل، أو ثبت على امرأة، ويجلد الزاني على رؤوس الملأ مائة جلدة جزاء له وعقاباً على إثمه، أما من ناحية الجواري فلم يرض الإسلام أن يصم نسلهن وأولادهن بميسم العار ويطبع على جباههم مخية الإثم، فجعل ابن الجارية الرقيق يرث مع أبناء سيدها ومولاها على حين لا يجد الطفل غير الشرعي في مجتمعاتنا المتحضرة إلا قليلاً من الرعاية ونزراً من الحماية والعطف بل إن نظرنا إلى الزواج من ناحيته الروحانية السماوية لا يكاد يداني نظر الهنود إليه، إذ تضرع الزوجة لخلاص روح زوجها، لأنه لا ينال الخلاص إلا بدعواتها وصلواتها. وليس للمسلمين حوانيت خمر، ولا أندية ميسر ولا مضارب زنا، ولا مواخير وليس لديهم زناء مشروع ولا بيوت أعدتها الأنظمة الحكومية للفحشاء العمومية، وأما عن محادثاتهم وأسمارهم ولغة كلامهم، فهي أرق حاشية وأكثر تهذيباً من أحاديث عامة الغربيين، وقد رأيت شباباً من المسلمين في المدرسة والجامعة والمعهد أرق حديثاً وأفضل مسلكاً وألين خلقاً وأصفى آداباً من شباب الإنكليز المتعلمين، بل لعل أحاديث هؤلاء قد تكون معاقباً عليها في أحكام الإسلام وشرائعه.

ومن وجهة التهمة المنكرة الملقاة على الإسلام وهي أن قد جمد على سننه ولا يريد تقدماً، ولا يماشي الحياة ولا يجاري أجيال الزمن وأحقاب الدهر فإنني أقول أن الحرية التامة في تأويل القرآن وأحكامه والتبسط في شرحها وإطلاق قيودها تجعل الإسلام صالحاً لكل ناس، ملائماً لمل مملكة، متفقاً وطبائع كل أمة، ونحن نضرب لك مثلاً فنقول أن القانون المقرر للتأويل والتفسير وهو أن كل جملة شرطية لا بد من أن تحكم بشرطها، يبعث على اطمئنان الضمير، فإذا جاء في القرآن قاتلوا المشركين فإنها جملة مطلقة ولكن إذا قيدت بهذا الشرط وهو إذا قاتلوكم كانت أكبر حجة على فساد ذلك الزعم الشنيع، وهو أن الإسلام قام بالسيف وأسس على الجهاد والحرب الدينية، بل لا تجد القتال مشروعاً في الإسلام إلا دفاعاً عن النفس إزاء الدين يقاتلون المسلمون ويطردونهم من أرضهم لأنهم يعبدون رباً لا شريك له والتسامح الديني مستمسك به وذائع منفذ بين المسلمين، ولا تجد شيئاً منه في الممالك والشعوب المسيحية. وقد أدخل محمد اليهود والنصارى في صفوف المسلمين لأن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وإنك لترى في سورة الحج في القرآن أن غرض القتال، ومقصد الحرب هو لحماية المساجد والمعابد والكنائس لأن اسم الله يذكر في كل منها على السواء. أفليس هذا أرقى ضروب التسامح والحد الأكبر من الرفق، ونحن لم نبلغ شيئاً منه إلا بعد قرون عديدة وأجيال. وقد عرفت كثيرين من المسلمين يكتتبون ويخرجون عن أموالهم تعضيداً للكنائس فنبوئني كم من المسيحيين اكتتبوا للمساجد - ومع ذلك لا يزال اسم الله يذكر في المسجد والكنيسة معاً!!. وإذا ذكرني المسيحيون باضطهاد المسلمين لجموع منهم فأقول أن تلك الاضطهادات لا تذكر بجانب المذابح التي قتل فيها المسيحيون الجموع العظيمة من بني الإسلام وقد أقسم عمر بن الخطاب يوماً إلا أن يثأر لدينه من تلك المذبحة التي أقامها المسيحيون في بيت المقدس، بأن يذبح أهلها والمحاربين المدافعين عنها يوم أراد فتحها، على أنه إذ اقتحم أسوارها ودخلها عزيزاً منتصراً أبى ألا أن يحنث بيمينه وقال: لأهون علي الحنث بيميني من أن أقتل مخلوقاً واحداً من مخلوقات الله!. ولا اجد ما أختم به بحثي هذا خيراً من هذه الحقيقة التي أصر على قولها وتردادها، وهو أن الإسلام والمسيحية والموسوية أقارب وأخوان من مصدر واحد وأصل واحد، وأتمنى

على الله أن يقبل ذلك اليوم الذي أرى فيه المسيحيين يوقرون ويعظمون المسيح أكثر من توقيرهم إياه وتعظيمهم له اليوم، وذلك بتوقيرهم محمداً كذلك وتعظيمه لأنه هناك وجوه شبه، ونواحي مشتركة، وعواطف متفقة بين الإسلام والنصرانية، والمسيحي المسيحي من دان بتلك الحقائق التي دعا إليها محمد النبي العربي.

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى مرية (تابع) مقامي في مسيني ولقد أقمت في مسيني ثلاثة أيام بلياليها أنساني فيها أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف بأدبه وظرفه ورقة حاشيته ما يعرو الغريب في البلد النازح من الوحشة والانقباض. ثم علمنا في اليوم الرابع لمقامنا أن قد أرست على ميناء هذا البلد سفينة كبيرة قادمة من القسطنطينية العظمى قاصدة إلى بر الأندلس، فاعتزمت أنا وأبو عبد الله أن نسافر فيها، وكان هذا العزم من تمام فضل الله علينا وحسن توفيقه إذ أصبنا في هذا المركب عند نزولنا فيه منية النفس ومطمح الروح فضل المدنية التي ضرب الدهر بيني وبينها أياماً كانت على قلتها كأنها شهور بل أعوام، وكان معها صاحبتاها علم المدنية وقلم الرومية. وهن كما علمت ممن حذقن الغناء ونبغن فيه بعد أن تعلمنه في المدنية المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذه قلم كما أخبرتني أندلسية الأصل رومية من سبي البشكنس وحملت صغيرة إلى المشرق فوقعت بالمدينة المنورة ولقنت هنالك الغناء، ثم اشترين مع فضل وعلم لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر. وقد أخبرني فضل أن المراكب الذي كانت فيه لما أرسى على مسيني بعد إرسائه على ريو لشراء ما يحتاج إليه من الميرة والطعام أُلفي في روعها هي ومن معها أن ينزلن في مسيني ويتركن هذا المركب - وهو للأمير عبد الرحمن الناصر - خشية أن يأسره ومن فيه عمال المعز لدين الله الفاطمي لأن بلاد صقلية إحدى ولايات المعز، وقد علمت أن هذا المركب كان قد تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز، فأحفظ المعز هذا الأمر وأخذه منه المقيم المقعد، وحمله على أن يطوي كشحه على الثار من الناصر - ثم أقامت فضل هذه المديدة في فندق من فنادقها، في ربض من أرباضها، فقلت يا عجباً كل العجب: أليس غريباً أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاو ولا نتكلم أما نبأ هذه السفينة الرومية فذلك أن قسطنطين بن ليون أنبرور الروم (إمبراطور دولة الرمان الشرقية) كان قد أهدى منذ ثمان حجج إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر هدايا

ذات قدر عظيم يتقرب بها إليه ويبصبص بذنبه لديه، واستدفاعاً لمكره وكيه، واستجلاباً لعطفه ووده، واستظهاراً به على آخذ بلاده (بلاد قسطنطين) المعز لدين الله وكان من هذه الهدايا كتاب ديسقوريدس الطبيبي مصور الحشائش العجيب وكتاب هيروسيس (هيرودتس) المؤرخ الرمي العظيم، وكان الكتاب الأول مكتوباً بالإغريقي، وهو اليوناني القديم والكتاب الثاني كان مكتوباً باللسان اللطيني وكتب قسطنطين فيما كتب إذ ذاك للناصر أن كتاب ديسقوريدس لا تجتنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليوناني ويعرف أشخاص تلك الأدوية، فإن كان في بلدك من يحسن ذلك فزت أيها الملك بفائدة الكتاب. وأما كتاب هروسيس فعندك في بلدك من اللطينيين من يقرؤه باللسان اللطيني وإن كشفتهم عنه نقلوه إليك من اللطيني إلى اللسان العربي. ولم يكن يومئذ بقرطبة من نصارى الأندلس من يعرف الإغريقي فبقي كتاب ديسقوريدس في خزانة الناصر كما هو لم يترجم إلى العربي، فلما ولى أمر الروم أرمانيوس بن قسطنطين تقدم إليه الناصر بأن يبعث رجلاً يعرف الإغريقي واللطيني ليعلم له عبيداً يكونون مترجمين فأرسل أرمانيوس في هذا المركب راهباً عظيماً يسمى نقولا. وقد أزلفت لك أن أبا عبد الله الصقلي يحسن الإغريقي إحسانه للطب والفلسفة والنجوم. وقد كان أخبرني أن الناصر أرسل إليه يستحثه على الوفود إليه ليكون في خدمته فكان ذلك سبباً في انعقاد الصحبة بيننا وبين هذا الراهب. وقد أصبنا منه رجلاً حديثاً ظريف المحاضرة له مشاركة في كثير من العلوم والآداب. وقد ألقينا في هذا المركب طبيبين أندلسيين كانا قد رحلا إلى المشرق منذ سنين وأقاما هنالك نيفاً وعشرين سنة ودخلا دار السلام (بغداد) وقرآ فيها على ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة كتب جالينوس ثم قفلا راجعين إلى الأندلس مسقط رأسهما، ونزلا في هذا المركب من أحد الثغور وهما أخوان يسمى أحدهما عمر والثاني أحمد وهما أبناء يونس بن أحمد الحراني الطبيبي المشهور، وقد أخبراني أن كتاب ديسقوريدس هذا كان قد ترجمه بدار السلام أيام جعفر المتوكل الخليفة العباسي اصطفن بن بسيل المترجم - من الإغريقي إلى العربي، وتصفحه حنين بن إسحاق فصحح الترجمة وأجازها - قالا: وقد ورد هذا الكتاب إلى بلادنا (الأندلس) وهو على ترجمة اصطفن، وقد قرأناه وصححنا كثيراً من أسماء العقاقير التي لم يعرف لها اصطفن اسما في العربية، وقد انتفع كثير من أهل المشرق

وأهل الأندلس بالمعروف منه - وفي الأندلس اليوم من أخواننا الأطباء نفر توفروا على هذا الكتاب يصححون أسماء عقاقيره ويعينون أشخاصها، ومنهم أخونا البسباسي والشجار وأبو عثمان اليابسة ومحمد بن سعيد الطبيب وكأنا بسيدنا الناصر أدام الله تأييده وقد أبى إلا أن يقر الأمر في نصابه، ويغمد السيف في قرابه، ويتم أمر هذا الكتاب على ما به، فطلب من أرمانيوس ما طلب، وكل ذلك من سيدنا فضل عناية منه بكل ما يجدي على بلاده ويسمو بها صعداً إلى أبعد مراتب العظمة الذهنية كما أبعدت به وبأسلافه في سائر ضروب الحضارة، وذلك لما فطره الله عليه من العزيمة النافذة والهمة الطموح البعيدة المرمى فلا يتعاظمه أمر، ولا تقف همته دون غاية. وحتى لا يحيك في صدر إنسان أن خلفاء بني العباس في المشرق، أو منافسيه الفاطميين في أفريقية قد سبقوه إلى شيء لم يسبقهم هو إليه، وأنت تعلم أن هذه الدول الإسلامية الثلاث هي أعظم دول الأرض اليوم شأناً، وأضخمها سلطاناً والقابضة على أزمة الأمور والمالكة أخصب البلاد من هذا المعمور، والمستبحر عمران بلادها إلى أكثر من المتوقع المنظور. والتي تعد سائر دول الأرض من هذه الأمم الحمراء كأنها تبع لها وعيال عليها، فتراها لذلك تتهالك في كل آونة على الازدلاف إليها، وتستنزل رضاها بالهدايا والتحف، وغريب النفائس والطرف، وتستصرخها بعض على بعض فتكون الحتوف، أسبق إلى المغضوب عليهم من السيوف أنا إذا ما أتانا صارخٌ فزِعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب ومن ثم ترى أن هذه الدول العظمى تتسامى في كل ما يكسبها حسن الأثر، وجميل الذكر، ويملأ مسامع الدهر حمداً وثناءً، وينبض له قلب الدنيا فخراً وعلاء، فتراها لذلك آخذ بيد العلم والعلماء، مالئة بأعطياتها أيدي الشعر والشعراء، حتى العلوم الفلسفية بجميع ضروبها من إلهية وطبيعية ورياضية وطبية وفلكية تعضدها وتغري القائمين عليها بالاستزادة منها والتقضي في البحث عن غوامضها، وتظهر الرغبة في الحصول على مآخذها من ملوك الروم الذين حشدت في خزائن كتبهم تواليف فلاسفة اليونان الأقدمين. ولقد أقلعت بنا السفينة باسم الله مجراها من ميناء مسيني، وبكرت مع البازي عليه سواد، في فجر يوم الجمعة سلخ ربيع الأول، وذلك لثلاث عشر ليلة خلت من شهر جونيو الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام. وكان البحر

هادئاً والنسيم فاتراً عليلاً، وكانت قبة فضل ومن معها بمرأى منا ومسمع وكان معنا أديب من أدباء صقلية لم نكن ندري أين وجهته ولكنه نزل بعد ذلك في جزيرة ميورقة، وكان قد ندّ منه عقيب إقلاعنا من مسيني أمر أفضى إلى حديث لا علينا إذا نحن أوردناه في هذه الرسالة تطرية للقول، وذلك أنا بعد أن صلينا الصبح حاضرة وصلى معنا هذا الأديب الصقلي رأيناه وقد انتحى ناحية وأخذ يططبح ويلح على ابنة العنب يشربها صرفاً لا يقتلها بالماء فأنكرت عليه ذلك إنكاراً شديداً وقلت له: ما تصنع الخمر، وإن أولها لمر وإن آخر لسكر، فقال: لا أقول لك إلا ما قال الأخطل لعبد الملك بن مروان إذ قال له عبد الملك مثل قولك هذا فقال الأخطل: ولكن بين هاتين المنزلتين ما ملك أمير المؤمنين فيها إلا كعلقة ماء من الفرات بالإصبع ثم أنشد الأخطل: إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير خرجت أجر الذيل تيهاً كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير ولله ذلك الطائر الفردوسي البديع الذي كأنه روح هبط على هذه الغبراء من المحل الأرفع ومعه تلك الهدية التي لا هدية مثلها، تلك البذور الثلاث التي ما أظنه إلا اختلسها من عنب الجنة ليطرفنا بها فنزدرعها ونفزع إلى عصيرها في هذه الحياة المحزونة المفعمة آلاماً ليسرى عنا ويجلو منا صدأ الحس، وينفي الهم عن ساحة النفس. إن الذي جعل الهموم عقاربا ... جعل المدام حقيقة درياقها أقتلا همي بصرف عقار ... واتركا الدهر فما شاء كانا إن للمكروه لذعة هم ... فإذا دام المرء على المرء هانا فقلت له ولكنها قبحها الله تسيء من المرء أخلاقه، وتخمل النابه، وترفعه كما قيل إلى أسفل، وتهوي بالشرف الرفيق إلى الحضيض الأوهد، ولله ذلك القرشي حين يقول: من تقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلا بد يوماً أن يسيء ويجهلا ولم أر مطلوباً أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا فسرعان ما أنشد: إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاتي ولا بخلي ولست بفاحش عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلي

ثم قال: والخمر لذلك خليقة أن لا يشربها إلا الملوك وأشباه الملوك أما السوقة والحمقى والغوغاء ومن إليهم فيجب أن يصلبوا أو يقتلوا أو تقطع أيديهم وارجلهم إذا هم شربوها. والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدوا بأكفائها * * وجدت أقل الناس عقلاً إذا انتشى ... أقلهم عقلاً إذا كان صاحيا تزيد حمياها السفيه سفاهة ... وتترك أخلاق الكريم كما هيا فقلك له أما تخشى الله يوم الحساب فقال: إذا صليت خمساً كل يوم ... فإن الله يغفر لي فسوقي ولم أشرك برب الناس شيئاً ... فقد أمسكت بالدين الوثيق فهذا الدين ليس به خفاء ... دعوني من بنيات الطريق فقال أبو عبد الله الفيلسوف: الشراب ضار ونافع أما أنه نافع فللبدن بإشراقه وتقوية الحرارة الغريزية وإنعاشها وإنضاج الرطوبات وتنقيح المجاري وإزالة سددها وتقوية الهضم وإنارة الدم وإدرار الصفراء وترطيبها - وللنفس بانبساطها وتفتيح آمالها وتشجيعها وقتل الهم والفكر الفاسد ومن ثم كان أنفع الأشياء للماليخوليا ثم هو يؤدم بين القلب والقلب ويبعث الشوق القديم الذي قد ضل في الأحشاء - وكل أولئك إذا استعمل على الوجه الذي ينبغي وإلا استحالت هذه المنافع مضار فترى عوض السرور هماً وغماً وضجراً وسوء خلق، وعوض الصحة مرضاً مزمناً أو موتاً فجائياً وإن إدامة الشراب تبلد الذهن وترخي العصب وتوهن قوى الدماغ وتورث الرعشة والتشنج، وقد أجمع الحكماء قاطبة على أن مدمن الخمر لا ينجب وإن أنجب كان الولد أحمق. وبعد: فإن أصدق ما جاء في الخمر قول الله جل شأنه: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: ثم قال سبحانه يصف خمر الجنة: {لا فيها غول ولا عم عنها ينزفون} فكأن السر في تحريمها هو أنها تغتال عقولنا وتشربها وتورثها الخبل والصداع كما قال الأول: وما زالت الخمر تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول وما ألطف قول بعض الظرفاء وقد ترك النبيذ فقيل له كيف تتركه وهو رسول السرور إلى

القلب فقال نهم ولكنه بئس الرسول يبعث إلى القلب فيذهب إلى الرأس ويشبه ذلك قول المجنون لملك من الملوك وقد استظرفه واختار أن يكون نديماً له وعرض عليه الشراب فقال المجنو: أيها الملك أنت تشرب هذا لتصير مثلي وأنا أشربه لأصير مثل من! وأنا لفي ذلك إذا اندفعت فضل المدينة تغني على عودها هذه الأبيات: بيد الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم فاستبقني إن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم فاستخف غناؤها أبا عبد الله حتى كاد أن يخرج من جلده فرحاً وتحرك الراهب واهتز كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب، وغمغم كلمات ترجمها لنا أبو عبد الله بما يقارب قول الطائي حبيب بن أوس: ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت قلبي أجهل شجاها فصرت كأنني أعمى معنى ... يحب الغانيات ولا يراه ثم اندفعت تغني: آها على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها ومجالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلتها على أطواقها متبخترات في النعيم كأنما ... خلق الهوى العذارى من أخلاقها نفسي الفداء لها فأي محاسن ... في الدهر تشرق من سنى إشراقها فأخذ العلج ينشج نشيجاً حاراً ويبكي بكاءً عالياً حتى إذا سكت عنه البكاء قال ما معناه: لقد هاجت لي داء دفيناً. ثم سكت وسكتت فضل وسكتنا ومضت السفينة لطيتها. قال معاوية بن أبي سفيان: النساء يغلبن الكرام، ويغلبن اللئام. وقال يزيد ابن المهلب بن أبي صفرة: وددت لو أن كأساً بألف دينار، وأن كل منكح في جهة أسد، فلا يشرب الأجواد، ولا ينكح إلا شجاع. وقال عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما. وقال المأمون: النساء شر كلهن ومن شر ما فيهن قلة الاستغناء عنهن. وقال: إن النفس لتمل الراحة كما تمل التعب. وقال: إنما تطلب الدنيا لتملك فإذا ملكت فلتوهب. وقال عبد الله بن طاهر: سمن الكيس ونبل الذكر لا يجتمعان. وقال المنتصر بالله: ما ذل

ذو حق وإن أطفق العالم عليه، ولا عز ذو باطل وإن طلع في جبينه القمر.

شيخ المتشائمين

شيخ المتشائمين آرثر شوبنهور أو الحياة شقاء كثير من قراء البيان قد سمعوا بالفيلسوف الألماني الأشهر آرثر شوبنهور المولود سنة 1718 والمتوفى سنة 1860 وهو شيخ الفلاسفة المتشائمين الذي قد برموا بالحياة وبرمت بهم ولم يروا سبيلاً إلى الخلاص من بلاياها إلا الزهد فيها والرغبة عن ملاذها، وتعاليمه تشبه شيئاً كثيراً من الشبه تعاليم متصوفة المسلمين وتعاليم بوذا وبرهمة، ويشبه من فلاسفة العرب حكيم المعرة أبا العلاء - ومحور فلسفة شوبنهور هذه هو أن الكون وما يحتويه (أعني المادة والزمان والمكان) ما هو إلا خيال لا وجود له إلا في الذهن ولكن له أصلاً وجرثومة هي ما يسميها الفيلسوف (كانت) الألماني العظيم - سلف شوبنهور وأستاذه - الشيء في ذاته ويقول أننا لا نعرف ولا نستطيع أن نعرف حقيقتها وكنهها ويرمز لها بحرف س على نحو ما يفعل الرياضيون في الرمز للكميات المجهولة، وشوبنهور يزعم أن جرثومة الكون المذكورة التي حار في كنهها كانت حتى رمز لها بحرف س وما هي إلا الإرادة التي نشعر بها في أعماق كياننا ونحس أنها هي القوة الدافعة فينا التي تدفعنا إلى الحركة تارة عن طريق الذهن أي طريق التعقل والتفكير وتارة من تلقاء نفسها كما يشاهد في حركات الجسم غير الاختيارية، وأهمها وظائف الأجهزة الحيوية، وهكذا نرى أن زبدة فلسفته هي أن الدنيا إرادة - أما حقيقتها وكنهها فمجهول، وأما ظاهرها الذي تتجلى فيها وتتراءى فهو ذلك الكون المشتمل على الزمان والمكان والمادة والجماد والنبات والحيوان والإنسان ولكن هذا الكون هو ظاهرة فقط لتلك الجرثومة، والأصل أي الإرادة هو خيال ليس إلا لا وجود له إلا في الذهن، فالحياة في نظر شوبنهور ليست إلا حلماً ولكنه حلم أليم مزعج. وذلك لأنه لما كانت الحياة إرادة فهي إذن رغبة وحاجة، والحاجة كما لا يخفى لا تزال تتطلب الإسكات والإشباع ومعنى هذا هو الحرمان والتلهف وهذان مشفوعان أبداً بالألم. فهو يستدل بهذا على أن معاناة الألم والكمد هو الغرض الذي ترمي إليه الحياة والغاية التي إليها تقصد. قال: إذ لو لم تكن ومكابدة الأسى هو ما ترمي إليه الحياة لكانت الحياة بلا غرض ولا مقصد. إذ من السخف والحماقة أن نعد ذلك المقدار الهائل من الهموم

والأحزان الذي يملأ الحياة وينشأ من حاجاتها وضرورياتها منفصلاً عن الحياة ذاتها وأنه لا يرمي إلى غرض مقصود وأنه نتيجة الصدف ليس إلا. ولست أعرف أكذوبة هي أسخف مما تؤيده تلك المذاهب الفلسفية القائلة بأن الشر سلبي في ماهيته وكنهه والخير إيجابي. والحقيقة هي العكس فإن الشر هو الإيجابي الذي يقع في الشعور فيجعل نفسه محسوساً ملموساً. والخير هو السلبي. أو بعبارة أخرى أن السعادة والرضا والراحة ما هي إلا سد الحاجة وزوال الألم. وهذا هو السر في أننا إذا أصبنا اللذة وجدناها دون ما كان ينتظر وإذا أصبنا الألم وجدناه فوق ما كان يتوقع. يزعم الزاعمون أن اللذة في الدنيا ترجح بالألم أو على الأقل تعادله. فإذا أراد القارئ دليلاً قاطعاً على بطلان هذا الرأي فليتصور حيوانين أحدهما يفترس الآخر، وليتوهم لذة الأكل وعذاب المأكول وليوازن بين مقداري هذين الشعورين المتناقضين. هل يجد أدنى نسبة بين مقدار اللذة ومقدار الألم؟ ونحن نرى أن أحسن عزاء في المصيبة هو تدبر المصاب مصائب من هم أسوأ منه حالاً. ولكن أي دليل في مثل هذا العزاء على شقاء العالم وبؤس الحياة. ومن المصائب التي لا يستهان بها شدة ضغط الوقت علينا ومطاردته إيانا وسوقه لنا سوقاً عنيفاً لا يدعنا نتنفس كأنه السجان يدفعنا إلى العمل بالسياط فإذا ما خفت عنا وطأته هنيهة فإنما يفعل ذلك ليسلمنا إلى الضجر والسآمة. ولكن المصيبة لا تخلو من النفع والفائدة فكما أنه لولا ضغط الهواء الجوي على جسد الإنسان لانصدع ذلك الجسد وتمزق فكذلك لو رفعت عن الناس كافة الاحتياجات والمشاق والشدائد فأصبحوا الناجحين الفائزين الموفقين في كل ما عالجوا وتعاطوا لانتفخوا خيلاء وغلواء فأصبحوا - وإن لم يتصدعوا ويتمزقوا - غاية في الخرق والسفه والحماقة، ولا يبعد أن ينالهم الخبل والجنون فلا غرو إن كان كل امرئ في حجة إلى قدر محدود من الهم أو العناء أو الألم في جميع أوقاته. فالسفينة بلا صابورة (ثقل من حجارة أو حديد يجعل في قعر المركب لتخفيف فعل العواصف) تكون مزعزعة هوجاء طائشة. ولا مراء في أن الكد والنصب والعناء هي نصيب السواد العظم من الخليقة مدى أعمارهم ولكن هب أن الأوطار والمآرب نيلت بمجرد حصولها في النفس فكيف يقضي الناس أيامهم

وبماذا يسدون فراغ أوقاتهم؟ هب الحياة كانت جنة نعيم وفردوس لذة وأنهارً من لبن وعسل مصفى وخمرة لذة للشاربين حيث كل (كثير) يفوز بعزته وكل جميل يظفر ببثينته بلا تعب ولا مشقة إذن لمات الناس مللاً وسآمة أو لشنقوا أنفسهم ضيقاً وضجراً أو لشبت الحروب والمجازر حتى ترى الناس يلحقون بأنفسهم من البلاء أضعاف ما تنالهم به الطبيعة الآن. الناس في حداثة السن وريعان الصبا كغلمان بدار تمثيل ينتظرون رفع الستار تراهم فرحين متهللين يتلهفون على ابتداء الرواية فمن نعمة القدر علينا جهلنا بما يسدل عليه الستار وما هو مخبوء وراء المسرح. فنحن إذ ذاك كالمساجين الأبرياء المحكوم عليهم لا بالموت لكن بالحياة غير أنا لا نزال نجهل معنى ذلك الحكم. وكلنا مع ذلك يشتهي امتداد الأجل وبلوغ أرذل العمر - يشتهي بلوغ الحالة التي يقول فيها المرء (اليوم شر وغداً شر من اليوم وهكذا حتى يجيء من الأيام شرها وأسوأها). وأنت لو حاولت توهم كل ما تشرق عليه الشمس في مسيرها من كدر وغم وعناء وبؤس وعذاب على اختلاف ضروبها وأصنافها لتمنيت لو أن الشمس لم تقدح شرارة الحياة من هذه الكرة الأرضية ولم تستل ظاهرة الحياة من جوفها وأن ظهر الأرض لم يزل كسطح القمر في حالة تبلور. وأنك لو تأملت الحياة لوجدتها شيئاً عديم النفع والجدوى وحادثاً مكدراً لصفاء سكينة العدم. وهب أنك ظفرت من الوجود بعيشة محتملة لا باس بها مرضية بالنسبة لغيرها لكنت الجدير بعد هذا كله أن تعد حياتك على الإجمال خيبة وفشلاً بل خدعة وغروراً. لو أن رجلين مما كانوا أصدقاء في حداثة السن تقابلا في الشيخوخة بعد افتراقهما طول العمر لكان أوى ما يخامر نفسيهما من الشعور ذ ذاك هو الإحساس بخيبة الحياة على الإجمال. وذلك لأن خواطرهما تكر راجعة في هذه اللحظة إلى زمن الشبيبة وعصر الصبا إذ غرة السعد ضاحكة متبلجة، وجذوة الأمل ذاكية متأججة. وماء الندي عذب اللصاب مرقرق ... وعود المنى وحف النبات رطيب وإذ ساحة العيش منفسحة لأعينهما تتألق في سنا فجرها الأرجواني وتختال في برد نورها القاني فيا طيب ما وعدت وما عللت. ويا خبث ما أعطت وما نولت. فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل

وهذا الشعور بخيبة الحياة الذي يعتري الرجلين عند اللقاء يتسلط على نفسيهما ويتغلب على كل شعور آخر حتى أنه لعظمه وشدته يأبى أن يبرز في صورة التعبير ويأنف أن يفيض على عذبة اللسان. ولكنه يبقى حاضراً في الوجدان وصبح أساساً يبنى عليه كل ما يدور بني الرجلين من القول. من امتد به الأجل حتى أدرك جيلين من الناس أو ثلاثة كان كمن جلس مدة في خيمة (الحاوي) فشاهد ألاعيبه دفعتين أو ثلاثاً متواليات. فغرابة هذه الألاعيب ودهشتها هي في مشاهدتها مرة واحدة حتى إذا ما فنيت جدتها وانكشفت خدعتها زالت الغرابة عنها والروعة. ومع أنك لا تجد في طول الأرض وعرضها من هو خليق أن يحسد على حظه وقسمته فإنك لتجد الملايين الذين لا يستوجبون منك غير الرثاء والرحمة. إنما الحياة تكاليف فرض علينا أداؤها. وحمل قدر لنا أن نسير به في غاية، وإن ساعة الفراغ من هذا العمل الشاق وطرح هذا الثقل الفادح - أعني ساعة الخلاص والراحة المنشودة المشتهاة، إنما هي ساعة الموت. أرأيت لو أن خروج الجنين إلى هذا العالم كان بمحض إرادته واختياره أكان يجرأ على الخروج إليه مخلوق. أم كنت تجد على ظهرها إنساناً؟ ولو كان واضع النطفة يضعها عن ترو وتدبر وحساب للعواقب - لا عن غريزة عمياء - أكنت تجد في الناس من تبلغ به القسوة وغلظة الكبد أن يتسبب في إيجاد من يعلم أنهم سيحملون عبء الحياة الفادح ويتجرعون غصصها المضاضة؟ أنا أعلم أن الكثيرين سيعترضون على فلسفتي بأنها داعية إلى اليأس والقنوط خالية من دواعي الانشراح والإنس وإن الناس يؤثرون أن يقال لهم أن الخير فيما اختاره الله وكل ما قضاه جميل. ألا فاذهبوا إلى قساوستكم أيها الناس ودعوا الفلاسفة وشأنهم وعلى كل حال لا تكلفونا أن نلائم بين آرائنا وبين ما تعلمتموه في الكنائس. ألا إنا لن نجيبكم إلى هذه الدعوة ما بقي فينا عرق ينبض. ولسان ينضنض ولكن امضوا إلى أدعياء الفلاسفة وغشاشيهم فإنهم لن يبخلوا عليكم بما تطلبون. اذهبوا إلى هيجل وصاحبيه فيشتي وشلنج وشيعتهم فقد أخذوا على عاتقهم ا، يعلموا مذهب (التفاؤل بالخير) ولو علموا أنه مناقض للحق. وما لهم

وتأييد الحق وجل همهم الدرهم والوسام ووظيفة الحكومة. قد ذكرت القارئ أن كل سرور في هذه الدنيا سلبي في كنهه وماهيته أعني أنه خلاص نمن الألم الذي هو العنصر الإيجابي في الحياة ينتج عن هذا أن سعادة أي مخلوق تقاس لا بمسراتها وملاذها بل مقدار خلوها من الألم من الشر الإيجابي. إذا كان ذلك أساس الموضوع فالحيوان إذن أسعد من الإنسان. وهنا نأخذ في هذا المبحث بطريقة أدق وأعمق. أنه مهما تعددت أشكال السعادة والشقوة البشرية فالأساس الجوهري في جميعها هو اللذة أو الألم البدني. وهذا الأساس محدود جداً: إذ لا يتعدى الصحة والغذاء والوقاية من الحر والبرد والبلل والشهوة الجنسية. أو فقدان كل هذه الشياء. عليه فالإنسان من وجهة اللذة البدنية ليس أحسن حالاً من الحيوان إلا من حيث كونه أشد منه إحساساً وأرهف شعوراً بكافة أصناف اللذة لتفوقه عليه في وظائف الجهاز العصبي وقابلياته - على أنه لعين هذا السب يكون أيضاً أشد من الحيوان شوراً بكافة ضروب الألم. ولكن أي فرق هائل بينه وبين الحيوان من حيث سورة الانفعالات واضطرام نيرانها وبعد أعماقها! ومع ذلك فالنتيجة في كلتا الحالتين واحدة - أعني تحصيل الصحة والغذاء والملبس وهلم جرا. وأهم مصادر هذه الانفعالات هو اشتغال الذهن بالماضي والمستقبل ولهذا أثر شديد في كل ما يصنعه الإنسان. وهذا أيضاً هو المنبع الحقيقي لهمومه وأكداره ومخاوفه وآماله - تلك الانفعالات التي لها من الأثر في نفسه ما هو أشد وأبلغ مما لحاضر الآلام واللذات في نفس الحيوان الذي لا يعرف غير الحاضر ولا قدرة له على الاشتغال بالماضي والمستقبل. وكذلك نرى أن ملكة التأمل وذكرى الماضي والنظر في المستقبل - هذه الملكة تنزل من الإنسان منزلة آلة وظيفتها حشد الآلام والملاذ وتكثيفها وخزنها في وعاء قلبه. ولكن الحيوان ليس له شيء من هذا القبيل. فكلما لحقه ألم كان كأنما أصابه لأول مرة في حياته وإن كان قد وقع فيه قبل ذلك آلاف المرات. فهو لا قدرة له على استجماع إحساساته. ومن ثم ما يلاحظ فيه من عدم الاكتراث والمبالاة: - نعمة يحسده عليها الإنسان - هنيئاً له!. ولكي يضاعف الإنسان لذاته عمد بمحض إرادته إلى مضاعفة مطالبه وحاجاته - وكانت في الأصل معادلة لحاجات الحيوان في سهولة الطلب، ومن ثم كان الترف في جميع صوره وأشكاله: من طعمة لينة وحسوة مساغة وما إليهما من مناعم المطاعم ومطارب المشارب

كالتبغ والأفيون وصنوف الخمر - دع التأنق في الملبس والمركب والمسكن والتفنن في ضروب الفرش وآلات الزخرف والزينة. ويجيء بعد ذلك مصدر غريب للسرور وبالتالي للألم - وهذا المصدر قد أوجده الإنسان لنفسه وهو بعض نتائج ملكة التأمل والتخيل الآنفة الذكر وهذا المصدر يجشم الإنسان من المتاعب أضعاف أضعاف قيمته - يجشمه أكثر مما يتكلف في سبيل سائر مشاغله ومهامه برمتها - وأعني بهذا المصدر خلة الطمع والطموح إلى الجاه والمنصب وابتغاء المدح والخوف من الذم - أو بعبارة أوضح اهتمام المرء بآراء الناس فيه. وهنا نحاول أن نشرح على وجود الشر في الدنيا وكونها مبنية على الآلام مطبوعة على الأكدار والهموم والآفات. ونقارن من هذه الوجهة بين مختلف العقائد والأديان لنرى أيها أشد التئاماً مع الواقع وأكثر انطباقاً على حقيقة الحياة فنقول: يزعم البراهمة أن الإله براهما خلق الدنيا بطريق الخطأ والزلل. وللتكفير عن هذه الحماقة أجبر نفسه على البقاء في الدنيا بنفسه حتى يكفر بذلك عن سيئته فينال العفو والغفران المؤدي إلى الفكاك والخلاص. وهذا في رأيي تعليل حسن بديع لخلق الدنيا وإيجاد العالم. ويزعم البوذيون أن سبب نشوء الدنيا هو حدوث تشويش - مجهول الكنه والعلة - في سكينة صفاء العالم السماوي - نيرفانا - (هو عند البوذيين عالم الخلود والراحة الذي تنتقل إليه أرواح الصالحين باتباع وصايا دينهم ولزوم سننه. وفي هذا العالم تنقذ الأرواح من آفة التناسح أي تكرار العودة إلى الدنيا - دار الردى وقرارة الأكباد - في أجسام جديدة). وأن هذا التشويش الذي طرأ على نيرفانا إنما حدث بطريق النحس والشؤم أي بلا علة. وهذا يشبه نظرية تكوين الدنيا عند علماء الطبيعة إذ يقولون أن الشمس التي هي أصل هذا العالم الأرضي ومنبعه كانت في الأصل (أي قبل ظهورها في صورة شمس) قطعة من غيم لا يعرف كيف تكونت. ثم يزعم البوذيون أنه بعد تكون الدنيا في عالم نيرفانا بواسطة ذلك التشويش الذي حدث في ذلك العالم - لم تزل هذه الدنيا تنتقل من حالة سيئة إلى حالة أسوأ (وهذا مناظر لما ورد في مقال علماء الطبيعة من تطور العالم الأرضي أثناء التكون من نظام إلى نظام) إلى أن وصلت إلى حالة البؤس والشقاء التي هي عليها الآن. وهذا أيضاً تعليل بديع لخلقة الدنيا وحالتها! وذهب اليونان إلى أن وجود الآلهة والدنيا هو أمر أوجدته

ضرورة مجهولة لا يدرك سرها. وهذا تعليل مقبول يصح لنا أن نكتفي به حتى نوفق إلى خير منه. ويزعم الفرس أن المسيطرين على الدنيا إلهان - إله خير (هورمز) وإله شر (هرمن) وهذان لا يفتآن في حرب دائمة. وهذا تعليل لا بأس به. أما قولهم أن إلهاً يخلق هذه الدنيا المملوءة بالهموم والكرب والأحزان لمجرد خاطر خطر بباله وهوى نشأ في نفسه ولأنه أراد أن يلهو ويتلذذ بهذا العمل حتى إذا فرغ منه أخذ يصفق بيديه إعجاباً بصنعه وصاح قائلاً أن كل ما صنعته حسن جميل - فهذا لا يصح أن يقال به. وعندي أن أحسن تعليل يمكن تقديمه في هذا الصدد هو أن نتوهم أن وجودنا في هذه الدنيا هو عقاب يوقع علينا لذنب جنيناه في عالم سابق لهذا. وأنا كذرية الرجل الفاسق نخرج إلى الدنيا مثقلين بجريمة سلفنا. وأن ما نكابده من الآلام ليس إلا تكفيراً لتلك الجريمة وهذا التكفير هو الوسيلة الوحيدة للبراءة والخلاص. فإذا أردت الراي الصحيح في تقرير حقيقة هذه الدنيا والمنهج السديد للسير فيها فما عليك إلا تعدها كدار للندم والتوبة أعني (كإصلاحية المجرمين) كما ورد في مذاهب البراهمة والبوذيين وآراء فلاسفة اليونان أمثال فيثاغورس وأمبوريكليس وكما قال (شيشرون) وصرح فانيني الذي رأى معاصروه أن إعدامه بالنار أسهل عليه من إبطال برهانه - والذي قال بصريح العبارة (لقد أفعم الإنسان بجميع أصناف البؤس والألم والبلاء فلولا محاذرتي مناقضة الدين المسيحي لقلت أن بني البشر ليسو إلا أبالسة متقمصين أجساماً آدمية يكفرون الآن عن سالف ذنوبهم بمكابدة أصناف العذاب والبؤس. فإذا عودت نفسك أن ترى في الحياة هذا الرأي لم تجد الدنيا في أحزانها وآفاتها وآلامها إلا جارية على سننها. منتجة لتلك الثمرات التي هي أشبه ببذورها وأليق بجذورها. وأصبح عجيب الزمان غير عجيب. وغريب الحدثان غير غريب. وألفيت أن كل شيء هو كما ينتظر وينبغي أن يكون - في هذه الدنيا التي يعيش فيها كل امرئ ليكفر باحتمال الهموم والمحن عن سالف جريمة البشر في حياة غابرة. وليعلم القارئ أن من أسوأ سيئات إصلاحية المجرمين (كناية عن الدنيا) كما تقدم رداءة الوسط وسوء الخليط. وحسبك أن أفراد مثل هذه الإصلاحية هم قوم مجرمون. فإذا كنت أيها القارئ لسوء حظك أكرم جوهراً وأطيب عنصراً م السواد الأعظم من معاشريك وزملائك في السجن فأنت تحمل بين جنبيك

قلباً أكبر وروحاً أطهر من تلك القلوب الحكرة والأرواح القذرة فاعلم أنه لا ملجأ لك سوى الصبر والتجمل، ولا حيلة لك سوى التسامح والإغضاء والعزلة والابتعاد. قال الحسن بن سهل: عجبت لمن يرجو من فوقه كيف يحرم من دونه. وكان يقول: الشرف في السرف فقيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير. وقال عبد الحميد الكاتب: لو كان الوحي ينزل على أحد بعد الأنبياء فعلى بلغاء الكتاب. وقال أرسطو: ما زلت أشرب ولا أروى فلما عرفت الله رويت من غير شرب. وقال اعص الهوى واطلع من شئت. وقال سقراط استهينوا بالموت فإن مرارته في خوفه. وقال ابن المعتز: كم من والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الأبعد كالعين لا تبصر ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد

الدولة الزائلة

الدولة الزائلة مقتل القيصر ووصف أخلاقه وشرح سيرته الكاتب روبرت ويلتون مكاتب صحيفة التيمس في بتروغراد من أكبر الكتاب الذين خبروا روسيا أوسع الخبرة وأقاموا فيها أمداً طويلاً، وقد امتزج بعظمائها وعاشر أكابرها، وأسهم في جميع أنديتها السياسية الكبرى، حتى عد من الثقات في الرأي إذ جاء عن الروسيا أو حكامها، أو شعبها، وقد وضع في الأيام الأخيرة بحثاً مستفيضاً في مجلة مشهورة من مجلات الغرب ذهب فيه مذهباً غريباً ودلى برأيه آية في العجب وهو أن قيصر روسيا لم يقتل ولم يذبح، وإنما لعله يعيش الآن وينعم بالحياة وتتردد فيه أنفاسه. ثم انتقل إلى الكلام عن أخلاق الرجل والبواعث التي بعثت على قتله، والحركة الأخيرة في الروسيا التي أدت إلى سقوط دولة القياصرة، وقد آثرنا أن نطرف القراء بهذا المقال الجديد في الأسطر الآتية: قال الكاتب: هل قتل نيقولا الثاني أم لم يقتل. .؟ إن الأنباء التي نشرت بعد الحادث الذي زعموا أنه وقع لم يحققها ثقة معترف بصحته، ولم تأت عليها الأدلة القاطعة، بل لم ينهض لإثبات الحادث إلا ما ورد في الصحف الألمانية وإلا إعلان بالتلغراف اللاسلكي من مجلس حكومة البولشفية، وهذه الأنباء قد اتفقت جميعاً من وجهة واحدة وهي أن القيصر قتله العسكر الذين قاموا على حراسته، وقالوا أنه لم يحاكم القتيل قبل القتل، بل أعدم بالرصاص بلا بحث ولا تحكيم مخافة أن ينقذه عساكر السلوفاك الذين كانوا يدنون إذ ذاك من مدينة أكترنبرج عاصمة مقاطعة اليورال، حيث نقل القيصر أسيراً من مدينة طوبولسك قبل الحادث المزعوم بأشهر. وقد قيل أن القتل حدث في اليوم السادس عشر من شهر يوليو، ثم لا يزال هناك اضطراب واختلاف في هذا التاريخ، إذ تقول بعض البلاغات والأنباء أنه وقع في السادس عشر من شهر يونيو. على أن كثيرين من أصدقائي الروس الذين يعدون ثقات، لا يشك أحد في صدق أنبائهم يكذبون هذه الرواية، ويعتقدون أن القيصر لم يقتل وإنما شبه لهم، وإن إنساناً آخر يشبهه أتم الشبه قتل في مكانه، وهذا هو السبب الذي بعث شكوكي وأقام الريب في فؤادي، ولي الحق في هذا الشك ولي الشفائع لهذه الريبة فقد

وصفت الصحف منذ زمن كيف جيء بالقائدين المشهورين ألكسيف وكورنيلوف إلى ساحة عمومية في مدينة روستوف على نهر الدون في مبتكر ربيع العام الماضي فأعدما على مرأى من العامة والسابلة، ثم علم القاصي والداني أنهما حيان يرزقان في شهر يوليه. وكان زعم مقتل القيصر كذلك خطة من الخطط السياسية الألمانية، إذ كانت ألمانيا تطمع في أن تعيد حكومة القيصر إلى عرشها، وتثبت صولجانها في يد قيصرها، فزعموا أنه قتل حتى يثور الكره في قلوب الناس للبولشفية، ويتمنوا لو أن القيصر كان حياً، وتذهب نفوسهم حسرات عليه، حتى إذا حانت الفرصة المناسبة أخرجوه من مكمنه فساقوه إلى عرشه، وقد وقع في التاريخ حوادث من هذا القبيل زعم فيها أن القيصر قتل، ولم يكن قتل ولا صلب، وإنما شبه لهم، فمنذ ثلثمائة عام ادعى كثيرون أنهم قتلوا القيصر بطرس الثالث، مع أن ذلك القيصر الأسبق قد خنق بأمر زوجته التي أصبحت بعده القيصرة كاترين الكبرى، وقد اتفق بعد ذلك أن القيصر ألكسندر الأول الذي زعموا أنه مات فجأة على أثر إعلان حرب القرم، ظهر بعد ذلك أنه كان على قيد الحياة سنين عدة ناسكاً في سيبريا الشاسعة. وقد حدثني أحد الصدقاء الذين نجوا من مخالب الموت على أيدي زعماء البولشفية في الوقت الذي زعم أن القيصر قتل فيه بأنه لا يستطيع لمقتل القيصر تصديقاً، وراح يقول: أنهم قبضوا علي وحكموا بالإعدام خمس مرات في بضعة اسابيع، وقد عرفت كيف كان من السهل جداً علي أن أنجو من أيديهم، وفي الروسيا خلق كثيرون هم أشبه بالقيصر من الليلة بالبارحة، ولعل الجند الذين كانوا على حراسته أخطأوا ووهموا فيه فظنوا الرجل القيصر، وهو ليس هو، ولعلكم تتذكرون أن الجند الروس في أوائل هذه الحرب كثيراً ما جاؤوا بأسير من الأعداء زاعمين أنه غليوم أو هندنبرج، ولا يكاد يفلت السجين في الروسيا من أيدي السجانين والشرط والحراس حتى يستطيع أن يصيب جوازات سفر مصطنعة بكل سهولة، فمنذ قامت حكومة البولشفية أصبحت إدارات الحكومة تتاجر تجارة عظيمة في كل قرية ومدينة ببيع الأوراق الرسمية أو جوازات السفر بثمن بخس - دراهم معدودات. وقد رأيت القيصر نيقولا الثاني منذ كان صبياً صغيراً، ثم شهدته فتى يافعاً يمشي إلى

جانب زوجه مريم، وهما يلوحان يومذاك زوجين جيدين سعيدين، يضحكان ويبتسمان في وجوه الجميع الذين يحوطونهما، وكان نيقولا يلوح أضعف جثماناً من أخيه جورج الذي قضى نحبه من السل في أنضر مراحل العمر، وقد اجتهد مستر هيث المعلم الإنكليزي الذي ألقي إليه أمر العناية بتأديب الفتى نيقولا في تربيته على الطراز الإنكليزي وقد رأيته بعد ذلك قوي الجثمان صلب العود جهير الصوت إذ جعلت الرياضة والألعاب البدنية التي لقنها على الطراز الإنكليزي رجلاً قوياً من ذلكم الفتى الضعيف النحيف الأعجف القصير القامة، ولكن لسوء الحظ لم تستطع التربية أن تزيل نقائض الخلق ومعائبه، فراح الجثمان قوياً صلباً، ولما يزل جداره الذي يقوم عليه ضعيفاً متأوداً، وكان بطبيعته ذكي الفؤاد، أسوه بأهل جلدته فبقي الرجل ضعيفاً مستليناً مسترخي الإرادة يستمع لكل إنسان، دون أن يحكم فيما يسمع رأياً، أو يدير فكراً، أو بصراً، وأصبح بذلك هدفاً للحاشية، وضحية في أيدي الأدنياء وأهل المآرب السوأى، ولكنه مع ذلك كجميع ضعفاء الإرادة قد ينقلب في بعض الأحيان فيكون أعند خلق الله ولاسيما إذا اعتدى أحد على ما يحبه أو يهواه. وكانت هذه النقائض الخلقية معروفة عند المقربين منه وأهل البلاط، قبل اعتلائه العرش، فجعلوا يستخدمونها في سبيل مصالحهم وغاياتهم، وكان القيصر من أصحاب الشخصيات المزدوجة، فإن في فؤاده ناحية من الخير، يقابله في الناحية الأخرى الشر كله، وقد قال أحد أقاربه أن الرأي الأول الذي يخطر للقيصر طيب صالح، ولكنه قد ينفذ الرأي الثاني، وهو عند الناس جميعاً أصلح من الأول، وإن كان عند القيصر أسوأ وأدل على الفطرة الشريرة. ولعل أسوأ ما يقال عن القيصر نيقولا الثاني أنه لم يظهر في حياته شيئاً من الشخصية، بل كانت حياته طوال عمره بلا لون، ولم يكن يبدو في طبيعته شيء من الشر في طفولته أو شبابه، ولم تكن له مخاطرات الشباب وشقاواته ومجازفاته، بل كان ضؤولة من الضوؤلات، وكان هادئاً ساكناً كأتفه الأشياء سكوناً بل كان كل ما يتلذذ به ويتلهى في صباه ورجولته وكهولته هو الجلوس ليلاً على ضباط حرسه القيصري، ومحادثتهم والسمر معهم، واحتساء المقادير الكبيرة من الخمر والمشروبات الكحولية ثم يتلو ذلك الغناء والضحك والرقص والمجون. ولم تكن له ملذات غير تلك، ولا ملاهي ولا عادات ولا منازع وأميال، وكانت رياضاته

منتهى البساطة والهدوء، وكان أحب شيء إليه المشي ولم يكن يميل إلى الصيد والقنص أو ركوب الزوارق، وكانت الغابات التي حفظت لصيده في بولونيا ولثوانيا قلما تراه أو تشهده، وكانت الرسوم الإمبراطورية تقضي عليه أن يمكث دهراً في البحرية والجيش، فاشتغل في كليهما، ولكنه لم يكن مع ذلك جندياً ولا بحرياً، وقد يظن الغربيون أن هذا هو الغباء والبلادة بعينها، ولكن القيصر كان في ذلك كبقية أهل الروسيا، ولا سيما الطبقة الراقية المثرية منهم، فهم أكره الناس للرياضات الخطرة التي تطلب إنهاك البدن، وإتعاب الأعصاب، ولعل السبب في ذلك هو جو الروسيا ومناخها فهو لا يعين الناس على طلب الرياضة بل يعيقهم ويصدهم، وقد كان القيصر يشبه أمته في صفة أخرى، وهي نزعة الأوهام والخرافات. فقد كان أهل البلاد قبل ظهور الرجل الغريب راسبوتين يعنون أشد العناية بالأمور الروحانية، وكان الدجالون من جميع الأجناس والأشكال والألوان ينزلون بالقصر كأحب الضيوف، وأكرم النازلين، وأعز الزوار، نذكر من هؤلاء الشقي فيلبس والدكتور باباس، فقد طلب أهل القصر حضورهما من باريس خاصة لاستحضار الأرواح في القصر وإلقاء محاضرات في الإسبرايتيواليزم وقد اهتم القيصر والقيصرة بهذا الموضع إذ حضهما عليه أميرتان من أمراء الجبل الأسود كانتا تقيمان في البلاط الروسي وكانت إحداهما الأميرة ميلتزا التي تزوجت بعد ذلك الغراندوق نيقولا قائد الروس المشهور. وينبغي أن تعلم أن الروس قوم متدينون يضرب بهم المثل في نزعاتهم الدينية واستمساكهم بالخزعبلات والأوهام، والسواد الأعظم من الأهلين فلاحون، يعيشون هدفاً للجهل والخرافة، ولا يشغل أذهانهم إلا أمران، أرضهم والشراب، فهم لا يملون منهما، ولا يبرمون بهما، ولا يشبعون من الأرض ولا يصيبون من الخمر رياً، فهم أعطش الناس إليها، وإن ملأت بها أجوافهم، ولذلك كانت الخمر والخرافة والنزاع إلى تصديق الأوهام كثيراً ما تؤدي بالروس إلى أمور غريبة وطرق عجيبة، وهذا هو منشأت وجود طوائف مختلفة غريبة الأطوار في الروسيا بين متصوفين ونساك ومعذبين لجسومهم في سبيل تطهير أرواحهم، وتشويه أبدانهم، وجذع أنوفهم، وما إلى ذلك من ضروب العذاب، ومنهم خلائق كثيرون يحبسون أنفسهم في دورهم ويطلقون النيران تأكلهم هم وبيوتهم، ومن بين

طوائفهم المتعددة طائفة تسمى فلاجلانت يعذبون أنفسهم ويسومونها أشد الخسف، قاصدين بذلك إبادة جنسهم، وانقراض عنصرهم من الأرض بنة، ومنهم طائفة أخرى تسمى محاربي الأرواح، يعملون على إبادة النسل والأملاك والحرث والضرع وقد أدخلت تعاليم المسيحية منذ زمن غير لبعيد ولكن الكنيسة كانت أشد ويلاً وحرباً عليهم من سواها، فبقيت الأوهام على حالها، بل اشتدت وتفاقمت وكره الروس القساوسة والكهنة ورجال الدين حتى أصبح الاعتقاد بينهم سائداً أن الرجل الذي يلقى قسيساً في الطريق يصيبه الشؤم، ويعاجله النحس، طوال نهاره، والفلاحون يبصقون وراءهم إذا التقوا بالقسس في الطرق تفادياً من الشؤم، ولم يكن معشر الدينيين ورجال الكنيسة يصيبون شيئاً من الاحترام في الروسيا، لا من الطبقة العامة والصعاليك ولا من المهذبين ورؤوس القوم وسادات الشعب. على أن هناك بضعة أفراد من رجال الدين استطاعوا أن يحدثوا تثيراً عظيماً في نفوس القوم، لأنهم كانوا أخوان فضل وقوماً أخياراً، تقاة مخلصين، ومنهم أليادور الذي أثر في قلوب النساء في مقاطعات الفولجا وتبعه منهن ألوف إلى الحج إلى الأماكن المقدسة، وبنى أشياعه كنيسة عظيمة أمنع من الحصن وأمتن جداراً. وهناك جعل يستخف بالسلطات الحكومية والدينية أشد الاستخفاف. وكان راسبوتين شخصاً آخر من الأشخاص الغامضين ذوي التأثير العجيب السحري الرهيب، ولا سيما أنه كان جاهلاً كأفراد الشعب أمياً لا يقرأ ولا يكتب وفلاحاً شريراً لا خير فيه وقد أشاع عنه الناس قصصاً غريبة، ووضعت عنه حكايات خرافية لا يحصيها العد، ولكن أمر الرجل لا يحتاج إلى كل هذه القصص فإنه لم يكن له تأثير إلا على النسوة، أما الرجال فلم يحدث فيهم حدثاً، وكان راسبوتين هذا اسمه معناه في الروسيا (الخليع الإباحي المتهتك) وفقد كان الرجل في الحقيقة كذلك، وقد كان مولده في قرية صغيرة في سيبريا، واشتغل في أول أمره خادماً في دير فتعلم بضع كلمات من الإنجيل واقتطف منه شذرات كان يسمعها من أفواه سكان الدير وساداته. وكانت نساء الطبقات العالية والطبقات الدنيا في الروسيا تعتاد بين الحين والحين زيارة الأديرة الواقعة في أنحاء المملكة، وأما النسوة الصغيرات فكن يسعين إليها على القدام، يستجدين في الطريق ويسألن الحسنات، حتى يبلغن الدير فيقدمن تحفاً وهدايا لزعماء الدير

وأهله، وأما النسوة الغنيات فكن يركبن القطار أو يسافرن في المركبات وينزلن بأفخم الحجرات من الأديرة، فالتقت يوماً سيدة من الأنجم الزهر في الروسيا براسبوتين في ذلك الدير الذي كان خادماً به، فأعجبت به وراق في عينها فاصطحبته في رجعتها إلى موسكو ولم تكد تحتويه تلك المدينة حتى اصبح يختلف إلى أبهى أبهاء القوم ويزور أفخم أسمارهم، وظل يدنو رويداً رويداً من التعرف بأهل البلاط والتردد على أفواههم. ولست بحاجة إلى إعادة القصة التي تحكي عنه وكيف أثر في ذهن الإمبراطورة حتى اعتقدت أنه قادر أن يشفي ابنها الصغير من مرضه ويرد غليها حياته، وينقذ أنفاسه وكانت تتردد على شفتيه وكيبف أصبح راسبوتين فمن الخطورة في البلاط جعل له النفوذ الأكبر في حكومة القيصر، وأثار السخط على تلك الحكومة في نفوس الشعب، وجر عليها الويل والحرب، وكيف كان في الجيش إذ طن أنه من صنائع الألمان فعمل على قتله والتخلص من شره، بل اقتصر على ما لم يذكر في الصحف من التفاصيل الحقيقية عن مقتله. في أواخر سنة 1916 أجمع طائفة من الضباط في بطرغراد على قتل راسبوتين. فجعلوا يقربونه ويتحببون إليه، حتى تمكنوا من دعوته إلى قصر البرنس فيلكس يوزيوف، أحد اقار بالقيصر وأنسبائه من ناحية الزواج، وجاءوا بفتاة من الراقصات تدعى المدموزايل ج. . . لتكون الفخ والطعم للصيد والاحتيال وكان من بين الأضياف الغراندوق ديمتري ابن عم القيصر ونائب مشهور في عالم النواب يدعى بيورشكفتس، فلما اكتمل العقد، وابتدأت المأدبة. راح راسبوتين كعادته يلح على الشراب، ويفرط في احتساء الكؤوس، واشتفاف الأقداح، فلما نتشى وسكر حتى أصبح لا يعي من فرط السكر قدم إليه كأس مسمومة فاجترعها، وانصرفت إذ ذاك الراقصة التي جيء بها لأنها كانت قد أتمت مأموريتها، فلما شربها جعل القوم ينظرون إليه محملقين، منتظرين أنه سيخر ميتاً، فلم يبد عليه شيء من ذلك، ولعل ذلك لأن السم لم يكن فعالاً زعافاً، أو لأنه شرب قبله مقادير كبيرة من الشراب، ولكنه لم يلبث أن اضطرب قدماه، ونهض مترنحاً يريد الباب، فلبث البرنس فليكس وشركاؤه لحظات ينظرون إليه، ثم نهض الأمير بعد ذلك فتبعه وهو معتقد أنه سيراه بعد الباب بخطوات منبسطاً على أرض الحجرة قتيلاً، ولكن لشد ما كانت دهشته إذ رآه واقفاً في الحجرة المداورة تحت أيقونة تمثل صورة المسيح، وهو يكلم أحد خدم القصر، وهو

يلوح كأنه يغالب إرادته ويحاول الاستناد والوقوف على رغم قوته، فرفع الأمير إذ ذاك مسدسه وأطلق الرصاص على صدر الرجل، فخر جثة هامدة، وعادة الأمير وقد اطمأن إذا ذاك ووثق أن المسموم قد قتل، فهرع إلى الحجرة الأخرى وأنبأ أصحابه بالخبر، فنهضوا جميعاً وراحوا يشهدون مصرع راسبوتين، فلم يلبثوا أن دهشوا أعظم الدهشة، إذ رأوا الرجل يزحف على الأرض يريد أن يفارق البيت جهد قوته، فأخرج كل مسدسه وأطلق الجميع الرصاص فأجهزوا عليه ثم حملت الجثة بعد ذلك إلى سيارة بالباب ونقلت إلى أحد ارباض المدينة فطرحت في النهر، حيث أخرجت منه غداة الغد. هذه هي تفاصيل مقتل راسبوتين على حقيقتها كما قصها علي شاهد عيان، ولكن ذيل القصة لا يزال أغرب وأعجب، فقد كان يعتقد براتوبولوف الوزير المجنون الذي أراد أن يجاهد الثورة وكانت تعتقد القيصرة المتهوسة أن موت راسبوتين ولا ريب جالب النحس على الروسيا داك عرشها، ذهاب بريحها، وأما الشعور الذي ثار في أفئدة القتلة فلا يعرف عنه شيئاً، بل أن ما أعرفه هو أنهم في بادئ الأمر ابتهجوا باختفاء هذه الشخصية المفسدة الضالة، ولكن لم تكد تمضي بضعة أشهر حتى بدأ يغلب عليهم الاضطراب وتساروهم الوساوس، ويتلجلج في أذهانهم المريضة أوهام وخرافات، فأما الأميرة الشابة زوجة البرنس فيلكس يوزوبوف فقد قضت أيامها وهي ترسم أشكالاً مبهمة غامضة على الورق وتقول أن يدها تخط على هذى راسبوتين وأنه يمسك بيدها وهي ترسم تلك الأشباح ولم يكن أحد يستطيع أن يزيل من رأسها تلك الفكرة وهي أنها كانت تخط على الورق رسوم أيقونات وصلبان لأن زوجها قتل راسبوتين وكان واقفاً تحت أيقونة بين يدي الله، وتحت حمايته، وكذلك جنت تلك المرأة وتملكتها الاضطرابات العصبية، وأصبحت حزينة حزناً عميقاً لا براءة لها منه ولا شفاء. أما زوجها البرنس فكذلك أصبح مطرق الرأس حزيناً واجماً إذ جعل يتراءى له شبح راسبوتين واقفاً تحت الأيقونة في اللحظة التي قتله فيها، واعتقد أنه ارتكب أمراً أداً، إذ قتل الرجل وهو واقف بين يدي ربه، واليوم أصبح الأطباء يخافون أن يؤدي هذا الوسواس بالأمير إلى الجنون، ويذهب برشده، والق يقال أن الروس قوم من الغموض وغرابة الأطوار بحيث يختلفون كثيراً عن بقية شعوب الغرب، حتى لا يكاد أحد يستطيع إدراك

منه عواطفهم. ولنعد الآن إلى ما كنا فيه من أمر القيصر نيقولا الثاني فقد عاش ذلك القيصر طوال حياته مهدداً بالموت في كل ساعة على أيدي الفوضويين، ففي أيامه الأولى كان على حافة الموت الزؤام هو وأسرته إذ أراد القوم اغتيالهم بتحطيم القطار الذي كان يقلهم وهم عائدون من القرم، وكانت الشرطة لا تفتأ تكتشف المؤمرات تلو المؤامرات، وكانت القيصرة من جراء ذلك لا تستريح إذا ابتعد القيصر عنها طرفة عين. وقد شكا إلي الكثيرون من أصدقائي من كبار موظفي الحكومة في الروسيا ووزرائها من تداخل القيصر في الشؤون الحكومية وقلبه كل نظام يحدثونه، وإفساده كل رأي يرونه، لأنه كان أبداً متقلب الرأي، يصدر الرأي ويمحوه، ويتلبث الفكرة ويعدو عليها فيدفعها، ولذلك لم يستطع وزراءه أن يبقوا على سياسة واحدة أو ينفذوا نظاماً مطرداً، ولم يكن القيصر ضعيف الصحة، بليداً مكسالاً، بل كان دؤوباً مجتهداً، فكان يقضي سحابة نهاره وجزءاً من ليله في قراءة الأوراق الرسمية والتأشير عليها والتوقيع بإمضائه وتدوين ملاحظاته في هوامشها، ولكنه كثيراً ما كان يكتب رأياً على الرسالة، ثم لا يلبث في الصحيفة نفسها أن يضع رأياً مناقضاً للرأي الأول معارضاً مهزئاً، وما ذلك إلا لأنه سمع رأيين مختلفين من جلسائه في تلك اللحظة، من أهل البلاد والحاشية قبل أن ينتهي من تلاوة الرسالة كلها، وزاد في خطر فقدان الشخصية لدى ذلك القيصر، حياة النسك التي كان يحياها، وإخلاده إلى بيته ورعاية أسرته، فهو وإن كان الحاكم المطلق على خمس الكرة الأرضية فقد وظل يعيش كرجل من أوساط الناس حول عشيرته، منكباً على دفتر الحساب، لا فكر ولا ابتكار ولا تأمل ولا نجوى، على أنه ليعز على الرجل العبقري ذي العارضة القوية أن يسوس بنفسه ويحسن السياسة في مملكة شاسعة مترامية الأطراف كتلك الدولة العظيمة المساحة، ولم يكن القيصر يرى غير موظفين وعمال حكومة، وكل منهم يمسك بيده معولاً يريد به أن يهدم ركناً من أركان مملكة القيصر، ولذلك لم تكن بين القيصر والعشب صلة ولا اختلاط وهذه البيئة الوبيلة الفاسدة التي عاش فيها القيصر جعلته أقل الناس اكتراثاً بحقائق الحياة وأبعدهم عن الاحتفال بالأحداث التي تجري في جماهير أمته، فلما حدث ذلك الحادث الذي قتل فيه ألوف من الشعب في يوم التتويج بموسكو، لم يكد يعرف القيصر الأمر الذي حدث،

أو يتبين هول النكبة التي نزلت بالقوم ولما حملوا إليه الأنباء بالمأساة البحرية التي وقعت في بورت آرثر، أيام نشبت الحرب الروسية اليابانية، لم يبن عليه أي تأثير بل استرسل في لعبة التنس وكان من كراهية القيصرة للشعب الروسي ما زاد في هذا النقص وجعل الشعب لا يشعر بشيء من الحب للأسرة المالكة.

روايات البيان

روايات البيان إيزابلا أو قصرية النعناع جون كيتس الشاعر الإنكليزي الكبير من شعراء الطبقة الأولى عاش في أوائل القرن التاسع عشر وتوفي في 1821 عن خمس وعشرين سنة وهو في ريعان الشبيبة وشرخ الصبا. ويلقبه نقاد الشعر الأوروبي (شاعر الجمال) لأنه بينما شغل شعراء هذا العصر الثوري - عصر الثوةر الفرنسية واستبداد نابليون الأول - مسائلا الحياة الكبرى: الحرية والإخاء والمساواة: فخفيت في تذليل هذه المذاهب الوعرة أقلام (بيرون) و (شيلي) و (وردذورث) أعرض الشاعر كيتس عن هذهالأغراض العامة وأقبل على عناصر الجمال المؤلفة للحياة والكون فأخذ يبدع تصويرها بأبرع يراع، وأحذق كف صناع يستخرج كوامنها ويستثير دفائنها، ويقتنص شواردها ويطرق مواردها. كالعين منهومة بالحسن تتبعه ... والأنف يطلب أقصى منتهى الطيب ون آياته البينات هذه القصة الغرامية المنظومة التي فتت بها الأكباد وأذاب بها كل مهجة فؤاد. والتي اقتبسها من قصة نثرية قديمة للكاتب الطلياني بوكاسيو فأفرغها في أبدع قالب من مبانيه، وزانها بالدرر اليتائم من معانيه فجاءت طرفة الأديب وتحفة اللبيب: وها هي: في مدينة فلورنسا من أعمال إيطاليا كان يقطن في العصور الوسطى أخوان في قصر فاخر منيف، وكان لهما ضياع وعقار وثروة جمة وتجارة واسعة، وكانا يكفلان أختاً لهما يتيمة تدعى إيزابلا آية من الجمال، فاستخدما فتى يدعى لورنزو وكيلاً وكاتباً وأقاماه معهما في القصر ببعض حجراته، وكان رشيق القد حلو الطلعة. فشب الغرام بين هذا الفتى وبين إيزابلا ولبث مكتوماً في صدر كل منهما أشهراً والحياء يحول بينهما وبين المجاهرة والتكاشف. لهفي عليكما أيها العاشقان! تبيتان على حسرة الجوى، وتصبحان على حرقة الهوى تجدان في التداني برداً وسلاماً. وفي التباعد بغضة وسقاما، وفي وادي الكرى عناقاً والتزاما، وفي دجى الليل مسيلا للدموع وانسجاما. كلما بزغت الشمس زاد ذلك الحب شغفاً، وكلما غربت تضاعف صبابة وكلفا. فشخصهما

ماثل لعينيه أينما كان، وصوته في أذنها أحلى من صليل الجدول الرنان، وممر النسيم على عذبات الأغصان، ومناغاة الأطيار في الأوكار، وهي إذا عزفت على المزهر فباسمه تنطق الأوتار وتردد، وإذا طرزت على المنسج فباسمه تملأ نسيجها وتفسد. وإذا طرقت الباب علم من الطارقة قبل أن يجلوها على الباب ناظره الظمآن، ومن خلال نافذتها تعرفها عينه من أقصى مدى بأسرع من لمحة الصقر وأوحى من خواطر الأذهان، ويسهر الليل البطيء الكثير الأتراح، ارتقاب أن يسمع وقع قدمها الوثاب في الصباح. بهذا الكمد والأسى مضت أشهر الربيع فطلعت نضرة الصيف على نضرة شبابهما ذابلة، وتجلت بهجة الطبيعة على بهجة جمالهما حائلة، وجعل كل منهما يسر غرامه إلى النجمة الساهرة والنسمة الخاطرة. ويقول هو لوسادته بلسان الدمعة الهامية، والزفرة الحامية لا طلعت عليّ شمس الغداة يا إيزابلا إذا أنا لم أسمع نغمة الغرام من شفتك اللمياء غداً أفوه لإيزابلا بحديث لوعتي، غداً أفض خاتم الكتمان عن مكنون وجدي وحسرتي وما زال ذلك شأنهما حتى أبصر لورنزو إيزابلا وقد علاها البهار مكان الشقيق وزال عن عينيها لألآء الماس وعن شفتيها حمرة العقيق. وعراها هزال الأم الصغيرة الساهرة على رضيعها المريض تسكن آلامه. وتخفف أوجاعه وأسقامه، فقال لورنزو في نفسه ما أسوأ حالها، وما أسرع هزالها ليس لي أن أفاتحها على أني خليق أن أفعل فأبثها قصة صبابتي. إذا كان ما تخفيه الصدور يظهر في أسارير الوجوه فإن صحيفة وجهها لتنم عن أعظم الأنباء. وأفدح الأعباء، فلو أتيح لي أن أرقأ عبرتها وأشرب دمعتها، لكشفت كربها، ومحوت خبطها. كذلك أسر لورنزو في نفسه ذات صباح ولبث سائر يومه قلق الأحشاء خفاق الفؤاد يسأل الله معونة على القول وقدرة على الإفصاح ولكن لسانه بقي أسسيراً في أغلال الهيبة كما بقي قلبه سجيناً في قبضة الطرب. كذلبك أمضى بالأرق والسهاد ليلته كدأبه وديدنه وفطنت إيزابلا إلى سوء حاله فقالت له في اليوم التالي ونار الغرام تضطرم في وجنتيها لورنزو! ثم حبس الحصر لسانها ولكن الفتى قرأ في لمحات لحظها ونبرات لفظها مكنون صدرها. فقال: إيزابلا! أحسب أنه لا بأس عليّ الآن أن أبثك حزني وشجني إذا كنت تؤمنين بشي في هذا الوجود فأيقني أني أحبك وأن شغفي بك قد أشرف بي على الردى. وأنا لا أجرؤ

على لمس يدك الطاهرة مخافة أن تتألم من مس أناملي ولا أكاد أحدق في عينيك خشية أن تنكر ألحاظك ألحاظي تأففاً وضجراً ولكني لا أستطيع البقاء في الدنيا ساعة أخرى ما لم أبح لك بحبي. وهكذا تجرأت شفتاه فامتزجتا بشفتيها في حديث صامت معسول لقد فازا بنعمة الدهر ولذة العمر وشبت بينهما السعادة ناضرة جنية شباب الزهرة الندية في ريعان الربيع. ثم افترقا إلى حين وكأنهما لفرط السرور يطآن أديم الهواء. وكأنهما وردتان توأمتان فرق بينهما النسيم ولكن إلى وشك انعطاف، وسرعة التئام وائتلاف، فما هي إلا برهة ثم تلتقي الوردتان فتنفث كل في فؤاد أختها عبيرها الفياح. وأريجها النفاح. وهكذا مضت لإيزابلا إلى خدرها المصون فأخذت تشدو بأغاريد الغرام والمنى المشرقة. ومضى لورنزو وثاب القدم إلى ربوة مشرفة فاستقبل الغرب والشمس تجنح للمغيب ثم ودع النور وخلا إلى نفسه في حمرة الشفق يتأمل وجه سعادته الأغر. ويتنشق أريج نعيمه العطر. ويرفل في برد أمله القشيب. ويمرح في روض أنسه العشيب. فلما أسفر الصباح هرعا إلى مكان خفي في ألفاف الرياض فتقابلا في غرة البكور من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي في ثغور الأقاح وما زال شأنهما ذلك يلتقيان في البكرة والأصيل في سرادق من الورد والياسمين مستتر من العيون محتجب عن الظنون بعيد عن ألسن الوشاة والرقباء ألا ليت الحال دامت كذلك فلم يصبح حديثهما مرتع المغتاب وملهى السمار ومتعة الأصحاب. أفهل كانا إذ ذاك من الأشقياء؟ كلا. إن قطرة من النعيم في حياة العشاق ترجح بمرارة بحر آلامه الجياش وترد ملوحته عذوبة. وكم ينال منا العشاق غير ذلك من نفحات عطف ورحمة ومواهب رثاء ورقة. كم نرسل عليهم من الدموع والزفرات وكم نقرأ لهم من محزون الأقاصيص مما هو أجدر أن ترقم آياته بإبريز النضار. أجل إن آلام الحب لذيذة ومرارة الحب حلوة. ليس الهوى إلا عذاباً يعذب ... أو ضرباناً في الحشة أو ضرب ومن ثم نرى طوائف النحل التي هي شحاذة الصدقات من موائد الرياض عارفة لهذه الحقيقة بصيرة بهذا السر فهي تفطن إلى ما يكن في الأزاهر السامة من اللذة والحلاوة.

وشاء الله أن علائم الحب وأماراته بدت في وجه الفتى والفتاة لأعين الأخوين صاحبي القصر فأفضى كل منهما بظنونه إلى أخيه فألفى كل في الآخر مصدقاً لتلك الظنون ومحققاً. واستشاطا غضباً أن يكون أجيرهما وخادمهما لأختهما عاشقاً وبودها وحبها ظافراً فائزاً، وهي التي أرادا أن يزوجاها من حسيب نسيب واسع الثروة عريض الجاه. ثم أفضى بهما التشاور والتآمر إلى استدراج لورنزو إلى بعض مغامض الغابات وذبحه هنا. ففي ذات صبحا صحو منير عمدا إليه وكان متكئاً على سياج الحديقة فقالا: أسعد الله صباحك يا لورنزو. أنا في حاجة إليك الساعة. هلم إلى جوادك فاسرجه واركب قبل أن تحتدم شمس الظهيرة. فقد عزمنا أن نسير ثلاثة فراسخ في ناحية الإبينين أسرع يا رعاك الله قبل أن توقد الهاجرة. فانحنى الفتى تحية للسيدين ومضى مسرعاً ليأخذ أهبة السفر. وفي أثناء مسيره إلى ساحة القصر جعل يتلفت لدى كل خطوة عل عينه تظفر بشخص حبيبته المحبوب أو أذنه بصوتها العذب اللذيذ فإنه لكذلك إذ سمع رنين ضحكة حلوة النغمة تهبط عليه من عل فرفع بصره فرأى وجهها المليح يطالعه من خلل الأستار تضيء ملامحه ابتسامة الجذل والسرور. فقال: حبيبتي إيزابلا! كنت أخشى أن أذهب ولا أودعك، ويلي أيتها الحبيبة ماذا يكون من أمري إن فرق الدهر بيننا إذا كانت غيبة ساعة من الزمن تكاد تقتلني حسرة وغماً؟ ولكنا سنأخذ من الليل السخي الكريم أضعاف ما يأخذ منا النهار المجرم الأثيم. وداعاً أيتها الحبيبة وداعاً إلى حين. سأعود بعد بضع ساعات. فردت عليه إيزابلا سلام الوداع ومضى لورنزو وهي تشيعه بلحظها الطماح. وسجعها المطرب الصداح. وكذلك ركب الأخوان وفريستهما وبرحا بلدة فلورنسا إلى حيث نهر الأرنو ينسجم مسيله. ويدوي صليله وتحنو عليه الأدواح وتمسح جبينه الرماح ثم نفذ الثلاثة إلى جوف الغابة وهناك ذبحا الفتى ودفناه وهنالك انقطع تيار حبه الزاخر وخبا كوكب غرامه الزاهر. ثم عادا وأخبرا إيزابلا أن لورنزو أبحر إلى بلد قاص في بعض شؤونهما التجارية وأنها آثراه بهذه الرحلة على غيره لفرط ثقتهما به وتعويلهما عليه. مسكينة إيزابلا! البسي الحداد، والزمي الأرق والسهاد، واستشعري اليأس واطرحي الرجاء، فلن ترين لورنزو ما أظلت الأرض السماء.

كذلك انطلقت إيزابلا إلى حجرتها كاسفة حزينة وظلت تبكي على الأمل الذابل، والنعيم الزائل وتراءى لها شبح لورنزو في الظلماء فأقبلت تناجيه وتعتنق الفضاء وانطرحت على فراشها تنادي واحرباه! أين هو ومن لي بأن أراه! وهكذا بقيت إيزابلا أشهراً تكابد من برحاء الكمد ما تكابد، فأغفت ذات ليلة فرأت فيما يرى النائم أن لورزو ماثل أمامها يبكي وقد شوه القبر جماله، وأطفأ من حسنه رونقه وصقاله. وسلب من صوته الرخيم مزهراً وعوداً. وخد في خده الأسيل للدمع أخدوداً. ثم أن شبح لورنزو إلى الفتاة بعين لهفى مولهة إنسانها غرق يتجلى الحب في سنا بريقها وينفي سحر حلاوتها عوارض الرعب في قلب الغادة. ثم قص الشبح حديث مصرعه بصوت خافت حزين تحس في نبراته وحشة القبور. وأخبر بما صنع به أخواها في مجاهل الغابة تحت سرادق الورق الكثيف وكيف انقضا عليه فطعناه خلسة وغيلة في صمت وسكوت وشقا له لحداً في الثرى الجعد البليل فدفناه وحثوا عليه ثم قال: واعلمي يا شقيقة الروح أن قبري تنبت عليه الأعشاب وتزخرف حواشيه أفانين الزهر والريحان وثمر التوت الأحمر وعليه حجر من الصوان وقد مدت فوقه يد الطبيعة سرادقاً من السرو والصفصاف وشجر أبي الفرو ينثر ورقه الأخضر وثمره الشائك ويغدو إليه سرب من الأنعام يطوف حوله ويحوم. ألا فاسعي إليه يا إيزابلا فاسكبي على ثراه دمعة حرة تبل ظمأي وتندي على كبدي وتضيء ظلمة ضريحي. ما أنا اليوم إلا خيال يا إيزابلا أنتبذ من الأحياء مكاناً منعزلاً بعيداً واقيم منفرداً على أطراف حاشية الحياة. وأتلو الصلاة على صدى أصوات الإنسانية المنحدر إليّ من متالع سيلها الجياش، وطنين قبائل النحل هو ناقوس جنازتي، وهديل الحمام في الأصائل والأسحار. وهذه الأصوات الدنيوية لا تزال تزداد غرابة في أذني وتباعداً عن طبعي وذهني كابتعادك عني في عالم الأحياء. إني أعلم ما كان وما يكون الآن. ولو أن الأرواح يصيبها الجنون لجننت من غوائل الزمان. ومظالم الإنسان. وإني وإن كنت قد نسيت طعم لذات الحياة الأرضية لأشعر الآن بلذة وجودك الهني، وأن صفرة وجهك الحزين تضيء ظلمة قبري الداجية وتدفئ أشلاء رمتي البالية. كأن ملائكة الجنان تزف إلي عروساً من الحور، أجل أن صفرة محياك

تسرني وتفرحني وإن روح جمالك تنبث في روحي وتشيع في فضاء نفس وإني لأحس دبيب الغرام ومسرى الصبابة في نواحي كياني ووجداني وداعاً أيتها الحبيبة وداعاً. ثم أملس الخيال واختفى. وذعرت إيزابلا فهبت من مرقدها مطلع الفجر وقالت: ويلي ثم ويلي! ما هكذا ظننت إن غي الأمر جناية لقد سفكت مدية أخوي أزكى دم وأكرمه أيها الروح الطاهر! لقد نبهت غفلتي وأثرت ظلمتي سأزورك وألثم عينيك وأحييك صباح مساء. ولما مال ميزان النهار خرجت في خفية وخادمة عجوزاً فسارتا حتى بلغتا الغابة وقد سال ذهب الأصيل فولجتا الأجمة وأخذت إيزابلا تجيل بصرها بين الدوح والأعشاب تلتمس علامات القبر كما وصفها لورنزو فلم تك غلا برهة حتى أبصرت حجر الصوان وثمر التوت الأحمر وشجر السرو والصفصاف. فأقبلت إيزابلا على ثرى القبر وشرعت تنبش التراب وتحفر حتى أزالت سقف الضريح ثم نظرت فأبصرت في قرارته جثة هامدة فحدقت إلى ذلك المشهد الأليم ثابتة مكانها لا تحرك ساكناً كأنها ريحانة نبتت على ذلك الضريح. ثم أكبت على الترب تنبش بمديتها وتحفر، وهي في ذلك أشد حرصاً وأنهما كما من البخيل في تحصيل ديناره وما هي إلا هينهة حتى عثرت بقفازه ملوثة مرقوم عليها نقوش وزخارف من صنع كفها فأهوت عليها تقبلها ثم خبأتها في صدرها حيث وقعت موقع الريح المصوحة والزمهرير على تينك الثمرتين اللتين جعلتهما الطبيعة منهلين لشفاه الطفولة وشفاء غليلها. وإسكات عويلها ثم استأنفت الكد والدؤوب لا تفتر ولا تقف إلا ريثما تحسر ذوائبها المنشورة عن وجهها الحزين. وأشفقت عليها العجوز وأقبلت تعينها تحفر الأرض بذراعين مهزولتين وقد انتشرت ضفائرها الشمطاء كالثلج في صميم الشتاء دأبهما ذات ثلاث ساعات حتى خلصا إلى لباب القبر. وبدت لأعينهما الدفينة كأبين ما يكون فهل ترى الفتاة هاجت وماجت وثارت وفارت وأرغت وأزبدت وأبرقت وأرعدت؟ كلا لقد هبطت عليها سكينة الحزن الصامت والوجد الثابت الساكت. وهنا اقتطفت إيزابلا من حديقة الموت تلك الزهرة ال1ذاوية - رأس حبيبها وتالله ما كان ذلك الراس مشوهاً ولا قبيحاً ولكنها هامة راقت حلاوة وشاقت ملاحة في ظلال الموت كما

كانت في ضياء الأرض. وكذلك حملت إيزابلا رأس حبيبها إلى غرفتها حيث أقبلت عليها تهدئ ثائر شعرها بمشط من الذهب. وتبسط ملتوي أهدابها حول مقبرتي عينيها. وتنضح تراب القبر بدموعها الغزيرة. وقضت الساعات الطوال تمشط وتتنهد وتجدد البكاء وتردد. وجاءت بمنديل من الحرير أشبعته بالطيب والغالية فلفت به الهامة المحبوبة وجعلت قبرها قصرية زهر حيث دفنتها وغطتها بالتراب ووضعت فوقها بذور نعناع وجعلت من غدران دمعها ريها وسقياها. ثم عكفت عليها ونسيت في سبيلها الحياة ومعانيها. والدنيا ومناحيها ونسيت الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم والروض والنهر والشجر والغدير والصبا والجنوب فلم تدر متى بزغت الشمس ومتى توارت بالحجاب ولكنها أكبت على نعناعتها الحلوة صباح مساء في سكينة وهدوء تمطرها دموعها الغزار وتروحها بأنفاسها الحرار. وكذلك شبت النعناعة وزكت ملتفة خضراء. ناضرة حسناء وفاح لها نسيم طيب أذكى وأعبق من نفحات نظائرها وأمثالها مما يزين قصور المدينة وخمائلها ولا بدع إذ كان غذائها لوعة القلب الحزين، ومادة الحياة من ذرات الراس الدفين. كذلك برزت من حجابها روح تلك الجوهرة المكنونة والذخيرة المدفونة فبدت للعيان زاهية خضراء ملتفة الورق عبقة الأريج. ألا قفي برهة على هذا المشهد الأليم يا أسراب الهوام ويا طوائف الأحزان فاطرقي أسفاً وذوبي حسرة ولهفاً. ويا نغمات الموسيقى الرخيم اسجعي جزعاً وكمدا. واهتفي ولوعاً ووجدا! ويا صدى عالم الأرواح ثر من مكامنك الخفية فأرسل زفرات العناء وأنفاس الصعداء ويا ساكني القبور ارفعوا الرؤوس وابتسموا استبشاراً فعما قريب تنزل بينكم إيزابلا إنها لتزوي وتذبل كالغصن الرطيب قصفه الزهار للعطر والطيب. وراقب الأخوان إدمانها البكاء لا يجف لها جفن ولا ترقأ لها عبرة. وكم من خبيث من بين قومها متطلع متجسس أخذ يعجب لذلتها وانكسارها وكيف ظلت تبدد بيد الحزن كنوز جمالها وتضحي على مذبح الكمد قربان حسنها وأنها لجديرة أن تكون زوجة أشرف سري وأثرى غني.

وأعجب ما أدهش الأخوين عكوفها على قصرية النعناع كاسفة البال سيئة الحال. واخضرار تلك الريحانة ورفيف ورقها والتفافه كأنما يمسه ساحر بعصاه. أو يقوم نفر من الجن بريه وسقياه. أجل لقد أفرط عجب الأخوين لهذا الأمر الغريب وتساءلا ماذا عسى أن يكون. وقال أحدهما للآخر: لا والله إن لهذه القصرية لنبأ وشأنا. ولولا أن هذه الريحانة تنطوي على سر كميت لما كان لها كل هذا الأثر في نفس إيزابلا ولا استطاعت أن تصرفها عن شؤون الحياة كلها. وتنسيها الدنيا بأسرها. وتستلها من محاسن جمالها وشبيبتها. وتبتزها من مباهج متاعها ولذتها. بل تنسيها حبيبها وسيرته وعهد غرامه وذكرته. فأخدا يرصدان غفلة عينها عن ريحانتها ليسجليا غامض شأنها وقصتها وأدمنا الرقبة ولكن دون جدوى. وكيف والفتاة أبداً على الريحانة عاكفة. وغيوث عبرتها لا تنفك وكفة فهي لا تخرج إلى متنزه ولا تسير إلى متنسك ولا تسعى إلى ملهى أو مقصف. ولا تذهب إلى معهد أو متحف. فإذا قامت إلى أمس حاجاتها عادت إلىالريحانة بأسرع مما تنقلب الحمامة إلى صغارها فتلزم جانب القصرية لزوم الدجاجة بيضها ثم لا تزال تبكي على ذخيرتها المدفونة وتسرق الدمع في فروج شعرها. ولكنهما استطاعا مع ذلك كله أن يسرقا القصرية ويفحصاها في مكان مستور وكذلك بدت لأعينهما الدفينة الشنعاء كأبشع ما لاح لعين مخلوق وبالرغم من عبث البلى بتلك النبيشة وعيث الفساد وعفاء تلك المعالم وانطماس هاتيك المعارف أيقنا أنها رأس لورنزو. فلما وقع في أيديهما أثر جريمتهما وعنوان جنايتهما غادرا مدينة فلورنسا في طرفة عين إلى حيث لم يعودا آخر الدهر. أجل. فر المجرمان إلى منفاهما وفي عنقيهما دم الجريمة. أسراب الهموم وطوائف الأحزان! أزوى وجوهك عن هذا المشهد الأليم! ويا نغمات الموسيقى الرخيم اسجعي جزعاً وكمدا واهتفي ولوعاً ووجدا. ويا صدى عالم الأرواح ثر من مكامنك الخفية فأرسل زفرات العناء وأنفاس الصعداء ويا ملائكة الحزن والأسى نوحي واندبي سجناً على إيزابلا. فقد أصبحت هامة اليوم أو غد، ستموت أحزن ميتة وأكمدها إذ سلبها أخواها آخر أرماق الحياة وفصما آخر عروة كانت تربطها بهذا الوجود - قصرية النعناع.

لد ظلت الفتاة حيرى مولهة بعد فقدانها الريحانة تسأل عن نعناعتها المحبوبة وربما أخذت تبكي وفي أوتار صوتها المبحوح نغمة حزن رخيم. ويا طالما ساءلت السائح الجوال عن نعناعتها هل رآها في بعض رحلاته. أو سمع عنها في غدواته وروحاته. وتصيح قائلة لماذا أخفوها عني وخبأوها. واحسرتي ووالهفي أن أبحث عن نعناعتي فلا أراها. كذلك مرضت الفتاة وضنيت وذابت وهي تسائل عن نعناعتها إلى آخر لحظات الحياة. فلم يبق قلب في مدينة فلورنسا إلا تفتت حزناً ولا مقلة إلا سالت عليها رحمة وشجناً. وذاع بين الناس لحن عن هذه القصة الحزينة رددته الألسن والشفاه. وما برح للآن يتناقله المحدثون والرواة. وما هو إلا كلمة الفتاة إيزابلا تقول: واحسرتي ووالهفي أن أبحث عن نعناعتي فلا أراها!. الأماني الأربع قصة فكهة ذات مغزى من مختارات تواليف القصصية الطائرة الصيت شارلوت برونتيه ذات مساء قر في شهر ديسمبر إذ كنت لا أزال عاملاً أشتغل لأظفر بأجر اليوم. وجزاء عمل النهار، وإن لم أكن في ذلك اليوم خلواً من تلك المطامع التي تثور في قلوب الشبان رغباً في المجد وطلاباً للشهرة، ونزوعاً إلى نوال الذورة العالية، ووصولاً إلى ربوة العظمة، جلست وحيداً بقرب موقدتي في كسر عشي الصغير أحلم أحلام المستقبل، واسرح في ملكوت الله. وأتلهى بالخيالات الغريبة، والأوهام الموحشة المسرفة المتغالية، وقد مرت بذهني ألوف من الأماني. وجالت في خواطري مئات من العلالات حتى لا تكاد تذهب أمنية حتى تعقبها أخت لها أغرب منها، ولا تني تترادف الأحلام أثر الأحلام. وإني لكذلك أشيد قصوراً في الهواء وأبتني مغاني وقلاعاً في الفضاء إذ سمعت بغتة حولي حمحمة صوت غريب فأجفلت مذعوراً ورفعت رأسي أتبين مصدر ذلك الصوت فلم تأخذ عيني شيئاً فظننت أنها وهم اعتراني. فعدت إلى ما كنت فيه من تأمل وحلم ولكني لم ألبث أن سمعت ذلك الصوت ثانية فرفعت رأسي مرة أخرى وإذ ذاك تولاني الرعب الشديد إذ أبصرت في المقعد الذي إزائي بدن رجل صغير ضئيل في أثواب خضر سندسية، تعم

جميع بدنه، فتمالكت نفسي واستعدت جأشي واجترأت على أن أسأله كيف جسر على أن يدخل بيتي بلا إذن مني، وكيف كان سبيله إلى مقعده والأمر الذي جاء من أجله. فأجاب الرجل بصوت ضعيف مرتعش إني من الجان ولكن لا تخف شيئاً فإني لا أردي بك سوءاً. بل بالعكس أردت أن أمنحك أماني أربعاً. على شرط أن تطلبها على فترات من الزمن. وفي أوقات متفرقة مختلفة. فإذا ألفيت الأمنية لا تتفق وما كنت مرتقباً منها. ووجدت أنها ليست كما كنت تبتغي قبل تحقيقها. فلك أن تطرحها جانباً قبل أن تطلب غيرها. فلما أتم كلامه أعطاني خاتماً وقال لي أن السر الذي في هذا الخاتم كفيل بتحقيق ما أشتهي. فشكرت له منحته وسألته كيف السبيل إلى الاستغناء عن الخاتم إن ظفرت بالأماني الأربع. فأجابني قائلاً: تعال وهو في إصبعك في منتصف الليل إلى الوادي البعيد عن بيتك هذا وسترى أن ستتخلص إذ ذاك منه. فلما انتهى من هذه الألفاظ اختفى بغتة، وتركني لا أكاد اصدق ما شاهدته بعيني رأسي. على أنني لم ألبث أن تبينت الحقيقة إذ أبصرت الخاتم الأخضر يبرق في إصبعي. فلما تولى عني الرعب وهذا الروع. جعلت أفكر فيما ينبغي أن تكون الأمنية الأولى. فبعد لأي ولمعان وتفكير وجدت رغبتي في الجمال تسمو على جميع رغباتي الأخرى فأجمعت ذهني على أنني إذا أصبحت الغداة لا بد أن أجد نفسي في أفتن ألوان الجمال. وأبدع مظاهر الحسن والقسامة والوسامة. فلما هبطت في وادي النوم العميق انطلقت أحلامي الذهبية أتصور مستقبلي وأيامي المقبلة في ظل هذا الجمال الخارق للطبيعة. ولكن صيحة الديك أيقظتني من منامي ونبهتني إلى تنفس الصبح. ومطلع نور النهار. فنهضت فرحاً خفيفاً نشيطاً ووثبت من سريري ونظرت غير مصدق إلى المرآة المعلقة فوق جدار بيتي الصغير لأتبين هل تغير وجهي منذ العشية أم لا يزال على دمامته الأولى. على أنني لن أنسى في حياتي مطلقاً هزة السرور التي هزت أعضائي إذ رأيت وجهي الجديد وملامحي الطريفة. وهناك وقفت أتراءى في المرآة أهيف القد مشذب العود جميل المحيا، كشجرة الصفصاف أو سرحة الجوز. وقد تناسبت أعضائي فكان منها جمال يبهر الناظرين. وبدت عيناي زرقاوين يسطعان فتنة وسحراً

تحت حاجبين مقوسين كالنون وفي فمي طراوة شنب وعذوبة متبسم وجمال ميسم. وذوائب شعري الأصفر الجميل متراخية على جبيني أنعم ملمساً من العاج وبالجملة لم أر شيئاً في حياتي ولم أسمع بجمال يداني هذه الروعة التي وهبتها في ذلك اليوم. فوقفت مدة أنظر إلى وجهي وأنا في ذهول الإعجاب، وقد طفا على قلبي ظل من السعادة لم أشعر به من قبل. وكان ذلك اليوم يوم أحد. فاشتملت بأثوابي وتجملت بأحسنها وأزهاها وخرجت أريد الكنيسة وكانت الصلاة توشك أن تبتدئ. فلما خطرت بين الصفوف ألتمس مقعدي شهدت العيون محدقة بي والأنظار مستقرة علي من كل صوب فاعتراني من الزهو والخيلاء ما جعلني أمشي مشية المتكبر المعجب بنفسه. وزادت المشية في جلالي وروعة منظري. وكان من بين الذين لم يتركوا النظر إلي اللادي بتريس دوسي وكانت هذه السيدة أرملة اللور دوسي صاحب القرية التي أنا فيها ورب الضياع والمزارع والقصور ومورثها بعد مماته أرملته هذه وتارك هذه النعمة لها. وكانت المرأة عاقراً ولم يكن لها منه بنون أو بنات. وكانت لها الحرية التامة في التزوج بمن تشاء ومتى تختار. وكانت على الرغم من أنها نصف ناهزت الحدود الأولى للشباب. بارعة سليمة وكانت فوق ذلك مشهورة بالسحر. فتمنيت لو أنها مالت إلي وأنا في هذا الجمال الفتان، وتزوجت بي حتى ترفعني من وهدة الفقر إلى أعلى مدارج النعمة والأبهة والترف. تلك كانت خيالات نفسي ومطامح روحي. وأنا أمشي الخطى عائداً على داري. وفي المساء عدت إلى الكنيسة وهناك عادت الأرملة تخصني بنظراتها وابتساماتها ورنوات الإعجاب من ناظريها وأخيراً زالت شكوكي وتبدلت مخاوفي إذ دنت إلى بعد انتهاء الصلاة، وهمست إلي تقول: تعال إلى منزلي غداً في الساعة الرابعة. فلم أجب إلا بانحناءة من رأسي. وأسرعت قافلاً أدراجي إلى منزلي. فلما كان الغد وحل الموعد ارتديت بأفخر ما لدي من ثياب ووضعت زهرة جميلة في معطفي وأسرعت أريد دارها في الموعد المضروب. فلما دخلت بستان ذلك المغنى التقيت عنده بحاجب استوقفني والتمست إلي أن أتبعه فأطعت، ومشينا بين صفوف الأزاهر حتى دانينا خميلة جميلة من الأعراش والأغصان جلست فيها السيدة مفكرة سارحة، وقد ارتدت برداء من أفخر الحرير الأبيض مزركش

أنيق فخم راع، وقد غطت كتفيها بشال هندي ثمين، فلما أقلت نحوها نهضت محيية فرددت على التحية بأحسن منها، وجلسنا وذهب الخادم في وجهه وابتدأت المفاوضات فوهبتني يدها وقلبها، فتقبلتهما بأحسن القبول. وبعد أسابيع ثلاثة تزوجنا وزففنا في الكنيسة بتصريح خصوصي بين التهليل والفرح، وأقيمت الأعراس لبهجة أهل القرية، وأولمت الولائم وظلت الأفراح أياماً. وكذلك دخلت الآن في دور جديد من الحياة، وكل ما وقع بصري عليه أضحى ينم عن الجمال والثراء والعظمة والفخامة وكل طعام جلست إليه أصبح طعاماً غنياً بهيجاً غالياً، ويطفر من فرح، لأني أصبحت أرى نفسي مالك كل هذه النعمة، وصاحب جميع هذا الخير. وطفقت أمام الخدم وهم في الحلل الغالية، والمظهر السني وهم حافون من حولي صافون أمامي أعاملهم بكل احترام، إذ راعني منهم أدبهم العالي ومظهرهم الأنيق. وقد أصبحت حولي جموع كثيرة من الزوار، وفي كل يوم يقبل للتشريف طائفة كبيرة من المقربين والصحب والخلطاء، وقد جعلت أصرف زمني كله في جميع ضروب اللهو، فمن مراقص متألقة، على محافل حافلة، وبين مآدب فخمة تقام في كل يوم في القصر ابتهاجاً بالعرس، واحتفالاً بالزواج، وبين عشي تصدح فيها الموسيقى، ويقام فيها الرقص، وتهتز فيها الأعطاف، وبين نزهات في الخلاء فوق ظهور الصافنات الجياد، إلى مقانص صيد في البراري والغابات. ولكن على الرغم من كل هذا لم أكن سعيداً، ولم أستشعر الهناء، فقد كانت الحجرات عديدة حتى لقد تهت في بيتي، وضللت طريقي في منزلي، وكثيراً ما عانيت المشقة الكبرى في سبيل العثور على حجرت الخاصة، ومنامتي المعتزلة، وأنشأ زوارنا الأماجد يحتقرونني ويستزرون بي ويستخفون بآدابي المضحكة وهيئتي الغريبة واضطررت إلى احتمال أمر الضحكات وأشنع النكات والدعابات والسخريات من أفواه النبلاء وشفاه الشرفاء، وأصبح خدمي يهينونني بكل قحة، ويعاملونني بكل استخفاف وبذاء، وبدأت أخيراً معاملة زوجتي تظهر بأجلى مظهر في شكل المستهتر المستخف المحتقر، وأصبحت غيرى في أشد حالات الغيرة، ولا تكاد تحتمل أن أفارق نظرها لحظة واحدة، ولا أزيدكم قولاً بل لتعلم أنه لم تكد

تمضي أشهر ثلاثة حتى وددت لو أنني انفصلت منها وعدت إلى سيرتي الأولى عاملاً بسيطاً خشناً فقيراً يصيب رزقه يوماً فيوماً. ولم يلبث أن تحقق ما كنت أتمنى، وتم هذا الانفصال الذي وددت، وغليك الحادثة التي ساقت إلي ذلك: في مأدبة من المآدب التي أقمناها في القصر، كان بين المدعوين سيدة شابة في ربيع العمر تسمى سيسليا، وقد أصابت حظاً وافراً من الجمال في أبدع ملامح، وأوسم وجه رأيته في حياتي، وكانت رقيقة الحاشية، عذبة المحضر، تأسر الفؤاد رقتها، ويسحر الألباب خلقها، طاهرة من تلك الغطرسة وذلك الكبر، وتلك الخيلاء التي كانت تغضبني من غيرها من أصحابنا الشرفاء، فإذا أنا قلت كلمة تافهة، أو خرجت يوماً عن الآداب النبيلة، أو أحدثت أمراً أداً في نظر هؤلاء النبلاء الغطاريف، فلا تظهر أمامي شيء من السخرية أو التضاحك احتقاراً لي، واستخفافاً بأمري، بل تهمس في أذني ما كان ينبغي أن أفعل وتعلمين كيف السبيل إلى اجتناب الشذوذ عن آداب السادة. فلما انتثر عقد الجميع، وانتهت المأدبة، وغادرت تلك السيدة القصر قلت لزوجتي على سبيل الملاحظة: يا لله ما أرق الآنسة سيسليا وما أعذبها محضراً والينها عريكة. فأجابت زوجتي وقد احمر وجهها وتصاعد الدم إلى محياها: نعم كل امرأة تستطيع أن تعجبك إلا أنا، ولا تحسبن أنك مخادعي أو مراوغي، فقد رأيتك تضحك وتتحدث إليها طول الوقت، أيها المخلوق الوضيع الزري المنبت الذي رفعته من وهدة الخمول إلى منصة المجد والجلال، ثم لم يغرك هذا بأن تحمل لي شيئاً من التقدير الجميل والمعرفة بالصنيع، ولكني سأنتقم منك وأصيل الثأر. قالت ذلك وغادرتني أفكر فيما عسى أن يكون هذا الثأر فلما أمسى المساء وأويت إلى المضجع، لم يغمض لي جفن، ولم يأخذ النوم لي عيناً، ولم ألبث أن سمعت فجأة وقع أقدام خارج باب الحجرة، فتولاني الرعب وتملكتني الدهشة، فنهضت وفتحت الباب بكل هدوء. وناهيك عن الدهشة الكبرى التي ثارت بفؤادي إذا أبصرت شبح زوجتي وهي تنسل في خفية وخفوت أمامي والمشعل في يدها، فتعجبت وزادت حيرتي ولم أعلم السبب الذي بعثها أن تمشي في حجرات القصر في جنح الليل، فتبعتها في رفق، وأنا أحاذر وأجتهد أن تقع مواقع قدمي منسجمة مع مواقع قدميها.

فبعد أن تنقلت بين معاطف ودروب القصر لم أشهدها من قبل هبطت وأنا في آثارها سلماً هاوية حتى بلغت الطابق الذي دون أقبية الخمر ومخازن الفحم في الدار إلى أن دخلت إلى قبة رطبة تحت الأرض، وثمت وقفت ووضعت المشعل جانباً، وانزويت أنا في ركن أتخفى وأتسمع. وإذ ذاك تذكرت ما كنت أسمع عنها من أنها تتصل بالسحرة وتدرك أفانين السحر، فجمد الدم في عروقي، وذهبت نفسي شعاعاً، ورأيتها في تلك اللحظة قد جثمت فوق أديم الأرض وفتحت ذراعيها وجعلت تتمتم ألفاظاً لم أسمعها بصوت أجش غريب وإذا بلهب من النيران قد انشقت عنها الأرض، وتصاعدت سحب من الدخان كثيفة ولم يلبث أن بدد السكون السائد صوت عظيم هز أساس الدار وللحال رأيت ستة أشباح سود تخرج من الظلمات تحمل محفة من محفات الموتى وأبصرت فوقها كما رأيتها الليلة الماضية في ثوبها الدمقسي الجميل، وفي ريشها الناعم الأشهب، سيسليا بعينها، وكانت مغمضة الجفن، وقد سكنت أهدابها عن الحركة فوق خد ذابل ووجنة صفراء، وهي جامدة لا تحرك ساكناً. فلم أستطع قبالة هذا المنظر المخيف والمشهد الفاجع أن أمسك نفسي عن الصراخ، ووثبت من مكمني، ورأتني زوجتي فطفرت من جثومها واندفعت صوبي وصرخت في وجهي: أيها الوغد ماذا جاء بك على هذا المكان وأية لعنة ساقتك إليه. وما كادت تتم هذه الكلم حتى همت بعنقي وأرادت خنقي فتململت وأردت الخلاص ومن قبضة يدها، فما أفلحت، وكانت حياتي تندفع من عنقي، وروحي تجري مصعدة إلى نحري، ولكنها لم تلبث فجأة أن تراخت يداها وسقطت إلى الأرض مغشياً عليها. فلما صحوت من غشيتي رأيت على هدي المشعل قزماً صغيراً في ثوبه السندسي يخطو فوق جثتها وهو يحمل سيفاً يلوح به في الهواء وللحال تبينت من وجهه صاحبي الجني الذي وهبني الخاتم منذ ستة أشهر منصرمة، وعلمت إذ ذاك أنه طعن زوجتي بسيفه وبذلك خلصني من مخالبها في اللحظة التي كانت حياتي معلقة بها. فبعد أن حمدته أجمل الحمد سألته أن يدلني على السبيل التي نتخلص بها من جثة المرأة. فأجاب: دع ذلك. والآن وقد كاد الصباح ينبثق من صميم الفجر لا بد لي من الانصراف، نبئني هل تريد أن تعود إلى حياتك الماضية ولون عيشك الأول، وترد إلى الدنيا رجلاً

عاملاً أميناً دؤوباً مرتاح البال، هانئ النفس، وتحرم من نعمة الجمال الذي لم تظفر منه إلا بالوبال والآلام، أم هل تريد أن تبقى عليها وتجمد ألا نبئني بالقول الفصل وأوجز، فإنني أريد أن أعجل بالذهاب!. قلت بلا تردد: بل أعدني إلى مرتبتي الأولى، وحياتي السابقة. ولم تكد تخرج هذه الألفاظ من فمي حتى وجدتني واقفاً وحدي أمام باب كوخي، كما كنت أشعث أغبر، لم تبق في وجهه مسحة من ذلك الجمال الفتان الذي أنعم علبه من قبل. فألقي نظرة طويلة حرى إلى قصر الأيزو وهو يلوح لناظري عن كثب، فمشيت مطرق الرأس إلى كوخي فدخلته. ومضى يومان، وإني لجالس إلى طعام الإفطار، إذ دخل علي جار لي من أهل القرية فسألني أين كنت منذ نصف عام، وفي أي أرض الله تقلبت، فلم أجد لي سبيلاً غير المخادعة والكذب، فنبأته أنني كنت في زورة ريب من عشيرتي في بلد بعيد ومنزل قصي، فصدق الرجل الحديث ورحت أسأله عن أحوال القرية وما جرى فيها منذ أن غبت عن أهلها. قال: اسمع حديثاً عجيباً وقصة فكهة إنك غبت من هنا وتزوجت الأميرة دوسي بأجمل فتيان الدنيا الذين ظهروا في العالم فتى لم يعرف أحد من أي مكان هبط، ولا أي منشأ نشأ، وحسبه القوم رسولاً من عالم الجان هبط في بدن إنسان، ومنذ أربعة أيام فقط، اختفى القوم جميعاً، أي الأميرة دوسي وزوجها وابنة اللورد ستاندرن التي تدعى سيسليا، وأعجب ما في أمرهم أنهم اختفوا في ليلة واحدة، ولم يسمع أحد بنبئهم، ولم ندر ما خطبهم، بعدما اشتدت الشرطة في البحث، وتعقبت الآثار، واستقصت الأثر من جميع وجوهه، وقد جاء ليلة أمس شقيق الأميرة، فاستحوذ على الضيعة وأخذ بضبع الثروة، وهو يحاول اليوم أن يرقد ما استثار من أنباء القوم ويرسل الأستار حول الحادث. فبعثني هذا الحديث على الاطمئنان، إذ علمت منه أن أهل القرية لم يختلج في قلوبهم الشك من ناحيته، ولم يدروا أنني كنت زوج تلك الأميرة. على أنني تذكرت بعد ذلك أنه لا تزال لي أماني ثلاث فأخلدت إلى التفكير أياماً، واعتزلت لي مكاناً ألتمس فيه استنزال الوحي أستهديه فيما ينبغي أن أشتهي، ويصح أن أطلب، بعد

أن رأيت غرور أمنيتي الأولىـ، وباطل ما ابتغيت من قبل، فقر قراري على (الذكاء الفائق والخارق للعادة) وما كنت أفعل حتى أحسست انبثاق روح جديدة في جميع جثماني، ومهب خواطر آية في الذكاء، وبدأ منذ ذلك اليوم كل شيء يتراءى لي في لون جديد، ومظهر طريف وجال بذهني الخواطر العالية، وتزاحمت الفكر الحسان، وحالت السوانح الروائع بصدري. وقد حدث ذات يوم، بعد هذه النعمة بأيام قلائل أن أرسلني جار لنا من أهل القرية يدعى تندرتن إلى السوق لأبتاع له عدة أواني من الخزف والزجاج، فلما أتممت الشراء، وانتهيت من الصفقة، ووضعت الأواني في صندوق، ولففتها في القش، واحتقبت الصندوق وعدت أدراجي إلى القرية، ولكني لم أكد ألم على منتصف الطريق، حتى أدركني الليل، وكانت الليلة غائمة، والقمر فيها محاقاً، والظلمة حالكة، والمطر منهمراً، فانطلقت إلى حان ثمت في الطريق لأصطلي من نارهن وأستدفئ من شرابه. ففتحت باب الحان وزاغ مني البصر على مستهل الأنوار، فلمحت في جوانب الحجرة بضعة أصدقاء ومعارف من أهل قريتنا، فجلست إلى شراب حار، ومصطلى عذب يرد الروح في الجثمان، وبعد أن وضعت صندوق الزجاج جانباً، فوق أديم الحجرة واخترت مقعدي بين القوم، وكانوا يتجاذبون أطراف حديث طويل، ومناقشة حارة في أي الحكومتين خير وأبقى، الملكية أم الجمهورية، وكان الزعيم المفوه الذي كان يدعو إلى الجمهورية ويمتدحها وينسب لها الخير كله دون أختها الملكية، بوب سيلفستر، من سكان قريتنا، حداد يشتغل بصهر المعادن وسبكها، وكان من أبلغ من عرفت لساناً، وأفصح مقولاً وأبرع مذوداً، وكان بهذه الموهبة فخوراً وبنعمة الفصاحة مزهواً، ولكنني لم ألبث بفضل ما أوتيت من الحكمة (والذكاء الخارق للعادة) أن أسكته وألقمته حجراً، وبززته في حججه، وركمت دعاواه، وفزت بالمجلس دونه، حتى دوى لي التصفيق من الجانبين، وعلا الهتاف بين أعضاء الحزبين. وكان بوب هذا رجلاً، حاد المزاج، سريع الغضب لا يرضى أن يسكن إلى هزيمة أو يؤوب مذعناً إلى اندحار، ولذلك نهض وطلب إلي الملاكمة وسألني أن أنزل إليه في مجالدة، فما وسعني إلا القبول خوفاً من الفضيحة، وبدأ القتال واشتد النزال، فلكمني عدة

لكمات واندفع علي كالسهم ورماني بلكمة عظيمة من يده اليسرى، فتعثرت وسقطت لا أعي شيئاً مما حولي بل آخر ما تذكرت من هذا المشهد أنني سمعت صوت زجاج منكسر. فلما أفقت من الغشية، وجدتني نائماً في فراشي في كوخي، جريحاً مرضوضاً دامياً، وعلمت إذ ذاك أن صندوق الأواني تكسر، وتحطم الزجاج والخزف، وأن الرجل صاحبها وكان من البخلاء الماديين قد رفع علي قضية يطالبني بالثمن والتعويض وكانت تلك مصيبة أشد من الجراح إيلاماً. فلما استطعت النهوض من الفراش، أجمعت النية على أن أطرح هذا الخاتم اللعين في الوادي الذي وصفه الجني، بعد أن رأيت منه الويل، ولم أظفر منه إلا بسوء المنقلب، وقنعت بأن أعيش عاملاً فقيراً، ليس أهنأ له وأبهج لنفسه من أن يجلس إلى عشاء اكتسب ثمنه بعرق الجبين. . انتهت

روح الإسلام

روح الإسلام ما كدنا ننشر في العدد الماضي ذلك البحث الممتع الذي وضعه عالم من علماء الغرب فأدلى فيه برأي عدل مكين، في هذا الدين الحنيف المتين، حتى استحثنا القراء على الاسترسال في نشر كثير من هذه الأبحاث. والإفاضة نقل ما كتب في لغاب الفرنجة عن الإسلام والانتصار له والنضح عنه ولذلك قد أخذنا على أنفسنا وأجمعنا النية، ورسمنا الخطة على أن ننقل للناس أمهات الأبحاث الإسلامية ونزهي إلى العالم الإسلامي أبدع ما كتب المنصفون عنه وخير ما نشر الكتاب العدول في فضله وإظهار محاسنه بعد أن رأينا الملاحدة والمستهينيين بالعقيدة، والمستخفين بالإيمان، والكافرين، عمي البصائر، الذين على قلوبهم أكنة، وفي لأفئدتهم مرض، وقد ملأوا هذه الحياة، وراحوا يرسلون أنفاس الكفر بين الشبان، ويظهرون كفرهم واستخفافهم وتخلخل عقائدهم في المجامع والكتب، والأحاديث والمحافل، جهراً وعلانية، ويعيشون عليها سراً وكتماناً، حتى أصبح المؤمنون في خشية من أتن يغلب الكفر الإيمان، في عصر غلبت فيه المادة الروح وسادت مبادئ العقل على مبادئ القلب، وجعل عداد الذين يسلكون أنفسهم في صفوف الملاحدة وأنصار الملاحدة من الزائغين والمستهينين يتكاثر يزداد كل صباح، ويحشد حشده في كل مغيب. واليوم لم نجد في جميع الأبحاث والتواليف التي أنصف فيها الكتاب ديننا الحنيف ورسالة محمد سيد الدنيا قاطبة، ورسول الله إلى الناس كافة، كتاباً أحق أن نبتدئ به، وأقمن أن نصدره في رأس هذه النية التي انتويناها ونفتتح به هذه العزيمة التي اعتزمناها، من ذلك الكتاب الممتع العجيب الذي وضعه رجل من كبار رجال الدنيا وأعرف الناس بفضل الإسلام، وأشد الكتاب اضطلاعاً بأسرار الأديان جميعاً، على كثرة ألوانها، وتعدد مذاهبها ونحلها، ألا وهو السير سيد أمير علي صاحب كتاب (روح الإسلام) فلعل هذا الكتاب خير ما أخرج للناس في فضل الإسلام والانتصاف له، والدفاع عنه، وقد وضعه ذلك السيد العظيم بالإنكليزية، فتجلى بين دفتيه استمكانه من أدب اللغة، وإلمامه الواسع بأسرارها، ولم نعرف رجلاً مثله كتب في الإنكليزية بتلك البلاغة التي كتب بها وصدع برأي يداني رأيه. والكتاب قسمان. خص السيد القسم الأول منه بتاريخ الإسلام وظهوره وما كان من غزوات النبي وأعمال صحاب الشريعة، وجعل الثاني وقفاً على الدفاع عن قضية الإسلام بين الأديان، وشرح مبادئه والتبسط في إظهار فضل سننه، وكشف الحجاب عن الأمثلة العليا

فيه، والاستفاضة في بيان آدابه وروح تعاليمه والغرض الإلهي منها والمقاصد السامية التي ضمنها كتابه. وهذا القسم الأخير الذي اعتزمنا أن ننقله بجملته إلى قراء العربية والدانين للإسلام حتى نحارب روح الإلحاد الذي أخذت يتفشى في صفوف المسلمين، ونعده لأمة وسلاحاً نجاهد به الضالين المضلين، وحتى تقوى مشاعر الإيمان، وتتفتح لأسرار سيد الأديان. الفصل الأول الإسلام ومعناه في اللغة العربية - آداب الإسلام ومبادئه الأخلاقية، فكرة الله في جميع أديان العالم - عبادة المسيح - المسيحية الكمالية المتحضرة - الغرض الأول في الإسلام. إن الدين الذي جاء به عيسى يسمى المسيحية، وهذه التسمية مستمدة من تلقيب عيسى بالمسيح، وكذلك دين موسى وبوذا لا يزالات يعرفان باسمي الرجلين اللذين نشراهما في العالم، ووثبا بهما إلى الدنيا، ولكن دين محمد وحده هو الذي استمد من نفسه اسماً خاصاً يعرف به. ولفظ مفرداً ينادي ويدعى في العالم به وهو (الإسلام) ولا تستطيع أن تقدر هذا الدين حق قدره، وتعدل في الحكم له، حتى تفهم الفهم كله المعنى الحقيقي لكلمة (الإسلام) فإن مادة هذا المصدر سلم وما ينفرع عنه تؤدي معان كثيرة، منها سكون النفس وسلامها والوفاء بالواجب وأخيراً الاستسلام والإذعان إلى الله والخضوع له. والاسم منها يؤدي معنى السلام والتحية والأمان والنجاة والخلاص. وليس معناها مقصوراً على الإذعان المطلق لإرادة الله كما وهم الناس، وحسب القوم بل لا تزال تؤدي معنى البحث عن السلام والحق. والأساس الذي قام عليه دين الإسلام ينفرع عن خمسة مبادئ. أولاها الاعتقاد بوحدانية الله وأنه لا يحيط به مكان، ولا يشغل حيزاً وأنه يتجرد عن المادة والتصديق بقوته ورحمته، وإخلاص المرء وجهه وقلبه لحب الخالق عز وجل، والمبدأ الثاني الإحسان والرفق والأخوة العامة بين الناس أجمعين. والمبدأ الثالث قمع الشهوات وقتل شرة النفسي، وإخماد بهيمية الروح والرابع القنوت لله وشكره خالق كل خير. والخامس التصديق بالحساب في حياة وراء هذه الدنيا، وآخرة بعد الأولى، وآجلة لعاجلة، ولعل المبادئ السامية الشماء التي تضمنها القرآن في بسط قوة الله وحبه وعظمته ورحمته لا مثيل لها ولا ضريب في أي

دين آخر من الأديان، ثم لا تزال وحدانيته متجردة عن المادة وجلالة وقدرته ومغفرته ورحمته أنشودة فياضة ثابتة لا نهاية لها ولا ختام ولا حد، تتدفق في آيات وقطع ورسالات من أبلغ آيات البيان وأشدها إثارة للأرواح وهزة للنفوس. ثم لا تزال الروحانية في الحياة وفيضها ونورها مبادئ لا ينتهي الإنسان منها. ولكنك لا تجد في دين الإسلام كله من أوله إلى آخره أثراً من آثار الاستبداد الفكري والسفسطة وتشعب النظريات السفسطائية والمبادئ العقلية، واللجاج والمحاجة والثرثرة، بل لا يزال هذ الدين يمس الروح، وينادي الضمير العميق في الإنسان، ويناجي الفؤاد والوجدان، ويمشي مع الصوت الخارج من حبة القلب، الصادر من سويداء الروح، ولا يسمع إلا لمنطق القلوب معقل الغريزة والفطرة. ولنأخذ الآن في شرح موجزة ونظرة غير مستطيلة إلى الأفكار الدينية التي كان يدين بها شعوب الدنيا لما بدأ نبي الإسلام يدعو دعوته، ويبث رسالته، فقد كانت فكرة الله عند العربي الجاهلي تختلف تبعاً لآداب الفرد أو القبيلة فمنهم من كانت تبلغ فكرة الله عنده إلى حد الإلوهية وطبيعة الإلهع، وآخرون كان يسفون من هذه الناحية فتتردى عقيدتهم في الإلوهية إلى حد عبادة الأوثان، وتنزيل الإلوهية واعتقادها في قطعة من الصخر، أو العصي أو الأخشاب، وكان قوم منهم يعتقدون في حياة أخرى، على حين كان فريق آخرون لا يعلمون عن ذلك شيئاً البتة، وكان أعراب الجاهلية يدينون ويسلمون أنفسهم إلى سلطان الساحرات، أسوة بالفينيقيين، وكان سكنة الصحراء والضاربون في البيداء والعرب العرباء والعادون في المهمة القفر، ولا ريب خلاء قلوبهم من عبادة الله، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا عمياً عن أن يروا ويتخيلوا يداً خفية وراء هذه الرياح الهوج التي تعصف في الصحراء فتغمر الأرض رمالاً تزجيها وترسلها هوجاء، وإن تشاء تردها شمالاً، أو إن تشاء تعيدها نسيماً سجسجاً، وهي التي ترسم تلك الألوان الجميلة الخداعة التي تنهض لأعين القافلة، تستبيهم لموتهم، وتجتذبهم على حر الأوام ولهب الظمأ إلى حتوفهم، وكذلك تعلم أنه كان يجري في العالم الذي يحيط بالعرب فكرة غير محسوسة، ورأي غير ملموس، ولا محقق أو محدود، في أن فوق هذه الأكوان قوة عالية، هي رب الأرباب. ولعل اليهود وهم أولئك المحافظون على فكرة الوحدانية كما لقبهم بذلك التاريخ كانوا الذين أعانوا على تكوين هذه المشاعر، على انهم أنفسهم أظهروا الإعراض والعلل التي تنجم عن

التطورات والانقلابات في آراء أمة من الأمم عندما يعوزهم في شرائعهم الدينية العنصر التاريخي أو القوة العقلية الصحيحة، فقد دخل اليهود شبه جزيرة العرب في أزمان مختلفة وببواعث متعددة، ووراء ظروف متباينة وأنت تعلم أن آراء المهاجرين والطارئين على البلاد والواغلين على أمة من الأمم، والنازلين بمملكة من الممالك، والنازعين إلى بلد من البلدان، يختلفون كثيراً بطبيعة الحال في نزعاتهم، ويتباينون في آرائهم، ولا ريب في أن أفكار الذين فزعوا إلى بلاد العرب من جراء اضطهاد الآشوريين والبابليين كانت أكثر نزوعاً إلى نسبة الإنسانية للإله، وتشبيهه بالإنسان وإطلاق صفات الآدمية عليه، من أولئك الذين هاجروا إلى بلاد العرب قبل عهد فسباسيان وتراجان وهارديان، ولم تكن تلك الصفات التي أدت ببني إسرائيل مراراً إلى النكوص والرجوع إلى عبادة الأوثان في بلادهم ومسقط رؤوسهم من جراء وجود الكهان بين ظهرانيهم، ومشيهم في صفوفهم، تستطيع أن تحميهم من وثنية أخوانهم العرب الذين فزعوا إلى جوارهم وانحدروا للمقام بينهم، بل جعلوا يخلطون مع رب إبراهيم فكرة مادية في الإله ويصورونه تصويراً ملموساً، ويجردون منه الصفات الإلهية المقدسة، فراحوا يعبدون تمثالاً صنعوه ومثلوا فيه إبراهيم وبجانبه الكبش معداً للتضحية والقربان، ووضعوا تمثالهم ذلك داخل الكعبة. ثم هبط المجوس بعدهم فجعلوا يعبدون الشرع ويغالون فيه إلى حد الوثنية ومضى كهانهم ورؤوسهم يطالبونهم باحترام يداني العبودية، واعتقدوا أنهم حراس القوم وحماة الناس، وحفاظ القانون، ورعاة الشرع، ونظروا إلى أنفسهم كأنهم صفوة الأمة وزهرة القبيل وخلاصة الإنسانية وكان الناس من ناحيتهم يعدونهم بعد الله ويحسبون أن بينهم وبين الله حجاباً غير مستور وأنهم على التنبؤ قادرون، وبلغ حب اليهود موسى مبلغاً حتى جعلوا يعظمون اسمه كما يعظمون اسم الله العلي العظيم، ثم خلعوا شيئاً من هذا التعظيم الذي هو أشبه شيء بالعبادة على عزرا، منقذ حياتهم وشريعتهم على عهد الأسرة الكنعانية. فلما أظهر عيسى، لم تجد فكرة وحدانية الله والاعتقاد بأن فوق الكون إرادة عظيمة مسيطرة بقوتها وعظمتها قبولاً وتصديقاً ورضى إلا من شعب واحد وهم عبدة يهوذا بل لم تلبث لديهم كذلك أن ضعفت واختلط جوهرها بما دخل عليها من جراء الامتزاج بالأمم الوثنية، أو ما جاء إليها من الفلاسفة الوثنيين. وكذلك كان الهنود على فرط ما عندهم من آلهة.

وعلى كثرة أربابهم ومعبوداتهم، والمجوس وما كان بينهم من تنازع إلهين على السيادة ومصارعة ربين على السلطان والعبادة، واليونان والرومان والمصريون ومتاحفهم مفعمة بصور الآلهة ودمى الأرباب. وإن كانت آداب تلك الآلهة أحط من آداب الذين كانوا يعبدونه، يوم ظهر عيسى عليه السلام، وكذلك حالة الدنيا المتحضرة يوم بدأ المسيح ينشر تعاليمه، ويدعو إلى الله دعوته، ولقد كان ذهنه على فرط أمانيه الجميلة التي كان يريد تحقيقها في هذا الكون الأرضي، وآماله وعلالات نفسه ومقاصده ومبادئه العالية، خلواً مما نسبه إليه أتباعه من تلك الدعوى الكاذبة التي ألصقوها به إلصاقاً فهو لم يدع أنه روح القدس ولم يقل أنه كان لله ولداً، حتى أن المسيحية الكمالية العصرية في هذا الزمن المهذب، والعهد المتحضر، لم تستطع على اليوم التخلص من تلك الوراثة القديمة والعقيدة المنحدرة إليهم من العهود الماضية، والمزاعم التي ورثوها عن أولئك الذين كانوا يشبهون الله بالناس وينسبون إليه الصفات الآدمية، في الحقب السالفة، وقد مضى الجيل بعد الجيل، وتعاقبت القرون أثر القرون، حتى أخرج الناس كل شيء آدمي إنساني، من تاريخ ذلك النبي العظيم ومحوا منه كل صفة إنسانية أرضية، حتى أضحت شخصيته مختفية وراء حجب وسحائب من الأقاصيص والترهات. وأنت تعلم أن كثيرين من الناس تأبى عليهم أذهانهم القصيرة، وأبصارهم الحسيرة من جراء عجزهم عن الشعور بقرب الله العلي الأسمى، على منال أعينهم ومستشرف أنظارهم، أن يبحثوا عن (محل استراحة) في وسط الطريق بين الله والناس فيخصوا إنساناً بالعبادة، وينادوا به إلهاً، وهذا هو السبب الذي جعل المسيحية الحاضرة تلقب أمراً خيالياً بالألوهية وتكسوه اللحم والعظم وتعبده كأنه إنسان إلهي. ونحن ننكر إنكاراً باتاً أن عيسى ادعى يوماً من اليام أو مرة من المرات أنه ابن الله بالمعنى الذي أوله زعماء المسيحية ورجالاتها وقد أبان الشاعر الأديب النقادة العظيم ماتيو أرنولد أن كتاب العهد الجديد - الإنجيل - لا يصح من كثير من الوجوه الاعتماد عليه. ولئن فرضنا أنه قال تلك العبارة التي نسبت إليه فهل يثبت ذلك أنه ادعى حقاً أنه ابن الله، أو لم يسمع أهل المسيحية بنبأ ذلك (الدرويش الشرقي) المشهور باسم الحلاج الذي ادعى أن الله بذاته وجعل يقول (أنا الحق. . .) فما كان من زعماء المسلمين والمتنطعين في

الدين إلا أن حكموا عليه بالكفر وأهدروا دمه. وكذلك أزاحوا من الأرض مخلوقاً مسكيناً التهب قلبه بنار فكرة غامضة ولا يزال البابي يعتقد أن سيده ومولاه الباب إلى الحياة الأبدية، لم يقتل وإنما رفع إلى السماء بمعجزة، فهل يعقل أن أبا مغيث الحلاج والبابي إذا أسميا نفسيهما الحق والباب كانا يقصدان بهذه التسمية إلى أنهما روحان من الله، ولو أنهما كانا حقاً يعنيان ذلك فهل كان ادعاؤهما ذاك دليلاً وبينة، وحجة وإثباتاًَ، ولكنا نقول كما ذكرنا من قبل أن عيسى - على ما علمنا من مبادئه إذا نحن خلصنا بها نجيا من شوائب أتباعه وما أدخلوه عليها - لم يستخدم أي تعبير يبرر الدعوى التي حاول الناس إلصاقها به، بل أإن فكرته من جهة أبوية الله تشمل الإنسانية جمعاء إذ كان بنو آدم كافة أبناء الله وكان عيسى رسول الله إلى أنبائه، ولذلك نقول أنه قد كان نصب عين المسيحي مثلاً صالحاً، واسوة طيبة، وكان أحق بتعاليم بني الناصرة أن تسمو به وترتفع إلى عقيدة أظهر وفكرة أنقى من ناحية الخالق، ولكن مضت ستة قرون فحاطت شخص سيدنا المسيح بهالات وسحائب وغمائم من الغموض والخرافة كانت على نقيض كلمه التي قال، ودعوته التي دعا، وتعاليمه التي علم، حتى جعلته تلك الخرافات مظهراً لله، وحتى اتخذ الرسول مكان سيده في عبادة الدنيا، أما الجماهير والعوام فلعجزهم عن إدراك هذا المزيج من تعاليم المسيح بما دخل عليها من الشوائب راحوا يعبدون عيسى كأنه رب مجسم وإله في صورة إنسان وعادوا إلى العبادة الأولى الوثنية من احترام الآثاؤر واعتبار مريم العذراء إلاهة، وهكذا نرى أن المسيحيين انحرفوا عن بساطة تعاليم الناصري فأضحت عبادة الصور والقديسين والآثار والأيقونات مختلطة بالدين المسيحي اختلاطاً لا انفصال عنه ولا غناء وعادت العبادات الأولى التي جاء لهدمها والمناقص التي سعى إلى حربها، رويداً رويداً فدخلت في دينه وتكونت منها عقيدة قومه. قبالة هذه الحماقات كلها التي ذكرناها، نهض محمد وجعل نصب عينيه محاربتها وتعفية آثارها، وقام وصوت الحق يتردد في حنايا ضلوعه ووحي الله يملأ شغاف قلبه بين صفين من الناس بين قبائل من العرب عبدة أوثان وصور ودميات، وبين أتباع المسيحية المغشوشة وأهل الموسوية المشوبة، وانبرى سيد البلغاء كما سماه الناس بحق، فلم ينحرف مطلقاً ولم يحد شعرة واحدة عن حدود العقل، فجعلهم جميعاً ندون خجلاً ويستشعرون

الخزي من قبح ما هم فيه وسوء ما يعبدون. وكذلك كان محمد رأس الدعاة إلى وحدانية الله، ينهض في التاريخ خير مجاهد في الله. وأكبر محارب لنكوص الإنسانية على أعقابها تريد أن تجعل مع الله شركاء سبحانه وتعالى عما يصفون. وأنت لا تني تجد في كل قطعة أو سورة من القرآن آيات حارة تلتهب التهاباً. نثبت هنا شيئاً منها - جاء في السورة الثانية: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم - إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون. ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله}. فانظر ما أروع وما أعمق هذه العاطفة التي ينادي بها القرآن أهله إزاء هؤلاء المشركين. وجاء في السورة الثالثة عشرة: {وهو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينشيء السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم لا يجادلون في الله} الآية: ثم انظر آية الكرسي: ثم انظر آية {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة في مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار - نور على نور - يهدي الله لنوره من يشاء} الآية. وكذلك تجد هذا الكتاب القيم مفعماً بهذا الآيات البينات. ينادي أنبل ما في الإنسان من عواطف ويتغلغل إلى لبه وصميمه. ولا تكاد سورة تخلو من آيات بينات تدور حول إظهار عظمة الله ورحمته ووحدانيته. وقد أساء كتاب المسيحية فهم عقيدة المسلمين في ربهم فقالوا أن المسلمين مثلوا ربهم مستبداً طاغية لا رحمة لديه. يلعب بالإنسانية لعب اللاعب بحجارة الشطرنج ويجري الحجارة كيف شاء دون أن يحسب لعذابها حساباًُ فلننظر مكان هذه التهمة من الصحة إن إله الإسلام هو العليم العادل رب العالمين خالق السموات والأرض وهو كذلك الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار وهو كذلك الحليم الغفور الشكور. إلى آخر أسماء الله الحسنى بل إن اتصافه بالرحمة لا تزال نغمة من أجمل نغمات القرآن. بل لا تزال كل سورة من الكتاب تفتتح باسم الله الرحمن الرحيم. . .

تم الفصل الأول الذي هو كالمقدمة لما يليه من سائر الفصول. . انتظروا الأعداد القادمة.

محمد رسول الله

محمد رسول الله رأي شاعر من أكبر شعراء الفرنجة العظيم أعرف الناس بالعظيم. والعظمة متقابلة في العالم متفاهمة. وإن عدا بعضها على بعض. أو مشى بالكراهية عظيم إلى عظيم. أو حقدت عظمة على أخت لها. وقد أدرك كثيرون من أبطال كتاب الفرنجة وفريق من عظمائهم وساداتهم. حق سيد المرسلين - محمد بن عبد الله - من العظمة وجلاله من النبوة. ومكانه من هداة الإنسانية فوثبوا إلى الدنيا بكتب جميلة عنه. وحشدوات الثناء بالخير عليه. ولم يتركوا قطعة من حياته. أو حادثاً من أحداث تاريخه إلا أخذوها بالشرح والتحليل. فانتصفوا له من أولئك الذين عميت بصائرهم فما رأوا جلاله. وأغلقت قلوبهم باكنة فما فقهوا عظمة ولا قدراً. وحسبك ما كان من الفيلسوف توماس كارليل في كتاب الأبطال فقد جاء بالعجب العجاب. وحشد للنبي الثناء المستطاب. وانطلق يفيض بتلك الشاعرية الكارلايلية الثرة الجياشة. ويتبسط في الإنصاف. ويذود عن النبي تهم الجهلاء. ويرفع محمداً صلى الله عليه وسلم إلى منزلته من سادة الكون. وقد كنا لا نعلم أن وراء كارليل، في ناحية أخرى بعيدة شاعراً آخر. كان أبدع من كارلايل هذا وأورع. وهو شاعر ملأ شعره الأسماع ومصور للقلوب والعواطف صناع. ألا وهو الشاعر لامارتين سيد شعراء الفرنسيس وأكبر روائييهم وساستهم وكان النجم المتألق في دولة الشعر والكوكب المزهر في دولة ذلك العصر. فقد قرأنا له في الأيام الأخيرة تاريخاً وضعه عن عظماء الشرق. وافتتحه بسيد المرسلين فمضى فيه على خير ما يمضي المؤرخ العدل والحكم المنصف. وأنت تعلم أن الشاعر قطعة صغيرة من النبي. وأنه نصير من أنصاره. ومزمار من مزاميره ونغمة من نغمه. والشاعر يناجي القلوب والنبي يمس بنبوته ورسالته الأفئدة. على القلوب الإنسانية يجتمع الشاعر والنبي، وأنا النبي فيسكن ناحية منها فلا يخرج منها إلا مع الأنفاس الأخيرة ومحتضر الموت. والشاعر قد ينزل منزلاً أنيقاً من القلوب. ثم لا يني يخرج منها ليحل بعده شاعر أبلغ منه قصيداً، وأحلى منه شعراً وقريضاً. فلا تعجب أن ترى لامارتين قلباً من أكبر قلوب الدنيا. فتجلى عن عظمة ملأت آثارها الأرض. وذاعت في كل ركن من الحياة.

ونحن ننقل القطعة الأخيرة من الكتاب. وهي جماع القول وفصل الخطاب: قال الشاعر لا مارتين: أترون محمداً كان أخا خداع وتدليس، وصاحب باطل ومين، كلا بعد ما وعينا تاريخه، ودرسنا حياته. فإن الخداع والتدليس والباطل والمين كل أولئك من نفاق العقيدة. وليس للنفاق قوة العقيدة. كما أن ليس للكذب قوة الصدق والحق. وإذا كانت قوة الصعود والمرمى في عالم الطبيعة والحركات الآلية هي المقياس الصحيح لقوة المصدر الذي تنفذ منه الرمية، ويظهر في الأفق من القذيفة. فإن العمل والفعل الذي يحدثه المحدث في علم التاريخ، وسجل الخلود. وكتاب الإنسانية هو المقياس الصحيح لمقدار الوحي. وقوة القلب والوجدان والفكرة السامية العالية التي تنفذ إلى مكان بعيد. وتبقى زمناً طويلاً. وتمشي في الحياة أبداً رخياً. وهي ولا ريب فكرة قوية صدرت من جنان قوي ولكي تكون تلك الفكرة قوية ينبغي أن يكون ظاهرها وباطنها الإخلاص وعلمها الأكبر الحق والصدق. وتروح معقولة يقبلها اللب. ويعتمدها الذهن. ولا ريب أن ذلك ينطبق على محمد ورسالته والوحي الذي تنزل عليه فإن حياته وقوة تأمله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته، وجاهلية شعبه، وخزعبلات قبيله، وشهامته وجرأته وبأسه في لقاء التعذيب الذي لقيه من عبدة الأوثان. وثباته وبقاءه خمسة عشر عاماً يدعو دعوته وسط أعدائه وبهرة خصومه في قلب مكة وندواتها ومجامع أهلها. وتقبله سخرية الساخرين. وهزؤه بهزؤ الهازئين وحميته في نشر رسالته وثباته وتوفره عليها، وحروبه التي كان صفه فيها أقل نفيراً من عدوه وأصغر عدداً، ووثوقه بالنجاح، وإيمانه بالظفر وإعلاء كلمته، واطمئنانه ورباطة جأشه في الهزائم، وأناته وصبره حتى يحرز النصر، وطماعيته وتطلعه إلى إعلاء الكلمة، وتأسيس العقيدة، لا فتح الدول، وإنشاء الإمبراطورية، وإقامة القيصرية، ونجواه التي لم تنقطع مع الله، وموته وقبض الله إياه إلى جواره، ونجاح دينه بعد موته كل أولئك أدلة على أنه لم يكن يضمر خداعاً أو يعيش على باطل ومين، بل كان وراءها عقيدة صادقة، ويقين مضيء في قلبه، وهذا اليقين الذي ملأ روحه هو الذي وهبه القوة على أن يرد إلى الحياة فكرة عظيمة وحجة قائمة، ومبدأ مزدوجاً، وهو وحدانية الله وتجرد ذاته عن المادة، الأولى تدل عمن هو الله. والثانية تنفي ما ألصق الوثنيون به، والأولى حطمت آلهة كاذبة، ونكست معبودات

كاذبة، والأخرى فتحت طريقاً جديداً إلى الفكر، ومهدت سبيلاً طريفة للنظر. وأما الفيلسوف والخطيب والرسول والمشرع والقائد ومسعر الحرب وفاتح أقطار الفكر، وراد الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المعقولة المتفقة مع الذهن واللب، ومؤسس دين لا وثنية فيه ولا صور ولا رقيات، ومنشئ عشرين دولة في الأرض، وفاتح دولة واحدة في السماء، من ناحية الروح والفؤاد - فذلكم هو محمد. . .! فأي رجل لعمركم قيس بجميع هذه المقاييس التي وضعت لوزن العظمة الإنسانية كان أعظم منه، وأي إنسان صعد هذه المراقي كلها فكان عظيماً في جميعها، غير هذا الرجل. تلك حسنة من حسنات الشاعر الفرنسي لامارتين، ولعلها ترجح بجميع أشعاره ودواوينه.

الحياء

الحياء وصف الحيي - الفرق بين الحياء والخجل - تأثير الحياء في الإدراك والإحساس والحركة - تحليل الحياء تحليلاً بسيكولوجياً - الاحتفاظ بالكرامة - دقة الشعور - الحياء ليس بحالة نفسية مستمرة - وصف نوبة الحياء - هل الحياء فضيلة أم رذيلة - حب الحيي للكمال - الشفاء من الحياء يرى الناظر في أحوال الناس وما يبدو عليهم من آثار الغرائز والملكات امرئ عليه سيماء الجد والوقار ومخايل الاحتشام والانقباض، يميل إلى العزلة وينفر من رؤية الناس فإذا اجتمع بأحد ولو كان من الذين طابت نفوسهم وزكت أرواحهم وتجملوا برقة الحاشية ولطف الجانب ألم به شيء من الوجل والقلق وضرب من الخوف والاضطراب بلا سبب معقول يدعو إلى استثارة هذه الحالات النفسية من مكامنها. وإذا ضمه مجلس حافل ظل مطرقاً صامتاً لا يستطيع أن يزج بنفسه في غمار الحديث الذي يتجاذب الحضور أطرافه، تتولد الآراء السديدة في ذهنه ولكنه يبقى معقول اللسان لا يستطيع إلى إرسال الكلام سبيلاً. يريد النهوض والانصراف ولكنه لا يبرح قاعداً متململاً كأنما قد سمر إلى كرسيه أو كأن قدميه جمدتا فلا تستطيعان حمله. فهذا المرء من المصابين بخلق الحياء، فالحياء هو الخوف من الناس وهو غير الخجل الذي هو شعور المرء بعار يلحقه منم جراء إتيانه فعلة ينكرها العرف. وللحياء أسوأ الآثار على قوى النفس الثلاثة فيعدو عليها ويعرقل سيرها ويعطل وظائفها تعطيلاً، وبيان ذلك أنه يؤثر على إدراك المصاب فيجعله بطيئاً عاجزاً عن التفكير العميق والمضي مع سلسلة طويلة من المقدمات والنتائج. وإذا بوغت بقول تجده قد غص بريقه وتعذر عليه استحضار الجواب السديد في وقته حتى إذا خلا بنفسه تفجرت لديه ينابيع الأفكار وألفى مجال القول والأخذ والرد بعيد المدى متسع الجوانب جم المسالك والمذاهب. ويؤثر الحياء على إحساس المصاب به فيجعله خليطاً مشوشاً من العواطف والمشاعر والانفعالات المتضاربة المتناقضة فلا يكاد يولد في سويداء نفسه إحساس حتى يزول سراعاً ليحل محله وهيهات أن يستقر على حال من القلق فما أسرع تقلب الحيي بين الحب والبغض والرضا والسخط، وما أقرب نقلته من الرجاء إلى اليأس ومن الفرح إلى الحزن. وإذا لقي في بعض المواقف ما يعد إهانة لم تتحرك في نفسه شهوة الغضب ولا تثور

عاطفة الانتقام إلا شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً ولعلها لا تبلغ أقصى مداها إلا بعد زوال البواعث التي اهتاجتها. وكذلك تأثير الحياء في الحركة فإنه يرميها بالخطل والزلل فلا يحس الحيي الإتيان بأية حركة على وجهه ما دامت عيون الناس ترمقه حتى ولا إيماءة السلام أو قضم الطعام ولا يعمل الشيء إلا بيد عسراء شلاء تنبيء عن دخيلة أمره وتفصح عما انطوت عليه نفسه من الخجل والاضطراب. وجملة القول أن الحياء يصيب قوى النفس في مقاتلها فيرمي الإدراك بالبله والإحساس بالبلادة والحركة بالخبل. ولتعليل هذه الأعراض الغريبة نذكر طرفاً من تحليل نفسية الحيي لمعرفة أسرارها فنقول: إنما يتولد الحياء من شعور المرء بعدم الإلفة بين قلبه وقلوب الناس وبعد ما بينهما من وجوه المشابهة والاتفاق فكأنما قلبه خلق في هذا العالم غريباً لا قرين له ولا أليف ولا أنيس، فكلما اشتد هذا الشعور ازداد الحيي خوفاً ووجلاً من الناس واشتط في طلب الفرار منهم والبعد عن وجوههم حتى إذا أتاحت له الأقدار قلوباً رحيمة مشفقة تشابهت وإياه في أساليب التفكير وخفقت بالعواطف والمشاعر الواحدة ألفها ووثق بها وركن إليها ولم يجد عند اجتماع بهم ذلك المضض والقلق الذين يشعر بهما عند اجتماعه بغيرهم، وهذه الحالة هي التي لمحها الشاعر في ثنايا نفسه فوصفها بقوله: فيّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم فأهل الوفاء والكرم الذين يعنيهم الشاعر إنما هم أهل مودته ومن ارتبط قلبه بقلوبهم برباط من الإلفة والثقة والولاء. فإذا فارقهم وعاشر غيرهم عاد إلى سيرته الأولى من الانقباض والاستحياء. فأنت ترى مما تقدم أن الحيي امرؤ شديد الخيال يرى نفسه فوق نفوس الناس جميعاً ولذلك لا ترضيه أحوالهم وأطوارهم ومذاهبهم وطرائقهم في الحياة وكيف ترضيه وهو لا يعجبه إلا الكمال المطلق في كل شيء ويصور له يخاله أسلوباً للحياة لن تصل إليه الإنسانية قط. ثم أنه يحب ذاته حباً جماً ويحتفظ بكرامته وكل ما يتعلق بشخصيته أيما احتفاظ ويضن بها

أن ينال منها حاسد أو جاهل ويطير لبه شعاعاً وتأخذه نوبة الحياء كلما خشي شيئاً من ذلك. فهذا هو سر نفاره من الناس اللهم إلا من أولئك الذين لا يتناولون أفكاره وأقواله وعواطفه وأعماله بالنقد والتجريح والنعي عليها بالتصريح أو بالتلويح من خاصته وأهل مودته ممن تقدمت الإشارة إليهم. حكى جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف المعروف - وكان من أهل الحياء الشديد - فيما حكاه عن نفسه في كتابه (اعترافات) انه مر ذات يوم بحانوت فطائر وحلوى فاشتهى شيئاً منها وحدثته نفسه بالدخول في ذلك الحانوت لابتياع ما يريد ثم أحجم عن ذلك حياء إذ خيل إليه أن الفتيات البائعات تنظرن إليه بلحظات ملؤها السخرية وخشي أن يرمقنه وهو يقضم من تلك الفطائر بالنهم والتهالك في حب الحلوى، وهي خلة معروفة لدى الصبية والأطفال فأبت نفسه أن يلتاث بهذه اللوثة الشنعاء في نظره ورجع أدراجه ونفسه تكاد تذهب حسرات. الحيي دقيق الشعور حتى كأن نفسه نفسان نفس تعمل ونفس تراقبه وتحاسبه على ما يأتي وما يذر، وهذا الشعور الملازم هو الذي ينبه لديه الأوهام والخيالات التي أشرنا إليها فتنبعث تبعاً لها العواطف المرتبطة بها من مراقدها بسرعة البرق فتؤثر على أعصابه فيبدو الخطل والاضطراب جلياً في حركاته وسكناته. وما زالت دقة الشعور قضية أهل الأدب والفضل وأرباب الوقار والحشمة فإنهم يحملون بين جوانحهم رقيباً عتيداً يميز بينهم وبين السوقة من ذوي الوجه الوقاح الذين لا يبالون لما يفعلون. وكثيراً مت يخرج الحيي من حيائه ويخلع من عنقه ربقته ويقصي أحكامه الجائرة فتراه يأنس أحياناً بمن لا عهد له بمعرفتهم ولا مكانه لهم في نفسه فيفضي إليهم ببنات صدره ويبثهم آراءه وأفكاره وأمانيه ويندفع في الحديث فتنفجر المعاني في ذهنه وتجري على لسانه الكلم العذاب المتضمنة لطائف الحكم وروائع الإشارات وبدائع النكت. فإذا رأيته ساعتئذ حسبت أن ليس للحياء عليه من سلطان. ذلك أن الحياء ليس حالة نفسية مستمرة فكلما غفل الشعور عن صاحبه صار إلى الحالة التي وصفناها فإذا استيقظ لأدنى سبب بدأت نوبة الحياء تدب في نفسه، وتمشي الاستحياء فيها تمشي الحميا في جسم الشارب.

ولقد يخرج الحيي من انقباضه وانكماشه ويسترسل في الحديث ويذهب في كل مذهب حتى إذا حانت منه التفاتة فرأى خرقاً في بعض نواحي ثوبه لا تتبينه عين الرائي لتناهيه في الصغر خيل إليه أن عيون الجالسين ترقبه من كل صوب ومتوهم أنهم إنما يهزأون به ويسخرون من رقة حاله وفاقته ورثاته ثوبه فعندئذ تهب نوبة الحياء من غفلتها وتبدو بآثارها ومظاهرها. وكثيراً ما يتفق لبعض الخطباء أو المحامين أو غيرهم ممن تقضي عليهم مهنتهم بالتكلم على ملأ من الناس أن ينظر إلى تلك النفوس التي ما عرفتها نفسه من قبل وما ألفها فيخشى من نقدها لما سيقول، واستصغارها له وعدم قدره حق قدره فيصعد الدم إلى رأسه ويحتقن في وجنتيه وترتعد فرائصه وتصطك أسنانه وتكاد رجلاه لا تقومان بحمله فتخور عزيمته ويصاب بالحصر، ثم يستعيد سكينته ورباطة جأشه شيئاً فشيئاً إلى أن تزول نوبة الحياء ويعود إلى حالته العادية وتنفتح أمامه أبواب القول. أما الحكم على خلق الحياء هل هو عيب من العيوب الخلقية أم فضيلة يكرم صاحبها فقد اختلف فيه الكتاب والمفكرون والفلاسفة. ففريق يذهب إلى أنه مرض من الأمراض النفسية وأنه ضرب من ضروب الانحطاط وضعف الإرادة وفريق يرى أنه فضيلة من الفضائل وأنه يجري والعبقرية في مضمار واحد فما الحيي إلا شخص ساخط على حالة الكون ناقم على نظام الاجتماع متطلع إلى الكمال المطلق في كل شيء ففي باب العقليات لا يرضيه إلا العلم الغزير المترامي الأطراف المحيط بكل شيء الذي ينفذ من حجاب المادة الكثيفة إلى ما استتر وراءها من عالم الغيب. ومن وجهة الإحساسات لا يسبعه إلا اللذات الصافية من الشوائب التي لا يعقبها ألم أو تعب. والجمال الذي تعنو له الوجوه والأخلاق الفاضلة التي ليس للكذب والمخاتلة والطمع وما إلى ذلك من الدنايا الفاشية في الناس من سبيل إليها. ومن حيث المادة يشرئب إلى قوة جسدية دونها قوة الجبابرة وثروة طائلة يعد بجانبها قارون فقيراً معدماً. فإذا لم يكن في وسع الحيي أن يحقق تلك الأماني الكريمة التي تهجس في صدره فإن له على الأقل فضل التطلع إليهخا والتطاول نحوها. وأكثر ما يصيب الحياء الإنسان وهو في مقتبل العمر وغضاضة الإهاب ثم تخف وطأته عنه شيئاً فشيئاً كلما تقدمت السن وازداد علماً بحقيقة الوجود وأمعن في تجاريب الحياة

وعجم أعواد الحوادث. محمد صادق قال يحيى بن خالد البرمكي: ما رأيت باكياً أحسن تبسماً م القلم. وقال أبو جعفر وزير المستكفي: الأصاغر يهفون والأكابر يعفون. وقال: من عمل ما يحب لقي ما يكره. وقال مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية: كنزنا الكنوز فما وجدنا كنزاً أنفع من كنز معروف في قلب حر. وكتب إلى الخارجي الشيباني: أنا وإياك كالحجر والزجاجة إن وقع عليها رضها وإن وقعت عليه فضها. وعرض بظاهر الحيرة سبعين ألف فارس عربي ثم قال: إذا انقضت المدة لم تنفع العدة. وقال عبد الله بن المعتز: من لم يتعرض للنوائب تعرضت له. وقال: من أحب البقاء فليعد للنوائب قلباً صبوراً. ومن بديع نوادر الشعراء المستملحة ما قاله الحمدوني في طيلسان بن خرب - وقد قال فيه قرابة أربعين مقطوعة لا تخلو واحدة منها على معنى نادر ومثل سائر فمن أطيبها قوله: يا بن حرب كستني طيلساناً ... مل من صحبة الزمان وصدا طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى وقوله: كم رفوناه إذ تمزق حتى ... بقي الرفو انقضى الطيلسان

مسألة تحتاج إلى رأي الأزواج

مسألة تحتاج إلى رأي الأزواج عندما يخرج إلى هذا الكوكب الأرضي مخلوق من مخلوقات الله، يخرج كاملاً له بعض المقدرة والاستعداد، فعلى قدر بدنه وذهنه يستطيع أن يؤدي نصيباً معيناً من العمل، وعلى قدر قوة شهوته للطعام، يستطيع هضم جزء نسبي من المآكل ومواد الغذاء، وعلى قدر استعداد عواطفه ومنازعه يستطيع التصرف في قسط محدود من الحب، فأما قوته على زيادة هذا القسط، ومكنته من تعدي هذه الحدود فأمر من الريب والشك والغموض بمكان عظيم، على أنه قد دلت التجاريب وأثبتت المشاهدات من ناحية الناس عامة، وأهل الحب كافة، أن الحب يجنح دائماً إلى الهبوط، ولا يميل أبداً على الصعود، وأكثر ما يأخذ في الخفوق والقلة، وقلما يسترسل في الزيادة والكثرة، ولا يزال اهتياج عاطفة من العواطف في قلب من القلوب، يقابله جزء نسبي من الحب قد انتزع منه في وجهة أخرى، وناحية غير تلك الناحية، كأنما قد خلقنا الله ووهبنا حساباً معيناً وضع لنا في مصرف الحب حتى لا نستطيع أن نتجاوز في السحب المبلغ المحدد لنا في بنك الحب! فإذا صح هذا - وهو المعقول - نهضت مسألة تحتاج إلى النظر والبحث، وهي تدور حول التوزيع الواجب الذي ينبغي أن نقسم على نسبة الحب بين أولئك الذين يطالبوننا بحق الحب ويتوقعون منا نصيباً منها، ومن هذه الناحية نرى كثيرين من الناس صغار الأذهان يظلمون ويجورون بعض أولئك الذين يخصونهم بالحب. لما اهتدى كل من الفتى نوربرت والفتاة فيولا إلى السحر الحلال الذي أحدث كل في فؤاد صاحبه، واكتشف تحت أشعة القمر وظلال الزيزفون، فتنة الحبيب لحبيبه، وروعة الأليف لأليفه، تنفس كل منهما أنفاساً حرى مستطيلة، من عجب وحيرة، وراحا يتساءلان كيف أمكن أن يحب كل منهما الآخر كل ذلك الحب وقد ذعر نوربرت وأجفل، شأن جميع المحبين إذ يدهشون عند الشعور بأول بوادر الحب الصادق، ولم يكن من قبل يدري أن للحب هذا الطعم وللهوى كل تلك الحاسة والفتنة، وراح حيران مذهولاً يتساءل: ماذا حدث لي، رباه ما الذي جرى فلم يلبث أن همس إله الحب في أذنه هو الحب يا أحمق!! فقال الفتى لنفسه وهو يتنفس بصعوبة ويكاد يختنق من دهشة وعجب: أحقاً هو الحب؟ يا إله السموات، من أين حاء هذا الحب كله؟ فأجابه صوت في أعماق نفسه: هي التي أيقظته، ولكنه كان قبلها موجوداً بجميع مادته في فؤادك! فمضى يقول لنفسه كذلك،. فإذا

كانت هي التي أيقظته فهو ولا ريب ملها خاصة، وحق من حقوقها وحدها. وعلى ذلك راح يسلم فتاته فيولا مقادة حبه كله، ويهبه بجملته، لا بالقطاعي! ومضى يقول بلغة الشعر ولسان الهوى هاك حبي، وهو جميع ما أملك، أو ينتظر مني أن أملك، خذيه لنفسك، فهو لك ومتاعك وحقك الواجب!. فأخذته الفتاة منه وتقبلت المنحة، وراحت مزهوة معجبة فخورة بالهبة والمنحة. وأنت تعلم أن أعمال الرجل وجميع ما يصدر عنه لا مرد له عنها، ولا محيص، ولا يستطيع النزول عنها أو تركها وأما المرأة فقلما تجدها مصرة على عمل، عنيدة إزاء فعل من أفعالها، مستبدة من ناحية أمر من أمورها، ولعل ذلك لأن المرأة خلقت وهي تعرف ثلاثة أضعاف ما يعرفه أكبر الرجال ذكاءً وفهماً وإدراكاً، ولذلك لا ترى امرأة واحدة في الدنيا مسرفة في حبها أو تراها من جنون العاطفة والتبذير فيها بحيث تهب جميع حبها جملة واحدة، وقد تتظاهر بأنها تهبه كله مرة واحدة، ولكنها في الحقيقة لم تفعل شيئاً من ذلك، ولو أن لنا قوة نستطيع بها وصولاً إلى مفتاح الصندوقة التي تختزن فيها المرأة كنوز عاطفتها، إذن لاهتدت الإنسانية إلى أسرار عظيمة وعلمت ما ليس لها إلى علمه سبيلاً. ومن فرحة العطاء وبهجة المنح، اعتقد نوربرت أنه قد أخذ قدر ما أعطى، ومنح قدر ما وهب، وأن كلاً منهما قد نقل شجرة الحب من فؤاده إلى أعشار قلب صاحبه. ولكن تلك لم تكن الحقيقة، فإذا كان الفتى قد أعطى فيولا حبه، فإن الفتاة إنما أعارته فقط حبها، وقيدت هذه العارية في سحل من سجلات قلبها، وقد فعلت ذلك وهي لا تدري، وظل به هو جاهلاً، وهذا سبيل السعادة العظيمة المتألقة المشرقة التي نمت بينهما وفرعت أغصانها. وكانت خطبات الزواج في عصرهما الذي عاشا فيه لا تتم بالسرعة التي تنتهي بها اليوم فأطاعا آداب العصر وتقبلا شرائع الجيل، وظلا سنتين رفيقين يمشيان جنباً لجنب ويداً في يد، وذراعاً مشتبكاً بذراع، وفي خلال العامين ظلا يتكلمان على فيض من البلاغة، وسحر من البيان، عن سلطان الحب. ومضى يقول هلا: يا لك من فاتنة ساحرة رائعة! ومضت تقول له: ويا لك من قوي شديد السر، إني أحبك لطول قامتك وقوة ذراعيك!.

وكان يجيب: وأنا بك مفتون لصغر بدنك ونحافة جثمانك ولين عودك!. فتروح ترنو إليه قائلة: أحق ما تقول!. ثم يبتدئ فيض القبل، ويشتد وابل اللثمات، ثم إذ يسكت عن التقبيل يقول ما قاله الشاعر براوننج هل تراني وقفت وأنا أعتبر الميون من القبلات حداً ضئيلاً وألوف الألوف طفيفة قليلة. وقد ينطلقان يوماً في البحث عن مقدار حب كل منهما لصاحبه وهو بحث كثيراً ما يدور على أفواه المحبين، فيمضي يقول: كم تحبينني. . وبأي قدر وإلى أي حد؟ فتجيب أحبك حجم القرش التعريفة) فيجيبها ضاحكاً وأنا أحبك حجم القطعة ذات الخمس (وإذ ذاك تزيد الحجم شيئاً فشيئاً حتى تقدر لحبها إياه حج الصحن الموضوع فوق غطاء الخوان فيحاول هو تحسين هذا الحجم وتكبيره فيضع لحبه حجم المنزل الذي يسكنه. وعند ذلك تسرف هي وتبذر في وضع الأحجام فتصف حبها في سعته بحجم البحيرة التي يتنزهان على ضفافها. وإذ ذاك يطرد جميع أوصاف الأرض ويتخذ لحبه مثالاً من الشمس أو القمر أو أي نجم من الأنجم الزهر قرأ شيئاً عنه في كتب الفلك!. ولا يذهب الظن بك إلى أن تحسب العاشقين ضعيفي الذهن مجنونين ناقصي الإدراك، فإن نوربرت في العمل الذي كان يصيب منه الرزق كان يعد أعقل العقلاء ومن كبار أهل الألباب، وكان صافي الذهن، نشيطاً، وعده صاحب العمل الرجل القدير على الخطوب، الكفؤ لجميع الشؤون والأعباء، ولذلك يجب أن تعلم أن الحب والمنطق لم يكونا يوماً. ولن يكونا أبداً رفيقين متصاحبين. ولا يحب أحدهما أن يلعب أو يمشي مع الآخر، وكانت فيولا فتاة رزينة ذات حصاة ورباطة ووقار ذلك الوقار وتلك الرزانة التي لا تقلل من فتنة المرأة، بل تزيدها جمالاً وتهبها حسناً على حسنها، وكانت تدرك كيف ينبغي أن تؤدي عملها، وتحقق أن تنجزه على تلك الصورة ولكنها لم تكن متكلفة أو متظاهرة بنشاط، والمرأة التي تقوم على مطالب البيت وامتهان نفسها في حاجيات الدار، وتؤدي شؤونالمنزل كما يجب لا ينبغي لزوجها أن يهنئ نفسه بها كثيراً، بل أخلق به أن لا يبتهج ويطرب إلا إذا أدت جميع ذلك بلا مباهاة، ولا تكلف ولا تظاهر أو تفاخر، وإنما الأزواج الفاسد والذوق الجامد والإحساس البله المغفلون هم الذين يبتهجون عند رؤية شؤون البيت مدبرة على أتم

ما تكون، وسهود بعولاتهم وهن يعدون في الحجرات متلبيات عن تلكلف، ويظهرن النشاط أمامهم عن مفاخرة واعتزاز. ولم يكن يرى نوربرت شيئاً من ذلك بل يجد البيت مدبراً على أحسن ما يشاء التدبير، كأنه قد خلق لذلك وبقي كذلك. وكان نوربرت يود لو يلتقي برجل يستطيع أن يقنعه بأن في السموات مكاناً خيراً من بيته الصغير الذي لا يزيد أجره في العام عن أربعين جنيهاً. وقد كان هذا بالطبع بعد شهر العسل فقد نسيت أن أذكر أنهما تزوجا وزف الحبيب إلى نعمة عينيه وأليف نفسه وكان ذلك الشهر المعسول مفعماً بألوان عجيبة، كألوان غروب الشمس الزاهية المختلفة المتعددة التي إذا رآها الرائي لا يلبث أن يقول أنه ما كان يصدق أن لها هذا الجمال وتلك الروعة، لو أنه اطلع عليها في صورة صناعية خرجت من يد مصور ماهر. وكان نوربرت إذا خرج من محل عمله الواقع في ربض من أرباض المدينة انطلق مسرعاً كالبرق، وجرى مستبقاً كالريح، غير متريث ليملك أنفاسه أو وجل خائف على صمامات قلبه، أو مكترث للسابلة الذين يصطدم بهم في طريقه بل يعدو عدواً سريعاً حتى يتهيأ له أن يركب في القطار فيصل إلى عشه الجميل قبل الموعد المضروب لوصوله ببضعة دقائق. فإذا نزل من عجلة الترام عند أقرب محطة من داره، انطلق يغني في هدأة المساء أغاني الحب والوجد. وأنت تعلم أن المتزوجين لا يجدان تلك الفرص التي يجدها الخطيبان للكلام عن تلك التفاهات التي يكبر من شأنها الحب ولا يسمح لهما زمنهما بالإسراف في الأحاديث الصبيانية التي يبذلها العروسان عن جود وسخاء لمعرفة مقدار حب كل فرد منهما ومبلغ عاطفته بل أن لهما بسبيل ذلك ألف طريقة وطريقة لإظهار عمق حبهما وغور جانحتهما، ومن بين تلك الوسائل الحلوة العذبة اللذة الفاتنة التي كانت تظهر بها فيولا حبها لزوجها نوربرت، كانت هناك وسيلة هي أحبها جميعاً لى فؤاده. وكان هو أسعد ما يكون من ناحيتها وأشد غبطة وهناء ذلك أن الله وهب ذلك الفتى شعراً ناعماً جميلاً يجري في ذوائب وتعاريج حلوة ونعومة لا قرين لها، ولا مثيل، وكان بهذه

المنحة راضياً قرير العين، ولم يكن يأذن لأحد أن يضع يده فوق ذلك الشعر الأفحم الأثيت اللين الحريري إلا يد فيولا فقد راحت تلعب في خيوطه كما شاءت وشاء لها الدلال فاعتادت أن تأخذ في إصبعها أسلاكاً منه فتلفها وتجعدها وتفسد نظامها وتجعلها واقفة مستطيلة كمنقار الصقر ثم إذا تم لها ذلك أدنت فمها من تلك الأسلاك فقبلتها ولثمتها وأعادتها إلى سيرتها الأولى لثماً ودلالاً وحباً وعذوبة. ولئن كانت هذه اللعبة من التفاهة بحيث نتصور، فما زالت في ذهن نوربرت دليلاً من أكبر أدلة الحب ومظهراً من مظاهر الجانحة التي تضطرب في فؤاد زوجه وأنت تعلم أن أولئك الذين يحبون إلى حد الهيام والشغف، يجعلون من التفاهات والحماقات الصغيرة أموراً كباراً خطيرة، واليوم الذي نفقد فيه النزوع إلى إحداث هذه التفاهات مع أحبابنا هو اليوم بعينه الذي يأخذ منه حبنا في الهبوط والضعف. ولا حاجة لنا ولا ضرورة إلى ذكر مئات الألاعيب والتدللات والهناءات التي كانت تبعث نوربرت على الإسراع إذا انتهى عمله إلى بلوغ البيت، ولو أن احد الناس سأله شرح السبب وكشف الباعث، لما رغب في الكلام، ولما أقبل على الشرح والتفسير، ولو أن صديقاً من أصدقائه اعترض طريقه وهو في أشد جريه فسأله: علام الجري ولم العجلة يا أخي لما رضي أن يقول له: إنني مسرع إلى البيت لاحتضان زوجتي التي تدعوني دائماً بالغزال. على أن هذه التسمية لا تتفق ولا تلائم نوربرت من جميع الوجوه، ولكن أين ذلك الرجل الذي لا يرضى بالاسم الذي يخرج من الشفتين اللتين يقطعهما لثماً وتقبيلاً. ولا تحسبن أن القبل كانت هي وحدها اللذة الدائرة بينهما بل مضيا يتكلمان في أحاديث كثيرة الألوان، ويقرآن الصحف فيعجبان ويفرحان للأخبار أو يحزنان، وراحا يبحثان في أمور المستقبل والمستقبل كما تعلم بحث رحيب الصدر ولذلك لا تعجب إذا سمعت أنهما كانا وهما يتكلمان عن المستقبل يهبطان في أحضان بعضهما البعض ويقع كل في صدر صاحبه. ولقد اعتاد نوربرت أن يجلس في المقعد الكبير الهزاز وفيولا مستندة إليه ويداها تلعبان في شعره الجميل وأحلامها وأمانيها المعسولة تصب فيضها في أذنيه.

تقول: يا غزالي إنني لأود أن يكون الجنين أنثى! فهل تود ذلك أنت ايضاً؟ فيقول: ودي ودك. . ومشتهاي ومشتهاك. فتعود قائلة: ولكت ألا تظن يا غزالي أنه لو كان ولداً لكان أحسن وأغلى وأعز!. فيجيب: هو ذلك. بل سيروح آية العجب!. فتسأله: وأنت فماذا تطلب حقيقة، أيهما تريد؟ فيقول: (أيهما) إني لا أيد أن أختار، كلهما عزيز جميل. وإذ ذاك تنحني إليه فتقول: إني أحبك أيها الغزال، إني أراك حلواً عذباً فاتناً.! فيمد يده فيأخذ راحتها فيبلغ بها خده ويروح يلاطفها أشد الملاطفة وهو يهمس في أذنها إذن فلتبقي على هذه الفكرة دائماً. . .!. عندما يقول الطبيب للزوج المكفهر الوجه الواجم المرتعب أنه قد تم الحال على أحسن منوال وأنه قد أصبح والداً لوليد صحيح سليم. لا يني يردف هذه العبارة بأخرى وهو أن يذهب إلى عيادته فيحضر له الجعبة الفلانية أو الأدوية الفلانية. . وهي عادة قديمة يريد بها الطبيب أن يعد الزوج عن فراش زوجته النفساء، ويهيئ له ما يعمل حتى تتولى عنه الأفكار المزعجة، وهي عادة حمقاء طائشة قد يتبعها أذى، ولهذا ينبغي للأطباء إطراحها وإهمالها. إذ يحسب الزوج المروع المسكين أن حياة زوجته وقف على إحضار تلك الجعبة الفلانية فيشتد ألم نفسه، ويعظم عذابه وتذهب نفسه شعاعاً وروحه حسرات وخفقات ولهفات. وكذلك انطلق نوربرت لإحضار تلك الجعبة وأطلق ساقيه للريح فما وقف ولا أراح حتى بلغ عيادة ذلك الطبيب، وما تريث ولا ني وهو يعدو عائداً بالجعبة إلى البيت. وكان وهو يجري يؤدي لله فريضة وهي بين الدعاء والبكاء، والتضرع والنسيج فأما الدعاء فشكر لله وقنوت وحمد وتسبيح، وأما الدموع والعبرات فخوف وخشية وفرق. وسمعه الناس وهو يجري هامساً تتردد على شفتيه هذه الكلمات: الله يا رب يا رب طفل طفل اغنمها السلامة أغنمها السلامة وسمعه آخر، وكان الوقت في بكرة الصبح ومنبثق الفجر يقول: ويلاه لو أن حادثاً حدث، واحر قلباه لو وقع واقع. ولا ريب أنه حدث حادث، وذلكم هو نزول وليد جديد إلى الدنيا ما كاد يهبط الأرض حتى

طلب بصرخته الأولى الحلوة العذبة أن يوهب جزءاً عظيماً من الحب الذي ينعم به أبواه. والعبادة التي تجري في قلب الوالدين. والحب والعبادة، كما تعلم، لا يزالان يشبهان كل شيء في العالم، فهما لا بد من أن يجيئا من مكان معين، ولا بد من أن يوزع بضائعهما شخص، وعلى شخص آخر أن يدفع ثمن الفاتورة فأما فيولا فقد وزعت هذه البضاعة وجاءت بالمتاع وكان الواجب على نوربرت أن يدفع الثمن فدفعه وهو لا يدري إذ ذاك أنه دفع شيئاً أو خسر شيئاً. وأنت لا تجد في جميع روابط الخليقة رابطة أشد وآصرة هي أمتن من الطفل المولود للزوجين، ولئن كان هذا الوليد عيياً لا ينطق، أخرس لا يتكلم، ضعيفاً لا يستوي على قدميه، صغيراً عاجزاً مسكيناً، فهو لا يزال قادراً على أن يطفئ شعلة الحب أو يثير نارها، وهو يستطيع أن يحدث بصرخاته الصغيرة، وأعوالاته الضعيفة، ما لا تستطيع البلاغة أو يؤاتي السحر والبيان. وأنتم ترون أن هذه قصة شخصين من أهل الدنيا يسميان نوربرت وفيولا، ولهذا ينبغي أن لا يأخذ الناس هذه القصة فيعدوها نظرية عامة، تنطبق على الدنيا كافة، فإن المتفق عليه إلى اليوم، والنظرية المسلم بها، والقضية المذعن إليها، هي أن الطفل هو الحلقة التي تربد الزوج وزوجه، والكماشة التي تمسك بالأبوين، فلا يفلتان ولا يتجافيان، وإن كان فريق عظيم من الناس ليسوا بحاجة إلى هذه الحلقة أو تلك الرابطة، لأنهما كانا مرتبطين ممتزجين متماسكين، قبل أن تظهر هذه الحلقة فتفصلهما عن بعضهما البعض، وإنما ينبغي في مثل هذه الشؤون أن تعرف مبلغ الحب الذي في مكنة الروح أن تهبه، والمقدار الذي تستطيع أن تصدره حتى يعم الزوج والطفل على السواء، وقد تجد الروح في بعض الأحيان عاجزة عن أن توزع الحب والعدل بالقسطاس المبين، وإذ ذاك لا يبقى على الروح إلا أن تسرق أحدهما لتعطي الآخر ولهذا نرى ألوفاً من الرجال يخطهم الشيب ويبين بياض الشيخوخة في فحمة رؤوسهم، ويعلو تاج المشيب تفاريق شعورهم، قبل أوان الشيب وعهد الشيخوخة، وترى العزاب والكارهين للزواج والمحتقرين حياة الأسرة، آخر الناس في إدراك المشيب، واشتعال الرأس بجلال ما في الشيخوخة من جلال. وهكذا سرقت فيولا نوربرت لتهب إبنها ريشارد، وكان ريشارد آية من آيات الجمال

فأنساها ابنها أنها سرقت من زوجها حبه فألقت به إلى وليدها. أضحى ريشارد يسمى أسماء الدلال، وألقاب المناغات والتدليع وأضحى نوربرت الغزال سابقاً ينادى فقط بأبو العيال وهو لقب فرح به بعض الفرح وإن بدا من ناحيته في شيء من الاضطراب والألم. وفي الأشهر الستة الأولى من مولد الباكورة الأولى للزوجين لا يجد الزوج فرصة تهيئ له معرفة مركزه في قلب زوجته لأنه يرى أن تلك الأشهر هي حق مطلق للطفل لا يشاركه فيه أحد سواه، ولكنه بعد أن تمضي تلك المدة ويعود الأمر إلى نصابه لا يلبث الزوج أن يقيس الفرق بينه زوجاً لا والداً، وبينه الآن زوجاً ووالداً!!. وعرف نوربرت أن هناك حقيقة شيئاً من الفرق، ولكنه كان من الدقة والخفاء بحيث لا يدرك علانية، ولا يتجلى للأبصار، وأحس من طريق خفي أنه قد أصبح أكثر أهمية وأقل أهمية في آن واحد في وسط أسرته منه قبل مولد طفله. فبدلاً من أن تلعب فيولا بذوائب شعره الأفحم الأثيث وتلثم خصلاته وأسلاكه وتطبع القبلات الحارة فوق وجنتيه. أصبحت اليوم تسأله رأيه في مسألة تهوية الحجرات والعناية الواجبة للأطفال وشؤون التدبير المنزلي، وفنون الشربة والفطرة والششم، ولئن كانت لا تزال فيولا تقبله وتلثم خديه كأنها تؤدي مأمورية من المأموريات وفريضة من الفرائض، فلقد كان الطفل هو الذي يظفر بالقبلات الحارة المجنونة، ويتنعم وحده بالعناق الشديد، ويتمتع بالأحضان العميقة الجياشة، واحتكر ذلك دون أبيه، وحل منها محله، وهو هو الذي كان يعدو من قبل في الطريق مطلقاً ساقيه للريح حتى يبلغ الدار للتمتع بها على آخر نفس. ولا ريب في أن حب الأم وحب الأب مختلفان جد الاختلاف متباينان البون الشاسع، فأما الوالد فلديه نوعان من الحب تحت تصرفه، حب لزوجته، وحب لطفله وبنيه، ولا مشابهة بين الحبين، ولا مقابلة ولا مماثلة بين العاطفتين فأما حب المرأة فينبعث كله من معمل واحد وآنية واحدة، فإذا كانت سعة تلك الآنية صغيرة فلا بد أن يحرم أحد الشخصين المحبوبين من شيء من نصيبه وفي أغلب الأحيان الزوج. ويبعد أن يكون يوماً الطفل. ومن هنا تدرك أن أفكار نوربرت كانت من هذه الوجهة في قلق وجزع فقد وقف حجاب

بينه وبني العقل منذ مجيء الطفل إذ راح مبهوتاً يعجب ويتساءل ماذا يستطيع أن يفعل ليعيد مكانه سيرته الأولى ولكنه لم يجد جواباً ولم يهتد إلى حل ورأى وكاد أن يكاشف زوجته بما يكنه فؤاده ويطالبها بأن تعيد عهد تلك الحماقات الجميلة التي كان بها أسعد السعداء وأعز الناس غبطة وبهجة ولكنه إذ هم أن يبوح وقف الكلام متحيراً على شفتيه ولم يجد سبيلاًُ إلى الدخول على الاعتراف فلذلك أضمر حزنه في جوانحه وأخفى أساه في عاطفته ومشى يفكر في الطريق محزوناً مهموماً عند رجعته في العشي والأصائل إلى داره بعد الفراغ من عمله، ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يفكر ويعدو في الطريق في آن واحد فقد أصبح يصل إلى القطار الذي يبلغ به الدار في منتصف السابعة من المساء بعد أن كان يصل البيت من قبل في منتصف السادسة. بعد عامين من ذلك التاريخ رزق الله فيولا وليداً آخر وكان الوليد في هذه الدفعة بنتاً. ولما كانت لم تطلب مقداراً كبيراً من الحب كالولد وانتهى الحال بأن أصبح نصيب نوربرت من حب زوجته له وكانت من قبل مائة في المائة الربع أو أنقص منه قليلاً ولم يبق له من مظاهر ذلك الحب إلا الجزء الواجب والفرائض المطلوبة من المرأة لزوجها كالعناية بإعداد الطعام في أوانه وغسل أثوابه إذا احتاج إلى تغييرها والمشاطرة في البحث عن أعماله والإدلاء بالنصائح له عن شؤونه إذا استنصح الرجل أو استشار وفي مقابل ذلك أصبح نوربرت يظهر رأيه ويبدي فكره بكل حرية إذا ساءه أمر من أمور البيت فراح ينتقد الطهي يوماً إذا وجد منه ما لا يروقه ويتشفع بالتعب من عناء النهار إذا لم يعجبه الحديث ولم يستطب المناقشة. ومضت فيولا تحب طفليها ومضى هو يحبهما كذلك أصبحت هي متسامحة تغضي عن هفوات زوجه أو هناته إذ كانت عليمة بأن الأزواج جميعاً هم على هذه الشاكلة وسواسية في هذه الهفوات، والحق يقال لقد كانت تلك الأسرة في منتهى البساطة وعادية ككل أسرة ولها أشباه ونظائر على الجانبين من كل حارة وعلى الصفين من البيوت القائمة في كل طريق. ولقد اعتادت العمات والخالات والأقارب أن يزوروا البيت وما يفتأون يقولون له ما أجملها من زوجة فاتنة صغيرة، فكان نوربرت يجيب دائماً على هذه الملاحظات وأنا الذي اخترتها

وأنا به عليم. فكانوا يعودون فيقولون: إنها تحب طفليها كل الحب!. فكان يطرق عند سماعه هذه الكلمات ويقول. . . كل الحب!. ويعود الأقارب عنه وينصرفون معتقدين أنهم أحسنوا التعبير وأجادوا القول. راح نوربرت ينظر إلى زوجته وهو جالس إلى مائدة العشاء. فعجب في نفسه إذ يرى أنها لا تزال حسناء فاتنة فقد مضى على عهد زواجهما عشرون عاماً وما زال يتجلى في عينيها بريق الشباب وذلك الضياء الجميل الذي كان يشرق منذ عهد بعيد يوم كان يمشي إلى جانبها وهي فتاة تحت أشعة القمر فاستند نوربرت في مجلسه واهتاجت الذكرى في صميم قلبه واستثار الحاضر ما كان من لذلذات الماضي وحلاوته ولكن لم يلبث أن أعاده صوت فتاته إلى الحاضر إذ مضت تقول عجباً لتصاريف القضاء في أي مكان سأكون في مثل هذا الوقت من الغد!. فأجابتها أمها ستكونين ولا ريب بعيدة عنا أميالاً عظيمة ومسافة طويلة فمد الفتى ريتشارد ساقته وقد ظهر اليوم في الرداء العسكري وارتدى ثوب الضابط الجديد واستند إلى ظهر مقعده وقال في رنة أسى. وأين أكون أنا؟ ولكن خليق بنا أن لا نظهر شكاة أو نبدي جزعاً وفرقاً فإنه لولا عرس أختي ما استطعت أن أجد سبيلاً إلى طلب الإجازة والحضور من ميدان فرنسا لرؤيتكم. فساد إذ ذاك سكون وجعت عين الأم تنظر بحب وإعجاب وزهو وخيلاء إلى ابنها الضابط الشاب الذي عاد من ميدان القتال لأجل غير طويل. وعاد ريتشارد يقول: إنني أميل إلى الأعراس وأحب رؤية الزيجات ولعل باعث ذلك الجندية فهل تستطيع يا أبي أن تجد لي زوجة من الآن إلى الغد أن في طبيعتي مقداراً من الحب لا يحسن أن لا أدع إنسانة من خلق الله تناله. فأجاب الوالد لا تجزع يا بني ولا تحفل بهذا فلا يلبث أن يتجلى لعينيك الشخص الذي سيأخذه منك وإذ ذاك يذهب الحب، أليس كذلك يا زوجة. .؟ فنظرت إليه زوجته شذراً وهي مندهشة متحيرة وإذ ذاك انبرت فيليس تقول: من أغرب الأمور أن أعيش بعيدة عنكم فهل ستستوحشون في غربتي؟ يا أماه؟ فهمت فيولا بأن تجيب

ابنتها ولكن صوتها احتبس بين شفتيها. فعادت الفتاة تقول: يا الك من والدة محبة محبوبة جميلة كريمة القلب! فحبذ ريتشارد رأي أخته فقال: هذا حق يا أخية، إنها أم جميلة محبوبة أليست كذلك يا أبتي؟ فقال الوالد وهو في أشد الاضطراب: نهم. . نعم. . بالتأكيد! فانبرت الفتاة فيليس: إذن فقل ذلك يا أبي وصرح به صراحة، إنك لا تقول جملة في هذا الشأن بقوة وتبيان. فأجاب مذعناً مستسلماً: إنها أم محبوبة. . محبوبة. . جميلة كريمة القلب ها أنا قد قلتها! ولا ريب في أن الليلة التي سيروح صبحها طالعاً ببين وافتراق بين فتاة ستفارق العش الذي فيه درجت إلى بيت العروس. وبين فتى سيعود إلى ساحة القتال وحومة الوغى. تمسي كثيرة الأحاديث ساهرة، ويدور فيها الكلام طويلاً. ويستفيض فيها البحث في شجون مختلفة الألوان ولما كانت كل هذه الأحاديث لا يتيسر شرحها والمساهمة فيها على مائدة العشاء فقط ولا في قاعة الاستقبال كذلك. فلا تعجب إذن أن يذهب الجميع إلى حجرات النوم فيجلس كل منهم على سرير ويروح في شعاب طويلة من القول. وأخير انطلق الفتى والفتاة إلى النوم ومشى الأب والأم يريدان منامتهما. وعند رأس السلم وقف نوربرت وقال: سأذهب فأدخن لفافة تبغ! فنظرت إليه زوجته وقالت: أحقاً تردي ذلك؟ إذن فلك ما تشاء. وكان في صوتها رنة اضطراب وتردد وحسرة ورأى منها ذلك فنظر إليها في دهشة وعجب. فقالت وهي تستجمع جأشها لقد كنت الآن في عجب مما قلته في مائدة العشاء إلى ريتشارد وهو أنه سيذهب الحب. أليس كذلك. فهل تذكر؟ فأجاب: أذكر إنني قلت شيئاً أشبه بهذا؟ قالت: وماذا كنت تعني به؟ فأجاب: لا شيء. . كلام في كلام! فقالت: لقد أدركت المعنى الذي كنت إليه تقصد والآن لتذهب إلى تدخين لفافتك أستودعك

الله. فأجاب متلعثماً: في حراسة الله. ولثمها باضطراب. قالت وهي تحتضنه إن ربطة عنقك ليست في مكانها! ومدت يدها فأصلحت منها وهذبت شكلها وتبسمت عن أسى وحزن. وانطلقت إلى حجرتها فلما اختلى الرجل بنفسه نسي أن يشعل لفافة التبغ بل جلس أمام الموقدة مفكراً يلمس بأنامله ربطة عنقه التي أصلحتها يد زوجته ويذكر ابنه وابنته وهما سيفارقان العش غداة الغد. ومضى الشهر التالي على أهدأ ما يكون الحال. فراح البيت صامتاً أخرس لا يرتفع فيه صوت. وقد عاش الزوجان وحيدين في خلاله بعيدين عن طفليهما حتى أدرك كلا منهما الحياء من صاحبه. وأضحى حديثهما غامضاً تافهاً لا غرض له ولا مقصد، وجعلا يقرآن الصحف بصوت مرتفع وهي العادة عندما لا يجد الجليسان موضوعاً للبحث أو كلاماً يتداولانه. ففي ذات يوم وأنه لذاهب إلى محل عمله في الصباح كعادته، إذ تبعته فيولا إلى حجرة الثياب، فجاءت بمعطفه من المشجب وأمسكته له حتى يرتديه، وأعانته على الاشتمال به، وكان هذا ولا ريب عناية تافهة، ولكنها أثارت فيه ذكرى حارة وأحدثت لديه اضطراباً وقلقاً. قال: لست أريد اليوم معطفاً. فقالت: كلا. بل ينبغي أن ترتدي فإن الجو اليوم مبترد وينبغي أن تحترس من البرد. قال: إذن فليكن. وأدخل ذراعيه في المعطف ومشى إلى الباب قائلاً: إلى الملتقى!. فمشت بجانبه حتى أوصلته إلى باب البيت وراحت تسأله. ألم يعد القطار الذي يصلا المدينة عند منتصف الخامسة مساءً يجري اليوم بين المدينة والضاحية؟ فأجفل مذعوراً وقال: لا أدري ولكن لم هذا السؤال؟ قال: لا شيء إلا أنك اعتدت دهراً طويلاً أن تصل في ذلك القطار. ألم يكن الأمر كذلك؟

فأجاب: نعم. كان كذلك. فعادت تقول: لقد كنت أظن الآن وقد ذهب الطفلان أنني أصبحت أستوحش غيابك. فأجاب مرتبكاً: إذن سأجتهد. . إلى اللقاء. . . وفي ذلك المساء دهش كثيرون من المارة، واستغرب جمع عظيم من السابلة إذ رأوا رجلاً كهلاً في أثواب نظيفة يجري على آخر نفس في الشارع. وكان هذا الكهل الذي يعدو كأنه قد عاد طفلاً. وآض شاباً واستحال عريساً جديداً، هو نوربرت. فقد نهضت الذكريات البعيدة في صفحة ذهنه وخيل إليه أن العشرين عاماً التي مضت على زواجه لم تكن إلا حلماً في الكرى وإيماضة برق لامع. وكانت فيولا اعتادت في أوائل العهد بالزواج أن تجلس إلى النافذة فتطل منها مرتقبة مطلع زوجها المحبوب من ناصية الشارع وتناديه باسمه الجميل الذي خلعته عليه وهو الغزال. حتى لقد كان الجيران يسخرون منها ويعتبون عليها فيه وينتقدونها من أجله. والآن جعل نوربرت يجري في الطريق وهو يسائل نفسه هل سيراها الآن بعد عشرين عاماً من جلستها تلك، واقفة بالنافذة تنتظر عودته وإذ ذاك أجابه صوت نفسه بأنها لا ريب لن تكون كذلك، فإن هذه الفكرة مضحكة مجنونة. على أنه ما كاد يلم بناصية الشارع الذي يحوي منزله حتى تطلع إلى النافذة فلم يجد أحداً. وإذ ذاك هدأ من أنفاسه ومشى مطرق الرأس إلى الباب فتحسس جيوبه ليرى مفتاح الباب. ولكنه لم يلبث أن رأى الباب قد انفتح وإذا بفيولا واقفة أمامه، ووجهها تعلوه صفرة الموت. وشفتاها ترتعشان وقالت متلعثمة وقد هجمت الدموع إلى عينيها ريتشارد وإذ ذاك عرف المعنى الذي أرادت أن تفصح عنه، فإن المصائب والأنباء السوء أصبحت تدرك اليوم بالإشارة. لا تحتاج إلى كثرة شروح وإفاضة حديث، وفي هذه المدنية العجيبة التي جاء بها القرن العشرون. فقرأ التلغراف وهو جاف العين والحلق، ولم يستطع أحد منهما الكلام وجاءت الخادمة بعد برهة تعلنهما بأن العشاء قد تهيأ، فأخذ كل مجلسه من الخوان، ومرت ألوان الطعام أمامهما، فلم تمد إليه يد، ولم تمس صحفة من الصحاف، وعادا إلى حجرة الحديث فجلس هو في مقعد مطرق الرأس وجاءت هي وراءه، فوقفت، وحاولت فيولا الكلام فاحتبس المنطق في صوتها، ولكنها لم تلبث أن استجمعت قواها فقالت بعد جهد. . . لقد كنت خائفة عليه يوم

ذهب للقتال. فقال ولم يزد. . . أجل! وساد السكون لحظة طويلة. وقالت أخيراً: لقد كنت أحبه أعظم حب أيها الوالد. . ولكنها إذ تلفظت بهذا الاسم الأخير وجدت أنه قد أصبح خطأ فغيرت الاسم بغيره فقالت لقد كان ابني الوحيد يا غزالي! هنا مد نوربرت ذراعه إليها فأخذت راحته فوضعتها فوق خدها وقالت: نبئني لماذا تحدث هذه الأحداث، وهل ينبغي أن تحدث؟ قال: علم ذلك عند الله. وأسند رأسه إلى صدرها وراحت أناملها تلعب في شعره. وهنا كأنها بمعجزة أو وحي غريب انحنت ليه فطبعت فوق ذوائب شعره الأفحم. . قبلة حارة. . .! انتهت.

الإسبراتيواليزم

الإسبراتيواليزم أو الاعتقاد بوجود الأرواح وإمكان مناجاتها منشأ الإسبراتيواليزم الإسبراتيواليزم ليس شيئاً جديداً في العالم، ولا هو بالأمر الطريف بل أن الاعتقاد بأن الموتى يحيون في عالم آخر، وأن في الإمكان مخاطبتهم ومناجاة أرواحهم، لا تزال عقيدة عامة في الإنسانية من أبعد العصور، ويلوح لنا أنها جاءت عن طريق الأحلام، وكان الباعث عليها الرؤيا في المنام لأن المتوحش الهمجي إذا رأى في الحلم بعض أصدقائه الموتى، أو فريقاً من الأعداء في الرؤيا وهم يحاربون ويعيشون كأنهم لم يوسدوا الثرى، وكأنهم لا يزالون أحياء فلا يتأول من ذلك إلا أنهم ولا ريب أحياء في مكان بعيد من الدنيا، وإلا فما هذا الذي يظهرهم ويجعلهم يتكلمون ويتحدثون إليه، ويخرجون إلى القنص معه، وصيد الوحش في رفقته، ويجب أن نعلم كذلك أن الفرق بين الحياة في النوم والحياة في اليقظة عند المتوحش الهمجي لا يكاد يكون محسوساً لديه. معروفاً منه، بل قد يمتزج أحدهما بالآخر. ويختلطان ويدخل كل في صاحبه، حتى أن الذين يحلمون قد يشكون في أغلب الأحيان وتأخذهم الريبة فيما إذا كانت الحادثة التي رأوها حصلت حقيقة أو إنما رأوها في الرؤيا ليس غير. ولا بد من أنه كان هناك في أدوار التطور الإنساني دور في أبعد عصور التاريخ كان الناس فيه لا يجدون فرقاً ما بين الأحداث التي تقع لهم في النوم وتلك التي تقع في البقظة، وكانت الحوادث التي يراها النائم تلوح له حقيقية كأنما وقعت في عهد اليقظة والصحو. ويلوح لنا أن رؤية الموتى ومخاطبتهم كانت في العهود القديمة من التاريخ معروفة تحدث بوسائط تنويم مغناطيسي، ومن كتب الفلاسفة الأقدمين أمثال أفلاطون وفلوطرخس يتبين لنا أن عادة مناجاة الأرواح كانت معروفة في أزمانهمـ، وأنه كان يحدث شيء منها في الأعياد والطقوس، ولكننا لم نستطع أن ندرك مما كتب أولئك التفاصيل والحذافير وكان بين اليهود عادة السحر والتنجيم ذائعة متفشية، ووقع في الإمبراطورية الرومانية ما وقع في اليونان فقد دل التاريخ على أنه كان قبل مولد المسيح بنحو مائة عام طائفة من عظماء رومة وأشرافها تحت مراقبة الشرطة إذ اتهموا بأنهم كانوا يستحضرون أرواح الأموات،

وقد ابان العلامة تيلور في كتابه (الديانات الأولى للإنسانية) براهين عدة على العقائد والمشاهدات التي تدل على أن فكرة مناجاة الموتى وتنفيذها كانت معروفة في جميع أنحاء العالم قديماً وحديثاً. وعادة مخاطبة الأرواح عامة في الصين حتى اليوم، وطريقتهم في ذلك أنهم يستخدمون نوعاً من التختة أو الصابورة يلجأون إليها في قراءة المستقبل، والحفلة التي تعد لذلك علنية، تقام أمام هيكل في معبد، وتدفع الرسوم عند الدخول وهي تخص القساوسة، ثم إذا انتظم عقد الحفل سأل السائل ما يريد فيكتب السؤال في ورقة ثم تحرق أمام المذبح قبل ان يتمكن أحد البتة من معرفة ما فيها، ثم يتلقون الجواب من الله إذ يرتفع صوت غريب بألفاظ تخط فوق صينية من الرمل كلمة فكلمة وقد ثبت من التاريخ الصيني أن هذه العادة يرجع منشأها إلى عدة قرون ماضية. على أن الإسبراتيواليزم في شكله الحاضر، وحركته اليوم في بلاد الغرب، يعود تاريخه إلى عام 1847 وذلك أن في شهر ديسمبر من تلك السنة تقاطر الناس وازدحم القوم على باب رجل يدعى جون فوكس كان يعيش إذ ذاك في ولاية نيويورك، في الولايات المتحدة وكانت أسرة الرجل تتألف منه هو وزوجته وفتاتين أحدهما تناهز الربيع الخامس عشر وأختها في الربيع الثاني عشر، وإذ أذاع الناس عنه أن له اتصالاً بالأرواح، إذ سمع الناس روحاً تتكلم في بيته فقالت الروح أنها كانت تشتغل في هذه الحياة بائعاً من باعة الأسواق الطوافين الجوابين وأن عمره في الواحد والثلاثين وأنه قد ترك أسرة تتألف من ثلاث بنات وولدين وأنه قتل من أجل ماله، فذاع الخبر عن ذلك البيت، وانطلق ألوف الناس ليروا وليسمعوا، حتى انتهى الأمر بأن ظهرت هذه الظاهرة كذلك في عدة بيوت وسرت العدوى إلى الولايات الشرقية، ولبث الخلاف والشكوك بضع سنين في هذا الشأن فمن مصدق ومن مكذب، فوقعت التهمة على ابنتي الرجل فوكس فاعترفت إحداهما بأن الدقات التي كانت تسمع إذ ذاك هي أثر دقات ركبتيها فوق بعضهما، وقد تأيد هذا الاعتراف بأن شهد ثلاثة من الأطباء بأن الدقات التي كانت تسمع لم تعد تسمع عندما أمسكوا بركبتي الفتاة ولم يدعوها تصدمهما إحداهما بالأخرى، ولكن دلت الأبحاث التي قام بها بعد ذلك السير وليام كركس، وهو من أبطال هذا العلم، والأبحاث التي أجراها السير أوليفر لودج بعده، على أن

هذه الدقات في الحقيقة جائزة الحصول، في بعض أشخاص أوتوا استعداداً مخصوصاً، وأجسام وأرواح تخالف الأرواح والأجسام المألوفة، وقد ذكر أحد العلماء أن له صديقاً كان يستطيع أن يحدث هذه الدقات بعظمة داخلية من عظام كتفيه، وهذا الرجل لم يكن له أية علاقة بالإسبراتيواليزم وكان يحدث تلك الدقات للمجون فقط والضحك، وأن صديقاً آخر له صحا من نومه مذعوراًً في الساعة التاسعة من الليل على دقات شديدة فوق جدار الباب الخارجي لبيته وكان الجدار منفصلاً عن غيره ولا بيوت ولا منازل بجانبه، فلما أراد التحقق من مصدر هذا الطرق الشديد، لم يجد أحد لدى الباب، ولم يجد سبباً يدعو له من داخل البيت، فبلغ به الذعر مبلغاً جعله محموماً مريضاً، ولكن ظهرت النتيجة بعد ذلك له، وهي أن أخاه المحبوب لديه قتل قضاء وقدراً قبل الشروع في هذه الدقات بعشرين دقيقة فقط. ولنعد الآن من الكلام على الظاهرة الجسمانية إلى الظواهر النفسية لعلم الإسبراتيواليزم فنقول أنها بدأت منذ عهد بعيد وكان أكبر أبطالها مستر وسويدنبرج، أما فريدريك أنطون مسمر فعاش حتى عام 1815 وكان مولده عام 1734، وهو طبيب نمسوي من مدينة ويانة بدأ عمليات الجديدة الخاصة بهذا العلم في باريس، ونجح نجاحاً باهراً في معالجة الأمراض وشفائها، وافرغ تعليمه في قلوب مئات من أتباعه وأثرت مهارته في أفئدة ألوف من أنصاره، وأخذ بعده كثيرون من الأطباء يؤيدون مبدأه، وهو أن تنويم المريض يمكنه من تشخيص مرضه بنفسه ووصف الدواء الناجع له، فانتقلت هذه التعاليم المسمرية إلى الولايات المتحدة، وذاعت في بلاد الغرب، ومضى كثيرون من الأطباء المسمريين يعالجون الناس بهذه الطريقة وثبت إذ ذاك أن المريض المنوم قد يستطيع أن يشخص علته بنفسه ويصف لها الدواء اللازم، وقد يستطيع أن يحكم بعله غيره ويصف له الدواء، وقد ذهب كثيرون إلى أن هؤلاء الأشخاص المنومين إنما كانوا يتلقون شرح العلل ووصف الأدوية لها من أرواح أطباء الموتى، حتى أن أحد المنومين أكد للقوم في حالة نومه أو هو الطبيب اليوناني القديم غالن بنفسه. أما عمانويل سويدنبرج فكان مولده عام 1688 ومتوفاه عام 1712 فبعد أن ظل خمسين عاماً في دأبه العلمي وتقلبه في المناصب الكبرى بدأ آخر مرة يتلقى الوحي، وتتراءى له

الأشباح وتتبدى له الأرواح إذ جعل يناجي رجالاً كثيرين من عظماء الدنيا الذين ماتوا قبله من قديسين وفلاسفة وملوك وباباوات فخاطب أرواح لوثر وكلفن وشيشرون وموسى وبولص ويوحنا وكثيرين غيرهم، وتلقى كذلك ما يسمونه اليوم بالكتابة المكتوبة بذاتها، إذ جعلت يده تندفع في الكتابة بلا إرادة منه، ولاوعي من لبه، فذهب في ذلك إلى أن الأرواح هي التي كانت تدفع يده إلى الكتابة فتكتب، على أن سودنبرج لم يشجع الناس على أن يخاطبوا الأرواح، ولم يبعث غيره على التكلم معهم، لأنه كان يعتقد أنه هو المختار من الأرواح وحده ولكن كثيرين ولا ريب يأخذون عنه ذلك ويحدثون هذه الجلسات نفسها مع الرواح. فهذه العوامل واجتماعها بروح تلك العصور المضطربة الثائرة القلقة، كالثورة الفرنسية ونشوء الروح الاشتراكية، ساعدت على تقدم هذه الحركة وشيوع الإسبراتيواليزم، حتى هبط إنجلترا في عام 1855 رجل غريب يعد من أكبر الوسائط التي يلتمسها الناس سبيلاً على مخاطبة الرواح، وهو يدعى هوم، وقد جاء إليها بعد أن طاف كثيراً من بلاد الغرب فاستحضر أرواحاً في حضرة إمبراطور فرنسا لويز وزوجته، وزار قيصر الروس فأجرى جلساته بين يديه، وكان الرجل لا يتقبل مطلقاً أجراً على عمله نقداً أو مالاً، وإن كان ولا ريب يرفض الهدايا، وهي أعز ثمناً وأغلى قدراً. ولم يقبض عليه يوماً وهو يحاول غشاً في محاضراته، ولم يدرك الناس عليه مطلقاً خدعة أو بلفاً على أنه كان الشاعر بروننج الطائر الصيت في ذلك العصر وضع قصيدة عنوانها ليخسأ وسيط الأرواح وكان يقصد بها إلى التهكم على (هوم) فإنما كان الشاعر فيها يتبع هواه وأخذ بالظنة في أمر الرجل، ولم يحكم البرهان ولم يقم الدليل، كما شهد على نفسه بعد ذلك واعترف، ولعل النقطة المشكوك فيها من تاريخ هوم هي ما يختص بقصة المرأة التي تدعى مسز ليون. وكانت أرملة مثرية أهدت إليه أربعةوعشين ألف جنيه وتبنته ثم ندمت على ما فرط منها من هدية ووقفية فزعمت أن الرجل احتال عليها واثر في ذهنها وخدعها وادعى أن الرواح هي التي أوحت إليها أن تمنحه تلك المنحة وتخصه منها بهذا الفضل. وانتهت الخصومة إلى المحكمة فحكم لها برد المبلغ إليها ولكن القاضي أبان بفصيح القول أن لا دليل أو بينة يعتمد عليها من ناحية السيدة، وأنه لم تثبت الإدانة مطلقاً على أن هوم اعتدى عليها في مالها واستلبه

استلاباً. وكانت مقدرة الرجل غريبة فكان يرى أرواح أصدقائه الموتى وأقارب الذين يطلبون إلي استحضارهم، وكان يجيء بأسماء الأرواح، وبينات منهم تثبت حقيقتهم لأقاربهم، ولكنه ولا ريب اختص بالظاهرة الطبيعية من هذه الأبحاث فكانت الموائد في حضرته ترتفع بنفسها إلى الفضاء بدون أن يمسها أحد مطلقاً، وكانت المقاعد تتحرك في جوانب الحجرة، وكانت الكراسي الصغيرة تجري وترقص وتهتز وكانت الأزاهر تخرج من قصرياتها وتوزع نفسها على الحضور، وأعجب ما في أمره أن من الذين كانوا يشاهدونه رجالاً من كبار العلماء وأعضاء المجمع العلمي البريطاني، وقد كتب السير ويليام كروكس كتاباً عنه أثبت فيه صحة محاضراته. وقد مات هوم عام 1886 وقد أربى على الخمسين وتزوج مرتين وقد اشتهر كثيرون غيره من أبطال هذا العلم، ستقرأ آثارهم في العدد القادم إن شاء الله.

قوانين الحياة اليومية

قوانين الحياة اليومية طائفة من الإرشادات العامة ننشئ هذا الباب خاصة لنشر طائفة من القوانين التي تختص بشؤون الحوادث اليومية، وجملة من الإرشادات التي تتعلق بما يجري بين الناس من بيع وشراء واتفاقات وعقود، ومتجر وارتباطات ومواثيق، وهو بحث طريق مفعم بالمعلومات التي قد تغيب عن أذهان الكثيرين. الأمتعة المفقودة والتي يعثر أحد الناس بها صدفة كل فرد يعثر بشيء من المتاع فقده صاحبه في مكان عمومي له الحق فيه قبل غيره بعد صاحبه الحقيقي، فإذا لم يوجد صاحب المتاع، ولم يمكن الاستدلال عليه فإن للعاثر به الحق في ملكيته، ولكن ينبغي على ملتقط المتاع من الطريق أن يجتهد ويبذل قصارى سعيه في العثور على صاحبه الحقيقي، وإلا اتهم بالسرقة، وصحت عليه تهمة الاختلاس، فأماالصكوك والأوراق المالية والأمتعة ذات القيمة فمن السهل الاستدلال على أربابها وأما العملة المسكوكة وغيرها من الأمتعة فمن الصعب معرفة أصحابها، وعلى الشخص الذي يعثر بهذه الأشياء أن يسلمها إلى إدارة الشرطة: فإذا مضى الأجل المضروب الذي تحدده السلطة الإدارية لاسترداد الأمتعة المفقودة فعلى إدارة الشرطة أن تردها إلى الشخص الذي عثر بها إذا لم تكتشف صاحبها الحقيقي، فإذا عثر شخص بسلعة أو متاع في مكان ليس بالعمومي فعليه أن يسلمه إلى صاحب ذلك المكان، والمكان أو المحل العمومي هو المكان الذي يرتاده الجمهور ولا يحول أحد دونه في سبيله إليه كمكان السكة الحديدية، أو القطارات التي تهم بالرحيل، والملهى والتياترو، أي أنه لا يلزم في إطلاق كلمة المحل العمومي أن يكون الدخول إليه بلا مقابل. ومن القوانين المصطلح عليها في إنجلترة أن سائقي المركبات الذين يسلمون إلى إدارة الشرطة البضائع أو الأمتعة التي يتركها الركاب في مركباتهم لهم الحق في عشرة في المائة من قيمتها فإذا مضت ثلاثة أشهر على تلك الأمتعة، ولم يطالب بها صاحبها أصبحت حقاً من حقوق الحوذي. الديون الخاصة بشراب الخمور

الديون المتعلقة بشرب الجعة أو الخمور لا يمكن تحصيلها أو ردها من المدين بثمنها إذا كانت قد احتسيت أو شربت في المحل الذي بيعت فيه، ولا تدفع ديون الخمر إلا إذا اشتريت في وقت واحد وكان ثمنها يزيد عن جنيه، أو كانت قد وردها الخمار إلى المدين في محل إقامته بكميات لا تقل عن ستة زجاجات. التعويضات عن الإصابات إذا جلب شخص إلى أرضه أو أملاكه حيواناً مفترساً بطبيعته أو زرع أعشاباً أو أشجاراً سامة في عصارتها، وتقرر أن من هذه الحيوانات والنباتات خطراً من ناحيتها، فإن صاحبها مسؤول عنها، إذا هي فرت من لدنه أو أحدثت أذى أو خطراً وهذا بصرف النظر عن أنه اعتنى بحفظها أو حبسها أواتخذ الحيطة دونها، أو عرف أو لم يعرف خطرها أو الأذى الذي قد ينجم عنها، وهذا ينطبق على الأفراد الذين يملكون قردة أو نمرات أو فيلة أو كان يتصاعد من مداخن منازلهم أو مصانعهم أو معاملهم شرر يتطاير، ويسري الشرر الذي يتطاير على قطارات السكة الحديدية فيضر بالمحصول، على شرط أن لا يزيد ثمن المحاصيل التي أصابها الضرر عن مائة جنيه فإذا زادت قيمة التلف عن هذا القدر فلا تكون الشركة أو مصلحة السكة الحديد مسؤولة عن التعويض، إلا إذا ثبت أن الإهمال نجم عن أن القطار لم يكن على الطراز الحديث الذي يحتاط به من إحداث هذا الشرر المتطاير، أما فيما يختص بالإصابات التي قد تحدث من الحيوانات فلا يلزم بها صاحبها إذا كانت قضاءً وقدراً، أو من تحرش المصاب بها، أو بجريرته، أو تعرضه لها بأذى أو ضرب أو إحراج، وكذلك إذا حدثت الإصابة من جراء تحرش شخص آخر بالحيوان أو استنفاره، ولا رقابة لصاحب الحيوان على هذا الشخص ولا سبيل له عليه ولا سلطان، أما في الضرر الناجم عن الحيوانات الداجنة المتسبب للأشخاص أو الأمتعة، فلا يعد صاحبها ملزماً إلا إذا ثبت إهماله وكان يعلم أن الحيوان مؤذ أو خطر فإذا عض كلب شخصاً، فلا شأن لصاحبه في ذلك، ولا إلزام عليه، إلا إذا كان يعرف أن كلبه عض من قبل إنساناً سواه، أما الكلب الذي يؤذي الماشية والأنعام فمسؤول صاحبه في جميع الأحوال حتى في العضة الأولى أو الإيذاءة الأولى، أما الأضرار التي تحدث للناس من عيوب أو خلل في المباني أو الدور، فن الساكنين في تلك الأبنية مسؤولين عنها، وعندما تكون الأبنية لا تزال في دور الإقامة

والبناء فإن صاحبها مسؤول لو أن حجراً أو لوحاً سقط على إنسان فآذاه، وعلى أصحاب المنازل التي لا تزال في دور الإنشاء والتشييد أن لا يتركوا حفراً أو أخاديد دون أن يسوروا عليها بسياج، وإذا أولم رجل وليمة، أو دعاه إلى مأدبة في بيته، فسقط الجدار عليه أو خر السقف، فأحدث له إصابات، أو تبع الوليمة، من ذلك أذى أصبح ملزماً أمام القانون عن تلك الإصابات، لأنه لم يحذر المدعو لها عندما أدب له تلك المأدبة الملعونة، والأشخاص الذين يعودون الأطباء في عياداتهم، أو يدخلون حوانيت المتجر لابتياع ما يروق لهم، ويصابون من خلل في تلك الأبنية لهم الحق في مقاضاة أولئك الأطباء أو التجار عما وقع لهم من الأذى والضر. العقود التي تبرم مع المجانين أو السكارى المنزوفين العقد الذي يبرم مع مجنون، والفريق الثاني لا يعلم بأمر جنونه، ولم تصل إليه دعوة ذهاب عقله، ثم يكون العقد عادلاً لا غبن فيه على المجنون، ولا رهق له ولا عسف، يعد صحيحاً قانونياً منفذ لا حائل دون العمل به. أما العقود التي تبرم مع السكران الذي لا يدري ماذا فعل فيصح الطعن فيها وإلغاؤها، إذا أفاق من سكرته، واستعاد صوابه، أما إذا ابتاع المنزوف الذي لعبت الخمر برأسه سلعاً من السوق، أو أمتعة من المتاجر، وهو سكران في حالة الغيبوبة، ثم إذا أفاق حفظها لديه، وأبقاها في حوزته، فلا يصح استرجاعها، أو الانفلات من دفع أثمانها إذا لم يكن التاجر قد قبضها إذ ذاك. ركاب القطارات شركة السكة الحديدية أو مصلحتها مسؤولة عن الحوادث والإصابات التي تقع للركاب أو أصدقائهم من جراء إهمال عمالها، وهذا ينطبق كذلك على الأفراد القادمين إلى المحطات في عمل من الأعمال المشروعة كاستلام الطرود أو إرسالها أو في سبيل التحريات أو غيرها، أما عن الأشخاص الذين يذهبون إلى المحطات طلباً للنزهة أو التلهي، أو لابتياع صحف الأنباء، فإن مسؤولية السكة الحديد عن إصابتهم التي قد تحدث لهم في تلك المحطات ليست من الأهمية بمكان ولكن على عمال السكة الحديد إذا علموا بأمر خطر أو أذى قد يصيب جمهور الواقفين في تلك المحطات أن يحذروهم من ذلك الخطر، وينذروهم

باحتمال وقوعه، وإلا أصبحت المصلحة ملزمة بتعويضهم عن الإصابات التي قد تحدث لهم ولكن السكة الحديد ليست ملزمة بأن تدفع للناس تعويضاً عن أخطار أو إصابات أصيبوا بها من شر أناس مسافرين بلا تذكرة بقصد الغش والتدليس، والأطفال الذين يسافرون في القطارات رفقة أقربائهم بلا تذاكر لصغر أعمارهم يستحقون تعويضات عما قد يصيبهم فيها، وكذلك على المسافرين الذين يسافرون بلا تذاكر ويثبت للقضاة أنهم كانوا عازمين حقيقة على دفع أجورهم. وليست مصلحة السكة الحديد مسؤولة إلا عن الإصابات التي تحدث من جراء الإهمال، أما إذا اتخذت المصلحة جميع الحيطات، فلا سبيل لأحد عليها في دفع تعويض له عن إصابة تحدث له، فإذا أصيب شخص فعليه أن يتخذ لنفسه الحذر إذا هو تقبل منها تعويضاً عرضته عليه لأنه إذا قبله عن رضى منه فلا يستطيع بعد ذلك أن يقاضي الشركة في سبيل نيل تعويض أكبر منه إذا ظهر أن الإصابة التي وقعت له أشد خطورة مما ظن لأول وهلة. وفي إنجلترة ينص القانون على أنه قد تحدد له في جدول المواعيد ميعاد معين لقيامه ثم لم يقم في ذلك الميعاد بعينه، إذ قام من المحطة المحدودة ثم تأخر في الطريق من إهمال عماله، فإن كل فرد من الركاب اضطر بحكم هذا التأخير إلى صرف نفقات كثيرة من جيبه يستحق شيئاً من التعويض، أعني أنه يستطيع أن يطالب بأجرة الفندق إذا دعت الحال إلى مبيته في تلك الليلة، ولكن ليس له أن يطالب بنفقة استئجار قطار مخصوص لمواصلة سفره، بل لا يستطيع أن يسترد من النفقات إلا ما دفع من جراء التأخير وعدم المواظبة في المواعيد، على أنه لا يكلف الشركة أن تدفع إليه الفوائد والأرباح التي قد كان يرتقب اغتنامها من الموعد الذي كان بينه وبين أحد الناس، أو مهمة من المهمات كان مسافراً من اجلها. فإذا تخلف مسافر في إحدى المحطات المتوسطة، فلا يستطيع بالتذكرة نفسها أن يواصل سفرته، فإذا اضطر مسافر إلى السفر إلى محطة بعد المحطة التي تخول تذكرته له السفر إليها، دون قصد إلى غش أو تدليس، فعليه أن يدفع الأجرة الإضافية، فإذا ركب المسافر في درجة أعلى من درجة تذكرته، فإنما يرتكب مخالفة إذا هو أراد من ذلك الغش، ولكن لا

غش، ثمت ولا تدليس إذا ألفى راكب الدرجة الثالثة أن مركبات تلك الدرجة مزدحمة ولا مكان فيها له، ثم اضطر إلى الركوب في الدرجة الثانية، لا يصح أن يدفع أجرة هذه الأخيرة على أنه ملزم بأن يعود إلى درجته، إذا خلت المقاعد فيها وتيسر الجلوس، فإذا اضطر المسافر بحكم الزحام إلى السفر في درجة دون الدرجة التي ابتاع التذكرة عنها، فيصح له مطالبة المصلحة بفرق الأجرة ولا يحق له أن يسلم تذكرته، ما لم يسترد هذا الفرق، فإذا سلم تذكرته، فله أن يلفت نظر محصل التذاكر (الكومساري) على هذه الحقيقة، ويأخذ رقم التذكرة ويعطيه اسمه وعنوانه، فإذا رفضت الشركة أن ترد الفرق غليه، فله أن يقاضيها في ساحة المحكمة، وحيث أن كل حجرة أو قمرية تسع مقداراً معيناً من الركاب فإن كل شخص يصر على الدخول فيها بعد أن امتلأت مقاعدها ويجد ممانعة من الجلوس فيها، ثم رفض، يلزم بغرامة، ويجوز للمسافر الذي يمنعه أن يرده ولا يسمح له بالدخول فيها، ولكن لا سلطان عليه في إخراجه إذا هو دخل ووجد فيها مجلساً له، أما المسافر الذي يبتاع تذكرة له في الدرجة الأولى وينزل بها ثم يأتي عمال القطار فيملأون درجته التي هو بركاب من الدرجة الثالثة فلا سبيل له ولا سلطان على المصلحة أن تخرجهم منها.

مطالعات

مطالعات أبو الصلت أمية بن عبد العزيز من بين شعراء الإسلام الذين ضربوا بسهم صائب في الأدب والشعر فضلاً أنهم ممن حذقوا صناعة الطب وفن الموسيقى والعلم الرياضي أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الداني الأندلسي. قال ابن أبي أصيبعة: بلغ في صناعة الطب مبلغاً لم يصل إليه غيره من الأطباء، وحصل من معرفة الأدب ما لم يدركه كثير من سائر الأدباء، وكان وحيداً في العلم الرياضي متقناً لعلم الموسيقى وعمله، جيد اللعب بالعود، وكان لطيف النادرة، فصيح اللسان، جيد المعاني، ولشعره رونق. قال: وأتى أبو الصلت من الأندلس إلى ديار مصر وأقام بالقاهرة مدة قم عادة بعد ذلك إلى الأندلس وكان دخوله إلى مصر في حدود سنة عشر وخمسمائة في خلافة الآمر بأحكام الله الفاطمي ووزارة الأفضل بن أمير الجيوش. قال: واتفق له وهو في الإسكندرية أن مركباً موقراً نحاساً وصل إليها فغرق قريباً منها ولم تكن لهم حيلة في تخليصه لطول المسافة في عمق البحر ففكر أبو الصلت في أمره وأجال النظر في هذا المعنى حتى تخلص له فيه رأي واجتمع بالأفضل بن أمير الجيوش وأفهمه أنه قادر إن تهيأ له جميع ما يحتاج من آلات أن يرفع المركب من قعر البحر ويجعله على وجه الماء مع ما فيه من الثقل فتعجب من قوله وفرح به وسأله أن يفعل ذلك ثم أعد له جميع ما يطلبه من الآلات وغرم عليها جملة من المال، ولما تهيأت وضعها في مركب عظيم على موازاة المركب الذي غرق وأرس إليه حبالاً مبرومة من الإبريسم وأمر قوماً لهم خبرة بالبحر أن يغوصوا ويوثقوا ربط الحبال بالمركب الغارق، وكان قد صنع آلات بأشكال هندسية لرفع الأثقال من المركب الذي هم فيه، وأمر الجماعة بما يفعلونه في تلك الآلات، ولم يزل شأنهم ذلك والحبال الإبريسم ترتفع إليهم أولاً فأولاً وتنطوي على دواليب بين أيديهم حتى بان لهم المركب الذي كان قد غرق وارتفع إلى قريب من سطح الماء وعند ذلك انقطعت الحبال الإبريسم، وهبط المركب راجعاً إلى قعر البحر. قال: ولقد تلطف أبو الصلت جداً فيما صنعه، وفي التحيل إلى رفع المركب إلا أن القدر لم يساعده، وحنق عليه الأفضل لما غرمه من الآلات وكونها مرت ضائعة وأمر بحبسه، وبقي في الاعتقال مدة إلى شفع فيه بعض الأعيان وأطلق.

قال: ومن تواليفه: 1 - كتاب الأدوية المفردة. 2 - رسالة في الموسيقى. 3 - كتاب في الهندسة. 4 - كتاب تقويم منطق الذهن. 5 - الرسالة المصرية. ذكر فيها ما رآه في مصر من هيئتها وآثارها ومن اجتمع بهم فيها من الأطباء والمنجمين والشعراء وغيرهم من أهل الأدب الخ. ومن شعره: تقريب ذي الأمر لأهل النهى ... أفضل ما ساس به أمره هذا به أولى وما ضره ... تقريب أهل اللهو في النَّدره عطارد في جل أوقاته ... أدنى إلى الشمس من الزهره وقال في موضع المعروف ببركة الحبش بمصر: لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش والنيل تحت الرياح مضطرب ... والسيف سلته كف مرتعش ونحن في روضة مفوفة ... دبج بالنور عطفها ووشى قد نسجتها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجها على فرش وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الصبا فلم يطش فعاطني الراح إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش وسقني بالكبار مترعة ... فتلك أروى لشدة العطش وقال: وراغب في العلوم مجتهد ... لكنه في القبول جلمود فهوى كذى عنة به شبق ... أو مشتهي الأكل وهو ممعود وقال في البراغيث: وليلة دائمة الغسوق ... بعيدة الممسى من الشروق كليلة المتيم المشوق ... أطال في ظلمائها تشريقي أحب خلق لأذى مخلوق ... يرى دمي أشهى من الرحيق يغب فيه غير مستفيق ... لا يترك الصبوح للغبوق لو بت فوق قمة العيوق ... ما عاقه ذلك عن طروقي كعاشق أسرى إلى معشوق ... أعلم من بقراط بالعروق

من أكحل منهما وباسليق ... يفصدها بمبضع دقيق من خطمه المذرب الذليق ... فصد الطبيب الحاذق الرقيق وقال: ساد صغار الناس في عصرنا ... لا دام من عصر ولا كانا كالدست مهما هم أن ينقضي ... عاد به البيدق فرزانا وقال يصف هرمي الجيزة بعيشك هل أبصرت أعجب منظراً ... على طول ما أبصرت من هرمي مصر أنافاً عناناً للسماء وأشرفا ... على الجو إشراف السماك أو النسر وقد وفيا نشزاً من الأرض عالياً ... كأنهما نهدان قاما على صدر

فضل الشرق على الغرب

فضل الشرق على الغرب وأثر المغرب على المشرق من أكبر العقائد التي مضى عليها أهل الغرب أن مدنيتهم الحديثة هي مبتكر عقولهم، ووليدة مسعاهم، ونتاج عملهم وافتنانهم، وأن الحضارة وقف على أممهم، واحتكار احتكرته شعوبهم، ولا يزال كتاب منهم وعلماء من أعلام صفوفهم يرمون الشرق بالجمود ويقرفونه بالتأخر، ويتراءى لهم الشرقي رجلاً متبلداً خامد القريحة، مغلول العزيمة، لا ينزل عليه وحي العظمة، ولا تمده الطبيعة بمستلزمات الرقي، ولم تمهد له القوة الإلهية أسباب المجد والرفعة، والسمو والعلاء، وإن الشرق لم يكن يوماً موطن العظماء ومهبط قواد الدنيا الأجلاء، بل قد كانت المدنيات التي أشرقت في جوانبه ووثبت في أنحائه نزوة من النزوات، وفلتة من الفلتات. وأنها لم تكن صالحة لأن تمكث في الأرض وتستقر. حتى أصبح جمع من كتابهم إذا كتبوا شيئاً عن الشرق نعتوه بالشرق الذي لا يتحرك! كأنما خيل لأهل الغرب أن العظمة تجري عليها سنن النباتات. والمواقع الجغرافية، وطبائع الإقليم، فلا تنبت إلا في منطقة معينة من مناطق هذا الكوكب. ولا تنقل أصولها وجذورها فتفرع وتزكو في غيرها من المناطق، وسواها من التخوم والأقاليم. وكأنما العظمة لا توجد إلا في مناطق الثلج والجليد كاللحوم المثلجة التي تنقل منها إلى البلد البعيد. وتستورد من أصقاع البرد والثلج الشديد. وكأن العظمة لا تحتمل وقدة الشمس وسعير القيظ حتى تطلع في مشرق الأرض، بل لا تجمد ولا تتكون إلا في مغيبها. وإن كانت العظمة من أكبر مطالبها الحرارة. وأكبر أعراضها اللهيب والتوقد والاضطرام. فهي خليقة أن تخرج مع الشمس. وتنمو على أشعة ذكاء في مهدها ومنشئها، ولا تصلح باردة ضاردة، تنمو مع مغرب الشمس واصفرارها في أفقها. وقد نسي هؤلاء أن الشرق موطن المدنيات العظيمة. ومسرح الحضارات الكبرى. وأن العظماء قد طلعوا فيه فخلدوا تاريخه. وأنه لا يزال قابلاً للرقي. كلما طلعت الشمس على العالم. وصالحاً للتقدم والعظمة لمتانة نفوس أهله. وقوة جذوة أرواحهم واضطلاعهم بالفضائل وقربهم من مواطن الأديان ومهد النبيين والقديسين. وإذا نحن أردنا أن نتغلغل في البحث عن الأسباب التي دعت جموعاً عظيمة من أهل الغرب إلى إنكار عظمة أهل الشرق واستكبار الحضارة على بلدانه والجهل بحقه وفضله

على الدنيا كلها، وعلى الغرب خاصة، وهم المعتزون بحرية الفكر النافجون باستقلال الرأي، المفاخرون بأن صراحة نفوسهم واستقلال أذهانهم وتحرر عقولهم تجعلهم في عاصم من متابعة الهوى والسكون إلى التحيز الرضا بذبذبة الرأي، فلا نلبث أن نجد أن هذا الاستقلال الفكري الذي به يعتزون ليس في الحقيقة إلا استقلالاً ظاهرياً أكثر منه حقيقة صادقاً، وأن الناس لا يزالون في إسار من ناحية الأذهان إذا هم أرادوا أن يروا أو يحكموا عن أعمال غيرهم وفضل سواهم من سائر أهل الإنسانية، فإنه في كل رجل من أهل الغرب يوجد رجلان ويتألف منه شخصان، الرجل الحديث العصري (آخر طبعة) وليد العلم والوسط الأدبي والذهني الذي نشأن فيه، والرجل القديم العتيق الذي لا يزال سلسلة مركبة تربطه بالماضي البعيد ومن هذا الرجل الذي يطل بين ثنايا الإنسان يستمد كل خص آراؤه في الناس وأحكامه في أخلاقهم وشؤونهم ومكانهم من الحياة والرقي بجانبه ويلوح لنا أنه يعز على أهل الغرب أن يعترفوا بأن الشرق هو الذي رقى الغرب. وأن الشرقيين هم سادات الدنيا في الحضارة. وعنهم أخذ الغربيون هذا الفضل العظيم الذي يزهون اليوم بآثاره في جميع أنحاء الأرض لأنهم يرون حاضر الشرق والنكسة التي انتكسها اليوم. والركود الآسن الذي جرى في أهله. فيشفقون من أن يعترفوا بالماضي ويدينوا للحق. ويصدعوا برأيهم العميق الخفي. في عظمة الشرق. فيكون من ذلك إنهاض لهمم الشرقيين واستثارة لعزائمهم واحتثاث علم على إعادة آثار ذلك الماضي المجيد والدولة التي لهم في عين الشمس. على أن الشرق وإن أصر الغربيون واستكبروا استكباراً لا يقل اليوم في مادة العظمة عن الفرب وإن تقاوي العظمة وبذورها لا تزال توجد في كثير من بلدانه وأقطاره، وإن لم تتيسر الظروف لزرع تلك البذور وسقيها، ولم تمهد الأرض الصالحة لإنباتها. وإخراج شطئها، ولكن تلك الظروف ولا ريب سانحة في مستقبل الأيام. والأرض عما قليل مخصبة صالحة لثمار تلك الزروع الطيبة. وإذا كان الغربيون ينكرون اليوم، ويدعون بأن العظمة احتكار من احتكارات شركاتهم وأممهم. فإن التاريخ لم يحرق بعد، ولا يزال كتاب الدنيا مفتوحاً يقرأ الناس فيه ما كان من المشرقين، وما كان من فضل الحضارتين.

ونحن نبسط للقراء ما كان من أثر مدنية من أكبر مدنيات الشرق في تهذيب بلاد الغرب. وهي المدنية الإسلامية. ثم نعقب بذكر شيء من آثار الغرب في بلاد الشرق. لنتبين أي الفضلين أعظم، وأي الحضارتين خلعت على الأخرى المآثر والمكرمات والحسنات الكبار. (2) فضل الشرق على الغرب من ناحية الأخلاق والآداب إن هذه الأخلاق التي يعجب بها أهل الغرب ويفخرون بها وتلك الآداب الجميلة التي يعتزون بها ويتسامون من إفساح الطريق للسيدات إذا خطرن وتلقيهن بالحفاوة إذا قدمن وتقديمهن على الرجال في المجالس. وما على تلك الألوان المختلفة التي يظهر فيها أهل الغرب عبادتهم لنسائهم. ومن احترام الشيوخ وإكبار المتقدمين في السن، والعطف على الأطفال والرحمة بالوالدان. وتقديس الإيمان والأقسام والبر بالوعود وكراهية الحنث بالمواثيق وجملة تلك الآداب الطيبة كل أولئك أخذه الغرب عن الحضارة الإسلامية. يوم بثت آدابها في الشرق والغرب. وانحدرت إلى إسبانيا. فكانت تلك الدولة في وحشية وهمجية وانحطاط لا تجد لها اليوم مثيلاً في أواسط إفريقيا، فلما هبط المسلمون تلك البلاد نفض أولئك القوم عنهم بربريتهم واتخذوا آداب الفروسية ومطالبها شعائر لهم ورسوماً. وفي العصر الذي قامت فيه الحروب الصليبية يشهد التاريخ والغربيون أنفسهم كما ذكر العلامة جوستاف لوبون أن الشرق كان إذ ذاك بفضل مدنية الإسلام ينعم بحضارة مشرقة النور فياضة الحواشي، مفعمة الروح بالآداب وألوان الرقي المختلفة، على حين كان الغرب مرتطماً في حمأة الهمجية. ونحن ننقل هنا رأي صاحب كتاب حضارة العرب في هذا الموضوع إذ يقول: أما الشرق فلم يستفد أهله من أهل المسيحية في تلك الحروب شيئاً، بل لم يكن منها إلا أن أثارت في قلوب الشرقيين الاستخفاف بالغربيين. ولم يكن منها إلا العصبية الموحشة القاسية للأديان، وهو الأمر الذي ما فتئنا نحا ربه اليوم ونعمل على إطفاء جذوته. حتى هذه الساعة. ولكن الغرب استفاد منها أعظم الفائدة في التجارة والصناعة والعلوم والآداب ومختلف الفنون، وذلك بفضل مدنية الشرق. فالشرقيون هم الذين أخرجوا الغربيين من الهمجية وأنقذوهم من وصمة البربرية وأعانوهم على حضارتهم الحاضرة.

ويقول المؤرخ العدل المنصف بارتلمي سانت هيلير: بفضل آداب العرب ومدنيتهم الإسلامية، استطاع سادات القرون الوسطى في بلادنا الغربية أن يخففوا من شر عاداتهم الوحشية. واستمد فرساننا من الاختلاط والمجالدة مع المسلمين جملة من العواطف الرقيقة والمشاعر العظيمة الجليلة والوجدانات الإنسانية التي لم يكن لهم بها عهد من قبل، ونحن في شك وريب من أن المسيحية وحدها هي التي أوحت بتلك الآداب، وارسلت فيهم روح تلك العواطف، لو لم يكن من حضارات الإسلام. (3) فضل الشرق على الغرب في الآداب والعلوم والفنون إن أهمية الأثر العظيم الذي أحدثته المدنية الإسلامية في الغرب لا تتيسر معرفتها وإدراك حدودها ومبلغ ما كان منها إلا إذا بسطنا للقراء حال أوروبا في العصر الذي دخلت فيه تلك المدنية أرض الغرب. فإذا ألقينا البصر إلى القرنين التاسع والعاشر من التاريخ المسيحي وهو العهد الذي أشرقت فيه مدنية الشرق في إسبانيا فلا نجد شيئاً هو أقرب إلى المدنية في الغرب من تلك القصور العظيمة التي كان يسكنها النبلاء والسادات وهم في الجهالة يعمهون، حتى أن كثيرين منهم كانوا يعتزون بأنهم لا يتنزلون إلى معرفة القراءة والكتابة، وكان أعلم العلماء في ذلك العصر طائفة من القساوسة الفقراء كانوا يصرفون أيامهم في تلاوة كتب العهود القديمة واستظهار آداب العصور الغابرة قبلهم. ولم تنشأ للعلم في الغرب بواكر ولم تبدر له بوادر إلا في أوائل القرن الثاني عشر إذ بدأ أهل الغرب يفطنون إلى وجوب أخذ مبادئ العلم والمدنية عن العرب فكانت إسبانيا وصقلية وإيطاليا الموارد التي ينتجعون إليها لإصابة حظ من المدنية، وكانت هي السبيل التي نفذ منها العلم إلى أوروبا بأسرها. ومنذ عام 1130 نشأت في قرطبة جامعة لترجمة أسفار العرب وتواليفهم وكان أثر تلك الكتب عظيماً، إذ فتح للغرب مغاليق علم جديد كانوا منه مقفرين وعرفوا منها فلاسفة العصور القديمة من الرومان واليونان وكانوا بهم جاهلين وراحت كتب العرب المنقولة إلى لغات الغرب، هي الموارد الأولى والمراجع الكبرى لجامعات أوروبا ومعاهد العلم في بلادها نحواً من ستمائة عام أو تزيد.

وعنها تقدمت العلوم الحديثة التي زهى علينا اليوم بها أهل الغرب، كالطب والعمارة والفلسفة والآداب والكيميا والطبيعة وما إلى تلك العلوم من أخوات لها وأقارب. ولو أنك اطلعت اليوم إلى إسبانيا لألفيت فيها آثاراً تدل على الإسلام وما كان من حضارته، ولا تحسب أن المدنية الإسلامية ماتت في تلك البلاد وعفت القرون عليها العفاء فلا تزال ثمت مدائن كثيرة ولا سيما إشبيلية غنية اليوم بآثار العرب مفعمة بالذكريات المتعددة عن مدنيات الإسلام فالبيوت لا تزال تبنى على الطراز الإسلامي ولا تختلف عن بيوت الإسلام وقصوره إلا بفقرها من الزينات والزخارف الجميلة ولا يزال الرقص فيا عربياً والموسيقى عربية ولا تزال المدنية الشرقية تدل على نفسها في وجوه الإسبان ومعارف محياهم، ومن هذا تعلم أنك قد تقتل الأمة من الأمم بأسرها وتحرق كتبها وتهدم آثارها، وتعفى على ذكرياتها ولكن لا تستطيع أن تستأصل الجذور استئصالاً وتنزع التأثير القديم نزعاً وليس في مقدرة الإنسانية أن تقتل ذلك الأثر، ولا تستطيع القرون أن تمحو منه إلا الشيء النزر اليسير. هذه آثار أوجزنا فيها الإيجاز كله على فضل الشرق وابتعاثه على الغرب على التقدم وإغرائه بالرقي وإنشائه هذه الحضارات الزاهية الألوان اليوم، فماذا كان من الغرب في الشرق وماذا ترك الأولون للآخرين. (2) آثار الغرب في الشرق ما كاد العرب يخرجون من الأندلس ويتركون غرناطة مهد الإسلام في المغرب حتى أخذ الغربيون يسومون أخلافهم فيها العذاب كله وكان أخلق بهم أن يتعلموا ذلك التسامح الذي نشره المسلمون في تلك البلاد وبثوا بذوره ولكنهم جعلوا يقتلونهم تقتيلاً حتى افنوا منهم خلقاً كثيراً وكان ينتظر إذ ذاك أن تفتح الإسبان بعد ذلك عهداً جديداً. وتخرج حضارة كبرى. ولكن إسبانيا لم تقم لها قائمة منذ خرج عنصر الإسلام منها. وتركتها الحضارة الإسلامية ولا تزال حالها قمينة بالرثاء. وهي في ضجعة لا تصحو منها وفي سبات عميق لا يعرف حده. ولا يدرك متى تستيقظ منه. وإذا أنت أجلت البصر في الشرق اليوم، وهو لا يزال في إسار الغرب فما أنت واجد شيئاً تستطيع أن تذكره فضلاً من أفضال المغرب على المشرق إلا إذا كانت المضاربات

والمقامرات والوسائل التجارية غير المشروعة وتوريد الخمر والبنادق والكتب المقدسة. والتعاليم الفوضوية، والمبادئ الحمقاء. تعد فضلاً وتذكر بالخير والثناء. حتى اشتد الفقر في جميع بلاد الشرق. وعم البؤس. والمجاعة والجدب. ولم تنجح مدنيات الغرب في بلاد الشرق مطلقاً ولم تصب رائد التوفيق لاختلاف مبادئ الشرقيين وأخلاقهم عن مبادئ الغرب وأمثلته العليا. . وتباين نوع الحياة في الشرق عنها في الغرب وتضارب عواطف الشرقيين وعواطف الغربيين. ومن هذا جعل الشرقيون يستشعرون الاستخفاف بالحضارة الغربية. ويجمدون على آدابهم. ويعضون بالنواجذ على كرائم خلقهم. أما مدنية الغرب في البلاد المتوحشة فكانت نتيجتها قاتلة مبيدة بسرعة مدهشة ففي إفريقيا جعل الزنوج يبيدون شعوباً وقبائل. من جراء شيوع الخمر والبنادق في بلادهم. هذا كل ما فعله الغرب في الشرق استناداً على ذلك الحق الجديد الذي أخرجته الفلسفة الحديثة. وهو حق القوي وتنازع البقاء وبقاء الأصلح. وها قد راح الغرب اليوم يمني الدنيا بالمنى المعسولة. وهو أن يعيش الناس جميعاً في عصبة واحدة تحت ظلال السلام المقيم. والأخوة العامة. والإنسانية المشتركة. وهي خدعة من الخدع الماضية. ولا يعلم إلا الله ماذا يراد بالضعيف منها. وماذا يبتغي الأقوياء من ورائها. لأن المعنى لا يزال في بطن الشاعر!.

عظمة المرأة الشرقية

عظمة المرأة الشرقية ومركزها في الإسلام لمناسبة مظاهرة السيدات المصريات في هذا الشهر فالمرأة المصرية المسلمة التي كان الناس في بلاد الفرنجة يقرفونها بالجهل ويرمونها بعيشة الحريم وحياة العزلة الصامتة ويضعون التواليف العديدة عن ظلم الرجال لها، وقبرها في خدرها، ولحدها في بيتها، وينشئون الأبحاث المتعددة المترادفة عن المركز الحقير الذي وهموا أن الدين الشرقي العظيم قد أحلها فيه ووضعها عنده، قد نهضت اليوم فما تركت للمرأة الغربية من ناحية الروح الاجتماعية شيئاً تنفج عليها فيه وتعتز به عليها، وتنظر منه ساخرة إليها، وكان من هذا الحادث التاريخي الجليل من ناحية المرأة المسلمة ما يقنع أولئك الذين اتهموا الإسلام بما هو منه بريء ويرد مطاعنهم ويدمغ حججهم في تأخر المرأة الشرقية، على أننا لا نرى من هذه المظاهرات التي أسهمت فيها النساء المصريات أمراً خارقاً للعادة وشيئاً غريباً عن تعاليم هذا الدين الإسلامي العظيم فقد جعل للمرأة مكاناً لم تكن للمرأة الغربية التي يزهى الفرنجة بها اليوم علينا، وكانت المرأة في الإسلام تشرف على جميع الشؤون الاجتماعية والأدبية والأهلية وكانت النصف المتمم للأمة، ومن هذه الوجهة لا نجد خيراً في بسط آراء رجل من كبار فلاسفة الغرب وعلمائها الاجتماعيين الطائري الذكر وهو العلامة جوستاف لوبون في مكانة المرأة في الإسلام ليكون تأييداً لهذه الحركة الجميلة الرائعة. وهذا هو البحث الذي آثرنا أن نستشهد به في قضيتنا الحاضرة. لقد كان للإسلام أثر يذكر في تغيير حال نساء الشرق وتقدمهن، والعمل على رقيهن، فهو لم يخفض من شأنهن، كما يقرفه عن جهالة أولئك الناس الذين لم يهدهم الله فضل البصر وبعد النظر، بل رفع من مكانتهن كثيراً، وسما بهن سمواً كبيراً، ونشلهن من وهدتهن الاجتماعية، بل أن القرآن نص عليهن نصوصاً هي خير كثيراً من السواد الأعظم من شرائعنا الغربية، ولقد كانت المرأة قبل عهد النبي محمد تعد من المخلوقات الوسطى بين الحيوان والإنسان لا تصلح لشيء إلا أن تلد أطفالاً وأن تكون خادماً لسيدها وبعلها، وكان مولد البنات يعد كارثة وزرءاً عظيماً، وكان الآباء يئدوهن، ويدسوهن في التراب أحياء

تجري فيهن الحياة والروح، ولم يكن هناك قانون يمنع الناس من هذا الأذى والجرم العظيم، كما لا يمنع الإنسان من رمي الكلاب الصغيرة في اللج والماء، وإذا نحن أردنا الآن أن نبحث في التأثير الذي مهد له الإسلام في اعتبار المرأة فعلينا أن نبحث في المكان الذي بلغت إليه المرأة المسلمة إبان حضارة العرب وفي العهد الذي تقدمت فيه مدنية الإسلام، وقد أثبت المؤرخون أن النساء كن يشغلن في الحياة مكاناً لم تبلغ إليه نساء أوروبا العظيمة إلا بعد قرون عديدة، لما انتشرت مبادئ العرب وفروسيتهم وأخلاقهم العظيمة في معاملة النساء عن طريق إسبانيا والأندلس يوم فتحها العرب وبثوا حضارتهم في المشرق والمغرب، فإن سكان أوروبا إنما استفادوا من العرب مبادئ النجدة وأخلاق الفروسية والاحترام العظيم للنساء الذي سنته تلك المبادئ ونصت عليه أخلاق الفرسان وتعاليم الشهامة والنجدة فالإسلام لا المسيحية كما وهم الناس عامة، هو الدين الوحيد الذي رفع المرأة من وهدتها الماضية فبلغ بها إلى المكان الجليل الذي تنعم به اليوم في العالم، فإن سادات أهل القرون الوسطى - وكانوا بالمسيحية مستمسكين - لم يروا للمرأة نصيباً من احترام ولم يعترفوا لها بمكان ولو أنن ألقينا البصر على تواريخنا القديمة لزال كل شك في حقيقة هذا الأمر فقبل أن يتمكن العرب من تعليم المسيحيين معاملة النساء بالحسنى وتلقينهم مبادئ الرفق والإحسان إليهن، والعمل على احترامهن كان الفرسان الغلاظ الأكباد في عهود الإقطاعيات في بلاد الغرب يسيئون إلى النساء أكبر إساءة ويعاملونهن أغلط المعاملة. وقد أظهر لنا التاريخ كيف كان مكان النساء وكيف كان الرجال يعاملونهن في عهد شارلمان، بل وكيف كان شارلمان العظيم نفسه ينظر إليهن إذ ذكر المؤرخ جاران دي لوهران أن شارلمان - ذلك الملك الكبير - في محاورة وقعت بينه وبين أخته نهض متوثباً عليها فأمسك بها من جدائل شعرها وجعل يضربها ضرباً مبرحاً حتى كسر لها ثلاث أسنان بقفازاته الحديدية التي كان يغطي بها يده ولا ننكر أنه تلقى منها الدفاع عن نفسها عدة لكمات طيبة، فإذا كان الملك شارلمان العظيم في عهد غير بعيد من تاريخ الدنيا قد أتى هذا الأمر الإد المنكر الدنيء، فإن الحوذي العصري وسائق المركبة في هذا الزمن يأنف من ذلك ويروح أكثر رفقاً بامرأته وأخواته منه. وخلف بعد العرب خلف أضاعوا تلك الحضارة المشرقة الجليلة وضعف بذلك مكان المرأة،

ولكن على الرغم من كل ذلك لا تزال حال المرأة المسلمة خيراً من حال أختها في بلاد الغرب وأقل أذى وضيراًـ، وأقرب إلى الصلاح والتقوى منها، على أنه وإن كان نصيب المرأة في الرقي قد ضعف ووهن كما بسطت لك من قبل، فلم يكن هذا من أثر القرآن أو عن رضا من الإسلام بل كان على كره منه ولم يكن للإسلام في إحداثه يد أو عامل من العوامل. وخلاصة ما نقول أن الإسلام هو الدين الذي رفع من قدر المرة، بل هو الدين الأوحد الذي سما بها دون جميع الأديان.

باب تدبير المنزل

باب تدبير المنزل طلب إلينا كثير من قرائنا الغيورين أن نفتح هذا الباب في البيان - وأن ننشر فيه الإرشادات النافعة والأمثلة العليا الصالحة لملكات البيوت والأسر السيدات في ضروب تربية الطفل - وتدبير الصحة والمنزل وما إلى ذلك. كيف يربى الطفل وقد رأينا أن ننشر اليوم خلاصة ما ذهب إليه علماء الدنيا السابقون واللاحقون من المبادئ التي نصحوا للإنسانية بضرورة إنفاذها في أكبر علوم الاجتماع، ونعني به التربية لتكون الفصول التي نعقدها هي جماع الطرائق الطلية ولب النظريات التي لا تحصى ولا تعد في فن التربية. (1) - التربية ينبغي أن تبتدئ منذ ساعة الميلاد: لو أننا استطعنا أن تحدث جميع التطورات والتغيرات الاجتماعية التي تصبو إليها نفوسنا وأتعب المصلحون وطلاب الأمثلة العليا أنفسهم في سوق الناس إلى الدنو منها، لما عتمنا إذ ذاك أن نخيب في غرضنا، ولعجزنا عن مواتاة هذا التغيير والإصلاح ولانتكسنا نكسة مكروهة وعدنا رجعة سريعة رهيبة، وذلك أن الناس ليسو متساوين أعدالاً من ناحية المطالب الكمالية ولا تلبث الأخلاق والعادات والظروف المحيطة بالأفراد والمنازع النفسية أن تحل ما أنجزنا بالوسائل الآلية، وتفسد علينا ما فعلنا من التغيير الاجتماعي، فإن التربية المهملة في المبدأ لا يستطيع أحد إصلاحها من جميع وجوهها أو علاجها من جميع عللها، وكثيراً ما تؤدي المساعي التي نبذلها في تقويم اعوجاج الكبار وإصلاح نفوس الشبان إلى نتائج متباينة وغايات متباعدة غير متشابهة وهذا المبدأ ينطبق على جميع ما نشاهده من التجاريب فالفرد الذي تهدمت صحته منذ صغره لا يفتأ يعاني نتائج ذلك كوال حياته، ومهما احتاط لنفسه، واجتهد في العناية بصحته، وقد يعنى أكبر العناية بالإفراط في النظافة والتماس الهواء الطلق السليم للنقي، واختيار الطعام الطيب السريع الهضم واتخاذ الرياضات البدنية الصالحة ثم لا يزال يرى نفسه مع أولئك ضعيفاً مريضاً ضاوياً مهزولاً على أنك تجد الرجل القوي الجثمان الصحيح البدن قد يتمادى في إهمال نفسه، وإطراح العناية بصحته، ولا يكترث البتة بقوانين الصحة، ويضحك منها ساخراً، وينظر إلى العاملين على

الاستمساك بأهدابها هازئاً ضاحكاً ثم لا نراه مريضاً ولا تلفيه يشكو من صحة أو علة أصابته، اللهم في أندر النادر، ومن ذلك تعلم أن بذل الجهد في العناية بأنفسنا، بلا مبدأ ولا احتفال من الصغر لا يفيد فتيلاً ولا يرد مرداً، وهذا يبعثنا على الاعتقاد بأن الأخلاق تجري هذا المجرى، وتصح عليها هذه الطريقة وهي تتبع السنن التي تنطبق على الطبيعة الإنسانية ومن هذا يتبين لك أن لا بد من البدء بتربية خلق الإنسان وشخصيته من ساعة الميلاد. (2) - التربية ينبغي أن تسير على نظام معين، فإذا كانت الطبيعة قد هيأت لك وأغنت عنك أمر التطور الطبيعي لطفلك ونمائه الجثماني فقد تركت لك أن تنفذ مقاصدك ومبادئك التي تريد أن يشب عليها طفلك في كل مرحلة من مراحل هذا النماء فعليك أن تكون عليماً بالغرض الذي تريده والوسائل التي تستخدمها في تنفيذ هذا الغرض، فإن أي إنسان أوتي شيئاً من العقل والملاحظة يدرك أن التربية التي لا تجري على نظام، ولا تمشي على شيء معروف لا تحدث إلا اليأس، ولا تنشيء نتيجة طيبة، ولا تجدي أيما جدوى، ومثل ذلك كمثل رجل مصاب بزكام حاد وجعل يأخذ أدوية كثيرة ويحاول علاجاً كثير الألوان ثم يعجب لماذا لم ير للزمام دليلاً على أن سيهم بالرحيل عن أنفه والاختفاء عنه فمهما كانت نظريتك في التربية على جانب عظيم من الحسن والسداد والرجاحة فلا عون لك على الاستفادة منها إلا العناية الشديدة بإنفاذها واستخدام الذكاء واللباقة في اتخاذها، وغلا كانت النظرية الطيبة والنظرية الفاسدة المجنونة سيان من ناحية النتيجة، أما السآمة والضجر والقلق التي يعانيها المربي من جراء اتخاذه طريقة منظمة في تربية أطفاله فهي لا تكاد تذكر بجانب المتاعب التي يعانيها سواه من جراء إهماله إيجاد تربية على نظام معين فإن الأطفال مثلاً قد يصرخون ويصيحون طلباً لشيء من الأشياء أو طمعاً في قطعة من الحلوى أو ما أشبه ذلك، فلا يلبث الآباء أن يبرموا بصراخهم وينزعجوا من صياحهم فينزلوا لهم عن مطالبهم، فلا يؤدي هذا إلا إلى أن الأطفال يعتادون اتخاذ الصياح والبكاء الواسطة الكبرى لغاياتهم ومقاصدهم، ومن هذا كان كثيرون من الآباء بانقيادهم إلى أطفالهم وإذعانهم إلى صياح ولدانهم طلباً للراحة، وإبعاداً للانزعاج لا يصيبون من إذعانهم هذا إلا الألم والاضطراب العصبي ويجد الطفل نفسه أقل سعادة ورضا، إذ يفتقد المرشد والهادئ

ويعوزه الحارس والرقيب ولكن كل ذلك يستطيع الناس اجتنابه إذا هم اختطوا لأنفسهم طريقاً صائبة طيبة في التربية تعمل على تهذيب الطفل، وتؤدي إلى الغرض الكمالي المطلوب، ومشوا على تلمك الطريقة، وجمدوا على تلك السنة، فلا يحيدون عنها ولا يعتسفون غيرها. فإذا أنت اتخذت هذه الطريقة ولم تنزل للصبي أو الولد عن طلبته بصراخه وخوفاً من ضجته وصياحه، ألفيت نفسك في أول الأمر تعاني منها آلاماً شديدة وتجد منها رهقاً كبيراً، ولكن عليك أن تتحمل صابراً جميع تلك الآلام، وتضطلع بهذا الرهق راضياً، فإن الصحة الجيدة في الآباء وسيلة من وسائل تخفيف تلك الآلام، وإذا كان الآباء أقوياء الأعصاب استطاعوا أن يهزأوا بالألم ويتحملوا العناء غير ساخطين ومن هذا تدرك أن عليك في بادئ الأمر أن لا تكون قلقاً جموحاً مضطرب الأعصاب، تقابل صياح الأطفال بالصياح ويستصرخونك فتستصرخهم وعليك أن لا تتململ ولا تجزع من شقاوة أطفالك. بل يجب أن لا تقاوم أو تحاول استئصال النشاط الوثاب الصياح الصارخ المعول الذي تهب الطبيعة الأطفال في طفولتهم الأولى. (يتبع)

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية وكان سيرنا في محاذاة الساحل بحيث نبصره رأي العين، وصرنا نسرح النظر في عمائر وقرى متصلة، وحصون ومعاقل في قلل الجبال مطلة، وقد أرسل إلينا الله ريحاً طيبة رخاء زجت السفينة تزجية طيبة، فكانت تلك الساعة من أطيب ما يظفر به السفر، في هذا البحر، وما زلنا في أنعم حال وأطيبها حتى استقام ميزان النهار وقام قائم الظهيرة وإذ ذاك أبصرنا عن يميننا تسع جزائر متجاورة آنسنا فيها دخاناً يصاعد من جبلين في جزيرتين من هذه الجزائر، فرأيت بعض المسافرين وقد ضربوا بأذقانهم الأرض، لما ألم بهم من الذعر، فقال أبو عبد الله الصقلي لا عليكم أيها الأخوان، ولا تكونن قلوبكم كقلوب الطير تنماث كما ينماث الملح في الماء، إن هذه البراكين مأمونة الناحية، وليست تزفر في النهار إلا هذا الدخان الذي ترون، أما البركان المخوف فهو ذلك الرابض في الجزيرة الكبرى (صقلية) وقد ابتعدنا عنه والحمد لله، وهنا سأله بعض القادمين من المشرق الإفاضة في صوف هذه البراكين وسر تلك الفظائع التي تتوارد أخبارها إلى المشرق، فأخذ أبو عبد الله يفيض في القول على طريقته الفلسفية، ولا بأس إذا نحن أثبتا هنا زبدة قوله إتماماً للفائدة. البراكين في صقلية والجزائر المجاورة لها وما قاله فلاسفة الإسلام في ذلك قال أبو عبد الله ما ملخصه: من المعلوم الذي لا خفاء به أن هذه الكرة الأرضية السابحة في الفضاء بجملتها وأجزائها ظاهرها وباطنها طبقات، ساف فوق ساف، مختلفة التركيب والخلقة، فمنها صخور وجبال صلبة، وأحجار وجلاميد صلدة، ورمال جريشة، وطين رخو، وتراب لين وسبارخ وشورج، بعضها مختلف ببعض، أو متجاورة كما قال الله جل شأنه {وفي الأرض قطع متجاورات} وهي مختلقة الألوان والطعوم والروائح فمن ترابها وأحجارها وأجبالها حمر وبيض وسود وخضر وزرق وصفر كما قال جل ثناؤه: ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، وهي مع ذلك كثيرة التخلخل والثقب والتجاويف والعروق والجداول والأنهار داخلها وخارجها، كثيرة الأهوية والمغارات

والكهوف وفيها من أنواع المعادن السائلة والجامدة ما لا يحصى كثرة، وهذه الأهوية والأواه إذا حمي جوف الأرض بتأثير الشمس فيه كتأثير القمر في مد البحر وجزره سخنت تلك الأمواه ولطفت وتحللت وصارت بخاراً وارتفعت وطلبت مكاناً أوسع، فإن تكن الأرض كثيرة التخلخل تحللت وخرجت تلك البخارات من تلك النوافذ، وإن يكن ظاهر الأرض شديد التكاثف حصيفاً منعها من الخروح وبقيت محتبسة تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج، وربما انشقت الأرض في موضع منها وخرجت تلك الرياح مفاجأة وانخسف مكانها ويسمع لها دوي وهدة وزلزلة، وإن لم تجد لها مخرجاً بقيت هناك محتبسة وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية ويغلظ وتتكاثف تلك البخارات وتجتمع أجزاؤها وتستحيل إلى ماء وتخر راجعة إلى قاع تلك الكهوف المغارات، وتمكث زماناًـ، وكلما طال وقوفها ازدادت صفاء وغلظاً حتى تصير زئبقاً رجراجاً وتختلط بتربة تلك المعادن وتتحد بها، وقد تستحيل إلى كبريت أو نفط أو غيرهما حسب اختلاف ترب القاغ، فيكون من ذلك ضروب الجواهر المعدنية المختلفة الطبائع - قلنا أن في الجبال جبالاً وفي الرض أرضين يجوفها كهوف ومغارات وأهوية حارة ملتهبة، فهذه الكهوف قد تجري إليها مياه كبريتية أو نفطية دهنية فتكون لها دائماً - فإذا اختنقت هذه المواد بفعل الحرارة ذهبت صعداً تطلب الخلاص - فقد تكون هذه المواد دخاناً صرفاً كما هي حال هذين البركانين في هاتين الجزيرتين، وهذا الدخان يخرج بقوة شديدة حتى لقد يقذف فيه الحجر الكبير فترده رداً قوياً - وقد تكون هذه المواد أحجاراً محترقة ومواد أخرى كبريتية ونفطية نارية تخرج كالسيل العرم فلا تمر بشيء إلا أحرقته كما يكون من جبل النار الذي في الجزيرة نفسها، وترى هذا الجبل يرمي فيما يرمي بجمر كبير كأعدال القطن يقع بعضه في البر فيصير حجراً ابيض خفيفاً يطفو على وجه الماء لخفته، والذي يقع في البحر يصير حجراً أسوداً مثقباً تحك به الأرجل في الحمامات، وهو كذلك لخفته يطفو على الماء، ومن غريب الأمر أنه إذا وقع هذا الحجر على حجر احترق ذلك الحجر واشتعل كما يشتعل القطن حتى يصير ذلك الحجر غباراً كالكحل، أما الحشيش وسائر ضروب النبات فلا تحترق، ولا يحترق إلا الحجارة والحيوان، فكأنها نار جهنم التي وقودها الناس والحجارة.

هذا ويسمي الأهالي عندنا أحد البركانين الموجودين في هاتي الجزيرتين (بركاناً) ويسمون الآخر (استنبري) ومعنى بركان واستنبري فيما علمت الرعد والبرق. وقد لاحظت أن معادن الكبريت الأصفر لا توجد في الأعم الأغلب إلا بجانب البراكين، ففي هاتين الجزيرتين معدن كبريت لا يوجد مثله بموضع آخر، رأيته ورأيت القطاع الذي يقتطعونه - رأيتهم وقد تمرطت شعورهم ونصلت أظفارهم من حره ويبسه وهم يذكرون أنهم يجدونه في بعض الأيام سائلاً متميعاً فيتخذون له في الأرض مواضع يجتمع فيها م يجدونه في غير ذلك قد تحجر فيقطعونه بالمعاويل، وكذلك ترى بجانب جبل النار الذي في الجزيرة نفسها آبار زيت النفط الذي لا يخرج منها إلا في وقت معلوم من السنة - في شهر شباط وشهرين بعده - فتراهم في ذلك الوقت ينزلون في هذه الآبار على درك ويخمر الرجل الذي ينزل فيه رأسه ويسد مسام أنفه - منخريه - وإن تنفس في أسفل البئر هلك لساعته، وما يستخرجونه من هذا الزيت يضعونه في أواني فيعلو الدهن منه وهو المستعمل، وذلك كله مما يدل على طبيعة هذه الأرض الغريبة الشن ولله في خلقه شؤون، سبحانه مالك الملك لا لإله غيره. مدينة بلرم حضرة جزيرة صقلية ولقائي أميرها أبا الحسين أحمد كان وصولنا إلى مدينة بلرم بعد انفصالنا من مدينة مسيني بيومين كاملين، وكان تعريجنا عليها دون قصد منا إليه، إذ كانت الريح غير موافقة في ذلك اليوم وهو يوم الأحد الخامس عشر من شهر جونيو الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح، فاضررنا أن نقيم في هذه المدينة ريث أن تأتي الريح الموافقة، ولقد اهتبلت هذه الفرصة فجلت في المدينة جولة وقفت فيها على أشياء كان لا بد من اجتلائها، وقد أسعدني الحظ فقابلت أميرها من قبل المعز لدين الله الفاطمي أبا الحسين أحمد بن أبي الحسن الكلبي وجرى بيني وبينه حديث مشوق سأذكره لك بعد أن آتي على وصف هذه المدينة إن شاء الله. مدينة بلرم هي حضرة جزيرة صقلية، ففيها يقيم الوالي الذي يوليه الفاطمي وفيها قاضي

القضاة وديوان الحسبة ودار الصناعة، وفي مينائها يربض أسطولها الأعظم، ومنها يغدو ويروح مختالاً في ثبج هذا البحر فيغزو ما شاء أن يغزو من جزائره وعدوته الشمالية - جنوب أوروبا - وهي لذلك كله وبفضل ما أحدثه المسلمون فيها من ضروب العمران تراها من أجمل المدن وأفخمها - فهي بهذه الجزائر أم الحضارة، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئت فيها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، تتطلع لك بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان يشقها نهر ينساب فيها مثل الحية المذعور، أو السيف المشهور، ويطرد في جنباتها أربع عيون زاخرة عليها أرجاء كثيرة لا تحصى. بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاوس كأنما الأنهار في ساحاتها ... خمر وكأن ساحات الديار كؤس وهي تنقسم إلى خمسة أقسام محدودة متباينة متجاورة، فقسم هو المدينة الكبرى التي تسمى بلرم، يسكنها التجار، وفيها المسجد الجامع، الذي كان في القديم بيعة للروم، وهو الآن لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المبتكرة من ضروب التصاوير وصنوف التزاويق التي أبدعها المسلمون فيه يعد من أعجب عجائب الدنيا النامة عن حذق العرب ومهارتهم في الصناعة إلى الحد الذي لا وراءه، في هذه المدينة وفي أقسامها الأخرى نيف وثلاثمائة مسجد ولم أر مثل هذا العدد في بلد من البلدان، ومن غريب الأمر أني كنت واقفاً في جوار دار أحد الفقهاء الأعيان في هذه المدينة وهو أبو محمد القفصي الوثا قي فبصرت فريباً من مسجده على مقدار رمية سهم عشرة مساجد، ومنها المسجد تجاه المسجد لا يفصلهما إلا الطريق وأغرب من ذلك أن من بين هذه العشرة المساجد، وغلى نحو عشرين خطوة من مسجد الفقيه القفصي المذكور مسجداً لابنه ابتناه ليتفقه فيه، منعزلاً عن أبيه، وهذا عمرك الله مما يستشف الناظر من ورائه أبهة القوم واعتزازهم بسلطانهم وأنهم سادة هذه البلاد ولا جرم كان ذلك باعثاً لهم على التنافس في المفاخر والمكارم وسائر خلال الخير والكمال، وهو معنى من المعاني التي يستتبعها الملك والغب والسلطان. أما القسم الثاني من أقسام بلرم فهو المعروف بالخالصة، وهو مقام الوالي وأتباعه، وليس

فيه أسواق ولا فنادق، وبه حمامان، وفيه مسجد جامع مقتصر صغير، وفيه حبس الوالي ودار صناعة البحر والديوان. والأقسام الأخرى الثلاثة، فقسم يعرف بحارة الصقالبة، وهذا القسم أعمر من القسمين السابقين وأجل ومرسى البحر به، وآخر يسمى حارة المسجد، وثالث يسميه القوم الحارة الجديدة، وأكثر الأسواق في هذا القسم كسوق الزياتين والصيارفة والصيادلة والخرازين والصياقلة والنحاسين وسوق القمح وسائر الصناع على اختلافهم، وفي هذه الحارة الجديدة نحو من خمسين ومائة حانوت لبيع للحم وهذا مما يدل على استبحار العمران في هذه الجزيرة ورخاء أهليها وكثرة عديدهم، فسبحان المعز لمن يشاء. ولقد حدثني الفقيه الوثائقي حديثاً يجمل بنا أن نجلوه لك الآن فقال: إن المسلمين لما فتحوا هذه الجزيرة، وبلاد قلورية من بر الأرض الكبيرة واستوثق لهم الأمر، ومدت لهم أمم الفرنجة يد الإذعان أخذوا حسب عادتهم في كل بلاد يفتحونها بنية الإقامة فيها، وإصلاح حال أهليها، في أن يستنقذوا هذه البلاد من تلك الحمأة المنتنة التي كانت مرتطمة فيها أيام حكم الرومان، فنشروا في البلاد ألوية العدل، وعمدوا إلى الزراعة فانتعشت بعد صرعتها، وإلى التجارة فهبت من رقدتها، وإلى الصناعة فانتاشوها من وهدتها، ووثب الأهلون وثبة كأنما أنشطوا من عقال، فكثرت الأموال واغدودقت الخيرات إلى الحد الأقصى، وافتن الناس فاتنانهم في ضروب الترف والنعيم واتساعالعيش والتأنق فيه والتلون بأزهى ألوانه. قال الفقيه: أما عدل المسلمين فإنك لتجد انصارة هذه البلاد لا يكاد المسلمون ينمازون عنهم بشيء، فالجميع يرتعون متبحبحين متحابين، وكل متمتع بعيشه وعقيدته وطقوسه فللنصارى كنائسهم كما أن للمسلمين مساجدهم، وإذا جاء عيد من الأعياد رأيت أعلام النصارى بجانب أعلام المسلمين، أما علم النصارى فقد صور فيه صليب مذهب في بهرة ساحة حمراء، وعلم المسلمين قد رسم فيه حصن أسود في ساحة خضراء، وأما نساؤهم فربما رأيتهن اليوم (الأحد) وهن ذاهبات إلى الكنائس، وقد تشبهن بنساء المسلمين لأن المغلوب كما تعلم مولع دائماً بتقليد الغالب، فانتقبن بالنقب الملونة، وانتعلن الأخفاف المذهبة، ولبسن الحرير الموشى بالذهب، والتحفن اللحف الرائقة، وتزين بكل ما يتزين به المسلمات: إن من يدخل الكنيسة يوماً ... يلق فيها جآذراً وظباء

وليس يطلب من النصارى سوى تلك الأتاوة التافهة المفروضة عليهم لقاء قومة السلطان على الرعية، وهي دينارات يؤديهما غنيهم في كل شهر، ودينار واحد يؤديه صناعهم وأرباب الحرف منهم، أما النساء والأطفال فليس بمفروض عليهم وهم يقرون بأنهم لم يذوقوا طعم هذا العيش الأخضر إلا على عهد المسلمين. أما الزراعة فقد شققنا الأنهار، واحتفرنا الجداول، وأقمنا عليها القناطر الحاجزة وأحيينا الأرض الغامرة، فأخصبت ودرت وربت، وأخذت زخرفها وازينت، وجلبنا إلى هنا كثيراً من الأشجار والأزهار وضروب النبات التي لم يكن ليعرفها أهل البلاد الأصليون مثل القطن والقصب وشجرة الزيتون والبردي الذي لا يوجد إلا في مصر وكثير غير ذلك. وأما الصناعة فقد خطت بفضل المسلمين خطوات بعيدة المدى فاستثرنا دفائن الأرض ومعادنها من الفضة والنحاس والرخام والحديد، ومهر المسلمون في ضروب الصناعات الشتى الألوان، فحذقوا صنع الحرير والصباغة وما إليهما وكذلك تراهم قد برعوا وأربوا وتفوقا في سائر العلوم الصناعية بله الأدبية والدينية والفلسفية حتى أن الفرنجة لانبهارهم من براعة المسلمين فيما بلغني يقرفونهم بالسحر، وما هو عمر الله بالسحر، إن هو إلا تسنمهم ذورة الكمال، وهوى هذه الأمم الحمراء إلى الحضري الأوهد والنجم تستصغر الأبصار صورته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر. وأما التجارة فلعلك فد شاهدت كثرة السلع والبضائع المجلوبة إلى هذه البلاد، والحوانيت والمتاجر المتكاثرة في شوارع البلد، وكذلك عساك قد أبصرت الحركة المباركة في مينائنا وعمار المكوس فيها مما تتحقق منه أن الجزيرة قد شأت شأواً بعيداً في التجارة بفضل نشاط المسلمين وإقدامهم وبعد هممهم، وكل ذلك بما أثر فيهم روح هذا الدين القويم وآدابه الإلهية. لقائي الأمير أبا الحسين أحمد ابن أبي الحسن الكلبي والي جزيرة صقلية وإني لجالس مع الفقيه الوثائقي في مسجده بعد أن تغدينا وصلينا صلاة الظهر ثم أخذنا بأطراف الحديث بيننا إذ دخل علينا المسجد خادم من قبل الأمير، فذعر الفقيه عندما أخذت

عينه هذا الخادم فذعرت لذعره ثم قال الخادم إن الأمير يدعوك الساعة إليه ومعك ضيفك المصري، فقلت للفقيه أثم ما يخاف منه فأفرخ روعي وقال الآن لا أظن ثمت شيئاً أكثر من رغبة الأمير في أن يستطلع منك طلع مصر والمصريين، وأميرنا حفظه الله من خواص أهل الأدب وعليتهم، وإنه لذو حظ عظيم من رجاحة العقل وسجاحة الخلق يحب الأدباء ويقربهم إليه ويتحدث معهم كما يتحدث النظير مع النظير، على أن اليوم في صقلية كأنه عيد من أعياد الأهلين، إذ كان قد ورد من أيام على الأمير كتاب من أمير المؤمنين المعز لدين الله يأمر الأمير فيه بإحصاء أطفال الجزيرة وأن يختتنهم ويكسوهم ويحبوهم بالعطايا في اليوم الذي يختتن فيه ولد أمير المؤمنين، فكتب الأمير خمسة عشر ألف طفل ثم اختتن ولده وأخوته، وقد أمر اليوم باختتان سائر أطفال الجزيرة وخلع عليهم وفرق فيهم مائة ألف درهم وخمسين حملاً من الصلات وردت عليه من أمير المؤمنين فكيف نتوقع شراً من الأمير في مثل هذا اليوم المبارك. وقد كان مع الخادم بغلتان فارهتان من مطايا الأمير وقد جللتا بالديباج وحليتا بالفضة، فركبت أنا والفقيه وسرنا حتى وصلنا إلى دور الإمارة فوقعت عيني على شيء لم تقع على مثله من قبل: قصور كالكواكب لامعات ... يكدن يضئن للساري الظلاما * * وقبة ملك كأن النجو ... م تفضي إليها بأسرارها لها شرفات كأن الربيع ... كساها الرياض بأنوارها * * كأن جن سليما الذين ولوا ... إبداعها فأدقوا في مغانيها ولما أن وصلنا إلى دور الإمارة اشار علينا الخادم بالنزول وأسلمنا إلى الحجاب فساروا بنا في ممر مفروش بالصحباء، تتخللها الفسيفساء، ثم سلكوا بنا حدائق فيحاء، مترامية الأنحاء، قد اغلولبت فيها الأشجار، وتعلقت بأغصانها الأطيار، وانسربت فيها الجداول، واعشوشبت فيها النجوم والأزهار. والجو من أرج الهواء كأنه ... ثوب يعنبر ويمسك

وما زلنا إلى انتهينا إلى قصر الأمير، فرجع الحجاب بعد أن أسلمونا إلى الحجاب المقربين، فرقي بنا هؤلاء سلماً من الرخام ينتهي بالراقي عليه إلى بهو عظيم يملأ صدر الناظر إليه مهابة وجلالاً فاجتزناه واجتزنا بعده غرفاً ومقاصير عدة حتى انتهينا إلى مجلس الأمير، وناهيك به ملجساً لم أر ما هو أحق منه بقول من قال: قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعادة إلى المقام بصيرا أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناطري محسورا فظننت إني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه فتكبو عن مداه قصورا ضحكن محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا وإذا الولائد فتحت أبواه ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكبيرا فكأنما لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا ومصفخ الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضاً من السماء نضيرا وصنعت به صناعها أقلامها ... فارتك كل طريدة تصويرا وكأنما للشمس فيه ليقة ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا فلما أقبلنا على المجلس غلبني البهر من جلالة الأمير، فسلم الفقيه الوثائقي ثم سلمت بعده بالإمارة فرد علي السلام باشاً في وجهي وأذن لنا بالجلوس، وقد كان قاضي القضاة جالساً على يسار الأمير، ثم أخذ الأمير في أحاديث شتى يقصد بها لعله أن يؤنسني وينفي الوحشة عن ساحتي، وبعد أن آنس مني الأنس به قال: أي منتوى ينتوي أخونا المصري إن شاء الله، فقلت إني أنتوي يا مولاي القطر الأندلسي، فقال: ومتى زايل مصر؟ فقلت منذ نيف وعشرين يوماً فقال: وكيف فارقتها.؟ فقلت: على أحسن حال يا مولاي الأمير. فقال: وكيف حال الأمير أنوجور وحال كافور معه فقد اتصل بنا أن كاوفراً قد استبد به وغلبه على أمره. فقلت: إذا كان كافور يا مولاي قد استبد بالأمير أنوجور فإن المصريين قد استبدوا بكافوا، فقد أصبح كافور للمصريين لا لنفسه ولا للأمير، فسيرته فينا عادلة رشيدة، وحاله

معنا جميلة سديدة لأنه يعلم أن الملوك إنما هم خدام الرعية فكيف يظلمونها ويستجيزون كيدها ولم يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ على أن كافوراً ليس هو وحده الذي ينهض بأعباء الملك، وإنما يشد إزره، ويشاركه أمره، وزيرنا الأعظم، أبو الفضل جعفر بن الفرات وغيره من رجالات الدولة. فقال الأمير: ولكن أليس أليق بكم وأسمى وأنبل أن يلي أمركم ابن بنت رسول الله صلى الله علية وسلم أمير المؤمنين المعز لدين الله، وأنت تعلم أيها الأخ أن العباسيين قد ضعف أمرهم، وتضعضعت حالهم، والتاث عليهم ملكهم، وانتزى الأعاجم والأتراك على البلاد فاقتطعوا الممالك منهم وتفردوا بالأمر دونهم - أما عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس فقد اكتفى بما في يده من الممالك المترامية الأطراف، فلم يبق إلا أن يستظلوا بظل خلفائنا الفاطميين حتى يحموكم ويردوا عنكم طمع الطامعين. وهنا طار طائر الغضب إلى رأسي فلم ألبث أن اندفعت قائلاً: إن مولاي الأمير حفظه الله يعلم أنه إذا عد من أظلم الظلم وأنكر النكر أن ينقض جارح من الجوارح على وكر طائر آمن في سربه فيزعجه في سكنه، وينغص عليه عيشته، ويستلبه سراحه وحريته، ويضطرهإما إلى الظعن إلى جو غير جوه، أو الإقامة بجواره بين مخلبه وظفره، فإن من الظلم الذي لا ظلم وراءه أن تعدو أمة على أخرى وحجتها في ذلك أن تحميها من طمع الطامعين. أليس من السفسطة، وابعد ما يقال في باب المغالطة، أن يعدو قوم على قوم بحجة أن هذا العدوان إنما هو وقاء لهم من عدوان الآخرين؟ ولم لا تبدأ هذه الأمة بنفسها فتريح غيرها من عدائها إن مولاي الأمير ليعلم أن فطرة الإنسان معجونة بحب وطنه، ولذلك يقول بقراط: يداوي كل عليل بعقاقير أرضه، ويقول جالينوس: يتروح العليل بنسيم بلده كما تتروح الأرض الجدبة ببلل القطر، والكريم يا مولاي يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى غابه، فلا جرم أن يتغلغل حب مصر والمصريين في السواد من حبة القلب مني، حتى لكأني المعني بقول من يقول: كأن فؤادي من تذكرة الحمى ... وأهل الحمى يهفو به ريش طائر وكيف لا أحب بلداً ولدت فيه، وأرضه هي أول أرض مس جلدي ترابها وقد طعمت غذاءها، وشربت ماءها النمير، ماء نيلها المبارك الذي يعذر الأقدمون عن زعمهم أن الجنة منبعه انسرب منها إلى هذه الخضراء:

بلد صبحت به الشبيبة والصبى ... ولبست فيه العيش وهو جديد فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أفنية الشبات تميد * * ألا يا حبذا وطني وأهلي ... وصحبي حين يذكر الصحاب وما عسل ببارد ماء مزن ... على ضمأ لشاربه يشاب بأشهى من لقائكم إلينا ... فكيف لنا به ومتى الإياب ومولاي الأمير يعلم علماً ليش بالظن أن الحكام الغرباء عن البلاد مهما كانت منزلتهم من العدل لتأبى عليهم سنة الله في خلقه إلا أن يضيموا الرعية التي لا تمت إليهم برحم أو آصرة موطن، أما رهط المرء فرحم الله من قال: لعمري رهط المرء خيرٌ بقيةً ... عليه وإنا عالوا به كل مركب إذا كنت في قوم عداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيب لذلك كله أقول وأنا آمن الأمير: ولي وطن آليت أن لا أبيعه ... وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا وهنا أطرق الأمير ثم ابنعث قاضي القضاة قائلاً: أظن أخانا المصري لا يغيب عنه أن الأرض ملئت اليوم جوراً ظلماً وعدواناًَ، وذاع الفساد في البلاد وعم الشر وطم، فلا بد من إمام عادل يملأ الدنيا قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلما، ولا يكون هذا الإمام إلا من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هو ذا قد صدق رسول الله وعده وجاء إلينا إمام المسلمين العادل الرحيم البار برعيته، الداعي إلى الحق والقائم بنصرته مولانا وابن مولانا المعز لدين الله ابن مولانا المنصور ابن مولانا القائم ابن مولانا عبيد الله المهدي أدام الله تأييده، هذا إلى أنه لا يوجد اليوم بين ملوك المسلمين من هو أعز من مولانا نفراً وأكثر مالاً ووفرا، وأقوى سلاحاً وشوكة وأبعد في سياسة الأمم تجربة وحنكة، فكان لذلك من الواجب الحتم على كل مسلم أن يعمل على نشر دعوته، ويستظل برعاتيه، فما كاد قاضي القضاة أن يتم كلامه حتى ابتدرت فقلت: إن المصريين لا ينكرون على أمير المؤمنين المعز لدين الله شيئاً مما قلت بيد أن مولانا حفظه الله يعرف مما عرف من طبائع البشر أن الأمة التي تغلب على أمرها، ويخفق عليها لواء غيرها، وتصبح بالاستعباد آلة

لسواها وعالة عليها، يقصر أملها ويبلى رجاؤها وتضوى أرواحها. واحتمال الأذى وروية جاني ... هـ غذاء تضوى به الأجسام وذلك لما خضد الغلب عليها من شوطكتها، وكسر من حميتها، فيفضي ذلك على كر الأدهار، وتعاقب الليل والنهار، إلى أن ترأم الذل والاستخذاء، وتشتمل بأردية الكسل والوناء، فيكون من نتاج ذلك ضعف النشاط في القوى الحيوية وهلم حتى يتناقص عمرانهم وتتلاشى مكاسبهم ويعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم، فيصبحوا مغلبين لكل متغلب، طعمة لكل آكل، نهباً مقسماً لكل ناهب، وثمت شيء آخر وهو أن الإنسان يا مولاي رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له، والرئيس إذا غلب على رآسته، كبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه ورى كبده، وهذا سر ركب في غرائز البشر كما أنه يوجد مثله في الحيوانات المفترسة، فإنها لا تسافد كما يقولون إذا كانت في ملكة الآدميين. ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام

الإنسان وضميره

الإنسان وضميره مختارات من فلسفة الدكتور رولسون وآرائه طبع في هذه الأيام الأخيرة كتاب ممتع، غريب المنحى بقلم الرئيس ويلسون اختص بطبعه فرنسا وحدها، ولم ينشر قبل اليوم في غيرها، لا في أميركا ولا في بلاد البريطان، وقد وسمه ذلك السياسي العظيم بعنوان عندما يثوب الإنسان إلى نفسه والناظر في هذا الكتاب يتبين من تضاعيفه أصول هذه النزعات الطريفة التي جعلت من ذلك الرئيس حامل الوحي السياسي، وواضع خريطة الدنيا القادمة. ونحن نقتطف من ذلك الكتاب الجديد الذي وضعه هذا الرجل جملة من الآراء والشذرات الطيبة الصالحة. أولئك الذين يريدون أن يعيشوا على المثل الأعلى، ويضعوا نصب أعينهم مبدأ سامياً، ويمشوا في العالم على هدي سنة كمالية، إنما يأخذون على عواتقهم مطلباً صعباً، ويلزمون أنفسهم واجباً قاسياً شامساً، ولكنه ولا ريب لا يزال واجباً جميلاً نيراً بهيجاً ممتلئاً حياة ونشاطاً وقوة. لكي يصل الإنسان إلى ضميره، ويصدر في أعماله عن وجدانه الحقيقي، ينبغي أن لا يفكر في مصالحه الذاتية خاصة، بل كان لزاماً عليه أن يطرح حقائر الأمور، ويدع جانباً صغائر الفعال، ولا يشغل ذهنه باعتقاده أنه المركز من العالم كله، والقطب من رحى الدنيا، بل عليه أن يجيل البصر بعينيه المتفتحتين المحملقتين في الكون. ويكتشف بنظره مجاهل العالم، وأن يتعلم كيف يرى الدنيا على حقائقها حتى يتبين المكان الذي يشغله منها، والدور الذي ينبغي له أن يلعبه فوق مسرحها. ولا ريب في أن الطريق إلى بغيته هذه محفوفة بالأشواك يتخللها القتاد، ويفرع فيها العوسج، وسيلقى في سبيله الإغراءات، وتفتنه الأوهام، وتخدعه الخدائع، وستهوي تحت مواقع قدميه مدارج السلم وتختفي مصاعد المرقى، ولكنه إذا تعلم كيف يتخلص من الهواجس الإنسانية، وطائشة أفكار الدنيوية وإغراءات العمل وهموم الفعل وتنصبه ومتاعبه، إذن فالهدى هداه والنور مضيء له الشبهات، وهو إلى النجاح موفض مسرع. وعلى رغم الدموع والعبرات، والآلام والنكبات، لن يفقد ثباته، ولن يرتد عن مطلبه، ما دام قد حشد قوته لبلوغ الغاية، ووضع عينه على إحراز المقصد، بل سيبقى في نجوة من

الهواجس والأوهام، بل لا يكون من تلك الأوهام إلا أن ترسل إليه ضياء يهتدي به، ونبراساً يستصبح بنوره نور مطلق فياض، أشبه شيء بأشعة الشمس المخلصة الصريحة الطلعة، يشرق في طريقه ويجعل سبيله فرحة مطمئنة آمنة راضية. إن الساعة التي يثوب الإنسان فيها إلى ضميره تختلف باختلاف الأشخاص والأفراد، فمن الناس فريق لا يرون أنفسهم بحاجة إلى هذه العملية النفسانية، لأنهم وضعوا أمامهم قدوة واحدة. وهي أولئك الرجال الذين استطاعوا أن يتغلبوا على متاعبهم وآلامهم. وكل إنسان أهل للمكان الذي يشغله بين الناس الذين يعيشون معه في مضطرب واحد. ويشتركون معه في عمل موحد. وإذا كان الإنسان لم يولد ليعيش مقصياً في عزلة. منتبذاً عن الدنيا مكاناً بعيداً وحيداً. فلذلك كانت معيشته مرتبطة بالمصالح التي يشاطرهم إياها والروابط التي تربط الجميع. على أن الناس يعملون مختلفين متباينين كل في وجهة، وكل إلى غاية ففريق لا يجدون مرشداً، ولا يضعون للحياة خططاً وهادياً، ولا يفكرون ولا تجري في أذهانهم خواطر ولا تسنح لهم آراء، وآخرون لا يرون إلا مصلحتهم الذاتية، والفائدة التي سيجتازونها من عمل معين أو سبيل معروفة وقليل من الناس أولئك الذين يعملون بنفاذ بصيرة في سبيل تحقيق خطة مرسومة ويسعون سعيهم في سبيل غاية سامية. ليكونوا خدام فكرة من الفكر. أو منفذي مبدأ من المبادئ يضحون في سبيل إنجاحه قلوبهم. ويذيبون من أجله أدمغتهم وعقولهم. ويستنفدون مواهبهم أولئك هم الذين اكتشفوا أنفسهم أولئك الذين وصلوا إلى القطب من أرواحهم. أولئك الذين تعلموا كيف يبلغون الناحية السامية من قلوبهم. وتلك مزية لا يصل المرء إليها إلا بعد تجاريب عدة. وسلسلة من المشاهدات والمرهقات. وما أشد التطورات وأكثر العوارض التي تعترض سبيله إلى هذا المختم العجيب. فالتجربة الأولى لا تني تثب إذ يخرج الشاب من الجامعة أو معهد العلم. ويحس الفتى أنه صار رجلاً فجأة. ويعلم أن حياته قبل ذلك كانت سهلة لامعة مشرقة. في ظل صحابة له يشاركونه آراءه وخواطر شبابه وأنه قد قرأ كثيراً وتعلم كثيراً وأحرز إجازات وشهادات ولكن الذي لا يزال منه في جهل ولا بد من أن يتعلمه بنفسه هو ماذا ينتظر العالم منه. ويرى أنه سيركب بحراً مضطرباً عاصفاً معتلج اللج في وسط سحاب ثقال. تحجب عنه

المنارة. ولكنه إذا كان من أولئك النفوس العالية ومن الجوهر الإنساني السامي النادر استطاع أن يجعل تلك السحائب سحائب صيف عما قليل تنقشع. اعتاد مسيو باجشو أن يقول أن الرجل الأعزب ليس إلا من الغواة في الحياة ومن الحق أن الرجل الذي لا يعيش إلا لنفسه لم يبتدئ بعد الحياة. ولا يزال تحت التمرين والاختبار وليس من الضروري أن يتزوج حتى يكتشف نفسه. ولكن عليه أن يعرف ما هو الحب. حب لأب أو أم. يضحي بنفسه في الإخلاص لهما. أو حب لمبدأ يتوفر على خدمته بجميع قوى روحه. إذن فعليك بتنمية زهرة التضحية في رفق بقلبك. سواء أكانت التضحية لمخلوق أم كانت لمبدأ. فإذا فعلت جعلت للحياة المعنى الأسمى لها. لأن ما تطلبه الروح من السمو هو أن ينسى الإنسان نفسه في سبيل غيره. كل إنسان في العالم يملك قوتين. وينعم بضربين من المقدرة مقدرة مطلقة ومقدرة نسبية. فأما المطلقة ففي الإنسان قد منح طبيعة ومواهب خاصة به وأما نسبية فإن ذلك فيما يشترك الإنسان فيه مع الجماعات الإنسانية العامة وفيما يجب عليه العمل معها والتضامن والارتباط بها ولا يستطيع الإنسان أن يكتشف نفسه إلا إذا أدرك أنه جزء من هذا الكل وعرف الفريضة التي لزمته من التعاون في سبيل النفع العام وإعطاء مواهبه الحد المتسع لإظهار نفسها. كان الناس منذ عهد غير بعيد إذا تكلموا عن جماعة السياسيين راحوا يتحدثون أحاديث السوء عنهم ويظهرون الاشمئزاز منهم والاحتقار لهم. وكانوا يعدونهم آفة لا بد منها وضريبة ملعونة. ولكن لا مناص منها ولا مفر. لا بقاء السلطان على الفرد وحكومته والنهي والبت في أمره. وتلك نظرية الأنانيين الذين يستخدمون كل شيء لأجلهم. ولا يعملون إلا لمنفعتهم الخاصة، وهذه النظرية قد أحدثت من السوآت والآثام في العالم السياسي ما لا قبل لنا بإحصائه.

روح الإسلام

روح الإسلام الفصل الثاني أصول هذا الدين الحنيف وآدابه لكي يكون لهذا الدين روح ثابتة محفوظة باقية وضع محمد لمبادئه وتعاليمه بضعة أركان وفرائض أهمها ما يأتي (1) الصلاة، (2) الصيام. (3) الزكاة ورابعتها الحج. إن إيمان الإنسان بالقوة العالية التي تحيط بكل شيء وعجزه في معركة الكون وتقديره بركة الله ورحمته، كل أولئك تجعله يصب مشاعر نفسه والإحساس المستفيض في حبة قلبه. من ألفاظ وكلم من الشكر والقنوت والحب أو الندامة والإنابة والضراعة والابتهال لربه الرحمن الرحيم وليست الصلاة إلا لغة العواطف التي تملأ شغاف القلب الإنساني على أن هذه العواطف لا تزال ترجع إلى تهذيب عظيم. فإن المتوحش الهمجي إذا لم يجد مجيباً لضراعته، محققاً لابتهالاته لا يلبث أن يعمد إلى تأديب معبوده والانتقام من الرب الذي اتخذه لنفسه وضربه بالسياط. ولكن كل نظام ديني وعقيدة منظمة مهذبة لا تزال تعترف بفضل الصلوات. وإن كان يغلب على الكثير منها روح الخرافة والشعوذة ويضعف فيها المظهر الروحاني الخلقي، ثم تجد بعض الأديان خلواً من العنصر الروحاني بتة. فقد كان المجوس والصابئة يعيشون متوفرين على الصلوات مخلدين إلى العبادات وكان المجوسي يصلي ويدعو الله إذا عطس وإذا قلم أظافره أو قص شعر رأسه أو هيأ الخوان. أو أعد مائدة الطعام ليل نهار. وعند إشعال المصباح أو المشكاة ولئن كانت الفكرة الروحانية تجري في قلوب القليلين منهم. فلم يكن لها أثر ما في أذهان العامة وسواد القوم. وقد كان للمجوس صيغتان من العبادة صيغة مقصورة على الطبقات الكبيرة من رجال الدين وأخرى لا يشترك فيها إلا العوام وحثالة الناس. ولم تشتمل الشريعة الموسوية على قوانين خاصة بالصلاة، ولم تنص إلا على أنه عند دفع العشور للقساوسة وتقديم المواليد والأطفال الصغار إلى البركة تؤدى صيغة من صيغ الصلوات إذ كان الوالد أو رب العشيرة يسأل يهوذا أو إسرائيل البركة. ولكن بفضل نشر فكرة أكثر روحانية عن الله بين اليهود وأقطابهم وأساتذتهم لم يلبث اليهود أن أدركوا المعنى الجوهري للصلاة من أنها نجوى بين الله والناس، وكان من فضل الزمن والطقوس

والعادات عند خلو الدين الموسوي من قانون معين واضح عن شرائط الصلاة وأركانها أ، اليهود أصبحوا شعباً يحتفظ بتأدية الصلوات، وإذ ذاك ضربت مواقيت للعبادة، وعينت ساعات، وهي ثلاث في اليوم، في التاسعة والثانية عشر والثالثة. على أ، الاحتياج إلى عون القساوسة والكهنة والافتقار إلى نموذج انحدر من صاحب الشريعة نفسه وصيغة أخذت عنه ذاته، لم يلبثا أن جعلا من الصلاة عند السواد لأعظم من اليهود عملاً آلياً لا أكثر ولا أقل. أما تعاليم المسيح وهي الخطوة الثانية التي خطتها الإنسانية إلى تهذيب الروح الدينية في الإنسان فقد احتوت الروح والجوهر والمعنى الحقيقي للصلاة. وقد جعلها صاحب الشريعة المسيحية فريضة عملية. بأن وضع هو بنفسه لها النموذج ونصب نفسه لها القدوة. وجاء هو بالصيغة. وقد احتذى حواريوه الأولون حذوه فألقوا الأهمية الكبرى حول وجوب عبادة الله وشكرانه ولكن الحاجة إلى قاعدة متينة تسترشد بها الجماهير على مدة الزمن ومر الأجيال وكر الدهور تركت المسيحيين بلا هاد يضيء لهم السبيل إلى الصلاة الصحيحة وجعلتهم خاضعين للقساوسة إذ احتكر هؤلاء الحق في تحديد العدد والمدة والنصوص الواجبة للصلوات ومن هذا نشأت الطقوس الكثيرة والمجالس والمجامع التي تنعقد لحل شؤون الدين. والنظر في اعترافات الضمائر والوجدانات. ومن هنا نشأت عبادة الرهبنة الكسلى البليدة واحتشاد الجموع العظيمة من أهل المسيحية في الكنائس في يوم واحد من أيام الأسبوع لسد العجز الذي حصل لهم من طعام الأرواح في الستة الأيام الباقية. ومن هنا صار القسيس الذي كان معناه في الأصل (الخادم للدين) بمثابة وارث الإمارة الدينية عن المسيح. وقد انتهت جميع هذه المناقص والضلات إلى الحد البعيد وبلغت أقصاها في القرن السابع من الميلاد إذ ظهر محمد النبي العربي فبدأ ينادي العالم إلى سنة منقحة مهذبة من الأديان فلما سن للصلاة سنناً وقواعد. أدرك نزوع الروح الإنسانية إلى صب حبها لله وشكرها للخالق في عبارات وكلم فجعل تأدية هذه الفريضة على مواقيت محدودة وبذلك وضع النظام لها للمحافظة عليها وحمايتها من الزيغ. ومنع الأفكار من أن تضل فتهيم في وادي المادة والمحسوس.

ودق كتب كاتب من كتاب الإنكليز عن الصلاة والعبادة في الإسلام فقال من أكبر مفاخر الإسلام أن معابده لا تقوم ولا تشاد بالأيدي وأن فرائضه وشعائره يصح أن تؤدى في أي مكان من أرض الله أو تحت سمائه كذلك تعلم أن أي مكان يعبد فيه الله بإخلاص وإيمان طاهر مقدس. وأن المسلم إذا كان في داره أو خارج داره وآذنت الساعة بالصلاة لا يني يصب مشاعر نفسه في خطاب موجز رهيب موجه لله عز وجل. ولا يتعب المسلم الإطالة في الصلاة، لأنها تجري في روح واحدة وهي الخشوع لله، وتمجيد الرحمن والشكر للغفار الوهاب والركون إلى مغفرته، والثقة برحمته ولم تؤت المسيحية من عظمة روح العبادة واضطلاع النفوس بعاطفة التسبيح مثل ما أوتي الإسلام وقد أجمع الرواة وتضافرت الأسانيد وهي المؤرخ الصادق والمحدث الثقة عن الماضي على شرح كيف كان النبي يبكي في الصلاة في حرارة عاصفة واشتعال العبادة في فؤاده وكيف كان ابن عمه الفتى النبيل والسيد العظيم يسترسل في صلاته ويستأنى في عبادته حتى تتخدر أطرافه وتكل قدماه من أثر السجود. والإسلام بعد ذلك لا يعترف بطوائف من القساوسة ونظام الكهنوت ولا يأذن لقوم باحتكار رعاية الدين. وقصرها على أنفسهم. ولا يسمح لفريق بالتفرد بالبركة الإلهية وحق التوسط بين الله والناس. بل إن كل روح تناجي خالقها بلا وساطة وسيط. ولا سمسرة سمسار ولا حاجة بالمسلمين إلى تقريب القرابين للظفر بالقربى من الله. بل كل فرد هو قسيس نفسه. وليس في إسلام محمد رجل أسمى من رجل. وفرد يفضل فرداً بل الجميع سواء. وقد شكا كتاب الغرب من العقلاء تعقد الصلوات في الإسلام وتشعبها وكثرتها ولكن الشرعة التي وضعها القرآن هي من السهولة والبساطة والوضوح والجلاء بحيث تشاء فهي تنص النصوص على مطالب الإيمان وأركان الدين. ولكن قلما توضع قواعد وأحكاماً محدودة لطريقة تأديتها. على أن النبي هو الذي استن عدة شعائر للمحافظة على الصلوات. وإن طريقة التعميد في الديانة المسيحية. وكذلك عادة الدهانات التي كان يتبعها قدماء المصريين واليهود ورجال الدين في نحل الشرق القديمة وأديان الغرب البالية تدل على الأهمية التي كان يعقدها أولئك القوم على التطهر الخارجي والنظافة السطحية. فلما جاء محمد احتفظ بهذه الشعائر. واستمسك بهذه السنة ولكنه لم يرتض الطهارة الخارجية وحدها.

بل علم الناس أن النظافة الظاهرية والتطهر البدني لا يقتضيان الإيمان الصادق والعبادة المطمئنة وأنه لا بد من تطهر الروح بجانب طهارة البدن. ولا غناء عن خشوع النفس وغسل أردانها في سبيل القربة من الله. ولكي يبقى مهد الإسلام حياً باقياً في ذاكرة العالم الإسلامي، علم محمد قولوه أن يولوا وجوههم شطر مكة وجعلها القبلة التي شهدت الضياء الأول من نور الحق الجديد ورأى ببصيرة النبي الآثر العظيم الذي يحدث من تحديد بقعة عامة تجتمع عندها على كر الأدهار عواطف أهل دينه والمؤمنين بعهده فوصى المسلمين أن يولوا وجوههم عند الصلاة صوب الكعبة. وفي هذا يقول ستانلي لين بول: إن مكة للمسلم بمثابة أورشليم للإسرائيلي فهي تعيد إليه قروناً وأجيالاً من الذكريات. وتحمل المسلم فتعود به إلى مهد إيمانه ودينه ومولد نبيه. وتذكره عهد النضال الذي كان بين الدين القديم والدين الجديد. وتحطيم الأصنام وكسر شوكة الأوثان وتأسيس دين الله الواحد القهار. بل فوق كل هذا تدعوه إلى ا، يذكر أن أخوانه المسلمين جميعاً يعبدون الله موجهين وجوههم صوب المكان الذي ولى هو وجهه نحوه. وأنه ليس إلا فرداً في شركة من المؤمنين. تربطهم جميعاً عقيدة واحدة. وتجري في نفوسهم آمال واحدة. يقدس الفرد منهم ايقدس الجمع. ويجتمعون على عبادة إله واحد. وقد دل محمد باحتفاظه بذكر المهد الأول للإسلام على علمه الواسع. ونفاذ بصيرته وتمكنه من معرفة النزعات الدينية الصحيحة في الإنسان!. إن فريضة الصوم وجدت بين جميع الأمم ولكن ينبغي أن نقول أن المعنى الذي كان يفهم منها والفكرة التي كانت تلتصق بها في العالم القديم وفي أهل الدين الغابرين جميعاً بلا استثناء هي أدنى إلى التعذيب منها إلى قمع الشهوات. حتى أن فكرة الصوم في الشريعة اليهودية لم تلبث أن نمت حتى أصبح يفهم منها أن الصيام ليس إلا المغالاة في تعذيب النفس وسومها العذاب الشديد والرهق العظيم، ومنهم أخذ المسيح هذه الفكرة كذلك. وقد كان استمساك عيسى بهذه الفريضة الباعث الذي جعل الصوم عند المسيحيين فريضة مقدسة ولكن الفكرة السائدة لدى أهل المسيحية عامة من ناحية الصلاة هي أنها الصوم يقصد به إلى التكفير والاقتداء بالمسيح على أن وسائل تعذيب البدن طواعية واختياراً كانت شائعة

في أهل المسيحية شيوعها في كثير من الأديان الأخرى. ولكن تلك العذابات الجثمانية كانت تنتهي في أغلب الأحايين بقتل القوة الذهنية وهدم القوة الجثمانية. والذهاب بالنشاط وإحداث ضرب من البلادة والمرض العقلي والزهد الممقوت. ولكن المقصد من الصوم في الإسلام ليس إلا قمع الشهوات بالاحتماء من إشباع الشهوة مدة معينة من الوقت وحرمان النفس مباهج الحواس، وتوجيه الروح الحيوانية في الإنسان إلى سبيل صحية نقية طاهرة. أما تعذيب البدن وإرهاقه الإرهاق الذي لا جدوى منه ولا موجب له فمحرم في الإسلام، منهي عنه، وذلك أن الصوم فريضة على أقوياء الجسوم وأهل الجلد والبأس والصحة ليكون وسيلة لهم إلى تطهير الروح بوضع حد لشهوة البدن وبحرمان الجثمان أما الضعفاء والمرضى الذين في سفر أو طلاب العلم ودراس الجهاد الأكبر والنساء في المحيض فقد أغناهم الدين عن الصوم وأعفاهم من فريضته. فإذا نحن ذكرنا ما كان من نهم اليونان القدماء وشهوانية الرومان والفرس وإغراق عرب الجاهلية الأولى في اللهو وإفراطهم في الشهوات ومباهج البدن، وضروب الحيوانية، والشرور والمناقص، فلا نلبث أن ندرك قيمة هذه الفريضة ونتبين نفعها وصلاحها لقمع شهوات الإنسان، ولا سيما بين الشعوب التي لم تصب حظاً عظيماً من المدنية. على أ، الصوم في الإسلام كما اقتضت حكمة القرآن مقصور على النهار وللمسلم في الليل أن ينعش جهازه البدني بالاعتدال في تناول الطعام والشراب وتمتيع جثمانه في غير محرم أو إثم وهذه شرعة سهلة لا يراد بها قتل النشاط، وإحداث البلاهة والجنون، وقد قرر علماء الإسلام وأساطينه ومشرعوه بوجوب تطهير الذهن في خلال الصوم من الأفكار الشريرة والخواطر الآثمة. وعدم الاقتصار على تطهير البدن. لم يسبق الإسلام دين من الأديان سن شرعة للصدقات وإيتاء الأرامل واليتامى والمساكين، ووضع مبادئها من بين أركان الدين وأدمجها في الفرائض وخصها بجزء عظيم من أصوله، ولقد كانت المسيحية الأولى أعياد تسمى أعياد الصدقات، ولكن أمثال هذه الأعياد كانت تتوقف على إرادة الناس، ولذلك كان تأثيرها ضعيفاً عرضياً لا يلبث أن يزول، ود أثبت التاريخ أن تلك الأعياد التي كان يتصدق فيها أهل المسيحية الأولى لم تلبث أن أبطلت بعد زمن قصير من سنها واشتراعها وتقريرها.

ولكن كل فرد ملزم شرعاً في الإسلام أن يخص جزءاً معيناً من نشبه ومالة في سبيل إعانة المساكين وأهل الحاجة، وهذا الجزء مقدر بواحد من أربعين من قيمة العقار أو النشب أو الأملاك أو أرباح التجارة وما إلى ذلك جميعاً على أن الصدقات لا تجب إلا إذا بلغت الثروة مقداراً معيناً وكانت ملك صاحبها عاماً كاملاً ولا تستحق الزكاة عن الإبل التي تبتذل في زراعة الأرض، أو في حمل الأثقال وإذا انتهى شهر رمضان وحل يوم عيد الفطر رضخ كل رب عشيرة بصدقات عن نفسه وأفراد بيته والضيف الذي أفطر ونام في بيته خلال شهر الصوم. وقد عين القرآن أهل الحاجة الذين تجب لهم الزكاة والصدقات، ولعل أحسن ما في الإسلام أنه جاء بمبادئ عيسى من ناحية التصدق والإحسان على الفقير فجعلها في قوانين محدودة وألبسها لباس السنة والتشريع. والحكمة التي أدخلت على الإسلام ميقاتاً مضروباً للحج كل عام إلى مكة ومقام الكعبة لم يكن منها إلا أن بثت في دين محمد روح الإخاء والائتلاف والود والامتزاج على كثرة اختلافات الفرق الدينية ومنازعات أهل النحل. فإن أعين العالم الإسلامي إذ تستقر على تلك القبلة العامة، إنما تحيي في صدر كل مسلم شعلة من القبس السماوي الذي أنار العالم وذهب بظلمات الجاهلية الأولى، وهنا نرى حكمة ذلك المشرع صاحب الرسالة والوحي تسطع وتشرق علينا في وجوهنا إذا نحن تدبرنا الشروط اللازمة لإنفاذ الحج والقيام بهذه الفريضة وهي بلوغ الرشد والعقل والبصيرة والحرية التامة الكاملة واستطاعة دفع نفقات النقلة والطعام في السفر ومكنة طالب الحج من الإنفاق على بيته في غيابه في الحج وسهولة الطريق إليه وامتناع المشقة والعنت في السفر. ولما كانت العرب في الجاهلية يستمسكون بتقاليد وشعائر دقيقة تكاد تكون أشبه شيء بالشعائر البراهيمية في شدتها ودقتها، وذلك من ناحية صلاحية ضروب من الأطعمة والأكل وفساد أخرى فقد نصح النبي لأهل ملته أن يعتقدوا بأن كل لحم أو طعام محلل، إلا أشياء حرمها ونهى عن أكلها وورد ذكرها في القرآن وأما الخمر والميسر وهما الآفتان الوبيلتان اللتان طاحتا بالجماعات المسيحية، وكانتا حرباً على كثير من أهل الطبائع الدنيا والنفوس الغثة الضعيفة فقد حرمهما الإسلام تحريماً قاطعاً، ونهى عنهما النهي المطلق،

على أن ليس في جميع الشعائر التي وضعت للعالم، والتعاليم التي لقيت لتهذيب أهل الدنيا، تعاليم ولا شعائر هي أسهل منالاً وأحنف مقصداً وأوفق للطبائع وأدعى لتقدم الناس وتزكية نفوسهم من تعاليم النبي العربي لأن القواعد القليلة التي سنها للشعائر الدينية، لم يراع فيها إلا استتباب النظام في الجماعات الإسلامية وتأسيس المساواة والاتحاد والولاء ولكنها لم تكن من الصلابة بحيث لا تقبل مرونة ولا ترتضي ليناً وتهذيباً بل أذن في التجاوز عن نصوصها والتنصل من قيودها في عدة وجوه من مرض أو بواعث أخرى، لأن القرآن يقول يريد الله بكم اليسر لأن الإنسان خلق ضعيفاً وإذا كان محمد قد أحاط تعاليمه بطائفة من السنن والشرائع والتقاليد فإنما كان ذلك منه ليؤدي فكرة محسوسة عن الدين لعامة البشر. وقد وضع عيسى سنتين اثنتين، التعميد والعشاء الرباني، ولو أنه عاش أكثر مما عاش في الأرض لأضاف عليها وحشد لها وحشدها. ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنه لو كان عاش لرأى أن يضع دينه على قاعدة نظامية أكثر مما هي عليه، ولأقام تعاليمها على جدار متين، وهذا النقص الأساسي في المسيحية هو في الحق السبب الجوهري الذي بعث المسيحيين على إنشاء مجالس الكهنوت، ومجامع أهل الدين، وإنشاء النحل والمذاهب والعقائد المختلفة الألوان والآراء والبنود والنصوص التي تتحطم وتتهدم إذا مسها العقل أو عالجها التفكير المتخلص من القيود وهكذا ترك المسيح عمله غير تام. وأبقى لمصلح آخر غيره واجب تنظيم مبادئ الخلق والآداب الاجتماعية وأنت فتعلم أن علاقتنا مع الله أمر يخص الضمائر وأما علاقتنا بالمخلوق فيجب أن تسن لها آداب عامة وقوانين محدودة، وليس في الدنيا نفوذ أو سلطان هو أدعى إلى ضمان إنفاذ هذه الآداب، وإطاعة تلك القوانين، من سلطان الأديان، وينبغي أن لا نعد الدين مجموعة تعاليم وعظات تنحدر إلى عامة الناس من ذوائب منابر الخطباء والوعاظ ولا أن نرى الدين عقيدة تغذي أهل الأذهان الخيالية التي تعيش على الأحلام وإنما ينبغي أن نعتبر الدين قانون الحياة كلها، وأن نعد الغرض الأكبر منه السمو بالإنسانية إلى الكمال الذي هو الغاية من الوجود، فإذا كان هذا هكذا فإن الدين الذي يضع المبادئ الأساسية للأخلاق ومجموعة الفضائل ووالفرائض الأدبية على قاعدة منظمة، ويسن القوانين للروابط الاجتماعية والفرائض الإنسانية ويقربنا رويداً رويداً باتفاقه والفطرة ومشيه وسمو الذهن وعمله على تهذيب القلب، من الكمال

الأعظم - لي إلا ديناً خليقاً بالاحترام والإكبار وقد امتاز الإسلام وتفردت شخصيته بأنه يجمع في صميمه جميع المبادئ العالية والسنن السامية في الأديان القديمة وكل ما يمشي مع العقل ويتابع الغريزة، وترتضيه الفطرة الإنسانية وليس الإسلام فقط شريعة تحتوي طائفة من القواعد الأدبية القائمة على المعرفة الصحيحة لفطرة الإنسان ولكنه كذلك سن طائفة من السنن لتهذيب العقل، والضمير ولهذا كانت موافقة مبادئ الإسلام لجميع العصور ولجميع الأمم والشعوب واتفاقها ونور العقل وهدى اللب وتخلصها من العقائد الغامضة التي ترسل ظلامها على الحقائق الأولى المتأصلة في الصدور الإنسانية ليست إلا دلائل على أن الإسلام هو الخطوة الأخيرة التي خطتها الدنيا في ترقية المشاعر الدينية في الإنسان والذين جهلوا المغزى التاريخي المراد من كل مبدأ من مبادئه قد أدى بهم الجهل إلى أن قالوا بأن خشونة تلك المبادئ ومخالفتها لأساليب الفكر الحديث، ومناقضتها للمدنيات الحاضرة ينبغي أن تحرم الإسلام من أي حق في الانتشار والذيوع في الدنيا عامة، ولكن النظر ملياً إلى المغزى التاريخي الذي يفهم من الشرائع والمبادئ الإسلامية، والتسامح قليلاً في البحث والإنصاف في الدرس والفحص لا يلبثا أن يزيلا هذا الفهم السيئ الممقوت فإن صلاحية الإسلام واتساعه وذيوعه وقبوله جميع الآداب الأخلاقية كثيراً ما أسيء فهمها أو أخذت على غير حقائقها أو أخفاها تعصب الأديان المنافسة له، والإسلام من بين جميع أديان الدنيا التي سيطرت على ضمائر الإنسانية هو الدين الفذ الذي جمع بين تلك الآراء التي أنشأت في عصور مختلفة من حياة البسر مصدر سلوك الناس، وأقامت قانوناً يضبط أفعالهم، وبين الشعور بمكان الإنسان وإدراك الطبيعة الإجرامية فيه، فإن اعتقاد المسلم بأنه سيحاسب على ما اجترح، ويجزى بما فعلته يداه، يبعثه على إنكار ذاته ويوحي إليه عاطفة المحبة العامة، والإحسان إلى الناس جميعاً، واعتقاده في العناية الإلهية وفي رحمة الله وحبه وقدرتنه التي وسعت كل شيء يسوقه إلى التواضع أمام الديان، والاستكانة والخشوع إزاء الخالق، ويغريه بتأدية تلك الفضائل الجبارة العظيمة التي تطالب مؤديها بأصعب الأمور، وتحمله العنت والرهق، كالصبر والاستسلام والثبات أمام البلاء الذي يبتلى به الله الناس، وهذه الفضائل هي التي دعت كثيرين من الكتاب إلى اتهام الإسلام بأن فضائله مرهقة تعذيبية أليمة وتجعل المسلم يسائل ضميره ويلح في الحكم عليه وأخذه بالزجر والنهر

ويدرس البواعث التي تغريه ويستريب بمقدرته أمام عظمة الكون، ويركن إلى عناية الله، في المعركة القائمة بين الشر والخير. وقد كانت الشرائع التي وضعها بعض الأديان وسنت بها فرائض، وأقامت أعمالاً معينة وواجبات، خلواً مما يجعل هذه الشرائع سهلة الإنفاذ ممكنة التأدية، ذلولاً عن الاختبار، وكانت مفتقرة إلى معرفة طبيعة الإنسان تبدو عليها طبيعة الأحلام والأوهام، وتتجلى عليها إمارات الخيال وطلب الكمال من ناحية الوهم والحلم، ولذلك لم تلبث عند تطبيقها في معركة الحياة أن ظهرت بلا جدوى، عقيمة لا نفع منها، وأنت تعلم أن مقدار دين من الأديان من السهولة واللين وإمكان التنفيذ، وسلطانه على العلاقات التي تربط الناس بالناس، في الحياة اليومية، وأثره في الجماهير، وسيطرته على الجماعات، هي الوجوه الحقيقية التي يمكن للناس أن يحكموا على صلاحيته ورجاحة شرائعه، ونحن لا ننظر إلى العقول الشواذ العظيمة والألباب السامية الراقية على مستوى العقول العامة، لنتبين أثر دين من الأديان، بل إنما ننظر ونبحث ونجيل البصر في الجماهير والجماعات لندرك أثره فيهم وموقعه من قلوبهم، ولنرى ما كان من عمق سلطانه عليهم ومقدار السمو الذي يسمو بهم ولنبحث فيما إذا كانت شرائعه قد ألهمتهم معرفة الحق من الباطل، والخير من الشر، ولنتبين هل يصلح هذا الدين سكان أبعد البلاد، وآهلة الأقطار المعتزلة في أركان الدنيا، إذا هو حمل إليهم، وشاع فيهم، أو هل يُسف بهم، ويهوي إلى الدرك الأسفل، ويحط من مكانهم، وهذه هي الأسئلة التي ما نفتأ نسألها إزاء كل دين نريد أن ندرك مكانه من الرجاحة والصلاح. فإذا أردت أن تطبق جميع ذلك على الإسلام ألفيت هذا الدين يجمع بين مبادئ كمالية من السمو بحيث لا يدرك علاؤه، ومبادئ عقلية حقيقية منطقية تقبل التطبيق وترتضي التنفيذ والعمل بها والاسترشاد. ولم ينكر الإسلام الطبيعة الإنسانية ولم يدخل في دروب بعيدة عن المحسوس والواقع والمعقول. بل كان مبدؤه الأول الارتفاع بالإنسانية إلى حدود الكمال المطلق. وكان سبيله إلى بلوغ ذلك الكمال بإدراك أن طبيعة الإنسان في هذه الحياة ناقصة. فإذا لم تقل مبادئ الإسلام (إذا ضربك أخوك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) وإذا أدنت بمعاقبة المسيء على قدر إساءته. فقد علمت الناس كذلك فضيلة العفو والمغفرة والصفح

والخير والرفق ومقابلة الشر بالخير. ولم تكن هذه المبادئ العالية باعثة عواطف كاذبة، وتصنع باطل، ورياء من رياء العاطفة. بل ما فتئت عند المسلم الحق المؤمن برسالة محمد المنفذ لوصاياه وتعاليمه هي مبادئ الحياة المحققة المنفذة. ذلك إسلام محمد، فهو ليس عقيدة ورأياً ومذهباً لا غير. بل هو حياة تعاش ودين العمل خير العمل والتفكير خير لتفكير والقول خير القول. دين مؤسس على الحب الإلهي. والحسنة العامة والمساواة التامة بين الناس أمام رب الكون. ولئن كان أساتذة الإسلام في عهدنا قد أطفأوا شيئاً من مجد ذلك السيد النبي العظيم حتى ليصبح الإنسان كذلك كتاباً من نقائص وعيوب الإسلام في عهده الحاضر فإن ذلكم الدين الذي يقيم منار الحق والعدل، يستحق أن يعترف به محبو الإنسانية وطلاب الخير للعالم الإنساني.

أبطال الحرية

أبطال الحرية الزعيم كوشيوسكو البولوني ننشر تحت هذا العنوان كلما سنحت الفرصة، وواتانا الزمن، تاريخ أولئكم العظماء الذين وقفوا في طليعة شعوبهم، وسعوا سعيهم للنهوض بأممهم، وأسالوا مهجهم في سبيل إعلاء كلمة بلادهم، ومنحها الحقوق المقدسة التي أراد الله بالناس أن يكونوا في هذا الكوكب الأرضي ناساً بها، وجعلها المزية الأولى، واللازمة الواجبة للحياة، أولئكم البطال الذين إذا ذكرت أسماؤهم على أفواه أهل جلدتهم هزت قلوبهم هزاً، وأرسلت روح الملائكية تشع في حنايا أفئدتهم أولئك الذين يقفون يوم يحشد الله الناس أمام عزته الإلهية صفاً صفاً ويحشرهم جنداً محضرين، في الصفوف الأولى ممن الإنسانية خلف مواقف الأنبياء والمرسلين، وفي المكان السامي الذي أعده الرحمن لهداة الإنسانية ورسله الذين هذبوا من جوانب الحياة، بلا رسالة تنزلت عليهم ولا كتاب جاؤوا به، وإنما قاموا ووحي الله ينهض في جنوبهم، ونور السماء يضيء في أضلاعهم فكانوا أبطال الأرض الذين ظهروا أرجاءها من ذلال الظلم، ومفسدة حكم الإنسان للإنسان. ولسنا نجد شخصية من تاريخ عظماء الدنيا وثبت في بلد من أغرب بلاد الله، هي أحق أن نبدأ بذكر ما كان منها لبلادها من شخصية الزعيم كوشيوسكو بطل بولونيا العجيب فتلكم أجمل صورة من صور أبطال الشعوب، ظهرت في أروع زمن من أزمان الدنيا، وهو الزمن الذي اجتمعت فيه فرنسا وبولونيا وأمريكا في صعيد واحد للاشتراك في حرب الحرية. في المدرسة الحربية بفرسوفيا عاصمة البلاد البولونية، حوال عام 1768 كان شاب بولوني يمشي في أفنية الدار ويخطر في رحاب المعهد، يشار إليه بالبنان ويوصف بأن لا مثيل له ولا ضريب في حميته للعمل وتوفره على الدرس والبحث، فبينما كان فتية المدرسة وقرناؤه في المعهد، يلهون ويمرحون، ويرتعون ويجرون في مراكض الشباب، كان يجري من المدرسة إذ ينصرف الطلاب إلى حجرته، فينكب ليالي طوالاً لا يغمض له جفن على دراسة كتب الرياضة والتاريخ وكان إذا عاكسه النوم وأخذ الكرى بمعاقد جفنيه يحاول طرده، ويتحيل الحيل للخلاص منه، فيضع قدميه في صبارة الشتاء في ماء مثلج،

ولم يشأ بعد أن استطالت به العادة أن ينقع برنامجه ويهذب من خططه، إلا على أن ينام إذا انتصف الليل، وينهض من نومه في الساعة الثالثة من الصبح. أما اللهو والتماس الابتسامة النسائية الحلوة في المرقص، وافتقاد النظرات النواعس من عيون الحسان في المقصف، والجلوس حول المائدة الخضراء تحت حمى القمار، فأي عار كان يراه في ذلك وأي معاب وأي ذام بل كانت بولونيا بولونيا المنكودة المعذية التي تعيش إذ ذاك أسوأ العيس، في الدرك الأسفل من الحياة، إذ وقعت فريسة بين ثلاث دول من الدول الجارحة بروسيا والنمسا والروسيا. وكانت تلك المملكة الأسيفة مفتحة معرضة لكل مغير فاتح. لا حول لها في داخليتها ولا قوة. لا تملك إلا ماضيها الفخم الرائع الجليل. والمفخرة الكبرى بأنها كانت قروناً وأجيالاً السور المنيع الناهض حيال أوروبا يمنع الإغارة الشرقية من ناحية تركيا والتي ظلت أبداً جميلة رفيعة فارسية كريمة. أرض الشعر ومملكة الشمس - تلك كانت الرؤيا التي تتراءى لذلك الفتة الملتهب المتوقد الجياش العاطفة، في أحلامه، وبولونيا كانت الحلم الذي يتجلى له في نجواه ومنامه. وجعل يصيح في أعماق فؤاده. ترى من الذي ينقذها وما السبيل إلى خلاصها! فإذا بلغت به النجوى إلى هذا الحد لم يلبث أن يتحمس فيرفع قبضة يده إلى الخريطة المعلقة فوق الجدار، والمصور الجغرافي الذي تلوح منه الدول الثلاث المفترسة بلاده العزيزة مهدداً مغضباً حانقاً. ثم يعود بعد أن تخفت حدة خلقه فيسقط إلى قراءة كتب فلوطرخس ويدفن وجهه في صفحات كتاب العظماء. ذلطكم الفتى الذي حدثناكم عنه كان يدعى سادي كوشيوسكو، الوطني ذا القلب الحديدي ولد هذا الفتى في اليوم الثاني عشر من شره فبراير عام 1764 في نوفومبرودك وعاش في ذلك الإقليم جميع عهد طفولته في الهواء (الطلق) والجو السجسج العليل والريف القروي الهادئ، بين أبيه وهو رجل من أهل الشرف والجندية، هجر العالمن وغادر عيش الجند، وأسلحة القتال، وأخلد إلى العزلة والحياة الساكنة، وبين أمه وأختين صغيرتين. وكان له عم شيخ جعل يعود العشيرة الفينة بعد الفينة فيقضي أشهراًُ معهم ويعلم الطفل الرياضة والرسم واللغة الفرنسية، وزار يوماً صديق من أصدقاء أبيه، وهو البرنس آدم زارتوريسكي وكان رفيق الوالد في الجندية - بيت هذه الأسرة فرأى كوشيوسكو وراعه ما

قرأ في وجه ذلك الصبي من أسطر القوة والإرادة، وتنبأ بما يضطرم في فؤاده من اللهيب، ويستعر من العاطفة، ولم يكن الصبي كوشيوسكو جميلاً على فتنة جمال، ولم تطن تقاطيع وجهه رائعة متناسبة، ولكن أي قدر عظيم، وقوة هائلة، كانا يتجليان على ذلك الوجه الروماني المعذب، كأنما جميع معارف ذلك الوجه تريد أن تقول (إنا من أولئك الذين يولدون ليكونوا أبطال المبادئ المقدسة، وليضعوا حياتهم في أيديهم، ولا يختموها إلا غزاة عظماء، أو معذبين شهداء). وبفضل حماية ذلك الأمير زارتوريسكي دخل الفتى المدرسة الحربية فلما كان عام 1770 كان من بين الفتية الأربعة الذين انتخبهم الملك لتأدية سياحة خارج البلاد على نفقته، فسافر إلى باريس ودرس دهراً في الأكاديمية الحربية بفرسايل ثم تلقن في مدينة برست فن الحصون والاستحكامات والفنون البحرية، وهناك في فرنسا يوم كان بها عام 1773 سمع النبأ المخيف الهائل، الذي كان من صحته في ريب أيام نشأته الأولى، وهو نبأ تقسيم وطنه العزيز بين روسيا - وهي التي أصابت نصيب الأسد من الفريسة - وبين النمسا وبروسيا، فعاد إلى فرسوفيا عاصمة بولونيا حزيناً متألماً مجروح الكبد، وانزوى في نفسه، وأخلد إلى العزلة، وراح يمشي وحيداً متوحشاً نافراً مجتوياً العالم، غاضباً من الدنيا، حتى جعل يرفض الدعوات إلى الولائم، والذهاب إلى المآدب، ولا يلقى الناس، ولا يجلس في مجالسهم، بل قصر ساعات يومه على النظر والتفكير في شؤون فرقة الظوبجية التي عهد الملك إليه تقلد مقاليدها، والإخلاء إلى أبحاثه الحربية. ولا عجب أن يقع هذا الشاب المعتزل الوحيد إذ ذاك فيحب ويحتبل في أشراك الهوة، كان هو الحب الوحيد الذي أدركه في حياته، وذلك أن الكونت زامويسكي أقام سنة 1776 حفلة رقص عظيمة في يوم عيد الملك ودعا جميع ضباط المملكة إليها فلم يستطع كوشيوسكو أن يفر من هذه (السخرة) الدنيوية أو يتنصل من هذه الضريبة الاجتماعية فلم يكد يضع قدميه في بهو البيت المشرق بالأنوار حتى التقى نظره بوجه فتاة بولونية على فتنة عظيمة، وكانت الفتاة ابنة الجنرال العظيم سوستوسكي مارشال ولاية ليثوانيا. فلم يلبث أن وقع في حبها، كما ينتظر من تلك النار التي تحترق في خبايا قلب ملتهب مثل قلبه، فالتقى بها مرة أخرى، وأعاد اللقاء مرات، ورأى في أثناء ذلك أن حبه متبادل بينه وبين الفتاة قم لم يلبث

أن تحطم فؤاده إذ سافر الجنرال وابنته عائدين إلى ليثوانيا. ففي العام التالي: وبعد سنة محزونة قضاها في كاراكوفيا ساقت الأقدار كوشيوسكو إلى الانتقال إلى ليثوانيا مع المعسكر وتعين ياورا للمارشال، وقضى ذلك له بأن يقيم في القصر، وهنا اشتدت وقدة الحب، وحميت نار العاطفة، وتمكنت منه حتى وقع يوماً على قدميه أمام المارشال الوالد يطلب يد ابنته، ويبكي ويتضرع، فلم يلق من الرجل إلا هزة كتف سخرية واستكبار، ورفضاً مؤلماً مهيناً، إذ زعموا أن الفتى من بيت صغير، وأسرة غير عريقة في المحتد والشرف!! ومن ذ ذلك اليوم أقاموا حوله الحراس والحفاظ، فاحتج واستنكر، وفكر أخيراً في خطف الفتاة، ورضيت هي به مختطفاً، بعد أن أبوها عليه زوجاً كريمة، وفي ليلة حالكة عاشقة رومانية ساكنة هرب العاشقان وانطلقا مبتعدين أميالاً، فرحين بالنجاة، محبورين بالسعادة، ولكن لم يلبث أن تقلص ظل هذا الفرح، إذ أحاط الجند بهما بالرصاص والنار فشهر كوشيوسكو سيفه ولقيهم لقاء المستميت، وناهدهم مناهدة الشهم المستأيس وقتل منهم خلقاً كثيراً، وخر مضرجاً بدمه لا يعي ما حوله، فلما أفاق من غشيته، لم يجد الفتاة بجانبه، فقام يتعثر في مشيته، ومشى متسانداً متحاملاً حتى بلغ بيت صديقه الشاعر الجندي نيمسويك فطلب دواة وقلماً وقرطاساً وأرسل في الحال استقالته من الجيش إلى فرسوفيا، فبعد أيام معدودات غادر بولونيا وهو لا يحمل من ذكريات ذلك الحب الأليم إلا منديلاً واحداً ذا رائحة وعبق. كانت المستعمرات الأمريكية إذ ذاك قد رفعت في وجه إنجلترا علم الاستقلال، ولما كان كوشيوسكو قد ولد للدفاع عن الحرية في أي بلد من بلاد الله، وتحت كل سماء تظل الأرض، وفي سبيل أي شعب من شعوب الدنيا، غادر كوشيوسكو فرنسا قاصداً أميركا فبلغها في اليوم الخامس من شهر يوليو عام 1778 وقدم نفسه إلى البطل العظيم واشنطن، فانبرى ذلك القائد الكبير يسأله ماذا جاء بك أيها الفتى إلينا؟ فلم يكن جواب كوشيوسكو إلا أن قال: جئت لأحارب متطوعاً في سبيل حرية أمريكا!. فقال واشنطن: فيم تصلح أيها الرجل؟. فكان جوابه: جربني تر ما تريد فدفع به واشنطن إلى فرقة من جيوش الأميركان لا مهارة لديها ولا فن فأبلى البلاء الحسن

وأظهر البراعة التامة في شؤون الحرب، فلما انتصر في موقعة هائلة راح الزعيم الفرنسي بطل الحرية يسأل: من ذا يكون هذا الرجل الذي أبلى البلاء الحسن في هذه الموقعة!، فأجابه أحد ضباط أركان حرب الجيش ذلكم شاب فتى شهم مغوار بولوني الجنسية، أظنه يدعى، إن لم يخطئني حدسي الفتى كوشيوسكو فأجمع لافاييت على أن يرى هذا الشاب، فلما أمسى المساء راح يتنقل في المضارب، وينطلق من مضرب إلى مضرب، حتى دخل عليه في خيمته فألقاه وقد علاه التراب والدم، يفترش الثرى، ويمتهد الخشن من الأرض، ومنذ ذلك العهد راح الرجلان رسولا الحرية كوشيوسكو ولافاييت صديقين حميمين إلى الأبد. وانتهى وطيس القتال عام 1783 وظفرت أمريكا بنعمة الحرية والاستقلال بعد أن كان لهذا الزعيم البولوني العظيم فيها شأن يذكر، حتى أن واشنطن قبل أن يعتزل العمل، ويأوي إلى السكون والوحدة في بيته في مونت فرنوف أبي إلا أن يصافح يد ذلك الرجل البطل، وينادي به قائداً من قواد المدفعية، وعرضت عليه الولايات المتحدة لقب الوطني، وأذنت له في الجنسية الأمريكية، واستعدت لأن توظف له وظيفة شهرية مذكورة، وأقطعته أملاكاً واسعة وإيراداً عظيماً فلم يشأ كوشيوسكو أن يبقى في أمريكا، وهزه الحنين إلى وطنه، فسافر إلى ساحل فرنسا، ومن الهافر أسرع إلى بلوغ بولونيا، وقد سبقه إليها مجد مؤثل، وذكر طائر مطير البرق وأشعة الشمسي فاستقبله الجيش أي استقبال، ولكنه لم يطأ بقدميه أرض وطنه، حتى عاد إليه الرثاء لحالها، فأوى إلى عزلته الأولى، ولم يلبث أن أثار إذ ذاك حرباً عواناً على الروسيا التي أبت إلا أن تجعل من أمته شعباً ذليلاً مستكيناً متطامناً وأكره جيوش الروس مرات على التقهقروأوقع بهم القتل والذبح، وانطلقت حميته في قلوب جنده فما تركت قلباً إلا وقعت فيه، ولكن أين لهذا الرجل الوحيد، وجنده القلائل، القبل بتلك الجيوش العظيمة، ولذلك لا غرو أن ينهزم آخر الأمر، وكان من ذلك أن اتفقت الدول الثلاث على تقسيم بولونيا للمرة الثانية. فلم يكن لكشيوسكو الحزين العاجز المتألم أن يقف يشاهد هذا التقسيم اشنيع في وطنه وهو مشبك الذراعين، ينظر صامتاً لا يحرك يداً، بل لم تشأ عيناه أن تنظر إلى ذلك الغزو البطيء الذي أعده الروس لوطنه ويرى قومه في ذل الإسار ويشهد أبناء وطنه يساقون إلى

الخسف، مشردين في رؤوس الجبال، معتصمين بالغاب الكثيفة، هاربين لواذاً من الطغاة، ورأت كاترين قيصرة الروس هذه الحمية في ذلك الرجل، الذي كان الوطنية مجسمة، والشرف ممثلاً، فشاءت أن تغريه بالمال، وظنت أن المفاتن والإغراءات قد تطفئ شعلة الوطنية في فؤاده، وتكسبه إلى صفوفها، وتشتري وطنيته بثمن بخس دراهم معدودات، وحسب أن إنعامها عليه بألقاب الشرف وأسامي النبل قد تحدث فتنتها فيه، وتطمسي على بصيرته فلا يرى، على أن كوشيوسكو لم يكن خلق لأمثال هذا الخزي، ولم ترتض طبيعته هذا العار المشنوء البغيض، فلا غرو إذا رفض مشمئزاً وهاجر أصدقاءه الجند، واعتزلهم وهو يصيح: رباه. . رباه أعني مرة أخرى أشهر سيفي لأجل وطني فتوجه إذ ذاك إلى دريسدن، ثم إلى لينبرج وهناك تلقى شهادة تثبت أنه فرنسوي الأصل، وهذا الإثبات منحته إياه لجنة الدفاع الوطني في مجلسها الذي انعقد في اليوم السادس والعشرين من شهر أغسطس عام 1792. وعند ذلك قضى عاماً فارسياً جواباً أفاقاً فطاف ألمانيا طولها والعرض، وانحدر إلى إيطاليا فراح فيها ضالاً طوافاً هائماً يحمل وطنه في فؤاده ويتحسر على حالة أبناء أرضه، ويرتقب الفرصة التي تمكنه من الدفاع عنها مرة ثانية. فلم يلبث أن وثب رجل من عرض العامة في بولونيا، وطني من الصفوف الأولى من الوطنيين المتقدمين حمية وإخلاصاً لبلده، صانع حبال يدعى كلينسكي، فجمع عشرين ألف صانع من صناع الحبال والخياطين والنساجين، فلما سمع السفير الروسي ريبنسين بنبأ هذا الثائر، حاول عبثاً أن يهدئ من ثائرته ويطفيء مفيه حميته للقتلا والدفاع عن الوطن، حتى دعاه آخر الأمر فلما مثل هذا الرجل العامي بين يديه، جعل ينظر إلى السفير نظرة اعتيادية ساكنة لا تدل على شيء من الاكتراث أو الخوف بل هي إمارة الاستخفاف والهدوء فلم يكن من هذا السفير الذي كان ملك بولونيا نفسه يرتعب منه ويفرق من خشيته، إلا أن قال مغضباً: أيها الرجل ألا تدري أمام من أنت الآن واقف؟ ولم يكد يتم عبارته حتى فك أزرار معطفه فإذا بسترته مفعمه بالأوسمة العديدة والنياشين! وراح يصرخ في البولوني: إذن فانظر وارتعب! ولكن لم يكن من ذلكالعامل البسيط إلا أن قال: لا أرى إلا نجوماً صناعية في صدرك، ولكن أرى مثلها في السماء، يا صاحب الفخامة، ولهذا لا أرتعب ولا أرتعد!.

واستثارت وحشية الروس القوم إلى القتال، إذ أصر مندوب القيصرة كاترين على أن يخفض عدد الجيش البولوني من ثلاثين ألف مقاتل إلى سبعة عشر لا أكثر، وكان يعني ذلك الأمر تجريد الوطن من السلاح، أو قل معناه العجز ثم الموت السريع!. فثار الجيش البولوني واحتدم غيظه، ونهض منكراً هذا النير الثقيل حتى أن قائد فرقة الفرسان رفض في اليوم الثاني عشر من شهر مارس عام 1794 أن يسلم أسلحته وانطلق مفلتاً من فرسوفيا حمي الأنف كبير الإباء، والتحم في موقعة دموية وجند البروسيان إذ أرادوا أن يحموه الطريق، ويمنعوه السبيل، واحتل راوا وانحدر إلى كاركوفيا وكانت الساعة التي كان أهل بولونيا يرقبونها ارتقاب الصديان للماء الزلال، قد دقت إذ ذاك وأذنت، فلما كان الثالث والعشرون من ذلك الشهر، كان كوشيوسكو في بهرة الجند والجيش، وكان قدومه ليلاً فلم ينم أحد من الأهلين ولم يشتمل سرير من السرر على الراقدين فيه، بل لقد كانت ليلة ساهرة ما يغمض فيها جفن، وما يتنزل النوم فيها على محجر أو عين، وقد أشعلت ألوف من المصابيح، ومشى القوم بألوف من المشاعل، وقد تردد في جميع أرجاء المدينة صوت عظيم أجش هائل يقول في واحد ليحيى كوشيوسكو ليحيى منقذ البلاد ليحيى المخلص، مسيح الوطن ولكن الرجل لم تشكره مشمولة ذلك الترحيب الحار البديع، بل أبى أن يضيع دقيقة واحدة وإنما هرع إلى إدارة محافظة المدينة وأقفل جميع أبواب كاركوفيا وجمع كل ما وصل إلى يده من الأسلحة، وأوحى إلى مجلس الشيوخ أن يجتمع بكل سرعة، فاجتمع وقدم إليه عصا القائد العام للجيوش البولونية، وخول له سلطة عرفية تامة، وفي جنح ذلك الليل، أمر بتجنيد شباب الشعب وفتيانه، بلا تمييز قوم دون قوم، أو إعفاء أبناء طبقة دون طبقة، وحدد السن من الثامنة عشرة إلى السابعة والعشرين ولم يكد ينبثق الفجر، وتبدو جيوش النور من المشرق حتى تعاهد القائد كوشيوسكو وجنده على الموت في سبيل الدفاع عن الوطن. فلما طلع النهار ألقى أمر بجمع ما في الخزائن العمومية من الأموال، ومصادرة ما في القصور من الكنوز وجمع الثروات الأهلية، وصادر بعد ذلك أموال الخونة المارقين، فاجتمع له من كل ذلك في بضع ساعات نصف مليار حشدها لقضية الحرية والاستقلال، ولم يلبث قليلاً حتى ترددت أصداء هذه النهضة في جميع أنحاء بولونيا، فهجر الصناع مصانعهم وغادر العمال الأعمال التي فيها

يمتهنون أنفسهم ويبتذلون، وهرعوا يطلبون الزعيم كوشيوسكو وفيهم من يحملون الفؤوس، وآخرون يشهرون المطارق والمعاول وأهطع القرويون والمدنيون والحضريون مشهرين سيوفاً، أو متنكبين رماحاً، وهجر الفلاحون في الحقول محارثهم ومناجلهم وتسلحوا بألوان من الأسلحة وكان كوشيوسكو إنما يريد من كل أسرة تتركب من خمسة أفراد فرداً واحداً، ولكنه رأى المتطوعين ينسلون إليه من كل مكان عارضين عليه نفائسهم وحياتهم مسترخصة في سبيل الحرية، وخامت النساء حلاهن، وهرعن يطلبن نصيباً من القتال، فما أروع منظر بولونيا يومذاك، وما أفتن ذلك القبس السماوي الإلهي الذي تجلى في أفقها!! وكذلك انتصر كوشيوسكو في المعارك الأولى، وشق طريقه إلى فرسوفيا ففتحها على صرخات الجيوش (كوشيوسكو والحرية) ولكن أبى القضاء إلا أن تغلب الكثرة، وينتصر الأكثرون نفيراً فسقطت في أيديهم كركوفيا في أيدي الروس، ولم يبق للبولونيين إلا الدفاع عن فرسوفيا، فلما كان اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر خرج كوشيوسكو من فرسوفيا في عشرين ألف مقاتل وأرد أن يخطب جيوشه ويلقي إليهم كلمة واحدة هي كلمة (التوديع) إذ راح يصيح في ذلك الحشد العظيم رفاقي الشجعان! وأخوان السلاح الأعزاء، هل تريدون أن تنقذوا معي الوطن، وتحتفظوا بالعهد الذي عاهدنا، وهو الانتصار أو الموت والبوار، فمن كان منكم متردداً، أو ذا قلب هواء، أو مزعزع الحمية، فليخرج من الصفوف ويلقي السلاح جانباً، ونحن آذنون له في أن يعود إلى داره وعشيرته التي تأويه! فلم يخرج من الصف رجل واحد! بل صاح الجميع نحن معك أيها القائد إلى الموت، وعلى مشرق الضياء أقسم كوشيوسكو إلا أن ينقذ الوطن أو ليموتن، وانطلق القوم في أثره يهتفون الأنشودة الأهلية التي مطلعها بولونيا لن تموت. واستبسل القوم في الدفاع ولكن الجيوش العظيمة التي وقفت حيالهم جعلت تنقص من أعدادهم شيئاً فشيئاً حتى لم يبق لكوشيوسكو من جنده إلا خلق قليل، ولكنه جعل يقاتل ويثب ويناضل، وهو في لباس الجندي البسيط ولكن هل كانت تغني عنه شرذمته القليلة إزاء تلك الغابات الإنسانية المتكاثفة المتحركة، ولهذا لا غرو أن يقع في المعركة الأخيرة جريحاً، إذ طارت قنبلة فالتهمت كتفه، وتلقى ثلاث طعنات من الأسنة في صدره، وكاد القوزاق أن يجهزوا عليه، لو لم يعرفه رجل من جيش العدو فصاح بهم أن لا يقتلوه، فحمل

إلى قائد الروس فلما رأى العدو منظره الرائع بكوا واستعبروا، وانحنو خاشعين أمام هذه الوطنية الهائلة الجبارة التي أبت إلا أن تقاتل ملايين من الناس في سبيل إبائها وشرفها. ماتت بولونيا إذ ذاك بانهزام ذلكم القائد، فأراد أن يعتزمل أرض وطنه فأوى إلى فرنسا، حيث قضى أخريات أيامه، فتلقته باريس عند قدمه باحتفال مهيب. وفي المأدبة التي أدبت تكريماً له، وقد تذاكر المدعون الشقاء الذي حل بأهل بولونيا نديت عينه بالدموع وانفجرت بصبيب العبرات، فلما رفع الكأس ليشرب نخب فرنسا (عاجله القوم فقاطعوه صائحين) بل لنشرب نخب دموع كوشيوسكو العظيمة! وأرادت الأندية السياسية أن تحتاط به وتلزم رفقته، ولكنه أبى إلا أن يعود إلى عزلته الأولى يوم كان في مطارف الشباب لأن العزلة هي الملجأ الوحيد الذي يستريح فيه الأبطال الذين خانتهم الأقدار، وتنكر لهم الزمن، وأرادت مدام دي ستايل وهي من هي ومكانها معروف في دولة الأدب، أن تتنازل عن كل شيء في الحياة في سبيل أن تجلس إليه وتدنو منه وتتسمع إلى حديثه، ولكنه لما كان يعلم من حبها لألمانيا، وإعجابها بالعظمة البروسية، لم يعجب بها ولم يمكنها من بغيتها، فإذا جلس في مجلس، أو حضر في ندوة، وأعلن الخادم قدوم مدام دي ستايل، لم يكن من ذل الرجل العظيم الجبار إلا أن يأخذ قبعته وعصاه وينطلق من المجلس هارباً. واجتمع به القيصر ألكسندر في باريس وطلب أن يحادثه، فلما تم له ذلك راح الكسندر يسأله: ماذا ترى من الوسائل الواجبة لسعادة بولونيا فلم يجب كوشيوسكو على سؤاله بل مشى إلى خريطة أوروبا المعلقة فوق الجدار فوضع إصبعه على نهر الدنيبر ثم على نهر الدوينا ولم يفه ببنت شفة، فأدرك القيصر مراده ووعده خيراً. وفي شهر أكتوبر عام 1817 أصيب كوشيوسكو بمرض خطير، فدعا إليه المسجل ووصى بجميع ممتلكاته إلى فلاحي قريته، وخص شيئاً منها لتربية اللقطاء، فلما اشتدت عليه العلة، صاح قائلاً: الآن قد شفيت وطلب أن يجيئوا له بسيفه الذي كان يقاتل به في معارك الوطن فلما وضع أمام عينيه أخذه إلى فمه فقبله طويلاً ولثمه لثمات حادة، وإذ ذاك اشتدت الحمى، وهو لا يفتأ ثغره مبتسماً. فلما حل اليوم الخامس عشر من الشهر، أحس أنه اليوم الأخير من حياته فنادى إليه

أصحابه فقبلهم جميعاً وودعهم آخر توديع ثم سقطت رأسه على الوسادة، ثم نام نومة الأبد!. على أننا قبل أن نختم هذا التاريخ المبكي الأسيف، لا بد أن نذكر أنه قبل منيته بأيام، وقع له نبأ مفرح، وذلك أن الفتاة التي اختطفها في شبيبته ثم استلبت منه كتبت إليه تقول، أنها قد أصبحت أرملة وأنها ستطير إليه حتى تلقاه. ولكن لما وصلت الحبيبة القديمة كان الحبيب القديم قد مات.

أبهة الملك

أبهة الملك ترجمها من الإنكليزية الشاعر محمود عماد قال شكسبير على لسن الملك هنري الخامس لما أن سمع سخط الشعب عليه في معركة (أجنكورت): عند الملك نفتقد حياتنا ورفاهتنا. وفي ذمته نودع أرواحنا وأشخاصنا ومن خزانته نطلب وفاء ديوننا، وعلى عاتقه نلقي مسئولية جرائرنا وآثامنا، وليس للملك لقاء ذلك إلا الخضوع والخنوع!!. فيا لها من شروط باهظة تطالب بها أبهة الملك وحدها، ويالتعاسة هذه الأبهة التي تستهدف للعنات الأنانيين الذين لا يتململون إلا من آلامهم الشخصية. الأبهة هي الميزة الفذة التي ينماز بها الملك عن شعبه، بينما ينماز الشعب عن ملكه بميزات كثيرة لا يحيط بها العدد. فما عساك تكونين أيتها الأبهة المحسدة؟ ما كنهك وماهيتك؟ ما دخلك وخرجك؟ ولأي ضرب من ضروب المعبودات تنتمين. فلم نر قبلك معبوداً هو أكثر ألماً من عابديه!! ولعمري كيف استأهلت هذه العبادة؟ وبأي مرقاة موفقة رقيت إلى مستواها السامق السحيق. ألست سوى مرتبة مبهرجة من الوهم تشع الفزع في قلوب مبصريها فيهابونها وهي من أحل هذه الهيبة تشقى وتتألم؟. وهل سقيت يوماً عوضاً عن شراب الإخلاص السائغ الاسم الملق الزعاف. إمرضي أيتها الأبهة الموقرة آءنة ما، وسلي وقارك أن يهبك الشفاء. ثم انظري أترين نار حماك المتأججة تعود عليك برداً وسلاماً إذا رشت بشيء من ندى التبجيل والتعظيم؟؟. إلا أن الركوع والسجود لا يشيعان ضراً ولا يستقبلان نفعاً!! بل انظري. . أكنت معيدة إلى ركبتين تثنيان أمام عظمتك وجلالك شفاءهما إذ دب إليهما السقم؟. كلا ما أحسبك تصنعين أيتها القوة الوهمية الخبيثة التي تعبث براحة الملك وسعادته. . إني كل. فأنا أعرفك جد العرفان. وأعرف أن زيت التتويج المقدس، والصولجان، والسيف، والتاج الإمبراطوري، والثوب الموشى بالذهب والجوهر والألقاب المنمقة التي تتدفق أمام

الملك، والدست الذي يتربع فيه، وتيار المظهر الضخم الفخم الذي يلتطم بين شواطئ العالم، كل هذه - أيتها الأبهة المتطرفة في العظمة - إذا جمعت في شخص واحد، ونامت في سرير واحد، لا يمكن أن تظفر من النوم الهادئ بمثل ما يظفر به العبد الوادع، الصحيح الجسم، الخالي الروع، إذا قصد فراشه وفقد امتلأت معدته من خبز حصل عليه بكده ونصبه!!. أجل. ما أراها إلا بليلة مظلمة كأنما تجمعت من دخان الجحيم بينما ذلك السوقي الحقير، الذي يتصبب عرقاً طوال يومه أمام عين فوبس (إله الشمس) يظفر إذا نام بليلة هانئة رخيمة تجمعت من ظلال الجنة!!. وما هو إلا أن يدركه فجر الغد فينهض من سباته ليعضد هايبريون (سائس مركبة إله الشمس) ويعاونه في تجهزي خيله. وكذلك يمضي سنيه المطردة المتعاقبة في العمل المنتج إلى أن تسكن نأمته ويسكن رمسه. فلولا الأبهة وحدها لكان هذا العامل المغمور الذي يسلخ نهاره في العمل المضني، وليله في النوم المريح، أسبغ نعمة، وأسمى مكانة من الملك. وليته يعلم - وما أراه عالماً وهو فرد من أفراد الشعب الذي يستدر رزقه من أخلاف الأمن العام - كم يتكلف الملك من الجهد عند ما يريد نفسه على توطيد دعائم هذا الأمن.

القاتل الرحيم

القاتل الرحيم أوى يقتل الناس مستمكناً ... بعينيه والناس لا تعلم يخدر أفهامهم بالجمال ... فما تبصر الموت أو تفهم ويأخذهم بعد تخديرهم ... بما أكبروه وما عظموا ويزعم أن قد أوتي رحمة ... فيالضلال الذي يزعم متى كان من يقتل الأبريا ... ء وإن لم يمثل بهم يرحم مغالطة تترك الحق وهما ... فيا حسن حتى متى توهم يمن عليهم بتنويمهم ... وتقتيلهم وهمو نوم وللجرم فيما يمن به ... ولكن يخادعنا المجرم فلو أنه لم ينومهمو ... لفروا من الموت واستعصموا ترانا إذا ما هتفنا به ... لعينيك يا مدعي أسهم يقول افتريتم عليّ وإلا ... فحسبي برهاني المفحم أطالعكم من وراء الزجا ... ج وأمعن فيكم ولا يحطم محمود عماد

حول نهضة المرأة المصرية

حول نهضة المرأة المصرية للمرأة أثر بين في حال الجماعة يعترف به الأكثرون، وبقدر رقيها وتهذيبها يكون ذلك الأثر، فإما نزاعاً إلى التقدم في سبيل الكمال، أو مدعاة للتقهقر والهوى. فعلى الأمة التي تريد نهوضاً يكسبها مكاناً عليناً بين الأمم الأخرى أن تعنى بتهذيب نسائها، وليس أبسط من تلك الحقيقة ولا أسهل منها فهماً، إذ أن تربية المرأة خطوة كبرى في سبيل تهذيب البنين، فالأبناء في طراءة العمر أي في الدور الذي ترسخ في أذهانهم التعاليم التي يتلقونها يقضون أكثر الوقت في رعاية الأمهات ولئن شذ في ذلك بعض الأسر فسلموا أمر الرعاية للمربيات فلا أقل من أن تكون للأم مهمة الرقابة. وأرى أن النهضة الحالية - وهي التي استفزتني لطرق هذا الموضوع - ليست دليل بدء حياة جديدة كما قال أكثر من كتبوا في هذه الأيام بل هي مظهر عادي من حياة طيبة راقية موجودة فعلاً، وهذه الحياة لا تضن بأن تدلي ببرهان وجودها في كل ظرف تطلب ذلك. ويلوح لي أن بعض الكاتبين يغالون في وصف شقاء المرأة وتقييدها، وعندي أن هؤلاء يعيشون في عالم الخيال إذ المرأة المصرية مستمتعة في الواقع بكل ما ينعم به الرجل من الحرية ولها حرمة مرعية عند زوجها ورأي محترم في عشيرتها. خير للأمة أن يعمد قادتها ومرشدوها إلى بيان أسباب النجاح، وطرق الرقي، وأيها أسهل منالاً وأوفق لحالنا من الإكثار في التقبيح والإفراط في الملام. لأن هذه النغمة - نغمة الندب والعويل - تهيج من غير أن ترشد فمن عرفها ووقف على كنهها أنكرها ومن تنبه بها هاج وتمرد على سنته الأولى فإذا به يجد الطريق الآخر ظلاماً فيخشى إن هو سار فيه أن يعتسف، فيقف حائراً متلدداً، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. مثل أولئك الغلاة في سلوكهم كمثل رجل يسكن مع أخوته الصغار فإذا بالمنزل يحترق ذات ليلة من إحدى جهاته فبدلاً من أن يأخذ بيدهم إلى منجاة من الناحية الأخرى يقصر نفسه على الصياح النارالنار حتى بعد استيقاظهم فيقف الصغار مذهولين حتى تلتهمهم النار جميعاً. علينا واجب نؤديه في هذا السبيل. علينا أن نبذل النصح خالصاً لما يجب على لامرأة عمله، علينا أن نشرح كيف ترتقي المرأة. أعود إلى حال المرأة المصرية متبسطاً مع القراء في شرحه حتى نفهمه جيداً ثم نقرر أي

الوسائل أنجع في السير إلى الأمام، وأيها أولى بنا، إذ أن ناجع الدواء متوقف على معرفة الداء. المرأة المصرية ريفية أم حضرية؟ أما في الأرياف فترى سفوراً لم تشبه حتى اليوم خبائث المدينة، وتتجلى لك مشاركة المرأة للرجل في العمل في أسمى مظاهرها فبينما هي تقدم لزوجها طعام الصباح البسيط إذ بها بعد خروجه تعد له الغذاء ثم تلحقه في حقله تساعده في الأعمال بأكثر أنواعها إذا لزم ذلك، وتجالسه وتبدي آراءها بكل صراحة، ورأيها في الغالب محترم وفي أكثر الأحوال مأخوذ به ولها الحرية التامة في اختيار حاجات المنزل، وكثيرات منهن يأخذن بأسباب التجارة، وكثيراً ما ينجحن وفيهن الماهرات في الأخذ والعطاء. وهؤلاء يسعدن غالباً في زواجهن من أجل عاملين قويين: (1) القناعة والصراحة التي يصحبان السذاجة غالباً، فالصفة الأولى تبعد بصاحبتها عن التغالي في النقد، والصفة الثانية تساعدها على رفض من يعرض عليها ولا تراه صالحاً. (2) تمكنها من رؤية الرجل في أدوار متعددة من أدوار العمر فتستطيع درسه والحكم في أمره. وأفراح الريف بسيطة لا تبذير فيها، وتلك محمدة حبذا لو عمت فشملت المدن. ومن عرف أن الريفية تبذل جهدها في تعليم بنتها كل ما تعلم من واجبات الحياة حكم لأول وهلة أن تلك الأم لو تعلمت لكان لها أثر كبير ظاهر في تكميل بناتها وتهذيبهن. وليس في أخلاق الريفيات ما يؤاخذن عليه إلا ما كان من خروجهن في الجنائز وعادة الندب الممقوتة. تلك مجموعة من أخلاق الريفيات تبين حال المرأة القروية، فيها الحسن والقبيح شرحتها بقدر ما يصل إليه علمي وبصفتي قروياً يعني على الدوام بدرس ما حوله وها هي نتيجة أبحاثي فيما يختص بأكثرية الريفيات. وهناك أقلية تختلف في حالها اختلافاً بيناً أرجئ بسط حالها وتعيين علاجه إلى مما بعد تقرير علاج الأكثرية. يتضح لمن قرأ تلك الملاحظات أن أقرب وسيلة للنهوض بالمرأة الريفية أولاً هو تعميم التعليم بعد تنقيح نظمه الحالية التي أثبتت التجارب فسادها وعدم ملاءمتها للعصر الحاضر

بشرط أن تكون روح النظام المنشود محببة للعمل حاثة عليه داعية إلى كرم الأخلاق مفهمة للمرأة حقيقة واجبها. (2) أن يقوم العقلاء وأصحاب النفوذ بمنع النساء من الخروج في الجنائز. وإني لأذكر لهذه المناسبة ما رأيت في بعض قرى الأرياف فإنهم منعوا خروج السيدات في الجنائز على تلك الحالة المرذولة وأبطلوا التعديد والندب. (3) أن تفرد أقسام خاصة في المساجد ليسمع النساء الوعظ والإرشاد في أيام الجمع. هنا أقف قليلاً أسكت دمعة طفرت بالرغم مني لذكرى باحثة البادية رحمها الله، تلك التي كانت تملأ البلاد نصحاً وتعد في سبيل النهوض أكبر قائد فقد سبقتني إلى هذين الاقتراحين في المؤتمر المصري المنعقد سنة 1911. أما حال الأقلية التي أشرت غليها فهي: تنقسم تلك الأقلية إلى قسمين القسيم الأول يقضي أغلب الوقت في المدن الكبرى مع أسرهن ويتعلمن كما تتعلم فتيات المدن وهن إن كن أقل سفوراً من القرويات غير أن علمهن ووقوفهن على أسرار كثير من العلوم الحديثة وواجبات الحياة الاجتماعية بديل مما فقد ولهذا أدعهن في صف نساء المدن لأن حالهن واحد. أما القسم الثاني فهو المظلوم حقاً: وهو الذي يجب الإسراع في تحريره وعلاج أسقامه؟ تلك أقلية من الأسر الريفية أكثر مالاً أو أقوى عصبية من سواها نرى أن عزها في الحجاب الشاق ومنهن من يجبرن على المكث في منازلهن حتى يبقين غير عالمات بشيء مما يحيط بهن ولو اقتصر الحال على ذلك لسكتنا ولكنه يتعداه إلى تحقير التعليم فيرون من العاب الذميم تعليم الفتيات. من هنا تذهب الفتاة ضحية الجهل والظلم. وفي المقالة الآتية إن شاء الله تتمة الموضوع محمد محمود جلال

نهضة الأمم

نهضة الأمم تحت هذا العنوان ننشر أبحاثاً مستفيضة من الحين إلى الحين عن الشعوب الصغيرة التي كانت تعيش في زوايا الخمول، وضحية العزلة والسكون، ثم نهضت اليوم على الصوت الذي تردد في جميع أنحاء الأرض داعياً الدنيا إلى وئام عام، وسلام أبدي مقيم، وتحرير الشعوب الصغيرة، ومنح كل ذي من الأمم حقه غير مغبون فيه، أو مصروف عنه. ونحن الآن نبدأ بنهضة شعب غريب لم نكن نعرفه من قبل ولم نسمع بخبره وهو شعب اليوجوسلاف، الذي من أجله وقعت المشكلة السياسية الكبرى في مؤتمر السلام على أثر حادثة فيوم والمطالبة بها، ولا يزال الخلاف قائماً. شعب اليوجوسلاف أو سلاف الجنوب يسأل الناس ما تلكم ولايات اليوجوسلاف وأمة اليوجوسلاف التي لا تزال في طور التكوين في أوروبا الوسطى، وما هي الشعوب وما هي المملكة التي تتألف منها، وما مستقبلها في العالم وما مكانها من الدنيا في قادمة السنين وأخيراً ما منشأ هذا الخلاف الذي حمي وطيسه بين هذا الشعب الذي لا يزال في دور الطفولة وبين أمة الطليان حتى أرسل سحابة مظلمة كثيفة على سماء مؤتمر الصلح. تلك هي الأسئلة التي تدور الآن على الشفاه. ونحن عليها مجيبون ولها شارحون في السطور الآتية: نبدأ أولاً بشرح معنى لفظة اليوجوسلاف التي ولا ريب أدهشت مسامع القراء لغرابة تركيبها ووقعها في الأذن، فنقول أن هذه اللفظة معناها في اللغات السلافبة سلاف الجنوب أي الشعوب السلافية التي تقطن جنوب أوروبا تمييزاً لها عن سلاف الشمال من أجناس التشيك والسلوفاك والبولونيين والروس. وسلاف الجنوب يبلغون نحواً من اثني عشر مليون نسمة، وهم منتشرون في الركن الغربي لشبه جزيرة البلقان وفي الحد الشرقي لسلسلة جبال الألب والحد الجنوبي لحوض نهر الدانوب (الطونة) ويحدها من ناحية الغرب بحر الإدرياتيك ومن الجنوب خط يلتقي بتخوم الجبل الأسود مما يلي سالونيك ثم من الشرق بمضيق يلتقي بجبال الفرداو الذي ينسرب فيه

نهر الطونة من سهو المجر إلى سهولة مملكة رومانيا ثم أخيراً من الشمال القمم الأخيرة لجبال الألب ونهر الدراف، ذلكم النهر القوي الفضفاض الذي ينصب في نهر الطونة. هذه هي حدود اليوجسلافيا على وجه التقريب، ونحن إنما نقول على التقريب لأن هذه الأمم والأجناس في أغلب المواقع تتعدى هذه الحدود، كما هي الحال في سفح جبل ترانسلفانيا، إذ يتنازعون ثمت الحق في تمسفار مع أهل رومانيا على حين ترى سواحل الأدرياتيك آهلة بخلق كثير منهم يعيشون تحت نير الطليان، وأنت تعلم أن سكان شبه جزيرة البلقان ما يفتأون على كر الأدهار ممتزحين بعض ببعض متداخلين، حتى لتجد في أغلب الأحايين الولايات متنازعة بين دولتين، بحق الرابطة اللغوية من ناحية، وبحق الرابطة الجنسية من الأخرى، وأحياناً تجد أمماً متعددة تطالب بالأحقية في ولايات آهلة بسكان مختلفي الأجناس والنحل واللغات، وكل يطالب بها، ويؤيد حقه بتقديم إحصاءات يراد به أن يبين أن الأغلبية من أهلها تنتسب له، ومن هذا ندرك أن من الصعب تحديد الحدود التي يقطن فيها جنس من الأجناس البلقانية. ولم يظفر بالاستقلال من بين سلاف الجنوب قبل نشوب الحرب إلا الشعب الصربي وشعب الجبل الأسود، وظلت الأجناس الباقية تحت نير النمسا والمجر، فلما انحلت الإمبراطورية النمسوية، وتخلصت هذه الشعوب من ذلكم النير، أرادت تلكم الشعوب أن تؤلف منها جميعاً أمة يطلق عليها أمة اليوجسلاف وهذه الأمة ستتصل بأمة التشيل والسلوفاك من ناحية جنوب الطونة، وستتألف وحدتها من جزء من النمسا والمجر ومن ولايات استيريا وكازنتيا وكارمنيول وكرواتيا وسلوفونيا ودلماسيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود. ولكي يتجلى لك مستقبل الخريطة الأوروبية السياسية من جراء هذا التنقيح الذي يراد أن يتم اليوم ينبغي أن نذلل لك سبيل المقارنة، فنقول أن صربيا في عام 18904 كانت مساحتها ضعف مساحة سويسرا، وكان سكانها يبلغون أربعة ملايين ونصفاً، ولكن اليوجسلافيا ستحتوي نيفاً واثني عشر مليوناً أي نحواً من نصف سكان فرنسا. وهذا الجنس السلافي يشتمل على ثلاث قبائل، ففي جبال الألب - أي من ناحية الشمال تجد قبائل (السلوفين) وفي السهول - بين نهري الدراف والساف وكذلك في دلماسيا، ترى

القبائل الكرواتية ثم الصربيين في الصرب والبوسنة والهرسمك والجبل الأسود، فأما السلوفيين فيتكلمون رطانة خاصة بهم وحدهم، وأما الكرواتيون والصربيون فلهم لسان واحد، ورطانة مشتركة، على حين أن الأولين يكتبون الحروف اللاتينية، وأما الآخرون فيكتبون اللغة الروسية، وأضف إلى هذا أن السلوفيين والكرواتيين يتبعون الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بينا ترى الصرب ينتسبون على الكنيسة الرومية أو (اليونانية) وفي البوسنة والهرسك نحو نصف مليون من المسلمين، وإذا كان هذا هكذا فلا غرو أن تجد هؤلاء الشعوب على انقسام واختلاف وشحناء، ولا عجب أن يتنبأ السياسيون الكبار بالصعوبة الكبرى التي ستعترض توحيد هذه الأجناس وتليف أمة واحدة منها. واعلم أن مملكة اليوجوسلاف من ناحية الجمال الطبيعي تعد من أجمل ممالك أوروبا، وأنضرها طبيعة وفتنة، ففي كرواتيا شمالاً ترى نهاية جبل الألب العجيبة وقممها المغطاة بالثلوج، وهذه الجبال ليست متناهية في السمو والاستطالة ولكنها متوسطة الارتفاع، تفرع خلالها الغابات الرائعة، والمراعي الفخمة، وتنسرب فيها الجداول النميرة تحت نور الشمس الوسطى المشرقة الساطعة، ثم من ناحية الجنوب ترى تلك الجبال منحدرة متدانية حتى تصبح سهولاً شاسعة، تتخللها الهاويات السحيقة، والوديان البطحاء العميقة، وقد شبه الشعراء تلك القطعة الجميلة البيضاء من الأرض بقطعة من القمر سقطت على الكوكب الأرضي، حتى لقد سماها بعض الناس أرض العرب. ولا ترى لهؤلاء القوم أية صناعة هامة، ولا تراهم تعملون أو يشتغلون في أية حرف طيبة، ولا أهمية لتلك البلاد غلا من ناحية أنها الصلة بين الدول، والطريق الساربة إلى بلغراد والقسطنطينية وستكون تلك المملكة الطريق العظيم بين أوروبا الغربية وساحل البوسفور، ومن الآن بدلاً من أن ينفذ قطار إكسبريس الشرق من جنوب ألمانيا فالنمسا فالمجر، سينطلق القطار من نفق سمبلون إلى ميلان فالبندقية، ثم يشق تلك الأرض فيبلغ بلغراد ومنها إلى الأستانة. والآن لنبحث في منشأ الخلاف الذي وقع فيه اليوجسلاف والشعب الطلياني فنقول أن إيطاليا تطالب بولاية استريا وثغر فيوم وجزء من دلماسيا، على حين تريد اليوجسلاف أن تحتفظ بتلك المواقع والولايات، وهذا الخلاف خطير، والمشكلة صعبة ودقيقة، لأن في

الظفر بتلك البلدان الظفر بالإشراف على الإدرياتيك، وأنت ترى إذا ألقيت البصر إلى المصور الجغرافي، أن الأدرياتيك أشبه شيء ببحيرة مستطيلة الشكل تفصل إيطاليا عن البلقان ولا مخرج لها إلى البحر الأبيض المتوسط إلا من مضيق صغير، أي من كعب الحذاء الطلياني، (لأن إيطاليا أشبه بحذاء وذلك المضيق الكعب منه) إلى سواحل ألبانيا، حيث قناة أوترونتو، إذ يبلغ اتساعه نحواً من تسعين كيلومتراً، ومن هذا تدرك أن هذا البحر ليس إلا حوضاً مغلقاً، والاحتفاظ به وملكية السلطان عليه قد يسوق إلى نتائج سياسية خطيرة هي اليوم باعث الخلاف ومشكلة المشاكل. ثم إذا تدبرنا الموضوع من وجهة أخرى، ألفينا السهول التي تمتد إلى تلك السواحل تقوم سوراً منيعاً يحجز الأرض الواقعة وراءها، ولا يوجد بين المملكتين إلا ممرات ومخارج نادرة قليلة، ثم لا تنس أن فينيسيا أو مدينة البندقية منذ القرون الغابرة كانت مركزاً عظيماً، وكانت في القرون الوسطى أول مدينة في التجارة وأهم ثغر في الغرب بأسره وبحكم الطبيعة استطاعت أن تلقي سلطانها على البلاد المقابلة لها في الشاطئ الآخر ففتحت في القرن العاشر من البلاد دلماسيا واستريا وكرواتيا، واستوطن أهلها بها زمناً طويلاً وبقيت جزءاً من الجمهورية الفنيسية حتى معاهدة كامبيو فورميو عام 1797، ومن هذا ترى أن هذه الأودية البحرية ظلت فينيسية الشكل لاتينية الشخصية وأن الزائر لها لا يشعر بانه قد غادر إيطاليا أو انحدر عنها إلى أرض أجنبية، ففي مدينة بولا وفي فيوم وفي إسبالاتو، لا يزال السائح يشهد آثاراً رومانية تدل على النفوذ الذي كان لإيطاليا في تلك البلاد، ونحن بصرف النظر عن تريستا التي لم يقم حولها شيء من الخلاف، نقول أن جميع موانئ أستريا وكرواتيا ودلماسيا لا تزال مستعمرات إيطالية كبرى وإن كانت آهلة باليوجسلاف، ثم لا تنس كذلك أن اللغة الإيطالية هي لغة الإدرياتيك وهي لها الحق في أن تعم جميع سواحل ذلك البحر، على أن إيطاليا لم تطالب إلا ببعض أقسام من السواحل الشرقية للأدرياتيك وأبقت لليوجوسلاف طائفة من المرافئ الخطيرة الطيبة، وأنت تعلم أن الطليان يقيمون مطالبهم على حجج كثيرة لها علاقة بالنظام الحربي وبواعث الحماية الأهلية، التي أظهرت الحرب الحاضرة خطورتها الكبرى، وهذه الحجج تتلخص في أن السواحل الشرقية معرضة لاستخدام الأعداء لها، وفي هذا البلاء على إيطاليا، ولا يزال موقف إيطاليا حيال

الساحل الشرقي موقف إنكلترا حيال أنفرس في بلجيكا، إذ يقول فيه نابليون أن من يقبض على ساحل دلماسيا كالقابض على مسدس مصوب إلى قلب إيطاليا.

تحية مصر

تحية مصر لحضرة صاحب العزة العالم النابغة الجليل والكاتب الشاعر النبيل، شاعر العربية والتركية الفارسية، سعادة صاحب التوقيع حفظه الله. بدرت لمصر بوادر الإقبال ... بشرى فتلك براعة استهلال نجم هوى عن أفق عرش هلالها ... فغدت نجوم تزدهي بهلال شفق على راياتها الحمراء أم ... راياتها الشرف الرفيع العالي وعلى جوانبه دم فمسلم ... عن كل شائبة من الإذلال لبت على أصواتها ملأ العلا ... تالله هذي آية الإجلال انظر إلى المتظاهرين وسيلهم ... إن لم تشم عرفات في الترحال إحرامهم حلل التآخي بينهم ... وذبيحهم شهداء الاستقلال يتهافتون لكعبة الحق التي ... نكست جبابرة من الأقيال شعب كأن النيل زحزح سده ... والمشرفون كهيئة الشلال ماضيهم تحت القيود وحالهم ... حر يراقب خير الاستقبال ناداهم الدستور في أسراهم ... يا أقدم الأمصار في الأفضال أنتم أساس النور أول شعلة ... لمعت وراء غياهب الإضلال أنتم أبو المدنية الفيحاء بل ... أنتم منارة صيتها الجوال فيكم يشير السلم (أخناتون) من ... منه الغزالة أصبحت تمثالي فيكم (سزوسريس) الذي ملك الملا ... وحمى الفنون ببذل الأموال أذكر لقدرتهم بحيرة (مورس) ... وبدائع (اللبرنت) بالإبجال أو ما سمعت النصح من (أمنمهت) ... حتى تقدر كيف كان جثا لي ماذا جرى عن كفرن وكيوبس ... لأوابد الهرمين من أهوال لمَ أحرقوا جدثيهما من غيظهم ... وأسميهما لعنوا مدى الأنسال وحذار من دنس التفرق بينكم ... فلوحدة الآمال شوق وصالي حرية الأقوام شمس حياتهم ... بزغت لنشر عظائم الأعمال منها استنار تمدن العصر الأخ ... ير فقام يبدع معجز الأفعال هي نعمة قدسية أزلية ... هي منبر يرقى لكل الحال

هي سلم لولاه ما كانت ترى ... أمم على أوج الرقي الحالي هي منبع العمران والعرفان بل ... هي مطلع لسعادة الأجيال هي آية الأفضال بل هي غاية الإ ... جلال بل هي معقد الآمال يا مرسل العدل المبين على الثرى ... نفدي جلالك بالنفيسالغالي لبيك ما تدعو فدينك رحمة ... وهداية للناس بعد ضلال إن الشبيبة قوة لو أرعدت ... تركت جبال الأرض في زلزال (نور)

البولشفية

البولشفية عثرنا بهذا الموضوع في إحدى المجلات الفرنسية فرأينا أن تحف به قراء البيان. قال مسيو تيير وهو من أكبر رجال السياسة في فرسنا في القرن المنصرم (احذروا الدب الروسي) وقد خيل إليه ماذا يكون من أثر شعب من مائة وسبعين مليون نفس، وشعب شاب فتي قدير على أن ينتظم تحت سلطن شديد، وقانون صلب متين، في مستقبل العالم بأسره، وماذا سيحدثه في سير الدنيا ونظامها، وماذا يمكن أن يغير من معالمها، أو ينقص من أطرافها، ولكن قد تغيرت الحال اليوم فلم نعد نرى في الروسيا صورة المحارب الشاب الفتي الطموح إلى الغزو والفتوح، بل لقد نهضت اليوم أمام أعيننا صورة شبح مخيف مارد ملوث الفم بالدماء يخطر في ميدان عظيم من الذبح والسفك، والهدم والتخريب، كلما افترس اشتدت به الشهوة للافتراس، وازداد قرمه لأكل لحوم الناس، وكذلك في القرن العشرين أبى العالم الإنساني المتحضر، وهو الذي كان يطارد الآفات والأوبئة، إلا أن يتبع الروسيا ويمشي في آثارها وراء ذلك الوباء العظيم الذي طاح بالعالم كله، ونعني به. . . البولشفية. على أن وصفنا هذه الحمى الخبيثة التي ظهرت في الدنيا حديثاً بكلمة (الوباء) لا يعد وصفاً كافياً لتصوير ما كان من هذه النهضة التي حلت جميع الروابط الأهلية، وفصمت عرى الروابط الاجتماعية وأحدثت في الروسيا من الشنائع ما لم يسجل التاريخ قبل اليوم ضريباً له، أو ما يمثاله، ولكنا نريد أن نجمل، وصف أثر التخريب الذي أحدثته البولشفية في روسيا، ولكي يزن القراء ما كان منها، يجمل بنا أن نلقي نظرة على ما كانت عليه الروسيا قبل نشوب الحرب الكبرى. قبل الثورة إن إمبراطورية القياصرة التي تبلغ مساحتها خمسة ملايين وأربعمائة وخمسة وثمانين ألف كيلومتر مربع، كانت تملك خير مصادر الثراء من زراعة وصناعة ومناجم، ولئن كانت السكك الحديدية فيها غير كافية، فلقد كانت تملك أهم وسائل الملاحة البحرية في أوروبا كلها وكانت الزراعة - وهي أهم الصناعات الأهلية فيها تخرج نحواً من أربعة وسبعين مليون طن من الحبوب المختلفة، وكانت صناعة السكر في خير حال، وكانت المصانع تبلغ نحواً من 39887 مصنعاً يشتغل فيها من الصناع عدد يربو على مليونين ونصف،

وتخرج من الثروة ما يزيد على أربعة مليارات وثمانمائة وأربعة وثمانين مليون روبلة. وكان مقدار ما تخرجه روسيا من الذهب يقدر بثمانية في المائة من مجموع ذهب الدنيا كلها، وجملة القول كان ينتظر الروسيا مستقبل باهر في التجارة والاقتصاد. بعد البولشفية فلما نهضت البولشفية، لم يكن منها أن ألقت بها في درك الوحشية الأولى، وهدمت آمالها الجميلة، وحطمت أمانيها الأهلية، بل هدمت كذلك تجارتها التي كانت لها قبل الحرب، وذهبت بزراعتها وصناعتها، وعطلت استخدام أي مصدر من مصادر الثروة فيها، لأن الثائرين البولشفيين لم يعبأو بشيء من ذلك، لأنهم إنما يريدون أن يرجعوا الإنسان إلى بساطته الأولى، ويعتقدون بصلاحية الثورات، ويدينون بفضلها، وحسبهم أن ينشئوا حكومة ثورية على أنقاض حكومة مدنية، حتى يتمكن أحط طبقات الناس في أوروبا وأشدهم تأخراً في بلاد الغرب من الصعود، واعتلاء دست الحكومة، والنهوض في رأسي المدنية وإملاء الشريعة الجديدة للعالم كله، إذ لا ننسى أن خمسة وتسعين في المائة من سكان الروسيا أميون يعيشون في ظلمات الجهل، وهم يركنون إلى روح الجماهير ورأيها ويظنون أن الجماهير معصومة عن الخطأ لا يرد لها رأي ولا تخطيء في شيء، وأن الجماهير هي أعرف الطبقات بمطالب الحياة الصحيحة. وبفضل سلطان لينين وتأثير تروتسكي لم تلبث الثروة الاقتصادية التي تعتمد على أمام الأفراد، وضمان الحقوق، واحترام العقود، أن اختفت فيه وتلاشت من الروسيا، وقد وحدت حكومة السوفييت الثروة كلها، إذ قسمتها على الطريقة الاشتراكية بين الجميع، من سائر الثروة والإنتاج والاستهلاك من مناجم ومصانع ومصارف مالية وسكك حديدية، ومصادر زراعية، إذ نزعتها من أيدي أصحابها الذين كانوا يملكون جميع وسائل الاستثمار، وكانت النتيجة أن اختفت جميع المواد المقرر عليها الضرائب ولم يكن من هذا إلا أن هدم جميع مصادر الحياة المالية، وتعطل العمل بسببه في كل مكان، واقتصرت أشغال الفلاحة على حاجات الأفراد والقرويين فساقت المجاعات إلى المدائن والمراكز الصناعية. الاضطرابات المالية الدليل الأكبر، والبرهان الأول، من الاضطراب الأهلي، والنكبة القومية، ظهرت بالطبع

في ميزانية الأمة، وليس شيء يخيف أشد مما تخيف الأرقام، وهي وسائل الإقناع القوي المتين الذي لا يمكن لمحاج أن يماري فيه. في خلال المدة من أكتوبر سنة 1917 أعني مبدأ تاريخ الثورة البلشفية، على نوفمبر سنة 1918 استولت الحكومة البولشفية على 513 مشروعاً من مشاريع النقل والتجارة ولذلك نقص مقدار الضريبة المقررة على الصناعة والتجارة إلى واحد وتسعين مليوناُ من الروبلات على حين كان في العام الذي سبقه قد بلغ 304 مليوناً، وقد تعطلت الإيرادات العمومية بتة واحدة إذ لم ييق ثمت ما تجمع الضريبة المقررة عليه، وقد قدرت حكومة البولشفيك للمصروفات التي يتوقع صرفها عام 1918 مبلع 46 ملياراً ونصف مليار روبل أعني نحو مائة مليار وخمسة مليارات فرنك ولما لم يجد البولشفيون إيراداً داخلياً ولا إيراداً خارجياً، فكروا في إصدار الأوراق المالية فجعلت تطبع في موسكو وبطرغراد ثم لم تلبث جميع مطابع السوفييت أن راحت تطبع هذه الملايين العديدة من تلكم الأوراق فتصور الإفلاس الذي سيجره إصدار جبال من الأوراق المالية. الاضطرابات الزراعية وقد وقفت رحى الأعمال الزراعية، وسكنت نأمتها، وارتفع من جانب المدائن هذا الصوت الضاج الصارح، لا تتركونا نموت من الجوع، إنكم إن لم ترسلوا لنا الطعام والميرة، كنتم تؤيدون النظام الأول الذي قامت الثورة لتهدمه. ولكن الفلاحين ظلوا صامتين لم يأبهوا بهذه الصرخات، وقنعوا بأن يخرجوا الشعير اللازم لحاجتهم والبرسيم المطلوب لحيوانهم. إذ علموا أنهم إن حفظوا شيئاً توقعاً لمحصول سيء في المستقبل، فقد يستدل عليه الحرس الأحمر فيضربونهم بالرصاص هم وعشائرهم كي يستلبوه منهم استلاباً، ففي بطرغراد مثلاً - وهي تلك المدينة التي كانت قبل الحرب مدينة الثراء والنعمة والخير العميم، وكانت مواد البيع فيها رخيصة بخسة لا إرهاق فيها لم يكن يصل في شهر إبرايل عام 1919 إلا مركبتان أو مركبة واحدة من القمح في كل يوم، إذا لم يقدر للمركبة أو المركبتين أن يهاجمها الحرس الأحمر في الطريق فيستلبوها أو يثب إليها سكان المدن التي على الطريق فيحتكروها لأنفسهم ثم في سيبريا وهي الإقليم الذي كان يمد روسيا كلها بالماشية والأغنام، لم تعد ترسل لا بقرة ولا ثوراً، ولا خنزيراً ولا شاة

ولاخروفاً، وجعل القوم يأكلون لحوم الخيول، وبيعت الأربعمائة جرام أو أقل من نصف الكيلو بثلاثين روبلة أعني نحو من 72 فرنكاً، وكان من رابع المستحيلات أن يجد الإنسان بيضة واحدة في الروسيا كلها، وكانت البيضة الواحدة في شهر فبراير الماضي تباع بنحو 150 روبلة أي 360 فرنكاً وكذلك لم تعد فنلندا ترسل ألباناً حتى أن بطرغراد التي كانت تتلقى كل يوم 540 ألف رطل من اللبن لم تعد تتلقى أكثر من 4800 رطل فقط. أما الرز والبن والخضر والأقمشة والأحذية فقد اختفى أثرها من روسيا كلية. وقد استيأس القوم، وضاق ذرعهم بالعذاب، ولكن عمركم الله ماذا يصنعون، وماذا يحدثون، والسجون مختنقة بالمحبوسين، والذين يضربون بالرصاص في كل يوم خلائق كثيرون، وكل ثورة تقوم اللاحتجاج على هذه الفوضى لا تلبث أن تغرق في لجة عظيمة من الدماء. تعطل الصناعة وعسيتم تسألون وما حال الصناع في تلك الأرض وهل هم أسعد حالاً وأخف ويلاً من قرنائهم - وجواب ذلك بالنفي - فليس في روسيا من السعداء إلا اللصوص والهاربون والعاطلون والمشردون والمتبطلون الذين لكي ينعموا بالعيشة الراضية سالكون بأنفسهم في سلك الجيش الأحمر، وبذلك أصبح لهم الحق في كل شيء وأول تلك الحقوق النهب والسلب، وكذلك تعطلت المصانع وهجر الصناع صنائعهم وأقفلت معامل الصناعة أبوابها من غلاء المواد وارتفاع الأجور حتى أن قاطرة السكة الحديد التي كانت تصنع في مصنع بونيلوف وهو أكبر مصنع في الروسيا كانت تباع بنحو سبعين ألف روبلة فأصبحت الآن تكلف خمسة ملايين! وقد كان عدد العمال في ذلك المصنع ي أول يناير عام 1917، 52 ألف صانع فبلغ العدد في أول يناير سنة 1918 نحواً من 4798 ليس أكثر، وعلى ذلك قس جميع المصانع الأخرى وقد احتشد جميع العاطلين فآثروا أن يسلكوا في جند الحرس الأحمر إذ رأوا أن طعامهم في تلك الفرقة ميسور مكفول ووجدوا المرتب طيباً يبلغ في الشهر ثلاثة آلاف روبلة ثم فوق كل هذا الحق في النهب وسلب الطبقات الوسطى وتجريدها من جميع ممتلكاتها بل من أثوابها ورياش منازلها ومغانيها أما الذين لم يظفروا بمكان لهم في الجندية فانكفأوا إلى قراهم ومواطنهم الأولى آملين أن يجدوا ما يسد أرماقهم. غلاء المعيشة

وقد غلت حاج الحياة إلى حد شنيع لم يقع في بلد من بلاد الله إذ بلغ رطل اللحم وكان يباع في الماضي بعشرين إلى ثلاثين كوبيك - بخمسة عشر روبلة أي بنسبة فرنك إلى 35 فرنكاً، وثمن رطل الخبز عشر روبلات، بعد أن كان يباع بعشرة كوبيكات، أي بنسبة مائة ضعف، ولما لم يستطع البولشفيون أن يجدوا دواء لعلاج هذا الويل الوبيل فكروا في تجنيد أهل الطبقات الوسطى وإكراهم على العمل في المنافع العمومية وفي الحقول والمصانع لكي يعينوا الفقراء على الحياة ولكن الفقراء لا يزالون أشقى حظاً من سواهم. الهول عام فإذا كان الصناع في شقاء تحت نظام هدم جميع أساس المجتمع، محا جميع أصول العائلة والملكية واحترام الحقوق وحرية العمل فما نصيب البقات الأخرى من الشقاء، ونحن نقول أن كل شخص ليس من عامة الشعب يسام العذاب ألواناً وقد أصبح جمع من الأشرار قلائل في يدهم عسف الشعب والطغيان فيه وتعذيبه وهدم سعادته، وقد اتخذ البولشفيون في الطغيان وسائل كثيرة لم يفكر في مثلها نيرون الطاغية العظيم، فإن الطبقات الوسطى (البورجوا) لا نصيب لها في الحياة إلا التقتيل وسلب أموالها والسجن والذبح لأوهى الأسباب، حتى لا يستطيع رجل منهم في المدائن الكبيرة أن يخرج مساء من داره وقد حوصرت منازلهم، ووقف الموت بأبوابهم، ولا تستطيع أن تحصي عدد السفاكين الذباحين، جنوداً وبحارة أو لصوصاً لابسين لبوسي الجنود والبحارة ومسلحين ببنادق أو المسدسات. ولا يفترون عن القتل في المنازل والسجون والمستشفيات وفي الجيش وفي الريف وفي كل مكان لأسباب أوهى من نسيج العنكبوت. وقد ماتت الحرية الشخصية وجن جنون البولشفية، فبعد أن جعلوا الناس شركاء في الاجتماع أبوا تحت تأثير تلك الجنة المرعبة إلا أن يجعلوا النساء حقاً اشتراكياً مباحاً للجميع. وهذه الجريمة هي كبرى الجرائم التي ارتكبها أهل البولشفية. ولكي تعلم النزعة البلشفية في الآداب والأخلاق فعليك صحف القوم وأوراقهم ورسالاتهم تر الدليل القاطع فإن الصحيفة التي ينشرها البولشفيون تحت عنوان الفقر كتبت في عددها الصادر في 27 ديسمبر عام 1918 ما يأتي: في مدينة نيفل تقرر تجنيد الطبقات الوسطى (البرجوا) في المدن والقرى، وعلى أهل هذه الطبقة أن يشتغلوا بلا أجر وقد قررت اللجنة

المركزية لحكومة السوفييت في موسكو أن تسن في جميع المراكز والأقاليم ضرورة الشغل الجبري على كل رجل من الطبقة الوسطى يتراوح سنه ما بين الثامنة عشر والخمسين. ثم كتبت صحيفة (لسان حال الفلاحين) في عددها المؤرخ في أول أكتوبر الماضي: لقد جندت حكومة السوفييت في إقليم أوديوف جميع أهل الطبقة الوسطى والقساوسة والطفيليات الأخرى لاستخدامهم في الأشغال العمومية من ترميم المراحيض العمومية والأرصفة وتطهير الترع والجسور. ولو أردنا أن نحصي أمثال هذه النشرات والأوامر والقرارات لما كان في المكنة إحصاؤها وإنما ننشر هنا كذلك أمراً صادراً من رئيس حكومة السوفييت إلى رجل منهم يدعى جريجوار سافليف هذا نصه: (قد أذنا بموجب هذا إلى الزميل سافليف أن يأخذ من إقليم بريانسك ستين امرأة وعذراء من الطبقة الوسطى ويضعهن في الثكنة لخدمة الجند). وقد قررت اللجنة التنفيذية أن تخرج أهال (البورجوا) من مساكنهم وتسكن الشعب والفقراء فيها وتخص صاحب الدار بركن من المنزل وتأذن لأفراد من الشعب بالتنعم بسكنى طباق المنزل كلها، وقد نشرت صحيفة (بولشفية في 21 سبتمبر عام 1918 قرار حكومة السوفييت في ذلك فقالت: لأجل ملافاة أزمة المساكن قد قرر مجلس سوفييت مدينة موسكو أن تفحص جميع المنازل، وتسكن الطبقة الوسطى في بيوت العمال والصناع وتسكن العمال في قصور البورجوا الشاهقة. أنهار من الدماء وحدث عن المذابح البولشفية ولا حرج فإن أقل كلمة طائشة أو أقل تهمة واهية كافية لأن تجر إلى السجن أو الإعدام بالرصاص وليست التهم فقط هي الكفيلة بتلقتيل بل حسب الإنسان أن يكون قاطناً في قرية من القرى فيغير عليها الحرس الأحمر فينشب القتال بين هؤلاء والطبقة الوسطىـ، فيقبض عليك لبلا ذنب ولا جريرة، فترمى بالرصاص مع المقتولين، والفلاحون الذين يرفضون أن يقدموا غلاتهم لا نصيب لهم إلا القتل رمياً بالرصاص ومجلس السوفييت تبررد المذابح بدعوى أنها تريد وضع يدها على القمح والغلات وتنتزعها من أيدي الذين يخزنونها أو يستأثرون بها، والحق الأول في روسيا اليوم هو أن لا حق لإنسان في أن يأكل إذا لم يكن بلشفياً. وهب البولشفيين يستأثرون بكل

شيء من ميرة وكساء فلا يصيب الإنسان إلا قدر طبقته من المجتمع الروسي وهناك أربع طبقات: طبقة الحرس الأحمر والعمال. وهؤلاء لهم الحق في رطل من الخبز كل يوم وخمس سمكات، ثم طبقة المستخدمين الأصاغر والخدم وهم يستحقون ربع رطل من الخبز وخمس سمكات في اليوم وطبقة الموظفين السابقين والقدماء وهؤلاء يصرف لهم ثُمن رطل من الخبز وثلاث سمكات وأخيراً طبقة البورجوا والمفكرين وأصحاب المواهب العقلية وهؤلاء لا حق لهم في شيء مطلقاً ولا سبيل لهم إلى الحصول على ما يقتاتون به إلا بشق النفس وبالثمن الباهظ الذي يرهق أشد الإرهاق ولا يتيسر إلا للأغنياء المكثرين من الثراء وأما الخبز فلا يعثرون عليه ولا يقدم إليهم إلا فيما ندر. هذه هي الحالة التي ظلت عامين في روسيا وهي باقية. وكادت ترسل عدواها الشنيعة فتعم العالم بأسره. . وقانا الله شرها.

الإسبراتيواليزم

الإسبراتيواليزم أو مناجاة الأرواح (2) تاريخها في الغرب ومن بين الذين اشتهروا في هذا العلم خلاف هوم - الذي قضى نحبه عام 1886 وكان له شأن عظيم في نمائه وتقدمه نذكر القس ستانتون موسي في بلاد الطليان فإن تاريخ حياته أكثر إدهاشاً وتحييراً للعقول من حياة هوم هذا، وقد كان مولد هذا الرجل عام 1839 وكان أبوه ناظر مدرسة نحو وآجرومية في لينكولنشير فنشأ على ما نشأ عليه أبوه، وكان له في جامعة أكسفورد شأن يذكر. ثم دخل الكنيسة فصار قسيساً في غربي إنجلترا وقد أصابته علة في حنجرته فاضطر إلى ترك أعمال القسيس، واشتغل مؤدباً خصوصياً لابن الطبيب ستانهوب سيبر من أشهر أطباء ذلك العهد ففي عام 1872 قرأ كتاباً ظهر في أمريكا عن الإسبراتيواليزم فتأثر فيه تأثراً شديداً حتى أنه جلس إلى وساطات متعددة ومن بينها هوم الذي سبق ذكره وشاهد تجاريب عديدة. ومن هنا بدأت موهبته في هذا العلم تظهر، وأصبح كذلك وسيطاً للأرواح وكانت له اليد الطولى بعد ذلك في تأسيس الجمعية البريطانية الأهلية لعلماء الإسبراتيواليزم. ثم كان عضواً هاماً في جمعية الأبحاث النفسانية حتى استقال منها عام 1886 لأنه لم يرض عن تلك الحيطات التي جعلت الجمعية تتخذها والاضطهادات التي كانت تظهر حيال كثيرين من الوسائط ثم أصبح منذ ذلك العهد رئيس الجمعية الإسبراتيولية في لندن إلى عهد وفاته سنة 1892، وكان عدة سنوات محرراً لمجلة (الضياء النفسانية). وأعجب ما كان من خلق هذا الرجل أنه كان على مثال هوم لا يتخذ هذا العلم حرفة يكتسب منها بل كان أرقى نفساً من هوم لأنه لم يكن يتقبل عطاء أو أجراً على ما يفعل أو تحفة أو هدية كهوم على عمله، ولم يكن يطلب الشهرة والإعلان عن نفسه وحشد الناس حوله، بل كان يأوي إلى كهف صديقه الدكتور سبير وزوجته وعاش عيشة ساكنة شريفة، محترماً من جميع الذين عرفوه، ولم تدرك عليه ريبة، أو يلحظ القوم عليه ميناً أو خداعاً،

بل لم يتهم بأقل تهمة من هذا القبيل أو يقرف بأية ظنة أو شك في سيرته وعمله. وبعد وفاة هذا الرجلن راس تحرير مجلة الضياء داوسون روجرس، الذي قضى عام 1910 ويقوم الآن على رئاسة تحريرها مستر والس وإليه يعود فضل احتفاظ تلك المجلة بمبدئها الأول، ورقيها وانتعاشها الحاضر، ويعذر علينا أن نحصي عدد العلماء والكتاب الذين يحفلون بالأبحاث الإسبرايتيوالية، ولكنا نقول أنهم لم يؤلفوا بعد جمهوراً عظيماً، على أنه لا تزال هناك جمعيات منتشرة في بلاد كثيرة تقيم يوم الأحد قداساً لها وتنتدي في ذلك اليوم الديني المسيحي فتلقي الأناشيد والخطب، وجلسات عدة لمناجاة الأرواح، حيث يصف الوسيط أرواح الموتى وأشكالهم لأقاربهم أو أصدقائهم الحاضرين في المجلس، وقد يبلغ الوصف في بعض احيان إلى حد الحقيقة والبينة والإثبات المقنع ولا سيما إذا ذكر الوسيط اسم الميت لذوي قرباه. على أننا نقول مع ذلك أن الاجتماعات التي تقيمها تلك الجمعيات لا تجذب فريقاً من الراقين المهذبين حتى لا تجد الجلسات الإسبرايتولية في الأقاليم لا يحضرها إلا الغوغاء والعامة ولكنها ولا ريب توافق حاجات طائفة من الناس، لا تقل مستوى عقولها عن الطبقات التي تدخل الكنائس ودور الصلوات. على أن هذه الحركة الإسبرايتوالية لا تزال قوية في فرنسا ولكنها تختلف عن الحركة في إنجلترا بميزة وحيدة وهي أن الإسبرايتواليزم في فرنسا ينزع إلى مبدأ تقمص الأرواح، وهذا يرجع إلى كتابة كاتب قديم يدعى آلان كورديك كان يؤمن بصحة تقمص الأرواح، ويلوح لنا أنه حاول إقناع الأرواح بالاعتراف بذلك، ومن ذلك ترى الوسطاء في فرنسا يعلمون الناس وينشرون مبدأ تقمص الأرواح على حين لا يفعل ذلك علماء الإنكليز بل ينكرون هذه الفكرة بتاتاً. وهذا اختلاف يكاد يكون مضحكاً لأنه ضد الفكرتين. أما في ألمانيا فلم تنتشر الإسبراتيواليزم انتشارها في إنكلترا وفرنسا، وإن كان العالم زولتر والعالم ويبر قد أثرا أثراً شديداً في أذهان الجماهير في زمنهما. ولكن يلوح لنا أن التصوف في ألمانيا قد بز الإسبراتيواليزم واستبقه وعلا عليه وقد أصبح الدكتور رودلف استرنر الخطيب الأكبر والقسيس الأعظم لهذه الطريقة الصوفية في برلين. وقد كان في إيطاليا أبحاث كثيرة في هذا الشأن ولا سيما إذا نبغت تلك المرأة العجيبة التي اشتهرت بأنها من أكبر الوسائط الروحية، وهي من أهل نابولي وتدعى يوزابيا بلادينو،

وقد استطاعت أن تقنع عدة أبطال من علماء هذا المبدأ والعلماء الآخرين، أمثال العالم الطلياني لومبروزو وثقم مروسيلي وريشت، وكذلك السير أوليفر لودج بصحة جلساتها، ومخاطبتها الأرواح، ويوجد في ميلان اليوم مجلة شهرية للإسبراتيواليزم تسمى (ليس أومبر). أما عن البلدان الأخرى، فنقول أنه توجد جمعية للإسبراتيوليزم في بلاد الأرجنتين في أمريكا الجنوبية، وأخرى في إسبانيا ومركزها لشبونة ثم لا تزال هناك جمعيات منتشرة في هولاندة، والدانمارك وروسيا ولكن هذه الحركة لم تذع ولم تشتهر إلا في البلاد الإنكليزية وفي أرض فرنسا ولا سيما المستعمرات البريطانية وبالأخص في مدينة ملبورن في أوستراليا إذ تصدر هناك مسز أني برايت المجلة المسماة (رسول النور). وخلاصة هذه الحركة أن الإسبراتيواليزم في شكله الحاضر يعلم الناس أولاً أن المخلوقات الإنسانية تعيش بعد الموت وأن الحياة التي بعد العاجلة تشبه هذه في المشاغل والمصالح، وأن مآلنا تلك يتوقف على عملنا في هذه، وهذا رأي من الوجهة الفلسفية راجح، ومن الوجهة الأخلاقية باعث على الأمل والرجاء والعزاء فإننا إذا كنا لنا أن نفكر أو نتخيل الحياة الأخرى فلا بد من أن نتخيلها على شكل الحياة الوحيدة التي عشناها أي الحياة العاجلة. وقد يكون ذلك خطأ وخيالاً فاسداً ولكن ذلكم كل ما في مكنتنا، ولا يسعنا أكثر من ذلك، وأما من الناحية الأدبية، فليس أصلح للنفوس وأبعث للآمال، وادعى للعزاء من الاعتقاد بأننا على قد رما نزرع نحصد، ونفعل نجزى، والإسبراتيواليزم كذلك يراد منه كما يراد من اليتوبيا الاعتقاد بأن الموتى مرفرفون حولنا، حافون بنا، وإن كانت عيوننا الحسيرة الآدمية لا تستطيع أن تشق الحجب فترآها عياناً، لأنه (كما يقول كتاب النزعة الإسبراتيولية) يعد من القسوة ولا ريب، لو أنهم طرحوا جانباً الرغبة في زيارة أصدقائهم ورؤية أصحابهم وشهود ذوي قرابتهم، الذين كان يربطهم بهم في هذه الحياة الحب المتبادل، والصداقة المشتركة، والألفة العظيمة، بل كان خليقاً بهذه الصداقة وتلك اللفة أن تزداد في الأخيار وتشتد، لا أن تضعف وتهن، ومن هنا تدرك أن علماء الإسبراتيوالزم يعتقدون أن الموتى حاضرون حياتنا كشهود ومتفرجين لأعمالنا وفعالنا.

هذا وسننشر أبحاثاً أخرى عن تاريخ جمعية الأبحاث النفسانية وما يتعلق بالإسبراتيواليزم من جميع الوجوه في الأعداد القادمة.

باب تدبير المنزل

باب تدبير المنزل تربية الطفل (2) الغرض من التربية يجب على الآباء أن يضعوا نصب أعينهم الغرض الذي يريدون أن يحققوه من تربية أبنائهم وأن يبدأوا أمر تلك التربية منذ ساعة الميلاد، على أننا نجد الآباء في كثير من الأحيان لا يعملون لغاية معينة، ولا يربون الطفل لمقصد وضعوه مبدأ لهم، ولهذا يخرج الطفل إلى نور الدنيا فلا يكون ثمت مبدأ من مبادئ التربية يرفرف فوق مهاده، وترى الآباء ينظرون إلى القادم الجديد عجباً وحيرة، ولا يعتمدون في تربيته إلا على ما يلهمون به إلهاماً من الظروف والزمن والعادات، ويجعلون كل أولئك المرشد الأول في تربية هذا الفرد الطارئ على المجتمع. ولهذا العجب الذي يأخذ الأب والأم إذ يخرج لهم طفل ثلاث ظواهر وحالات. فأولاً: ترى الأب والأم ينظران إلى الطفل كأنه لعبة تبعث اللهو وطرفة تمدهما بالمرح والابتهاج، وكما أننا نرمي قطعة السكر إلى الدب كي نبتهج برؤيته وهو يلهو بها ويظهر عجائب خلقه، لا نفتأ نفسد الطفل حتى يظهر غرائب طبائعه، على أنه لا خير ثمت ولا أذى من العبث بالطفل في غير فحش أو بذاء، أو مفسدة، إذا نحن لم نكن بالطفل مستخفين، أو كنا عمي البصائر عن أثر هذا العبث بالوليد، ولكن ليس من اللهو ولا من الأدب ولا من الطهر والواجب في شيء إذا جعلنا الطفل فريسة لهذا الضرب من اللهو، ورضينا له العذاب والآلام في سبيل فرحنا وضحكاتنا. وثانياً: ترى الأبوين ينظران إلى الطفل وكأنه موضوع الرحمة، وشيء خليق بالرثاء، ومخلوق يستحق الشفقة، لأن عجزه عن الحركة، وافتقاره إلى الحول والقوى، يثيران في قلوبنا الرحمة، وكثيراً ما تؤدي هذه العاطفة إلى ترك الطفل يفعل ما يشاء والسعي في التجاوز على كل ما يسيئه وإن كان فيه النفع له، ومهما كان للشفقة من الخير إذا قامت على أساس متين، وكان لها باعث راجح سديد، ومهما كنا نحترم هذه العاطفة والذي بعث عليها، فلا ريب في أن الطفل سيتألم، إذا لم يجد رقيباً عتيداً يرده، أو سلطاناًُ من ابويه ينهره، أو ضابطاً ينظم حركاته وسكناته، أما النتائج التي تنجم عن هذا التساهل والإشفاق

العقيم للأخلاق، فحدث عن خطورتها ولا حرج. وأخيراً: ينبغي للآباء أن يحذروا منم عادة نهر الأطفال ومعاقبتهم وزجرهم وتأديبهم، كلما صرخوا، أو كانوا في قلق واضطراب، بل عليهم أن يبحثوا عن السبب ويتقصوا الباعث. ولهذا يجب أن يكون غرض الآباء في التربية وخطتهم في التأديب هي: (أ) أن تكون شفقتهم سديدة راجحة غير حمقاء ولا طائشة. (ب) أن لا ينظروا يوماً على أطفالهم بشدة أو غلظة وأن لا يخرجوا عن طورهم أمامهم، وهدوءهم ووداعة أخلاقهم. (ج) أن يسترشدوا في التربية بمبدأ عال اجتماعي مدني. (د) أن يسعوا إلى تحقيق هذا المبدأ بالثبات والعاطفة الكريمة والوداعة والتهلل والفرح والتهذيب والذكاء ونفاذ البصيرة. (3) واجبات الآباء والمراضع والمربيات منذ عدة قرون كانت العادة في بلاد الغرب أن يستخدم الصناع اليدويون في المدارس كمعلمين ومؤدبين، ولكن اليوم وقد تقدمت الحضارة، نرى الجامعات في مدينة بال تصر على أن لا يتعاطى حرفة التدريس إلا كل رجل أمضى إجازته الجامعية مدة معينة، أما من وجهة التربية المنزلية فلا زلنا في شيء كثير منها حيث تركتنا القرون الوسطى، فإن أية فتاة تقبل الآن وتكفي لرعاية أطفالك، ولا بأس عليك من قبول أية امرأة للاهتمام بشؤون أصبيتك، ثم نحن لا نزال نجد السواد الأعظم من الأمهات جاهلات لم يؤتين نصيباً من التعليم الثانوي، ولم يصبن قسطاً من علم التربية بل ما فتئنا نسمع اليوم القوم يقولون أن التعليم العالي للنساء يجعلهن غير صالحات للقيام بوظائف الأمومة، وأن واجب المرأة أن لا تسهم في شؤون السياسة وأن لا تكسب رزقها بنفسها، بل فريضتها أن تجمل المنزل، وتترك من حسنها في المنزل حسناً وتخلع من جمالها على دارها، وترعى لأطفالها، وتقوم على تربية أبنائها، ولكن يجب أن لا ننسى أننا نريد من الأم أن تربي أولئك الأطفال الذين سيقفون يوماً ممثلين على مسرح العالم وأن نظرية الغريزة وترك الأم في عملها تسير على وحي الطبيعة، لا يراد منها إلا أن يجر الطفل في الحياة جراً، لا أن يربى ويهدى إلى الرشد، ونحن لا ننكر أن المعوان الأكبر للأم في التربية هو حبها الغريزي لطفلها، ولكن

هذا الحب ولا ريب يروح أقوى وأشد سلطاناً، وأفعل أثراًَ إذا اجتمع معه التهذيب ونور العلم والتجربة. ولهذا ينبغي أربعة أمور: (أ) أن يكون الأبوان على علم وتربية كافيين. (ب) أن يعملا على أخذ نصيب من علم التربية المنزلية. (ج) أن يكون الأبوان (الأم والأب معاً) على شيء من التجربة العملية. (د) أن تربى المراضع والمربيات التربية الواجبة. (4) اتفاق الآباء على نوع واحد من التربية لو كان معلمو المدارس متعلمين أكمل تعليم فلا خطر إذا خرج من المدرسة مدرس وحل محله معلم آخر، على أننا إذا زرنا فرقاً متعددة من مدرسة يعلم فيها معلمون أكفاء، فإن أي فارق نراه في الأطفال لا يكون باعثه إلا المدرسون أنفسهم، وكذلك لو كان الأبوان والمراضع والمربيات جميعاً على مقدار متساو من علم التربية المنزلية، ولكن للأسف ليس الحال كما نريد، فإنك ترى للأم والأب والمرضع آراء مخالفة جد المخالفة عن صاحبه في المثل الذي يضعه، والقدوة التي ينشأها لطفله، وليس الطفل المسكين إلا أن يذعن لقوانين ثلاثة من الخلق، ويتقبل ثلاثة مبادئ في التربية، ولهذا ينبغي للأبوين أن يكونا على علم تام بالخطر الذي ينجم عن هذا الاختلاف وأن يعملا على استخدام مبادئ واحدة وأن يطلبا إلى المرضع - إذا كانا قد استخدما للطفل مرضعاً - أن تنفذ تلك المبادئ وأن لا تحيد عنها إلى مبادئ لها خاصة وأرى أن يحسن بالأبوين أن يضعا معاً طريقة معينة في التربية أو أن يستعينا بمشد عام فيها، ولو اتبعت هذه النصيحة لتحسنت روابط الزواج بين الزوجين. (5) أثر الأطفال الكبار في الصغار قد يحتمل أن يكون لك ابن أو طفل واحد، فإذا كان ذلك فقد نجوت على الأقل من خطر واحد شديد، وإن كان الطفل ولا ريب سيخسر كثيراً، من جراء افتقاره إلى رفاق معه وأخوان. ولكن قد يحتمل كذلك أن يكون لديك أطفال كثر فإذا كان الأمر كذلك، فإنك ولا ريب ستعاني أمراًَ لا مرد عنه وهو أن كل طفل سيقلد أخاه، وهذا التقليد يبين في أول

عهود الطفل الأصغر، إذ تراه صارفاً كل وقته إذا كان له أخ أكبر منه بعام أو أكثر من محاولة تقليد كل عمل يعمله وفي الإعجاب بكل ما يفعله أخوه الأكبر واحتذاء حذوه في جميع حركاته وسكناته وكذلك تجد الطفل الأصغر لا ينبعث إلى عمل إلا على هدي أخيه ولا يخف إلى فعل إلا مقلداً شقيقه الأكبر، وكذلك يبقى حتى الربيع الخامس من العمر، إذ تتسع ملكته فتقل رغبة التقليد لديه، ويفكر بعض التفكير في العمل على هواه وسنته. وأنت تعلم أن القدوة والمثل والأسوة معدية بين الأطفال فإذا أنت أحسنت تأديب أطفالك الكبار خف عنك بعض أعباء تربيتك الصغار إذ تجعل الكبار هم الذين يربون في الحقيقة أخوتهم الصغار ويكونون لهم قدوة تحتذى ومثالاً يترسم ولهذا ينبغي عليك أن تضاعف مجهودك ودأبك في العناية بتأديب صغارك لأن سلوكهم سيحدث تأثيراً بينا في أولادك الذين سيخرجون للحياة بعدهم، وذريتك المستقبلين، وعليك أن تربي أطفالك الكبار ليكونوا قادة للصغار وهداة، وليشعروهم بالمسؤولية اللزام عليهم وبقوتهم على الخير والإحسان فلو نجحت في ذلك استفدت أنت وأطفالك الصغار وأمددت الكبار بباعث يحثهم على النماء الخلقي والذهني، فلا تنس مطلقاً هذا المبدأ وهو أ، يكون بنوك الكبار معلمين ومرشدين وهداة للصغار. فإذا خابت مساعيك في هذه، فإنك حاصد من خيبتك أذى وضراً إذ لا تلبث أن تجد بنيك الكبار معلمين وهداة وقادة للشر والنقيصة والإثم ولهذا كان خليقاً بك أن تمسك بالزمة من ذوائب شعره ولا تضيع وقتاً في الدأت على تربية طفلك البكر الأول. وما أعجب ما تؤدي إليه عاطفة التقليد، فإذا وضعت الطفلة إصبعها في فمها أو هزت كتفها وقطعت شعرها بأناملها وأصرت على أن يكون ما تريد، وأن تفعل ما تحب وأن لا تعبأ بما يقال لها، وكانت هي أكبر أخوتها وأخواتها، فلا تلبث أن تجد هؤلاء يفعلون جميع ما فعلت ويقطعون شعرهم بأناملهم، ويبكون مثلها ويصرخون ولا يكون من ذلك إلا أن يصبح المنزل حديقة من حدائق القردة أو الدببة وبدلاً من أن تصلح خلق طفل واحد من أطفالك، ترى أنه ينبغي عليك أن تعالج سلسلة متماثلة من النقائض في جميع أطفالك. ولهذا عليك أن تكون أبداًُ على مرصد مفتح العين مرتقباً، تعالج كل نقيصة بمجرد ظهورها، وتمنع سريان نقيصة من طفل إلى جميع بنيك.

إرشادات طبية

إرشادات طبية لحضرة النطاسي المفضال الدكتور محمد عبد الحي الشيب ليس في الدنيا من لا يكره الشيب، وعبثاً يحاول المرء تسلية نفسه بأساليب الاحتيالعلى عواطفه، وليس بدعاً أن يكون ذلك أمر الناس والشاعر يقول: والشيب إحدى الموتتين تقدمت ... إحداهما وتأخرت الأخرى وكأن من حلت به صغراهما ... يوماً فقد حلت به كبراهما وقوله: عريت من الشباب وكنت غضا ... كما يعرى من الورق القضيب ونحت على الشباب بدمع عيني ... فما نفع البكاء ولا النحيب فياليت الشباب يعود يوماً ... فأخبره بما فعل المشيب فالشيب مثار أفكار الناس ولا سيما الذين درجوا منهم على الدلال والترف وغشيان مناعم النفس من طرب يلذ، وأي حسرة للشيب أن تتحطم كؤوس الهناء حينما يمنعه عنها الحياء والحرير آجره الله يقول: نهاني الشيب عما فيه أفراحي ... فكيف أجمع بين الراح والراح وهل يجوز اصطباحي من معتقة ... وقد أنار مشيب الرأس إصباحي محا الشيب مراحي حين خط على ... رأسي فأبغض به من كاتب ماحي ولو لهوت وفودي شائب لخبا ... من المصابيح من غسان مصباحي قوم سجاياهم توقير ضيفهم ... والشيب ضيف له التوقير ياصاح هذا هو الصنف الوقور الذي الناس منه ويجهرون ببغضه لا لشيء إلا لأنه نذير الكبر مؤدب النفس غير أن الناس والشعراء شديدو التشاؤم إذ ليس الشيب في العادة دليل التقدم في السن وبالتالي ليس نذير الموت ولإيضاح ذلك أتقدم شارحاً هذا الموضوع وعلاجه الممكن تطميناً لخواطر الشيب وتهدئة لثائرة نفوسهم وتبشيراً لهم بطول العمر. الشيب أو بياض الشعر ينشأ إما عن فقدان اللون أو امتلاء قصبة الشعرة بالهواء وفي الحالة الأولى يكون لون الشعرة مائلاً إلى الصفرة وفي الثانية يكون ضارباً على بياض

كالبرد. وينقسم الشيب إلى قسمين الخلقي والمكتسب فما نشاهد في الأجهر (عدو الشمس) وعند هذا تكون المادة الملونة معدومة من الجلد أيضاً بل ومن القزحية والشبكة (في العين) والأرنب الأجهر يكون شعره أبيض وعيناه قرنفليتين ويكون في العادة أم ولكن الشائع من النوع الخلقي هو ضغك (حزمة) من العشر الأبيض يظهر في الرأس ويشاهد في الجد والابن أو ابن الابن وقد يخطئ الابن إلى ابن الإبن. أما المكتسب فيشاهد منه الكثير كل يوم وليس بخاف على نفر من الناس لأأن الشيب قد يكون من فزع أو خوف أو هم مستطير وذلك طبعاً معروف طبياً ومعترف به وهو نتيجة تأثير عصبي خاص على الشعر ومن ذلك الشيب قبل الأوان ويشاهد في عائلات خاصة دون الأخرى. أما الشيب في الأوان فهو وحده الطبيعي وينجم عن اختفاء اللون الملون وامتلاء الشعرة بالهواء. أما الشيب الخلقي والشيبب في الأوان فلا سبيل إليهما إلا بالخضاب. فلو دام لي هذا الخضاب حمدته ... وكان بديلاً من خليل قد انصرم غير أن الخضاب يجب أن ينتقى حتى لا يجهز على البقية الباقية من سواد العشر وعلى كثير مما بقي من الصحة والعافية ويحسن أن يؤخذ رأي الطبيب في هذا من وقت لآخر. أما الشيب قبل الأوان فله علاج يفلح في أكثر الأحايين وينحصر ذلك في تمرير الكهرباء عد أسابيع مع بعض تعليمات طبية يراها الطبيب نافعة. الصوم نعاجل نحن معشر الأطباء الآن البول السكري بالصوم ونعالج ارتفاع الضغط الدموي بالصوم ونعالج الأملاح بالصوم وكثير من أمراض المعدة فهل في ذلك شيء من العظمة لمن لا يصومون؟.

جمعية المواساة الإسلامية بالسويس

جمعية المواساة الإسلامية بالسويس أهدى إلينا حضرة الأديب الفاضل علي أفندي عبد السلام سكرتير نادي الآداب بالسويس وجمعية المواساة الإسلامية بها تقرير أعمال هذه الجمعية في العام الماضي فتصفحناه وأثلج صدورنا ما علمناه من أن الجمعية تسير بخطى واسعة في سبيل النجاح والتقدم وأنها موضوع عناية أهل السويس الكرماء الأماجد الذين لا يألون جهداً في الرضوخ لها بأموالهم وصدقاتهم للفقراء وأهل الحاجة. وقد بلغت مصروفاتها في العام الماضي نحواً من ثلاثمائة وخمسين جنيهاً وإيراداته نيفاً خمسمائة وسبعين ولا يزال الأمل كبيراً في نجاحها بفضل إقبال أهل ذلك الثغر الكريم على التبرع والاكتتاب ونحن يجمل بنا أن نشكر لمحافظ السويس حضرة العزة خليل بك رياض الرئيس الفخري للجمعية، وصاحب العزة وكيله الشهم محمد بك غالب كفافي والسراة والأغنياء والتجار الذين خفوا إلى تعضيد تلك الجمعية، هذه المهمة النبيلة وفق الله تلك الجمعية في عملها المشكور.

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية وهنا كأن الأمير أراد أن يطوي بساط هذا الموضوع فانتقل فجأة إلى معنى آخر فقال: هل يحفظ أخونا المصري شيئاً مما مدح به المتنبي الشاعر كافوراً، وهل لا يزال هذا الشاعر مقيماً في مصر؟ فقلت: نعم يا مولاي الأمير، لقد فارقت مصر ولما يزل المتنبي في خدمة مولانا أبي المسك كافور ولقد امتدحه بأحسن المدح، وحق له أن يمتدحه، إذ اللُّها يا مولاي تفتح اللَّها كما يقولون، فما يعلق بالذاكرة مما أنشدنيه قوله فيه، بعد أن وصف الحيل التي سرت به إليه: قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحراستقل السواقيا فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا وقوله في قصيدة: وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملى عليَّ فأكتب إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه ... ويمم كافوراً فما يتغرب ومن جملة هذه القصيدة: يضاحك في ذا العيد كل حبيبه ... حذائي وأبكى من أحب وأندب أحن إلى أهلى وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب فقال الأمير: بيد أن لهذا الشاعر في سيف الدولة بن حمدان ما هو أبرع مما مدح به كافوراً، ويعجبني من قصيدة له في هذه الأبيات الحكيمة: إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا من أطاق التماس شيء غلاباً ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا كل غادٍ لحاجةٍ يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا وهذه الأبيات

إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم يرى الجبناء أن العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم ثم قال الأمير: وهل لا يرى أخونا المصري لأبي القاسم ابن هانئ الأندلسي شاعر أمير المؤمنين المعز لدين الله ما يستأهل به أن يلز مع المتنبي في فرن؟ فقلت: إني أخشى يا مولاي أن أصرح برأيي فقال: قل وأنت آمن. فقالت: إني لا أشبهه يا مولاي إلا برحى تطحن قرونا. وني كلما أنشدت شعره فكأني أسمع جعجعة ولا أرى طحناً، فأربد وجه الأمير غضباً ثم تحالم وقال: وهل يقال مثل هذا فيمن يقول: يا بنت ذي السيف الطويل نجاد ... أكذا يجور الحكم في ناديك عيناك أم مغناك موعدنا وفي ... وادي الكرى ألقاك أم واديك منعوك من سنة الكرى وسروا فلو ... عثروا بطيف طارق ظنوك حسبوا التكحل في جفونك حلية ... تالله ما بأكفهم كحلوك وجلوك لي إذ نحن غصنا بانة ... حتى إذا احتفل الهوى حجبوك ويقول في أبيات في وصف الخيل: تكاد تحس اختلاج الظنو ... ن بين الضلوع وبين الحشى ومن رفقها أنها لا تحس ... ومن عدوها أنها لا ترى وتحسب أطراف آذانها ... يراعاً بريد لها بالمدى جرين إلى السبق في حلبة ... إذا ما جرى البرق فيها كبا ديار الأعزة لكنها ... مكرمة عن مشيد البنا وهل لمولانا المعز الذي يقول مثل هذا الشعر أطلع الحسن من جبينك شمساً ... فوق ورد في وجنتيك أطلا وكأن الجمال خاف على الور ... د جفافاً فمدّ بالشَعر ظلا أن يقرب ابن هانئ إليه ويؤثره على غيره ويعتز به ويفاخر لولا أن رآه من الشعر بحيث لا يكاد يتخلف عن المتنبي؟ بلى وإذا كان في المشرق المتنبي ففي المغرب ابن هانئ. وإذا كان فيه عبد الله بن المعتز فعندنا ابن مولانا المعز - الأمير أبو علي تميم الذي يقول:

وكما يمل الدهر من إعطائه ... فكذا ملالته من الحرمان ويقول: وما أم خشف ظل يوماً وليلة ... ببلقعة بيضائ ظمآن صاديا تهيم فلا تدري إلى أين تنتهي ... مولهة حيرى تجوب الفيافيا أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغلتها من بارد الماء شافيا فلما دنت من خشفها انعطفت له ... فألفته ملهوف الحوائج طاويا بأوجع مني يوم شدت حمولهم ... ونادى منادي الحي أن لا تلاقيا ويقول: أما والذي لا يملك الأمر غيره ... ومن هو بالسر المكتم أعلم ... لأعلانها عندي أشد وآلم وبي كل ما يبكي العيون أقله ... وإن كنت منه دائماً أبتسم وبعد ذلك رأيت من الحزامة أن لا أطيل سبب المحاجة، فخرجت بالصمت عن لا ونهم، ثم أمر لي الأمير بعطاء سني، ثم أذن لي في الانصراف من حضرته. جزائر ميورقة ومنوورقة ويابسة وقبل أن أختتم هذه الرسالة آتي لك على شيء مما اعترضنا في طريقنا بعد أن انفصلنا من بلرم قاصدين المرية، فمن ذلك أنا ونحن إزاء جزيرة كبيرة تسمى سردانية أبصرنا أسطولاً كبيراً قادماً من ناحيتها، وقد علمنا أن هذا الأسطول هو أسطول المعز لدين الله، غزا هذه الجزيرة، وبلاد جنوة من بر الأرض الكبيرة، وغنم وسبى شيئاً كثيراً يخطئه العد والإحصاء وما خام في سائر غزواته عن اللقاء، على ما في ذلك من الغرر، إذ أن وراء هذه البلاد من أمم إفرنجة عديد الذر، غير أن المعز يفعل ذلك الفينة بعد الفينة، لأنه يعلم أن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبه عنه ألبسه الله الذل وسيما الخسف وديت بالصغار، وأن أمة من الأمم تريد أن تكون عزيزة مهيبة لا بد أن تغزو غيرها قبل أن يغزوها الأغيار، ورضي الله عن علي بن أبي طالب إذ يقول في إحدى خطبه: ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا. وهذه سردانية جزيرة كبيرة في غرب هذا البحر الرومي غزاها المسلمون حوال 92

هجرية الموافقة سنة 710 ميلادية في عسكر موسى ابن نصير وملكوها حيناً من الدهر ثم تركوا حبلها على غاربها ثم هم الآن يغزونها من وقت لآخر ويغنمون ويسبون لما علمت. وقد مررنا فيما مررنا به من جزر هذا البحر بجزائر ثلاث متجاورات تسمى ميورقة ومنورقة ويابسة، وهي جزائر عامرة مأهولة بالمسلمين يرجع أمرها إلى صاحب الأندلس. وعليها وال من قبله. ومن هنا تعلم أن المسلمين قد ملكوا ناصية هذا البحر الرومي بما فيه من الجزائر الكبيرة والصغيرة علاوة على جزائر بحر الظلمات المحيط الأطلسي كما أسلفنا لك فسبحان المعز لمن يشاء، وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. تمت هذه الرسالة - وقد كتبت على متن البحر وبيننا وبين المرية مسيرة يوم أو بعض يوم وذلك في شهر جونية الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة الموافقة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة هجرية. أرجأنا الرسالة الثانية إلى العدد القادم.

أي أصناف الجمال الرجالي أحب إلى النساء

موضوع غريب أي أصناف الجمال الرجالي أحب إلى النساء بحث سيكولوجي فتاوى طائفة من مشهورات السيدات في موضوع من أهم ما تعنى به النساء، وهو - أي الوجوه أحب إلى النساء؟ الوجوه الدالة على القوة البدنية - أم الذكاء الحاد - أم الروح الخيالية؟ وأي هذه الثلاثة تختارين أن يكون رفيقك في الحياة؟ ولماذا؟ وقد عرضت إحدى المجلات الغربية الوارد فيها هذا المقال صور إثني عشر رجلاً مختلفي الصيغة الجمالية ولكن كلهم كان في حياته مشهوراً بالجمال، وطلبت إلى السيدات المذكورات أن تختار كل واحدة منهن صورة من هذه الصور باعتبار أنها أجمل الجميع في نظرها. (1) رأي البارونيس أوركازي إن موضوع الجمال في الذكور موضوع عويص معضل، لأن جمال الرجال أمر يتوقف على أشياء كثيرة خلاف الوجه، وإني لأسأل القارئة الكريمة قبل كل شيء ما هي العناصر التي منها يتكون جمال الرجل؟ هل هي حسن أعضاء الوجه وانتظامها وتناسبها؟ كلا إن هذا وحده لا يكاد يكون الجمال المستملح في الرجال. فإن الوجوه التي هذا شأنها تكون في الغالي خالية من معاني القوة والمتانة والمضاء والصرامة. وعلى العكس من ذلك ترى أن الأجسام البادنة المكتنزة بالعضل المجدول والعصب المتين خالية من بريق الذكاء المتوقد في العينين، ثم ترى في أقفائها العريضة المسطحة دليلاً على كثافة الذهن وانحطاطا القوى العقلية. ثم من وجهة أخرى ترى الوجوه الناطقة بالمزايا الذهنية أو النفية تكون غالباً مصحوبة بضعف البدن ووهن أنسجته وبنوع من معاني التأنيث في الهيئة والشكل مما لا يستهوي الفريق الأكبر من النساء. وعندك أيضاً الوجه القوي: وهو ذو الأعضاء الخشنة الحادة والعينين العميقتين والفك المتين المربع - فهذا ولا شك جذاب جداً - ولكنه لا يكون البتة مستنيراً ببهجة البشاشة ورونق الطلاقة أو مزداناً بوميض حلاوة الظرف والفكاهة التي هي سر الجمال في الرجال وشرطه الأساسي وأهم أركانه. وإذ قد عرفت ذلك فاطلب هذه المزية الكبرى في وجوه الرجال - ابحث عن أسارير

البشاشة وسطور الابتهاج حول شفاه الرجال - ابحث عن بريق الجذل ووميض الظرف والفكاهة في أعينهم - فأينما وجدت ذلك فتشبث بصاحبه واعلم أنك قد ظفرت بما هو خير لك وأفضل من أدونيز وهرقل. إني أرى بين الاثني عشر رجلاً المختارين صديق صباي المعشوق. ورفيق شبابي المرموق اللورد تيتون. وإني لا أتردد لحظة في تمييزه دون الباقين باختياري. وإفراده من بينهم بإيثاري، فلقد كان وجهه عنوان شخصيته الساحرة وصفاته الباهرة. إذ كان عليه سيماء الفحولة والقوة خالياً من أدنى ظل للعنف والقسوة. وسيما النبوغ الفني خالياً من أدنى معاني الأنوثة والضعف، ودلائل الملكات الذهنية الباهرة خالياً من أدنى شواهد الغرور والزهو. وقد كان مع كل هذا مكللاً بأجمل المزايا البشرية - مزية الطلاقة والبشاشة ورقة الظرف وحلاوة الفكاهة، واحسرتاه لقد عاش ومات أعزب. رأي المس إيليس جفريز لا أدعي الخبرة بعلم الفراسة بأية حال. ولذلك فإني أستصعب ما أسند إلي من هذه المهمة، وإني لأسأل القارئ، أيصح لامرأة أن تجعل جمال المنظر وحده أساساً لاختيار رفيقها في الحياة؟ أما أنها لو فعلت لكان أقل ما في الأمر أنها تعرض نفسها لخطر جسيم فلقد جاء في قديم الأمثال (إنما الجمال جمال الفعال) وإني لأرى الاثني عشر رجلاً المختارين ههنا قد أتو من الفعال الجليل والجميل وأتوا كذلك القبيح والدنيء. إن القوة البدنية لمن الفضائل المحمودة، والمحاسن المحسودة. كما أن الذهن المولع بالمخاطرات والمجازفات البعيد الطمحات المتوقد الحركات لهو من أشرف المزايا وأجل الصفات. ومن أجل ذلك كان موضع اختياري ومحل إيثاري هو اللورد كتشنر. وإني في اختياري هذا مدفوعة بفرط إعجابي بالرجل وعظائم أفعاله. وبدافع أشد من ذلك وأعظم وهو ما يبدو على وجهه من إمارات الرقة والعطف والبر والمروءة - كافة العناصر الإنسانية - وهو عكس ما ينسب إليه من الجمود والجفاء والعبوس والصمت وفقدان العاطفة وقلة المؤاساة للغير. هذا لا ينافي ما قد يبدو عبينه أحياناً من النظرات القارة القارسة. النافذة القارصة. عند مقتضيات الأحوال. ولكني إذا نظرت في الصورة المعروضة خيل إلي أن عين الرجل تلين وتسجو وتخلع عنها نظرة اليأس والقسوة عندما

يخلق الرجل لباس الجد والوقار والأعمال الرسمية ويمتزج بالناس امتزاج العشرة والوداد والألفة. هذا وإني ذلك الشارب لا يخفي ما تحته من معاني الظرف والاستئناس والبشاشة المتألقة حول الفم التي هي في نظري من أفتن محاسن ذلك الوجه النبيل. وإن صورة اللورد كتشنر التي تجلوه على أبصارنا مبتسماً لا تزال في رأيي أحسن عنوان على طيب النفس ورقة الظرف الحقيقية. وما تبتغي النساء بعد ذلك؟ ذهن وقاد وخلق رائع سما إلى أوج العلى وبلغ غاية الفخار بالفتح المبين وباهر الانتصار. رأي المسز س. ن. وليمسون إن غرائزنا الفطرية - نحن السيدات - وطبائعنا الوراثية تدفعنا من حيث لا نفهم ولا نشعر إلى اختيار الصنف الحربي من الرجال. فنحن نرتكن إلى هؤلاء لأننا طالما ارتكنا إليهم واعتمدنا عليهم، ألم يكونوا ملاذنا وعصمتنا يوم كانوا يدفعون عنا غوائل المردة والشياطين والغيلان والسعالى والتنانين ومن عصائب لصوص الهمجيين من الشعوب الوحشية والقبائل البربرية - آفات العصور الماضية. وبلايا الحقب الخالية؟ ولكن رأيي بالرغم من ذلك أن نموذج الجمال الرجالي هو ما جمع بين البدن الضليع والذكاء السريع. والخيال البديع. وإن أقرب الناس في نظري من هذا النموذج الكامل هو اللورد كتشنر. فلقد كان ذا خيال بديع وخلق غريب - مفرد فذ منقطع القرين بدليل أنه لم يجد قط في جماعات النساء من هي كفؤ له في غرابة الخلق والروح حتى يتخذها قرينة ورفيقة. أضف إلى ذلك أن حياته كلها كانت سلسلة مخاطرات هائلة. ولقد امتاز بالنظر في لغات سكان القفار والصحاري وفي صفحات قلوبهم وألواح ضمائرهم. وكلنا يعلم أي شجاع باسل كان!. رأي نورة سكليجل المصورة المشهورة إن من أصعب الأمور أن تختار المرأة رفيق حياتها باعتبار جمال المنظر لا غير على أن في رأيي ومذهبي في هذا الصدد اجتناب الشعراء لخلوهم من عنصر المزاح والفكاهة والمراح وتغلب الحزن والكآبة على نفوسهم. والحق يقال أن الضحك أحسن المزايا البشرية. وأعظم مسهل لمصاعب الحياة وأنفع علاج لآلامها وأنجع ترياق لسمومها.

فالضحك مطر الحياة ونسيمها ونورها. وإني لأبصره في عين كيرلي بيلو وسيدني باراكلو. رأي المسز بيلي رينولدز ما أظن أن امرأة من المتعلمات المستنيرات في هذا العصر تختار رفيقها في الحياة لسواد عينيه أو حمرة وجنتيه وإن كان جمال المنظر يدخل ولا شك ضمن العوامل الباعثة على الاختيار. هذا وإني أستنكر في الصورة المعروضة ههنا معنى أن يشترك فيها إلا اثنين أو ثلاثاً - ذلك المعنى هو شعور كل شخص من هؤلاء الأشخاص بأنه حسن مليح - هو اعتداد كل منهم بمحاسنهم وتيهه وخيلائه بملاحاته ومفاتنه. (ومما شاهدت من أخلاق البشر أن الرجل الجميل أشد شعور بجماله وأكثر اختيالاً بحسنه من المرأة الجميلة) فهذا الزهو بالملاحة والحسن هو ما لا يحتمل ولا يطاق من الرجل. وإني إذا تأملت هؤلاء الرجال المعروضة صورهم وجدت أن الرجل الوحيد الخالي من هذا العيب هو اللورد كتشنر وإن كنت أشك في صواب إدخاله في رزمة من يستحقون صفة الجمال البارع. وعلى كل حال فلقد كان الرجل بريئاً من وصمة (اتخاذ الجمال حرفة وصناعة) وكان عليه سيما الرجل الخليق أن يأتي من الأمور ما يفيد وينفع. رأي المسز وينفريد جراهام إني أخص باختياري كرلي بيلو بشرط أن يحلق شعره! فإن له وجهاً كوجوه كبار المصلحين - ولعله ورث عن أبيه الذي كان من مشاهير الوعاظ وخطباء الكنيسة، وإني لأرى في عيني الصورة آية السحر والفتنة ودليل الإخلاص والفاء كما أن الذقن تدل على قوة العزم والمضاء. وإن كان لا يظهر به تلك النقرة أو النون (ما يسميه العامة طابع الحسن) التي كانت إحدى مزاياه المعروفة. هذا وإن الأنف الدقيق المستوي المحدد والذقن القوي الدال على مضاء العزيمة يوازيان بل يرجحان بما يكسو سائر الوجه من رقة جمال الأنوثة وفي هذا الوجه أيضاً تعرف سيما الخيال والشعر بينما الجبين يشبه جبين بيرون (الشاعر المشهور) - وهذا ما أشار إليه صاحب الوجه في كثير من الأحايين أما العنق فيدل على القوة البدنية. وأما شكل الحاجبين وانفساح ما بينهما فدليل على دماثة الطبع وحلاوة الشمائل والرغبة في فعل الخير. رأي المسز كلار شريدان

النحاتة المشهورة إن أبدع المعروض من هذه الصور في رأيي ومذهبي هو صورة شيلي (الشاعر المشهور) ولعلي أكون في ذلك محابية لأني ما زلت طول حياتي منغمسة في شيلي (أي في أشعاره ومؤلفاته وما كتب عنه من السير والتراجم). ولقد عشت في مصيفه بإيطاليا والتهمت كل ما ورثه العالم من كتاباته وآثار شخصيته وروايات سيرته. عليه رحمة الله لقد كان ذا شخصية رائعة باهرة هائلة. ولو كان اليوم عائشاً لغرد أغاريده. وشدا أناشيده احتفالاً بانتصار المرأة في ميدان الحياة. ولوددت والله أني كنت زوجة شيلي لأني كنت أفهمه لا محالة وأدرك حقيقة أمره. واستجلي غامض كنهه وسره. أما بيرون فإني أتنصل عنه، وأنفض يدي منه، فأجمل منوجهه وجه روبيرت بروك وأمتن من خلقه خلق تيتس. أما باقي الأشخاص المعروضة فما أراني القادرة على الحكم عليهم وإبداء الرأي عنهم وذلك لقلة ما أعرفه من شؤون حياتهم وتفاصيل أحوالهم ودقائق صفاتهم وخلالهم. ورأيي أن الجمال لا ينحصر في أنف ولا عين ولا فم ولا ذقن ولا جبين. ولكن فيما وراء ذلك. وإني لا أضن بالاستحسان والثناء على متانة بنية العوام الشهير الكابتن وب والملاكم الشهير كوربيت ولكن أرى وجهيهما عاديين خاليين من أدنى معاني الفتنة والسحر والغرابة. فهما لا يمتازان عما لا نزال نبصر كل ساعة في غدواتنا وروحاتنا من الآلاف المؤلفة من وجوه جماهير العامة. فالكابتن وب هو أشبه الناس برجال طائفة المعمار وكان الأليق به أن يحمل القادوم والمطمار. رأي هنريتارا المصورة المشهورة لا أتردد في اختيار اللور ليتون. فإن هذا من الأمور البديهية التي لا جدال فيها من وجهة اعتبار من كان مصلي يتعاطى حرفة التصوير. أقول إني أختاره دون الباقين وإن صورته المعروضة ههنا تمثله وهو في دور شيخوخته وهرمه قبل وفاته بقليل ولكني عرفته في نضرة شبابة وزهرة صباه وخالطته سنين عدة فوجدت أن الجمال الذهين المشرق في صحيفة وجهه يشف عن روائع شيمه الباهرة. ةغرائب خلقه الساحرة. وعجائب ملكاته

النادرة. مما لا ينكره ممن رآه إنسان. ولا يختلف فيه ممن عرفه اثنان. رأي المسز ماي أدجنتون إني لأعلم بيقين أي أصناف الجمال الرجالي هو أجذب للمرأة - المرأة العادية - وأخلب. فإنها إن لم توفق إلى الرجل الجامع لجملة المحاسن البشرية بين بدنية وذهنية وعاطفية فإنها لتفضل - في صميم قلبها وغن حاولت كتمان ذلك ومداراة ومواراة بباعث الاستحياء والترفع - أنها لتفضل الوجه الدال على القوة البدنية والبنية الحديدية. ذلك لأن الرجل ذا القوة البدنية العظيمة خليق دائماً أبداً أن يدخل على حياة المرأة شيئاً كثيراً من دواعي الأنس والمراح والطرب وبواعث اللذة واللهو والشهوة. ما الرجل ذو الذهن الوقاد والذكاء الحاد فخليق أن يكون له من الأناة والتؤدة وفرط الوقار والرزانة وكثرة التدبر والتأمل وطول الإطراق والروية والتفرس في حركات الناس وتصرفاتهم والتفتيش عن سرائرهم والخوض بنظراته الكشافة في أغوار ضمائرهم. وتشريح نفوسهم وأرواحهم على منصة بحثه بمبضع ذهنه المرهف المشحوذ كما يشرح الجراح الحاذق الجثة - يكون له من كل ذلك ما يفسد بينه وبني المرأة من صلات التآلف والامتزاج التي يجب أن يكون سداها الضحك والمرح ولحمتها التساهل والتغافل - فلا غرو إذا ندت عنه وأعرضت ونفرت لأنه يخيفها ويفزعها ويملأ قلبها هيبة ووحشة ولا تجد في جوه ذلك الإشراق والصفاء والدفء التي ليس إلا بها تتفتح زهرة قلبها وتينع ثمار عواطفها. فنصيحتي إلى المرأة أن تلتقط رجلاً شديد قوة البدن ثم تنفث فيه من ينبوع عواطفها نفثة من روح الأماني العجيبة والخيالات الغريبة - من الروح الروائية الخرافية - فستجدين فيه إذ ذاك النموذج الكامل والمثل الأعلى. فإذا ألفيت بعد ذلك نقصاً في ذكائه وقصوراً في فطنته فلا يسوءك ذلك فإنه لو كان غير ذلك لأحاط علماً بظاهرك وباطنك وليس هذا مما يسرك. وإذا وجدته ساذجاً بسيطاً فاحمدي حسن حظك وسعد طالعك ودعيه يبقى كذلك. أما من وجهة رأيي في الصور المعروضة ههنا فإن أجذبها عندي وأخلبها صورة كوربيت الملاكم. رأي المسز بيلوك لونديز إن الفريق الأكبر من النساء يفضل ولا شك بالفطرة والغريزة الرجل القوي البدن المتين

البنية - سواء كان جميل الطلعة أو عاديها. وكذلك معظم الرجال - بل كل الرجال ما عدا الفئة النادرة الشاذة - يفضلون المرأة المؤنثة أعني اللينة الناعمة الرقيقة الغريرة. ولا نزاع في أن القوة الخفية المسماة الفتنة النسائية أعني العين الساحرة ذات اللحظ الخلاب أو كما يسميها فريق من الشعراء العين الداعية إلى الصبابة الآمرة بالولوع والاستهامة - لا شك أن هذه من أقوى العوامل في اختيار الرفيق. واشد البواعث على اصطفاء العشيق. ولكنها من المزايا النادرة جداً سواء في الرجال والنساء وقلما يكون فيها ضمان السعادة الدائمة أوالوفاء والأمانة في الحياة الزوجية. ولا أشك في أن الرجال والنساء جميعاً يخضعون لسلطان الحسن والملاحة - ومن ثم كان ذلك النجاح الباهر الذي يظفر به بعض ذوي المحاسن الباهرة من الممثلين والممثلات ولكني أشك في أن هؤلاء الممثلات والممثلين يستطيعون استبقاء هذه المزية النادرة في غضون حياتهم المنزلية. إن من النساء لفريقاً يستهويه الصيت والشهرة في الرجال. فأمثال هؤلاء النساء لا تحجم إحداهن عن الاقتران بالرجل القبيح الصورة والسيء الخلق الشاذ الطباع بشرط أن يكون شاعراً مذكوراً أو فارساً مشهوراً وأعجب من هذا وأغرب أنها تعيش معه سعيدة. إذا كنت مختارة واحداً من بين هؤلاء الرجال المعروضة هنا صورهم فإني أختار اللورد كتشنر.

كيف يداوى الضجر والقلق

كيف يداوى الضجر والقلق مقال مفعم بالنصائح العملية من آراء العلماء الفنيين الذين درسوا هذا الموضوع درساً خاصاً الضجر آفة باطلة وداء كاذب لا ثمرة فيه ولا طائل تحته. وكأني بك تعرف ذلك ولكن الداء الخبيث قد تمكن منك بطريقة ما ويخيل إليك أن غير مفلت من قبضته أو خارج من أزمته. رويدك لا تقنط! واستعن بنصيحة من وقف قسطاً من وقته ومجهوده على دراسة ذلك الأمر وفحصه. فاقرأ ما كتبوا عن ذلك. وحاول العمل بنصائحهم وثق بأنك ستستفيد صحة في الذهن والبدن، وخلاصاً وبراءة من داء القلق والضجر. واعلم بادئ الأمر أن التعب هو السبب الخفي الأعظم المؤدي إلى معظم ما ينطوي عليه هذا العالم من قلق وضجر - أجل هو التعب - تعب الذهن أو تعب الجسم أو كليهما - ولا أقصد به ذلك التعب المؤقت الذي لا تلبث ساعة من الراحة أن تزيله ولكني أقصد ذلك التعب الذي لا يزال يتزايد علينا ويتراكم حتى يصير عبأ فادحاً وداء قاداً. وآفة تبتلي جميع وظائف الذهن والبدن. خذ مثلاً على ذلك الحقيقة الآتية المثبوتة - وهي أنك إذا أدمنت تحريك أصبعك حتى تكل عضلاتك فإن هذه الإصبع تصبح محتاجة إلى استراحة ساعتين لتستعيد من خلالهما قوتها وتجدد نشاطها حتى يصير في إمكانها إعادة عين المقدار السالف من العمل بالضبط، فإذا أنت لم تعط إصبعك من فترة الراحة إلا ساحة فقط فلا تحسبن أنها تصبح قادرة على أداء نصف عملها الأول كما يدلك حسابك واستنتاجك - بل تأكد أن ما تستطيع أن تؤديه إصبعك من العمل بعد ذلك هو ربع المقدار الأول فقط أو بعبارة أخرى - إذا أنت لم تعط نفسك من الراحة إلا نصف حقها فإنها لا تعطيك من العمل إلا ربع ما كنت آخذاً منها لو أنك أعطيتها وافر قسطها من الراحة. إن التعب البدني يؤثر في إيراد الدم المخصص للدماغ من حيث مقداره ومادته فلذا كان من الحمق والخرق محاولتنا تشغيل الدماغ عندما تكون أجسادنا متعبة منهوكة وأحمق من ذلك محاولتنا إزالة تعب الدماغ وتجديد نشاطه بالإفراط في الرياضة البدنية وممارسة التمرينات

الجسدية العنيفة. وانتهاك القوى الذهنية لا يمكن إزالته بانتهاك القوى البدنية، ولا يعقل أن كد الدماغ ينفيه كد الجسد. ولكن التمرين البدني المعتدل قد يعين على تجديد القوى الذهنية بإصلاح الدورة. أما التمرين العنيف فإنه يزيد الطين بلة. من العجيب أن ترى الكثيرين من الناس يتحامون الإفراط في الشراب ويتحاشون البطنة والكظة خجلاً واستحياء ثم لا يستحون بعد ذلك من رذيلة الإفراط في العمل وانتهاك أذهانهم وأبدانهم في الكد والكدح. إنهم يأنفون ويستنكفون أن يقتلوا نفوسهم سكراً ول يأنفون أن يقتلوها عملاً وكداً. وقد كان من الواجب على المرء أن يرى من الخزي والعار أو على الأقل من الإساءة والأذى لأسرته وأصحابه أنه لا يزال يلقاهم بذهن مكدود وبدن منهوك وروح ضجرة ونفس برمة ووجه عابس عليه قترة الهم وظلمة الكدر. ولسان معتقل بأصفاد التعب والضجر. فإن لأخوانه وأهله عليه حق التودد إليهم والضحك في وجوههم والإشراق عليهم بنور الإنس والطلاقة والبشاشة. وإرتاعهم من أخلاقهم مرتعاً معشباً نضيراً. وإيرادهم من سجاياه مورداً عذبا نميراً. وهذا لا يتأتى لرجل متعب مجهود قد نكس الهم رأسه. وصعد القلق أنفاسه. وكيف يجود للناس بأسباب السرور من هو منه مسلوب. ويفيض على الناس بالأنس من هو منه محروم. وكيف يجني من الشوك الثمار أو يجود الجهام بالديمة المدرار. هذا واجب على كل امرئ لأهله وخلانه فهو دين لهم عليه ينبغي سداده في مواعيده أعني كلما لاقاهم وصادفهم. فإذا كان لا يزال كلما لقيهم عبس وأطرق تسخط وتبرم كان بمنزلة المدين الدائم المماطلة، والغريم المدمن المراوغة والمطاولة. والآن نأخذ في فحص أهم أسباب الضجر وعلاجه فنقول: من أهم هذه الأسباب شدة اشتغال ذهنك بواجباتك وأمالك فإذا اضطجعت لتنام وأصابك الأرق - وهذا الأرق يلحق بك القلق والضجر، إذ تقول لنفسك أنه لا بد لك من ثماني ساعات من الراحة وأنه قد دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ولم تغمض عينك فلعلك لست نائلاً من الثماني الساعات الضرورية لحفظ صحتك إلا أربعاً أو خمساً وفي الصباح نقول: يا لها من ليلة! لم تذق عيني فيها الغمض إلا بعد الساعة الثانية، ولم يطرف جفني بعد الساعة السادسة. فكل ما

نمته هو أربع ساعات، وأنا لا أستطيع الاستمرار على هذا الحال!. إن وظيفة النوم ومهمته هي أنه يمكن البدن من تجديد أنسجته والذهن من تجديد قوته، والنوم من أصلح الحالات لحدوث ذلك التجدد الذهني والبدني، على أن هذا التجدد يحدث أيضاً - ولكن بحالة أبطأ - أثناء الاستراحة الخالية من النوم. فأول نصيحة لكم يا أهل الأرق والسهاد هي هذه: لا تضايقوا أنفسكم لنفور النوم وشروده عنكم بل قولوا لأنفسكم لا بأس علينا من هذا السهاد ولا ضير في هذا الأرق. فنحن وإن لم ننم نتمتع بالراحة ولين الضجعة. فأجسامنا في دعة واستراحة. فنحن من حيث الحالة الجسدية وكما لو كنا نياماً. إذ السكون والكسل والظلام هي جل احتياجاتي الجسمية وكلها في ملكي وحوزتي فليس ثمت ما يدعو إلى الضجر والقلق. فمناجاة نفسك بهذا القول مع صحة اعتقادك إياه - وهو أهم ما نظن لأنك تكون في هذه الحالة كمن أراد ركوب القطار السريع (الإكسبريس) فلما لم يوفق إلى ذلك ركب القطار العادي، فحسبك يقينك بأنك ستبلغ ولا شك غايتك المقصودة وإن أبطأت بك المطية وشطت بك النية. ولكنك ربما قلت معترضاً ليست راحة البدن هي أهم مطالب المرء. ولكن راحة الذهن هي المقصد الأول. إن أهم أغراضي هو إيقاف حركة الفكر!. على رسلك أيها المعارض! واعلم أن راحة البدن مؤدية - وإن كان مع البطء - إلى راحة الذهن أيضاً فاعتقادك هذه الحقيقة لا بد أن يحدث نوعاً من اللين والاسترخاء في أوتار الذهن. وهذا وحده يهيئك للنوم ويقرب منك أسبابه. وسنسرد في موضع آخر من هذا المقال جملة من علاحات الأرق وجوالب النوم أما الآن فنبحث في علاقة الأرق بالضجر والقلق. فاعلم أنك إذا أرقت بالفعل الليل الطويل كله فأحييت بالسهاد ظلمته، وأشعلت بحر أنفاسك فحمته فلا ضير عليك من ذلك إلا إذا جعلته موضع اهتمامك وكدرك فطفقت تتأفف وتتوجع لأنك لم تنم. على أنه قلما يحدث أنك تحرم النوم ليلك كله إذ في الغالب أنك تنام ولو ساعات قليلة. فحرمانك شطراً من وقت نومك ليس هو السبب فيما يبدو عليك في الغد من الوهن والخور والشحوب والاصفرار والكآبة والكمد - وإنما السبب في ذلك هو توجعك

وتعجبك لحرمانك من هذه الساعات القلائل. وإذا أردت أن تجيد فهم هذه النظرية فادرس قليلاً فيما يسميه (علماء الأمراض العقلية) بالحالة العواطفية للإنسان فهب أنك أرقت ليلة - فبت الساعات الطويلة نابي المضجع قلق الوساد، تتقلب على جمر الغضا وشوك القتاد. تطلب النوم ولا تجده. وتنصب له الحبائل ولا تصيده. فتجزع لذلك وتقلق. وتستشيط وتتحرق، وتعذب نفسك أسفاً. وتقطعها حسرة ولهفاً. فماذا تكون حالتك العواطفية؟ تكون ولا شك التفجع والتحسر والغيظ والجزع والتلهف. فإذا أصبحت فأخلق بك أن تكون هائج سريع الغضب سريع الانفعال - وبالتالي تكون شرساً سيء الخلق ضجراً متبرماً. فإذا جلست على مائدة الإفطار مع أهلك وأسرتك فما أسرعك إذ ذاك إلى التسخط لأدنى تافهة من الأمر، والغضب من الوهيمات والخيالات مما لا وجود له إلا في ذهنك المضطرب وعقلك المشوش فتحدث المشاحنات بينك وبين أهلك فتغادرهم إلى محل عملك وأنت تعتقد أنهم ألب عليك وحزب ضدك وأنك فريسة ظلمهم وضحية جورهم. ثم تحاول البدء فكأنما تحاول نسف الجبال. أو عد الرمال، فتذعن لليأس وتستسلم للوسواس. ثم تغلق مكتبتك وتذهب للغداء وقد تراكمت عليك الأشجان. وامتلكت الهموم والأحزان فلا غرو إذا ظلت في هذا الحالة ولا تستمري مطايب الخوان. وتهيجك وتؤلمك مداعبات الأخوان. فإذا تناولت طعامك على انفراد أقبلت على نفسك تنغصها لما قد نابها من المنغصات. وتعذبها لما قد لحقها من عذاب تلك المكدرات. وهذا يؤدي ولا شك إلى القبض وسوء الهضم. فتعود على محل أشغالك في المساء أسوأ حالاً مما كنت في الصباح ثم تغادره ليلاً أخيب مما غادرته ظهراً وتمضي على فراشك أخوف ما كنت من معاودة الأرق والسهاد. ولو كنت تعرف حقيقة آفة الضجر وخفي أسبابها وعللها وطريقة علاجها ومداواتها لما كانت هذه حالك ولم تبت بليلة القائل: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي الغواني في يديه قعاقع

أجل لقد كنت توقى كل هذه الغصص والكرب لو أنك أدركت أنه لا ضير عليك من السهاد وأنك واجد عوضاً عن النوم مجرد ضجعتك واستلقائك واستراحة أعصابك واسترخاء أعضائك. تحت ظلال الليلة الندية الساجية. ومشتملاً برداء ظلمتها الفاحمة الداجية. أما من حيث المشاحنات الأسرية. والمشاجرات المنزلية فقد كان جديراً بك أن لا تجسم من شأنها صغيراً. وتعظم من أمرها حقيراً. وخليق بك أن تدرك أنها زمجرة ليس وراءها صاعقة. ودوي أوتار ليسه معه سهام مارقة. ولو كان غير ذلك شأنها لما بقي على ظهر الأرض أسرة ولأقفر العالم من الدور الآنسة والمنازل العامرة وعاش كل امرئ بمعزل عن سائر الناس محتجباً في بردته. ومستكناً في جلدته. كأنه السلحفاة أو المحارة. ولكن الواقع خلاف ذلك وما هذه المشاجرات المنزلية إلا كسانح طيف أو سحابة صيف. وكم مئات من هذه المشاجرات مرت بك فلم تأخذ منك إلا كما تأخذ الرياح من أطراف الجلاميد. وأنفاس الملاح من مرآة الحديد. وما هي إلا بضعة أيام حتى تصبح المشاجرة في نظرك حديث فكاهة كلما ذكرته ضحكت منه وسخرت. وإنك إذا نظرت في أسباب معظم هذه المشاجرات المنزلية وجدتها ترجع إلى مصدر واحد - وهو استبدادك على أفراد أسرتك وحكمك عليهم أن يخضعوا لميلك وهواك في كل شيء، فيكونون معك بلا رأي ولا إرادة كاللعب في يديك تحركها كما تشاء ولا شك أنك في هذا لظالم جائر. فإن كان نظرك أصدق من نظرهم فيما تأمرهم به، ورأيك أصح من رأيهم فدعم وشأنهم لا يلبثون أن يهتدوا إلى هذه الحقيق فيأخذون برأيك وينحون منحاك. وإذا لم يفعلوا فحسبك أنك منحتهم نعمة الحرية التي ليس فوقها نعمة، وخليت بينهم وبين لذاتهم وشهواتهم فملأت صدورهم مسرة وطرباً. وهذا وحده خليق أن يولد فيك حالة عواطفية حسنة (أعني أنه يبعث فيك السرور والجذل. ولا يزال الضجر مصحوباً بنوع ما من العاطفة (أي الانفعال) والعاطفة أي الانفعال النفساني هو قوة كامنة - هو بخار مخزون لا بد له من أيجد منفذاً ومخرجاً فإذا هيء له هذا المخرج بطريق العمل والحركة فلا ضير منه ولا بأس. وإذا لم يفعل ذلك فإن هذا البخار لا بد أن يحدث انفجاراً فينسف شيئاً ما في ناحية ما وبكيفية ما فإذا لم يحدث ذلك الانفجار بالفعل فإن هذه القوة العاطفية الموجهة في غير وجهتها قد تحدث حالة من القلق

الذهني لا تزال تعظم وتتزايد حتى تصير داء مزمناً من الضجر. ومن أشيع الأشكال التي يظهر فيها الضجر ويتراءى - التردد. وهذا التردد ينبعث عن علل ذهنية خبيثة أهمها الخوف الذي لا يزال يملؤك حذراً من إتيان الغلطات وخشية من عواقب أمور هي في ذاتها مأمونة العواقب على حد قول القائل: ورب أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب وفرط سوء الظن بالناس هو الذي يغريك باتهامهم في كل ما يأتونه حتى تحسب أن كل لفظة أو حركة تصدر منهم هي أذى وإساءة موجهة إليك. فلا عجب إذا شبهنا هذا المرض الخبيث - مرض التردد - بضباب قريب متكاثف يحجب عنا حقائق الأشياء. فإذا لبثت في جوف ذلك الضباب حائراً مرتبكاً لا تدري أين تذهب فأحرى بك أن تبقى واقفاً مكانك فلا تصل إلى أي غرض البتة. فالمخرج الوحيد من هذه الورطة هي أن تمضي قدماً في أي طريق مهما كان - هي أن تعقد أي نية وتبرم أي عزم. أجل اصنع شيئاً مهما يكن. فإن ذلك يخرجك من الضباب. إنه لا يبعد أن تذهب في طريق جائرة عن القصد حائدة عن الصواب فإذا كان ذلك فلا ضير عليك منه وحسبك أنك قد خرجت من الظلمة الحالكة حيث قد قضي عليك أن لا ترى شيئاً ولا تصنع شيئاً إلى حيث تستطيع أن تبصر وتميز فتعرف أنك في ضلال فتحاول الانصراف إلى الهدى. مثال ذلك أنك قد تريد كتابة رسالة فتلبث ساعات تفكر ماذا تكتب وأي المذاهب تسلك متردداً بين ألف طريقة وأسلوب. فلقد آذيت نفسك وعذبت ذهنك ثم لم تصنع شيئاً. ألا فاجلس فوراً إلى المكتب وخذ القلم والقرطاس فاكتب ما حضرك أياً كان فلعلك واجد في هذا الكلام المرتجل والمقال المقتضب ما هو قريب من بغيتك ومرادك ثم اعلم أن مجرد (عقد النية) وإبرام العزيمة - إن مجرد هذه الفعلة يعد ضرباً مفيداً م الرياضة الذهنية - وأسلوباً نافعاً من التمرينات العقلية. وأن قراراً محدداً وعزماً معيناً، إن فكرة إيجابية واضحة واحدة لهي خير من كل ما تنفقه سدى من ساعات التدبير العقيم والتفكير المجدب العديم النتيجة المشفوع بالحيرة والارتباك والقلق ألا فافعلن شيئاً. افعله بعد مقدار مناسب من التأمل والروية - ولكن افعله على كل حال.

إن من أكبر أسباب الخيبة في مثل هذه الأحوال من التردد والارتباك هو إحجام المرء عن مواجهة الحقائق، هذه الحقائق، هي أشياء حاصلة ترعاها عيناك. وتلمسها يداك، فإذا كنت تستطيع إزالتها وتغييرها فافعل. وإذا كنت لا تستطيع ذلك فماذا لجاجك وإلحاحك في محاولة تبديل ما لا يبدل وتحويل ما لا يحول. وأحمق من ذلك وأسخف أنك تجلس فتقطع نفسك كمداً وحسرة لأن هذه الحقائق لا تبدل ولا تحول. ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن تسعة أعشار الناس لا يستطيعون (العزلة الذهنية) أعني الانفراد بأذهانهم عن مشاركة الغير في الآراء والأفكار. فالإنسان مدني بالطبع يحتاج إلى تبادل الرأي والفكر مع عشرائه وجلسائه فمشاورة الصديق ومحاورة الرفيق من أوجب الواجبات ومن أهم ضروريات الحياة. وإن اختزان الأفكار والهموم في الصدر كاختزان الطعام والشراب في المعدة كلاهما يحتاج إلى دواء مسهل، فإذا غص ذهنك بالمكدرات والمنغصات من جراء أمر ما فابغ لها ما يخرجها من بطنك ويلقيها من جوفك! ولن تجد غير المجاورة والمشاورة دواء مسهلاً. وما زالت الصراحة والإفشاء أنفع الملينات الذهنية. وأنجع المسهلات العاطفية فتعاطها تبرأ بها. وأذيع مظاهر الضجر وأشغلها لبال المصاب بها هو الأرق. والأرق إذا دام أحدث ولا شك أثراً سيئاً في البنية والأجهزة الحيوية. وإني أكرر هنا أن تضجر الإنسان بسبب الأرق شر علبه من الأرق ذاته. بيد أنك على كل حال محق في حرصك على النوم. وأنت إذا ابتغيته من وجهه فلا بد أن تناله. اقتصد في طعامك وشرابك وسائر أركان حياتك. ولا تجاوز في عملك ولهوك حد الاعتدال إلى طور الإنهاك والإرهاق. فإذا لم تجد بداً في بعض الأحايين من الإفراط في الكد فابتغ سبيل الموازنة بإنالة نفسك من الراحة مقدار ما حملتها من التعب وخذ بقول القائل إني لأستجم نفس بالشيء من الباطل ليكون أقوى لها على الحق. ويقول الآخر حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور. ولا تحمل يومك عمل الغد فوق عمله فإن ذلك ضرب من الظلم والحيف والطمع الوخيم العواقب. وإذا لهوت فكن جاداً في لهوك فاله من صميم قلبك ومن أعماق نفسك. ولا تقف متردداً بين

مباهج اللهو المتشعبة ومذاهبه المتفرقة بل خذ في أيها بشرط أن تندفع فيه اندفاع الجاد المعتزم الذي وجه كل همه وأقبل بجل روحه على ما قد اختار من الملهى. وأفضل شيء أن تغوي ضرباً بعينه من الملاهي - الموسيقى أو التصوير أو السباحة أو ركوب الخيل أو الصيد أو جمع النوادر من الحشرات أو الصور أو الكتب وهلم جرا. وتناول من الطعام الساذج المغذي فخذه في أوقات محددة. وثمت من رأي شائع وهو أن الطعام لا ينهضم إلا إذا أكل بشهية حادة. فهذا من الأغلاط الشائعة. إن الطعام بلا شهية قد يبطئ هضمه ولكنه سيهضم في النهاية ولاسيما إذا أعنت عملية الهضم بالاستراحة. وبعد ذلك فإنك إذا جمعت بين حسن الغذاء وقلة التعب فقد هيأت لنفسك أصلح الحالات لاستجلاب النوم. على أنك تستطيع أن تزيد هذه الحالة صلاحية وذلك باستحمامك قبل الذهاب إلى الفراش في حوض مملوء بالماء الفاتر. ولتكن حرارته أقل من حرارة بدنك بمقدار طفيف. ولكن راع أن تكون طريقتك في هذا هي مجرد وثبة في الماء تتلوها وثبة منه بل يلزمك الاستمرار فيه ما دمت تشعر له بلذة. هذه كلها علاجات تنفعك في داء الضجر ولكن ماذا عساها تفيدك إذا كان الداء قد بلغ منك أقصى مبلغ. واستأثر بذهنك وروحك أيما استئثار. ألا ترى أنك بعد كل هذه العلاجات تذهب إلى الفراش وأنت أخوف ما تكون من أن كل هذه الوسائل لن تطرد عنك الأرق؟ فتستلقي في فراشك وتشرع في مضايقة نفسك وتنغيصها للسبب الآتي وهو أنك تخاف أن خوفك من الأرق سيجلب عليك الأرق.

روح الإسلام

روح الإسلام الفصل الثاني بقية هذا الفصل الحياة الدنيا في نظر الإسلام هي البذرة التي تخرج منها الحياة الآخرة. والمبدأ الأساسي للإسلام هو السعي والعمل لمصلحة النوع البشري في تواضع وخضوع وخشوع وبذل الجهد للاقتراب من درجة كمال الذات الإلهية الكاملة. والمسلم الصادق هو كذلك مسيحي صادق من حيث قبوله رسالة عيسى واجتهاده في تنفيذ وصاياه وتعاليمه فلما لا نرى المسيحي الصادق يكرم الواعظ والمعلم (أعني محمداً) الذي نقح وهذب ما وضعه الأساتذة الأولون. أو لم يجد المعلم قوى العالم مبددة مشردة فألف شتاتها ولم شعثها وردها جميعاً إلى منهج الرقي وسبل التقدم؟. ونحن إذا استثنينا فكرة بنوة المسيح لم نجد فرقاً أساسياً بين الإسلام والنصرانية فهما في جوهرهما واحد - كلاهما نتيجة عوامل روحانية واحدة ذات فاعلية وتأثير في الحياة الإنسانية فكان أحدهما (الدين المسيحي) اعتراضاً على ما كان يدين به اليهود والرومان من مذهب المادية التي لا قلب لها، المجردة من الوجدان والشعور والعاطفة وكان الثاني (الإسلام) ثورة ضد ما كان يدين به العرب من الوثنية المزرية بالعزة والكرامة وضد عاداتهم وتقاليدهم الوحشية الفظيعة. وقد كانت الأمة التي نشر بينها الدين المسيحي وضد عاداتهم وتقاليدهم الوحشية الفظيعة. وقد كانت الأمة التي نشر بينها الدين المسيحي خاضعة لحكومة منظمة، وكانت أمثر مدنية استقراراً من الأمة التي نشر بينها الإسلام ومن ثم كانت الشرور والآفات التي قاومتها المسيحية أخف وأهون من التي قاومها الإسلام - الذي ألقى على شعوب متحاربة وقبائل متضاربة فاضطر إلى مكافحة المصالح الشخصية والخرافات العتيقة. ولا يخفى أن المسيحية في بدء انتشارها اتجهت نحو المشرق ولكنها لم تلبث أن صادفت في تلك السبيل عقبة في شخص رجل غزير العلم غريب الأخلاق والصفات إسرائيلي المحتد لكنه يوناني اسكندري من حيث التربية والمبادئ فقام هذا الرجل ينقل المسيحية إلى إغريقيى (اليونان) ورومة - وهناك استحوذت المسيحية على حضارة وثنية القرون العديدة السالفة ثم أخرجت للعالم أفكاراً جديدة وعقائد مستحدثة. ومنذ تنقلت

المسيحية من مهدها زالت عنها صفة المسيحية فصارت ديانة بولس لا ديانة المسيح. وفي هذه الآونة كانت صروح الوثنية القديمة تتداعى لانهدام، وقبل ذلك كانت الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسكندرية تهيئان العالم الروماني لقبول فكرة إله غير مكون من المادة - إله اسمه (ديميرجيس) أو (ايون) قد نشأ في قلب الأبدية - وهذه الفكرة اندمجت في مسيحية بولس والمسيحية العقلية (إيديالستيك) الحديثة التي هي أحق أن تسمى مذهباً فلسفياً من أن تدعى ديانة مقررة. إنما هي نتيجة القرون العديدة من المدنية السابقة للمسيح والمدنية التالية لها. أما الإسلام فقد بث في أمة مخالفة وفي ظروف اجتماعية وأخلاقية مخالفة. ولو أن الإسلام استطاع أن يقتحم العقبة التي أقامتها في وجهه مسيحية ذلك العصر الوضيعة المنحطة فتسرب إلى الشعوب الراقية والأمم العليا من سكان الدنيا لاتخذ صبغة أخرى ومذهباً عن الرقي جد مخالف لما يراه المتأمل اليوم بين الشعوب المسلمة الأقل استنارة وعلماً. فمثل هذين الدينين كمثل نهرين ينحدران في بقعتين مختلفتين - كل منهما يحدث من النتائج ما هو ملائم لماهية التربة التي يتدفق فيها. وغير خاف أن المكسيكي الذي يعاقب نفسه ضرباً بورق الصبير وساكن جنوب أمريكا عابد للوثن والطبقات السفلى من الأمم النصرانية لا يصح اعتبارهم نصارى بأي وجه من الوجوه، وما أبعد الفرق بينهم وبين قادة الأفكار المسيحية الحديثة. وقد ثبت أن الإسلام حينما تسرب إلى الشعوب القابلة للاستنارة والرقي وجد على تمام ملاءمة لعوامل الرقي والتقدم فأعان على نشر المدنية وتهذيبها وأكسب العقائد الدينية روحانية وعقلية. إلا أن ديناً كان من نتائجه وثمراته بطولة علي وإخلاصه ورقة جعفر الصادق ودماثته وطهارة فاطمة وعفافها وقدسية رابعية - إلا أن ديناً أخرج أمثال ابن سينا والبيروني وابن خلدون وجلال الدين الرومي وإبراهيم بن أدهم وكثير غيرهم لدين مشتمل علاى كل عناصر الأمل وأسباب الفوز والفلاح. يا حسرتا ويا أسفاه على أساتذة الإسلام في العهد الأخير! لقد هبت عاصفة المشاحنات المذهبية على روضة الدين الصحيح والإيمان الصريح فأذبلت زهرتها وأذهبت نضارتها. وقد شرح أحد وعاظ النصارى في أبلغ بيان وأصدق برهان الفرق بين العقيدة الدينية وعلم الفقه وبين المضار التي حلت بكنيسته بسبب الخلط بين الاثنين وقد أصاب الإسلام من هذه

الوجهة عين ما أصاب المسيحية. فجعل الدين حرفة وصناعة بعد أن كان عقيدة يعمل بوصاياها وتعاليمها، وأصبح مراسم ومظاهر بعد أن كان عبادة باعثها الإيمان والإخلاص والتقوى وإتيان ما فيه الخير للناس رغبة في الخير وابتغاء مرضاة الله. قد انطفأت جذوة الغيرة على الدين والاستهامة في حب الله والإيمان به وبرسوله وقد انعدم ذلك الإخلاص الذي لولاه ما انمازت حياة البشر عن حياة البهائم - الإخلاص في صدق العمل وصدق التفكير والنية. إلا أن مسلمي هذا الزمان قد جهلوا الروح وتشبثوا باللفظ فبدلاً من سلوكهم في الحياة المنهج الأرشد الذي أوضحه لهم أستاذهم وبدلاً من نهوضهم إلى الدرجة العليا التي أبانها لهم. وبدلاً من اتباعهم المثل الأسمى والنموذج الأسنى الذي شرح لهم ذلك الأستاذ الجليل - بدلاً من الطموح إلى أشرف الأعمال وأكرم الفعال والأخذ بالصلاح والتقوى ومحبة الله ومحبة الناس من أجله تعالى - بدلاً من كل ذلك جعلوا أنفسهم عبيداً للمصالح الشخصية والأغراض السياسية والمظاهر السطحية الباطلة، ولا غرابة في أن صحابة محمد حين أدهشهم بروائع خصاله وفعاله فملأ قلوبهم عجباً وإجلالاً أخذوا يقدسون أفكاره وأعماله العادية وطريقته في العيشة ودقائق تصرفاته في حياته اليومية ويسجلون كل ذلك ليكون مثالاً للناس ونموذجاً وقدوة فجعلوا ينقشون على صفحات القلوب تلك التعاليم والأوامر والوصايا والقواعد التي كانت تمليها ضرورات الأحوال ومقتضيات الظروف إذ ذاك في أمة صغيرة حديثة النشأة. فأما ما يزعمه الزاعمون من أن أكبر مصلح أخرجته الدنيا وأعظم مؤيد لسلطان الحق والعقل والمنطق - الرجل الذي صرح بأن الكون محكومة ومنظم بقوانين ونواميس وشرائع وأن ناموس الطبيعة إنما يقتضي التطور والارتقاء والتقدم - نقول أن ما يزعمه الزاعمون من أن رجلاً هذه صفاته وأعماله كان يتصور أن تلك التعاليم والوصايا التي أوحت بها مقتضيات الضرورة في أمة شبه همجية يصح أن تبقى على حالها بلا تغيير ولا تبديل إلى آخر الدهر - إنما هو حكم جائر على نبي الإسلام - أو كما قال الشاعر هذا محال في القياس بديع. كان محمد أدق الناس فطنة وأنفذهم بصراً باحتياجات ومطالب الرقي والتطور في هذا العالم وما تقتضيه تقلبات أحواله الاجتماعية والأخلاقية - وكان أعرف الناس بأن ما نزل عليه من الوحي ربما كان لا يلائم كل ظرف ولا يناسب كل موقف ولا يصلح لمعالجة كل

طارئة ومداوة كل حادثة محتملة الحصول. ومصداق ذلك أنه لما ولي معاذ أمر اليمن سأله النبي بأي قاعدة يأخذ في إدارة شؤون ذلك القطر. فقال معاذ أمر اليمن بأحكام القرآن فقال النبي: فإذا لم تصب في الكتاب الحكيم ما تبتغي من الحكم فعلام تعول؟ قال معاذ على سنة النبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا لم تجد بغيتك في ذلك فإلام تعمد؟ قال معاذ: إلى الرأي والقياس فسر النبي بهذا الجواب واستحسنه وأوصى سائر الولاة باتباعه. ذلك الأستاذ الكبير الذي كان أعرف الناس باحتياجات وقته ومطالب أمته - أمة منغمسة في حمأة الانحطاط الاجتماعي والأخلاقي الموئس - أدرك بنفاذ بصيرته وبعد رأيه بل بنبوة وجداه أنه سيجيء وقت يفرق بين ما هو مؤقت وخصوصي وما هو دائم وعمومي من النواميس والنظامات. فقد قال عليه السلام ما معناه: أنتم في زمن إذا تركتك عشر ما أمرتم به بؤتم بالخسار والدمار وسيجيء زمن يفوز فيه من عمل بعشر ما يوصى به الآن. أجل إن البلاء الذي حل بأمم الإسلام لا ترجع أسبابه إلى تعاليم محمد، وكيف يكون ذلك وإن الإسلام لأوفر الأديان نصيباً من عوامل التقدم ووسائل التدرج والتطور وليس في كافة الملل والعقائد ما هو أنقى منه وأطهر وأشد التئاماً مع روح النهضة والرقي في مناحي الإنسانية. إن معظم السبب في خمود جمرة العالم الإسلامي في هذا العصر وركود ريحه وفي جمود تيار النهضة والرقي فيه راجع ولا شك إلى فكرة كاذبة قد علقت بأذهان السواد الأعظم من المسلمين ورسخت في عقائدهم أيما - وهيب أن حق الاجتهاد وحرية الرأي والتفكير قد محي وقبر مع الأئمة الأقدمين وأن الجرأة على تعاطي هذا الحق في العصور الحديثة يعد وإثماً وأن الرجل لا يصح اعتباره مسلماً صحيح الإسلام إلا إذا كان تابعاً لأحد مذاهب الأئمة الأربعة وكان قد انصرف البتة عن حرية التفكير والاستقلال بالرأي إلى إتباع آراء رجال عاشوا في القرن التاسع. وكانت أذهانهم بطبيعة الحال خالية من أدنى فكرة عن مطلب القرن التاسع عشر واحتياجاته. إن حياة وسلوك الكثيرين من مسلمي هذا العصر لهما اليوم أقل التئاماً مع تعاليم الأستاذ (النبي) ووصاياه وأكثر التئاماً مع آراء ونظريات المجتهدين والأئمة الذين حاولوا - كل على حسب مذهبه ونظره الخاص - أو يؤولوا كلمات الوحي التي هبطت على الأستاذ

الأكبر فكان مثلهم مع ذلك الأستاذ كمثل رجال قائمين وسط زحام يصغون إلى خطبة واعظ قد قام على ذروة عالية ينثر مقاله على جموع محتشدة وهو من مكانه الرفيق يشرف على فضاء فسيح ومتسع رحيب بينما أولئك الرجال لا يبصرون إلا ما جاورهم ولاصقهم ولا يفهمون ما قد كمن في غضون كلمه وتضاعيف ألفاظه في المعاني العميقة. والمغازي الدقيقة. والأغراض الخفية. والمرامي القصية. ولا يدركون ماهية الجمع المصغي إلى خطابه فلا غرو وإذا رأيتهم قد شرعوا يوفقون بين كلمات ذلك الخطيب وبين قاصر علمهم ومحدود رأيهم في موضوع مطالب النوع البشري ورقي العالم الإنساني. أولئك الرجال قد غاب عنهم أن تعاليم الأستاذ عامة شاملة في طبيعتها وكنهها وينقصهم مع ذلك ألمعية النبي وتوقد لوذعيته واتصال روحه بينبوع الوحي الفياض - فلا جرم والحالة هذه إذا رأيتهم قد نسوا أن النبي إنما كان يلقي خطابه في ذروة طود عبقريته على العالم أجمع. وأولئك الرجال قد خلطوا بين المؤقت والدائم ولم يفرقوا بين الخاص والعام. وكما حدث في الكنيسة النصرانية كان كثير من أولئك الأئمة المسلمين خداماً للملوك المستبدين الجبابرة الذي كانت أغراضهم وغاياتهم لا تتفق مع وصايا الأستاذ (النبي) وأوامره. فكان أولئك الملوك يضطرون الأئمة المذكورين إلى استحداث القوانين والنظريات واختراع الأحاديث والروايات المنافية لروح الدين وإلى تأويل كلمات الوحي بما لا ينطبق على مغازيها الحقيقية ومن ثم ما نراه من أن معظم القواعد والنظامات التي تخضع لها عقائد الكثيرين من حضنة الإسلام اليوم لا يكاد يصخ القول بأنه مشتق من تصريحات الكتاب الحكيم (القرآن) بل أغلبه مستمد من كتب الشريعة التي غص بها العالم الإسلامي في القرون الأخيرة كما أن العبرانيين انصرفوا عن توراتهم إلى التلمود فكذلك انصرف المسلمون عن القرآن إلى آراء العلماء ورواياتهم. ولا نعني بهذا أنك إذا سألت مسلماً عن الكتاب المشتمل على أوامر دينه كان جوابه شيئاً خلاف القرآن ولكنا نعني أن القرآن ليس بالفعل مصدر التعليم التي تقوم عليها معتقداته وتصرفاته. وفي أثناء القرون الوسطى كان المرجع الذي يعمد إليه للفصل والقضاء في مسائل الدين المسيحي ليس هو العهد الجديد (الإنجيل) ولكن كتاب سوماتيولوجيكا تأليف توماس أكويناس وهذا هو الحاصل في هذه الأيام فإنك لا ترى الرجل النصراني الصحيح المذهب

يستمد عقيدته من نظره الخاص وبحثه الشخصي في تعاليم المسيح في الإنجيل. وإذا فرض أن مثل هذا الرجل أراد فعلاً أن يطلع بنفسه على شيء من الوحي المقدس لم يزد على قراءة قواعد الإيمان فإذا اتفق أنه كان بطبيعته ميالاً للبحث والتحقيق اقتنع بقراءة قانون إيمان الكنيسة الإنجليزية ولكنه يتبجح مع ذلك فيقول أنه استمد عقيدته ودينه من الإنجيل ولا يرضى أن يعترف بالمصفاة التي من خلال ثقوبها ترشحت عقيدته. وعلى هذا النحو يستمد الدين الإسلامي في هذه العصور ويقتبس وبهذه الطريقة يبنى ويشاد. وإذا تأملت الحقيقة وجدت أن جانباً عظيماً من معتقدات مسلمي هذه العصور وتصرفاتهم لا أساس لها البتة في الكتاب الحكيم (القرآن). ونحن مع كل ذلك لا ننكر أن كل مذهب من مذاهب الأئمة يشتمل على شيء كثير من بذور الإصلاح وجذور الترقي وإذا كانت أسباب التقدم قد انتقصت اليوم ودولاب الرقي قد تعطل فإنه لا تبعة في ذلك على الأئمة المشرعين ولا حرج. وإنما السبب فيه راجع إلى عجز في إدراك أسرار القرآن وروح تعاليم الأستاذ الأكبر بل تعاليم الأئمة أنفسهم.

تاريخ الزواج

تاريخ الزواج إن أول دور للزواج هو دور الإباحة المطلقة والمسافحة الخالية من كل قيد ونظام لا حائل يمنع الرجل من المرأة التي يريدها ولو كانت في حيازة غيره على أن حيازة النساء لم تكن معروفة في هذا الدور بل كن مشاعاً للرجال لا يستأثر أحد بإحداهن بل له أن يعاشر من يريد، ولا يوجد في القوانين والعادات ما يحرم عليه هذه المعاشرة على أن القوانين والعادات الاجتماعية كانت مفقودة في ذاك الوقت لأنها لا تنشأ بين الأفراد والمنعزلين وإنما تنشأ بين الجماعات ولم تكن الجماعات موجودة بعد بل كان الإنسان عائشاً في فئات صغيرة لا تكون اجتماعاً بالمعنى الذي يتولد عنه قيود وروابط اجتماعية. وكانت المعاشرة وقتية تنصرم في الحال ولا تلبث إلا ريثما يقضي الرجل غرضه وفي بعض الأحايين تطول إلى أن يفطم الطفل عن الرضاع ويصبح قادراً عن الأكل. ولم تكن للقرابة حومة تمنع الرجل من التمتع بذويه ولا يلحقه من جراء ذلك عار ومن آثار هذا إباحة قدماء المصريين زواج الأخوة بالأخوات وفي بعض نواحي أفريقيا إلى وقتنا هذا يتزوج الملك بابنته الكبرى والملكة بابنها الأكبر ليبقى الدم الملوكي نقياً لا يشوبه دم آخر. وكان التبذل غير مستهجن فلا يعيب الرجل أن يسترسل في شهواته ولا يشين المرأة أن تفرط في عرضها أو تتجر بعفافها بل كان العفاف رذيلة تترفع عنه النساء النبيلات ويستعيبن الامتناع عن إجابة رجل إلى طلبه. وكان لا يرغب في العذراء وإنما تحتقر وتزدرى لأن عذارتها دليل على خلوها من الصفات المحبوبة من الرجال. ومن حسن الضيافة أن يمتع الضيف بامرأة من نساء القبيلة وهذه عادات لا تزال موجودة إلى الآن بين قبائل الأسكيمو وكلفورنيا ونيوزيلندة. ولا يوجد عند القبائل الوحشية الحديثة العهد بنظام الزواج صيغة لفظية له بل ينعقد عادة بأفعال تفيد قبول أحد الزوجين معاشرة الآخر أو إذعانه كرهاً لهذه المعاشرة كأن تشعل نار ويجلس الاثنان حولها أو تقدم المراة لخطيبها قليلاً من التبغ وورقة من الفلفل أو يجلس الاثنان في وعاء من شأنه عادة أن يستعمل في حمل الماء ويوضع فيه بعض المأكولات، وعند الرومانيين يقتسم الزوجان فطيرة ويأكلانها سوية. والزواج لدى هذه القبائل ضعيف الوثاق سهل الانفكاك يكفي لحل قيوده أن يطرد الرجل زوجته ففي كلفورنيا الجنوبية يجوز للرجل أن يتزوج من النساء بقدر ما يريد ويعاملهن

معاملة الرقاء وإذا مل صحبة إحداهن طردها. وإذا أخرج الرجل في نيوزيلند امرأته من داره يعتبر أنه طلقها. وفي تاهيتي ينصرم حبل الزواج متى شاء أحد الزوجين. وفي القبائل التي تسود فيها المرأة على الرجل كسكان نيكارجوا الأقدمين تنفرد المرأة دون الرجل بحق الطلاق وكلما ارتقت القبيلة وازدادت حضارتها وتوثقت عراها الاجتماعية تقلصت تلك الفوضى من الزواج ونشأت حدود ومعالم لم تكن موجودة من قبل وضاقت الدائرة التي يجوز للرجل أن يختار منها امرأته، ومن أقدم أنواع التضييق تحريم الزواج من نساء القبيلة وإباحته من نساء القبائل الأخرى وذلك لا يكون إلا بالسبي والخطف، ومن القبائل ما يعمل العكس فيحرم الزواج من الأجنبيات ويبيحه من نساء القبيلة. وقد اختلف علماء الاجتماع في معرفة أي النوعين أقدم، الزواج من داخل القبيلة أو الزواج من خارجها، وأي القبائل أرقى في المدنية والحضارة، القبائل التي تحرم الزواج من بني نسائها أو القبائل التي تحرمه من الأجنبيات، والظاهر أن كلا الفريقين في مستوى واحد من الرقي فإنه يوجد على التلال الواقعة في الشمال الشرقي من الهند وفي القوقاس قبائل يلوح عليها أنها من أصل واحد لتشابهها في اللغة والخليقة، وعلى درجة واحدة من المدنية ومع ذلك بعضها يحرم الزواج من الخارج والبعض الآخر يحرمه من الداخل. إن منشأ تحريم الزواج من بين نساء القبيلة راجع على رأي بعضهم إلى ما غرسته الطبيعة في الإنسان من حب بقاء النوع والمحافظة على النسل من الضعف والتلاشي وذلك أن تعاقب الزواج من الأقارب يورث العقم ويمنع التناسل وهذا الرأي غير وجيه إذ لو كانت الغريزة هي التي دعت إلى تحريم الزواج من بين نساء القبيلة لوجب أن يكون التحريم عاماً لدى جميع القبائل، ولما وجدت قبيلة واحدة تبيحه، أجل إن التزاوج بين الأقارب مضعف للنسل إلا أن هذا ليس العلة الأولى في تحريمه فإن مساويه لم تستكشف إلا حديثاً والتحريم قديم جداً وسابق هذا الاستكشاف الذي يقتضي خبرة طويلة وقدرة على التفكير والتعليل وربط النتائج بالأسباب، ومثل هذه الأمور غير متوفرة حتى الآن بين القبائل الوحشية التي تحرم هذا الزواج. ويرى بعض العلماء أن العلة في سبي النساء الأجنبيات للزواج بهن راجع إلى قلة نساء القبيلة بسبب عادة وأد البنات أو لسبب من الأسباب الأخرى. ولكن الواقع يكذب ذلك فليس

معنى وأد البنات إبادة النساء وإفناؤهن عن آخرهن ولا إنقاص عددهن إلى ما دون عدد الرجال وإنما معناه حفظ التوازن بين الرجال والنساء وكان يقتل منهم العدد العظيم بسبب الحروب المتتابعة التي كانت تنتاب القبائل ولا يقتل من النساء إلا اليسير فعددهن والحالة هذه يزيد على عدد الرجال فاستن وأد البنات للتخلص من هذه الزيادة فقط لا لإبادتهم ولو كانت القبائل التي تخطف نساء القبائل الأخرى تفعل ذلك لقلة نسائها لما أباحت تعدد الزوجات ولكانت تمقته وتحرمه أشد التحريم بيد أن المشاهد أن سبي النساء مقترن دائماً بإباحة تعدد الزوجات وهذا كاف في تفنيد هذا الرأي. ويرى هربرت سبنسر أن عادة الزواج من خارج القبيلة ناشئة عن الحروب الطويلة التي كانت تضطرم نيرانها من وقت لآخر بين القبائل وذلك أنه في نهاية كل قتال يأخذ المنتصر من الغنائم والأسلاب ما كان سهل الحمل كثير الفائدة كالماشية والحلي والنقود أو يفخر به لدلالته على الشجاعة والاقتدار والتنكيل بالأعداء مثل الجماجم والآذان والشعور. والسبي الجامع لهاتين المزيتين فإنه يعلي قدر الرجل من حيث دلالته على الظفر بالأعداء ويكسبه زوجات يتمتع بهن وأرقاء يستخدمهن في مرافق حياته. وكلما ازداد عنده عدد هؤلاء النسوة ازداد غنى ورفعة فلا غرو أن تتفانى القبائل الحربية في اقتناء النساء المسبيات وتتيه بهن عجباً وفخراً وتعتبر الزواج بهن غاية المجد والشرف وتأنف رجالها من أن تتزوج من بين نسائها. وإذا عجز الرجل عن أن يقتنص في الحرب امرأة يتزوج بها احتال على خطفها حتى لا يكون مرذولاً عند قبيلته محتقراً بين أخوانه. ونشأ عن عادة سبي النساء وخطفهن، وعن تفكك روابط الزوجية وعدم الاعتداد بحرمتها انتساب الأطفال إلى أمهاتهم لا إلى آبائهم وذلك لتعذر معرفة الأب في معظم الأحايين ونشأ عن ذلك عادة أخرى وهي اعتبار البنات التي تولد في القبيلة من أمهات أجنبيات كأنهن كذلك أجنبيات يجوز لرجال القبيلة الزواج بهن. ولكن حينما تخلد القبائل الحربية إلى السكينة والسلام وتأخذ بأسباب التحضر لا تلبث طويلاً حتى تكف عن شن الغارات من أجل سبي النساء وتتهاون في تحتيم الزواج بالأجنبيات وتتلاشى هذه العادة وتزول ولا يبقى منها إلا آثارها فقط، وأول من يتخلى عنها طبقة الأشراف فهي التي تبدأ أولاً بالزواج من نساء القبيلة وتكتفي في ليلة العرس بتمثيل

ما كان يقع عادة من السبي من الكر والفر والضرب والامتناع لتأصل هذه الأمور في النفوس وتعذر انتزاعها منها مرة واحدة. ثم تسري العدوى من هذه الطبقات إلى الطبقات الأخرى وهذا شأن كل عادة جديدة فإنها تنشأ أولاً بين الطبقات العليا ثم تنتشر منها حتى تعم الطبقات السفلى. ولا يزال جيراننا ومواطنونا سكان شبه جزيرة سيناء عالقين بأهداب هذه العادات القديمة فإنهم في ليلة العرس يقوم الرجال ويتظاهرون بالدفاع عن العروس والزود عنها ويضربون العريس ويجلدونه بالسياط مكأنهم يحاولون منعه من خطف العروس وتمتنع هي عن الذهاب معه وتقابله بالضرب واللكم والسب وتساعدها في ذلك أترابها وكلما بالغت في ذلك علا قدرها وازداد إعجاب الناس بها. أما القبائل التي لا تقوى على قتال جيرانها الأشداء وتخشى بأسهم فإنها تبتعد عن كل ما يستفز غضبهم ولا تجرأ على أن تخطف امرأة منهم بل تحرم ذلك كل التحريم وتمقته كل المقت وذلك لشدة ما كانت تلاقيه من الويلات والمحن كلما قام بعض أفرادها واختطفوا امرأة تنتمي إلى قبيلة قوية - إن لخطف النساء وضعف الروابط الزوجية وإباحة المسافحة أثراً سيئاً جداً فإن المجتمع الذي يزاول هذه الأمور يكون مفكك الروابط مشتت الشمل لا تتآزر أفراده ولا تتعاون إنما تتخاذل وتتشاكس وذلك لأن عاطفة القرابة بينهم ضعيفة جداً تكاد تكون معدومة فإن الأطفال تنتسب إلى الأمهات لا إلى الآباء والانتساب إلى الأم قصير المدى لا يشمل غير الأطفال ومن عداهم فأجانب لا يحبونه ولا يشعرون نحو بعضهم بعاطفة قرابة أو نسب بل كل منهم قائم بنفسه لا يعنيه من شؤون غيره إلا قليل ولا يعرفون من القرابة غير الأمومة والأخوة على أن عاطفة الأخوة نفسها غير تامة بينهم لأن الأخوة عندهم أخوة لأم وليسوا بأخوة أشقاء. والمجتمع الذي بهذا التفكك والانحلال لا يستقر على حال من القلق ولا يهدأ له بال ولا ترتكز له قوة سياسية تجمع كلمته وتدفع عنه أذى أعدائه. ومن مساوئ هذا النظام إهمال الرجال شؤون الأطفال وعدم الاكتراث بهم والعناية بتربيتهم وترك كل ذلك على عاتق المرأة التي لا تقدر أن تقوم به على أحسن وجه فتضعف الأطفال ويصيبهم الهزال وتتفشى فيهم الأمراض الخبيثة ويحصدهم الموت حصداً ومن ينجو منهم

يعيش سقيماً طول حياته ويشيخ منم غير أوان ويدركه الهرم وهو في سن الشباب. تعدد الأزواج في وسط هذه الفوضى التي تكاد تكون مطلقة لا يخلو الأمر من أن يستأثر بعض الرجال ببعض النساء ويمنعوهن عن غيرهم ولو بالقوة أو يقصر رجل نفسه على امرأة مخصوصة أو على بضع نساء وبعبارة أخرى كانت جميع أنوا الزواج من تعدد الأزواج والزوجات والاقتصار على زوجة واحدة موجودة ولكن بلا نظام يحول دون التنقل من نوع إلى آخر والتعرض إلى نساء الغير إذا كان هذا الغير ضعيفاً. ولأسباب مخصوصة يضيق المقام عن تبيانها لتشعبها واختلافها بين قبيلة وأخرى يغلب أحد هذه الأنواع على الأنواع الأخرى ففي المناطق الجليدية من الصين حيث الغذاء قليل والطبيعة قاسية تتزوج المرأة بعدة رجال ليتعاونوا جميعاً على العناية بالطفل والاهتمام به وذلك أن رجلاً واحداً غير قادر على القيام بشؤون الطفل بل لذلك لا بد من تآزر رجال عديدين وإلا هلك الطفل وصغر الهيئات الاجتماعية وتشتتها في طلب الرزق أسباب تدعو إلى الزواج بامرأة واحدة وإلى إحكام رابطة الزواج واستمرارها مدى الحياة فالبشمن يبيحون تعدد الزوجات ولكن قل من يتزوج بأكثر من امرأة. ولا يوجد تعدد الزوجات إلا حيث يزيد عدد النساء على عدد الرجال زيادة عظيمة بسبب حرب طاحنة أودت بحياة كثيرين من الذكور أو لأن المواليد الإناث أكثر من المواليد الذكور لأسباب طبيعية غير اعتيادية إذ المعتاد أن الذكور والإناث متقاربون دائماً في نسبة المواليد إلا إذا طرأت ظروف أخلت بهذا التوازن. إن تعدد الأزواج آخذ في الاضمحلال وذلك لأن الجماعات التي تتبعه تكون حتماً قليلة النسل ضئيلة العدد لا تطيق الدفاع عن نفسها ولا تقوى على مناهضة أخصامها خصوصاً وأن روابط القرابة واهية ضعيفة لضياع الأنساب والجهل بالأسلاف لا يعرف الإنسان جده ولا أباه ولا تمت الأفراد بعضها إلى بعض بحبل القرابة إلا من جهة الأم فقط وقرابة الأم قصيرة المدى لا تمتد إلا إلى جيل أو جيلين على الأكثر ثم تنقطع وتصبح الأقارب أجانب ولا ينتصرون لبعضهم ولا بشد أحدهم إزر الآخر ويتنافس الأزواج فيما بينهم ويتنازعون الرئاسة وهو معروف بين القبائل التي تعيش في الداخل من جزيرة سيلان حيث يجوز للمرأة الغنية أن تتخذ من الأزواج بقدر ما تريد وبين قبائل الأسكيمو حيث يجوز للمرأة أن

تتزوج بعدة رجال ولكل رجل من هؤلاء أن يتزوج بعدة نساء. وهو على أربعة أنواع: - النوع الأول أن تتزوج المرأة بعدة رجال لا قرابة بينهم ويتزوج كل رجل من هؤلاء الأزواج بعدة نساء وبعباة أخرى يتكون هذا النوع من مزيج من عائلات تجمع بين تعدد الأزواج وتعدد الزوجات فيكون لكل رجل عدة زوجات ولكل امرأة عدة أزواج مثل قبائل الأسكيمو. النوع الثاني أن تتزوج المرأة بعدة رجال لا قرابة بينهم أيضاتً ولكن لا يسمح للرجل بأن يتزوج بامرأة أخرى بل يقصر نفسه على امرأة واحدة ولا يتعداها إلى غيرها. النوع الثالث أن تتزوج المرأة بعدة رجال بعضهم أقارب بعض. النوع الرابع أن تتزوج المرأة بعدة رجال أخوة. وأحط هذه الأنواع وأقربها إلى الفوضى النوع الأول وذلك لأن الطفل الذي يولد في هذه البيئة لا يعرف أباً ينتسب إليه ولا يجد عطفاً من أحد. ومن يعطف عليه والرجال لا يعرفون أولادهم بل لا يمكنهم أن يعرفوا أن لهم أولاداً حقيقة ولا في أي فئة من الأطفال الذين يغشون أمهاتهم توجد أولادهم حتى يشملوا هذه الفئة خاصة بالعناية والرعاية حباً بأطفالهم. أما الأنواع الأخرى ففيها مكان للشفقة الأبوية فإن الرجل وإن كان لا يعرف ولده تحقيقاً إلا أنه من مفروض أن هذا الولد إن وجد فهو موجود بين أطفال المرأة المتزوج بها ومن الجائز أن يعرفه بواسطة العرافين أو بأخبار المرأة بذلك، ويمتاز النوعان الثالث والرابع بكون الأزواج أقارب أو أخوة وبذلك لا تكون أطفال المرأة الواحدة أخوة لأم فقط بل يكونون بين أخوة أشقاء أو أولاد أعمام تجمعهم وحدة الدم ورابطة القرابة الأبوية. ولكنهم لا ينتسبون إلى أب واحد بل إلى مجموع الأزواج الذين ينتسبون هم أيضاً إلى مجموعة أجداد وهلم جرا. تعدد الزوجات تعدد الزوجات لا يوجد إلا في البلاد التي يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال زيادة عظيمة أما البلاد التي يتساوى فيها العددان أو يكونان قريبين من بعضهما فإنها تحرمه بتة أو تمقته وذلك لأن زواج البعض في هذه الحالة بأكثر من امرأة يحرم البعض الآخر من وجود نساء يتزوج بهن ويقضي عليه بالعزوبة طول حياته. ولهذاالسبب ولأسباب أخرى

أهمها زيادة الحاجيات والتغييرات التي طرأت على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية أصبح تعدد الزوجات ممقوتاً من الذوق العام بعد ما كان من المفاخر التي يتسابق إليها الأغنياء ويحسدهم عليها الفقراء وأمسى زوج الاثنين يخجل من أن يعلم عنه ذلك ذلك فيخفيه وكان بالأمر يظهره ويتيه به على الأخوان. إن تعدد الزوجات غير خاص بالشعوب الإسلامية بل شائع بين أمم أخرى كثيرة مختلفة العادات والأديان والأجناس والمناخ فتراه في نيوزيلاندة وصومطرة وفي شمال أمريكا وجنوبها وفي مجاهل أفريقيا وجنوبها وشرقها وفي الكنجو ومدغشقر وفي كثير من نواحي آسيا ومباح أيضاً في بلاد أخرى كثيرة ولكنه غير معمول به فيها لأسباب عديدة أهمها الفقر مثل البشمن فإنهم يجيزون تعدد الزوجات غير أنه نادر بينهم لشدة فقرهم. وحيثما يوجد تعدد الزوجات يوجد الزواج بامرأة واحدة على نسبة أعظم فلا ترى بلداً انفرد بها تعدد الزوجات أي لا يتزوج الواحد من أهلها إلا باثنتين أو أكثر بل المشاهد في جميع البلاد التي تبيح تعدد الزوجات أن المتزوجين بأكثر من امرأة أقلية صغرى وأن الأكثرية تكتفي بالزواج بامرأة واحدة. ويرجع تعدد الزوجات في أصل وجوده إلى سببين مختلفين أحدهما تاريخي والثاني اقتصادي فالأول يرجع إلى عهد القبائل الحربية وتعديها على جيرانها لسلب الأموال وسبي النساء وإلى تفوق بعض الأفراد جثمانياً وعقلياً وتفردهم بالسطوة والجاه وأخذهم كل امرأة تعجبهم من القبيلة اقتساراً، والسبب الثاني يرجع إلى استخدام المرأة في الأعمال الشاقة وذلك أن الرجل في بعض البلاد لا يزاول عملاً ما غير الصيد والقتال، والمرأة هي التي تقوم بكل الأعمال الأخرى فيقتني الرجل من الزوجات بقدر طاقته ليستخدمهن في أعماله ويستثمرهن في إنماء ثروته وكلما كثرت نساؤه ازداد غنى وخف بالتالي الحمل الملقى على عاتق كل منهن ولذا لا تجد النساء في هذه البلاد ينكرن على أزواجهن الإكثار من الزواج ولا ينقمن عليهم من أجل ذلك بل على العكس يفرحن له. سبق أن بينا أن الارتباط العائلي والاجتماعي في الجماعات القائمة على نظام تعدد الأزواج ضعيف واه يكاد يكون في حكم العدم لجهل الإنسان بآبائه وأجداده أما الجماعات القائمة على نظام تعدد الزوجات فالروابط العائلية والاجتماعية فيها أشد وأمتن لوجود صلة الدم

والنسب بجانب صلة المصاهرة وعلم الناس بها ومعرفتهم لها واحترامهم إياها. ولكن لتعدد الزوجات مضار عظيمة، منها فقدان المحبة والإخلاص بين الرجل وزوجاته وتجرد علاقات الزوجين ببعضهما من روح الكمال والجمال واقتصارها على إشباع الرغبات المادية فلا تخلص المرأة لزوجها الود ولا تغار على صالحه كثيراً ولا يعني الرجل بشؤون امرأته ولا يعتد بما تحب وتكره بل يهملها ويهمل أولاده منها ويتركهم لعنايتها من غير أن يرعاهم هو أيضاً ويتدبر أمورهم وما أضر هذا الإهمال على الأطفال، يورثهم أمراضاً كثيرة مادية وأدبية. وقد ذكر بعض السياح أن سود أفريقيا لا يغازلون نساءهم ولا يغارون عليهم ولا يفقهون معنى الحب بل ولا توجد في لغاتهم لفظ يدل عليه. وأشد من هذا، الكراهية التي يبذرها تعدد الزوجات بين الأخوة لأب فإنهم يشبون على البغضاء الضغينة ويضمرون لبعضهم الحقد لكثرة ما يقع بين أمهاتهم من التحاسد والشقاق وما تلقنه كل أم لأولادها من بغض الآخرين وما أشد ما لاقته الدول الشرقية من جراء تعدد الزوجات فإنه لا يكاد الخليقة أو السلطان يموت حتى تهب الثورة وتتمزق أحشاء الدولة وتنقسم إلى فرق وأحزاب يقود كلاً منها أحد أبناء السلطان المتوفي ليحارب أخاه لأبيه ويغتصب منه الملك ولقد تلافى أحد السلاطين هذه الكارثة بأن ذبح جميع أخوته حين جلوسه على العرش واستأصل شأفتهم ولا تزل بعض العائلات الشرقية تتقلب على أحر من الجمر وتصطلي جذوة الانقسام والشقاق بسبب تعدد الزوجات. يتوهم البعض أن تعدد الزوجات يفضل الزواج بامرأة واحدة من حيث التناسل وزيادة السكان ونمو العمران وهو وهم لا أساس له من الصحة إلا في حالة واحدة وذلك حينما يفوق عدد النساء عدد الرجال بكثير أما إذا كان العددان متساويين أو متقاربين فالزواج بامرأة واحدة خير وأدعى إلى التكاثر فإن المتزوج بنساء كثيرات لا يسعه أن يلتفت إليهن جميعاً على السواء ويساعدهن على أداء وظيفتهن التناسلية بدون محاباة بل لا بد أن يهمل بعضهم لعيب فيهن ويفقدن وظيفتهن وبقدر عدد هؤلاء النسوة المهملات تقل نسبة المواليد. إن الاقتصار على زوجة واحدة خير من تعدد الزوجات فإنه يدعو الزوجين إلى التآلف والوداد ويغرس في قلوب الأطفال محبة بعضهم البعض ويجعل من أفراد الأمة كتلة صلبة عمادها التضامن الاجتماعي ولحمتها الارتباط العائلي المتين.

عبده البرقوقي

حديث المائدة

حديث المائدة لعل قراءنا الأفاضل لم ينسوا أنا نشرنا في هذا الكتاب الرائع نحواً من اثني عشرة قطعة مختارة في السنة الثانية والثالثة والرابعة - وقد طلب إلينا اليوم أن نعود إلى هذا الكتاب فنستوعب أطيب ما فيه كما طلب إلينا أن نعود إلى حضارة العرب في الأندلس وإلى دون جوان للشاعر بيرن - وحديث المائدة هذا كما بينا في غير مكان من هذه المجلة يقع في ثلاثة أجزاء فجزء للشاعر وآخر للأستاذ - ونحن الآن نختار من جزء الأستاذ والكتاب للكاتب الأمريكي الأشهر وندل هولمز. (13) قال الأستاذ: أردت أن أجعل أو لظهوري على المائدة محلى بكلمة نبيلة وحكمة جليلة تكون بمثابة قانون عام ووصف دقيق للحياة البشرية. فوجهت نظري إلى رجل فقيه من رجال الكنيسة كان جالساً أمامي لأجاذبه أهداب المحاورة حتى تسنح الفرصة فأقذف بين يديه بالكلمة النبيلة والحكمة الجليلة أعني الغرض الأهم الذي ترمي إليه هذه الحياة فقلت له: تفضل عليّ بقطعة من السكر الذي أمامك يا سيدي. الإنسان حيوان محتاج إلى معونة بني جنسه. فقال الفقيه: ما أقلّ ما سألتنيه يا سيدي. ثم ناولني السكر. فقلت: الحياة حزمة كبيرة مؤلفة من أمور صغيرة. فابتسم الفقيه كإنما ظن أن كلمتي هذه هي خاتمة عبارات الشكر والثناء الموجهة إليه بمناسبة مسالة السكر. فقلت له: أراك تبتسم، لعل رأيك في الحياة هو أنها حزمة صغيرة مؤلفة من أمور كبيرة. فقهقه الفقيه ضاحكاً ولكنه كبح جماح ضحكته ثم قال: الرأي عندي أن الحياة حزمة كبيرة مؤلفة من أكور كبيرة. وهنا رأيت الفرصة قد سنحت لإبراز الحكمة الجليلة فانبريت أقول: الغرض الأعظم من هذه الحياة. . . في هذه اللحظة قاطعني جاري وكان فتى حديث السن يدعونه جون فقط بلا لقب ولا كنية. فقال لي: صه! أنصت إلى رأس الغول فإنه يريد أن يتكلم.

فتلفت حول المائدة أفتش ببصري على رأس الغول الذي أشار إليه جاري جون فأبصرت لدى الطرف الأقصى من المائدة رأساً كبيراً فوق جثة ضئيلة معوجة مشوهة موضوعة فوق كرسي عال قد رفع محموله (أي الجالس عليه) إلى مستوى المائدة وأصاره بمتناول سهل من طعامه. وكان منظر هذا المخلوق من فرط غرابة التشويه وقبح الهيئة بحيث يخيل إلي أو أنه إحدى لعب الأراجوز وأن وراءه محركاً مستتراً قد أبرزه هنيهة تأملاً وعما قريب يسحبه ويبرز لعبة أخرى من تصاوير حرفته وتهاويل مهنته. فأقبلت أنصت إلى مقالة هذا الرجل المشوه فإذا هي كما يأتي: بلدي بوستون إنه محتدي ومسقط رأسي وفيه أريد أن أموت وأقبر وفي ترابه المحبوب تدفن عظامي ويغيب رفاتي، ولا تعيرونني بضيق مساحة بلدي وتواضع بنيانه وتهدم بعض أركانه واعوجاج طرقاته والتواء مسالكه. فلقد ولدت بأشدها اعوجاجاً وفيه درجت وترعرعت وفي تعاريجه الملتوية رتعت ومرحت. فقال الفتى جون بصوت خافت لم يسمعه المحدث المشوه الخلقة وسمعته أنا لأني جاره وملاصقة لا عجب أنك لطول جولانك في مسالك بلدك المعوجة خرجت كأنما أفرغت في قوالبها فأتيت أشد الخليقة تلوياً واعوجاجاً. هذه الكلمة لم تصل إلى أذن الرجل الدميم الضئيل فاستمر في مقاله. أجل، إن مدينة بوستون مملوءة بالطرق الحرجة المعوجة ولكني أقول واصرح بأنها قد فتحت من الطرق المؤدية إلى حرية التفكير وحرية القول وحرية العمل أكثر مما فتحته أي بلدة أخرى حاضرة أو غابرة - حية أو ميتة - مهما بلغ من سعة سبلها وارتفاع مناراتها!. وهنا دخل في حلبة الحديث رجل من أصحاب المائدة نبيل الهيئة له سمت وأبهة وكبرياء وروعة أسود الشاربين غزيرهما عليه صدرية ممن القطيفة وسلسلة ضخمة ذهبية ودبوس من الماس قد بلغ من فرط الضخامة ما يدعو إلى ظل خفيف (لا تخطئ غرضي أيها القارئ - فإني لا أعني أكثر من ظل خفيف فقط) من الشك والارتياب بحقيقة جوهره وكنه معدنه. هذا الرجل ينتمي إلى مدينة عظيمة من أعيان مدائن البلاد (الولايات المتحدة) وهو يجلس على المائدة إلى جانب ابنة صاحب الفندق - فنتاة حسناء عظيمة الثقة بصاحبنا المذكور راسخة العقيدة في حوله وقوته وهي أيضاً موضع اهتمامه وعنايته ومطمح أمله

ورغبته. قال هذا الرجل: ما مبلغ ارتفاع دار الندوة (مجلس الشورى، مجلس البلد الذي هو أشبه بمجلس المديرية أو البلدية) في بلدتك بوستون؟ قال الرجل المشوه: ما مبلغ ارتفاع دار ندوتنا؟ ارتفاعه يوازي أول درجة في السلم المؤدي إلى ذروة الفكر الحر واستقلال الإرادة والعمل، أليس ذلك كافياً؟ فقلت: أجل إنه لكذلك. وهنا ألقي بالحكمة الجليلة التي قد ضاق بها صدري وصبري فطرحتها على بساط المحاورة دون انتظار الفرصة أو المناسبة فقلت: الغرض الأعظم من الحياة هو التوفيق بين الإنسان وبين ظام الكائنات. وقد قامت الكنيسة بذلك إذ كانت هي الآلة الموسيقية الوزانة التي بفضلها تتم الموازنة والملاءمة بين نظام الإنسان ونظام الكائنات. ولكن هذه الآلة الوزانة (أعني الكنيسة) تحتاج هي ذاتها إلى ضبط وميزان. فمن ذا الذي ترى يقوم بوزنها وضبطها؟ فتقدمت للكلام امرأة حادة الصوت حادة الطرف حادة المفاصل حادة الأخلاق عليها ثوب أسود كأنما كانت لبسته في الأصل للحداد ثم أبقته بعد ذلك على سبيل الاقتصاد فقالت: إذا كنت تطلب من يقوم بضبط هذه الآلة الوزانة (أي الكنيسة) التي وظيفتها التأليف بين نظام الإنسان ونظام الكائنات فعليك بالإنجيل. فقلت لها: هذا كلام مستحسن ولكن فيه مجالاً لشيء من التعليق والتعقب تقولين اذهب إلى الإنجيل وقد غاب عنك أن الإنسان إنما يستمد من الإنجيل بمقدار ما يحمل إليه - أعني بمقدار ما يحتويه صدره من العلم بالحياة والخبرة بشؤون الدنيا المكتسبة بالنظر والتأمل والتجارب فضلاً عن سلامة الفطرة ونفاذ البصيرة. وأنت إذا قارنت بين نظرة الرجل الساذج في الكتاب المقدس وبين نظرة رجل مثل مارتين لوثر صاحب المذهب البروتستانتي أو قارنت بين اطلاعة تلميذ من طلاب الأدب على بعض صفحات شكسبير وبين اطلاعة مثلها من النقادة الجهبذ (وليم هازليت) أو العلامة الضليع (وليم سكليجل) اللذين فنيا العمر في دراسة نفثات ذلك الشاعر الأكبر فأي فرق بعيد وأي بون شاسع. وإنما مثل الأذهان البشرية المختلفة في انغماسها في كتاب أحد الفحول العظماء واستمدادها العلم من ينابيعه كمثل المواد المختلفة الجوهر تغمسها في سائل بعينه فإنها لا تأخذ كلها من السائل بمقدار واحد بل كل واحدة تتشرب منه على قدر كفاءتها وقوتها أو كما يقول علماء

الكيمياء على قدر قابليتها فهي لا تزال تمتص من السائل حتى تتشبع تماماً أي حتى تبلغ أقصى غاية التشبع الت يسميها أولئك الكيماويون نقطة التشبع وعلى هذا الحد فإن قابلية التشبع في ذهن مارتن لوثر وذهن وليم هازلت أو ذهن وليم سكليجل أعظم بمقدار غير محدود منها في ذهن الرجل الساذج أو تلميذ الأدب كما أن نقطة التشبع في تلك الأذهان الهائلة الرهيبة أبعد بمسافة غير محدودة منها في ذهن ذلك التلميذ أو ذلك الساذج. فلا يفوتك أيتها السيدة أن الرجل الذي قد عاشر الناس ولابسهم وخبرهم وجربهم - الذي قد سبر أغوارهم وقاس أعماقهم - الذي قد عامل القساوسة والشمامسة والأساقفة وساومهم وعقد معهم عقود المبايعات والمقارضات بدلاً من مجادلتهم في المسائل الدينية والنقط الفقهية - اتضح له بعد طول الممارسة أن الدنيا تشتمل على عدد عديد من الغدرة الخونة المتنكرين فقي ثياب الأخيار والفجرة المكرة المتظاهرين بهيئة الأتقياء الحاملين شعار القديسين والأبرار - والذي يفضل غوصه على درر الحقائق في أوقيانوس الحياة وبفضل إفضائه وخلوصه إلى لباب الإنسانية وصميمها وجوهرها - أدرك أن جميع ما تنطوي عليه صفحات الكتب المقدسة من روح الله وسره وآياته إذا قورن وقيس بالموجود في السموات والأرضين وكا بينهما وفي غضون لجة الإنسانية المائجة الملتطمة المضطربة وفي أنحاء هذا الشعور (أعني الحياة) الحي المتدفق العديم الحصر والحد ظهر كأنه نقطة في القوس الكهربائي الهائل العظيم الذي يصل ما بين قطبي الأبديتين - (1) قطب الأبدية الماضية (أبدية القدم) السالب و (2) قطب الأبدية المستقبلة (أبدية الخلود) الموجب - أجل إن أمثال هذا المجرب الخبير جدير أن يدرك في النهاية أن كل ما تستطيع الكتب المقدسة أن تحتويه من الروح والسر الإلهي هو بالقياس إلى ما تحتويه بطارية هذا الكون المتحركة الفعالة كذرات التبر المطلية بها صفحات كتاب مؤلف من الأوراق الذهبية الرقيقة إذا قيست بالكامن في أحشاء الأرض من كتل الذهب وأفلاذ العسجد. أجل إن الرجل المتقلب بين الأحياء يسمع كلماتهم ويبصر حركاتهم ويفهم نواياهم ويدرك خباياهم لجدير أن يعلم من الأمور والمسائل ما لم يكن ليجده بين دفات إنجيله. لقد انقرض ذلك العهد الذي كان فيه علماء الدين والفقه والفلسفة يحبسون أنفسهم في حجراتهم ويخندقون حولها. أما إنك لن تستطيعي أن تحبسي الغاز في مثانة ولا العلم في دماغ العالم الفني والأخصائي إذ في

الحالة الأولى لا بد أن يتسرب من منافس المثانة فيخرج بعضه من حيث يدخل الهواء فيحل محله نتف متفرقات من المعلومات العامة - فهذا ما لا بد من أن يحدث ولو عصبت دماغ ذلك الأخصائي وحصنته ولففته في خمسين غلاف من دبلوماته العديدة المصنوعة من الجلد السختيان أو المسكوفي. هذا رأيي ومعتقدي وإني لأقسم لك بأغلظ الإيمان أنه ما لم يمزج الطب بشيء من البديهيات والتجارب وما لم تمزج العلوم الدينية بشيء من الأمانة والصدق فلسوف ترانا نحن الأمة نثب ونثور فننقض على ما تحتوي هذه الصروح الثلاثة - الدب والدين والقضاء - من شرفات الهذر والهراء والهذيان بالمعاول والفؤوس والقضب والصوالجة فندمرها تدميراً ونردها أنقاضاً مهدمة كأن لم تغن بالأمس. إذا أراد المرء أن يكون من مذهب المحافظين (الذين يذهبون إلى وجوب إبقاء القديم من العادات والمذاهب والنواميس والشرائع) فليكن في ذلك معتدلاً أي أنه لا يكون جامداً البتة. فإما أن يترك الإنسان مصارف روحه وبالوعاتها مسدودة ونوافذها مغلقة فيحجب أشعة النور من المغرب وأنفاس النسيم من المشرق - ويترك الفيران مطلقة تعيث وتفسد في مخازن المؤن والذخائر، والديدان والحشرات تملأ بطونها في الحجرات والمقاصير، والعناكب تحيك نسيجها وتضرب خيامها على المرايا حتى يتولد تيفوس الروح بسبب الإهمال فنغط في سبات غشيته. أو نهذي في حميا سوريته، فذلك ما لا يصح لعاقل قط أن يفعله. لقد أطلت الكلام جداً وأفرطت إطناباً وغسهاباً. ولكن ذلك دأبي وديدني ولا عجب فأنا أستاذ المائدة وماذا عسى تنتظرين من أستاذ ميدانه قاعة التدريس وأفراسه كرائم الكلم المهذب وغاياته دقائق المعنى البديع وقد قضى أيامه يتكلم وغيره ينصت، لا أنكر أن ذلك قد يكون من معايبي ولكن لا حيلة لي وليس في طاقتي تغيير خلقي. ولقد أذكر كلمة قالها لي صديقي وسلفي في زعامة أصحاب المائدة أعني (المتصرف في نادي المائدة) بهذه المناسبة وفي هذا الصدد إذ قال لي ذات مرة: خبرني أيها الأستاذ، أرأيت إذا كنت تقول ولا تصغي لقائل وتسلب ذهنك حلي الحكمة ولا تكسوه من أسلاب غيره من اللباب الحالية وتستنبط مت ينابيع صدرك ثم لا تمدها بفيوض القرائح الثجاجة، ألا تخشى أن يصاب ذهنك يوماً ما بالجدب والمحل وبالعقر والعقم؟ سأحدثك بحديث لي

يشبه عملك هذا عسى أن يكون لك عبرة وموعظة اجتمع عندي مرة مبلغ من النقود فأودعته بعض المصارف وأخذت عنه دفتراً من الشيكات يمكنني من سحبه على دفعات ملائمة لمقتضيات الحاجة. فاستمرت الحالة على أحسن ما يرام مدة من الزمن كلما أردت المال بعثت بواحد من الشيكات إلى البنك فعاد إلي بالضالة المنشودة كعفريت سليمان قبل أن يرتد طرفك وكأنما دفتر شيكاتي هذا قاموس من قواميس الأحكام النافذة والأوامر المطاعة اينما فتحته أصبت منه ما شئت من مترادفات اللذة والسعادة ففي ذات يوم وقد أرسلت شيكاً إلى البنك رد إلى الشيك مكتوباً عليه قد نفذت ذخيرتك - إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد أصبح دفتري كمية من الأوراق المهملة! وهكذا يكون مصيرك أيها الأستاذ إذا بقيت تنفق من بنك معلوماتك بإدمان الحديث دون أن تمده بالذخيرة عن طريق الإصغاء للغير. وسيجيء يوماً تريد أن تسحب من مصارف ذهنك فيرتد إليك الشيك مكتوباً عليه قد نفذت ذخيرتك. فقلت: هذا كلام لا بأس به ولكني أعلم أن الحياة أسرع إلي ضرب دنانير الأفكار وصوغ نقود الآراء من لساني إلى صرف هذه العملة على شكل ألفاظ ولكمات. أفرأيت أنك لو عمدت إلى أزهار بستانك لتمسح بمنشفتك قطرات الندى من عيون نرجسها وخدود وردها وثغور أقاحها في ريعان بكرة صلة أو في ظلال عشية مطلولة أتظن أن أزاهيرك تبقى بعد ذلك عاطلة من عقود الندى وقلائد الطل أم تصوغ لها يد السماء من جمانها ولؤلؤها حلياً جديدة؟ لا مراء أنك لا تلبث أن تجدها محلاة بل أبهى مما سلبت يداك درراً صغاراً وكباراً. ولآلئ عوناً وأبكاراً. ها أنا ذا أستاذ المائدة - رجل ما زال يقطف أزهار الحياة حتى بلغ إلى ثمارها فلم يجدها في كل الأحايين مرة شاحبة الصبغة حزينة اللون بل وجدها أحياناً حلوة بهيجة اللون مصقولة الأديم، رجل كان يتعثر وسط الكتب والمؤلفات طفلاً صغيلاراً وإذا مد الله من أجله فلسفو يتعثر بينها شيخاً متهدماً كبيراً - رجل مملوء ذهنه بأفكار وخطرات هي على علاتها جياشة نغازة قد صيرت ذهنه أشبه شيء بالساق النائمة التي إنما سميت نائمة لفرط يقظتها وتنبه أعصابها - فامتلاء ذهنه بالخطرات النغازة هو كامتلاء الساق النائمة بالأبر والأشواك الوخازة. رجل يعرض من لوح قلبه على مؤثرات الحياة وعوامل الكون عوداً

رناناً أوتاره المشاعر الحية والعواطف الحساسة - رجل له معرفة بالخيوط الدقيقة والألياف الرقيقة المكون منها ذلك النسيج المهلهل الذي نسكنه نحن معشر الحشرات الآدمية الطنانة الصخابة برهة قصيرة ننتظر ذلك العنكبوت الشاحب الرهيب المسمى الموت - رجل راض مستسلم لحقائق الحياة المرة القاسية وإن كان يحمل في يده مفتاحاً ذهبياً لمارستان خصوصي في أعماق نفسه لا يعلم به سواه ولا يطلع عليه غيره مملوء بالخيالات الخرافية والأوهام الخزعبلية والأحلام الكاذبة والأماني الخداعة الجنونية - رجل هو أميل إلى إرسال ذهنه يرتع في أفانين شتى من رياض الفكر والتأمل من أن يقصره على ينبوع واحد من صنوع الآبار العلمية يغوص فيه حتى يسبر أغواره ويبلغ قراره - رجل يعنى بأدق دقائق الكون وأجل جلائله على حد سواء لا ينصرف عن تأمل ألطف ذرة في تركيب أضأل جراثيم الأرض استصغاراً ولا عن تدبر نظام أروع أبراج الفلك استعظاماً واسكتباراً - رجل هذا مزاياه وخلاله أتظن أنه لن يجد على مائدة الكون - بعد أن التهم سلفه (المتصرف) ما أصاب عليها من العلف والزاد - شيئاً يشبع جوعه ويسكن شغفه بطلب العلم وولوعه!. إن عملية التفاعل أعني التجاذب والتدافع والتآلف والتنافر والتمازج والتزايل بين ذهن الإنسان وجو انسلنية المحيط به لهي عملية دائمة ومستمرة سواء أراد ذلك أم لم يرد فهي كعملية التفاعل بين دمه وبين الهواء الذي يتنفسه في رئتيه. وكما أن لعملية التفاعل الحادثة بين الدم والهواء المتنفس نتيجة أي حاصل أي مادة جديدة ناشئة من اتحاد بعض عناصر المادتين المختلفتين بعد تحلل كل مادة إلى عناصرها المكونة لها - فكذلك عملية التفاعل الحادثة بين الذهن وحو الإنسانية المحيط به لها نتيجة أي حاصل يمكن التعبير عنه باصطلاح الكيماويين بأنه المادة الغازية المتخلفة عن عملية الاحتراق الذهني أو عملية الفكر المحترق - أو باصطلاح الفيسيولوجيين بأنه إفراز عملية التنفس الذهني - هذا الحاصل الناتج عن عملية التفكير لا يمكن إحرازه ونيله أي إخراجه إلى حيز التعبير الصريح الواضح الجلي إلا بشرطين أساسيين وهما (1) موافقة صاحب التفكير المحدث من أذهان سامعيه جواً ذهنياً تكون درجة حرارته ملائمة مناسبة و (2) قابلة (هي في اصطلاح الكيماويين الوعاء الذي تنتهي إليه خلاصة العملية الكيماوية أعني الحاصل الكمياوي وهي هنا كناية عن درجة استعداد السامعين وقابليتهم لفهم مغازي

الحديث) صالحة ملائمة. ولذلك كان حسن التعبير عما يجيش بالنفس من أشق المشاق في كثير من الأحايين ولا سيما عندما تحولب دونه عقبات وموانع من كدورات الذهن وارتباكاته أو من علل البدن وآفاته. فلقد حدثني مرة عالم مشهور وأديب مذكور فقال أنه لما أراد أن يلقي أول محاضراه ضاق عليه مجال القول وانحبس به عنان الكلام فأتم محاضرته في ربع ما كان قد حدد لها من الزمن وأحس كأنما قد أنفذ ذخيرة معلوماته ونفض إلى السامعين جملة معارفه ومحفوظاته. وخرج مرة إبراهيم (نبي الله) إلى قومه لينشدهم إحدى أناشيده المعروفة المألوفة فارتج عليه فلم يفه ببنت شفة إذ خانته الذاكرة وطفق يكد القريحة لتجود له بفاتحة الأنشودة وعبثاً حاول فلم يجد مخرجاً من هذه الأزمة إلا شرح الحالة إلى الجموع المحتشدة لسماع أنشودته فأسعفوه فوراً فصاح منهم ألف صوت في نفس واحد بما قد نسيه من فاتحة تلك الأنشودة. وقد كان الشاعر المقدس (جون ملتون) لا يجيد قرض الشعر ولا توحي إليه ملائكته (لا أقول شياطينه) إلا في موسم محدد من العام - من منتصف الخريف إلى منتصف الربيع. وأعرف رجلاً من مشاهير الخياطين من سلالة الشاعر المذكور لعله قد ورث شيئاً من دقة إحساسه ورقة شعوره وفرط تأثره بألطف المؤثرات وأخفى الأسباب والعوامل فمما حدثت عن ذلك الرجل أنه ترك مرة أحد الزبائن يفلت من قبضته دون أن يشتري حلة من بضاعته وكان إلى جنبه إذ ذاك صاحب لي فقال له ذلك الخياط النابغة وضرب بيده على جبينه (تباً لهذا الصداع. أما والله لولاه لألبست هذا الرجل حلة برغم أنفه) عجيب وايم الله! نبضة خفيفة في رأس ذلك الخياط ولكنها عطلت تلك الآلة الدقيقة (الذهن) التي من شأنها استدراج الآدمي الطارئ (س) إلى الدخول في قطعة معلومة من القماش (ص). مثل الرجل المفكر في أول ظهوره وتسليط أفكاره الحادة على ما يحيط به من العادات والعقائد والتقاليد المرلفة من مزيج من الحق والباطل كمثل الكيماوي الذي يصب أحماضه الحادة على المواد القلوية فيحدث تفاعلاً بين الحامض والقلوي ينتهي باتحاد العناصر المتآلفة من الفريقين وصيرورتها ملحاً متعادلاً لا هو بالحامض ولا هو بالقلوي. فهذا الملح المتعادل هو الرأي النهائي للرجل المفكر عن أي نظرية أو مشكلة من المسائل ومتى وصل إلى هذا الرأي الأخير الناضج ألقى كانونه وبودقته. ومخباره وأنبوبته. ووضع ملحه

المستخلص في زجاجة ثم جلس فاستراح وادعاً مغتبطاً. ولهذا السبب تراني إذا دخلت إحدى المكاتب فرمقت المؤلفات والمصنفات في قماطرها خيل إلي أنها دكان كيماوي دهني مملوءة بأصناف الأملاح على اختلاف أشكالها وألوانها مما هو نتيجة اتحاد الفكر الفردي مع الحوادث المحلية والنظريات العامة.

نابليون في منفاه

نابليون في منفاه كلمة للشاعر الكبير اللورد بيرون عن نابليون في منفاه مذيلة بنبذة فلسفية في مطامع الملوك والغزاة والفاتحين وأصحاب الثورات الفكرية والانقلابات الدينية - وخواطر في موضوع الوجدانات والعواطف - وهذه الكلمة مختارة من قصة دون جوان. لقد هوى أعظم الناس - ولا أكذب إن قلت - وأصغرهم - ذلك الذي جمع الضدين، وضم النقيضين، فبينا يحاول من الأمور أجلها، إذا هو يزاول أضألها وأقلها غلو في جميع شأنه وإغراق! ولو توسطت أيها الجبار لبقي لك سلطانك أو لعلك لم تكن لتناله البتة ولا كنت ارتقيت إلى عرش ولبقيت إلى عرش ولبقيت كأصلك في غمار الناس مغموراً. وفي زوايا الخمول والغموض مستوراً. فإن غلوك في الجرأة وتطرفك في الطموح هو الذي سما بك ورفعك. وهو أيضاً الذي هوى بك وخفضك. ومن عجب أنك لا تزال حتى الساعة تحاول استرداد سلطانك فتتبوأ أريكة العالم ثم تزلزل أركانه وتزعزع بنيانه وتصفق فوقه بأجنحتك الهائلة المخوفة وتصم آذانه بزماجرك العاتية العنيفة كأنك في سمائه المكفهرة إله البرق والرعد. مالك الأرض أنت وأسيرها. وفاتح الدنيا وسجينها، واراها لا تزال ترتعد وتنتفض لمجرد ذكرك. وإن اسمك المخوف قد أصبح الآن أبشع ما كان إذا أصبحت لا شيء - اللهم إلا سخرة الصيت الشائع، وهزأة الذكر الذائع. وأضحوكة الحظ الذي سجد لك حيناً طوع إشارة بنانك، عبد دولة سلطانك. حتى عددت نفسك إلهاً مرهوباً ورباً مخشياً مهيباً. وكذلك عدك العالم ورأتك دول الأرض المبهوتة الحيرى المقهورة الحسرى. أيها الرجل الذي فوق الإنسان أو دونه - آنا تعفر خدود القياصرة بين قدميك، وترغم مغاطس الأكاسرة تحت نعليك. وتجعل جباه الجبابرة مداساً. غطرسة وبأساً. وآونة تروح كأصغر جنودك. وأحقر عبيدك. مقهوراً حسيراً مغلوباً أسيراً. ليبت شعري وأنت اللاعب بالدول والممالك. العابث بالعروش والأرائك تهدم الدول ثم تبنيها، وتنشر الممالك وتطويها كيف أعياك أن تقمع أضعف شهواتك، وتقدع أدنى رغباتك ونزعاتك. ليت شعري وأنت النافذ النظرات الثاقب اللمحات المستجلي غوامض السرائر المستشف كوامن الضمائر المحدث بما في القلوب. المستطلع ما وراء الغيوب، كيف حيل بينك وبين النظر في أعماق صدرك واكتناه حقيقة أمرك وقدرك. كيف غاب عنك أن الأقدار مهما سعدت فإنها الخائنة

الغادرة. والأقضية مهما أسعفت فهي الخاترة الخافرة. وأن الحظ وإن نهض أحياناً فلا تؤمن عثرته. والجد يتلألأ أزماناً ثم تأفل نجمته. ولكن يروعني منك ثباتك في اللأواء ورسوخ طودك تحت الزعازع الهوجاء مظهر أقصى حكمة الفيلسوف وما تعلمت فلسفة في مدارس، ولا تلقنت مذاهبها عن عامل في فنه نبراس. وساء نعدها منك حكمة أو قسوة أو جموداً أو ركوداً أو عزة وكبرياء فإنها والله لخلة روعاء فيها كيد الحسود، رغم أنف المبغض اللدود وهي أشد على الأعداء من حصد الجماجم، وأمض للأعداء من حز الغلاصم. لله أنت ومواكب الأعداء محتشدة تنظر إلى هزيمتك وتريد أن تشمت بك وتسخر من تضاؤلك وخشوعك فإذا بك قد كذبت ظنونها وأقذيت عيونها بنظراتك القوية الطامحة المنبعثة عن عيني أجدل أو عقاب يرامق عين الشمس فيبهرها حدة وثقوباً وأذبت شحمة أكبادها باستهانتك بالخطب الجسيم واستهزائك بالكرب العظيم. أيها الرجل الجليل! لقد رأيتك في بلواك أعظم منك في نعماك. ولكن سكينة المنفى وهدوء العزلة هو جحيم الرجل المتوقد الذهن القلق الجنان، إلا أن في النفس لجمرة تتألق، وعاصفة تثور وتياراً يتدفق، تأبى أن تنحبس بين جدران وعائها الضيق، ولكنها تطمح إلى ما وراء الحد اللائق، ودون غاية الملائم الموافق، فمتى اشتعلت هذه النار ففار بركانها، واندلع لسانها، وطمح دفاعها وطار شعاعها أصبحت ولا وقود لها إلا المخاطرات المهيبة، والمجازفات الرهيبة، ففي هذه تستطير وتمرح وتبتهج وتفرح ثم لا يجيئها الملل والضجر إلا من ناحية الراحة وطريق السكينة إن هي إلا حمى في صميم الفؤاد شؤم على حاملها وعلى كل من صحبه وتبعه. هذه الحمى هي الأصل في ظهور مجانين العظمة والبطولة الذين تركوا الأمم والشعوب مجنونة بتأثير عدواهم! أولئك هم الغزاة والملوك وأرباب الملل والنحل والمذاهب والسفسطائيون والشعراء والساسة وكل من إليهم من أولي النفوس الثوارة والقلوب الجياشة، من اتخذوا العالم لعبة وأضحوكة، وأضحوا هم أنفسهم ضحكة العالم ولعبته، وخدعوا النوع البشري وسخروا منه وكانوا أثناء ذلك مخدوعيه وسخرته، يحسدهم الناس وهم بالراحة أولى! أي لذعات ولفحات تحز وتأكل في قلوبهم، أما وربك لو فتح لك قلب

من هذه القلوب فأبصرت ما به لألفيته مدرسة تعلم من شهد قاعاتها الحزينة كراهة الزعامة والسلطان، وتلهم من قرأ صحائفها السوء إبغاض التاج والصولجان. أولئك المجانين العظماء - أنفاسهم القلاقل والاضطرابات وحياتهم زوبعة هوجاء على ظهرها يركبون فيعصفون حيناً في ميادين العالم ثم يهبطون فيسكنون ولكن جرثومة القلق والطماح والشرود والجماح لا تزال بعد كامنة في صميم أفئدتهم تلدغ وتلسع كحمة العقرب وناب الفعوان فإذا رأيتهم في دار عزلتهم رأيت الليوث الضراغم في أقفاص الحديد حيرى مولهة تارة تجول من القلق وتصول. ومن فرط التبرم تهمهم وتدمدم وتغمغم. وتارة تخشع فتستكين. وتطرق إطراقة الحزين، دأبها ذلك حتى تموت كالسيف الحسام ينبذ في زوايا الإهمال فيصدأ ويتآكل ويذوب ويضمحل كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله من ارتقى إلى قمة الجبل وجد أعلى ذرا ملتفعة بالسحاب. ملتفة في الثلج والضباب، ومن ساد الناس وأخضعهم كان جديراً أن يجد نفسه مبغضاً مكروهاً. فهو وإن أشرقت فوق رأسه شمس المجد والفخار. وانفسحت تحت قدميه الأرضون والبحار يظل في وحدة ووحشة لا يحيط به إلا صخور الثلج وجلامد الجليد ولا يحيي أذنيه سوى دوي العواصف وضجيج الرعود القواصف، حيث تصدم رأسه العاري هوج الأعاصير وتلطم وجهه الحاسر نفحات الزمهرير. وهذا كل جزائه على بلوغه القمة العلياء. أيها المرددون ذكر الغرام والود، والمجد والسؤدد، خبروني عن معاني هذه السماء؟ هل هي بروق كاذبة ما إن تزال حولنا تومض وتخطف تلمح فوق رؤوسنا وقلما تهبط علينا فتقف. يا رحمتا لنا بني الإنسان نرفع أبصارنا إلى هذه البوارق الخلب ونحن بالتراب لاصقون، وإلى أديم الأرض مغلولون، فتتلألأ لأعيننا المبهورة أنوارها العديدة الألوان والأشكال، وتدهش ألبابنا الحائرة أشبحها الجمة الإبهام والأشكال. ثم تضمحل بغتة فتزول وتتركنا لا نعرف ما نقول. لو علم الناس حقائق الأمور لبكوا على إني إلى الضحك من هذه الحياة أميل. . ولا حرج علي ولا جناح. إني لأضحك من كل ما في الوجود لأني أعلم أن الوجود بحذافيره ورمته ما هو إلا شبح وخيال.

إنهم ليتهمونني: أنا ناظم هذه الأبيات - بأني أميل إلى إنقاص الفضيلة الإنسانية، والاستهزاء بالمقدرة البشرية. . يا لله! هل قلت في ذلك أكثر مما قاله دانتي وديوجانس وسليمان وسيرفانتس وسويفت وما كيافيللي وروشفوكول وفينيلون. ولوثر وأفلاطون وتليتسون ووسلي وروسو. الذين أدركوت أن هذه الحياة لا تساوي فتيلاً ولا قطميراً. فما ذنبي أو ذنب هؤلاء الفلاسفة إذا كانت الدنيا بهذا الحد من الخسة والدناءة! لقد قال سقراط إنما أقصى علمنا أن نعلم أنا لانعلم ولن نستطيع أن نعلم أدنى شيء من هذا الوجود. فيا لها من منزلة رفيعة في العلم تسوي بين الحمار وبين أنبغ حكماء الحاضر. والمستقبل والغابر. وكذلك زعم نيوتون (مضرب الأمثال في العلم والذكاء) إذ قال - بالرغم من عجيب مستكشفاه ونادر مبتدعاته - إني لا أرى نفسي إلا كطفل يلتقط الصدف والمحار على ساحل البحر العظيم - الحقيقة. وقد قال الأنبياء ومشايخ الأديان في قديم الزمان إن (الحياة كلها غرور) وكذلك قال أحدث الوعاظ وصدقت أقوالهم أفعالهم بما أظهروا من احتقار الدنيا وترك شهواتها وهجران لذاتها. وكذلك كل العقلاء والمفكرين يعلمون ذلك أو سيعلمونه. أفبعد ما اعترف بفناء الوجود ولا شيئية الحياة طوائف الأنبياء والقديسين والحكماء والقسيسين والشعراء والمنطقيين حجم أنا عن القول بغرور الحياة خشية المعارضين النقاد؟. أيها الناس يا زمرة الكلاب - إني لأعطيكم من المدح فوق ما تستحقون إذ سويتكم بالكلاب لأنها خير منكم وأكرم - سواء عليّ أتقرأون أم لا تقرأون ما أقدم لكم من وصف حقيقتكم وبيان ماهيتكم وسرد مساويكم وعد مخازيكم. وكما أنه لا يضير السحاب نبح الكلاب فسيصب عليكم عارضي الهتان دوافقه وينزل فوق رؤوسكم صواعقه مهما علا صياحكم وكما أن الأقمار لا تحفل بعواء الذئاب فكذلك ملائكة شعري ستشرق في سمائها بالرغم من عوائكم: فاملأوا الدنيا صراخاً فإنكم لن تمنعوا ملائكة القريض أن تضيء سبلكم المظلمة. وترصع بسبائك لجينها جوانب حياتكم المعتمة.

الإسبراتيواليزم

الإسبراتيواليزم (3) جمعية الأبحاث النفسانية كان من أثر مسعى أولئك البحاثين الذين بسطنا لك تاريخهم في العددين الماضيين أمثال الوسطاء هوم وستانتون وموسى وغيرهم، ومن جراء تأثير المجلات والعدد العديد من الكتب والأسفار التي خرجت في هذا العلم والأبحاث التي تسوقها الصحف، والشواهد التي تزجيها الجرائد السيارة، أن أصبح موضوع الإسبراتيواليزم مشغلة المشاغل في بلاد البريطان، حتى أن كثيرين من سادة العلم وأبطال الأدب والفكر والفنون الرفيعة راحوا يهتمون به ويعقدون عليه الأهمية الكبرى، وحتى قال العلامة سير جوبك من أكبر أساتذة علم العلم الحديث أن من أكبر الفضيحة للعلم الحديث وأغرب المناقضة له أن يجتمع هذا الفريق العظيم من الثقات وأساطين المفكرين والعلماء على الاعتراف بهذه الظاهرة الروحانية ثم تظل هذه الفكرة باقية لم يعترف بها من الجميع أو لم تدحض دحضاً تاماً لا قائمة له بعدها، ولهذا تبين للقوم أن الحاجة ماسة إلى إنشاء جمعية علمية للبحث في هذا الموضوع وتقصيه وفحص بيناته وشواهده، ومن هنا انتدى جمع من العلماء والأبطال عام 1882 بالذكر منهم السير وليام بارت والعلامة سرجوبك ومستر أدموند جرف وجمعا من الوسطاء الروحانيين فأسسوا جمعية الأبحاث النفسانية، وبدأت تلك الجماعة تضع نصب أعينها البحث في التنويم المغناطيسي ونقل الفكر والظاهرة الطبيعية للإسبراتيواليزم ومحاضرة الأرواح، وقد دونوا نتائج أبحاثهم في خمسة وعشرين مجلداً وخمسة عشر سيفراً من صحيفتهم التي يصدرونها وقد تعاقب على رئاسة تلك الجمعية كثيرون من الأساطين في العلم من أمثال مستر بلفور وهنري برجسون وهو النجم المتألق اليوم في سماء العلم - والسير ويليام كروكس والأستاذ ويليام جيمس والكاتب الطائر الذكر أندرو لانج وللعامل العلم السير أوليفر لودج. وهذه الجمعية لا دين لها خاص بها ولا عقيدة معينة، إذ لكل عضو من أعضائها دينه وعقيدته، وفيهم العقليون الذين يشكون في كل شيء بجانب المؤمنين الذين يؤمنون بكل شيء، على أننا نقول أن السواد الأعظم من أعضائها يؤمنون بصحة (التليباتي) أو انتقال

الأفكار من ذهن إلى ذهن، بل إن فريقاً من أكبر رؤسائها وأبطالها قد مضوا غي عقيدتهم بعيداً وذهبوا إلى القول بأن كثيراً من الظواهر تثبت صحة وجود أذهان وأرواح بلا أجسام تطوف حول الكون. وقد كان الفضل أو السبب في هذا الاعتقاد يعود إلى الوسيطة الأمريكانية الطائرة الصيت مسز بايبر وهي التي ظل أعضاء الجمعية يستخدمونها في أبحاثهم مدة ثلاثين سنة. ومسز بايبر هذه وسيطة منومة أعني أنها تروح في سبات أو حالة أشبه شيء بالذهول ثم تتكلم أو تكتب وهي على تلك الحال، والمظنون أن روحاً من أرواح الموتى تستخدم لسان تلك الوسيطة أو يدها في ذلك أو إن شئت فلك أن تسميها (امرأة مأخوذة ويصعب علينا أن نتجنب الاستنتاج الذي يدل على أن هناك ضروباً من القوة غي رالطبيعية تستخدم تلك المرأة) فنحن نقول مثلاً أن في أوائل عهد تلك السيدة بهذه الحالة التنويمية جعلت تتكلم على لسان روح محام يسمى مستر بلهام وكان معروفاً في حياته لدى العلامة هودجسون من أكبر أعضاء تلك الجمعية. وقد جلس الأستاذ هودجسون إلى تلك السيدة عدة جلسات وقدم إليها أكثر من مائة وعشرين شخصاً مختلفين ومنهم كثيرون من أصدقاء بلهام وهو على قيد الحياة وذكروا للمسز بايبر بأسماء مختلفة إخفاء لأسمائهم الحقيقية عنها فجعلت الروح تتكلم على لسان مسز بايبر تعين أصدقاءها من هؤلاء الأشخاص وتذكرهم بأسمائهن وتعين ألقابهم وتخاطبهم بلغة الصداقة التي كانت في الحياة تكلمهم بها. وقد حدثت مسألة غريبة في بابها في هذا الشأن وهي أن تلك الروح عجزت أن تتبين شخصاً من أولئك الأشخاص أول الأمر مع أن الشخص المذكور كان سيدة وهي كانت تعرف بلهام في حياته ولكن ظهر أخيراً أنه كان يعرفها وهي فتاة صغيرة وأنها لم تجلس إلى مسز بايبر إلا بعد موته بخمس سنوات وقد كبرت بالطبع في خلال هذه المدة الطويلة وتغيرت كثيراً واستحالت معارفها ولذلك لم يكن عجز الروح عن معرفتها غريباً ومستحق الدهشة والعجب ولكن لما ذكرها الأستاذ هودجسون بقوله. هل تتذكر مسز وارنر؟ وكانت هذه هي أم السيدة وصديقة من صواحب المحامي المتوفى بلهام. لم تلبث أن قالت الروح. هل أنت ابنتها دعها تتذكر الكتاب الذي أعطيتها إياه لتقرأه ثم ذكر عدة أحداث وبينات أدركتها السيدة وتذكرتها وعلمت صحتها.

هذه الحادثة منفردة في نوعها ولها معان ومظاهر كثيرة فإننا لو قلنا بأن هذا نوع من التليباتي أو انتقال الصور الذهنية من ذهن الشخص إلى ذهن الوسيط لاستطاع الوسيط أن يعرف اسم الشخص بكل شسهولة كما عرف أسماء سائر الأشخاص ولو كان هذا مظهراً من مظاهر انتقال الصور الذهنية قلنا أن نسأل وكيف عرفت الشخصية الثانية التي تتكلم بها الوسيطة أي بلسان المحامي بلهام أصدقاءها من بين الجمع، وينبغي أن نقول هنا أن مسز بايبر الوسيطة لم تكن من صواحب المحامي المتوفى، وإنما التقت به بضع دقائق يوم كان على قيد الحياة، ولهذا لا يحتمل أن تكون مسز بايبر عليمة بأصدقاء المحامي وجميع معارفه. وقد كان الأستاذ هودجسون في أول الأمر إزاء هذه الحادثة شاكاً مستريباً منكراً غير مصدق، وكان أول من أراد أن يبحث عن سر هذه المخادعة لأنه حسبها خدعة يومذاك، ولكن الحقائق جعلت تصدعه وتدهشه، وجعل يجلب للوسيطة غرباء ويسميهم بأسماء مستعارة، بل أدى به الولع بإظهار الحقيقة أو كشف السر إلى أن جاء بقوم مقنعين، وكذلك لبث عدة سنوات يبحث فيها ويستخدم في سبيل بحثه مسز بايبر حتى اقتنع آخر الأمر بصحة المناجاة، وجواز مخاطبة الأرواح. ومن الوسيطات المشهورات التي شغلت زمناً أذهان العلماء وجلس إليها أمثال سير أوليفر لودج وسير وليام كروكس نذكر سيدة أخرى تدعى تومبسون ولعل خير ما في أمرها أنها لم تكن مأجورة أو تطلب مالاً من المناجاة وكانت النتائج التي ظهرت من ناحيتها مدهشة مقبولة طيبة، فمن بين الرواح التي جعلت تتكلم بواسطتها سيدة تدعى مسز ب فإن هذه الروح مضت تقص تفاصيل عن حياتها في الأرض وتحقق القوم من صحتها وجعلت تبسط قصصاً وأنباء عن حياتها في هذه العاجلة تثبت حقيقتها لأصدقائها ومعارفها، ولم تكن الوسيطة تعرف شيئاً عن هذه الحقائق عن تلك السيدة مطلقاً، فاستطاع العلماء بهذه الحقائق أن يطمئنوا على أن الموضوع ليس من التليباتي أو انتقال صورة ذهن إلى ذهن آخر. وإذا انتفى التليباتي جاز القول بإمكان مناجاة الأرواح لأهل الأرض.

حول نهضة السيدة المصرية

حول نهضة السيدة المصرية فأنت ترى أن هذه الرفعة الموهومة كانت شؤماً على أربابها فأضعفت فيهم ملكة التمييز حتى احتقروا أثمن حلية فابتعدوا عنها لأن العلم في الواقع سلاح في الحياة يذلل للمرء سبيلاً لا عوج فيه وهو جالب للفضيلة والعفاف ومقو لهما إذا هما وجدا في الفطرة الإنسانية. فالريفية العادية التي لا تخرج من مثل تلك البيئات الشاذة إذا فاتها حظ العلم المدرسي فلا يفوتها العلم بأساليب العيش التي تأتي من طريق المران والتجربة وقد بينت في مقالي السابق أنها حصلت فعلاً على قسط وافر من النجاح الذي لو قرن يوماً ما بالعلم النقي الصحيح لرفعها إلى مستوى أعلى من زميلاتها الأوروبيات المتحضرات. أما تلك الفئة الشاذة التي أشرت إليها - وأفكارها والحمد لله سائرة في سبيل نمو الطبيعي - فواجب تفهميها حقيقة الحياة وفرضية العلم، وارى أن أقوم سبيل لذلك أن تكون للجمعيات النسائية مجلات تبحث في أحوال المرأة ورقيها ومنزلتها في الحياة الاجتماعية توزع على النساء والرجال على السواء، وإني لا أشك أن تلك النشرات تأتي بالفائدة المقصودة. أما في المدن الكبرى حيث توفرت اليوم سبل التعليم فقد كثر عدد المتعلمات ولكنا نتساءل هل هذا التعليم كاف؟ وهل هو موافق لروح العصر الذي نحن فيه وهل يكفل لنا حسن المستقبل والإصابة في تربية أبنائنا فقد أثبتت التجربة أن نظام التعليم في بلادنا فاسد فساداً تاماً وأن مواده قشرية محضة وهو بالاختصار نظام مضطرب رزح تحت عبئه أكثر الناشئين إلا قوماً سدوا ذلك النقص باطلاعهم الخارجي ونظراتهم المصيبة في معنى الحياة. فمنذ سنين قلت الشكوى من ذلك النظام ومواده بالرغم من اتساع مجال التجربة أمامنا فمن باب أولى أن لا ينفع السيدات وهن ألين طبيعة وأضعف فطرة وأقل احتمالاً. وإني أرى أن هذا التعليم لا يصقل نفس الفتاة بالقدر اللازم ولا يصبغها الصبغة اللائقة بالحياة الحالية وأرى أنه في مدارس البنات لا تعطى عناية كافية بالجزء العملي وهو تدبير المنزل وقوانين الصحة وأحكام تربية البنين، وإني بلا شك أصفق فوحاً لكل نهضة ولكني لا أغفل لحظة عن المجاهرة بالنقص ما دام واقعاً حقيقة. وإني أرى الشكوى عامة في تبذير السيدات وإسرافهن في التبرج والمغالاة في الزينة

العرضية على قلة فائدتها. وأما اللواتي يتخرجن من المدارس الأوروبية فهن أحسن حالاً ممن سواهن وأوفر عقلاً وتهذيباً لأن هناك عناية كبرى بأمر التعليم وكنت أفرح بالإكثار ممن يخرجن من هناك لولا خطر داهم يتهدد الحياة القومية ألا وهو التنصل من المصرية والنفور مما هو مصري والاندفاع في تحسين كل ما هو أوروبي على غير علم بالحقيقة بينما نحن أشد الحاجة إلى قوم يفهمون (المصرية) ويقدرونها. ولا شك أن الجمعيات النسائية تؤدي خدمة كبرى في هذه السبيل وترفرف فوق ذلك روح التضامن وروح التضحية. عند هذا الحد أريد الوقوف الآن بسيداتنا فلا أطلب لهن غلواً في السفور. سيقولون كيف حبذت سفور الريفيات وأنكرته على سواهن ولكن هي الحكمة تدعو المرء إلى التمييز بين البيئات المختلفة وما يلائمها فالريف تغلب في جوه السذاجة وها نحن اليوم نراها تتدنس شيئاً فشيئاً أما في المدن فإن مستوى الآداب منحط جداً ولا يطهره إلا تغيير جوهري في التعليم والنظم المدرسية، فاحتفاظنا بعفاف سيداتنا وكرامتهن لا نطلب لهم اليوم المزيد من السفور كما إني لا أبغي لهن حجاباً يثقلهن بل أقول يكفينا التوسط اليوم والالتفات لتربية أبنائنا وتدبير منازلنا ولتكن غايتنا اليوم نساء ورجالاً إصلاح ما فسد في بيوتنا وما جره الإسراف والالتفات إلى العرض دون الجوهر فإذا فرغن من ذلك فالحياة العامة تنتظرهن وهن إذا قمن بهذا الإصلاح يقمن برهاناً على صلاحيتهن في الحياة العامة. والخلاصة أني أقول: أصلحوا التعليم أحسنوا تربية أبنائكم وتدبير منازلكم وأكثروا من النصيحة العملية في سبيل إنهاض الأمة من عثارها وبذلك تخلقون جواً جديداً في هذا البلد يتصرف في التأثير على عقول أبنائها نساء ورجالاً كما شاء حتى إذا جاءنا السفور أو غيره مما هو ثمرة من ثماره قلنا هذا طبيعي النضج فاحصدوا ثمار ما بذرتم. (لها بقية) محمد محمود جلال

باب تدبير المنزل

باب تدبير المنزل تربية الطفل (7) البيئة المنزلية - الجزاء والعقاب يقولون إن الملك لا يستطيع أن يحدث شراً ويجوز لنا أن نردف هذه الكلمة بكلمة أخرى ولو أن السبب مختلف ووجه العلاقة متباين فنقول (ولا الأطفال كذلك) فعليك أن يكون هذا مبدأك في منزلك وإزاء أطفالك وأهل بيتك، وتعلم أن العقاب والتأنيب وما أشبه ذلك لا محل له من التربية ولا وجوب ولا ضرورة، بل ينبغي أن لا تكون في ثنايا روحك أية قطرة من الغضب أو ظل الانتقام، أو ريح العقاب والاقتصاص، وقد يجوز أن يفعل طفلك ما هو مسيء غير محمود، ولكن عليك أن تتذكر أنه لم يفعل ذلك وهو يعلم أنه مسيء وغير محمود، فلو أنك أدركت أن الأطفال أبرياء من الذنب ولم تجعل لهذا المبدأ أي استثناء ووطنت نفسك على أن تعتقد أن الأطفال لا يقصدون حقيقة الإساءة وارتكاب الذنوب، إذن لسهل عليك أمر التربية وذلك لك سبل التأديب. وقد يخيل إليك على الرغم من أنك تعتقد أن طفلك لا يقصد حقاً الإساءة أن إظهار علائم الغضب أو أخذه بشيء قليل من القصاص أو نهره أو زجره كل أولئك قد يعلمه الفعال الحسن وترك الإساءة والشر، على أن هذا المبدأ لا يعمل إلا على إغراء الطفل بالإساءة وترغيبه في الشر والأذى، وقد دلتنا التجاريب على أن قولنا للناس (نرجو من مروءتكم وكرم عواطفكم) أفعل في نفوس الناس وقولنا (لا تفعلوا هذا وإياكم أن تقربوه أو حذار أن تقتحموه) وقد مررت يوماً بصديق لي بغابة قد كتب عند مكان منها لوحة تحتوي هذه الكلمات (الذين يجتازون هذا السور سيعاقبون) فلم يكن من صديقي إلا أن قال: (إذن فلنجتزه ولنمر على الرغم من هذا التهديد). ومن هنا ندرك أن الرفق واللين والمعروف أفعل في نفس الصبي والشيخ من كلمة التهديد وألفاظ الوعيد، فإن اللهجة المهددة لا تزال لهجة مستحثة مستثيرة مغرية وإن قولك لإنسان (لا يلزم أن تفعل هذا) لا بد أن يثيره إلى إجابتك بالكلام أو بالفعل. بل سأفعل! لأن الطلب الرقيق المتأدب الكريم يخجل الإنسان ويغريه بإنجازه ويشجعه على تحقيقه، ولهذا يجب أن تكون فكرتك في تربية أطفالك أنك إزاء تلاميذ وأنك منهم مكان المعلم من صبيته ولهذا

يلزمك رباطة من الجأش وضبط نفسك وبعد النظر حظ وافر. ومن هذا تعلم أن البيئة المنزلية يجب أن تكون بيئة السعادة والفرح والتهلل والكرم ووداعة الخلق لأن السعادة من الأثر في نماء أطفالك ما للشمس في نماء الزرع وعلم النبات. وإذا كان ذلك كذلك فعلم أطفالك أن لا يجيبوا إنساناً على سؤال، ولو كنت أنت سائله إذا لم يقل من فضلك أو أرجو أو تكرم علي وإذا نسي أحد الناس أن يقولها إذا طلب شيئاً أو سأل رجاء وجعل يكرر السؤال ويلح في إعادة الرجاء ولا مجيب ولا جواب، كان ذلك باعث اللهو والمزاح حتى يتذكر السائل أنه لم يقلها فيقولها. واعلم أن فعل السيئ وإحداث الشر والأمر الكريه قد يكون في أكثر الأحايين نتيجة الجهل وعدم إدراك وجه الإساءة، ولهذا كان خليقاً بك أن تعلم طفلك مثلاً كيف يجب أن يمسك الملعقة أو السكين وكيف ينبغي له أن يبلع الطعام، وعليك أن تجتهد جهد المعلم في تعليم الأطفال كل دقيقة وصغيرة وطفيفة، دون أن تفقد الصبر أو تتسخط أو تنوء بجانبك، لأن الطفل لا يعلم ماذا يراد منه، وما هذا إلا لأنه ليس سريع الفهم أو سريع النسيان، ولهذا لا يصح أن تتوقع أن العادة الطيبة الحميدة، قد تنال في أقصر مدة من الزمن لأن خلق عادة من العادات تقتضي في الغالب إزالة أخت لها أو شبيهة بها، فلو أنك استعجلت ولم تأخذ في الأناة في أمر تربية أطفالك على العادات، وكنت قلقاً غير مطواع الإرادة لما لبثت العادات الرديئة ن تجتمع وتحتشد حتى لا تفتأ تؤنب وتحذر وتنهر دون جدوى أو أية فائدة، ولا يكون من ذلك إلا أن أطفالك لا يلبثون أن يكتسبوا خلقاً مضطرباً فوضوياً ثواراً عاصفاً لم تكن تريده لهم. وعلى العقلاء من الآباء أن يحلوا الصعوبات التي تعترض أمر تربية أطفالهم بالطريقة التي يسوون بها (دفاتر حساباتهم) أي واحدة فواحدة، كلما اعترضت وعلى فترات من الأيام. وإذا أردت النجاح والتوفيق قصدت فعليك أن تعمل على خلق عادة أو عادات متشابهة في وقت واحد. فإنك إذا أكرهت صبيتك على حسن السلوك في أسبوع أو وصيتهم بعدة عادات في أيام معدودات فإنك غير حاصد من ذلك غلا الخيبة والألم والفشل، إذن فينبغي أن تجمع كل قوتك لخلق عادة أو عادتين في وقت واحد وترك غيرهما بعد إتمامها لوقت آخر.

إذا صح هذا فلا تطلب من بنيك شيئاً كثيراً لكي تتم لك طواعيتهم، ويستمعوا إليك جهد أسماعهم، ولا تجعل تعليمك إياهم على عادة واحدة شفيعاً لتعليمهم أشياء أخرى كثيرة ثم عليك أن تدع أطفالك يقدرون العادة المحمود حق قدرها ويعرفون السبب لماذا ينبغي أن يفعلوا الشيء الحسن، ويدركون شيئاً من علم النفس، كالذي حدث به أحد الناس عن طفلة في الخامسة أدركت معنى كلمة (علم النفس) إذ قالت أنه إذا كانت الأم أذعنت إلى صراخ طفلها ونزلت على حكمه خوفاً من استرساله في صياحه عما طلب، فلا يتنازل الطفل عن الصراخ كلما أراد من أمه شيئاً. واعلم أن كل شيء سيسير في منزلك على نظام، إذا كنت من أهل الطبائع الوديعة، ولم تك ذا خلق ناري حاد ومزاج محتدم مضطرم فإنك لا تلبث إذ ذاك أن تجد العادات سريعة النشوء والاستتباب والتكوين. وتجد أطفالك يحبون تلك العادات واتباعها واللصوق بها لما تدخل على أنفسهم من الفرح وما في الإذعان إليها من الروحانية والراحة، وعلى نقيض ذلك ترى الشراسة والشدة والتقطيب والتجهم والاكفهرار لا تخلق إلا تحللاً ووهناً في الخلق أو طفلاً فاسداً سيئاً شريراً - إذن فعليك أن تكون مفراحاً متهلل الأسارير تر بنيك يتحملون الآلام بصبر في سبيل التخلق بحسن الأدب وتجد الآداب الفاضلة والعادات الطيبة لا تلبث أن تنمو وتزكو كما يزكو النبات في الأقاليم التي يسطع فيها نور الشمس وتهب عليها علائل الأرواح وفي أمثال هذا الجو لا تني تموت جراثيم الأمراض وتتحل من نفسها وتذبل وتتلاشى.

قصة عجيبة

قصة عجيبة للكاتب الروسي الكبير إيفان تيرجينيف قال هـ: منذ خمسة عشر عاماً اضطرتني واجبات خدمتي المصلحية إلى قضاء أيام قلائل في عاصمة إقليم ت. فنزلت بفندق جميل كان قد أقامه هنالك قبل قدومي بستة أشهر رجل يهودي اغتنى بعد فاقة. ولقد وجدت ذلك الفندق إذ ذاك في أوج بهائه إذ كانت أخشاب أثاثه الجديدة تتصدع أثناء الليل فتحدث انفجارات أشبه بدوي الرصاص. وكانت ملاءات الفرش وأغطية الموائد والمناضد والمناشف (الفوط) تفوح برائحة الصابون، وخشب الأرضية المنقوش يفوح برائحة الزيت الذي كان خادم الفندق - وهو رجل في منتهى التأنق وحسن الذوق ولكنه قليل العناية بمسائل النظافة - يره أحسم دواء لانتشار الحشرات. وقد كان هذا الخادم سابقاً في خدمة البرنس ج وكان مشهوراً بفرط جرأته وصراحته مع الزبائن وبفرط اعتداده بنفسه وعرفانه بعظيم قيمتها. وكان يلبس دائماً ريدنجوتاً (نصف عمر) وشبشباً قد أخذ البلى من نعله ويتأبط منشفة وعلى خديه عدة من الدمامل. وكان يلقي على الزبائن ملحوظاته القسرية الخطيرة مشيراً أثناء ذلك بيديه القاطرتين بالدهن والودك إشارة الخطيب المصقع. وكان يشملني بعين رعايته ويحمد مني فطنتي إلى عظيم مواهبه. وإدراكي خبرته بالحياة وسعة تجاربه. وكان اسمه أرداليون. وفي أثناء إقامتي بهذه المدينة رأيتني مضطراً إلى زيارة بعض رجال الإدارة فاستحضر لي إرداليون عربة وسائقهاً كلاهما رث مفكك الأوصال ولكن السائق كان يلبس زي خدمة الأشراف وكانت العربة محلاة بشعار الأمراء. فبعد أن أديت زيارات يالرسمية انطلقت في العربة لزيارة رجل من أهل الريف كان من أصدقاء أبي وكان قد استوطن المدينة منذ عهد طويل وكنت لم أره منذ عشرين عاماً كان قد تزوج في خلالها ورزق عدة من البني ثم ماتت زوجته فترمل من بعدها وجمع ثروة وكان عمله يختص باحتكارات الحكومة أعني أنه كان يقرض المقاولين المشتغلين بالاحتكارات مبالغ بأرباح باهظة. فبينا أنا في الحديث مع هذا الصديق إذ دخل علينا الغرفة فتاة صغيرى تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ولا تكاد قدماها تلمسان الأرض من خفة وطئها. وهي في السابعة عشرة نحيفة القد مهضومة الحشا رقيقة البدن واهنة النبيان. وقال صاحبي (هاك كبرى بناتي - صوفيا.

اسمح لي أن أقدمك إليها. إنها تشغل مكان زوجتي المرحومة فهي تسوس البيت وتدبره وتعنى بشؤون أخواتها وأخوتها) فانحنيت مرة أخرى للفتاة (وقد ألقت بنفسها على كرسي دون أن تفوه بكلمة) وقلت في نفسي ما أبعد ما بين منظر هذه الفتاة وبين تدبير المنازل والعناية بشؤون الأخوة والأخوات. تالله ما لأمثال هذه الأمور خلقت هذه الفتاة. فقد كان وجهها مستديراً عليه سيما الطفولة، أعضاؤه صغيرة مستملحة لكنها جامدة الحركة - بعينين زرقاوين تنبعث منهما نظرة حادة دهشة مبهوتة كأنما قد بصرتا شيئاً غير منتظر. وكان فمها الصغير الممتلئ المتقلص الشفة العليا لا يبتسم بل يلوح عليه كأنه لا يعرف الابتسام مطلقاً. وكان صدرها يتنفس تنفساً ناعماً ليناً وذراعاها تستندان إلى خصرها النحيل بضغط شديد وبغير رشاقة وثوبها الأزرق مرسل على قدميها الدقيقتين وهو غفل من زخارف التكسير والتغضين كثياب الأطفال. فكان منظرها على العموم يقع من نفسي موقع الألغاز والمعميات. فرأيت فيها شيئاً أكثر من مجرد فتاة ريفية شديدة الحياء والهيبة - أجل رأيتها صنفاً وحيداً في ذاته، فريداً في صفاته، مغايراً لكل ما رأيت قبلها من صنوف الفتيات. ولكن ما هو هذا الصنف؟ ذلك ما لست أدري ول أستطيع أن أدري ولكن كل ما شعرت به هو أني لم أر في حياتي شخصية أشد وفاء وإخلاص من تلك الشخصية. ولئن سألتني أي عاطفة من عواطفي أثارها منظر الفتاة لقلت لك الرحمة. أحل - الرحمة والحنان هو الذي جاش في أعماق نفسي لرؤية هذه الروح الحية اليقظة المتحفزة الجادة المخلصة! الله وحده يعلم لماذا؟ إن الخواطر والأفكار التي جاشت بصدري لرؤية هذه الفتاة لم تكن من أفكار هذا العالم الأرضي الكثيف - ولكنها في العالم الروحاني وإن كان وجه الغادة خالياً من كل ما يصح أن يسمى معنى روحانياً وقد كان دخولها الغرفة لغير شيء سوى أداء تلك الشؤون المنزلية التي ذكرها أبوها. شرع الوالد يتكلم عن طريقة العيشة في مدينة ت وملا امتازت به من ضروب الملاهي الاجتماعية والمنافع العظيمة فقال: نحن هنا في أتم سكينة وهدوء فمحافظ المدينة رجل مطراق كئيب ومارشال الإقليم رجل أعزب ولكن ستقام حفلة رقص عظيمة في قاعة الأشراف بعد غد. فيا ليتك تمضي إليها فإني كفيل لك أن تجد بها ما تشتهي من الفتيات الملاح والفتيان الأذكياء.

فقلت ملتفتاً إلى فتاة وأردت أن أسمع صوت لفظها أتريدين الذهاب إلى هذه الحفلة؟. فأجابت: أبي ينوي الذهاب وسأكون معه. فوجدت صوتها ليناً بيناً ووجدت ألفاظها صحيحة المخارج وهي تنطق الحروف بتأن وإشباع كالحائر في أمره. قلت لها: إذا كنت ستصحبين أباك إلى هذه الحفلة فاسمحي لي أن ارقص معك الدور الأول فحنت رأسها إجابة قبولاً. ولكنها لم تبتسم حتى في هذه الآونة التي لا يسع المرء فيها إلا الابتسام. ثم إني خرجت بعد هنيهة وتركتهما ولا أزال أذكر أن النظرة التي رمقتني بها إذ ذاك كانت من فرط الغرابة بحيث أني التفت خلفي لأرى هل هنالك شخص أو شيء تريده بتلك النظرة فلم أر شيئاً. عدت إلى الفندق وبعد الغداء جلست على المتكأ وأطرقت أكفر، وكان موضوع تفكيري هو صوفيا هذه الفتاة اللغزية الغامضة الشأن ابنة صديقي الشيخ. ولكن إرداليون (خادم الفندق) أول إطراقي وتفكيري تأويلاً آخر حسب نطره الخاص فنسب حالتي هذه إلى الملل والسآمة. ً فابتدأ القول بتعطفه المعهود وتنازله المعروف وهو في أثناء ذلك ينفض ظهور الكراسي بفوطة أكل قذرة - وهو كما تعلم أسلوب من أساليب التنظيف يمتاز به خدمة الفنادق ذوو التربية العالية (لا عجب ذا عرض لك الضجر والملل فإن بلدنا هذه قليلة الملاهي للزوار نعم قليلة الملاهي جداً - جداً. ثم استرق نحوي نظرة من مؤخر عينه. واستمر في كلامه فقال: ولكني أعرف سبيلاً للسرور والتمتع لو أنه يصادف منك قبولاً. ثم رمقني بنظرة معنوية كالسالفة ولكنها ضاعت عندي كسالفتها ولم تبد على وجهي علامات القبول لما يريد أن يقترح. ثم أن الخادم الراقي المهذب تقدم نحو الباب وأطرق هنيهة ثم عادة وبعد تحركه حركة قلق وتردد أقبل علي وانحنى على أذني وقال بابتسامة المداعب: ألا تحب أن ترى الموتى؟ فحملقت في وجهه بنظرة الحائر المندهش.

فاستمر في حديثه همساً فقال: أجل إن هنا رجلاً كالموتى، وهو صانع بسيط أمي لا يعرف القراءة ولا كتابة ولكنه يأتي بالمعجزات. فإذا ذهبت إليه فسألته أن يريك أي أصحابك الذين ضمتهم المقابر فتأكد أنه يريكه لا محالة. ويكف يصنع ذلك؟ هذا سره فإنه على الرغم من جهله بل من كونه أمياً واسع العلم هائل المقدرة في المسائل الروحانية، وإن له لمكانة مكينة علينا عند طبقة التجار!. قلت: وهل كل من بالمدينة يعرف هذا؟ قال: يعرفه من هو بحاجة إلى معرفته. ولكن لا أخفي عليك أنه يجب الاحتراس من البوليس لأن هذه المسائل محظورة محرمة مهما قلت في تبريرها والدفاع عنها وهي من دواعي الغواية للعوام أعني الرعاع وأنت اعلم أن الرعاع سراع إلى الملاطمة والملاكمة. قلت: وهل أراك الموتى؟ فقال إرداليون وهز رأسه: نعم لقد استحضر أمامي أبي كما لو كان حياً. فحدقت في وجه إرداليون فضحك وطفق يعبث بفوطته ونظر إلي نظرة تنازل وتعطف ولكن بمنتهى الثبات والصلابة. قلت: هذا والله العجب العجاب! أما أستطيع التعرف بهذا الصانع. قال: إنك لا تستطيع الذهاب إليه مباشرة ولكن بواسطة أمه وهي عجوز ذات رزانة ووقار تبيع المخلل على الكوبري فإذا شئت فاتحتها في الأمر من أجلك. قلت: سألتك بالله أن تفعل. فسعل إرداليون سعلة من رواء كفه وقال: ولا تنس أن الشيخة تأخذ مقداراً تافهاً من النقود - أي شيء طبعاً - وليس بالكثير - شيئاً لا يذكر. وسأبذل جهدي في تطمينها وتأمينها من جهتك فأعرفها أنك ضيف زائر لا غير. وأنك نبيل مهذب. وعليك بعد أن تعرف أن هذا سر خطير وأنه لا يصح لك بأية حال أن توقع الشيخة في أدنى كربة أو ورطة. ثم إن إرداليون رفع الصينية بإحدى يديه ثم دورها واستدار معها هو بحركة رشيقة خفيفة وسار نحو الباب. فصحت من ورائه وهكذا أعتمد عليك في هذا الشأن.

فمضى وهو يقول بصوت المغتبط السعيد: ثق بنا واعتمد علينا سنكلم العجوز في شأنك ونأتيك بجوابها. انتظرت الجواب بفارغ الصبر فلما كان المساء دخل علي إرداليون فخبرني أنه لم يوفق إلى مقابلة العجوز ولكني دفعت بالرغم من ذلك ليرة على سبيل التشجيع فلما كانت صبيحة الغد عاد إلي فرحاً متهللاً وقال أن العجوز سمحت بمقابلتي، ثم صاح إرداليون بغلام صغير فقال: يا صبي، يا غلام. . فدخل طفل في السادسة من عمره مطلي كله بالهباب محلوق الرأس عليه رداء واسع ممزق وحذاءان تتيه فيهما قدميه من فرط السعة. وقال له إرداليون: أنت تعرف أين تذهب بالسيد وأشار نحوي. ثم التفت إلي وقال وأنت يا سيدي إذا بلغت المكان فسل عن مستريديا كربوفنا (اسم العجوز). فهز الغلام رأسه إجابة وانطلقنا. سرنا مسافة طويلة في طرقات المدينة ت التربة حتى انتهينا إلى أشدها وحشة وإقفاراً فوقف دليلي أمام دار خشبية وشرع يمسح أنفه المهبب في كم ردائه ثم قال (ها هنا اذهب يمينا) فولجت الباب إلى الدهليز الخارجي ثم ذهبت أتعثر نحو اليمين فإذا باب حقير منخفض قد بدأ يصر على مفاصله الصدئة وإذا أمامي شيخة عجوز بادنة ضخمة عليها ثوب أسمر مبطن بفرو الأرنب وعلى رأسها منديل ملون. قلت مستفهماً: مستريديا كربوفنا فقالت العجوز: هي هي في خدمتك ادخل يا سيدي، ألا تأخذ كرسياً؟ وكانت الغرفة التي أدخلتني فيها العجوز مزدحمة بكل أصناف الخرق البالية وسقط المتاع والوسائد والفرش والأكياس والركايب حتى لا تكاد تجد فيا مجالاً للحركة. وكانت أشعة الشمس لا تكاد تنفذ من زجاج نافذة صغيرة تربة. وسمعت من إحدى زوايا الغرفة ومن وراء كثيب من الصناديق المركومة فوق بعضها صوت ولولة وأنين ضعيف لم أدر ماذا كان مصدره - لعله طفل عليل أو لعله لعبة من اللعب الخشبية الصياحة. فجلست على كرسي وقامت المرأة بين يدي وكان وجهها مصفراً نصف شفاف كأنه صنع من الشمع.

وكانت عيناها الغائرتان الرماديتان تبثان نظرات اليقظة والذكاء والدهاء من تحت جبينها المشرف العظام. وكان أنفها الحاد بارزاً كالمغزل يتنفس هواء الله بنشاط وقوة وكأنه يقول: إني لذو قوة ونشاط. . وكان يفوح منها رائحة النبيذ. بينت لها القصد من زيارتي فأصغت إلي وهي تطرف بعينها طرفاً متوالياً سريعاً ورفعا أنفها الحاد كأنه تهم أن تنقر. وثم قالت: أجل أجل لقد حدثني إرداليون كاتسفيتش حديثاً كهذا إنك تريد أن تبصر آيات فاسينكا ولكنا لا نستطيع أن نثق يا سيدي العزيز لا نستطيع أن نثق. . فقلت معارضاً: ولماذا أما من ناحيتي فاطمئني غاية الاطمئنان فلست مخبراً ولا جاسوساً. قالت المرأة بسرعة: معاذ الله يا سيدي أستغفر الله ماذا تقول؟ أيدور بخلدك أنا نجرأ على اتهام جنابك بمثل هذه التهمة! وماذا يستطيع المخبر أو الجاسوس أن يبلغ عنا أو يعزو إلينا؟ أترانا نأتي خطيئة أو إثماً. كلا يا سيدي ما كان نجلي ليقترف المنكر قط. . وما هو من السحرة. . معاذ الإله والعذراء والسيد المسيح! وهنا صلبت العجوز مراراً إنه لأتقى الناس وأنقاهم وأقومهم بفرائض الصلاة والصوم ولهذا أفاض الله عليه من نوره ومن وحيه. وما يأتي نجلي من عنده شيئاً إنما هو من عند الله ومن نفحات الملكوت الأعلى. قلت: وكذلك توافقين إذن خبريني متى ألقى غلامك؟ قالت العجوز وطرفت بعينها كما بينت لك ونقلت منديلها المطوي من كمها الأيمن إلى الأيسر. هذا يا سيدي ما لا أقدر أن أحدد. قلت: اسمحي لي يا مسيريديا كربوفنا أن أقدم لك هذا، ثم أعطيتها ليرتين. فاختطفتها العجوز بأصابعها المسينة المعوجة التي هي أشبه شيء بمخالب البومة ثم دستهما بسرعة في كمها وأطرقت ملياً كأنما قد عزمت وأبرمت قراراً ثم ضربت بيديها على فخذيها وقالت لا بلهجتها السالفة ولكن بصوت أخشع وأخفت. (ائت هنا الساعة السابعة مساء. ولكن لا إلى هذه الغرفة بل تفضل بالصعود إلى الدور الأعلى تجد باباً على يسارك فافتحه فإنه يفضي بك إلى حجرة خالية فيها كرسي فاجلس فيه وانتظر. ومهما تر وتسمع فلا تحدث أدنى حركة ولا تنبس ببنت شفة. بل لا تكلم ابني

نفسه لأنه حديث السن وعرضة للنوبات العصبية. وهو سريع الفزع والهلع. ويروعه أدنى شيء حتى تراه يرتعش وينتفض كالعصفور بلله القطر يا لله يا لله. فنظرت إلى مستريدا وقلت (تقولين أنه حديث السن، ولكن بما أنه ولدك. . .) ولدي في الله فقط - في المذهب والطريقة وكم غيره من اليتامى أقوم عليهم وأنشر فوقهم ظلال عنايتي وأجنحة رعايتي. قالت هذا وأومأت برأسها نحو الركن الذي يصدر منه البكاء والأنين واستمرت فقالت يا لله والأم المقدسة العذراء! وهل جنابك فركت قبل المجيء إلى هنا أي أقاربك أو أصحابك المرحومين - لهم الجنة - تريد أن ترى؟ أرجع الفكرة كرة في سجل مرحوميك وعين من تشاء وأبقه في ذاكرتك من الآن حتى تقابل ولدي!. قلت: أفلا أذكر لولدك اسم من. . . قالت: لا لا لا تفه بأدنى كلمة. لمحدث بما في سرك مطلع على مكنون صدرك يأخذ من بنات أفكارك ما يحتاج إليه بعلمه الثاقب. وكل ما عليك هو أن تبقي صاحبك المرحوم في ذاكرتك. ولا تنس أن تشرب على الغذاء قطرة من النبيذ كأسين أو ثلاثاً فإن النبيذ لن يعدم نفعه وفائدته. ثم أن العجوز ضحكت وتلمظت بشفتيها وأمرّت يدها على فمها وتنهدت. قلت لها ونهضت من الكرسي: وكذلك موعدنا الساعة السابعة. قالت: الساعة السابعة يا سيدي الساعة السابعة. استأذنت من العجوز وعدت إلى الفندق وما عندي شك في أنهم سيخدعوني ويجعلوني أضحوكة ولكني لم أدر ماذا يكون أسلوبهم في ذلك، وهذا ما أثار حيرتي وعجبي. ولما قابلت إرداليون لم أتبادل معه أكثر من كلمتين أو ثلاثاً إذ سألني وعقد جبينه: هل قابلتها؟ قلت: معم فصاح قائلاً: قاتل الله العجوز إنها كأدهى سياسي!. ثم إني شرعت في تنفيذ وصية (السياسي) فرجعت الفكرة كرة في سجل أمواتي. وبعد تردد طويل وقع اختياري على شيخ كبير كان قد توفي منذ عهد بعيد وكان معلماً في حين ما وكان فرنسي الجنسية ولم يكن اختياري له دون غيره لجاذبية خاصة بل لأن شكله كان عجيباً نادراً فذاً لا يوجد له مثيل بين أشكال أناس اليوم بحيث يصبح تقليده من المستحيلات. فكان له رأس مفرط الضخامة وشعر أبيض منفوش وحاجبان أسودان كثيفان

وأنف مقوس كأنف الصقر في وسط جبهته. وكان يلبس ريدنجوتاً أخضر ذا أزرة نحاسية ملساء وصدرية مخططة بياقة واقفة وكمين مهدبين فقلت في نفسي: أما لو آراني شخص معلمي القديم المسيو ديسير لأشهدن له بالبراعة في السحر!. وفي أثناء الغذاء نفذت وصية العجوز فشربت من نبيذ لافيت من الطراز الأعلى - كذلك نعتها إرداليون بالرغم من أن مذاقها كطعم الفل المحترق وأنها أرسبت راسباً كثيفاً في قرارة كل كأس. ولما كانت الساعة السابعة بالضبط كنت واقفاً حيال منزل العجوز وكان مغلق النوافذ موصدة مصاريعها ولكن بابه كان مفتوحاً فدخلت وارتقيت السلم المضطرب متمايلاً حتى بلغت الدور الأعلى ففتحت باباً على اليسار فوجدتني كما قالت العجوز في غرفة خالية واسعة. وكان على صفة النافذة شمعة من الشحم تبعث في المكان شعاعها الضعيف المتضائل، وإلى الجدار المقابل للباب كرسي من القش فأصلحت المشعة وجلست على الكرسي وبدأت أنتظر. مضت العشر الدقائق الأولى بلا ملل - إنه لم يكن بالغرفة أدنى ما يلفت النظر ولكني جعلت برغم ذلك أنصت لكل صوت حادث وأحملق في الباب المغلق وكان قلبي يخفق وبعد العشر الدقائق الأولى مرت عشر أخرى ثم ثلاثة أرباع الساعة لم آنس حركة فيما حولي فسعلت مراراً لأعلن عن وجودي ثم دب الملل والضجر وهممت أن أترك المكان فمضيت نحو الشمعة لآخذها تضيء لي ظلمة السلم ثم تناولتها وبعد إصلاحها التفت أستقبل الباب للذهاب فما راعني إلا شخص رجل مسند ظهره إلى الباب وكان قد دخل بمنتهى السرعة والخفة فلم أحس بحركته. كان هذا الرجل في برد أزرق وكان ربعة بادناً وكان واقفاً يداه مضمومتان وراءه ورأسه مطرق وهو يرمقني بحدة، وكان ضوء الشمعة المتضائل لا يمكنني من استجلاء سحنته تماماً، فكل ما بدا لي من شخصه هو خصل مجعدة كثيفة من الشعر مرسلة فوق جبهته وشفتان غليظتان مقلصتان قليلاً وعينان مبيضتان فهممت أن أخاطبه ولكني ذكرت وصية مستريدا وعضضت على شفتي واستمر الرجل ينظر إلي وأعجب شيء أني أحسست في قلبي إذ ذاك شيئاً كالخوف وشرعت في الحال أفكر في معلمي القديم كأني في ذلك مؤتمر

بأمر آمر وبقي هو لدى الباب وجعل يتنفس تنفساً عسيراً ثقيلاً كهيئة المبهور من صعود جبل أو رفع ثقل بينما عيناه أخذتا تتسعان وتتمددان كأنهما تدنوان مني فشعرت بكربة وضيق تحت تأثير نظراتهما الحادة الثقيلة اللجوجة المهددة وتارة كنت أرى هاتين العيني تتوهج فيهما نار خبيثة باطنة أشبه شيء بما يتوقد في عيني كلب الصيد عندما يرمق أرنباً - وكذلك ككلب الصيد أيضاً جعل هذا المخلوق يقفو بنظراته نظراتي عندما أحاول تحويلهما عن شخصه. وعلى هذه الحال مر علينا لا أدري كم من الزمن - لعلها دقيقة أو لعلها ربع ساعة، وأنه لا يزال يحملق إلي وأنا لا أزال أشعر بكربة وضيق ووحشة ولا يزال دهني يذكرني بذلك المعلم الفرنسي المتوفي، وقد حاولت مرتين أن أقول لنفسي ما هذه السخافات والترهات، وحاولت أن أبتسم وأهز كتفي استخفافاً بالأمر واستهزاءً - وحاولت كل ذلك ولكن عبثاً حاولت! لقد تسلطت على نفسي قوة خفية فسدت ينابيعها وجمدت غدرانها - قوة لا أرى ما هي ولا أعرف ماذا أسميها. فإني لكذلك إذ رأيت الرجل قد ترك الباب بغتة وصار بموضع أقرب مما كان فيه بمقدار خطوتين ثم وثب وثبة خفيفة بقدميه معاً فصار أقرب، ثم فعل مرة ثم أخرى، والعينان المهددتان أثناء ذلك مثبتتان في وجهي معقودتان به واليدان لا تزالان مضمومتان إلى خلف والصدر العريض يتنفس ويتنهد بحالة المتألم، فرأيت في هذه الوثبات من السخافة ما هو جدير بالضحك ولكني بقيت برغم ذلك خائفاً وجلاً، وأعجب من ذلك أني أحسست ثقلاً كثقل النعاس قد استولى عليّ بغتة، فاشتبكت أهدابي بعضها ببعض. ثم أن الشبح الأشعث المبيض العينين الأزرق الثوب بدأ أمامي مزدوجاً قم تلاشى البتة فهززت نفسي فإذا هو قد عاد ماثلاً بيني وبني الباب ولكن أقرب إلي من ذي قبل - ثم تلاشى ثانياً - كأنما قد سقط عليه من الضباب ثم ظهر ثانياً ثم تلاشى ثم ظهر وفي كل مرة يتقدم ويقترب وإذ ذاك أحسست أنفاسه العسرة المبهورة تهب علي ثم سقط الضباب ثانياً ومن جوف هذا الضباب أبصرت رأس معلمي القديم الشيخ ديسير يتكون ويأخذ شكلاً واضحاً جلياً - بادئاً بالشعر الأبيض المنفوش! أجل وربك لا مجال للشك فهاك حاجبيه الكثيفين وهاك ثؤلولته وهاك أنفسه المقوس! وهاك ريدنجوته الأخضر النحاسي الأزرار وصدريته المخططة عند ذلك صرخت ونهضت، فتلاشى الشبح من أمايم ورأيت مكانه

الرجل ذا الثوب الأزرق ثانياً - فسار متعثراً نحو الجدار فاسند إليه رأسه وذراعيه ثم تنهد كالفرس المكدود المحمل فوق طاقته وقال بصوت أبح (الشاي!) فما راعني إلا شخص العجوز مستريدا وقد طارت إليه سريبعة - لا أدري كيف جاءت بهذه السرعة المدهشة، فأقبلت عليه وهي تقول بصوت المتلهف فاسنكا! فاسنكا ما بالك وماذا تريد؟. ثم أخذت تمسح العرق المتحدر من وجهه وشعره فهممت أن أدنو منهما ولكنها قالت بصوت متوجع يفتت الأكباد: كلا يا سيدي العزيز رحمة من لدنك وحناناً مكانك! اذهب يا سيدي انطلق. فأخذتني الشفقة ورق قلبي لفرط ولهها فأطعتها والتفتت هي إلى ولدها فقالت له بصوت خافت لين: يا ولدي العزيز يا كاسب الرزق ومصدر الخير سيجيئك الشاي في الحال - في التو واللحظة وأنت يا سيدي يحسن بك أن تتعاطى كوبة من الشاي في منزلك. فلما بلغت منزلي أعني الفندق طلبت كوبة من الشاي عملاً بنصيحة مستريدا وكنت أشعر بتعب بل بضعف ووهن. وقال لي إرداليون: خيراً هل ذهبت إلى هناك؟ هل رأيت شيئا؟. قلت له: نعم لقد أراني بالفعل شيئاً لم يكن في الحسبان. قال إرداليون: إنه لصاحب آيات ومعجزات وله منزلة سامية في نفوس طائفة التجار. ولما ذهبت إلى الفراش وجعلت أتدبر ما وقع لي بد لي أني قد توصلت إلى حل مقبول لذلك المشكل العويص. وهو أن ذلك الرجل فيه قوة مغناطيسية عظيمة وأنه أثر على أعصابي بوسيلة لا أدري ما هي فأثار في ذهني صورة الشيخ المعلم الذي كنت أفكر فيه ظاهرة في أقصى منتهى الجلاء والوضوح حتى خيل إلي أني أبصره أمام عيني وقد أقر العلم الحديث نظرية هذه التنقلات الحسية. لا أنكر أن هذا حل لا بأس به ولكني لا أزال أرى أن القوة القادرة على إحداث أمثال هذه التأثيرات والنتائج لهي شيء مجهول خفي. معجز لغزي. ومهما قال القائلون في تفسير هذا الحادث وتأويله فإنه لا ينقص من هوله وغرابته. ومهما كثرت التعليلات العلمية والبيانات الفيزيولوجية والبسيكولوجية فلقد رأيت بعيني رأسي معلمي المقبور ماثلاً أمامي كما كان في حياته!. في غد ذلك اليوم أقيمت حفلة الرقص في قاعة الإشراف. فزارني والد صوفيا وذكرني بموعدي الذي عقدت مع ابنته. فلما كانت الساعة العاشرة مساءً كنت واقفاً إلى جانبها في

مرقص مضاء بعدة مصابيح نحاسية أتهيأ لأداء فريضة الرقص على نغمات الموسيقى الحربي. وكانت القاعة غاصة بجمهور من الناس بينهم عدد عديد من الغانيات الحسان. ولقد كانت رفيقتي جديرة أن تفضل وتقدم على سائرهن وتعطى المكان الأول من بينهن لولا ما كان يشاهد في عينيها من تلك النظرة الغريبة المستوحشة المولهة. وقد لاحظت عليها أن عينيها لم تكن تطرف البتة. وأن معاني الإخلاص والوفاء التي كانت تنطق في عينيها لم تستطع أن تمحو سوء أثر تلك النظرات الغريبة الخارقة للعادة. ولكنها كانت مع ذلك رشيقة القد مستملحة الحركات مع شيء من الثقل والتقيد. ولما كانت في أثناء الرقص تستلقي قليلاً إلى الوراء وتميل جيدها الأغيد شطر كتفها الأيمن كأنها تحاول التخلي عن رفيقها لم يكن ثمت في الوجود شيء هو ألذ وطرب وأجلب للهوى. وأدعى إلى الصبا. وكان عليها حلة بيضاء مزدانه بصليب من الفيروذج على شريط أسود. ثم سألتها دوراً ثانياً من الرقص وحاولت أن أحادثها فكانت أجوبتها ثقيلة تدل على عدم رغبة في الكلام وإن كانت لم تقصر في حسن الإصغاء والالتفات وعلى وجهها أثناء ذلك علامات عزوب الذهن واستغراق الفكر كالذي شاهدت فيها أول ما رأيتها. هذه الفتاة لم يكن يرى عليها أقل دلالة على الغربة في إيناس جليسها وتسلية عشيرها مع غضارة شبابها وجمال منظرها - لقد كان ثغرها لا يعرف السبيل إلى الابتسام والضحك وكانت عيناها مع دوام نظرهما إلى مخاطبها كأنهما تنظران إلى شيء آخر قد شغلتا به عن كل ما عداه. ما أعجب هذه الفتاة! ولما أعيتني الحيل إلى استمالتها واستلانتها فكرت في إخبارها بحادثتي السالفة. فأصغت إلي باهتمام ولكن الحديث لم يثر في نفسها من الدهش والاستغراب ما كنت أتوقع، فكان كل جوابها هو: أليس اسم هذا الرجل فاسيلي؟ فتذكرت أن العجوز نادته بالأمس فاسينكا فقلت بلى إن اسمه فاسيلي، أعترفينه؟. قالت: إن بهذه المدينة رجلاً قديساً اسمه فاسيلي فلعله هو. قلت: لا دخل للتقديس والقداسة في هذا الموضوع فإنه لا يعدو كونه تأثير المغناطيسية وهو موضوع يهم الأطباء وعلماء الفيزيولوجيا والبسيكولوجيا. ثم شرعت أشرح نظرية القوة المسماة المغناطيسية أعني إمكان تسليط إرادة إنسان على

إرادة أخرى وإخضاع الثانية للأولى وهلم جرا، ولكن شروحي وإيضاحاتي - التي كان بها ولا شك شيء من الخلط والتشويش - لم تحدث أدنى تأثير في نفس الفتاة، وجعلت تصغي ويداها المقبوضتان ملقاتان على ركبتيها وفيهما المروحة لا تحركها ولا تعبث بها كعادتها، وشعرت كأن كلماتي كانت تقع عليها فترتد عنها إلي كما لو كانت تمثالاً من الرخام، لقد كانت تسمع هذه الكلمات ولكنها كانت تعتقد اعتقادات أخرى ليس في قوة اللغة والإقناع إبطالها وإزالتها. قلت لها: ما أراك ممن يعتقد بالمعجزا!. قالت: بلى أعتقد بها ارسخ اعتقاد وكيف يستطيع الإنسان غير ذلك، ألم ينبئنا الإنجيل أنه من آمن بالله مثقال ذرة استطاع أن يزحزح الجبال عن مواضعها؟ وما على المرء إلا أن يؤمن حتى يستطيع أن يأتي المعجزات!. قلت لها: الظاهر أن الإيمان في هذا الزمان قليل وعلى كل حال فنحن لا نزال نسمع بحدوث المعجزات. قالت: ومع ذلك فإن المعجزات تحدث، أفلم تر بعينك، كلا! لم يفن الإيمان بعد من العالم، ورأس الإيمان. . . فقاطعتها قائلاً: رأي الحكمة مخافة الله. فاستمرت صوفيا فقالت: رأس الإيمان إذلال النفس وقهرها وامتهانها. قلت: أو يبلغ الأمر الإذلال والامتهان؟ قال: أجل إن كبرياء الإنسان وغطرسته وغروره وزهوه - هذه هي أحق الأشياء بالإبادة والاستئصال، إنك قد ذكرت الإرادة في كلمتك السالفة - هذه الإرادة هي ما يجب أن يسحق ويمحق. فتأملت شخص الفتاة الصغيرة التي جعلت تنطق بهذه الكلمات. . فقلت في نفسي: وايم الحق إن هذه الطفلة لتصدر القول عن أعماق نفس جادة صادقة لا تقول إلا ما تعتقد. ثم نظرت إلى من حولي من الراقصين فخيل إلي أنهم يجدون مسلاة وملهاة فيما يبدو على إذ ذاك من علامات الدهشة والاستغراب بل لقد لمحت أحدهم يبتسم إلي ابتسام من يشاطرني عواطفي ويشاركني مشاعري كأن لسان حاله يقول لي: ليت شعري ما رأيك في

فتاتنا الغريبة الأطوار والأحوال ليس في هذا المكان إلا من يعرف نزعاتها وأميالها وأفكارها وآراءها. والتفت إلى صوفيا فقلت: وهل حاولت سحق إرادتك ومحقها؟. فقالت بلهجة العنيد المستبد برأيه: كل امرئ ملزم أن يفعل ما يظنه الصواب. قلت بعد فترة قصيرة من السكوت: اسمحي لي أن أسألك هل تعتقدين بإمكان استحضار الموتى؟. فهزت صوفيا رأسها وقالت: ليس هناك أموات. قلت: ماذا تقولين؟ قالت: ليس هنالك أرواح ميتة. الأرواح لا تموت البتة وهي تستطيع أن تظهر متى شاءت. . وهي أبداً ترفرف علينا وتحوم حولنا. قلت: عجباً!! أتظنين مثلاً في هذه اللحظة أن يجوز أن تكون إحدى الأرواح الخالدة حائمة حول رأس ذلك الضابط الطويل ذي الأنف الأحمر؟. قالت: ولم لا؟ إن ضوء الشمس ليسقط عليه وعلى أنفه الأحمر أفليس ضوء الشمس وكل ضوء غيره من الله؟ وماذا تهم المظاهر؟ إن الرجل النقي يرى كل شيء نقياً، وكل ما يحتاج إليه المرء هو الاهتداء إلى معلم - إلى قائد مرشد. قلت لها: ولا أنكر أن قولي كان يشوبه شيء من الهمز واللمز (معذرة معذرة. . تقولين أنك في حاجة إلى القائد والمرشد. . فما فائدة قسيسك إذن؟. فنظرت إلي نظرة فتور وجمود ثم قالت: أتريد أن تسخر مني وتضحك؟ إن قسيسي ينبئني بما ينبغي علي أن أفعل، ولكن الذي أحتاجه هو قائد يريني بأفعاله كيف يضحي الإنسان بنفسه!. وهنا رفعت الفتاة عينيها إلى السقف، فأذكرني وجهها الصبياني وما عليه من دلائل عزوب الذهن واستغراق الفكر وسيما الدهشة والحيرة الخفية المستمرة صورة عذراء روفائيل. قم استرسلت في حديثها فقالت ولم تلتفت نحوي ولم تكد تحرك شفتيها: لقد قرأت في بعض الكتب حديثاً عن رجل كبير القدر عالي المنزلة أنه أوصى أن يدفن بعد مماته تحت عتبة

كنيسة إن كل من دخل الكنيسة يدوس عليه بقدمه - فهذا ما يجب على الإنسان أن يفعله في حياته. وعنا ارتفعت أصوات الطبول من فرقة الموسيقى (بوم! بوم! ترا - را - را!) ودوي طنينها، ولا اخفي على القارئ أني رأيت ذلك الحديث الذي دار بيني وبين الفتاة أثناء الرقص ضرباً من الشذوذ، على ا، الخواطر التي أثارها في نفسي لم تكن في شيء من العواطف الدينية ففرحت بتقدم أحد الحاضرين إلى رفيقتي لترقص معه إذ كان في ذلك إيقاف للخوض في أمثال هذه الموضوعات. وبعد ربع ساعة أوصلت الآنسة صوفيا إلى والدها. وبعد يومين غارت مدينة ت. وما هي إلا أيام قلائل حتى سقط على ذاكرتي صورة الفتاة ذات الوجه الصبياني والروح المحصنة المنيعة التي لا تخترق حجبها الظنون ولا تنفذ إلى لبابها الأوهام. مضى على ذلك عامان ثم اتفق أن هذه الصورة عادت فجأة إلى ذاكرتي وبيان ذلك أني كنت أحادث وميلاً لي كان قد عاد حديثاً من رحلة في جنوبي روسيا قضى أثناءها برهة في مدينة ت فجعل يسرد لي أخباراً عن هذه البلدة وما حولها إلى ان قال: خبرني هل تعرف شيئاً عن ف. ج. ب؟ قلت له: أعرفه بالطبع قال: وابنته صوفيا، أتعرفها؟ قلت: بلى قد رأيتها مرتين. قال: أليس من أعجب العجائب أن هذه الفتاة قد فرت من بيت أبيها؟ قلت: وكيف كان ذلك؟ قال: لست أدري وكل ما أعلم أنها اختفت منذ ثلاثة أشهر ولم يسمع عنها شيء حتى الآن. وأعجب ما في الأمر أنه لا يعرف مع من فرت؟ لقد رفضت كل طالب وردت كل خاطب. وكانت في سلوكها مثال الطهر ونموذج العفاف. ويلي ثم ويلي من أولئك الفتيات المتدينات! ومن أكبر البلية أنه قد انتشرت عهنها في أنحاء الإقليم إشاعة سوء وأصبح عرضها هدفاً لسهام القذف والقدح ومخاضاً للألسن الشتامة. والشفاه النمامة. وقد راح أبوها رهينة الكمد واليأس. وإني لأعجب ماذا كان سبب فرارها. لقد كان أبوها لا يضن عليها بشيء وكان

حريصاً على إجابة مطالبها وقضاء مآربها. وأعجب من كل ذلك أن جميع ربات الخلاعة والتبرج من فتيات الإقليم باقيات في دور آبائهن لم تهرب منهن واحدة. قلت: وللآن لم يعثروا عليها؟ قال: يعثرون عليها؟ كلا وما أظنهم يجدونها ولو غاصوا عليها في قرار المحيط! وماذا يهم ضياع مثلها! سينقص عدد الوارثات المثريات واحدة، وهذا أسوأ ما في الأمر. أدهشني ذلك النبأ غذ كان لا ينطبق على ما بقي في ذاكرتي من صورة صوفيا. ولكن الحادثات تكون. وليس في هذا الحياة مستحيل ولا مستبعد. والدنيا أم العجائب. بلى أنها الأيام أصبحن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب في خريف هذا العام ذاته ساقني القدر ثانياً بمناسبة الأعمال الرسمية إلى إقليم س المجاور لإقليم ت. وكان الجو مطيراً. والبرد زمهريراً فنزلت أثناء سفري في بعض محطات البريد وكان الوقت قرب المساء وكنت قد بلغت من النصب والإعياء ما عزمت معه على قضاء الليلة في فندق المحطة. فأعطيت فيه غرفة ذات كنبة خشبية مهدمة وأرض منحدرة وجدران مغشاة بورق بال ممزق وكان يفوح في أرجائها خليط من رائحة البصل وحصر القش وزيت النفط. وتزدحم طوائف الذباب على كل ما فيها. ولكني بها على كل حال ملاذاً من الريح العاصفة. ومعاذاً من الديمة الواكفة. فطلبت زجاجة نبيذ واتكأت على الكنبة وأطلقت العنان لخواطري وأوهامي. فإني لكذلك إذ طرق أدني صوت خبطات ثقيلة في الحجرة العمومية التي كان يفصلها عن غرفتي حاجز من الخشب وكانت هذه الخبطات مشفوعة برنات معدنية متولية كطنين السلاسل ثم فاجأ مسمعي صوت مذكر خشن يقول: بارك اله في كل من يسكن هذا النزل! بارك الله فيهم! بارك الله فيهم آمين. . آمين بدد الله شمل أعدائهم! وكان في الصوت تمتمة وحشية وتقطع مستنكر. . ثم سمعت زفرة شديدة وسقوط جسم ثقيل فوق مقعد مع طنين السلاسل الآنفة الذكر وانبرى الصوت يقول: أكولينا! خادمة الله! تعالي إلى هنا. إني في أطمار رثة وأسمال بالية ولكني مغمور ببركة الله. مشمول برحمته ورضاه. رحماك اللهم يا ارحم الراحمين يا أرحم الراحمين! يا خالق هذا الجسد انظر إلى عجزي وتقصيري أو - هو - هو - ها - ها. . . تفو! اللهم اغمر هذا المنزل بفيض إحسانك وإنعامك.

فقلت مستفهماً من ربة الفندق وهي داخلة علي بزجاجة النبيذ: من هذا؟ فقالت بخفوت وسرعة: هذا يا سيدي رجل من الصالحين الأبرار المقدسين وهو حديث العهد في بلدتنا. وقد ومن علينا بالزيارة في مثل هذا الجو العاصف الواكف وإن قطرات البلل لتتحدر من ثيابه كالجدول! وعليه من السلاسل ما لا يطيق حمله مخلوق. واستأنف الصوت دعواته فقال رحة الله وبركاته! أكولينا رهيبي أكولينا كولينوشكا صديقتي وخليلتي! أين جنتنا وفردوسنا؟ اين جنة نعيمنا وفردوس لذاتنا؟ في القفار الموحشة فردوسنا وجنتنا. . الغبطة والرخاء والسعادة لهذا المنزل. . . أو. . . أو. . . أو) ثم جمجم الصوت بكلام غير مبين وتثاءب تثاؤباً طويلاً ثم ضحك ضحكة خشنة بحاء وبصق بصقة شديدة. قالت ربة الفندق كأنما تحدث نفسها وكلها إصغاء والتفات عند الباب: وا أسفاه إن الرجل المقدس ينثر الدعوات الصالحات على من حوله وأنا معمزل عنه أحرم من عظيم بركاته وكريم نفحاته تالله لأهرعن إليه. ثم انطلقت من الغرفة بسرع من لمح البصر. وكان في الجدار شق فوضعت عيني عليه فرأيت الرجل الموسوس جالساً على مقعد وظهره لي فلم تأخذ عيني منه سوى رأس ضخم أشعث في مثل حجم المرجل الكبير وظهر عريض محني في قميص مرقع. وكانت تركع على الأرض بين يديه امرأة نحيفة رقيقة في مثل رداء طبقة الصانعات وقطرات البلل تتصب من ردائها وعلى رأسها منديل أسود وقد تدلى إلى عينيها. وكانت تحاول انتزاع نعلي الرجل المقدس وأصابعها تزل وتزلق من فوق الجلد الوحلي المبلول. وكانت ربة المنزل واقفة إلى جانبها مضمومة اليدين على صدرها تنظر إلى (ولي الله) بعين ملؤها الخشوع والإجلال والهيبة وهو يجمجم كما أسلفنا بألفاظ معجمة غير واضحة المخارج. وأخيراً استطاعت المرأة أن تخلع النعلين وكادت من شدة الجذب أن تقع على ظهرها ولكنها تداركت نفسها وشرعت تحل لفائف الخرق البالية المطوية حول ساقي الرجل الشريد. وكان في بطن قدمه جرح بليغ فزويت وجهي تأففاً. وقالت له ربة المنزل بصوت تذلل وخشوع: ألا تأمرني آتيك بكوبة من الشاي يا عزيزي؟.

فأجاب الرجل المقدس بلهجة الهازئ: ما أجمل هذا الرأي! أنت تريدينني على مضاء شهوات الجسد المجرم الأثيم؟ أو - هو - هو! إنما الواجب على المرء أن يحطم عظام جسده الأثيم! ولكني أراها تدكر الشاي! أجل أيتها المرأة البرة الكريمة إن للشيطان علينا لسلطاناً أي سلطان. وأرانا مهما قاتلناه بكل ما لدينا من الوسائل كالجوع والعطش وبالبرد وبالقيظ وبكل هام من القطر سجاج. وكل هاطل من البرد الملحاح - فلن نؤثر فيه شيئاً. ولا يبرح بعد كل ذلك كما كان شدة بأس. وصعوبة مراس، وحولاً وقوة، وصولة وفتوة. فتذكروا يوم تشفع لكم العذراء ستعطون يومذاك كل الخير، وتحمون من كل الشر!. فلم تملك ربة النزل أن ارسلت زفرة لإعجاب خافتة. واستمر الشريد فقال: أيها القوم أعيروني أذناً صاغية، وقلوباً واعية! أنفقوا في سبيل الله من كل ما لديكم تصدقوا برؤوسكم تصدقوا بقمصانكم إذا سئلتم فأعطوا وإذا لم تسألوا فأعطوا. لأن الله يبصر كل شيء وليس تخفى عليه خافية. أترون أنه يصعب عليه تهديم سقوفكم. . لقد أعطاكم الخبز من فضله فاخبزوه في أفرانكم. إنه على كل شيء مطلع! مطـ. . . . طـ. . . . . . . لع! من ذا الذي عينه في المثلث؟ من. .؟ من. .؟ خبروني عين من. فصلبت ربة النزل في خفية تحت مبذلتها وصاح المجنون المتصوف مردداً قوله مراراً وهو يصرف نابه حنقاً وغيظاً: إن العدو القديم (الشيطان) صخرة صماء! صمـ،. . . . . . . ماء!. . . صمـ. . . . . . ماء! تباً للأفعوان الصل! تباً للحية الرقشاء ولكن الله سيثور ويبدد شمل أعدائه. . . . هاـ هاـ تفوه!. وهنا سمعت صوت آخر خافت يقول همساً: هل عندكم زيت أعطوني قليلاً أصبه على الجرح،. . وعندي خرقة نظيفة. . فنظرت من الشق فرأيت المرأة التي تصحب الشريد لا تزال تعالج الجرح في قدمه فقلت في نفسي (هذه مجدولين جديدة فيما أرى). قالت ربة الفندق: سآتيك به سريعاً يا عزيزتي. ثم أنها دخلت غرفتي فأخذت ملعقة زيت من المصباح المشعل أمام صورة العذراء. قلت لها مستفهماً: من تلك التي تعنى به وتعالج جرحه؟.

قالت: لا تعلم يا سيدي أظنها أيضاً تريد التوبة والخلاص والتكفير عن خطاياها وسيئاتها. ولكن أي رجل مقدس هذا الرجل!. في أثناء ذلك كان المجنون المتصوف يردد الكلمات التاية (أكولينوشكا - ابنتي المحبوبة - طفلتي العزيزة) ثم أجهش بالبكاء. عند ذلك رأيت المرأة الراكعة تحت قدميه ترفع إليه عينيها. . . يا لله! لقد أذكر أني رأيت هاتين العينين قبل اليوم. . ولكن أين! وانطلقت ربة الفندق إليها بملعقة الزيت فأخذتها وأكملت علاجها ثم نهضت واقفة وقالت: هل عندكم مصطبة نظيفة وشيء من الحشيش (وهو الكلأ اليابس). . إن فاسيلي نيكاتيتيش بطيب له النوم على الحشيش. قالت المرأة: أجل عندنا. امض معي. . ثم التفتت إلى الرجل المقدس فقالت: امض معنا يا عزيزي لتجفف ثيابك وتستريح. فسعل الرجل وقام من مقعده في بطء - وسمعت أنين سلاسله ثانياً - ثم استدار حتى واجهني وجعل يتأمل صورة العذراء ويصلب على صدره. فعرفته في الحال وعلمت أنه هو عين ذلك الصانع فاسيلي الذي أراني صورة معلمي المتوفى! وكانت له لحية كثة ملبدة. وكان عليه ثياب رثة بالية وله سحنة وحشية مولهة حائرة. فكانت هيئته أبعث على النفور والاشمئزاز منها على الذعر والرعب وجعل هذا الرجل العجيب يدير عينيه الذاهلتين في أركان المكان وفي أرضه كمن ينتظر شيئاً. وقالت المرأة الت يمعه: فاسيلي نكتيتش سير معي يا عزيزي. فرفع الرجل رأسه بغتة والتفت ولكنه عثر فتمايل. . فهرعت إليه رفيقته في الحال وأخذت بعضده. . وكان صوتها وشكلها يدلان على حداثة سنها. أما وجهها فكان لا يكاد يرى. وقال الرجل الشرير مرة أخرى بصوت رعش مرتجف وفمه مفتوح عن آخره وهو يضرب صدره بقبضة يده (أكولينوشكا صديقتي!) ثم زفر زفرة شديدة خرجت من أعماق صدره. وغادرت الغرفة ربة المكان ومضى الرجل ورفيقته على أثرها.

واضطجعت على الكنبة وفكرت ملياً فيما رأيت. إن الرجل المغناطيسي قد أصبح مجنوناً دينياً (مجذوباً) إلى هذا الحد قد أوصلته القوة العجيبة التي لا يسع الإنسان إلا الاعتراف بها!. في غد ذلك اليوم قال لي خادم الفندق: هل رأيت يا سيدي أمس الجوالة الموسوس؟ قلت: نعم وماذا في ذلك؟ قال: ورأيت رفيقته أيضاً؟ قلت: نعم رأيتها. قال: إنها لسيدة صغيرة من أسرة شريفة. قلت: ماذا تقول؟ قال: إنما الحق يا سيدي لقد نزل هنا اليوم جماعة من التجار وقد عرفوها، وقد خبروني باسمها ولكني نسيته. فأثارت كلمته هذه في خاطري ذكرى كلمح البرق. قلت له: أو لا يزال الجوالة هنا.؟ قال: بلى، وما أظنه قد رحل بعد. قلت: وهل السيدة معه؟ قال: أجل قائمة في خدمته. ذهبت إلى السلم فصوبت النظر إلى الجوالة المجذوب فوجدته جالساً فوق مقعد على باب الفندق منحنياً ضاغطاً بكلتا يديه على مقعد يهز رأسه المنكس يمنة ويسرة كأنه الوحش البري في قفصه، وكانت خصل شعره الكثيفة تغطي عينيه وتهتز من جانب لآخر وكذلك كانت شفتاه الغليظتان اللتان كان يخرج منهما همهمة مما لا يفوه به آدمي وكانت رفيقته أمامه حاسرة الرأس (كانت قد غسلت رأسها وهي تهم أن تجففه بمنديل، فما هو إلا أن وقعت عيني عليها وهي على هذه الحال حتى رفعت يدي نمحو السماء تعجباً. . ماذا أرى! هذه صوفيا واقفة أمامي. والتفتت صوفيا بسرعة وشخصت إلي بعينيها الزرقاوين جامدتين لا تطرفان كدأبهما أبد الدهر. وكانت قد هزلت ورق بدنها كثيراً واخشوشنت بشرتها ولوحت الشمس وجهها

وأشحبت لونها ولكن جمالها مع ذلك لم ينقص. . غير أن سيما الحيرة والاندهاش الذي لا يفارق وجهها أصبح الآن مشفوعاً بمعنى آخر - معنى اعتزام وجد وجرأة وتسام وترفع - وقد زال عن وجهها كل أثر لمعاني الحداثة والطفولة. فذهبت إليها وصحت قائلاً: صوفيا فلاديميروفانا! أو يمكن أن تكوني أنتي صوفيا! وفي مثل هذا الثياب. . ومع مثل هذا الرفيق!. فانتفضت مذعورة وحملقت في وجهي كأنما تريد أن تعرف من ذا الذي يخاطبها ثم استدارت فجأة وأسرعت إلى رفيقها دون أن تنطق بكلمة. وقال المجذوب بصوت ملجلج ملعثم وزفرة شديدة أكولينوشكا - خطايانا خطايانا! قالت صوفيا فاسيلي نكيتتش هيا بنا نرحل في الحال ألا تسمع ما أقول؟ هيا بنا في الحال في الحال ثم جذبت القناع على جبينها بيد وأمسكت عدد الرجل بالأخرى: امض بنا في الحال من ههنا يا فاسيلي إن هنا لخطراً يهددنا. قال الجوالة الموسوس بطاعة وخضوع: إني آت يا ابنتي المحبوبة إني أت، ثم قال بجملة جسده إلى الأمام ونهض من مقعده اصبري ريثما أربط هذه السلسلة. وتقدمت إلى صوفيا مرة ثانية فنبأتها اسمي وطفقت أتضرع إليها أن تصغي إلي أو تفوه لي بكلمة واحدة. وكان المطر إذ ذاك يهمي. وينهمر فسألتها بالله أن تشفق على نفسها من صوب شؤبوبه وابتهلت إليها أن ترفق بجسدها الضعيف وتلتفت لأمر صحتها وصحة رفيقها ثم ذكرت لها والدها. . ولكنها كانت بأشد حالات الغيظ والحنق والاهتياج فأعرضت عني إعراضاً وصدت ونفرت أيما نفور وتنفست تنفساً شديداً وسحبت رفيقها وهي تحثه على السير بصوت خفيض ثم مضت به وهي تحرق أنيابها حفيظة موجدة وجعلت في أثناء سيرها تحزمه بنطاقه الحديدي وتعقد عليه سلاسله ثم قنعت رأسه بقبعة طفل مهدمة القمة ووعت عصاه في يده وطرحت على ظهرها حقيبة الزاد وانطلقت به من الفندق إلى الطريق العام. . فرأيت في هذه الحال أنه ليس من حقي أن أحجزها كرهاً وقسراً ولو فعلت لما كان فيه أدنى ثمرة فأرسلت في إثرها آخر صيحة فلم تكترث بي ولم تلتفت إلي ولكنها مضت قدماً تخوض أوحال الطريق والرجل المقدس ولي الله مستند عليها معتمد

على ذراعها وما هي إلا لحظات حتى اختفى عني وراء حجب الغيم وسجوف الضباب المرصعة بأسلاك القطر المشتبكة وقلائد لؤلؤ المزن المنحلة المنفرطة شخصا الرفيقين المتلازمين. الجوالة الموسوس وصوفيا. . وكذلك كان آخر عهدي بهما. عدت إلى غرفتي وأطرقت أفكر وأحاول حل ذلك المشكل المعضل فلم أهتد إلى حلة على أي وجه وبأي اعتبار أجل لم أستطع أتبين بأي علة وأي عذر وحجة يتفق أن فتاة مليحة حسناء قد نشأت في لين العيش ورفاهيته تتفيأ ظلال السعادة وتتقلب في أحجار النعيم يلذ لها أن تهجر الدنيا ولذاتها وتنسلخ من أهلها وأسرتها وقومها ومنزلها ووطنها وخلانها وأصحابها ولداتها وأترابها وتنجرد من عاداتها وسننها ومن لذائذ العيش ومناعمه فلماذا كل ذلك؟ لاتباع الرجل مشرد موسوس مجذوب تلازمه وتقوم في خدمته كأحقر العبيد! لم يكن عندي أدنى شك في أن الباعث لها على ذلك كان شيئاً خلاف الحب والهوى! كلا إن صوفيا ما برحت عفة الإزار طاهرة الذيل. لقد ضحت صوفيا بنفسها في سبيل ما اعتقدت به أنه الحق والواجب الذي من أجله خلقت ولأدائه تعيش وتبقى إنه لم يسعني سوى السف والأسى لما قد أتت صوفيا من اختيار هذا السبيل. . ولكني لم أبخل عليها عليها من ذلك بإعجاب - بل بالاحترام والإجلال. . لقد كانت حدثتني حديث وجد وإخلاص عن تضحية النفس وقهرها وإذلالها ولقد صدقت القول بالفعل وهي التي تحقق أقوالها أعمالها. . لقد كانت تلتمس الدليل والقائد ثم وجدته وأي دليل - والعياذ بالله - وأي قائد!. أجل لقد طرحت نفسها لتداس بالأقدام. . وقد بلغني على ممر الزمن أن أهلها استطاعوا أخيراً أن يعثروا عليها ويرجعوها إلى دارها، ولكن لم تعش في دارها طويلاً فماتت ميتة صامتة ساكتة دون أن تنبس لأحد ما بكلمة أو لفظة. سلام الله عليها وريحانه،. ورحمة الله عليها ورضوانه على تلك المخلوقة المسكينة الخفية الأمر المجهولة الشان! لعل صاحبك فاسيلي نكتيتس لا يزال في تجوالاته الجنونية يكدح ويكد. . ألا عجباً لأبدان أمثاله الحديدية، وبنيتهم الصخرية على إني أخشى أنتكون نوباته الشللية قد أسكتت نفسه، وأسكنته رمسه. كلمة على هذه القصة هذه القصة العجيبة هي بحث سيكولوجي يراد به إيضاح الفرق الأساسي الذي يميز الشعب

الروسي عن الشعوب الغربية، وإن كلمة بطلة الرواية صوفيا وهي أنك تحدثني عن الإرادة - والذي أرى وأعتقد هو أن الإرادة يجب أن تسحق وتمحق. هذه الكلمة تبين بأجلى وضوح وأرسخ عقائد النفس الروسية وأعمق أمانيها وأغراضها فرغبة الروسي في تعريض نفسه لآلام الحياة ومنغصاتها وتوقانه إلى إذلال نفسه وقهرها وطرحها تحت أقدام الغير توطأ وتداس، كل هذا يدل على أن الروسي ذو إرادة ضعيفة ضئيلة، وإنه يجد الاستكانة والاستسلام أسهل عليه من محاولته أن يكون مقتدراً قوياً مظفراً منصوراً رفيع القدر، عالي القيمة، وهذا الاستسلام واللين والرقة التي تميز طبيعة الروسي هي منبع فضائله ومناقبه المميزة له على غيره. ولكن التدين عند الغربي له معنى آخر، وهو الرغبة في أن يكون المرء رفيع المنزلة من حيث الآداب والأخلاق قابضاً بيده على سراج الحق المنير متسنماً ذروة الفضيلة والكمال. وأن يكون لي الله المصطفى وصفية المختار. أما معنى التدين عند الروسي فهو مهانة النفس وإذلالها وبخس قيمتها والحط من قدرها، بل محوها وإعدامها البتة، أعني خضوعها وركوعها وتضعضعها واضمحلالها أمام إرادة العرش الأعلى وأمام محبة المرء لأخيه حباً خالصاًَ في سبيل الله. فالذهن الغربي يرقى إلى العظمة بحصر قوة الإرادة في مجال الكد والعمل وإبراز جملة قواه الكامنة. وكفاآته الباطنة. وبدفعه عن نفسه كافة المؤثرات والعوامل التي من شأنها التسلط عليه أو تشويشه أو إضعافه. أما الذهن الروسي فإنه بفضل حرمانه من قوة الإرادة والصرامة والصلابة فإنه يرقى إلى العظمة بما يمتاز به من خلال التوكل والاستسلام والاستكانة وقبوله الحياة على علاتها ورضاه بالمعيشة على آفاتها ورحمته ورثاؤه للمصاب والمنكوب. وعطفه ومواساته للشقي والمكروب. ولا أنكر أنا إذا اعتبرنا الروسي من حيث الحياة العملية وجدناه فاقداً لكثير مما تمتاز به الشعوب الغربية من الفضائل النافعة وحائزاً لمعظم رذائلهم. ولكن رحمته وسخاءه وعطفه ومواساته لمن هو أباس منه وأشقى، هذه الفضائل إنما تصدر وتنجم عن اعتقاده بضعفه وعجزه وصغر قيمته وحقارة قدره اعتقاد المعترف بسلطان القضاء والقدر وبالعجز عن مغالبته ومقاومته. وكذلك إذا تأملنا سيرة صوفيا بطلة هذه القصة وجدنا أن فرط رغبتها في تضحية نفسها وراسخ عقيدتها في أن الحق والصواب هو تعريض النفس لمكابدة المشاق والآلام هو أشبه بأخلاق الروس وغرائزهم من حيث

الاستسلام للأقدار والانقياد صحبة تيارها لا عكسه. ومن ثم مصدر تلك الروح المخيفة - ورح الجيل الحديث الذي ضحى بنفسه في حركة النيهليست فإن باعث تضحية النفس كان يدفع بالشاب الغيور المتوقد على غايته المقصودة على الرغم من كافة المؤثرات والعوامل الحائلة بينه وبين غرضه. وعلى ذلك فإن صوفيا بطلة القصة هي فتاة نهلستية سابقة لأوانها. قلنا أن فقدان القوة والإرادة من النفس الروسية هو أصل الفضائل والرذائل الروسية وبهذه المناسبة نقول أن من العجائب أن نرى روح كل شعب إنما تنمو وتنبعث من نزعة هذا الشعب إلى طلب الصفات والمميزات التي قد حرمها بالفطرة. مثال ذلك أن الذهن الألماني الذي هو أشد الأذهان تيقظاً وانتباهاً إلى ماديات الحياة وإلى وجوب إحراز الفوائد المحسوسة والمنافع الملموسة تراه مع ذلك، بتأثير قانون الموازنة ورد الفع، يرخي وتر قوسه ويحبس عنان فرسه، وبدلاُ من التشمير في إحراز الماديات والتحفز لانتهاز فرص الحياة ينغمس في بحور التصورات والتخيلات ويمعن في أودية الأوهام والأحلام، ثم انظر الذهن الفرنسي الذي هو أهدأ الأذهان وأبردها واصفاها وأدقها تحليلاً لما في نفسه من بواعث ونزعات تراه مع كل ذلك بتأثير قانون التوازن أيضاً، يعمد إلى تضليل نفسه بين دهاليز المجازات وألغاز الكنايات والاستعارات منصرفاً عن جلاء الأفكار الواضحة إلى غموض العواطف المبهمة. وعلى هذا النحو أرى أن تسخط الذهن الروسي على حركات نفسه وكامن استيائه من نزعاته وتصرفاته هو الذي يثير في ذلك الولوع الشديد بانتقاد كل ما هو باطل ومبالغ فيه حتى نراه يحتقر ما في الأدب الفرنسي من صنوف البديعيات وزخارف الاستعارات وما في الأدب الألماني من الإغراق في التخيلات والأحلام ثم نرى أن فقدان الإرادة م الذهن الروسي تزيد روحه تعمقاً واتساعاً من حيث نظراته وتأملاته في الوجود فهو يستسلم للكون ومؤثراته ولا يمكن ظل حظه الذاتي وظل شخصيته الفردية، مهما أظلم واسود، من الحيلولة بني روحه وبني صحيفة هذا الوجود الهائل كما تفعل إرادة الرجل الغربي، تلك الإرادة المهاجمة المغالبة المنازعة المدافعة التي تحاول أن تعطي شخصيته أوفر نصيب من التصرف والظهور. فمركز الروسي من الكون هو أشبه شيء بالوعاء الذي يحوي ويحفظ كل ما يهبط عليه من آفاق الحياة. في حين أن مركز الرجل

الغربي من الكون هو كالوعاء المقلوب يحجب كل ما يسقط عليه من آفاق الحياة.

تفاريق

تفاريق يقول العقلاء اعف ما استطعت عن غيرك، ولا تعف مرة عن نفسك. الفرصة تقرع الباب، والمشقة تعالجه حتى تفتحه. حب المرء العمل ما لا يدل على إتقانه له أو تفوقه فيه. كلما كبر الرجل العالم رأى مقدار جهله. سمكة تغرق سفينة اختفت الباخرة (سيكلوبس) الأميركية في بحر كاريبيان منذ عام تقريباً، وعليها 295 مسافراً دون أن يعلم عن أمرها شيء، فاضطربت الأفكار لذلك وكثرت التآويل ولكن الناس رجحوا أخيراً أن يكون قد اعترضها بعض الأسماك الضخمة فأغرقها. ولا يعد هذا التأويل خرافياً أو بعيداً عن العقل، ففي هذه البحار تعيش أسماك بل وحوش مائية يتراوح طولها بين التسعة والثمانية عشر قدماً (من 2. 70 إلى 5. 40 من الأمتار) كما يتراوح طول ذراع الواحدة منها بين العشرين والثلاثين قدماًُ (بين 6 - 9 أمتار) ومحيطه بين القدم والقدمين. وهذه الحيوانات المائية تميل بطبعها إلى الهدوء والسكينة ولكنها إذا اهتيجت كان هنالك الهول والفزع الأكبر. وقد اتفق أن رآها بعض الناسي في حالة غضبها، فهي تعلو إلى سطح الماء وتطوق الدفة بذراعيها ثم تجذب السفينة بقوتها الهائلة فتحطمها شر تحطيم. ولا يبعد أن يكون هذا ما حدث للباخرة سيكلوبس، أو أن هذه الحيوانات الغريبة اجتمعن حولها وأخذن يلتقطن من عليها الواحد إثر الواحد وتركنها تسير خالية خاوية حتى اصطدمت في صخر أرسل بها إلى قاع المحيط. الفتاة: يقولون أن القبلات هي لغة الحب. الفتى: إذن دعينا نتجاذب أطراف الحديث الرجل: من الغريب أن امرأتي تعرف الطهي ثم تدعي الإنكار. . أفبعد هذا إغاظة ومضايقة؟!. صاحبه: أجل، وهو أن امرأتي لا تعرف الطهي مطلقاً ثم تضطرني لأن آكل ما تصنع!!

الروائح كمشروبات روحية من مجلة الإجابات الإنجليزية قبض البوليس في الأيام الأخيرة على سيدة في حالة سكر، وبعد التحري والبحث ثبت أنها مدمنة على شرب (ماء الكولونيا) بدلاً من أنواع الخمور المختلفة، وقد عرف بعض الكيماويين هذه السيدة وقالوا أنها تشتري منهم زجاجات كولونيا كبيرة كل أسبوع. وليست هذه هي السيدة الوحيدة التي تتعاطى هذا المشروب الغريب، بل هنالك كثيرات من النساء مصابات بهذا الداء العضال، وإن عددهن قد ازداد كثيراً في السنوات الأخيرة، وقد صرح مدير إحدى الشركات الكيماوية الكبرى بهذا الصدد فقال أنه بالرغم من ارتفاع أثمان الروائح العطرية في خمس سنوات الحرب ارتفاعاً باهظاً لم يك ثم نقص في كمية البيع. على أن هذا المشروب هو بلا شك أبلغ ضرراً وأشد فتكاً بالجسم من أي نوع آخر من المشروبات الروحية المعروفة لوفرة ما فيها من الكحول، ولذا لا تلبث المرأة التي تتعاطاه إلا ردحاً قصيراً من الزمن حتى تضمحل قواها ويفسد عقلها وتنحط آدابها مع أنها ربما ابتدأت ذلك لمجرد اللهو والتسلية. قال أحد القضاة لمتهم يدعي الإنكار: - فكر قليلاً فكلنا معرضون للخطأ والنسيان، فإني مثلاً كنت أظن أني أحضرت ساعتي معي، ولكني وجدت أني نسيتها في المنزل. فلما ذهب القاضي إلى بيته في المساء قالت له زوجته: أرجو أن تكون قد استلمت الساعة سليمة فإني أعطيتها للرجل الذي أرسلته من المحكمة.

محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد

محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد للفيلسوف الألماني الكبير آرثر شوبنهور الفقيه: يسؤوني منك أيها الفيلسوف تهكمك على الدين وسخرك منه جهاراً، وكان خليقاً بك أن تذكر أن دين كل امرئ مقدس في نظره وكذلك يجب أن يكون في نظرك. الفيلسوف: لا أراني ملزماً باحترام الأباطيل والأضاليل لمجرد أن غيري من الناس غبي أبله. ولا أنكر أني أحترم الحقيقة أينما كانت واحترامي للحقيقة هو الذي يدعوني إلى احتقار كل ما ينافيها. الفقيه: يجب عليك أن ترى في الدين الدواء العام لأرواح البشر. وأن تذكر أن احتياجات الناس ينبغي أن تعالج حسب قوة مداركهم ومبلغ أفهامهم. وأن الدين هو الوسيلة الوحيدة لجعل العامة والطغام ذوي العقول الضعيفة والأذهان الكثيفة المنغمسة في الحقائر والسفاسف والماديات ومداق المكاسب ومساف الأرباح - أقول أن الدين هو الوسيلة الوحيدة لجعل من هذا شأنهم يشعرون بشريف غرض الحياة وسامي مغزاها. وذلك أن الرجل العادي لا يفكر ولا يهتم إلا بما يقضي حاجاته البدنية وشهواته الحيوانية فيفسح له مجال للهو واللذة. فيظهر مؤسس الأديان والفلاسفة في الدنيا لينفضوا عن مثل هذا الرجل غبار البلادة والاسترخاء ويكشفوا له عن جلال معنى الوجود - فأما الفلاسفة فيؤدون هذه الرسالة للفئة المتنورة القليلة، وأما مؤسسوا الأديان فيؤدونها للأغلبية الغبية - للعامة والدهماء. فالديانة هي فلسفة العامة فلا بد لهم من الاحتفاظ بها. ولذا يجب احترامها لأن إنكارها يؤدي إلى زوالها. وكما أن هنالك شعراً عامياً وحكمة عامية (في الأمثال السائرة) فكذلك يلزم أن يكون ثمت فلسفة عامية. لأن العوام يحتاجون أيضاً إلى شرح لمعاني الوجود وتفسير لألغاز الحياة وهذا الشرح والتفسير ينبغي أن يكون ملائماً لأذهانهم، والأديان في جميع الأزمنة والأمكنة تقدم للناس هذا التفسير في صورة ثوب رمزي للحقيقة - وهذا الثوب الرمزي يؤدي من النفع والفائدة لبني الإنسان فيما يتعلق بحياتهم العملية ووجداناتهم أعني من حيث اعتباره دليلاً مرشداً في معاملاتنا ومعاشراتنا وعزاء وسلوة في الأحزان والمصائب وعند حلول الموت - هذا الثوب الرمزي للحقيقة يؤدي من النفع والفائدة من هاتين الوجهتين مثلما كانت تؤدي الحقيقة ذاتها لو أننا عرفنا فأحرزناها. فلا

تستنكر أيها الفيلسوف ما يبدو لك من سخافة هذا التفسير - هذا الثوب الرمزي الذي يقدمه الدين إنارة لأذهان البسطاء وشفاء لغليلهم. ولا تمقت ما يطهر لك من فاحش زخرفته وزبرجه وظاهر باطله ومحاله وغلوائه وإغراقه لأنك مع ما قد أوتيته من فضل وعرفان وعلم واسع لا تستطيع أن تتصور ما يلزم اتخاذه من لمناهج الملتوية والمسالك المتعرجة الملتفة لإيصال الحقيقة إلى أذهان البسطاء السذج. فالأديان المختلفة إنما هي قوالب مختلفة تفرغ فيها الحقيقة ليستطيع الناس إدراكها إذا كانوا يعجزون البتة عن فهمها وهي عارية مجردة - وكان من المستحيل عليهم تصور هذه الحقيقة منعزلة عن الثوب الرمزي. فلا تغضب أيها الصديق إذا قلت لك أن ازدراءك وهزءك بهذه الثواب الرمزية - بهذه الأشكال والصور والقوالب - دليل السخف والظلم. الفيلسوف: أوليس من السخف والظلم أيضاً أن يطلب الفقهاء بمحو كل فلسفة غير تلك الفلسفة التي تقول أنت من مؤسسي الأديان صاغوها لمعالجة حاجات الجماعات وشفاء غليلهم من حيث المعاملات المادية والأماني الروحانية وجعلوها طبق أذهانهم الضيقة ووفاق أفهامهم السقيمة؟ أيصح أن تجعل تعاليم الدين أقصى حد لطموحات الذهن البشري ومقياساً لكل تأمل وتفكير بحيث تصبح فلسفة الفئة القليلة المتنورة (باعترافك أنت) وجل همها وغايتها مطابقة وتأييد فلسفة العوام وشرحها وتفسيرها؟ وهل يصح أن يصبح التساهل والتسامح دعوة صادرة عن الدين الذي هو مثال التشدد والقسوة؟ وهل تراني في حاجة إلى تذكيرك بمحاكم الزندقة والإلحاد ومحاكم التفتيش والحروب الدينية والصليبية ومصارع سقراط وبرونو وفانيني بالسم والنار. أي عقبة هي أكأد في سبيل الفلسفة الصائبة الحكيمة والبحث الصادق عن مكامن الحقيقة الذي هو أسمى وظيفة لأسمى العقول البشرية من هذا النظام الفلسفي التوطئي (أعني التعاليم الدينية) المؤيد من جانب الحكومات التي يبالغ في غرس مبادئه في كل رأس منذ أوائل الطفولة بكل جد وهمة وتحمس غرساً شديداً عميقاً تصبح معه تلك المبادئ مستحيلة الإزالة إلا من الأذهان التي أوتيت من المرونة درجة خارقة للمعتاد؟ ألا أن نتيجة هذا هو إفساد قاعدة التفكير الحر وأساس التعقل الصحيح إفساداً تاماً أبدياً لا يرتجى إصلاحه حتى ترى مقدرته الضعيفة على حرية التفكير وإصدار الأحكام العادلة فيما يختص بكافة الشؤون والأحوال

والأشياء قد أصابها الشلل والتلف الدائم. الفقيه: وهذا معناه أن الناس قد وصلوا إلى عقيدة لا يرضون أن يبيعوها بعقيدتك؟. الفيلسوف: لو أنها عقيدة مبنية على النظر الصحيح لقدمنا براهيننا ولاقينا الخصم في ساحة الجدال وميدان المناظرة بمثل سلاحه وعدته. . ولكن الأديان لا تقيم عقيدتها على البرهان ولكن على الوحي والتنزيل. وقابلية الاعتقاد أقوى ما تكون في عهد الطفولة. فإذا ألقيت على الإنسان في هذا العهد طائفة من التعاليم والعقائد بلهجة جد ووقار وحمية وحماسة مع نفي كل ما يعترض من الشكوك والريب في صحة هذه المقولات ومع تهديد المرتاب بالخسران الدائم والنكال الأبدي كان لذلك من شدة الوقع ورسوخ الأثر في نفس الإنسان ما يدفعه إلى اليقين التام بصحة ما يلقى عليه بحيث يصبح الشك في صحتها أصعب عليه من الشك في الوجود نفسه. ومن ثم نرى أنه لا يكاد يوجد فرد واحد في عشرات الألوف يستطيع أن يشذ عن الجماعة فيسائل نفسه هل هذا صحيح؟ فمثل هذا جدير ولا ريب أن يسمى قوي الذهن. أما الذهن العادي فتنغرس فيه أسخف السخافات وأبعد المستحيلات إذا ألقيت فيه بالطريقة الآنفة الذكر. فإذاً أفهم مثلاً أن قتل زنديق أو ملحد وسيلة إلى رضوان الله جعل ذلك جل همه وغايته في الحياة كما كان يفعل أهل إسبانيا. وكما كان يصنع فريق من الهنود كانوا يظهرون تدينهم وطاعتهم للإلهة كالي بقتلهم أخوانهم ورفاقهم كلما سنحت الفرصة للاستيلاء على أموالهم وأملاكهم وكانوا قد أقنعوا أن عملهم هذا محمود مشكور يورثهم غفران الله ورحمته ورضوانه ويكسبهم نعيم الآخرة. ولا بدع في ذلك ولا غرابة فإن العقيدة الدينية المغروسة في الصغر يكون لها من قوة الأثر ما يفسد الضمير ويمحو الرأفة والحنان والرحمة. ولكن إذا شئت أن ترى بعينك قوة تأثير التعاليم الدينية في الصغر فانظر إلى الأمة الإنكليزية. وانظر إلى هذه الأمة التي ميزتها الطبيعة على سائر الأمم ووفرت حظها من العقل والذكاء وحسن التمييز وأصالة الرأي وصرامة العزيمة وقوة الخلق - وتراها مع كل ذلك منحطة المنزلة بين الأمم ساقطة القدر وسط الشعوب لفرط مت قد أفسدت الخرافة الدينية رأيها وشوهت جمال ذهنها - فلقد يبدو هذا العنصر الخرافي وسط سائر مزاياها العقلية ومحاسنها الأخلاقية كفكرة ثابتة راسخة أو بعبارة أدق كفكرة جنونية.

وسبب ذلك راجع إلى القساوسة القائمين بأمر التعليم والتربية إذ يبذلون أقصى الجهد في نقش قواعد الإيمان على صدور الصغار في أيام الطفولة بطريقة تؤدي إلى شلل جانب من الدماغ - هذا الشلل يظهر لنا أثره وتبدو أماراته فيما لا يزال يشاهد فيهم طول أعمارهم من التعصب الممقوت والجمود المستنكر الذي قد يسف والغباوة يصبحون معه لغزاًَ غامضاً وأحجية معماة. وإذ قد ثبت لنا أن التعاليم الدينية لا يمكن غرسها وترسيخها في القلوب إلا في عهد الطفولة اللين الرقيق فإن فكرة البعثات الدينية هي لا شك باطلة ومشروعها ضرب من العبث محكوم عليه بالخيبة والفشل - وهو فرق ذلك نوع من اللجاجة المرذولة والفضول الممقوت والجور والطغيان والحمق والسفه - بدليل أن هذا المشروع لا يقصره أربابه على الأمم التي لا تبرح في طور الطفولة كأمة (الهوتنتوت) و (الكفرة) وأهالي جزائر البحر الجنوبي وإضرابهم ممن قد ظهر فيهم نجاح المشروع بالفعل - بل يحاولون تنفيذه في بعض الأمم ذات المدنيات القديمة والأديان العميقة المهذبة. فتراهم إذا حاولوا تنصير البراهمة من الهنود فلا يكون من أولئك البراهمة إلا أنهم يقابلون ما يعرض عليهم المبشرون من عقائد المسيحية بابتسامة الساخر الهازئ المتفضل على محدثه بالتنازل إلى استماع حديثه أو يقابلون ذلك الحديث بهزة استهزاء من أكتافهم. فلا يكون نصيب المبشرين من أمثال هؤلاء الأقوام إلا الفشل والخيبة. وقد جاء في بعض التقارير الموثوق بها بالعدد الحادي والعشرين من مجلة (اشياتيك ريفيو) المجلة الآسيوية لعام 1826 أنه بالرغم من مجهودات المبشرين العظيمة المتوالية مسافة أعوام عدة في كافة بلاد الهند (البالغ فيها عدد المحكومين بالدولة البريطانية مائة وخمسة عشر مليون نفس) لا يربو عدد المتنصرين عن ثلاثمائة وقد اشتهر أولئك المتنصرون فضلاً عن ذلك بمنتهى الفسق والفجور وفساد الأخلاق. أجل هذه الملايين العديدة لا يبلغ فيها عدد المرتشين القليلي الذمة المتجرين بعقائدهم وأرواحهم أكثر من ثلاثمائة ولا أرى أن النصرانية ازدادت رواجاً في الهند منذ ذلك العهد بالرغم مما يبذله المبشرون الآن - ضد المعاهدات والاتفاقات - من التأثير في نفوس الأطفال في مدارس موقوفة على بث تعاليم الكنيسة الإنكليزية بقصد تهريب المسيحية إلى داخل بلاد الهند ولكن الهنود لسوء الحظ واقفون لتلك البضاعة المهربة بالمرصاد فتنصر أولئك الكبار من الهنود والكبار على

الإطلاق واستعارتهم ديناً جديداً وعقيدة مستحدثة ما هو إلا قناع يسترون به مصلحة شخصية. وإيقان الناس ذلك دون أدنى شك هو الذي يسقط الرجل المتحول عن دينه إلى دين آخر في عهد رجولته من عيون الناس في كل آن ومكان - وهذا يدل على أن الناس لا يرون الدين نظرية تقبل أو ترفض بالبراهين المبنية على أصول المنطق والمعقول ولكن عقيدة تغرس في الطفولة قبل عرضها على أي مسبار أو ميزان منطقي. والدليل على أن رأي الناس هذا في الدين صحيح أن التشبث الأعمى بدين الآباء والأسلاف ليس مقصوراً على الجماعات والجماهير الضعاف العقول بل يشمل كذلك طائفة القساوسة من كل ملة ونحلة الذين قد درسوا أصول الأديان وعقائدها وبراهينها وقواعدها وفروقها واختلافاتها. ومن ثم كان من أندر الأمور وأبعدها انتقال أي قسيس من ديانة آبائه إلى أي دين آخر. إلا أن من أفظع الفظائع أنه حيثما يولد امرؤ تغرس فيه تعاليم بعينها في زمن طفولته وحداثته ثم يحمل على الاعتقاد بأنه إذا أبدى أو أضمر أدنى شك في صحة هذه التعاليم كان عقابه الحرمان الأبدي ن نعيم الآخرة. بيد أن هذه التعاليم الدينية لها تأثير شديد على أصول سائر العلوم والمعارف - فإذا كانت صحيحة جعلت قاعدة نظرنا وأسلوب بحثنا في ماهية كافة الأشياء صحية - والعكس بالعكس. وأيضاً لما كانت التأثيرات المنبعثة عن هذه التعاليم لا تزال تشن الغارات على مجموع نظام العلوم والمعارف فقد أصبح مجموع المعارف البشرية متأثراً بها أشد التأثر في جميع أنحائه وأجزائه وهذا ثابت من مؤلفات كل أمة وجيل ولاسيما مؤلفات القرون الوسطى وأيضاً مؤلفات القرن الخامس عشر والسادس عشر. فمن اطلع على هذه المؤلفات لم يعدم دليلاً قاطعاً على أن أذهان الجلة الفحول من مفكري هذه العصور كانت مشلولة بتأثير تلك الآراء والتعاليم الأساسية فكانت ماهية مادة الكون ونظام حركته ممنوعة محصنة من جميع جهاتها من نظرات البحث العميق والفحص الدقيق. ولا نزاع في أن الاعتقاد بوجود الله مازال طول مدة العصور المسيحية جاثماً كأثقل كابوس على كافة المجهودات العقلية وعلى الأخص المجهود الفلسفي بما قد صد ووقف كل عوامل الرقي والتقدم. ففي اعتقاد النوابغ من علماء هذه العصور كان الإله والشيطان والملائكة والجان يحجبون الكون والطبيعة بأسرها. فلم يجترأ على الاستمرار في أي مبحث على نهايته ولا على

فحص أي موضوع إلى أقصى أعماقه. فكل شيء لا يرون علته ضمن سلسلة العلل الواضحة والأسباب الظاهرة ينسبونه بلا أدنى تردد إلى أحد هؤلاء (إلى الله أو الشيطان أو الجان أو الملائكة) فإذا ظهر في الناس من قد أوتي مرونة الذهن - أعني الخلة الوحيدة التي تمكن الإنسان من صدع القيود التواطئية وتحرير ذهنه من أغلالها - الفى هو وكتاباته في النار - كما وقع للعالمين برونو وفانيني. أما الذهن العادي فإن مبلغ عجزه وشلله بتأثير التعاليم الدينية في الصغر يبدو لك في أجلة مظاهره وأسخفها وأجدرها بالهزء والسخرية عندما يحاول نقد ديانة أجنبية فكل ما يصنعه الرجل العادي هو محاولته إثبات أن تعليم الدين الأجنبي مخالفة لتعاليم دينه فهو يجهد نفسه ليثبت أن الخلاف بين هذه التعاليم وتلك ليس منحصراً في اللفظ فقط بل يتعدى ذلك إلى المعاني والمقاصد ثم تره لفرط سذاجته وبلهه يتوهم أنه قد أثبت بذلك بطلان الديانة الأخرى. وكأنما لم يخطر بباله البتة أن يسائل نفسه أي الدينين أصح؟. ولا عجب فإنه يرى في تعاليم دينه قضايا مسلمة ومبادئ مفروضاً فيها الصحة قبل الشروع في البحث والمقارنة. ومن أعجب الأمثلة على هذه الطريقة المضحكة ما أورده القسيس الفقيه المستر موريسون في العدد الثاني والعشرين من المجلة الآسيوية في مقاله المشتمل على نقد ديانة الصينيين وفلسفتهم. الفقيه: أذلك رأيك أيها الفيلسوف؟ ألا فاعلم أن هنالك رأياً أعلى - ذلك هو أنه لا بد قبل كل شيء من وضع نظام يكبح جماح الجماعات ويصد نزعاتهم السيئة وأميالهم الشريرة حتى لا يأتوا الرذائل والمنكرات والخبائث ولا يرتكبوا الجرائم والفظائع. ونحن إذا تركناهم بدون هذه القيود والموانع حتى يعرفوا الحقيقة ويفهموها كان في ذلك تأخير للمنفعة لا تحمد عقباه. وهب أنهم عثروا على الحقيقة فسيجدونها ولا شك فوق مداركهم ودون منال أفهامهم. وعلى كل حال فإن هؤلاء الجماعات لا يصلح لهم ولا ينفعهم إلا ما كان من قبيل الرموز والاستعارات والخرافات. ولقد قال كانت يجب أن يكون هنالك قاعدة عامة للحق والباطل توطد أركانها وتؤيد دعائمها ويرفع لوائها في كل آن. فمتى كانت النقوش الرمزية الموقومة على هذا اللواء تعبر عما وضعت له من ناموس الحق والباطل فليس من المهم اختلاف أشكالها وتعدد صورها.

فمثل هذه الحقيقة الرمزية لا يزال في كل زمان ومكان خير بدل وأحسن عوض لعامة الناس من حقيقة لا يستطاع الوصول إليها أبد الدهر ومن فلسفة لا يتأتى لها فهمها - فضلاً أنها مستمرة التغير والتبدل تتلون كل برهة لوناً وتتشكل كل يوم شكلاً. فلا جدال يا صديقي في أن المقاصد العملية مفضلة من كل الوجوه على المقاصد النظرية. الفيلسوف: كأني بك تقول لي أنه يجب إرضاء الجماعات والجماهير حتى نكفى شر حملاتهم وهجماتهم ونأمن انحطاط سيل غضبهم علينا ونحن جلوس على مائدتنا نأكل ونشرب هنيئاً. ولكن هذا الرأي باطل بمقدار ما هو مستحسن محمود. ومن ثم إسراعي إلى تفنيده. أجل من الزور والباطل أن تظل الحكومة والعدالة والقانون ولا قوام لها ولا حول ولا قوة إلا بمعونة الدين وتعاليمه وأن المحاكم والبوليس لا تستطيع تنفيذ قوانينها إلا بتداخل الدين. أولم تر القدماء ولاسيما اليونان كيف كانوا يديرون أمورهم أحسن إدارة، ويدبرون شؤونهم أحكم تدبير بدون الاضطرار إلى اتباع هذه الخطة العقيمة. وأولئك اليونان لم يكن عندهم أدنى شيء مما نسميه نحن الدين. فلم يكن لديهم كتب مقدسة ولا تعاليم محتم حفظها ودرسها ونقشها على صحائف القلوب في الصغر. وكان خدام الدين وسدنته في تلك الأمة لا يلقون الخطب الدينية والمقالات الوعظية ولا يبدون أدنى اهتمام بمسائل الأخلاق والآداب والواجبات والمعاملات أعني بما يأتيه الناس وما يتركونه. أجل لم يعن قساوسة اليونان ولم يحفلوا بأي شيء من هذا القيل. ولكن واجباتهم كانت محصورة في شعائر المعبد ومناسك الهيكل والصلوات والأناشيد والضحايا والمواكب والتطهيرات وما شالك ذلك مما لا علاقة له البتة ولا مساس بإصلاح الفرد وتهذيب أخلاقه. ولم يكن شهود هذه الحفلات محتماً على غير الكهنة القائمين بشعائرها ولم يطالب أحد قط من غير هؤلاء الكهنة بالتصديق بها والاعتقاد بصحتها. ولم يؤثر عن العصور القديمة والدول العتيقة بأسرها ما يدل على أنه كان فيها أدنى إرغام للأفراد أو للجماعات على الاعتقاد بأي مذهب أو ملة. وكل ما هنالك هو أن العقوبة كان تقصر على من يجاهر بإنكار وجود الآلهة أو الطعن عليها. إذ كان صنيعه هذا يعد بمثابة إهانة وتحقير للحكومة التي تخدم الآلهة المذكورة. ولكل امرئ بعد هذا أن يرى في تلك الآلهة رأيه الخاص.

وإذا شاء أي إنسان أن ينال رضا الآلهة في السر والكتمان بواسطة الصلاة أو القربان فله أن يفعل ذلك على حسابه وتحت مسؤوليته. فإذا لم يفعل فليس لأحد ما أن يتناوله بالقدح والمذمة - وابعد الناس من أن يصنع به ذلك الحكومة. وقد كان كل روماني يحرز في داره الآلهة التي يعبدها، وما هي في الحقيقة إلا صور أسلافه الأول. ولم يكن للأقدمين آراء محدودة ثابتة مقررة معتقدة عن مسألة خلود الروح والحياة الأخرى. ولكن كل فرد كان يذهب في هذا الصدد مذهبه الخاص مكوناً من أفكار متقلبة متجددة مبهمة مشوشة تخمينية، وعلى نحو هذه الحال من التعدد والتنوع والغموض كانت أفكارهم عن الآلهة. ونتيجة هذا أن القدماء لم يكن لهم دين بالمعنى المعروف لدينا. فهل كان لذلك تأثير سيء على حالة النظام والأمن العام في تلك الدول القديمة؟ أليست هي منشئة القوانين والنواميس التي لا تبرح حتى الآن أساس قوانينا وقواعد شرائعنا؟ الم يكن أهل هذه العصور آمنين على أملاكهم مستوثقين منها مع أن معظمها كان من العبيد الأرقاء؟ ألم تدم هذه الحالة أكثر من ألف عام؟. إزاء هذه الحقائق أرفض وأحتج على ما تعزوه إلى الأديان الحاضرة من المقاصد العملية، وما تقرره من ضرورة وجودها كأساس لازم تقوم عليه كافة النظامات التشريعية. . لأننا إذا قررنا صحة ذلك أصبح لا حق لطلاب الحق الصراح وأنصاره المولعين بالتماسه والتنقيب عن مواطنه - في اتهام العقيدة الدينية باغتصاب أريكة الحق وإبقائه في حوزتها بالتمادي في الغش والخديعة. الفقيه: ولكن الدين ليس مناقضاً للحقيقة لأنه هو ذاته يعلم الحقيقة. وكل ما هنالك هو أن الدين لا يبرز الحقيقة مجردة عارية. لأن منطقة نفوذ الحقيقة ودائرة تصرفاتها ليست ضيقة محدودة ولكنها الإنسانية بأسرها والعالم أجمع. ولذا وجب أن تكون الحقيقة مطابقة وملائمة لهذا المجموع العظيم المختلط، فلا يصح للدين والحالة هذه أن يجرع الناس الحقيقة محضة صريحة بل يجب تسهيلاً لتجرعها أن يقدمها لهم في برشامة من الخرافة. ويمكن أيضاً تشبيه الحقيقة من هذا الاعتبار ببعض المواد الكيماوية التي هي في ذاتها غازية ولكن تسهيلاً لاستعمالها وتيسيراً لحفظها في الأوعية أو نقلها من موضع إلى آخر تعقد بمادة

أخرى (أو بالتعبير الكيماوي) توصل بقاعدة ثابتة ملموسة منعاً لها من التطاير. مثال ذلك مادة الكلور إذا أريد استخدامها في الأغراض الآنفة الذكر أبرزت في صورة كلورور. ولما كانت الحقيقة النقية المجردة الخالصة من كل رمز أو خرافة ستبقى أبد الدهر فوق متناول العالم أجمع وضمنه الفلاسفة فيصح تشبيهها بمادة الفلور التي لا يمكن البتة عرضها منفردة بل لا بد من ضمها إلى مواد أخرى. وهاك تشبيهاً آخر وهو أن الحقيقة لا يمكن إبرازها والتعبير عنها إلا بطريق الرمز والخرافة، فهي في ذلك كالماء لا يمكن حمله ونقله إلا بواسطة وعاء. فالفلاسفة الذين يأبون إلا إحرازها خالصة مجردة هم كحاطم الإناء للحصول على الماء منفرد بذاته. وعل كل حال فالدين هو الحقيقة مبرزة في قالب من الرموز وصيغة من الخرافة حتى يتسنى للناس بهذه الواسطة فهمها وهضمها. لأن الناس لا يستطيعون بحال ما هضمها خالصة غير ممزوجة كما أننا لا نستطيع أن نحيي في الأوكسجين الخالص بل نحتاج إلى إضافة الأوكسجين إلى أربعة أمثاله من الآزوت. أجل إن مغزى الحياة البعيد ومعناها العميق وغرضها السامي لا يمكن كشفه وإبرازه للعامة إلا بواسطة الرموز لأنهم لا يستطيعون فهم الحياة بمعناها الحقيقي. أما الفلسفة فهي كالأسرار تخص بها الفئة القليلة المختارة. الفيلسوف: لقد فهمت فحوى كلامك فغاية تفسيرك لهذا المشكل هو أن الحقيقة تبدو في زي الباطل وتلبس ثياب الكذب. ولكنها بصنعها هذا تدخل في محالفة مشؤومة. فأي سلاح خطر فتاك يلقى في أيدي من يخولون استخدام الكذب والباطل كمطية للحقيقة. فإذا كان الأمر كذلك فإني أخشى أن تربو مضار الكذب والباطل على منافع الكذب. ولو أن الرموز والقصص الخرافية كان يقر ويعترف بأنها كذلك لما قمت معارضاً ومحتجاً ولكن الإقرار والاعتراف بأنها رموز وخرافات يسلبها كل وزن وقيمة ويسقط منزلتها في الأعين فيضيع تأثيرها ونفوذها ولذلك كان حتماً على هذه الرموز والخرافات أن تدعى - وتؤيد دعواها - أنها حق في ذاتها وكنهها لا من الوجهة الرمزية فقط وهنا موضع الداء العضال والشر الدائم. ومن هنا لا يزال الدين ولن يزال في نزاع مستمر وحرب عوان مع المجهود الشريف والسعي الحر إلى التماس الحق الصراح.

الفقيه: إن فلسفة المعقول راشناليزم تخطئ كل الخطأ من افتراضها أن الدين يزعم أن رموزه وخرافاته هي حقيقة مطلقة. وبناء على هذا الفرض تشرع الفلسفة المذكورة عند نقدها الدين في محاولة إثبات أن تلك الرموز والخرافات كاذبة عارية عن الصحة أو أنها إذا سلم بصحتها فهي لا تعدو كونها سخافات. وأما الواقع فهو أن الخرافة والرموز عناصر أساسية للدين ولكن بشرط أن تقوم بسد الاحتياجات الروحانية لبنى البشر فتشغل مكان الحقيقة الفلسفية المحضة التي هي غاية في الصعوبة ومستحيلة المنال. الفيلسوف: نعم تشغل مكان الفلسفة المحضة كما تشغل الرجل الخشبية مكان الرجل المبتورة. أنها لأسوأ عوض عن الرجل الطبيعية ومع ذلك فهي تطلب أن تعد بمثابتها وأن تعطى مكانتها. ومع هذا فهنالك فرق بني المشبه والمشبه به - وذلك أنه بينما ترى أن الرجل الطبيعية أسبق وجوداً من الخشبية فإن الدين لم يزل في كل بقعة أسبق عهداً من الفلسفة. الفقيه: قد يكون هذا صحيحاً ولكنك لا تنكر أن الرجل الخشبية عظيمة القيمة عند من لا رجل له. ولا تنس أن حاجيات الإنسان الروحانية لا بد من سدها - غذ أنه يجب تحديد نطاق فكره لا أن يترك مبهماً غير محدود والإنسان العادي معدوم ملكة الحكم الصحيح التي تمكنه من وزن الأسباب والعلل والتمييز بين ما هو حق وما هو باطل. وفضلاً عن ذلك فإن الأعمال والواجبات التي تفرضها عليه الطبيعة واحتياجاتها لا تترك لديه فراغاً لأمثال هذه المباحث ولا فرصة لإحراز العلوم والمعارف التي تمهد السبيل للاشتغال بالمباحث المذكورة. ولذلك فلا موضع البتة لتصورك أن مثل هذا الإنسان يمكن إقناعه بالأسباب والعلل فلم يبق له والحالة هذه إلا الإيمان والتسليم بأقوال الثقات بلا بحث ولا جدال. وهنا وصلنا إلى مذهب فلسفي صحيح فأحللناه محل الدين فإنك ترى تسعة أعشار الناس يأخذونه قضية مسلمة فيصبح كما كان الدين قبله مسألة إيمان وعقيدة بيد أن الثقة صفة لا تثبن وتتقرر إلا بمرور الزمن وبتأثير ظروف خاصة فليس في طاقتنا أن نلصقها بما لا مزية له سوى الحجة والبرهان. وعلى ذلك فلا يصح لنا أن نعزوها إلا إلى ما نالها بمضي العصور، ولو لم يكن إلا حقيقة

رمزية. فهذا الصنف من الحقيقة المؤيدة بالثقة يلائم المزاج الروحاني للإنسان أشد الملاءمة - أعني ما يلائ \ م احتياجه إلى نظرية تفسر له لغز الكون الذي بدهه ويواجهه في كل آن ولحظة، والذي ينشأ وينجم من شعوره بأن الشيء الطبيعي في الكون لا بد أن يكون خلقه شيء وراء طبيعي - شيء ثابت لا يتغير ولكنه أساس لهذا التغيير الدائم في الوجود. هذا الصنف من الحقيقة المؤيدة بالثقة يلائم أيضاً مخاوف وآمال الإنسان العاجز الضعيف الفاني الدائم الافتقار والاحتياج - فالدين يمده بالآلهة والشياطين التي يستنجد بها ويستصرخ ويأوي ويلجأ ويركن ويسكن ويبتهل ويتضرع وهي (أعني الحقيقة المؤيدة بالثقة) تلائم أيضاً شعوره الأخلاقي (شعوره بالفضيلة الرذيلة وبوجوب إتيان الأولى وترك الثانية) الذي لا شك في وجوده - وتعيره تأييداً وتوثيقاً لولاه لصعب عليه جداً مقاومة الأهواء والشهوات في معترك الحق والباطل. فالدين من هذه الوجهة مصدر عزاء وسلوة لا ينفد في مرحلة هذه الحياة المملوءة هموماً ومصائب وأحزاناً - عزاء لا يخذل الإنسان ساعة الموت بل يعطي إذ ذاك أكرم فضائله وأنفس مزاياه ويؤثر أحسن أثره. افلدين في ذلك أشبه شيء بالهادي الذي يأخذ بيد الأعمى فيرشده إذ كان لا يبصر سبيله بنفسه - وكل ما يحتاجه ذلك الأعمى هو بلوغه غاية منهجه لا أن يبصر كل ما يمر به في طريقه. لهذه المحاورة بقية يبلغ مقدارها مثلي ما نشر منها في هذين العددين نرجو أن نوفق على نشرها كلها في العدد القادم.

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الثانية من المرية إلى قرطبة أظنك يا أخي لا تزال على ذكر من أن الرسالة الأولى من هذه الرسائل كتبت ونحن على متن البحر - قبل أن نصل إلى مرافئ الأندلس، أما هذه الرسالة الثانية فقد وضعناها بعد أن انفصلنا من مرفأ المرية وحططنا رحالنا في قرطبة حضرة هذه البلاد عاصمتها وقد خصصت هذه الرسالة بوصف كل ما مر بنا من حين اقترابنا من ميناء المرية إلى أن وصلنا إلى قرطبة. أما المرية فهي إحدة مدن الأندلس الكبيرة واقعة في شرقيها، وهي على ساحل البحر الرومي البحر البيض المتوسط وهي مرسى للسفن القادمة إلى هذه البلاد الأندلس - وفي مينائها يربض الجانب الأكبر من أسطول الأندلس الأعظم والجانب الآخر يرسي في بجاية - وسيمر بك قريباً واف على هذين البلدين - المرية وبجاية ـ. ولما صافح مركبنا أمواه المرية - وكان يسير بحذائنا مركب آخر علمنا أن فيه أبا علي القالي اللغوي وافد العراق وسائر من قاموا معنا من الإسكندرية في مركب أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر - آنسنا من جانب الميناء - ميناء المرية أسطولاً كبيراً قادماً علينا حتى إذا صار منا أدنى ذي ظلم أخذ يحيينا من فيه بالرايات والأعلام - وكان فيه الأمير عبد الرحمن بن رماحس قائد أساطيل الأندلس الأكبر - إذ أمره الحكم بن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين ويجيء معنا إلى قرطبة تكرمة من الأمير لنا ولأبي علي القالي حفظه الله - فكان من رجال ذلك الوفد شاعر الأندلس يوسف بن هارون الرمادي وأبو بكر بن القوطية سيد علماء اللغة في الأندلس وابن رفاعة الألبيري أحد أدباء البيرة وفتى نشأ يتوقد ذكاء ويقطر أدباً وألمعية يسمى أبا بكر الزبيدي وكثير غير أولئك من علماء الأندلس وأعيانها وقوادها - وهذه عمرك الله آية محسة على عناية الأمير بالعلم وأهله - ولا بدع فقد وقفنا من ذلك على الشيء الكثير الذي سما بهذا الأمير في أعيننا. فمن ذلك فيما تحققناه أنه يبعث الحين بعد الحين في شراء الكتب إلى الأقطار، رجالاً من التجار، ويرسل إليهم الأموال لابتياعها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه في ربوعها، وقد بعث في كتاب الأغاني لأبي فرج الصفهاني وأرسل

إليه فيه ألف دينار من الذهب العيني، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق وكذلك فعل القاضي أبي بكر الأبهري في شرحه ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل وأنشد القالي الكلمة في البيت - أعرافها لأيدينا مناديل - فما كان من الأديب ابن رفاعة الألبيري - وقد لاحظنا في خلقه حرجاً وزعارة إلا أن استعاد أبا علي البيت متثبتاً مرتين في كلتيهما ينشد أعرافها فقام ابن رفاعة وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين ويتجشم الرحلة لتعظيمه وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه والله لا تبعته خطوة ثم هم بالانصراف، فندبه الأمير ابن رماحس أن لا يفعل فلم سيجد فيه حيله، فاضطر ابن رماحس إلى أن يكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى من ابن رفاعة ويشكوه، فجاء جواب الحكم إلى ابن رماحس بما نصه كما أطلعني عليه ابن رماحس: الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطيء وافد العراق إلينا، وابن رفاعة أولى بالرضا عنه من السخط، فدعه لشأنه وأقدم بالرجل غير منتقص من تكريمه، فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله أو يحطه وفي عصر ذلك اليوم دعانا الأمير ابن رماحس لأن نتفرج برؤية الأساطيل وهي تلعب لعبتها التي تلعب إذا هي همت بحرب أو رجعت من قتال ظافرة وذلك لأن أسطولاً أندلسياً آب من إفريقية في ذلك اليوم مفلجاً مظفراً في معركة نشبت بينه وبين أسطول المعز لدين الله - فذهبنا إلى الميناء وركبنا زورقاً وأخذنا نشاهد حركة الأسطول ونجتلي أنواعه وعدده وآلاته ونحن نأتي لك على شيء مما شاهدنا. . .

روح الإسلام

روح الإسلام مقدمة هذا الكتاب إن استمرار الرقي الديني بين البشر لموضوع عظيم الأهمية لدى المولعين بدراسة الحياة البشرية وإن تيقظ الذهن الآدمي إلى إدراك أن هناك شخصية أي إرادة عليا تشرف على الكون، وإن ما عاناه الأفراد والأمم من المجهودات والتطورات حتى وصلوا إلى فكرة أن هناك روحاً عامة تتخلل جميع أجزاء الكون وتدبره وتنظمه - لتفسح المجال لمباحث من أهم وأخطر ما يعنى به الإنسان. إن تطور العقيدةالدينية من عبادة الأشياء المادية إلى عبادة الله قد صادف من العقبات ما أخره عن حينه المناسب. فلقد انحرف جماعات وأفراد من الناس عن منهج الرقي والتقدم وأطاعوا الأغراض والمطامع وانقادوا لأهواء نفوسهم ومآربها. فارتدوا إلى عبادة شهواتهم ممثلة في معبودات طفولتهم. ولكن صوت الله الخفي لا يزال يرسل دعوة الحق وإن لم تسمعها الآذان - فإذا جاء الأجل قام أولياؤه بإعلان واجبات الإنسان نحو نفسه ونحو الخالق. أولئك رسل الله الصادقون. قد ظهروا بين شعوبهم فلم يزد أمرهم على أن كانوا أبناء عصورهم ونتائج أوقاتهم. فكانوا لذلك يمثلون أماني الروح البشرية وطمحاتها نحو الحقيقة والنزاهة والنقاء والعدل. فكان كل واحد من أولئك الرسل كأنه مجموعة الاحتياجات الروحانية الكامنة في صدر عصره. لذلك جاء كل منهم ليشرف أمة وضيعة. ويرفع من قدرها ويطهرها ويصلحها. فمنهم ن جاء مدلياً إلى الناس بتعاليم محصورة، فهذا لا يتعدى تأثيره منطقة محدودة. ومنهم من جاء برسالة ليملأ بها السماء والأرض وينشرها في أرجاء العالم أجمع - رسالة ليست بمقصورة على شعب واحد أو أمة واحدة بل موجهة إلى الإنسانية بأسرها - كذلك كان محمد. فلم تكن رسالته مقصورة على العرب ولم يبعث لعصر واحد أو إقليم واحد. ولكن للناس كافة إلى آخر الأبد، إن ظهور هذا المعلم الكبير الذي كانت حياته صحيفة نقية بيضاء لم يكن مجرد صدفة واتفاق أو حادث منفصل غير متصل بسلسلة تاريخ العالم فإن عين تلك الأسباب وتلك الآفات وتلك الحاجة الشديدة إلى إيجاد الثقة والاعتقاد في القوة الخفية المنبثة في ذرات الوجود المسيطرة على الكون - تلك الأسباب والدواعي التي أدت إلى ظهور نبي كانت حياته مأساة على شواطئ الجليل في

عهد أغسطس قيصر - تلك الأسباب بعينها هي التي تحركت وثارت وأحدثت من النتائج الهائلة ما أحدثت في القرن السابع بعد الميلاد أي قبل ظهور محمد. كانت فاتحة القرن السابع بعد الميلاد عصر انحلال وطني واجتماعي وديني وكانت ظواهره تتطلب عقيدة جديدة تسترد القوى الشاردة الضالة إلى سبيل الرقي الروحاني المؤدي إلى تطهير العبادة الشخصية. هذه الظواهر كلها كانت تتطلب ديناً أدل على القدرة الإلهية وأظهر للسلطة السماوية من اليهودية والنصرانية. هذا وإن اللهيب المقدس الذي أذكاه زرادشت وموسى وعيسى كان قد انطفأ في دماء البشر إذ لبثت ديانة زرادشت بعد فسادها تكافح المسيحية التي كانت قد أصبحت أفسد منها قروناً عدة - فخمدت أنفاس الإنسانية ما بين معترك الملتين وراحت أسعد أقاليم الدنيا من جراء هذا العراك وهي موارد بلاء ومسايل دماء وما زال استمرار التنازع على السيادة وتمادي الحرب الضروس حتى امتص دماء الحياة من قلوب أمم العالم. وأصبح سكان الأرض تدوسهم القسوسية الجامدة والكهنوتية الميتة تحت أقدامها الحديدية وهم يضجون إلى الله من مظالم زعمائهم، فلا غرو أن أصبحت الحاجة أشد ما كانت إلى منقذة ومخلص. بناء على ما تقدم أقول أننا إذا أردنا أن ندرك قيمة ما أداه محمد في العالم الأدبي الروحاني فعلينا أولاً أن نلقي نظرة عامة على الحالة الاجتماعية الدينية لأمم الأرض قبيل وحوالي الوقت الذي ظهر فيه الإسلام. يزعم المؤرخون أن هضبة بكتيريا التي يسميها جغرافيو العرب أم البلاد هي مهد البشر ومنبت الأديان والأمم. ونحن إذا نظرنا إلى هذا الموطن القديم - مهد النوع الإنساني - بمصباح الإثنولوجي (علم أجناس البشر) فتأملناه من خلال نور ذلك المصباح المبهم الضئيل - رأينا طوائف أسرات مجتمعة في هذا المكان العتيق لا تزال تأتلف وتلتئم فتكون فضائل وقبائل ثم يدفعها التكاثر والتزاحم فتندفق وتستفيض أمواجاً تترى متواليات لتعم وجه البسيطة. والظاهر أن الفرع الحامي (نسبة إلى حام) كان أول من انشق عن الجرثومة الصلية وهجر الوطن الأولي. ثم تبعه الطورانيون الذين يقال أنهم شعبة من الأسرة اليافثية. ويظهر أن بعض هؤلاء ضرب شمالاً ثم انتشر في الشرق فأسس الفرع المغولي الحاضر. وقسم سار غرباً فاستوطن أذربيجان وهمذان وغيلان وهي بقاع واقعة في جنوبي

بحر قزوين وجنوبه الغربي وكانت تعرف قديماً ببلاد ميديا. ثم انشعب فيما بعد قسم من هؤلاء فانخدر جنوباً إلى سهول بابل الممرعة الخصيبة فأسر الجاليات الحلامية القديمة ثم خالطها وامتزح بها على توالي الأزمان فكون معها الأمة الأكاديين وهم الـ الكوشيون الذين جاء ذكرهم في الإنجيل والتوراة فهذا الشعب الخليط أوجد بابل وأحدث نوعاً من الدين كان من أسمى مجاليه وأرقى أطواره أشبه بمذهب الحلول (مذهب ألوهية العالم أعني الاعتقاد بأن الله حال في كل شيء حتى يصح القول بأن كل شيء هو الله وأن الله هو كل شيء) أما في أسفل أطواره فإن هذا الدين بما فيه من عبادة الشياطين وآلهة الشمس والقمر وتضحية بالأطفال للإلهين بعل ومولوخ وتضحية عذر الأبكار للإلهين بلتيس وأستوريث وتحليل السفاح - فإنه آية على عصر اقترنت فيه المدنية الراقية بأرذل الفسق والفجور والفحشاء والمنكر وأباح الدين فيه استعمال العنف والقسوة. ثم هاجر بعد ذلك من الوطن الأصلي الفرع السامي (نسبة إلى سام) فاقتفوا آثار الطورانيين ذاهبين غرباً حتى استوطنوا شمالي دلتا الجزيرة ثم قووا وتكاثروا فغزوا الدولة البابلية وقهروها وأسسوا مملكة مترامية الأطراف كانت لها السلطة والسيادة على جميع الولايات المجاورة أولئك هم الآشوريون الذي استتب لهم الملك واستكمل لهم الجبروت والصولة في مقر دولتهم المؤيدة المنصورة بين النهرين العظيمين دجلة والفرات فارتقوا حيناً ما إلى منزلة الديانة التوحيدية (القول بوحدانية الله) كما تشهد بذلك تعاليمهم الدينية. وبينما كان السواد الأعظم من الجالية السامية يتدرج في مراتب التقدم والرقي ويأخذ في أسباب القوة والتكاثر في أعلى الدلتا انحدرت فئة قليلة نحو الجنوب إلى بقعة يقال لها يور داخل حدود المملكة الكلدانية. وكان لهذه القبيلة زعيم وقد حكم على نفسه بالنفي والطواف في الأرض. هذا الزعيم هو والد الذين تألف منهم التاريخ في المستقبل. أما سيرة هذا الرجل وما تضمنت من منفاه وتجولاته اندمجت في سلك الأساطير المقدسة لعدة من الأديان. ولعل الأسرة اليافثية كانت أطول تلك الأسرات مكثاً في المواطن الأولى. فبينما الشعوب الأخرى التي انشعبت عن الجرثومة الأصلية كانت تؤلف دولاً وتحدث أدياناً كان الفرع اليافثي يتطور على أسلوب خاص به. لكن سير الأمم الذي بدأ لم يكن ليوقفه شيء. فجعلت

القبائل واحدة أثر أخرى تهاجر نحو الغرب مدفوعة بروح القلق والتطلع الغريزية في القبائل الهمجية أو بضاغط التزاحم والتكاثر وضيق المجال وطلب النجعة في مواطنهم الأصلية. فأول من هاجر من القبائل اليافثية البلجيون والكلت. ثم تبعهم قبائل أخرى حتى لم يبقى في المواطن القديمة إلا الآريون الأصليون. فقسم من هؤلاء كان يقطن جوار باداخستان وقسم عند بلخ حيث لبثا قروناً عدة منعزلين عن الأمم المجاورة لا يتأثران بحروبهم ولا بحركاتهم. وأن ضوء التاريخ الذي طلع فجره على الشعوب الغربية مؤسسي الممالك والمدنيات ليسقط شعاعه أيضاً على هؤلاء الأقوام القديمة ويجلو لنا كما لو كان من وراء غيم وضباب عدة قبائل منها على تلك الهضبة حتى نراها قد برزت من الوحشية إلى الهمجية وأخذت تشعر بوجود معنى روحاني يعم الكون ويشمل الوجود أجمعه. في ذلك الحين أخذت الأفكار الروحانية تحل محل القوى الطبيعية والظواهر الكونية التي ما برحت حتى ذلك الحين تعبد من أولئك الأقوام عبادة خوف وخشية مشفوعة بالرعشة والارتجاف فجعل بعض هؤلاء الأقوام يرجعون كافة المعاني والتصورات المنتزعة من القوى الطبيعية والظواهر الكونية إلى مصدرين أساسيين - النور والطلام - فجعلوا الشمس بشير الحياة والنور رمز الإله والخير الذي بالرغم من احتباس قوته وتقيد صولته سيفوز فيما بعد على قوة الشر والظلام ويقهرها. وعند البعض الآخر من هؤلاء الأقوام كانت المعاني والتصورات التي أصبحوا ينسبونها للوثن الذي كانوا يعبدونه من قبل تتداخل وتتدامج بعضها في بعض - فأحياناً تبدو كوحدات كاملة شخصية متفرقة متميزة وأحياناً تتضام وتتلاحم حتى تصير شيئاً واحداً. وبعد ذلك نرى سحب الغموض والإبهام تنجاب وإذا بتلك التألفات القبلية والتكونات الفصائلية قد تحولت إلى تألف النظامات الملوكية وإذا بالمشروعات الزراعية قد حلت محل رعي الماشية وسوم البهائم وشرع في إيجاد الصنائع والفنون الأولية، وانتشر استعمال المعادن، وأهم منكل هذا هو أن فكرة وجود شخصية عليا مسيطرة على الوجود أجمع أخذت تتسرب إلى تلك الأذهان المقفلة وتكره نفسها على الدخول فيها عنوة وقسراً. فالملوك الأقدمون أمثال كيومورز هوشانج وغيرهما ممن شاد بذكرهم وتغنى بحديثهم شاعر الفرس الأكبر الفردوسي بشعر يسحر الألباب هو أمثلة ونماذج على مدنية تتقدم وترتقي. والظاهر أن دخول النظامات الملوكية في القبائل الآرية

الأصلية كان معاصراً لتلك المشاحنة الدينية التي وقعت بين فرعي الأسرة الآرية فأدت إلى طرد الفرع الشرقي من مواطنه الأصلية هضبة بكتريا. وذلك أن أستاذاً يدعى زرادشت أحدث بين الآريين الغربيين ثورة دينية عظيمة فنشبت عن الحركة المذكورة معركة دينية شديدة كان من آثارها تلك اللعنات الشائعة الخالدة التي صبها شعراء الفيديين على عدو أمتهم ودينهم - زرادشت هذا. وإن أهاجي أولئك الشعراء الموجهة ذد الملة الجديدة هو أقطع دليل على أن هذا الانشعاب الديني كان السبب في انشعاب فرعي الأمة الآرية الأصلية وانصداعهما. ولعلها كانت اول حرب دينية وقعت للبشر. في هذه الحرب استطاعت القبائل الغربية المتدينة بمذهب الثنوية (أي القول بوجود إلهين - إله خير وإله شر أو أصلين هما النور والظلمة) أن يطردوا أخوتهم - المتدينين بمذهب خليط - نصفه الإسراك أي تعدد الآلهة ونصفه الحلول أي الاعتقاد أن الله حال في كل شيء - فيقحموهم أرض باروبا ميسادي وعلى ذلك تدفق الآريون الشرقيون في بلاد الهند فاجتاحوا الأمم القديمة السوداء يوسعونهم ذبحاً وأسراً ويعاملونهم معاملة الأرقاء والعبيد. على أن الفرق بين الديانتين الفيدية والزرادشتية لم يكن إلا نسبياً محضاً - وذلك أن ديانة زرادشت استعاضت عن عبادة الشيء بعبادة السبب فصيرت آلهة الفيديين أبالسة وصيرت عبدة الفيدية كفاراً. بينما شعراء الفيديين من وجهة أخرى وصموا إله أضدادهم أهورا بالشر وسموع أصورا أي القوة المعادية للإله وصبوا اللعنات الملتهبة على رأس زرادشت. إن تاريخ ميلاد زرادشت الأول ومسقط رأسه مجهولان محتجبان في ظلمات الخفاء. غير أنه قد زهر في عهد داراهستابيس أستاذ آخر تسمى بعين هذا الاسم زرادشت فأحيا التعاليم القديمة ونظمها ووسع أساسها. تدفق سيل الغزوات الآرية في الهند مستفيضاً شرقاً وجنوباً مدة عدة قرون وبديهي أن الجاليات الآرية تأثرت بوثنية الأمم التي غزتها وملكتها أو التي استقرت بينها - حتى نتج عن ذلك التأثر السيء عبادة السكتي الوحشية الخبيثة القذرة من ناحية - وشهوانية مذهب كرشنا السافلة من ناحية أخرى. ولكن صميم الأمة الآرية بقي لقرون عديدة محتفظاً بالأفكار والعواطف التي انتقلت معه من

وطنه الأصلي واستمرت هذه الأفكار والعواطف تؤثر فيه تأثيرها غير أن هذا الصميم (صميم الأمة الآرية) كان قد كتب عليه أيضاً أن يفقد هذه البقية الباقية من الفكار والعواطف. وذلك أن القوم طاب عيشهم وصفا زمانهم ولاحظتهم عيون الإقبال والسعادة وانفسحت لهم نعمة فانغمسوا في اللهو والترف وباتوا بمعزل عن الحياة الجدية العملية التي كان يحياها أخوانهم الآريون الغربيون - وكانوا فوق ذلك واقعين تحت تأثير مخيلاتهم التي كانت مخصبة لدرجة فاسدة مريضة ولم يكن لهم نظام أخلاقي أدبي موضوع في قانون نافذ فعال ففقدوا عقيدة اسلافهم الروحانية ثم أحرزوا على توالي الأيام قانوناً - ولكن هذا القانون كان يمثل تلك الأفكار التي تتفشى في عصور مادية قذرة خبيثة. ثم حدثت بعد ذلك ثورة نشأت عن غرائز ثورية وسلبية تسلطت على الذهن الهندي، ولكن البوذية على ما امتازت به من الأغراض السامية والمطامح العالية لم تكن بأية حال ديانة إيجابية فعلية. فهي وإن وافقت الزاهد المنعزل المتعبد عديمة التأثير على الجماعات والجماهير. وإن فشلها وخيبتها مع وجود أحسن الظروف ملاءمة ومناسبة كانت خاتمة سيرتها في الهند باعتبارها نظاماً دينياً.

المرأة والروح العسكرية

المرأة والروح العسكرية للأستاذ عبده برقوقي المحامي إن للأنظمة السياسية والاجتماعية واصطباغها بالروح العسكرية والاقتصادية شأناً كبيراً وتأثيراً عظيماً في تحديد مركز المرأة الاجتماعي ودرجتها من الاحترام العام. وذلك لأن الأمة التي تتغلب عليها الروح الاقتصادية مهما كانت جهالتها وسذاجتها تعظم نساءها وتعلي قدرهن وتحيط حقوقهن بسياج متين من القوانين والعادات التي تدفع عنهن كل افتيات. فال تبيح تعدد الزوجات وإن إباحته مقتته ولا تجعل للرجل سلطاناً مطلقاًَ على المرأة بل تبين حدوده ومعالمه بشكل نير واضح. ولا تكره البنت على الزواج بالشاب الذي يختاره لها والدها بل المرجع في ذلك إلى رأيها واختيارها. وللبنت في بعض القبائل الساذجة التي من هذا القبيل أن تخطب بنفسها الشاب الذي تريده ولا تنتظر أن يتقدم إليها بل ترسل والدها إليه ليخطبه. أما الأمم والقبائل التي تتغلب عليها الروح العسكرية فعلى عكس هذا الخلق. تستهين بالنساء وتعبث بحقوقهن وتسيء معاملتهن. وإذا تصفحنا الأمم واستقرأنا العادات واستوعبنا القوانين تتجلى لنا صدق هذه النظرية. ففي بولينيزيا نجد قبيلتي فيجيان والسامون على طرفي نقيض من الأخلاق. فالأولى مفطورة على حب القتال وترى الروح العسكرية منسكبة في مشاعرها وأنظمتها. فرؤساؤها يتمتعون بسلطة لا حد لها وهي منقسمة إلى طوائف بعضها فوق بعض الأدنى يطيع الأعلى طاعة تقرب من العبادة وعلى رأس الجميع رجال الحرب وهم على جانب عظيم من القسوة والعنف. ولها جيش منظم على رأسه ضباط بدرجات مختلفة. فهذه القبيلة الحربية يذيع بينها تعدد الزوجات إلى أبعد مداه ويقتني رؤساؤها عشرات الزوجات إلى المئة وتحتقر النساء وتزدريهن وتبيح للرجل أن يبيع زوجته وأن يذبحها ويأكل لحمها إذا أراد. أما القبيلة الثانية فالروح الاقتصادية سائدة فيها. لها حكومة دستورية ورؤساؤها يعينون بالانتخاب. وسلطتهم مقيدة محدودة. وبها نظام اقتصادي محكم الترتيب والنظام. فحث الإضراب عن العمل معروف لديها ومسموح به للعمال وبها نقابات للصناع وأجراء يعملون

باليومية. يقابل هذا أن النساء فيها مستمتعات بنصي بوافر من الرفاهية والاحترام العام لا يعملن إلا الأعمال السهلة الخفيفة. وإذا تزوج رجل بامرأة وجب على كل منهما أن يحمل بائنة وفي الغالب تكون البائنتان متساويتان وإذا افترقا بعد عشرة طويلة تقسم ثروتهما بينهما مناصفة فتأخذ الزوجة النصف. وإذا انتقلنا إلى الأمم الراقية القديمة منهاوالحديثة نجد أن قدماء المصريين كانوا على درجة عظيمة من المدنية، ويجلون الصناعة ويتقنون أنواعاً كثيرة منها ويقدسون الفنون الجميلة ويعنون بها عناية كبيرة كما تدل عليهم آثارهم المجيدة. وكانوا على جانب عظيم من العلم وحسن الملاحظة وبعد النظر ورفاهية العيش. ولم يصلوا إلى هذه الغاية إلا بعد تدرج طويل وتطور استغرق قروناً عديدة في أثنائها ثبتت الروح الاقتصادية واستقرت في أعماق قلوب المصريين حتى أن الروح العسكرية التي ظهرت بينهم فيما بعد وقدستها ديانتهم لم تقو عليها، وظلت الروح الاقتصادية سائدة على مشاعر المصريين وأفكارهم. وكانت المرأة إزاء هذه المدنية الزاهرة محترمة الحقوق، وكان تعدد الزوجات على الرغم من إباحته نادراً ومستهجناً والطلاق ممقوتاً من الذوق العام والحصول عليه من أصعب الأمور. وكانت الروابط العائلية واضحة نيرة وخاضعة إلى أحكام دقيقة، وكان أساس الحياة الزوجية التآزر والتضامن والمساواة بين الزوجين. وكانت النساء تغشى المنتديات وتشارك الرجال في الحفلات العمومية كما تفعل الأوروبيات الآن. وظلت المرأة المصرية حافظة مركزها مع ما أصاب مصر من الرزايا والكوارث الوطنية التي أفقدتها استقلالها وأوقعتها تحت نير الأجنبي. ولم تقدر قوانين الأمم التي تداولت الحكم على مصر أن تضعف مركز المصرية أو تهضم حقها. وظل مواطنونا الأقباط متمسكين بتراث أجدادنا فقد نقل المقريزي عن أخلاق وعادات الأقباط في عهده أنه لو باع أحدهم شياً يذكر في العقد أنه باع بعد الاستئذان من زوجته. ولا تزال العادات القبطية إلى عصرنا هذا تحرم الطلاق وتعدد الزوجات بتة ولذا تجد الحركة النسائية بينهم سائرة إلى الأمام بخطوات واسعة، وعن قريب ستتوج المحافل المصرية بنسائها الأقباط. ولكن المصريين لمسلمين عدولا عن كثير من عادات أجدادهم وذلك لامتزاجهم بالأمم الحربية التي فتحت

بلادهم واستقرت بين ظهرانيهم واقتبسوا بعض عادات وأخلاق الفاتحين. ولا يغيب أيضاً عن البال أن عهدنا بالإتجار في الرق غير بعيد، وأن كثير من الوجهاء إلى وقت قريب كانوا يذهبون إلى الأستانة ويشترون النساء للتزوج منهن أو التسري بهن. غير أن هذا كله كان قاصراً على الطبقات العليا أما سواد الأمة وجمهورها فقد ظل بعيداً عن ذلك تقية منه. فالفلاح المصري الصميم يقنع عادة بزوجة واحدة ولا يطلقها إلا في الندرة ويعاملها معاملة القرين بخلاف الطبقات الأخرى التي اختلطت بالعرب والترك وغيرهم من الأمم الحربية التي نزحت إلى مصر فإنها شديدة البأس على نسائها وأطفالها، يكاد الرجل أن يكون ملكاً مستبداً، كلما قام أو قعد وقف له الجميع إجلالاً وإعظاماً، وإذا جلسوا معه فخشب مسندة مطرقين إلى الأرض لا ينبسون بكلمة ولا يردون له رأياً ولا يأنسون به. ولن تجد في مصر أكثر زواجاً وطلاقاً من البدو أو ممن أصلهم بدو. لكن منذ أمد غير بعيد أخذت هذه الطبقات تتجانس مع بقية الأمة وتقترب عاداتها من العادات المصرية القديمة وتتقلص عنها قسوتها على النساء وشدتها على الأطفال والفضل في ذلك راجع إلى شرف محتد الأمة المصرية ومجدها الأثيل وإلى نسيم الرقي الاقتصادي والعلمي الذي هب على مصر فأنعش حياتها المادية والأدبية وحملها على السعي في إصلاح شؤونها السياسية والاجتماعية وتطلب نصيب أوفر من الحرية في الحكومة والعائلة وسيصل بها التطور في المستقبل القريب إلى ائتلاف في العادات والأخلاق ووحدة في الأحوال الشخصية فيتقاضى المسلم والقبطي أمام محكمة واحدة وعلى قانون واحد ولا يكون بينهما فرق في الزواج والطلاق. وقد برهنت المرأة المصرية في حركة الأمة الأخيرة على صدق هذه النبوة فقد اشتركت النساء في تعضيد الحركة الوطنية وضممن أصواتهن إلى أصوات الرجال وقابلن ذوي الشأن من أجانب ووطنيين وعرضن عليهم مطالب الأمة وسرن في الشوارع وعلى رؤوسهن تيجان الكمال والوقار يشهدن العالم كله على أن المرأة المصرية الحديثة جديرة بمركز نساء الفراعنة العظام. إن نظام الحكومة صورة من النظام العائلي وعلى قدر ما لرئيس العائلة من سلطة يكون سلطان الحكومة. وإذا كان رب الدار جباراً مستبداً كان الحاكم كذلك. والبلد الذي تكون روحه عسكرية يكون الرجل فيه خشن المعاملة قاسي القلب شديد البطش صعب المراس

يحتقر من دونه من النساء والأطفال والضعفاء. فالحاكم الروماني أول عهد رومة بالحياة السياسية كان مطلق الإرادة لا رقيب عليه ولا حسيب وكذلك كان الأب الروماني في ذويه، والسبب في ذلك أن رومة كانت أمة حربية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. وظل الاستبداد فيها آخذاً برقاب العائلة والأمة إلى أن ضعفت الروح العسكرية، ورجحت عليها الروح الاقتصادية، وقد تم هذا حينما أصبحت رومة إمبراطورية عظيمة تضم بين ذراعيها بلاداً شاسعة وأمما عديدة وقلت بذلك نسبة المشتغلين بالحرب إلى مجموع الأمة فإن الروح العسكرية لا تتوقف قوتها على كثرة الوقائع التي انتصرت فيها الأمة وإنما على نسبة الجنود إلى مجموع الذكور القادرين على العمل فإن كان جميع الذكور جنوداً مستعدين للقتال والنزال كانت الروح العسكرية على أتم قوتها وإن لم يكونوا كذلك وازدادت طبقة العمال والتجار والزراع ضعفت الروح العسكرية بنسبة هذه الزيادة وتقوت الروح الاقتصادية، والأمم الصغيرة المتعادية إذا اتحدت وألفت منها إمبراطورية عظيمة تضعف فيها الروح العسكرية ولو أنها في هذه الحالة تزداد خطراً على جيرانها وتكثر مواطن الخلف بينها وبين ما يماثلها من الإمبراطوريات فإن نسبة المحاربين فيها مهما كانت عظيمة لا تصل إلى النسبة التي كانت في جزئياتها. وهذه هي حال الإمبراطورية الرومانية بعد تأسيسها واتساعها. وهناك أمر آخر جدير بالعناية وهو أن الاحتفاظ بالبلاد الشاسعة التي امتلكتها رومة أوجب عليها ترقي الصناعة والزراعة وإشغال عدد كبير من رجالها في تهيئة أدوات القتال ومعدات النقل لجيشها العرمرم وفي أثناء هذا الرقي الاقتصادي والنمو السياسي كانت المرأة الرومانية تعلو أيضاً حتى وصلت مع الإمبراطورية إلى ما يقرب من الكمال ثم تدهورت وانحط شأنها حينما انفرط عقد الإمبراطورية وتناثرت أجزاءها إلى إقطاعيات صغيرة متعادية فانتعشت الروح العسكرية وضعفت الروح الاقتصادية ولبثت المرأة كذلك مهملة محتقرة حتى انقرضت الإقطاعيات ونشأت على أنقاضها الممالك الحديثة. والممالك الأوروبية الحديثة ليست كلها على وتيرة واحدة في معاملة النساء لأن الروح العسكرية فيها على درجات مختلفة من الشدة والضعف فمركز المرأة الفرنساوية أو الألمانية أقل من مركز المرأة الإنكليزية لأن الروح الفرنساوية أو الألمانية أميل إلى

العسكرية من الروح الإنكليزية وليس لإنكلترا بسبب موقعها الجغرافي وانفصالها عن القارة الأوروبية جيش كبير بخلاف فرنسا وألمانيا فإن الخدمة العسكرية فيهما تستنفد عدداً عظيماً من الشبان وتمنعهم من القيام بنصيبهم من الأعمال وتلقي بعبء هذا النصيب عل عاتق النساء. فترى النساء في فرنسا وألمانيا يشاركن الرجال في العمل في الحقول ويزاولن خارج المنازل أشغالاً كثيرة بخلاف الإنكليزيات فإن عملهن سهل خفيف والإنكليزي مشهور بظرفه مع النساء حتى يضرب به المثل في ذلك ويترك لأولاده الذكور والإناث على حد سواء مجالاً عظيماً من الحرية. أما الألماني فيعود أولاده على الطاعة والنظام وقد قالت سيدة ألمانية أقامت مدرسة في إنكلترا مدة طويلة أن متاعب التدريس في المدارس الإنكليزية أشد منها في ألمانيا وذلك لنزوع الروح الإنكليزية إلى الحرية وانطباع الروح الألمانية على الطاعة والنظام. وقد بلغت الروح العسكرية في فرنسا مدة حكم نابليون الأول مبلغاً عظيماً أقست قلوب الرجال وملأت نفوسهم كبراً وأنفة حتى أنستهم واجبهم نحو الضعفاء في كثير من الأحيان. وقد حكي عن نابليون أنه قال يجب أن يكون للزوج على امرأته سلطان مطلق. أما في أمريكا فقد بلغت المرأة مركزاً سامياً لم تبلغه نساء البلدان الأخرى لضعف الروح العسكرية وعدم الحاجة إلى جيش كبير. وإذا رجعنا إلى الشرق الأقصى تتجلى لنا صحة النظرية بوضوح تام فإن الصين منذ ألفي سنة لم تستقر على حال من القلق والثورة بسبب تفكك أجزائها وتحللها ثم تجمعها واتحادها وتعاقب ذلك على مدى هذه القرون الطويلة ومكثت أجيالاً عديدة في حرب وكفاح مع التتار والمغول وفشا عن ذلك روح عسكرية قوية واستبداد مطلق في الحكومة والعائلة واستهتار بالمرأة إلى درجة الإتجار فيها والتسري بها وإشغال كاهلها بأشق الأعمال كجر العربة والمحراث ولكن في هذه الأيام الأخيرة تحسنت حالتها نوعاً ما بفضل ما أصاب الرأي العام من التطور والرقي والطموح إلى الحرية. وكذا اليابان فإن حروبها الداخلية الطويلة أكسبتها روحاً عسكرية ووصمت الحكومة فيها والعائلة بطابع الاستبداد المطلق فالمرأة من زمن غير بعيد كانت تسام الهوان وتباع

وتشترى للتسري بها وكان الرجل يعاملها بمنتهى القسوة ويطلقها متى أراد ويقتلها أوي صلبها إذا ظن بعفافها سوءاً. ولكن منذ ما أخذت اليابان بأسباب المدنية الحديثة والرقي الاقتصادي ارتفع شأن المرأة وارتخت قيودها وزال عن كاهلها مظالم كثيرة.

أثران خالدان

أثران خالدان خطابان من مازيني إلى مسز كالاريل نقلهما إلى العربية الكاتب الفاضل على أفندي أدهم الموظف بجمرك مصر وأهداهما إلى البيان يذهب فريق من المفكرين إلى أن ولوع بع النفوس بالكمال المطلق وشغفها بالمثل الأعلى هما كتعلقها بأمل لا يتحقق وكلفها بوهم لا يصدق ولكنهم لا ينكرون على ذلك الولوع بالكمال فائدته في تهذيب النفوس وإيقاظ الشعور ولا يجهلون أثره المحمود في حياة الفرد والجماعة، وهم يشبهونه بحجر الفيلسوف وأكسير الحياة اللذين كانا من أشد البواعث على تقدم علم الكيمياء وأنا نري أن نلحظ الموضوع من جانب آخر وهو أن كل بطل باسق الأفعال ضخم الآمال يعبر لنا ن نفسه عن حلم رائع أرسلته فيها الطبيعة وهو يستفرغ همته ويبذل غاية ما في وسعه في أن يلائم بين العالم الخارجي وبين ذلك الحلم المشتملة عليه نفسه وأن السعي وراء ذلك هو على شقاء العظماء ومصدر ما يلاقونه من الصعاب وإذا نظرنا إلى حياة رجل من فحولة الرجال مثل مازيني في ظلال تلك الفكرة تبدت لنا أسباب الأخطار التي صادفته في حياته فلقد عاش الرجل أكثر حياته طريداً كالمثل الشرود ولما نبت به بلاده وأخذت تلفظه الأقطار إلى أن ألقى عصا المسافر في لندن التقى هناك بعائلة كارليل ونشأت له صداقة متينة معها وكان يخص المسز كارليل بالجانب الأوفر من تلك الصداقة ويجمل الظن بالحياة أن يقف الإنسان على حقيقة تلك الصداقة وذلك الود النقي المتبادل إذ يعلم أن الصداقة الشريفة والصفاء المحض ليسا وهماً من أوهام العقول المسترسلة وراء الأحلام الهائمة في أدوية الخيال، وقد كانت مسز كارليل شاعرة أدبية من النساء العبقريات الساميات اللب الكبيرات الروح وقد كان في مزاجها نزوع إلى الحزن ولم يكن أسلوب الحياة المنعزلة التي كانت تعيشها مع زوجها ما يسلسل أنوار السرور في ليل الحياة المكتئبة وكانت معاشرة زوجها من أشق الأمور وأصعبها احتمالاً لوعورة أخلاقه وتسخطه الدائم وملله المستمر، وقد كتب إليها مازيني خطابات عدة جديرة أن تلهم النفوس الحائرة الصبر والقوة بما يتفجر في خلالها من ينابيع التفاؤل العذبة ومن بين هذه الخطابات الخطابان الآتيان.

1 خطاب من مازيني إلى مسز كارليل صديقتي العزيزة: لم أجد سبيلاً إلى الكتابة إليك أمس كما كان في نيتي لوفاة زوجة صديقي بتروسي. لقد كانت حزينة لدى والموت ولكنه حزن معافى من العيوب بريء من النقصان، وهكذا ينبغي أن يكون حزنك وهذا ما أريده بك، بل هذا ما يبتدر إليك ويستبق نحوك لو عملت الروية لحظات وجلت هنيهات في مضمار الفكر وقد أحاط بك اليقين وانبعث في صدرك الإيمان. إن الأفراح والآلام وإيماض الآمال ببروق النجح وانقشاع غبرتها عن الخيبة هي - كما تعودت أن أقول - مثل الأمطار وضوء الشمس لا بد للمسافر أن يلاقيها في طريقه، فلنحمد الله ولنشكره إذا طلع علينا أضواء الشمس، ولنشتمل في بردتنا ونوثق عراويها ونضم أزرارها إذا حل علينا الغيث نطاقه وأرسلت السماء أمطارها، ولا يخامرنا الشك أو يداخلنا الريب في أن سقوط الأمطار أو لشروق الشمس أدنى تأثير على نهاية الرحلة المنشودة، ومثل هذا لا تسقط دونه معرفتك ولا يعزن عن علمك ولكنه يعوزك يقين يعمر قلبك ويهبك القوة على النهوض بما يوحي به إليك فكرك ويرد إلى فسك ذلك اليقين من إضمار المحبة للناس والانطواء على المودة لهم وقد يخلص لك إذا أشرقت في مدجيات أحزانك أنوار الإيمان الديني وربما يسلس لك القياد ويعطيك الليان إذا أنت فكرت فيمن مات من الأحباب والأصدقاء ونشرت مطوى أخبارهم وجددت قديم ذكرهم، وأنت تعرفين كلفي بك ونزوعي إليك فلا تصوحي مني أزاهير اليقين ولا تنضبي فيّ ينابيع الرجاء ولا تكوني عليّ حرباً فكفاني مساورة تلك الأضاليل التي تحف بي من كل جانب وتطالعني من كل مرقب وتميل بنفسي إلى ناحية الهاوية السحيقة ولا تزيدي نفسي حزناً ولوعتي اتقاداً بسوء أسوتك وشر قدوتك وبما يبدو عليك من شواهد المادية ولوائح الأنانية، وإن عهدي بك راسخة العقيدة ناصعة الإيمان فلماذا لا تحضرك خاطرة أن الله أراد بهذه الحياة الفانية أن يبلونا وأنه عما قليل سيقيمنا في ظلال راحته ويبسط فوقنا جناح حنانه إذ لك والدين وإن كانا الآن بعيدين عن منال الإحساس مرتفعين على متعلق المشاعر فلم لا تفضين إليها بذات صدرك وتناقلينهما حديث أشجانك فإن لحظة واحدة تستغرقينها في مناجاتهما لأجدى عليك من

كلماتي برمتها وأجمل أثراً في نفسك من نصائحي بجملتها، ولو كان والداك أحياء الآن كما يقول الناي أما كنت تستفيضين في جوارهما وتفزعين إليهما وتخبئين رأسيك في صدريهما فيتسرب السلو إلى قلبك ويتندى برد الهدوء على كبدك فتحسين بأنك مدينة لهما بالقوة حتى لا يستشعرا منك الخجل أم قد تشعبت بك الظنون وتقسمتك الأوهام فدار في خلدك أنهما قد سلكا طريقاً لا رجعة منها وأن روحيهما الخالدتين الفياضتين بالحب قد انتثر عقدهما وانحل نظامهما فليس لهما أبد الدهر ناظم يقدح عندك في معاقد حبك لهما ويقلل من فرط إجلالك إن غيبتهما المقابر ونصبت عليهما الصفائح. ولقد طال ما استشعرت أن مناجاتي لأرواح أصدقائي كانت لي مصدر قوة غير منتظرة ومثار عزم غير مرتقب ولقد كانت تتصبب في نفسي مسايل تلك القوة وتجيش فيها غوارب ذلك الاعتزام وأنا على سطح تلك الغراء ولم أرتفع بعد عن الأرض، تودين الآن أن تصدعي منا متلائم الشعب وتفرقي مجتمع الشمل كوني منيعة الجانب على المكاره وجلدة على الخطوب وكوني صادقة العهد لمن أوقفت لهم حبك وحبست عليهم إعجابك وكوني ملء عيون أصدقائك مهابة وقلوبهم جلالاً فإن أكثرهم يلقى من عاديات الزمن ونكبات الدهر وما يحلل من بأس الأقوياء ويوهن من عزائم الأشداء، بل تكاد نفسه تسيل على نصال الألم في صمت وسكون تعوزه كلمة منك ترفه عن نفسه وتخفف من جواه وتبعث فيه القوة والعزيمة فانهضي إلى العمل ولا تنتبذي منا مكاناً قصياً واعلمي أن الشيطان لما أراد أن يغوي المسيح زين له العزلة وحبب إليه الخلاء. صديقك مازيني 2 خطاب آخر من مازيني لمسز كارليل صديقتي العزيزة: قضيت سحابة الأمس خارج المنزل وقرـ خطابك لما عدت في المساء فلم أجد نهزة صالحة للكتابة إليك، وكانت روح الحزن تطالعني من خلال كلماتك القليلة ذلك الحزن العميق الولاج، ولا أقول الحزن الذي ليس لصدعه رأب ولا لدائه طباب، ومما يستدعي الأسف ويستوقد اللوعة أنه ليس في وسع أحد مهما بسط له من القوة وأوتي من الأيد أن

يرد عنك عرام الحزن ويكف غرب المصاب فأنت وحدك - وإذا أرسلت رائد طرفك في صفحات حياتك الغابرة بهدوء لا ترنق صفوة رياح العواطف، ولا تهتاج ساكنة ثوائر النزعات - في وسعك أن تعمري في ليل النسيان تلك الخيالات التي تزورك، والأشباح التي تطرقك، أنت - ولا أحد سواك - في وسعك أن تبصري نفسك أن الحاضر سواء أصلدت أخلاقه صلابة أم رقت عذوبة لا منصرف لنا ولا متحول عن أن نلاقيه بأنفس كثير الرزايا عندهن قليل، فلا تزدهف لبناً حوادثه ولا تهفو بأحلامنا رواياه وإلا فأين منازل الإجلال اللائق بروحك الخالدة ومعاهد الإيمان بالزمن المقبل الخطوات، ذلك المستقبل الذي ستشرق فيه الشمس جلواء الطلعة لا تحجبها عن النواظر مطارف الغيوم أو جلابيب السحب. إن كل ما تحويه قدرتي وتحده طاقتي أن أنصح لك أن تنصبي في طلاب القيام بالواجبات، وليس مرمى خاطري هنا الواجبات التي تضفي على حياتك ظلال السعادة، فإن السعادة من وراء طاقة البشر ومن فوق إمكانهم، وإنما معقد أفكاري وقبلة خواطري الواجبات الدينية التي تفيض في نفسك قوة المثابرة وتكسو الحياة حلة مقدسة وتهون عليك الاستسلام للمقادير، ولكني على ثقة أن نصيب تلك الواجبات منك الصد والاستهتار، إنا كلينا يحمل في مخيلته صورة للحياة جد مختلفة عن الصورة المرتسمة في ذهن الآخر، وقد كتب لنا في لوح المقدور أن نسير في طريقين متوازيين، ولكن عرفاني بقيمة تلك الواجبات ما زال هو الدافع الصادق الذي يتجافى بنفسي عن مهابط الكفر والإلحاد، وينأى بي عن مساقط اليأس والقنوط ويحثني على المسير متلفعاً برد الهدوء في طريق حياة تزداد على تسلسل الأيام إقفاراً ويتكاثر حملها على تجرم الأعوام ثقلاً. وإني أعترف إليك وأنا مبلول الجوانح قرير العين أنه بما استقر في علمك عني ومما سأدرجه عنك في سبائب الكتمان أني أضطلع من الأيام بأعباء ترق عنها صفحة احتمالك، وقد لاقيت من مؤلم الخداع ومرير الشكوك ما لم يضطرب بمثله جنانك ولم يتلجلج نظيره في خاطرك ولكني جاعل قيد عياني أن لا سعادة تحت السماء وأن حياتنا تضحية لغرض أسمى وأنبل وأوفر سعادة وأكثر بلهنية، وكفاني من الأيم أن يكون لي أحباب وإذا بخلت الأيام بذلك فكفاني أن يكون لي والدة ترصدني رعايتها وتكلؤني عنايتها من نواحي إيطاليا أو من نوافذ السماء فذلك كاف ليحميني الوقوع في الشرك والارتطام في الوهدة وما يسفر

عنه ذلك من التفرق والانشعاب وذلك يكفيني لأنصلت في طريقي مجتمع القوة مثابراً على السعي والدؤوب حتى تصل بي الأيام إلى حافة القبر - القبر الذي ستوجف إلي ساعته إن لم أكن في طلبه دائم الإلحاح مرتفع العقيرة. فانهضي أيتها العزيزة وانشطي من عقال الأحزان وانفضي عنك غبار الهموم واعلمي أن مسيرنا سواء أرمضتنا الهموم أم لم ترمض ضربة لازب - ذلك المسير الذي تجلل وجوهنا فيه تلك الابتسامة الحزينة ونتقارض فيه التشجيع. إنا نحمل بين جنبينا سراً مقدساً لا يجب أن نزيله لمخلوق مهما تعاظمت قدرته وتعالت كلمته، تقولين أن حياتك خاوية فارغة - أكانت حياتك ناضبة من فعال الخير ممحلة من الحب فأعيدي ذكر والدتك وافعلي الخير وارتقبي عناية الله واعلمي أن وجودنا ليس سخرية من الله وإنه لم يرسل في نفوسنا عبثاً ذلك النزوع إلى الكمال ولم يلهمنا ضلة ذلك الطموح إلى السعادة الذي نشقى منه الآن وثقي بالله الأيام الباقية.

رسائل في علم الفلك

رسائل في علم الفلك الرسالة الأولى الفلك عند الأقدمين علم الفلك هو العلم الذي يبحث في العالم السماوي وما فيه، كالشمس والقمر والنجوم والكواكب، وكل ما يتعلق بهذه الأجرام كحركتها وأحجامها وأبعادها وكسوفها وخسوفها، والوظيفة التي يؤديها كل منها في هذا النظام المحكم الدقيق. وينماز الفلك عن سائر العلوم الطبيعية، بأنه بحث في أشياء هي فوق متناولنا فلا يستطيع المرء أن يصل إليها فيعلم منها ما جهل، ولا أن يحصل على أجزاء منها ليختبرها ويمتحنها فتعينه على الاستنباط والاستنتاج. ومعلوم أن هذه الأجرام هي أبدية بالنسبة إلى آجال الباحثين فيها وأعمارهم. ولهذا العلم فضل المتقدم هو أنه الذي حدا بالإنسان - وهو في طفولته الأولى - على أن ينعم النظر في السماء وما حوت، ويجتهد في أن يحلل ما يراه من ترتيبها ونظامها ويعلل ما يشاهد من سيرها وحركاتها، حتى وجدت فيه ملكة الملاحظة وقوة التفكير وأمكنه الوصول بعقله فحسب إلى نتائج دونها عقبات حتى تكاد تكون فوق طاقة البشر. وإنا لا ندري متى ابتدأ علم الفلك، فقد أتى عليه ولا مراء حين من الدهر كان في حيز العدم. ولكن هذا الوقت وراء التاريخ، ليس ثم من يعرفه على التحقيق. وحسبنا دليلاً على مقدار قدمه، وبعد عهده، أن أجدادنا الأقدمين - الذين عاشوا آلاف السنين قبل المسيح عليه السلام - خطوا فيه خطوات واسعات، ونهضوا به نهضة حفظ لهم الدهر ذكراها على مر السنين وتتابع الدهور. حتى أن من بين الأقاويل التي تحوم حول أهرامهم الخالدة، ما يؤيد أنها شيدت بناء على مشاهدات فلكية صحيحة ودقيقة. ثم تلقنه اليونان عن المصريين، فأعاروه جانباً عظيماً من اهتمامهم، ووسعوا نطاقه، وأحدثوا فيه أشياء كثيرة. . ومما يروى أيضاً أن للهينيين آثاراً فيه منذ القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وللهنود علم به قبل هذا التاريخ، وأن قساوسة بابل قد ضربوا فيه بسهم حوال ذلك العهد. على أن أقدم المشاهدات الفلكية التي يوثق بصدق روايتها حدثت في القرن الثامن قبل الميلاد.

ومن البديهي أن أول ما يلفت نظر الإنسان - منذ تكونت فيه القوى العقلية - هو أن هنالك نورين يتناوبان الإضاءة على هذا العالم: أحدهما، وهو الأقوى يظهر نهاراً وثانيهما وهو أقل من سابقه يظهر ليلاً، وأن هناك ضوءاً ثالثاً هو اضعف بكثير من الاثنين يسطع في السماء ليلاً كأنه المصابيح المتألقة - وهو ضوء الكواكب. بيد أن هذه المشاهدة مع بساطتها المتناهية، أدهشت عقول أهل تلكم الأجيال الغابرة، وحيرت أفهامهم، وجعلتهم يذهبون في تعليل نظامها مذاهب شتى، ويلصقون بها الأقاصيص الجمة والخرافات العديدة ومنهم من عظم في نظره ش أنها إلى حد أن اتخذها إلهاً يسبح بحمدها ويقدس لها كما قال تعالى في الذكر الحكيم عن إبراهيم عليه السلام: {فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} فلما انعموا النظر في هذه الأضواء وطفقوا يراقبونها، تبين لهم أنها لا تنير فقط، بل تتحرك في وقت معاً - فالشمس مثلاً - وهي مصدر الضوء الأقوى - تشرق كل يوم من المشرق، ثم تصعد في السماء إلى أن تبلغ كبدها في منتصف النهار، وبعدها تأخذ في الانحدار حتى تغيب في المغرب. على أنهم لاحظوا فوق ذلك أن نقط الأفق التي تظهر منها الشمس، والأخرى التي تغيب فيها وارتفاع الشمس وقت الظهيرة، وحدة إضاءتها - كل هذه ليست ثابتة وإنما يتخللها اختلاف تدريجي يصحبه تغيير محسوس في الجو والزراعة وما إلى ذلك. ففي الوقت الذي تكون فيه الشمس أعلى ما يكون وقت الزول، تكون حرارتها شديدة ويكون النهار أطول أمداً من الليل. فإذا جاء الوقت الذي يقل فيه ذلك الارتفاع إلى النهاية، ضعفت حرارتها وارتد النهار قصيراً. وبذلك عرفت الفصول المختلفة وسمي المدى الذي يكمل فيه هذا التغيير (عاماً). وراقبوا القمر - وهو مصدر ضوء الليل - فإذا به يتقلب في أشكال عديدة لا يخطئها البصر، تتعاقب بترتيب منتظم في مدة ثابتة معينة. فيكون هلالاً صغيراً ضئيلاً يظهر بعد غروب الشمس مباشرة ولا يلبث أن يختفي، ثم ينمو في الليالي التالية فلا يكاد يمضي

الأسبوع الأول حتى يظهر في شكل نصف دائرة قطرها في اتجاه مضاد للغرب. ثم يستمر في الازدياد حتى يصير في نهاية الأسبوع الثاني قرصاً كامل الاستدارة يظهر عند غروب الشمس ويأفل عند شروقها. . ثم ينقص شيئاً فشيئاً حتى يعود كما بدا (كالعرجون القديم) ثم يختفي بعد ذلك ليلتين أو ثلاثاً يظهر بعدهن الهلال الجديد ليدور نفس الدورة مرة أخرى. وتعرف هذه الأشكال المختلفة بأوجه القمر وبواسطتها وبواسطة المدة التي تتم فيها - وهي الشهر القمري - وباختلاف الحالة الجوية التي مر ذكرها منذ هنيهة - التي تعرف بالفصول - بواسطة هذه الأشياء استطاع الناي في تلكم الأزمان الغابرة أن يقسموا أوقاتهم، وينظموا أعمالهم ويعينوا مواعيد اجتماعاتهم وغزواتهم ومواقيت زرعهم وحصادهم. وتسنى لرعاتهم أن يعلموا مواطن العشب والكلأ ويعرفوا متى يقيمون ومتى يظعنون. أما الكواكب فإنهم ألفوها منتشرة في الفضاء أنى نظروا وحيثما ولوا وجوههم فلما راقبوها أثناء الليل رأوا أنها تتحرك حركة بطيئة مع حفظ مراكزها بالنسبة لبعضها تماماً حتى ليخيل للرائي أنها مثبتة على ظهر كرة هائلة تدور بها عل نقطة ارتكاز ثابتة. وتسمى هذه الكرة الوهمية (الكرة السماوية) كما أن النقطة الثابتة تدعى (القطب) وتجلى لهم أن النجوم التي على مقربة من ذلك المرتكز الخيالي لا تغيب عن الأبصار مطلقاً بل تتحرك في دوائر كاملة لا تتجاوز الأفق مهما اتسعت. . أما باقي أجزاء من دوائر قد خفي عنا باقيها. . وأن منها ما يبزغ في وقت معين في السنة ثم يحتجب، كما أن منها ما يظهر في ليالي الشتاء فقط وأخريات في ليالي الصيف. ولما كانت النجوم جماً عديدها، متشابهة أشكالها، متقاربة أحجامها لم يك ثمة طريقة لتعيين إحداها إلا بمراعاة مركزها بالنسبة إلى النجوم الأخرى، لذلك قام الفلكيون منذ نيف وأربعة آلاف سنة فقسموها إلى مجموعات أطلقوا عليها أسماء ما تشابهه ولو بعض الشبه - من الأشياء المعروفة لديهم. . . فالدب الأكبر مثلاً يطلق على السبع النجوم الظاهرة الترتيب في السماء المعروفة باسم بنات نعش ولو أن الشبه بين ترتيب نجوم هذه المجموعة وبين الدب بعيد ضعيف لا يكاد يذكر. وقد اختبرت اثنتا عشرة مجموعة هي على شكل دائرة في السماء لتدل على موضع الشمس في أي شهر من شهور السنة، وأسموها الأبراج وهي: العقرب، والقوس، والجدين

والدلو، والحوت، والحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان. وكونت في السماء، عدا هذه الأبراج، من ثلاثين إلى ستة وثلاثين مجموعة منها المثلث، والقوس، والنسر الطائر، والثعبان، والكأس، والسفينة. ولقد علم الأقدمون وثبت لديهم أن النجوم تظل مضيئة في السماء نهاراً كما تبين ساهرة ليلاً. ولتلك من أعظم ما استكشفوا وأهم ما وصلوا إليه، إذ أنها أول استنتاج لحقيقة لم يروها بأعينهم بل كان رائدهم إليها التفكير ليس غير. وإن هذه النتيجة أيضاً من القدم بحيث لا يعي التاريخ لها اسماً تعزى إليه. ومن آثار الأقدمين أيضاً أنهم استكشفوا أجراماً خمساً لا تتحرك كقطعة واحدة في المجموعة السماوية بل تشابه الشمس والقمر في أنها تسير وتغير أماكنها بالنسبة للنجوم الأخرى. وأنها لتشابه القمر على وجه خاص في أن نورها ينقص ويزيد من آن لآخر. فأطلقوا عليها اسم (الكواكب أو السيارات) ليفرقوا بينها وبين النجوم الثابتة. وهذه النجوم هي: عطارد: وهي أقرب الكواكب إلى الشمس وأسرعها سيراً. وهو لا يظهر إلا أحياناً على مقربة من الأفق بعد غروب الشمس أو قبل شروقها مباشرة. الزهرة: وهي ثاني الكواكب قرباً إلى الشمس، وتلقب (بنجمة العشاء) عندما ترى بعد الغروب وبنجمة الصباح عندما ترى قبل الشروق. المشتري: ويضاهي نوره - في بعض الأحيان - ضوء الزهرة وهي عند تمامها. المريخ وزحل: ويكون نورهما كنور أسطع النجوم الثابتة عندما يأخذان من السماء مكاناً حسناً. ولا يهذبن بك الوهم فتظن أن الأقدمين قد جهلوا شكل الأرض، فإنهم قد علموا ذلك علم اليقين. وأثبتوا كرويتها من عدة قرون قبل الميلاد، ببراهين لا تقل وضوحاً وجلاءً عن تلك التي نقرؤها في أحدث كتب الجغرافيا وأن منهم من قاس قطرها أيضاً كما سيمر بك في الرسالة الثانية.

حديث المائدة

حديث المائدة قال الأستاذ: فرح أصحاب المائدة بعودتي إليهم حتى قال لي أحدهم على سبيل الإطراء (إنك لتتكلم كالذي يعتقد صحة كلامه) فكأن هذا الرجل كان يرى ذلك فيّ خلقاً نادراً وخلة غير معهودة حتى ذكرها لنا. قلت (أي الأستاذ): من حاول التحدث بجد وإخلاص عرض نفسه للوقوع في آفتين الأولى: الصراحة المؤلمة. والثانية: الغلظة. ولا يخفى أن الغرض من التحدث إلى رجل أجنبي هو أن يعطي الإنسان ويأخذ من الحياة الحقيقية الخاصة بالاثنين أقصى ما تسمح به الفرصة. ولكن الحياة والحديث كثيراً ما يتضاءلان حتى يستحيلا إلى مجرد ألفاظ فارغة. ولقد روى لنا المستر (هاك) عدة نوادر عن أسلوب المحاورة بين رجلين من أهالي الصين كانا يتحدثان الأحاديث الطويلة المسهبة دون أن يلفظ أحدهما بكلمة ذات معنى: وهذه الأعجوبة ليست مقصورة على القاطنين وراء السد (سد يأجوج ومأجوج - حائط الصين) من الجنس الأصفر ولكنها تصادف كثيراً في النازلين دون السد من الأجناس الأخرى وأبرع المحدثين من الصينيين بضع نساء حسان أعرفهن وألقاهن أحياناً. فإذا رأيتهن فما شئت من ظرف وإيناس ومنطق حلو رخيم الحواشي تتطاير منه شظايا الملق والتقريظ تطاير نتف الوريقات الذهبية في الماء المعطر - وتنسجم ألفاظه انسجام الجدول السلسال - لا ترى فيه طغياناً ولا ركوداً - ولكن كلمات مؤتلفات متناسقات لا يتخللها مجاز بديع ولا استعارة مدهشة - فهن يصغن من الهواء ألفاظاً حلوة الانسجام لا تجد فيها من المعنى إلا مثلما تجد في السحاب من القصور الخيالية أو في جمرات موقد الشتاء من الوجوه الوهمية. لعلك أيها القارئ، كنت يوماً في قطار ففصلت عنه الآلة البخارية قبل بلوغه المحطة بمسافة بعيدة على أن القطار استمر بالرغم من ذلك في مسيره بسرعة وسكينة كما لو كانت الآلة لم تزل متصلة به وتسحبه. ولو لم تكن قد أبصرت بعينك الآلة تفصل وتنعطف في طريق جانبي لما هجس بظنك أنك تسير بقوة حقيقية ميتة. فهذا كمثل أولئك النسوة الحسان الآنفات الذكر - فلعمري إن فيهن من تفصل ذهنها فصلاً تاماً عن حديثها ـ. وأعجب من ذلك أننا لا نشعر بما صنعت فلا نرى البتة فرقاً. فشفاههن تساقط الكلم المستعذب كما تساقط أناملهن قطرات النغم المستملح من معازفهن - فالاعتياد المجرد من الإدراك يحول المعنى حروفاً ملفوظة على نحو ما يحول المعنى الموسيقى حروفاً نغمية

(حروف النوطة) ولكنهن بالرغم من ذلك كله يحكمن العالم ويملكن أعنة الوجود - وما ذلك إلا لأن الجمال هو عنوان حقيقة أجل وأعظم من الحكمة. هنا سألتني السيدة الأرملة ربة الوقار والجد تفسير جملتي الأخيرة. قلت لها: سيدتي إن الحكمة خلاصة الماضي. أما الجمال فهو ثمرة المستقبل. هذه كلمة استطرادية ثم نرجع إلى ما كنا فيه فنقول: هبني جلست على مائدة الإفطار إلى جنب رجل إنكليزي ذي فطنة وذكاء. فأول ما يجري بيننا هو أن كلينا ينظر في وجه صاحبه ثم نتبادل بضع كلمات.، وقد قرر كل منا في نفسه شيئاٍ - وهو تحاشي إساءة جليسه واستعمال الرقة واللطف والمبالغة في المجاملة والاحتفاء إذ كانت العواطف التي يشعر بها كل نحو الآخر ودادية محضة. فإذا تنازعنا الشراب. فنفض من حمرته على وجهينا ومن جمرته في دمائنا ازددنا رقة ودماثة. قالت الأرملة: ما أحسب الذين يتحادثون على الخوان خلقاء أن ينطقوا بشيء من جوامع الكلم أو نوابغ الحكم ولاسيما إذا خالطت رؤوسهم المدام وصدمتهم حميا الكاس قبل الشروع في هرائهم ورطانتهم. قالت الأرملة هذه الجملة بحموضة مسكرة كما لو كانت ألفاظها قد غمست في مادة (خلات الرصاص) ومثل هذه الجملة كان يسميها زملاء شبيبتي (الطعنة الخلس). قلت في نفسي لا بد من القضاء على هذه المرأة. فنظرت إليها وقلت: سيدتي إن المعلم الأعظم السيد المسيح كان مولعاً بالحديث على الخوان لأن هذه العادة كانت في زمن غابر ومكان قصي نسيت عظم قيمتها وجليل مزيتها؟ نسيت أنها كانت ولائم صادقة التف على موائدها أناس جياع ظماء شتى المذاهب والطبقات. ويحتمل أن القوم كانوا يديرون أحيناً أحاديث الخلاعة والمجون. ولا شك أنهم يديرون أكواب العقار. إن الخمر مهما تكن منافعها ومضاره الصحية فإنها ولا شك أحسن دواء لعلاج الولائم البليدة المملة. ولا يخفى أنه كلما أقيمت مأدبة حرها طائفة من الناس مختلفوا الحالات النفسية والبدنية فالغرض المقصود والحالة هذه محاولة التسوية بين هؤلاء الجماعة في مسافة ساعة حتى يجمعهم صعيد واحد من الأنس والابتهاج والبشر. فالطعام وحده قد يستطيع أن

يصنع ذلك ولكن بفرد واحد من الجماعة. والحديث وحده قد يكفي فرداً آخر. ولكن المسوى الأعظم والموحد الأكبر هو الخمر التي ما زالت اليوم على عهدها يوم (أبصرها الماء فاحمر خجلاً) ويوم استحلت الستة الأوعية المملوءة ماء إلى خمرة صرف عتيقة. نرجع بعد هذا الاستطراد إلى ما كنا فيه من موضوع المحادثة مع الرجل الإنكليزي ذي الفطنة والذكاء. فنقول: يبدأ المتحادثان بالمناوشة ببضعة معان خفيفة - تبحث عن الأفكار وتستكشفها كما يفعل الكيماوي الكهربائي عندما يحاول استكشاف تياره، فيستعمل ورقة من عباد الشمس الأزرق للاستدلال على الأحماض وورقة تورموريك للاستدلال على القلويات - طريقة الكيماويين في تعيين ماهية المركبات المجهولة. وتارى ترى المتحادثين يرميان المسبار في الماء ثم ينتزعانه فيفحصان ما جاء به من الرمل والمحار ليعرفا هل سيبقيان طويلاً في الأوشال والطحاطيح (الماء القليل القريب القعر) أو قد أشرفا على الغمار وأوشكا أن يلقيا (حبل الماء العميق). إن تيار أفكاري منقسم إلى ثلاث طبقات فوق بعض. وبيان ذلك أني إذا جالست إنساناً فطفق يتحدث إلي تبعت أقواله وأحواله بالطبقة العليا من تيار أفكاري ولكن تحت هذه الطبقة العليا يفيض تيار آخر سفلي من انتقاداتي على أقواله وأحواله وتحت هاتين الطبقتين تجري طبقة ثالثة من شعور مستقل لا علاقة له بما فوقه. وهاك بيان هذه النظرية بالكتابة. (أ) الطبقة العليا - الفكر وهو يتبع امرأة تتكلم. (ب) الطبقة الوسطى - الخواطر التي تصحب الطبقة العليا. (ج) الطبقة السفلى - وسوسة فكرة ذاتية مترددة ملحة. الشرح (أ) حلة بيضاء ذات أهداب زرقاء محلاة بأزهار حريرية وباقة من زهر التفاح - أساور دمالج وقلادة من اللؤلؤ وقرط من اللؤلؤ وقرط من الذهب - حذاء من القطيفة وجورب من الحرير الأبيض. (ب) خيبة الله على هذه المرأة! يا للسخف ويا للحماقة! ما أرذل هراءها وما أثقل ثرثرتها

(نظرة من النافذة على الشارع - ثلاث صفحات في وصف مستوعبات هذه النظرة لو حاولنا كتابتها - على أن النظرة لم تستغرق أكثر من عشر ثانية) تباً لك أيتها المرأة العجوز وسحقا! (تقع العين على صورة معلقة فوق الموقد) ما أشبه أنفها بأنف أمها وسائر أنوف أسرتها! هذه أنف زنجية لماذا لا تخرمها وتلبس فيها حلقة؟. (ج) أخشى أن أتأخر عن ميعاد المحاضرة - أخشى أن أتأخر عن ميعاد المحاضرة - أتأخر عن ميعاد المحاضرة، عن ميعاد المحاضرة - ميعاد المحاضر - ميعاد المحاضرة الخ الخ الخ. إن الطبقة الفكرية العميقة قد تبرز أحياناً إلى حيز الشعور بالكيفية الآتية: تستمر الطبقة أو الطبقتان الفكريتان العاديتان في الاطراد والجريان ولكن تشوبهما قوة خفية لا تزال تعترضهما وتزعزعهما بكيفية غامضة مبهمة - دأبها ذلك حتى تراني أصيح فجأة قائلاً (ها هي! لا زلت أعرف أن هناك شيئاً يقلقني ويكدر صفوي) وإذا بالفكرة التي ما برحت تتغلغل خلال الطبقتين الآنفتي الذكر قد نفذت فيهما فنجمت منهما وطفت على وجههما واضحة بينة - واجباً ثقيلاً أو ذكرى أليمة. بدأ الرجل القزم المشوه الوارد ذكره في النبذة السالفة بتقريظه بلده بوستون واسترسل في ذلك مسهباً مستفيضاً كدأبه وديدنه. فرد عليه الفتى الجميل الجالس بحذائه وهو من أهالي ماريلند قائلاً: لم هذه المقارنات والمفاضلات بين مختلفي المدن والبلدان؟ أليست كلها أمريكية وكل أمريكي منسوب إلى أمريكا بما ضمنت من البلاد والقرى؟ وهب أنكم أهالي بوستون أرجح أحلاماً وأرحب إفهاماً من سائر أهل أميركا فمن ذا يحسدكم على ذلك أو يبغضكم من أجله. نحن أمريكيون جميعاً. وحيثما رفعنا أبصارنا فرأينا الراية الأمريكية تخفق فوقنا وترفرف فذاك مستقرنا وموطننا! قلت: إن حصر الذهن في أي نقطة محدودة يعوق نموه ويكدي شبابه ويرده قزماً قصيراً دميماً. قلت ذلك وفاتني أن في هذه الكلمات تعريضاً بقصر الرجل ودمامته ولكنها لم تفته فأسرها في نفسه وتململ لها أسفاً وكمداً وامتقع لونه. ثم اشتد به الكرب فما أطاق استقراراً في

مجلسه فهم بالقيام قائلاً: اسمحوا لي أن أنصرف. هنا ارتفع صوت حلو رخيم فيه رنة حنان ورقة قائلاً: كلا إنه لا يقصد إلى ما ذهب إليه ظنك. وإنما قال ما قال غير متعمد كلا والله لن تذهب. ورفعت ي بضة عضة بيضاء فاستقرت على عضد الرجل المسكين. هذه هي الفتاة إيريس العذراء اليتيمة الحسناء - إحدى جلاس المائدة. هنا ارتفع صوت أناثي آخر بلهجة كأنها محلول حمضي شديد من الجد والوقار والحشمة خال من أدنى أثر من اللطف والرقة فقال: إيريس عزيزتي رويدك انظري ما تصنعين! ولكن الفتاة لم تبال بتحذيرات الأرملة ذات الوقار وبقيت واضعة يدها على عضد القزم المشوه - فكانت صورة بديعة يعدها المصور غنيمة وفرصة - دامت بضع ثوان ولا عجب. فأي شيء أغرب وأندر من منظر المليحة الحسناء في ريعان الشباب ورونق الصبا والقزم المشوه الدميم عليه وصمات الطبيعة القاسية وآفاتها ولعناتها ينظر أحدهما في عيني الآخر وقد امتزجت نظراتهما واختلطت لحاظهما. لأكبر ظني أن القزم لم يظفر قط في حياته بمثل هذه النعمة ولم يفز بمثل هذه النظرة من حسناء قبل إيريس ولا شك أن الفتاة لم تنظر قط في عينين كهاتين تغلغلت ألحاظهما إلى أعماق روحها - لا أقول أن عيني القزم كان لهما بريق وإشراق خارق للعادة - ولكن كان فيهما تلك النار الحزينة التي تلتهب في أرواح من ينظرون إلى جمال المرأة بلا أمل - ولكن يأسها لمزيد الأسف مصحوب أبداً بالوجد والهيام والكمد. فخيل إلى القزم أن هاتين العينين كانت كمياه الجدول الشفاف وأنه قد أبصر في أعماقهما المبهمة روضة أنفاً مغلقة الأغلفة والبراعم تنتظر طلوع فجر عاطفة شديدة فتتفتح أزهارها وتينع ثمارها وتدوي خمائلها برنين نغمات الهزار والبلبل. هذه الاستعارة من بنات أفكاري أنا - أستاذ المائدة - لا من بنات أفكار القزم، فإن القزم لم يتخيل مثل هذه الاستعارة في تلك اللحظة وليس في مقدوره ذلك ولا في مقدور أي إنسان آخر في مثل ذلك الموقف الحرج. وإنما كل ما جاش بصدر القزم إذ ذاك هو لوعة حزن وحرقة بث وأسى لا يعبر عنها لسان ولا يصفها بيان - ثم أنين باطن صامت.

قال القزم للفتاة بنوع من التغزل (نحن رهناء أدنى إشارة من السيدات - وطوع بنان الجنس اللطيف) قال ذلك وحدثته نفسه البشرية والطبيعة الغريزية - تلك الطبيعة التي تحنو وتتحدب على جميع أولادها، ولا تترك أشقى المخلوقات وأبأسهم وأشدهم تشويهاً وأكثرهم علة وآفة بلا عزاء طفيف من اعتداد بالنفس واعتقاد بأن لا تخلو من بعض المحاسن والمزايا - تلك الطبيعة حدثته بأنه قد أجاد وأحسن في رده على الفتاة وأن جوابه الخلاب لا بد قد أصاب حبة قلب الغادة - وهنا غرق ذهنه في لجة من الخيالات العذبة والأحلام اللذيذة ثم أن الأوهام الجنونية القديمة والخواطر المتهوسة العتيقة التي ما برحت تحوم على الأبواب التي يحرسها العقل والرأي الصحيح وما فتئت تنتظر غفلة العقل وترقب غرته - إذ كانت تعلم أنها إذا حاولت الدخول طردها العقل رفساً بالقدم مع التحقير والإهانة - هذه الأوهام الجنونية القديمة والخواطر المتهوسة العتيقة هجمت على تلك الأبواب في هذه الفرصة وتهافتت متكاثفة متراكمة يطأ بعضها على أعقاب بعض وهي في حالها هذه مبهمة متقطعة غامضة خجلة ن نفسها ولكنها تتزاحم وتتضاغط في أعماق الفؤاد حتى حمي الفؤاد واستحر من شدة احتكاكها واصطكاكها - وإليك بضعة أمثلة من هذه الأوهام الجنونية والأفكار المتهوسة: ألا تذكر أن جون ويلكيس أقبح الناس خلقة وأبشع أهالي إنكلترا صورة قال لبعض أصحابه أني إذا سبقت أجمل الرجال إلى لقيا أي سيدة بمسافة نصف ساعة فقط ضمنت لكم أن أصيبها وأسبينه فأستحوذ على لبها بما لا يدع فيه محلاً لغيري؟ (2) ألا تذكر كاديناس الشيخ الأشيب الهرم المتوحش الهمجي يقتاد الغانيتين الفتانتين (ستيلا) و (فانيسا) وقد استهواهما وأسر لبهما؟ (3) ثم يهجس بعد ذلك ببيت من الشعر: وكأن تحت لسانه ... هاروت ينفث فيه سحراً فكأنما يقول لنفسه أن المعول في استياء قلب المرأة إنما هو على اللسان الخلاب والمنطق الجذاب وليس على الخد الأسيل والطرف الكحيل والمنظر الجميل. أجل إن خلابة المنطق وسحر البيان هو الذي ما زال يفتن ويستهوي حواآتنا من قديم الأزل ألا تذكرون أن أبشع الحيوانات طراً وأقبحها هو الذي فتن أمنا الأولى وبذلاقة لسانه واستهواها حتى أقبلت عليه تصغي لزخرفة أباطيله وتمويه أضاليله - فوق الشر والبلاء.

ويل لنا معشر الرجال، إنا إذا استرسلنا في أمانينا وأحلامنا شرعنا نمثل في عالم الخيال دور هرقل إله القوة وهو يهز صولجانه فيخضع به الرجل والمرأة - يخضع الرجل بقوة الصولجان والمرأة بمهارة هزه وتقليبه - أجل نمثل دور هرقل ونحن جلوس إلى الموقد نتخذ من المحثة الباردة صولجاناً نهزه فنخضع به بني الإنسان وما أسهل ذلك علينا. فإذا نزلنا معترك الحياة الحقيقية وجدنا المحثة في النار فإذا تناولناها فالغالب أننا نجدها أحر من أن نستطيع إمساكها وقد تكون من فرط الحرارة بحيث تسلخ يدنا فنترك عليها جلدنا حين نقذفها أو نلقيها صارخين صرخة عالية أو صامتة.

الموت

الموت مخافة الموت غريزة بشرية أحسن دواء لها أن يذكر الإنسان أن للحياة بداية كما أن لها نهاية، فلقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاًَ مذكوراً، ومع ذلك فإن هذا لم يضره ولم يعنه ولم يأبه له ولم يكترث، فلماذا يعني ويهتم ويتأفف من أنه سيجيء عليه حين من الدهر لا يكون شيئاً مذكوراً. إنه ليس بودي إن كنت حياً أرزق منذ مائتي عام أو أثناء عهد الملكة اليصابات. فلماذا يسؤوني ويؤلمني أني لن أكون على قيد الحياة بعد مائتي عام - في عهد لا أدري من!. ليس الموت إلا عودة إلى الحالة التي كنا عليها قبل مولدنا التي لا نستطيع اعتبارها إلا فرجة لنا وخلاصة للنفس وإطراحاً لأعباء همومها، فلقد كانت هذه الحالة عيداً لنا وكنا بخير لم ندع إلى الظهور على مسرح الحياة للبس الحلل الزاهية أو الأطمار البالية - للضحك أو للبكاء - لاستحسان الجماهير حركاتنا وأعمالنا أو لاستهجانهم إيانا. ولكنا كنا راقدين في زوايا الفقدان وكهوف العدم بمعزل عن الأذى، وقد نمنا ملايين القرون لا نريد أن نستيقظ آمنين مطمئنين خالين من الهم والأسى مدة ذلك العدم الطويل في نومة أهدأ وأعمق من نومة الطفولة ملفوفين في رداء من أنعم التراب وألينه. ومع ذلك ترانا نظل وأخوف مخاوفنا أن نعود إلى هذه الحالة - إلى الراحة النهائية إلى دار الخلاص من الأحزان والمصائب بعد حياة تعسة شقية كلها كرب وضيق آمال كاذبة ومخاوف باطلة. ليس في فكرة حياة سابقة لميلادنا من عوامل التشويق والترغيب مثل الذي يشعر به المرء نحو حياة مستقبلة تجيء بعد حلول الأجل. فلقد يسرنا أنا بدأنا الحياة حين بدأناها ولا يسوؤنا أننا لم نبدأها قبل ذلك فحسبنا ما عانينا وكابدنا وما كافحنا وجاهدنا مدة عمرنا القصير. فلا ضير علينا أنا لم نشهد حرب طروادة ولم نبصر مصرع هكتور وآخيل ولم نر اليونان تدحر الفرس في ثرموبولي. فحسبنا أن نقرأ أنباء ذلك في الكتب والأسفار ونقف ننظر إلى البحر الهائل الذي يفصل ما بيننا وبينها. تلك العصور كانت في بكرة الدهر وطفولة الدنيا إذ كان العالم لم تمهد به أسباب الراحة والرخاء بعد فإن تكن الحياة إذ ذاك فأخذنا العدد لقطع مراحل العيش فنحن لا نرى خساراً علينا في فقدنا الستة الآلاف الأعوام التي سلفت قبل ظهورنا. ولا نشعر نحو ذلك بأدنى اهتمام أو اكتراث. ولا نتوجع ونتفجع لأنا لم نر كرنفال الحياة الأكبر يسير أمامنا موكبه العظيم الهائل طول تلك المدة

وإن كان يحزننا أننا سنجبر على ترك موقفنا قبل مرور سائر الموكب. وقد يقال في تعليل ذلك الفرق أن قد نعلم من الأخبار المنقولة والروايات المأثورة ما جرة في عهد الملكة اليصابات بل في عهد دارا واسكندر بل في عهد الآشوريين والفينيقين. ولكن لا سبيل لنا إلى معرفة ما سيحدث في المستقبل إلا انتظارنا الحوادث وتوقعنا الوقائع. وعلى قدر جهلنا بالغيب واحتجابه عن ظنوننا وأوهامنا يكون فرط تطلعنا إليه وتشوفنا نحوه. ولكن هذا التعليل خطأ محض لأنه لو كان حقيقة لكنا لا نزال نتطلع إلى عمل سياحة في أراضي جرينلندة أو رحلة إلى القمر ونحن لا نرغب البتة في هذا ولا ذاك كذلك لا رغبة لنا البتة في الإفضاء إلى غيوب المستقبل والاطلاع على أسراره إلا أن نجعل ذلك علة إلى استطالة أعمارنا. فنحن لا يهمنا أن نكون أحياء بعد مائة أو ألف عام إلا كما يهمنا أن نكون قد عشنا قبل ميلادنا بمثل هذه المدة ولكن الحقيقة والواقع هو أن كل إنسان يود لو أن الساعة الحاضرة تصبح أبدية سرمدية أجل كلنا يود أن يبقى كما هو وأن الدنيا تبقى كما هي لتمده بأسباب النعيم واللذة. كلنا يود أن يحرز اللذة الحالية ويستبقها ويستديمها إلى نهايتها القصوى ويكره جداً أن يراها تسلب منه وتنتزع فيبقى مكانها خالياً ثم يعوض بها بدلاً فديدنه في ذلك قول القائل: خذ زمانك ما أعطاك مغتنماً ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره فالعمر كالكاس تستحلى أوائله ... لكنما ربما مجت أواخره إن الحزن والكمد واللوعة والحرقة هي في ألم الفراق وفي مضاضة الاستلاب والانتزاع وفقد المألوف والمحبوب وترك الأوطار والأماني غير مقضية والآمال والأماني غير محققة ينتج من ذلك أن حب الحياة هو علاقة وألفة وليس بغريزة مستقلة. فمجرد الكينونة لا يفي بحاجة الإنسان الفطرية ولا يشفي رغبته الطبيعية. وإنما الذي فيه قضاء لحاجته وشفاء لرغبته هو الكينونة في مكان وزمان وظروف خاصة بعينها. فنحن نؤثر الوجود في هذا الآن - في هذه الجزيرة، من بحر الحياة على أن نختار أي حين مستقبل أو نقتطع سلخة من الوقت قدرها ستون عاماً من الأبد. فهذا دليل على أن تشبثنا بالحياة ليس متوقفاً على مجرد الوجود أو الوجود بحالة طيبة - ولكنا ميالون بالفطرة أشد الميل إلى البقاء على ما نحن فيه من الظروف والأحوال كما

هي. فالجبلى لا يترك صخرته. ولا الهمجي عشته، كما أنا لا نحب أن نتخلى عما نخن فيه من منهج العيش الخصيص بنا بكل ما فيه من آفات ومزايا ومحاسن ومساويء ولو أعطينا بدله أي عيشة أخرى مهما كانت، وما أحسب أن في الدنيا إنساناً يرضى أن يتبادل العيش والحياة مع آخر مهما بلغت عيشة هذا الثاني من النعيم والرغد والسعادة فلأسهل علينا أن لا نكون مطلقاً من أن نكون غير أنفسنا. إني أعرف أناساً يبلغ من بسطة أرواحهن وفرط تطاولها أنهم يودون لو يعيشون ثلاثمائة عام ليروا إلى أي ذروة من النفوذ والقوة تصل أمريكا هلال هذه المدة. فهذه غاية وراء أقصى مطامح. ومع ذلك لا أنكر أني أود البقاء إلى أن أرى دولة البوربون تنهار فتنهدم وتضمحل فتنعدم. وكلما عجل إليها انقضاء ذلك كان أشهى إلى قلبي وأندى على كبدي. من شيمة الفتيان والشباب أنهم لا يذكرون الفناء ولا يهجس ببالهم أنهم سيموتون مطلقاً قد يتصور أحدهم أن غيره من الناس يموت وقد يوافق على المذهب القائل بأن: كل حي لاق الحمام فمودي ... ما لحي مؤمل من خلود باعتباره نظرة معنوية ولكن يصعب عليه جداً أن يطبق هذه النظرية على نفسه. وذلك أن ميعة الشباب وحدته ونشاطه وشرته وجيشان مرجل الصبا في جوفه وغليانه. واحتدام تنوره وفورانه - كل ذلك مناقض لفكرة الهرم والموت فهو ينفر بالفتى عن هذه الفكرة ويشرد. فإذا استرسل به الفكر برهة في وادي التأملات والتصورات فعرضت له فكرة الموت بدا له الشبح المخوف على مسافة كأقصى ما ينصوره الذهن تنحسر دون غايتها الأوهام، ثم ما أبعد الخلاف وما أشد التناقض بين بطء قدوم هذا الشبح الغامض المبهم وتراخي مسيره وثقل حركته وبين ساعتنا الحاضرة من اللهو والطرب والمراح وأحلام المنى وفرحة الأمل! فنحن نرقب أقصى حافة الأفق وأنأى مرمى الحدق ثم نقول في أنفسنا أي مسافة مترامية الأنحاء متنراخية الأرجاء لا بد من طيها قبل أن تبلغ غاية سفرنا البعيد ونلقي عصا التساير على ساحل الحياة. هذا ما نقوله لأنفسنا ونحدث به ضمائرنا وبينا نحن كذلك إذا بالضباب تحت أقدامنا من حيث لا نشعر ولا نتوقع وإذا بظلمات الهرم تلفنا وتغشانا. ماذا جرى؟ لقد اختلط شطرا العمر إحداهما بالآخر وامتزجا وتداخلا واندمجا وإذا بالطرفين

الأقصيين قد تلاقيا ولم نستمتع بتلك الفترة اللذيذة التي كانت تتراءى بينهما لعين خيالنا والتي كنا نعول عليها ونعتمد وبدل الذي كنا ننتظره من خريف الكهولة وحدائقه الحواء وأوراقه الصفراء وأزاهيره اللمياء وأصائله الذهبية وشمسه المدنفة العليلة التي آذنت بالمغيب وقد نفضت على الأفق الغربي ورساً مزعزعاً: ولاحظت النوار وهي مريضة ... وقد وضعت خداً على الأرض أضرعا وظلت عيون النور تخضل بالندى ... كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا3 يلاحظها صوراً إليها روانيا ... ويلحظن ألحاظاً من الشجو خشعا كما لاحظت عواده عين مدنف ... توجع من أوصابه ما توجعا وبدلاً من ظلال عشيات هذا الخريق المنتظر المملوءة بأصداء الشباب الراحل وهمسات الأبدية القادمة الممسكة الأرجاء المعطرة الجوانب بما لا يزال يعبق بأردانها من نفحات لذات الصبا الدابر والنعيم الغابر وما لا يزال يهب عليها من عوالم الذكرى من شذا عهد الشباب وعصر اللهو والبطالة - بدلاً من ذلك كله لا نبصر إلا ضباباً بارداً ثلجياً يلف كل شيء ويغشى جميع الكون بعد انقضاء الشباب وذهاب روحه. وحينذاك نظل بحالة إذا نظرنا أمامنا وجدنا قفراً خراباً وأسوأ من ذلك أنا إذا التفتنا وراءنا وجدنا تلك المناعم والمطارب التي كان يكسوها الصبا بهجة ورونقاً وتلوح لعين الشباب بديعة رائعة جميلة قد عادت في عين الشيخوخة غثة تافهة حقيرة وعلى ذلك أن ملاذ حياتنا قد بليت ورثت وذهبت في فيافي الزمن أو لعلها قد حولت نحونا جوانبها المقفرة ونواحيها الجدبة الموحشة. أو لعل ما كابدناه من ضرباتها المتولية وصدماتها المتواترة قد أوهنتنا. ونهكتنا وأبلتنا فلم تترك بنا رغبة أو ارتياحاً لملاقاتها بعين الذكرى. ولا غرو فأي لذة في استثارة الأدواء الكمينة ونبش الأوجاع الدفينة فمن ثم ترانا لا نريد أن نجدد شبابنا كما تتجدد للظى السعير جلود أهل جهنم فحسبنا ما جرى وكفانا. فدع الشجرة الساقطة لات تقمها. وأغلق الكتاب واختم الحساب لا تفتحه ولا تفض ختامه آخر الأبد. وقد شبه بعض الشعراء الحياة باستكشاف طريق كلما تقدمنا به ازداد ضيقاً وظلمة ولم يترك لنا مجالاً للرجوع فيه من حيث أتيناه، وفي نهايته نختنق لانبهار النفس على أني شخصياً لا أشتكي كثافة الجو كلما دنوت من النهاية ولكني أشتكي قلة الأنيس وفقد العماد

والمستند. فياويلتا إني أمد يدي أبتغي ما أركن غليه وأتشبث به فلا أجد، بل أراني في عالم من المعنويات، أرى خريطة الحياة تنشر عارية خالية أمامي وأرى شبح الموت يتمشى في القفر الخراب لاستقبالي لقد كنت لا أبصر ذلك الشبح في صباي لتزاحم أفواج المرئيات والعواطف على قلبي وبصري ولاعتراض شخص الأمل بيني وبين الشبح المخوف يقول لي (لا تكترث لذلك الشيخ الهرم ولا تحفل) أما وربك لو كنت عشت عيشة سعيدة رغداً لما حفلت بالموت ولا باليت. ولكن كيف لا أحفل بالممات ولا أبالي وما قضيت من عيشتي وطراً ولا بلغت أملاً. لقد خانتني الآمال الكذابة وخدعتني الأماني الخلابة ثم راحت وهي تسخر مني وتهزأ وإني ليعز علي أن أترك الحياة ولم أر الإنسانية تظفر بأقل ما كنت أرجو لها في صباي من الأوطار والمآرب، أو ترقى إلى أدنى ما كنت أبغي لها من منازل السمو ومراتب الكمال كما أني لا يسرني أن أموت ولم أترك ورائي مؤلفاً جليلاً أو مصنفاً سامياً نبيلاً. وبودي فوق ذلك أن ألقي لدى فراش الردى إذا جاءت سكرة الموت وأخذ الحمام بالكظم صديقاً صدوقاً ورفيقاً رفيقاً يشيع جنازتي ويحثو تراب حفرتي. فبهذه الشروط ألقى الحمام مستسلماً إن لم أكن مرتاحاً وأكتب على قبر (شاكرٌ راضٍ) ولكني قد قتلت نفسي تفكيراً وتأملاً فيعز علي أن يذهب كل هذا التفكير والتأمل ضياعاً. وإني إذا استدبرت ماضي خيل إلي كأنما قضيت عمري نائماً في حلم علىسفح جبل العلوم حيث جعلت أتغذى بالكتب والأسفار والآراء والأفكار لا يصل مسمعي من ضجة العالم وجلبة الإنسانية المحتشدة في الحضيض إلا صدى أقدامهم ودوي ضوضائهم فلما انتبهت من هذه الحالة المبهمة (الشفقية) بضجة موكب الإنسانية السائر تحت قدمي آنست رغبة في النزول إلى عالم الحقائق للدخول في حلبة ذاك السباق، ولكني أخشى أن يكون وقت ذلك قد فات وأنه أولى لي أن أعود إلى خيالاتي الكتيبة وأحلامي المدرسية. وما لي ولأهل هذا العالم لست منهم ولا هم مني وما كنت لأروعهم بغرابة منظري وشذوذ فكري وإني كأصحاب الكهف لو طلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً. ليس عجيباً أن ادكار الموت وتأمل معناه يصبح أكتر تردداً على خواطرنا كلما ازددنا منه دنواً وإن عباب الحياة يزداد جزراً وانكشافاً كلما برد في عروقنا دم الشباب وجف فيه معينه. وأنه كلما أبصرنا جمع ما يكتنفنا ويحيط بنا من الكائنات عرضة للطوارئ

والظروف والصدف وصروف الزمان وتقلبات الحدثان، وكلما رأينا قوانا تخور ومحاسننا تزول وآمالنا تبيد وشهواتنا تموت وخلاننا تدرج فتقبر - كلما رأينا ذلك دبت إلينا تدريجياً فكرة الفناء وبدأنا نشعر أننا هالكون. في الذاهبين الأول ... ين من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر أرى الناس يضيفون إلى مخافتهم الطبيعية من الموت نوعاً من الألم لا لزوم له ولا ضرورة - وأعني بذلك ما يظهرون من التوجع للفجيعة التي ستصيب أهلهم وأقاربهم لفقدهم إياهم. فلو كان الأمر مقصوراً على هذا فجدير بنا أن نريح أنفسنا من هذه الوجهة فإن مصاب أهلنا لموتنا أخف وأهون مما نتصور ولقد رأيت أن ما يكتب عادة على قبر الميت من أمثال هذه العبارة (تعزوا ولا تحزنوا علي يا أولادي الأعزاء ويا زوجتي الحبيبة) يعمل به دائماً وذلك أننا لا نترك بموتنا في المجتمع ذلك الفراغ الهائل الذي تخيله إلينا أنانيتنا تعظيماً لأنفسنا الضئيلة وتعزية لها بما توهمنا من اهتمام الغير بنا واكتراثهم لنا. أجل إن الفراغ الذي نتركه حتى في أسرتنا ليس من العظمة كما نحسب. فلقد رأيت الثلمة تسد والجرح يندمل في أقرب مما نتوهم. سيعرض عن ذكري وتنسى مودي ... ويحدث بعدي للخليل خليل بل أعجب من ذلك أن الفراغ الذي نتركه ربما عدا أحياناً في نظر الأسرة أفضل وأنفع من وجودنا وما أحكم ما قال الشافعي في هذا المعنى: ستألف فقدان الذي قد فقدته ... كإلفك وجدان الذي أنت واجد ألم تر إلى الناس كيف يظلون رائحين في الطرقات والشوارع في غد يوم وفاتنا كما كانوا يفعلون في أمسه والمجتمع بحاله وعلى عهده لا يرى فيه أدنى نقص ولا يحس. لقد كنا ونحن أحياء نحسب أن الدنيا لم تخلق إلا لنا، وأن الأرض لم تأخذ زينتها وزخرفها إلا لتقر أعيننا، وتشرح صدورنا، والسماء لم ترصع بسبائك اللجين ولم تزين بمصابيح الفلك إلا

لتبهج نفوسنا وتنير سبلنا. وإن كل ما في الكون وكل ما تقل الغبراء وتظل الخضراء لم يوجد إلا لمنفعتنا ولذتنا فما بال العالم كعهده وعلى حاله بعد ما سكت نبضنا وعدنا جثة هامدة وجمرة خامدة لقد زلنا وما زالت من النجم لمعته ولا من الروض نضرته. أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف إن الطبيعة لا تحزن وكذلك الجماهير الجماعات لا رحمة عندها ولا حنان ولا رثاء. وأنها لا تأبه لي ولا لك كما لو كنا من سكان المريخ أو أهل القمر. وليس عجيباً نسيان العالم إيانا عقب مغادرتنا مسرح الحياة لأنهم لم يكادوا يشعروا بنا ونحن فوقه وليس الأمر مقصوراً على أن أسماءنا لا تعرف في بلاد الصين بل الحقيقة أنه لم يسمع بها في الشارع المجاور لنا ولا في الزقاق المصاقب. فإذا كانت هذه منزلتنا لدى المجتمع الإنساني ونحن أحياء فماذا عسى تكون منزلتنا عنده ونحن عظام نخرة ورمة بالية. وما كان (لحفنة من التراب) أن تثور في وجه العامل لأنه لا يأبه لها، أو تشاحن الملأ وتقاتله لأنه لا يشعر لوجودها. ولو أن لها لساناً ينطق لقالت (أيتها الدنيا اذهبي لشأنك! دوري دورتك في الأثير الأزرق وتشكلي لكل عصر شكلاً وتلوني لكل جيل لوناً - فلن يكون بيني وبينك اتصال أو احتكاك البتة). إن ما يبديه الناس من هذا التشبث الصبياني بالحياة من حيث هي فكرة ومعنى إنما هو نتيجة هذه المدنية الحديثة المصطنعة، فلقد كان الناس في القديم يغشون ساحات الحروب ويغامسون القحم والأهوال والمهالك ويخاطرون بالأرواح لأدنى سبب وأتفه عله ويلقون بأنفسهم في المتالف من أجل غرض فذ أو بغية واحدة فإذا لم يظفروا بها عادت الحياة وهي عبء فادح عليهم ونكبة ومصيبة لا تطاق ولا تحتمل. أما الآن فقد تغيرت الحال. وأصبح جل همنا من الحياة وأقصى بغيتنا من العيش هو التفكير والتأمل، وعاد أهم ملاهينا وشهواتنا هو قراءة الروايات والأشعار والقصص الجديدة - وهذا ما نستطيع إتيانه على مهل وفي هينة وتحت ظلال الأمن والسلام والطمأنينة. ونحن إذا نظرنا في قديم التواريخ والقصص قبل أن يؤثر الأدب الحديث تأثيره في شؤون البشر وأحوالهم بإدخال روح الفتور والبلادة عليها - رأينا أن الأبطال والبطلات كانوا يرتقبون الفرص للمخاطرة بأرواحهم بغير باعث سوى مجرد احتدام نار الحمية والحماس

في قلوبهم. وما يجيش بنفوسهم من حميا الفتوة وغلواء البأس والمراح والهمة. لقد كان أولئك الأبطال يتمادون في ولوعهم بأمر ما ويلجون في شغفهم بوطر من الأوطار حتى يبلغوا بهذا الولوع والشغف أقصى درجات الجنون فيبذلون في سبيل إدراكه كل غال ونفيس من مال وروح إذ يرون كل ما عداه بخساً خسيساً بل حثالة ونفاية. فهم يتهافتون على سرير الموت كأنه سرير العرس. ويضحون بلا أدنى تأسف ولا تندم أنفسهم وغيرهم على منسك (مذبح) الغرام أو الشرف أو العقيدة أو غير ذلك مما يكون قد تملك قلوبهم من الوجدانات والعواطف. ألم تر إلى روميو كيف قذف (بزورقه المتعب المنهوك) على صخرة الموت لما رأى أنه قد فقد معشوقته جولييت وكيف طوقته هي بذراعيها في سكرة الموت وتبعته إلى ساحل الفناء. لقد كانت الفكرة تستولي على نفس الرجل فتستبد بها وتطرد كل ما عداها - ثم تصبح الحياة - بدون تحقيق تلك الفكرة - شيئاً تافهاً غثاً بل بغيضاً كريهاً. ورأيي أن مثل هذه الحياة أشرف وأجل من حياتنا لأن فيها من قوة الخيال وحدة الشعور والإحساس وصرامة العزيمة وشدة الجرأة على المخاطر والأهوال ما لا نظير له في حياتنا الموصومة بالجبن والحذر والنكوص والنكول والفتور والتراخي وحب البقاء من أجل ذاته الحقيرة الخسيسة القليلة القيمة. وإنه لخير لنا وأكثر بطولة أن نرمي إلى غرض جميل أو جليل فإذا أخطأنا المرمى وبؤنا بالفشل والخيبة تحملنا تبعة مخاطرتنا بجلد وقوة ورجولة - من أن نجدد عقد إيجارنا لحياة متعبة مضجرة مسئومة مملولة خالية من المتاع واللذة ومن السحر والفتنة قد يجوز أن نخسرها بعد ذلك في مشاجرة مرذولة من جراء غرض خسيس عديم القيمة، أفلا ترى فيما وصفناه من الاستخفاف بالموت والجرأة على مهاجمة شيئاً من روح التضحية والاستشهاد ونوعاً من سطوة التوحش وعرام الهمجية المعجبة الرائعة؟ ألم يكن للدين دخل في ذلك؟ - وما بالك بتلك العقيدة الخالصة التي تملأ المرء يقيناً بحياة آخرة تتضاءل إزاءها الحياة الدنيا حتى ترى المجاهد أو العاشق أو الفارس يهون عليه أن يخلع هذا الرداء الترابي ويلقي بروحه العارية في أحضان الأبدية وهذا ما يحجم عنه الفيلسوف العصري شكاً وريبة. وجبناً ورهبة مع كل ما يفخر به من حكمته ولبه وقضاياه المنطقية ونظرياته الفلسفية - أسلحة عاجزة يصبح بفضها أضعف قلباً وأوهن ركناً من المرأة. وخلاصة القول أن أحسن دواء لمخافة الموت هو أن يقدر

الإنسان حياته حق قدرها. فإذا كان جل همه من البقاء هو التمادي والاسترسال في أهوائه المتقلبة الطائشة الجائرة وشهواته القذرة الأليمة المضادة فأولى له أن يمضي على عجل وإذا كان حبه الحياة لما ينشد من خيرها ويرجوا من نفعها فلن يجد في فراقها شديد عناء ولا كبير ألم. وليم هازلت إلف هذا الهواءِ في الأنف ... س أن الحِمامَ مُرُّ المذاق والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق المتنبي

باب الزراعة

باب الزراعة آلات زراعية جديدة احتفلت شركة مهنا ومجيد لتوريد الآلات الميكانيكية - والكهرباء - يوم الأحد 28 سبتمبر سنة 1919 في التوفيقية في أملاك سعادة علي باشا مهنا بتجربة سيارات للحرث بحضور جم غفير من العظماء يتقدمهم سعادة فتحي باشا الوزير السابق وسعادة خيري باشا مدير البحيرة سابقاً ومفتشو دائرة سمو الأمير عمر طوسون الذي له اليد البيضاء في مساعدة المشروع والسيد حسين القصبي وعميد عائلة وار بالبحيرة وسعادة عبد الحمد بك الصحن مفتش المالية ومهندسو الشركات الأجنبية وكثير من المزارعين. وبعد تجربة السيارات وظهور نجاحها أمام الجمهور مدت الموائد وألقي بعد ذلك محمد علي بك مهنا كلمة شكر للحاضرين ثم تبعه الأستاذ عبد الله أفندي عبد المجيد وألقى المحاضرة الآتية ننقلها بفصها ونصها لأهمية موضوعها من الوجهة العلمية. المحاضرة أيها السادة: إني أضم صوتي لصوت زميلي محمد بك علي مهنا في شكر سمو الأمير عمر طوسون لاهتمامه بمشروعنا وشكركم، وأتمنى أن تعيروني آذانكن لحظة حتى أسيح معكم في عالم الحياة الجديدة للزراعة. لا أود أن أذهب بكم إلى الماضي، فنحن ما زلنا نعيش فيه. وما علينا إلا أن ننظر إلى محاريثنا وطريقة بذرنا الأرض. وحصدنا النبات، ودراستنا للقمح نحن أيها السادة لا نزال مع الماضي ولم نفتح الحياة الجديدة لمصر اللهم إلا لنفر قليل من المزارعين العقلاء المستنيرين. أريد أن أبحث معكم الآن من الوجهة الزراعية المحضة في حياتنا الحالية لأبرهن لكم أن خصوبة أرض مصر التي تغنى بها اليونان والرومان والعلماء الزراعيون الحاليون هي فوق ما يقولون، وإنما ينقصها تطبيق النظريات العلمية والعملية حتى تجود بالنضار الكثير. وتفيض على العالم من خيراتها كما كانت تفيض عليه من قبل. لمَ تُحرث الأرض أيها السادة؟

ليست الأرض كما يتوهم البعض بجماد وإنما هي مسكونة بملايين من المخلوقات الحية. هذه المخلوقات المكروسكوبية هي التي تساعد على نمو النبات، وطبخ السباخ وتهيئته طعاماً سائغاً له. وكلما زاد عدد هذه المخلوقات زاد عملها. وأفادت الأرض وزادت الخصوبة. الطريقة التي تزيد عدد هذه المخلوقات هي الطرق التي نطلبها نحن بني الإنسان أنا نطلب هواء جيداً ونوراً ساطعاً وشمساً تنقي الجو. كيف نصل لذلك؟ بالحرث، إن المحراث الجيد هو الذي يقلب عالي الأرض سافلها، حتى تنقلب الأرض التي كانت معرضة للشمس، وتحل محال الأرض التي لم تكن كذلك لتصير الطبقة الزراعية موطناً صحياً للحيوان والنبات الذي يسكنها. والمحراث المصري الذي بين أيدينا لا يقلب الأرض جيداً. فالحرث إذن ناقص نقصاً هائلاً من الوجهة العلمية العملية التي تنطبق على الشروط التي تزيد خصوبة الأرض وفوق ذلك أن المحراث البلدي لا يقاوم صدمة الأرض. وليس بالسهل إيجاد حراث ماهر. والدليل على النقص الهائل في تركيب محراثنا هو أن المزارع مضطر أن يحرث الأرض مرتين وثلاثاً حتى يمر المحراث بكل جزئيات الأرض. وانظروا كم من الوقت يضيع في هذه العمليات. ما هو المحراث الذي يصل بنا للدرجة القصوى من المحصول؟ هو المحراث الذي يقلب الأرض جيداً، ولا يمنعه جفاف الأرض عن السبر ويمكنك أن تحرث به على أي عمق تشاء، وفي الوقت نفسه يقضي على النباتات الضارة باستخراجها من جذورها. ويدفن السباخ إلى الطبقة الأرضية حيث تجدها جذور النباتات بسهولة. ويحفظ المياه في باطن الأرض حتى إذا تأخرت المناوبات وجد النبات من رطوبة الأرض منهلاً عذباً. ويزيد سمك الطبقة الزراعية فلا تكون الأرض خفيفة بل سمينة. خصبة. جيدة. ثم يمكنك أن تحرث بسرعة هائلة فتقتصد في الوقت، بمعنى أنه يمكنك أن تحرث به عقب الحصاد فلا تنتظر المناوبات لحرث أرض الذرة، وتحرث به القطن بسرعة تمكنك من أخذ

بطنين من البرسيم بدل بطن واحدة، وبالاختصار يمكنك أن تبكر في زراعتك وأخيراًُ يعرض الأرض للشمس جيداً فتقتل الحرارة الميكروبات التي تضر النباتات والبويضات المختفية التي تنتظر الوقت الملائم فتفقس وتزحف على النبات فتضره، هذه المحاريث التي رأيتم تجربتها تعرض الحشرات والميكروبات إلى التغيرات الجوية التي لا طاقة لها بمقاومتها فتموت في أقرب وقت. هذا أيها السادة - من الوجهة الزراعية - بعض فضائل المحراث الذي رأيتم تجربته بأعينكم وليس هذا كل ما هنالك وإنما هناك فوائد اقتصادية جمة، منها: (1) سرعة الحرث. (2) الاقتصاد الهائل في قيمة حرث الفدان إذ لا يتكلف أكثر من خمسين غرشاً صاغاً مع احتساب استهلاك ثمن الآلةى وجميع النفقات. (3) استعمال السيارة في جر المحصول من بلد لبلد إذ يمكنها أن تجر من طن ونصف إلى ثلاثة أطنان حسب قوة الآلة المحركة. (4) استعمال السيارة في إدارة مكينة للدراس أو طلمبة مياه. . الخ. ليس كل النجاح الزراعي في الحرث الجيد الاقتصادي وإنمال هناك أشياء أخرى مفيدة ولازمة من الوجهة الزراعية الاقتصادية التي تنمي قوة الإنتاج: ستنشر بقية المحاضرة في العدد القادم.

الذباب المنزلي

الذباب المنزلي يوجد الذباب المنزلي في جميع أنحاء الدنيا بقرب المساكن، ويضايقنا كثيراً وبخاصة في فصل الصيف حيث يتغذى بالعرق. وزيادة على ذلك أن الذباب ينقل إلينا جراثيم أمراض معدية كثيرة فهو أكبر الوسائط في نقل جراثيم الحمى التيفودية التي ينقلها نقلاً ميكانيكياً، إذ من المعلوم أن هذه الجراثيم توجد في براز المصابين. والذباب يتغذى بالبراز، فتعلق الجراثيم بأرجله وفمه، وعندما ينتقل ويقف على أي طعام يترك عليه هذه الجراثيم وبعد أن يأكلها السيء الحظ تظهر عليه أعراض المرض. الذبابة حشرة صغيرة لونها أردوازي ورأسها أسود وتضع بيضها وسط القاذورات وأكوام الأسمدة وغيرها من المواد المتحللة حيوانية أو نباتية وبعد يوم أو اثنين يفقس البيض وتعيش اليرقات في الوسط المتقدم الذكر بشرط أن تكون به بعض الرطوبة، وبعد أسبوع أو أقل يتم نموها وتتحول إلى عذارى في المواضع نفسها، والعذراء بيضية تقريباً حمراء وبعد أربعة أيام أو خمسة تخرج منها الذبابة، ويتغذى الذباب بالمواد المتحللة السائلة وببراز الحيوانات والإنسان وكذلك بالمواد الصلبة كالسكر وذلك بكونها تنزل عليه لعابها فيذيبه ثم تمتص هذا الجزء السائل. طرق المقامة: الذباب من أكثر الحشرات خطراً في نشر الأمراض المعدية وهذا زيادة عن مضايقته لنا فلذا يجب العمل على مقاومته بإعدام الوسط الذي يعيش فيه. (1) يفضل الذباب المواد المتحللة السائلة أو النصف سائلة ولذلك يجب تغطية أكوام السماء بطبقة جافة من الأرض ونثر قليل من الجير عليها. (2) بما أن انتشار الذباب بكثرة هو نتيجة عدم اتباع الطرق الصحية في القرى وغيرها يجب الامتناع عن التبول أو التبرز في الطرق حيث تكون معرضة للذباب بل يجب اتخاذ محال خاصة بعيدة عنه. (3) يجب ألا ترمى زبالة المنازل في الشوارع بل توضع في صناديق خاصة ذات أغطية إلى أن يأخذها الكناسون وليست صناديق الزبالة الموجودة الآن في شوارع القاهرة من غير أغطية. (4) تستعمل في المنازل مصائد للذباب منها ورق مغطى بطبقة لزجة يلتصق عليها الذباب عندما يلامسها وذلك لتقليل عدده في الحجر. نعمان محمد

أستاذ علم الحشرات في مدرسة الزراعة العليا

تفاريق

تفاريق يقول العقلاء: ـ إذا أردت أن تكون عظيماً فاعتن بصغائر الأمور. ـ لا ينزعن أحدكم إلى الكسل فإنه مجلبة للشقاء. ـ من أحسن عمله أحسن إليه عمله إن عاجلاً وإن آجلاً ـ من بذل قصارى جهده فقد عمل كل شيء. ومن فعل دون ذلك لم يعلم شيئاً. ـ ليكن اجتهادك في التقرب إلى من هم دونك أكثر من اجتهاد في التقرب إلى من هم أعلى منك. ـ تأنيب الضمير دليل على الحياة الحقة. انتحار الحيوان هل حقيقي أن الحيوانات تتعمد الانتحار للتخلص من الحياة؟ بينما يجيب بعض العلماء على هذا السؤال بأنه خرافة لا معنى لها لأن تعمد الانتحار للتخلص من الحياة يدل على أنت المنتحر يعلم ماهية الموت ويدري عواقبه نجد آخرين يذهبون إلى أن الحيوانات التي قد تدفعها العوامل إلى قتل نفسها ويدلون في ذلك بالحجج والبراهين. فمن ذلك ما حدث به رجل إنجليزي كبير يدعى المستر م. بريجز حيث قال: في يوم من أيام مايو سنة 1902 كنت مقترباً من مدينة ويانه عائداً من بودابست على ظهر سفينة تجارية صغيرة، وبينا نحن نسير في قنال الدانوب أبصرنا رجلاً يسوق جوادين قد نال من أحدهما التعب وأخذ منه النصب كل مأخذ، ولكن السائق القاسي أخذ يجبر الجواد على متابعة السير بأن يضربه على أنفه ضرباً أليماً متبايناً حتى ضاق الحيوان المسكين ذرعاً وأفلت من جلاده هذا ورمى نفسه في الماء أمام الباخرة. وإني ككثير غيري ممن شاهدوا الحادثة أعتقد أن الجواد التعس ما زال واضعاً رأسه تحت الماء حتى غرق. ومما يروى أيضاً أن غزالين تناطحا في جنينة الحيوانات بباريس تناطحاً عنيفاً هائلاً دام نحواً من نصف ساعة ثم انتهت المعركة بهزيمة أحدهما. . قال الحارس الذي رأى الحادثة رأي العين أنه دهش لما رأى الغزال المقهور وقد جرى إلى البركة ثم غمس رأسه في

الطين حتى مات كأنه آثر الموت على العار. والأمثلة غير هذين عديدة كلها من الغرابة بحيث لا يكاد يصدقها إلا من رآها فإن صحت كان ذلك ولا شك تقدماً عظيماً في عواطف الحيوانات. مدير الفرقة (مغضباً): لماذا تبتسم عندما تسمع حديث الموت؟ الممثل: إن العناء الذي نلاقيه ف هذه الأيام والأجور التي نتقاضاها منك تجعلني أعتقد أن الموت (أفكه) وسيلة للتخلص من الحياة. - ما أشد عناد الأطفال، فقد ذهبت بولدي إلى المصور فجلس أمامه كئيباً لا يبتسم بالرغم من أنني نهيته عن ذلك وضربته ثلاث مرات فإنه ما زاد وجهه إلا كآبة وتقطيباً. قال امرأة لزوجها وهما أمام قفص القردة في حديقة الحيوانات: - انظر إلى هذا القرد ما أعظم مشابهته للإنسان. فأجابها: حقاً إنه يشابهنا كثيراً. الحيرة والارتباك هما من أصعب العقبات التي تحول بين المرء وبين نجاحه وتقدمه في الحياة وفضلاً عن أنهما يسممان المخ وينهكان الأعصاب فإنه يستحيل على القوى العقلية إزاءهما أن تعجل بالانتظام المطلوب. وما الحيرة والارتباك سوى أن يظل المرء يكرر الفكرة الواحدة المرة بعد المرة دون أن يصل إلى الحل المرضي أو النتيجة المقصودة، فإذا اعترض المصاب بهذا الداء شيء أحزنه مثلاً! وضعه نصب عينيه وجعل يتأمل فيه ويتأمل، غير مجتهد في إعمال الفكرة ليستنبط وسيلة تخرجه من المأزق الذي هو فيه. وبذلك تخيم على عقله الظلمة والجمود ويتسرب إلى نفسه اليأس والقنوط، وهذا ولا شك يضر الجسم جميعه أبلغ ضرر إذا استرسل المرء فيه. على أنه في استطاعة الحائر المرتبك أن يشفي نفسه من هذه العلى الخبيثة وذلك المرض العضال، والسبيل إلى ذلك هو أن يريح المرء عقله فلا يجهده البتة في التفكير إذا رأى أنه غير مهتد إلى الطريق القويم وأن يقصي كل فكرة سيئة تحاول أن تتسرب إليه وأن لا يفتح أبواب مخه إلا إلى الخواطر العذبة الجميلة.

فمثلاً إذا أرادت فكرة مجنونة أن تتسرب إلى عقله فليطردها وليلفته إلى وجهة أخرى يرى منها العالم جميلاً مشرقاً. * * الرجل (وقد أوشك أن يقوم القطار): يا أسطى! ألا يمكنك أن تسير أسرع من ذلك؟ سائق العربة: نعم يمكنني ولكنني لا أريد أن أسبق العربة. * * هام غني كبير بممثلة غاية في الجمال، وفي ذات يوم بينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث، طلبت الفتاة منه أن يخبرها كم عمره بالضبط، فلم يدر ماذا يقول وغير مجرى الكلام: وبعد أن انصرفت أخبر صديقاً له بما كان وقال له: هل هناك عاب علي إذا أنا لم أطلعها على الحقيقة؟ فأنا أبلغ الآن 69 وأريد أو أوهمها بأن عمري 49 لا غير فما رأيك؟ فأجابه صديقه: رأيي أنك إذا كنت تريد منها أن ترضاك زوجاً فخير لك أن تخبرها أنا في التاسعة والثمانين. * * كان فتى وفتاة يتحادثان فقال الأول أن في استطاعة الشاب أن يقبل أي فتاة سواء رضيت أم لم ترض. فعارضته صاحبته على ذلكن وطال الجدال والأخذ والرد في هذا الموضوع وأخيراً اتفقا على أن أحسن طريقة لحسم النزاع هو أن يجربا المسألة فعلاً فقاما إلى بعضهما وما هي إلا برهة وجيزة حتى انتصر الفتى وأخذ يقبل الفتاة تقبيلاً حاراً. ولما انتهى قامت الفتاة وقالت: لقد أخذتني على غرة. . هيا بنا نجرب مرة أخرى!. ٍ * * لاحظ كثيرون ممن رأوا المسيو كليمانصو في مؤتمر الصلح أن له عادة لا يغيرها أبداً: وهي أنه يظل لابساً قفازاته أثناء الجلسات وإذا ما جلس على كرسي الرئاسة وضع يديه على المنضدة أمامه. وسواء أدامت الجلسة خمس دقائق أم خمس ساعات، فإنه لا يرفعهما. * *

تنمو أظافر الأصابع بمعدل 1/ 32 من البوصة أو 0. 8 من الميلمتر في الأسبوع فإذا عاش المرء سبعين سنة تجددت أظافره نحو 186 مرة. * * تكثر ولادة التوائم (جمع توأم) في الممالك الباردة أكثر منها في البلاد الحارة، وفي النساء بين الخامسة والعشرين والثلاثين أكثر من غيرهن. * * رأى بخيلاً صديقاً له وقد فتح المروحة فتحة صغيرة جداً وصار يهوي بها على وجهه، فقال له لم ذلك فأجابه: إني بهذه الطريقة جعلت المروحة تعيش عشرين سنة للآن وستعيش مثلها إن شاء الله. فقال البخيل إن مروحتي عاشت ثلاثين سنة وستعيش مثلها مع إني فتحتها كلها: ـ وكيف ذلك؟ ـ ذلك لأني أفتحها ثم أحرك وجهي أمامها ولا أحركها هي. * * حمير تلبس البنطلونات هل رأيت في حياتك حماراً يلبس بنطلوناً؟ أظن كلا، ولكنهم يقولون أنه منظر عادي في جزيرة صغيرة عند ساحل فرنسا تجاه حديقة روشل. فأهالي هذه الجزيرة يشتغلون غالباً في المياه المالحة لاصطياد الحيوانات الصدفية مثل (أم الخلول) ولما كانوا يستخدمون الحمير لنقل ما يستخرجون جعلوا (البنطلونات الطويلة) لأرجلها يربطونها إلى ظهورها بواسطة حبال وذلك لوقاية الحيوانات المسكينة من التهابات الأملاح ولدغ البعوض ونوع من الذباب يضايق الحيوانات مضايقة شديدة فلا بد أن يكون منظرها جميلاً. * * السيدة: من الغريب أن الخادمة غادرت المنزل ولم تترك لي كلمة واحدة. صاحبتها: هذه أحسن بكثير من خادمتي لأنها غادرت المنزل ولم تترك لي ملعقة واحدة. * *

- أصحيح أن دواء الدكتور فلان نافع مفيد؟ - نعم إن اتبعت ما كتب عليه بالظبط! - وما ذلك؟ - تكون الزجاجة محكمة القفل دائماً. * * قالت إحدى الأمهات الإفرنجيات لابنها الصغير قاصدة أن تؤثر فيه بالكلام اللين: إنك إن لم ترجع عن (شقاوتك) هذه فإنك توجع دماغي فأمرض فأموت ثم يحملونني في العربة إلى المقبرة، فأثرت هذه الكلمات في نفس الولد قليلاً ولكنه ما لبث أن ابتسم ابتسامة مكر وقال: - هل تسمحين لي أن أركب بجانب العربجي؟ * * القطط في مصالح الحكومة تخصص بعض الحكومات مبالغ ليست بالقليلة تنفق على القطط (المستخدمة) في مصالحها لحراسة الأوراق والسجلات من أن تعبث بها الفيران، فإنه لا يتكاد تخلو مصلحة من المصالح من قط (لإبعاد الفيران) كما هو العنوان الرسمي للوظيفة. بيد أنه بمصلحة البوستة بإنجلترا مثلاً (قلماً) كبيراً من القطط تقوم بخراسة الخطابات ليلاً وهم يهتمون أيما اهتمام بغذائها ومسكنها. أما في فرنسا فإنهم يمرنون القطط على أعمال الحكومة خاصة فيرسلونعها أولاً في إحدى السفن الحربية حتى إذا ما أظهرت الكفاءة في العمل (عينت) في أحد المخازن. بعض أسباب الطلاق عن الإفرنج نسرد للشرقيين بعض الأسباب التي تدعو كثيراً من النساء الإفرنجيات إلى أن يقفن أمام القضاء يطلبن فصلهن من أزواجهن ونحن نؤكد للقراء أنها مستخرجة من سجلاتهم الرسمية. يقلن حفظهن الله: - أنه لم يقدم لي هدي يوم عيد ميلادي. - إنه يقول أن الكعك جامد (ثم تبكي وتنتحب) كالرصاص. أإنه يكرر طول النهار نغمة واحدة وهي تي تم. . تي. تم

- إنه يدعي أن له الحق في أن يدخن في السرير وقتما يشاء. - إذا كان ولا بد أن أقول فإن اقتراحه بارد جداً. - لقد تجاسر أن يقول أن كتشنر ارتقى لأنه كان عاقلاً لدرجة أن لم يتزوج. * * الآذان الكبيرة البارزة تدل على أن لصاحبها ذوقاً في الموسيقى. وأما الآذان الصغيرة ذات الزوايا فتدل على أن صاحبها قاس سيء الخلق. * * إبادة النمل إذا أردت أن تتخلص من النمل ومضايقته فاغمس قطعة من الإسفنج في الماء ورش عليها شيئاً من السكر ثم ضعها في المكان الذي يكثر فيه النمل فإذا اجتمع عليها للدرجة الكافية فخذها وألق بها في ماء مغلي ثم كرر العملية. * * الأب: ماذا تعلمت اليوم في المدرسة؟ الولد: عرفت كيف أتكلم أمام المعلم بدون أن أحرك شفتي. * * كان مدير إحدى الشركات الإنجليزية للتأمين على الحياة يفاخر مدير إحدى شركات التأمين الأمريكية في سرعة إعطاء المبالغ المطلوبة منه فقال الأول: ـ أننا بمجرد ما نعلم بموت أحد معاملينا نرسل تحويلاً مالياً على أهله فوراً. فقال الأمريكي: ـ هذا لا يعد شيئاً بالمرة. فقد كان لنا (زبون) يسكن الطابق الذي فوق مكتبنا في نيويورك. فاتفق يوماً أن هوى من النافذة، فأعطيناه التحويل أثناء مروره بنا. * * كتب معلم حساب على (التختة) 92. 7 ولكي يري تلميذه تأثر ضرب هذا العدد في عشرة مسح الشرطة الإعشارية ثم التفت إلى أحد تلاميذه وقال: المعلم: الآن أين الشرطة الإعشارية؟

فأجابه التلميذ بلا تردد: في البشاورة يا فندي. * * ذهب ريفي إلى إحدى المدن الكبرى واستأجر غرة في نزل فخم. ولكنه قبل أن يغادر المكان سأل صاحب الفندق عن مواعيد الأكل فقال له: عندنا الفطور من 6 إلى 11 والغذاء من 11 إلى 3 بعد الظهر والعشاء من 3 إلى 8 مساءً. فدهش الريفي من ذلك وقال: ـ إذن لن يكون لديّ وقت أشاهد فيه البلد وأقضي فيه أشغالي. تمائم شاه العجم إحداها سقطت من السماء تحت هذا العنوان جاء في (مجلة بيرسن) ما تعريبه: شاه العجم الشاب الذي زار إنجلترا وأوروبا لأول مرة في حياته، هو من أشد الناس اعتقاداً بالتمائم والتعاويذ. وأن في حيازته نحواً من مائتين منها. وأغلبها وراثي كان له شأن عظيم في تاريخ أسلافه وأجداده. وأنفس هذه التمائم هي قطعة مكعبة من الكهرمان معروف عنها أنها سقطت من السماء على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ولها خاصية أنها تحمي حاملها من كل مكروه وتبعد عنه الأذى والأخطار ولذا يعلقها الشاه على رقبته في أغلب الأوقات. وعند الشاه نجمة من الذهب تجعل المجرمين والمتآمرين يقرون بذنوبهم ويعترفون. وعنده أيضاً سيف به (ماسة) تجعل صاحبها لا يقهر ولا يغلب. . وعنده أيضاً خنجر له خاصية السيف السابق ولكن جلالة الشاه يعتقد أن فيه ميزة أخرى وهي أن الذي يقاتل به يلقى حتفه به أيضاً ولذا تجده موضوعاً في صندوق من خشب الصندل مقفل بكل عناية. وأغرب ما في تمائم الشاه هو صندوق صغير مرصع بالجواهر يقال عنه أنه من أيام النبي وأنه قد بارك فيه. ويعتقد أن له القدرة في أن يجعل أعضاء الأسرة المالكة يختفون عن الأبصار إذا كانوا عزباً ولكن ليس هنالك ما يثبت أن أحدهم جرب قوة الصندوق من هذه الوجهة.

وعند الشاه أيضاً مجموعة جواهر وأحجار كريمة تعد من أثمن وأنفس المجموعات الموجودة في العالم بأسره منها درة على شكل الكمثرى تقدر بنحو 60000 جنيه وهي تكون جزءاً ن التاج الفارسي. * * شرعت أمريكا في أن تستخدم الطيارات في أعمال البوليس وأنه لمن المحتمل جداً أن الحكومة هنالك ستضم قريباً أطولاً هوائياً صغيراً لقوة الشرطة الخيالة القائمة على حراسة الفلوات الشاسعة القارسة البرد الواقعة في الشمال الغربي. وبهذا تذلل كثيراً من المصاعب وتخفف كثيراً من المخاطر التي كانت تقوم في وجه أولئك الحراس البواسل. ومما لا شك فيه أن فكرة وجود بوليس هوائي نافعة جليلة لاسيما في الممالك التي تحدث فيها الحوادث الفجائية في أماكن بعيدة نائية. ويضطر البوليس السري إلى أن يذهب إلى مكان الحادثة فيأخذ منها المعلومات المطلوبة ويرى آثار الجريمة بمجرد وقوعها. . ونحن نرجح أنه لا يمضي وقت طويل حتى نرى حكومات أخرى قد حذت هذا الحذو واتبعت هذا السبيل. * * كان ولد يهودي صغير يلعب على شاطئ النهر فسقط في الماء وكاد أن يغرق لولا أن رآه رجل يحسن السباحة فنزل ونجاه بعد جهد جهيد. وبينا كان هذا الرجل يستريح من النصب الذي نال منه جراء هذا المجهود العظيم، إذ برجل جاء إليه وقال: - أأنت الذي نجيت ولدي من الغرق فأجابه الرجل وهو يلهث تعباً: نهم أنا. فقال اليهودي: وأين برنيطته؟. * * أرسل أحد أصحاب المحلات التجارية كاتباً له ليضع خطابين هامين في صندوق البريد بعد أن يلصق على أحدهما ورقة بوستة واحدة وعلى الثاني اثنتين. ولكن الكاتب قبل أن يرمي الخطابين في الصندوق رأى أنه عكس وضع الورق. فصحح الغلطة بحل ترآى له ثم انقلب راجعاً وقص على صاحب المحل ما كان من أمره. فقال له الرجل: ـ إن هذين الخطابين من الأهمية بمكان فكيف تداركت الغلطة.

فأجابه الكاتب: المسألة بسيطة جداً: غيرت العناوين. * * كان رجل وغلام يقطعان قطعة من الخشب بمنشار كبير ذي قبضتين فمر بهما رجل لم ير هذه الطريقة من قبل وبعد أن راقبهما وهما يهتزان بعنف كالمعتاد قال للرجل: ألا تستحي يا رجل وأنت تحاول أن تأخذ المنشار من الولد الصغير؟.

مطبوعات

مطبوعات كتاب المواكب للكاتب الشاعر النابغة جبران خليل جبران عرفت جبران خليل جبران كاتباً ملهماً، إذا كتب عن الحياة حسبت الحياة تكتب عن نفسها. غير أني لم أكن أعرفه شاعراً إلا اليوم. حيث ظفرت بكتاب له اسمه المواكب أرسل فيه قصيدتين فضفاضتين، أولاهما على لسان شيخ فان غالب حياة المدنية فغلبته وصارعها فصرعته فأمضى فيها رأياً متبرماً متشائماً أملته عليه تكاليفها التي لا تقف عند حد. والأخرى على لسان فتى غض نشأ في الغابة الحرة الطليقة بين عيونها الثجاجة وجداولها الرجراجة، وجناتها الفياحة، وطيورها الصداحة، فاستقام له من حياته العذبة رأي مستبشر متفائل ينقض به رأي الشيخ في كل أدواره. مثال ذلك قول الشيخ في الروح والجسم: وغاية الروح دي الروح قد خفيت ... فلا المظاهر تبديها ولا الصور فذا يقول هي الأرواح وإن بلغت ... حد الكمال تلاشت وانقضى الخبر كأنما هي أثمار إذا نضجت ... ومرت الريح يوماً عافها الشجر وذا يقول هي الأجسام إن هجعت ... لم يبق في الروح تهويم ولا سحر كأنما هي ظل في الغدير إذا ... تعكر الماء ولّت وأمحى الأثر ضل الجميع فل الذرات في جسد ... تثوي ولا هي في الأرواح تحتضر فما طوت شمأل أذيال عاقة ... إلا ومر بها الشرقي فتنتشر وقول الفتى: لم أجد في الغاب فرقاً ... بين نفس وجسد فالهوا ماء تهادى ... والندى ماء ركد والشذا زهر تمادى ... والثرى زهر جمد وظلال الحور حور ... ظن ليلاً فرقد أعطني الناي وغنّ ... فالغنا جسم وروح وأنين الناي أبقى ... من غبوق وصبوح

يتخلل ذلك صور أنيقة من صنع الشاعر تؤدي مناحي شعره أحسن أداء، ومنها ترى كيف تخضع اليراعة والريشة لكف واحدة. ولا عجب أن يلم جبران بالحياة الطبيعية والمدنية جميعاً فقد عالج الأولى في مروج لبنان والثانية غي عاصمة الأميركان، فهو ربيب الحياتين، وخريج المعهدين. وربما كانت عبقرية هذا الرجل غريبة في نوعها فلم أعرف فيمن عرفت قبله من العبقريين شاعراً ومصوراً في آن. وهو من هذه الناحية شاعر مرتين أو مصور مرتين فما أرى الشعر إلا تصويراً والتصوير إلا شعراً كما قلت في رواية لي: إنما ريشة المصور تحكي ... قلم الشاعر المجيد تماما هذه لا تني تصور محسو ... ساً وهذا يصور الأوهاما ولأن نقرأ القصيد نقوشاً ... مثلما تقرأ القصيد كلاما على أن جبران رغم شاعريته الجياشة المتوثبة لا يخلو شعره من سقط يقع فيه من ناحية اللفظ - فالشاعرية شيء والشعر شيء آخر ـ. وربما كان ذلك راجعاً إلى اضطلاعه باللغات الأجنبية ومقامه في جو أجنبي. فطالما احتال على معانيه الشريفة بلفظ سوقي أو منحوت ينبو له الذوق وتشمئز منه اللغة، وهو عيب لو تعهده بالرجوع إلى كتب العرب لأفلت منه. من ذلك قوله: فهو النبي وبرد الغد يحجبه ... عن أمة برداء إلا من تأنزر وقوله: من أمل بنعيم الخلد مبتشر ... ومن جهول يخاف النار تستعر فإن في لفظي (الغد) بالتشديد (ومبتشر) لخزياً للشعر ومهانة للشاعر. هذا عدا الغموض واللحن الشائعين في شعره. فإذا غضضنا الطرف عن اللفظ وتتبعنا المعنى وحده في كتابه لأكبرنا الشاعر الإكبار كله واقترحنا على الدهر أن يسخر للشعر العربي أمثال هذا الرأس العامر الحافل ليزجي إليه الفينة بعد الفينة موكباً من مواكبه الفخمة. فإن الشعر العربي بحاجة إلى من يقول

والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا ... به ويستضحك الأموات لو نظروا فالسجن والموات للجانين إن صغروا ... والمجد والفخر والإثراء إن كبروا فسارق الزهر مذموم ومحتقر ... وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر وقاتل الجسم مقتول بفعلته ... وقاتل الروح لا تدري به البشر ولما كانت مبادئ الفلسفة تختلف في كل النفوس كان بدهياً أن لا نقر جبراناً على كل ما جاء في شعره من الآراء والمعتقدات كقوله في الدين: إن دين الناس يأتي ... مثل ظل ويروح لم يقم في الأرض دين ... بعد طه والمسيح فإن الدين باق ما بقي في الأرض قلب يخفق محمود عماد بوزارة الأوقاف البيان وهذا كتاب المواكب أهداه إلينا جبران أفندي بواسطة مجلة الفنون التي تظهر في نيويورك - وهو يطلب منها.

ملكة الورق

ملكة الورق للروائي الروسي الكبير اسكندر بوشكين ترجمها للبيان الكاتب محمد السباعي الفصل الأول أقيمت حفلة قمار في منزل نارموف أحد ضباط فرسان الحرس، وكان ذلك في قلب الشتاء وقد تصرم الليل الطويل حتى إذا كانت الساعة الخامسة صباحاً جلس القوم على مائدة السحور فأقبل الفائزون على الطعام بشهية حادة، وجعل الخاسرون ينظرون إلى ألوان الخوان بعيون شاخصة ذاهلة، ثم جرت الكؤوس وفاضت المدام. فجرت معها جداول الأنس وفاضت ينابيع الكلام واشترك الكل في الحديث. قال ربي البيت: كيف حالك يا سورين؟ هي على ما تعهد من الخسارة، إني سيء الحظ ولا محالة، / فإني أجيد اللعب وأكتم عواطفي وأربط جأشي ولا أجعل لشيء ما سبيلاً إلى إثارة خاطري وتهييج بالي وتراني بعد ذلك كله أخسر!. قال أحد الجلوس وأشار إلى شاب مهندس: ما رأيك في هرمان؟ هذا الذي ما راهن ولا قامر قط ولا أمسك الورق بأصابعه. وتراه مع ذلك يسهر يرقب لعبنا إلى الفجر. فأجاب هرمان: إني أجد في مراقبة اللاعبين لذة ولكني لا أستطيع تضحية الضروري أملاً في نيل الكمالي. قال تومسكي: إن هرمان ألماني دأبه الاقتصاد ولكن إذا كان في الدنيا مخلوق لا أفهم حقيقته فذلك هو الكونتيس حنة فيدوروفنا - جدتي. قال الضيوف: كيف ذلك؟ قال تومسكي: لا أفهم سبب امتناع جدتي عن المقامرة. قال نارموف: لا عجب في ذلك وقد ناهزت جدتك الثمانين من عمرها. لو كنت تعرف من أمرها ما أعرف لما قلت ذلك. كلا لا أدري من أمرها شيئاً ي هذا الصدد فخبرنا. إذن اسمعوا: إنه منذ ستين عاماً رحلت جدتي إلى باريز حيث أحدثت بفتنة جمالها رجة

وضجة. فكان الناس يجرون وراءها لاختلاس نظرة أو لمحة إلى الزهرة المسكوفية وكان ضمن عشاقها الوزير الأكبر الكاردينال ريشيليو فقد بلغ من حبه إياه أنه كان يجن بها شغفاً وأوشك من فرط جفائها وقسوتها أن يذبح نفسه. وكان النساء في ذلك الحين يقامرن. فخسرت جدتي في إحدى الليالي مبلغاً هائلاً للدوق دورليان، فلما عادت إلى دارها أخبرت جدي بخسارتها على مائدة الميسر وسألت دفع المبلغ. وكان المحوم جدي ينزل من زوجته الجبارة المتكبرة منزلة وكيل الدائرة من السيدة المطاعة الثرية. فكان يخشاها خشية السبع الضاري. والنار، والسيف البتار، ولكنه لما سمع بتلك الخسارة الفادحة خرج من سجيته وزايله عقله فأحصى خسائرها وأنبأها أنها قد بددت في ظرف ستة أشهر ما لا يقل عن نصف مليون فرنك وأن ضيعتيها العظيمتين - ضيعة موسلو وضيعة سارتوف ليسا كائنتين في باريز وأنه يرفض طلبها بتاتاً. فضربته جدتي على صماخ أذنه بجمع كفها ضربة قاسية ونامت بمعزل عنه تلك الليلة علامة على سخطها وغضبها. وفي الغداة استدعت زوجها وهي ترجو أن تكون تلك العقوبة المنزلية قد أثرت فيه وألانت من شكيمته ولكنها وجدته كأصعب ما كان جماحاً لا يبض حجره ولا تندى صفاته. فشرعت لأول مرة في حياته تناقشه الحساب وتجاذبه أهداب المجادلة والمحاجة وكان شأنها معه قبل ذلك أن تأمر فيطيع وتطلب فيجيب - فأخذت تباحثه وتحاجه وتقدم له العلل والأسباب والشروح والتفاسير أملاً في إقناعه بإفهامه أن الديون ليست كلها سواء ولا يصح أن ينظر إليها بنظر واحد ولا أن تنزل منزلة واحدة من الأهمية والخطورة، وأن هنالك فرقاً عظيماً بين الدائنين إذا كان أحدهما برنساً عظيماً وكان الثاني بقال الأسرة أو خياطها. كل هذه المجهودات والمساعي ذهبت هدراً وضياعاً على صخرة عناده الصماء كما تتمزق أمواج الخضم على ساحله الحجري. ماذا تصنع جدتي لقد ضاق ذرعها واسود بياض النهار في بصرها. فأخذت تتأمل وتتدبر وتتلمس وجوه الرأي. والحاجة تفتق الحيلة فتذكرت رجلاً نبيلاً كانت عرفته آنفاً ولعلكم سمعتم برجل يدعى سان جرمان وكان يعرف بحدة الذكاء وقوة الشخصية والقدرة على إتيان الكثير من العجائب والخوارق. وكان يزعم أنه اليهودي التائه وأنه مستكشف أكسير الحياة وحجر الفيلسوف وهلم جرا. فكان بعضهم يراه دجالاً. وقال عن المؤرخ كازانوفا في مذكراته أنه كان جاسوساً ولكن مهما قيل عنه

وبالرغم مما كان يكتنفه من هذه المزاعم المبهمة وما كان يلفه ويغشاه من ظلمة الخفاء والغموض فلقد كان رجلاً جذاب الحديث فتان المعاشرة محبوباً لدى أعلى الطبقات والدوائر. ولا تزال جدتي حتى الساعة تحمد عهده وتثني أحسن السناء على سالف عشرته وصحبته - وتثور على من يذكره بسوء وينتقص من قدره. وكانت جدتي تعلم أن سان جرمات لديه وفر عظيم ومال كثير - فعزمت على الالتجاء إليه وكتبت إليه تسأله الحضور إليها على عجل. فلم تك إلا هنيهة حتى مثل الشيخ المسن بين يديها فالفاها بأسوأ حال من الحزن والأسى. فحدثته عن قسوة زوجها ووحشيته بأفظع عبارة وأشنعها وختمت كلامها بأنها قد توجهت إليك بكل آمالها وطرحت عليه ثقل حاجتها وأعباء همها شافعة غليه بما بينهما من صداقة ومودة. فأطرق سان جرمان مالياً. ثم رفع راسه فقال: إني لنادر أن أمدك بالمال الذي تطلبينه ولكني أعلم أنك لن تستريحي بعد ذلك أو ترديه إلي وما كنت لأوقعك في هم جديد. بيد إني أعرف وسيلة أخرى لإخراجك من هذه الورطة وهذه هي تمكيني إياك من استرداد خسارتك بواسطة اللعب! قالت جدتي: ولكني لا أملك يا عزيزي الكونت من المال فتيلاً ولا قطميراً فكسيف أعاود اللعب؟. فأجاب سنا جرمان: لا لزوم للمال. تفضلي علي بالإصغاء ببرهة. ثم أفضى إليها بسر غريب يود كل منا لو يشتريه بجميع ما لديه من ثروة. فبدت علامات الدهشة على وجوه الشبان الضباط الأربعة وأنعموا الإصغاء إلى الرجل بكل جوارحهم. وهنا أشعل تومسكي متبغته وأخذ يرسل أنفاسها هنيهة ثم استأنف الحديث، قال: في عين هذا المساء ذهبت جدتي إلى فرساي للمقامرة. وافتتح الدوق دورليان اللعب فاعتذرت جدتي عن عدم دفع المبلغ ألطف اعتذار ثم شرعت تلعب ضده. فاختارت ثلاث أوراق فلعبتها واحدة أثر الأخرى فربحت الأوراق الثلاثة للتو واللحظة وبذلك استردت جدتي كل ما خسرته في الليلة السالفة.

قال أحد الضيوف: صدفة لا غير! وقال هرمان: قصة ملفقة وحكاية مخترعة! وقال ثالث: لعلها كانت أوراقاً معلمة! قال تومسكي: بجد ووقار: ليس المر كما تزعمون. قال ناروموف: عجباً لك! تقول ن لك جدة تعرف كيف تختار ثلاث أوراق فائزة على التوالي ولم تستطع للآن أن تستخرج هذا السر مها؟ قال تومسكي: هذا أصعب ما في الأمر وأشقه! لقد كان لها أربعة أولاد أحدهم والدي وكان كلهم مقامر متطرفاً ومع هذا فإنها لم تبح بالسر لأحد منهم على ما كان في ذلك من فائدة لهم ولي. ولكن عمي الكونت إيفان إليتش حدثني الحديث الآتي مؤكداً حالفاً بشرفه على صحته. وذلك أن المرحوم تشابلنسكي - ذلك الذي مات فقيراً بعد تبديه الملايين - خسر في صباه مرة ثلثمائة ألف روبل ربحها منه زوريتش على ما أذكر فطاش لبه حسرة ويأساً. فرثت له عمتي مع فرط قسوتها على المبذرين من الشبان فأعطته ثلاث أوراق وأمرته أن يلعبها على التوالي وأخذت عليه عهد الله وميثاقه أن لا يعاود لعب الورق بعد ذلك ما عاش. فمضى تشابلتسكي إلى خصمه الظافر واستأنفا اللعب فأخطر على الورقة الأولى خمسين ألف روبيل فربحها على الفور. ثم ضاعف المبلغ فربح م استمر على نفس الخطة فاسترد فوق ما كان خسر. . ولكن قد آن لنا أن ننصرف فالساعة الآن ست ونصف. الفصل الثاني كانت الكونتيس العجوز - جالسة في غرفة التواليت أمام مرآتها يكتنفها ثلاث وصائف إحداهن تحمل علبة الأحمر والثانية علبة المداري (دبابيس الشعر) والثالثة تمسك قبعة مستطيلة ذات أهداب وأشرط حمراء زاهية. وكانت الكونتيس قد فقدت كل أثر للجمال وتخلت عن كل ادعاء للملاحة ولكن لم تتخل مع ذلك عن عادات الصبا فكانت تتبع في شأن اللباس الزي الذي كان مألوفاً منذ سبعين عاماً. وتنفق في مهمة التزيين والتجمل من الوقت والمجهود مثلما كانت تنفق منذ ستين حجة. وكانت تجلس قرب النافذة سيدة صغيرة تشتغل على منسج تطريز.

ودخل الغرفة ضابط صغير فقال مسلماً: صباح الخير يا جدتي صباح سعيد أيتها الآنسة ليزا إن لي عندك حاجة يا جدتي. وما هي يا بول؟ إني أستأذنك في تقديمي إليك أحد أصحابي وفي التصريح لي بإحضاره المرقص ليلة الجمعة. أحضره المرقص مباشرة وقدمه إلي هنالك. هل كنت عند ب، أمس؟ نعم وقد جرى كل شيء على أحسن منهج من الأنس والصفاء ودام الرقص إلى الساعة الخامسة صباحاً. وما كان أجمل الفتاة إيليتسكايا وأملحها. وماذا لها من الجمال يا عزيزي وأين منها الملاحة؟ أليست هيب كجدتها البرنسيس داريا بتروفنا حذوك النعل بالنعل؟ أظن البرنسيس وجاورت ربها منذ سبعة أعوام. هنا رفعا السيدة الصغيرة رأسها وأشارت إلى الضابط إشارة خفية فتذكر إذ ذاك أن لا يجوز مطلقاً إخبار الكونتيس بوفاة أي واحدة من لداتها وأترابها فعض على إصبعه ندماً. بيد أن الكونتيس لم تبد أدنى اكثرات لهذا النبأ. ماتت ولم أخبر بذلك، لقد عينا وصيفتين في بلاط القيصر في يوم واحد ولما عرضنا على القيصرة. . . وهنا أخذت الكونتيس تقص للمرة التالية للألف على مسمع حفيديها إحدى نوادر صباها. ولما أكملت القصة قالت: ادن مني يا بول خذ بيدي فأنهضني من مجلسي ليزانكا! إن علبة السعوط؟ ثم توارت الكونتيس هي ووصائفها الثلاث خلف ستار لإتمام شعائر التواليت وبقي تومسكي وحده مع الآنسة. قالت ليزافيتا إيفانوفنا همساً: من هو ذاك الذي تريد أن تقدمه للكونتيس؟ ناروموف، أتعريفينه؟ كلا، هل هو جندي أو ملكي؟ جندي. هل هو في فرقة المهندسين؟

كلا بل في فرقة الفرسان وما الذي حملك على الظن بأنه في فرقة المهندسين؟. فابتسمت الآنسة ولكنها لم تحر جواباً. وهنا صاحت الكونتيس من وراء الستار: بول ابعث لي برواية جديدة بشرط أن لا تكون من طراز الجيل الحاضر. ماذا تعنين بذلك؟ أعني بذلك رواية لا يرتكب فيها البطل قتل أبيه أو أمه ولا يرى فيها غريق فإني لترتعد فرائصي من جثث الغرقى. أمثال هذه الروايات لا تظهر في هذا العصر. أتريدين رواية روسية؟ أتوجد روايات روسية؟ إذا فابعث لي بواحدة يا عزيزي ابعث لي بواحدة. وداعاً يا جدتي. إني على عجل وداعاً يا ليزافيتا إيفانوفنا وما الذي حملك على الظن بأن ناروموف من فرقة المهندسين؟ ثم انطلق تومسكي. وبقيت ليزافيتا وحدها في الغرفة. فألقت نسيجها وشرعت تطل من النافذة فلم تك إلا بضع دقائق حتى ظهر أمام بيت في ركن الشارع على الجانب المقابل للنافذة فتى ضابط فاحمر وجه الفتاة خفراً فتناولت نسيجها ثانياً وأكبت على المنسج وفي هذه اللحظة عادت الكونتيس مستكملة اللباس حافلة بالزينة. قالت الكونتيس: مري الخدم بإعداد المركبة يا ليزافيتا، سنخرج للنزهة. فنهضت ليزافيتا عن المنسج وشرعت ترتب نسيجها. ما خطبك يا بنيتي أبك صمم؟ مري بتجهزي المركبة في الحال. فقالت الفتاة سأفعل فوراً ثم أسرعت إلى ردهة الغرفة. وهنا دخل أحد الخدم وقدم للكونتيس بضعة كتب من البرنس بول أليكسدروفيتش. قالت الكونتيس: بلغه عني مزيد الشكر والثناء، ليزافيتا! ليزافيتا! إلى أين تجرين؟ إني ذاهبة لألبس ثيابي. إن لديك منفسحاً من الوقت يا بنيت، اجلسي ههنا افتحي المجلد الأول واقرأي لي. فتناولت الفتاة الكتاب وقرأت بضعة أسطر.

قالت الكونتيس: ارفعي صوتك ما خطبك يا بنية؟ هل فقدت صوتك؟ رويدك قربي مني هذا المسند القدمي، أدنيه قليلاً، كفى، كفى. ارمي الكتاب يا ليزافيتا، أي هذر وهذيان، رديه إلى البرنس مع الشكر الجزيل. . ولكن أين المركبة؟. قالت الآنسة وأطلت في الشارع المركبة مستعدة، كيف بقيت بلا لبس حتى الآ،؟ هذا دأبك لا تزالين تجشميني مشقة انتظارك. هذا ما لا يطاق ولا يحتمل يا عزيزتي. فأسرعت ليزا إلى غرفتها ولم يمض عليها هنالك دقيقتان حتى شرعت الكونتيس تدق الجرس بأقصى قواها فتبادر الوصائف الثلاث مسرعات إليها من باب وهجم الخادم من الباب الآخر. فصاحت الكونتيس مغضبة: عجباً لكن! لا تجبن لي دعاء قط كلما ناديتكن خبرن ليزافيتا إيفانوفنا أني في انتظارها. وهنا عادت ليزافيتا لابسة برنسها وقبعتها. قالت الكونتيسة: لقد طالت غيبتك يا ليزافيتا ولكن لماذا كل هذا التأنق في اللبس وهذا التبرج؟ ومن يا ترى تريدين اقتناصه بحبائل زينتك وفتنتك؟ وماذا ترين حالة الجو الآن، إنه ليوم ريبح. قال الخادم: كلا يا مولاتي الجو هادئ ساكن. إنك لا تدري ما تقول، افتح النافذة، ألا تحس الريح والبرد؟ جرد الخيل من العدة واللجم. لا داعي للخروج يا ليزافيتا. ولم تكوني بحاجة إلى كل هذا التزين والتبرج. فقالت ليزافيتا في نفسها: ما هذا العذاب الأليم! ويلي من هذه العيشة ثم ويلي. والواقع أن ليزافيتا كانت في شقوة وبلاء لقد قال شاعر إيطاليا المخلد (دانتي): ما أمر خبز الأجنبي وما أوعر سلعه. ولكن أي مخلوق أعرف بمرارة الاحتياج من الفتاة الشقية المقضي عليها بمرافقة عجوز غنية! نحن لا نقول أن الكونتيس كانت فظة غليظة القلب ولكنها كانت سريعة التقلب والتلون جمة الحالات والأهواء شأن المرأة التي تبطرها النعمة ويفسدها تملق الأتباع وتزلف المتقربين. فضلاً عما جبلت عليه من الطمع والأنانية، فهي في ذلك كسائر العجائز اللائي قد مر بهن أطيب عيشهن وأرغد أيامهن، فنفوسهن تذهب

حسرات في أثر شبابهن وأفكارهن لا تزال مع الماضي وليس لديهن أدنى عطف على الجيل الحاضر أو ميل إليه ومجاملة له. وكانت الكونتيس مع ذلك تنغمس في لجة الحياة الأرستوقراطية العالية وتركض في ميادين لذاتها وشهواتها وتمعن في أودية غرورها وباطلها - تشهد حفلات الغناء والموسيقى وتحضر المراقص وتشهد الملاعب والملاهي وتجلس إلى موائد المقامرة فتنتبذ في هذه المحافل ناحية من القوم بزاوية من المكان حيث تقعد مدهونة بألوانها وأصباغها مزملة في ثيابها مكللة بحليها العتيقة الطراز القديمة الزي كأنها حلية من حلي البيت وزخرف من زخارفه ولكنها حلية قديمة قبيحة وزخرف عتيق ممقوت عدمه خير من وجوده. فكلما دخل ضيف تقدم إليها فحياها بانحنائة شديدة عملاً بآداب المجاملة وجرياً على الأصول المتبعة والتقاليد الموروثة، ثم لا تجد بعد ذلك أحد يعيرها أدنى التفاتة وكانت تقيم الحفلات في دارها فتستقبل أهل البلاد كافة وترعى في ملاقاتهم كل آداب الملاطفة والحفاوة وإن كانت قد أصبحت لا تعرف وجوه الزوار والضيوف ولا تذكر واحداً منها. وكان لديها عدد كبير من الخدم يجلسون كسالى في ردهة غرفتها وفي غرفة الخدام يزجون الوقت بالثؤباء والمطواء ويصنعون ما يشاؤون ويزدادون على مر الأيام ضخامة وسمناً ويتبارون ويتنافسون في سرقة الكونتيس العجوز بكل جرأة وقحة. أما ليزافيتا فكانت صحية البيت وشهيدة حوادثه ووقائعه فإذا صنعت الشاي اتهمت بالإكثار من السكر وليمت في ذلك. وإذا كلفت بقراءة الروايات للكونتيس أخذت بهفوات المؤلف وسقطاته. وإذا صحبت الكونتيس في غدوانها وروحاتها ألقيت عليها مسؤولية سوء الجو أو رداءة الطريق. وكان لوظيفتها في خدمة الكونتيس مرتب ولكن كانت تقبض مع تكليف الكونتيس إياه أن تلبس من الثياب ما يلبسه خاصة النساء أعني القلائل منهن. أما في الحفلات والمجتمعات فكانت تمثل أحزن الأدوار وأشقاها فكان يعرفها كل إنسان ولا يكترق لها أي إنسان وفي المراقص كانت لا ترقص إلا إذا اشتدت الحاجة إلى شريك. وكانت النساء لا يمسكن بذراعها إلا إذا احتجنها لحراسة ثيابهن. وكانت ليزافيتا رقيقة الشعور فكانت تتوجع لسقوط منزلتها وتحس لذلك أشد المضض. كل هذا جعلها تتلهف على من ينقذها من هذه العيشة الأليمة وتتلدد حائرة تلتمس بعينها الحزينة مخلصاً لها من

هذا الكرب والضيق. ولكن الشبان والفتيان كانوا يطمحون إلى المثريات من العذارى ويشرئبون إلى ربات الأنساب والأحساب فكانوا يزوون بوجوههم عن ليزافيتا إيفانوفنا مع أنها كانت أجمل ألف مرة ممن كانوا يتهافتون عليهن من الفتيات العاطلات الوجوه من المحاسن والقلوب من العواطف. وكم من مرة انسلت ليزافيتا المسكينة من المرقص الحافل المزدحم لتخلو بنفسها ولتبكي شجوها في غرفتها الضيقة الحقيرة التي كان جل أثاثها صندوق ومرآة وسرير وشمعة صغيرة ضعيفة اللهب ضئيلة الشعاع. في ذات صباح: كان ذلك بعد الحفلة الموصوفة في أول هذه القصة بيومين وقبل المنظر الذي فرغنا من وصفه آنفاً بأسبوع - كانت ليزافيتا إيفانوفنا جالسة إلى النافذة تطرز على منسجها فحانت منها التفاتة إلى الطريق فوقع بصرها على فتى من فرقة الضباط المهندسين واقفاً لا يبدي حراكاً يدمن النظر إلى نافذتها فنكست رأسها واستأنفت عملها. وبعد خمس دقائق أطلت ثانياً من النافذة فإذا بالفتى الضابط لا يزال ثابتاً مكانه. ولما لم يكن من شأنها مغازلة الضباط المارين تحت نافذتها أقلعت عن الإطلال على الشارع واستمرت في عملها ساعتين كاملتين دون أن ترفع رأسها، ثم دق جرس الغداء، فقامت وأخذت تطوي نسيجها ثم حانت منها التفاتة إلى الطريق عفواً فإذا بالضابط لم يبرح مكانه فاشتد عجبها من ذلك. وبعد الغداء عادت إلى النافذة وبها شيء من القلق والاضطراب ولكنها لم تجد للضابط أثراً فصرفت شبحه من ذهنها وتناسته فنسيته. فلما كانت بعد هذه الحادثة بيومين تهم بالجلوس في المركبة مع الكونتيس أبصرت ذلك الضابط ثانياً وكان واقفاً خلف باب المركبة ساتراً نصف وجهه بياقته الفروية ولكن عينيه البراقتين كانتا تتوقدان تحت حافة قبعته فأوجست خيفة ليزافيتا على أنها لم تدر على ذلك الخوف وأخذت مجلسها من المركبة والرعب يرجف أوصالها. ولما عادت إلى البيت أسرعت إلى النافذة فإذا الضابط واقف في مكانه المعتاد يديم النظر إليها فارتدت منقبضة واستولت عليها الحيرة والدهشة وتملكها نوع غريب من الشعور لم تفقه له معنى. ومن ثم فصاعداً لم يمض يوم إلا ظهر ذلك الضابط تحت النافذة في الساعة المعهودة فنشأ

بينهما نوع من الصحبة الصامتة والمعرفة الخرساء. فكانت في أثناء جلوسها إلى منسجها تحس دنوه وتشعر باقترابه ثم ترفع رأسها فتنظر إليه وتزداد نظراتها طولاً على ممر الأيام، وكأنما الفتى كان يستأنس بذلك ويرتاح له وكأن عينيه كانتا تنمان عن شكره لها تلك النعمة الجليلة. فكانت ترى بعين الشباب السريعة اللمح الثاقبة النظر تلك الاحمرارة الفجائية التي كانت تصبغ خده الشاحب كلما تلاقت ألحاظهما، وبعد مضي أسبوع بدأت تبتسم إليه. . لما استأذن تومسكي من جدته في تقديمه إليها أحد أصحابه أخذ قلب الفتاة يخفق بشدة فلما علمت أن ناروموف ليس من فرقة المهندسين تندمت على إفشائها جانباً من سرها إلى تومسكي النزق الخفيف بإلقائها عليه ذلك السؤال. كان هرمان إبناً لرجل ألماني استوطن روسيا وتجنس بالجنسية الروسية. وكان قد ورث عن أبيه رأس مال صغير. ولصحة اعتقاده بوجوب المحافظة على استقلاله الشخصي واستغنائه عما في أيدي الغير أمسك كل الإمساك عن مساس إيراده الخاص واكتفى بإنفاق مرتبه منصرفاً عن كل أسباب النعيم والترف. وكان فوق ذلك كبير الهمة بعيد المطامح محتشماً وقوراً، وكان لكثرة صمته واحتجازه لا يترك لجلسائه ورفاقه مجالاً للتهكم على بخله وشحه. وكان حاد الشهوات ملتهب الخيال ولكن كان له من القوة والعزم والحزم أمنع وقاية من ارتكاب هفوات الشباب المعتادة فمع فرط ميله للمقامرة لم يمس ورق اللعب طول عمره لأنه كان يرى أن حالته المالية لا تسمح له (على قوله) بتضحيته الضروري أملاً في اكتساب الكمالي ومع ذلك فلقد كان يجلس الليالي الطوال المتولية على مائدة القمار بقلب خفاق يتتبع تقلبات حظوظ اللاعبين وتطورات اللعب. وكانت قصة الورقات الثلاث قد أحدثت أثراً شديداً في نفسه وأشعلت خياله فجعل يسهر الليل الطويل لا يفكر في سوى ذلك. فقال في نفسه في الليلة التالية وهو يتمشى في شوارع بطرسبرغ: أما لو باحت لي الكونتيس العجوز بسرها العظيم! أما لو خبرتني أسماء الورقات الثلاث الرابحة! لأقدمت على اللعب وارتقبت طالع سعدي. نعم لا بد لي من التعرف بها والازدلاف إليها لنيل حظوتها - ولو قضت علي الضرورة مغازلتها والتشبيب بمقابحها ومساويء خلقها. . ولكن ذلك يحتاج وقتاً طويلاً والمرأة قد

أربت على الثمانين فلا يبعد أن تموت في ظرف أسبوع بل في ظرف ساعات. . كلا! إنما الورقات الثلاث الرابحة ليست سوى الاقتصاد والاعتدال والجد. هذه هي أوراقي الثلاث، فبها أضعاف رأس مالي وأزيد عليه سبعة أمثالي وأنال الخفض والرخاء والسعادة. وكذلك استرسل هرمان في هذه الخواطر وهو يجوب طرقات المدينة حتى انتهى إلى أحد شوارعها الكبار وأبصر أمامه منزلاً عتيق الطراز واسع الأرجاء وكان الشارع غاصاً بالمركبات الفاخرة وكلها يتجه عند باب تلك الدار المزدان بوهاج المصابيح فتارة ينزل من تلك المركبات إلى أرض الطريق قدم لطيفة لكاعب حسناء وتارة حذاء ثقيل لضابط من الفرسان وأخرى جورب حريري وحذاء رقيق لأحد أعضاء العالم السياسي. وكذلك جعلت الفراء الناعمة والبرانس اللينة معاً تتوالى في نظام متصل مارة إلى ساحة الدار أمام بوابها الضخم الجسيم. فوقف هرمان وسأل الخفير القائم في زاوية الطريق: من صاحب هذه الدار؟ فأجاب الخير: الكونتيس أـ فشخص الفتى في الفضاء وتذكر مرة أخرى نبأ الورقات الثلاث المدهش العجيب. ثم أقبل يخطر جيئة وذهاباً أمام الدار يفكر في صاحبته وسرها الغريب. ولما عاد إلى مثواه وأراد النوم انتابه الرق والسهاد مدة طويلة فلما هوم للنعاس تراءت له في المنام مائدة القمار وعليها أوراق اللعب وأكداس الذهب والفضة والبنكنوت وأُري أنه يعلب ورقة أثر أخرى كلها رابح وأنه يصيب العسجد واللجين والبنكنوت في جيوبه صباً حتى تطفح بهذه النفائس. ولما استيقظ في الصباح أخذ يتنفس الصعداء على ما قد خسر من تلك الثروة الخيالية. ثم غادر مثواه وانطلق في شوارع المدينة حتى أبصر نفسه كرة أخرى أمام قصر الكونتيس وكأنما اجتذبته إلى هنالك قوة خفية مجهولة. فوقف ونظر إلى النوافذ فلمحت عينه في إحداها رأساً تزينه لمة جثلة سوداء وهو منكس يحنو فوق شيء لعله كتاب أو منسج تطريز. ثم رفع الرأس فرأى هرمان وجهاً ذا نضرة ونعمة تتألق في صفحته المصقولة عينان سوداوان.

في هذه اللحظة جرى عليه القدر المحتوم ونفذ فيه حكم القضاء. الفصل الثالث لم تكد ليزافيتا ليفانوفنا تخلع ردائها حتى استدعتها الكونتيس ثانياً وأمرتها ثانياً أن تكلف الخدم بتجهيز المركبة. فوقفت المركبة حيال الباب وتهيأت الكونتيس ووصيفتها للركوب. في هذه اللحظة بينما كانت السيدة العجوز تحاول الركوب ويعينها على ذلك خادمان سمينان أبصرت ليزافيتا ضابطها عند العجلة فقبض على يدها فأطاش الفزع عقلها وأطار لبها. ثم اختفى الفتى وقد ترك بين أصابعها رقعة صغيرة فأخفتها في قفازها. وبقيت مدة سير المركبة لا تبصر ولا تسمع وكان من دأب الكونتيس إذا ركبت أن لا تزال تضجر رفيقتها بأمثال هذه الأسئلة: من ذا الذي مر بنا آنفاً؟ ما اسم هذا الكوبري؟ ما هذه الكتابة المنقوشة على تلك اللوحة؟ ففي هذه المرة جعلت الفتاة تجيب على هذه الأسئلة بأجوبة مبهمة سخيفة خارجة عن الموضوع مما أحرج صدر الكونتيسة وأثار غضبها. فصاحت قائلة: ما خطبك يا فتاة وماذا دهاك؟ هل زايلك عقلك أو ماذا؟ ألا تسمعين ألا تعين ألا تفهمين ما أقول؟ الحمد لله لا يزال عقلي بخير وكلامي واضحاً بيناً! ولكن ليزافينا إيفانوفنا لم تسمع توبيخها هذا. ولما عادت إلى القصر أسرعت إلى غرفتها وأخرجت الرقعة من قفازها ولم تكن مختومة فقرأتها وكان فيها تصريح بالحب وكانت مكتوبة بلهجة رقيقة مؤدبة محتشمة وكانت مكتوبة حرفاً بحرف من رواية ألمانية. ولكن ليزافيتا لم يكن لها أدنى إلمام بالأدب الألماني فلم يخالجها أدنى شك في أن الرسالة من فيض إحساس ذلك العاشق الجديد ومن بنات أفكاره فسرت بها كل السرور وطربت لحلاوة ألفاظها وسحر بيانها أيما طرب. ومع كل هذا فقد كان ابتهاجها يشوبه مزاج من القلق والارتباك. وذلك أنها كانت لأول مرة في حياتها ترتبط مع شاب صغير بعلائق سريبة خصوصية وقد كان في شدة جرأة الفتى ما

راعها وأرهبها. فعنفت نفسها على طيشها وتهورها ولم تدر ماذا تصنع أتمتنع عن الجلوس عند النافذة فتقف الفتى عند حده بهذا الصدود والانصراف؟ أترد عليه رسالته أم تجيبه عليها جواباً فاتراً أصلاً.؟ إلا أنها لتفتش حولها على مخلوق تبثه همها وتعرض عليه حالها من القلق والحيرة فلا تجد لها من صديق ولا رفيق ولا معين ولا نصير ولا مرشد ولا مشير فأصرت أخيراً على إجابته. فجلست إلى مكتبها الصغير وتناولت قلماً وقرطاساً وشرعت تفكر، فبدأت الرسالة عدة مرات ثم مزقتها، إذ بدا لها أن أسلوب تعبيرها كان تارة يطمع ويستميل للينه ورقته وتارة يؤذي ويجرح لجفائه وقسوته. وأخيراً استطاعت أن تسطر بعض كلمات رضيتها وارتاحت لها وهي: لا شك عندي أن غرضك نبيل وغايتك شريفة، وإنك لا تريد أن تسوءني بأدنى ما يحرج مركزي أو يضير سمعتي، ولكن لا أرضى أن تكون فاتحة تعارفنا بهذا الأسلوب الذي تسلك. وأرجو أن لا أرى اليوم الذي أندم فيه على ما ألقاك به الساعة من هذا الإهمال والصدود الذي لم تستحقه مني. ولما ظهر هرمان في اليوم التالي بموقفه المعهود قامت لزيافيتا عن منسجها فمضت إلى غرفة الاستقبال ففتحت نافذتها وألقت الرسالة في الطريق واثقة أن الفتى عنده من الفطنة وسرعة الإدراك ما يبعثه على التقاطها. فأسرع هرمان إلى الرقعة فالتقطها ثم أوى إلى حانوت حلوى ففض الطرف فألفى فيه رسالته وجواب ليزافيتا وكان يتوقع ذلك فعاد على منزله وذهنه مشغول بما بدير من الدسيسة. وبعد مشي ثلاثة أيام على ذلك جاءت صبية مشرقة العينين صانعة في حانوت ملابس إلى ليزافيتا برسالة. ففضتها ليزافيتا بيد مضطربة قلقه وهي تخشى أن تكون من صاحب دين يطالب ببقية حسابه ولكنها لم تلبث أن عرفت فيها خط هرمان. فقالت للصبية: لقد أخطأت غرضك يا عزيزتي هذه الرقعة ليست لي. فأجابت الفتاة مبتسمة ابتسامة معنوية: بل إنها لك يا سيدتي تفضلي بقراءتها.

فنظرت ليزافيتا في الرقعة فعلمت أن هرمان يلتمس لقاءها. فصاحت وقد راعها قحة هذا المطلب وأسلوبه: أنا واثقة أن هذه الرسالة ليست لي. ثم أنها مزقت الرقعة شذر مذر. فقالت الصبية: إذا كانت ليست لك فلم مزقتها، لقد كان ينبغي لي أن أردها إلى صاحبها. فارتبكت ليزافيتا لهذه الملاحظة وقالت: أرجوك يا عزيزتي أن لا تأتيني بأية رسالة أخرى بعد الساعة وخبري مرسلك أن هذا عار عليه. ولكن هرمان لم يكن بالرجل الذي تصده مثل هذه الصدمة فكان لا يمر يوم إلا تأتيها منه رسالة وكان يتفنن ما شاء في رسالاته المتولية في أساليب الاستمالة والاستهواء وكان لا يترجم هذه الرسائل من القصص الألمانية كما صنع في الرسالة الأولى بل كان يكتبها تحت تأثير سورة الطمع الملتهب بلغة عواطفه ووجدانه فكانت تنم عن صرامة عزمه وصلابة إرادته وتشف عن اضطرابات خياله الجامح الشرود الذي لا ترده شكيمة ولا يثنيه عنان. فضعفت إرادة الفتاة أمام هذه القوة الهائلة فأذعنت واستكانت ولم تعد تقوى على رد تلك الرسائل إلى صاحبها كما فعلت بالأولى. بل على عكس ذلك كانت تجد لكلمات الفتى حلاوة في قلبها وروحاً على كبدها ونشوة تميل لها وتترنح كالشارب الثمل من حميا الراح والغصن الرطيب في اليوم الراح. وبدأت تجيبه على كتبه ورسائله وكانت أجوبتها إليه تزداد على مر الأيام إسهاباً وإطناباً ورقة وغزلاً وأخيراً ألقي إلهي من النافذة الرسالة الآتية: في هذه الليلة تقام حفلة رقص في دار السفارة تحضرها الكونتيس وسأبقى معها هنالك حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فهذه فرصة لالتقائنا في خلوة. والمرجح أنه متى خرجت الكونتيس انطلق الخدم كل في شأنه فلا يبقى إلا البواب وهذا من دأبه النعاس متى ترك وشأنه. فاطرق الدار الساعة الثانية عشرة فاصعد السلم فإذا عثر بك أحد في الردهة فسل عن الكونتيس هل هي بالدار فستخبر كلا وإذ ذاك ليس أمامك إلا الرجوع من حيث أتيت ولكن الأرجح أنك لن تصادف أحداً. وستكون الوصائف كلهن مجتمعات في غرفة واحدة فإذا غادرت الردهة فانعطف يسرة ثم سر قدماً حتى تبلغ مرقد الكونتيس ففيها تجد حاجزاً خلفه

بابان. فالأيمن منهما يفضي إلى مقصورة لا تدخلها الكونتيس أبداً. والأيسر يفي إلى دهليز في أقصاه سلم متعرج - هذا السلم يؤدي إلى غرفتي. فبقي هرمان ينتفض كالنمر أثناء انتظاره الموعد المضروب ولما جاءت الساعة العاشرة كان واقفاً حيال قصر الكونتيس وكان الجو فظيعاً إذ كانت الريح تعصف هوجاء مجنونة والجليد يتساقط صفائح عراضاً. وضوء المصابيح متضائل والشوارع قفرة خاوية ولكن هرمان كان ملتفاً في عباءة كثيفة لا يحس ريحاً ولا جليداً. وأخيراً ظهرت مركبة الكونتيس وأبصر هرمان خادمين سميني يحملان شخص الكونتيس المحدودب المقوس ملفوفاً في الفرو الأسود وخلفها ليزافيتا في ملاءة دافئة د زينت رأسها بباقة نضرة من الزهر ثم أغلق باب المركبة وانحدرت على الثلج اللين وأغلق باب القصر وأظلمت النوافذ. وجعلهرمان يقبل في الطريق ويدبر ويحوم حول القصر المهجور ثم وقف تحت مصباح ونظر في ساعته فألفاها اثنتي عشرة إلا عشر دقائق. فبقي ثابتاً مكانه تحت المصباح ينظر في الساعة بفارغ الصبر انقضاء الدقائق الباقية. فلما كانت الساعة الثانية عشرة بالضبط صعد هرمان سدة الباب ودخل الساحة المشرقة بالمصابيح الوهاجة فلم يجد للبواب أثراً فأسرع هرمان مصعداً في السلم وفتح باب الردهة فألفى بها خادماً نائماً في كرسييه إلى جنب مصباح فاجتازه هرمان بقدم خفيفة ثابتة. وكانت غرفة الجلوس في ظلام إلا شعاعاً ضئيلاً كان يتسرب إليهما من مصباح الردهة. بلغ هرمان مرقد الكونتيسة فألفى في إحدى زواياه مزاراً مملوءاً بدمى وتماثيل للقديسين والقديسات وأرائك عليها الوسائد والحشايا اللدنة الناعمة وهي منضودة في نظام محكم قد نصلت أصباغها لطول القدم ولاحت عليها معاني الوحشة والكآبة وكانت الجدران مغشاة بأثواب من حرير الصين. وعلى أحد جانبي الحجرة كان يتدلى صورتان رسمتهما في باريز المصورة الشهيرة ليبران. إحداهما صورة رجل بادن ضخم أشقر اللون يناهز الأربعين في حلة عسكرية خضراء ناضرة على صدره نجمة. الثانية صورة امرأة صغيرة ذات أنف أشم يزين جبينها طرة مصفوفة ويحلى شعرها وردة حمراء. وفي أركانالحجرة وزواياها تماثيل رعاة من الصيني وساعات موائد من عمل

الصانع المشهور ليفتروي وصناديق حلي ومراوح غير ذلك من اصناف اللعب والطرف والزخارف مما كان يألفه النساء في أواخر القرن السالف يوم جن الناس ولوعاً ببلونات (مونتجولفيير) ومغناطيسية مسمر فوقف هرمان خلف الحاجز فألفى لدى ظهره سريراً منالحديد وعلى يمينه الباب المفضي إلى المقصورة. وعلى يساره الباب المؤدي إلى الدهليز ففتح الثاني فأبصر السلم المتعرج المنتهي إلى حجرة الوصيفة المسكينة. . ولكنه كر راجعاً فدخل المقصورة المظلمة. مر الوقت بطيئاً وكان السكون سائداً ودقت الساعة واحدة فرن صداها في أرجاء الحجرة ثم عادا السكون ولبث واقفاً مرتكزاً على رف الموقد الخامد. وكان رابط الجأش يدق قلبه دقات منتظمة مطردة دأب الرجل الذي يكون قد عزم على أمر هائل خطر ولكنه محتوم لا مرد عنه ولا مناص منه. ثم دقت الساعة نصفاً بعد الواحدة ثم اثنتين بعد منتصف الليل. فبلغ أذنيه من أقصى مسافة دقدقة الحوافر وجلجلة العجلات من مركبة الكونتيس العائدة وهنا اعترته هزة شديدة ورجفة عنيفة. وتقدمت المركبة ثم وقف فسمع صوت سلم المركبة وهو يدلى، وإذا بالخدام والوصائف وسائر أهل القصر كلهم في هرج ومرج. فكان الخدام يتسارعون ويتسابقون في كل مكان. وقد امتلأ فراغ القصر جلبة ولجباً وأشعلت الغرف وتألقت أنوارها. ودخل مرقد الكونتيس ثلاثة وصائف عجائز وعلى أثرهن الكونتيس ذاتها وقد نهكها التعب وأعياها النصب فتهالكت على كرسي من طراز فولتير. وقد أشرفت على الهلاك وكأن إحدى قدميها في القصر والأخرى في القبر فهي أحق أن تسمى ميتة من أن تعد مع الأحياء فنظر هرمان خلال شق في الحاجز وإذا بليزافيتا تمر به كثب وإذا به يسمع وقع قدميها السريعتين أثناء صعودها السلم الحلزوني. فأحس لحظة من الوقت بما يشبه وخز المضير ولذعة الندم ولكنه كان إحساساً طياراً كلمحة البرق ثم عاد قلبه إلى سيرته الأولى من التحجر. أخذت الكونتيس تخلع ثيابها أمام مرآتها فنضت قبعتها المكللة بالأزهار ثم نزعت قنزعتها المذرور عليها المسحوق عن شعرها الأشيب المجزور وتساقطت حولها المداري ودبابيس العشر كالأمطار الغزيرة وسقطت حلتها الحريرية المزركشة الصفراء على قدميها الوارمتين.

وكان هرمان يطلع على هذه الخفايا المنكرة والخبايا الممقوتة من أسرار (تواليت) الكونتيس. وأخيراً بدت العجوز في (طرطور) النوم وجلبابه - فكانت في هذا الزي الذي هو أشبه بسنها وأليق بشخصها أقل قبحاً وأخف بشاعة منها في الحلة الفاخرة والحلي الباهرة. كانت الكونتيس كسائر العجائز مصابة بالأرق. فلما نضت ثيابها جلست على النافذة على كرسي من طراز فولتير وصرفت الوصائف ثم أخرجت الشموع وتركت الحجرة وليس بها من وسائل الإضاءة إلا قنديل واحد كما كانت قبل فلبثت الكونتيس جالسة بمكانها مصفرة الوجه والبشرة كأنما غمست في كركم تحرك شفتيها المسترخيتين وتترجح يمنة ويسرة. وكانت عيناها الثقيلتان الكليلتان البليدتان تنم عم عزوب العقل والتدله، ويخيل إلى الناظر أن حركة اهتزاز جثتها ليست حركة اختيارية منها ولكنها ناشئة عن فعل آلة كهربائية مخبوءة في جوفها. ولكن وجهها الميت تنكر بغتة وتبدل هيئة مدهشة فوقفت حركة ارتعاش الشفتين وفاضت الحياة في العينين، ماذا جرى؟ إن أمام الكونتيس يقف رجل غريب مجهول. وقال بصوت خفيض واضح: لا تخافي! سألتك بالله لا تخافي! ما كنت أنالك بأدنى مضرة ولا نويت لك قط شراً. إنما جئت لأسألك حاجة. فنظرت العجوز في صمت كأنما لم تع ما قال. وظن هرمان أن بها صمماً فأدنى فاه من أذنها وأعاد ما قاله أولاً فاستمرت العجوز على سكوتها. وقال هرمان: إن في يديك ترفيه عيشي وإسعاد حياتي ثم لا نفقة ولا مؤونة عليك في ذلك، وإني لأعرف أنك تستطيعين تسمية ثلاث ورقات من ورق اللعب. . . وهنا سكت هرمان إذ بدا له أن الكونتيس بدأت تفهم كلامه، وكأنها تعالج نفسها على تهيئة جواب لكلامه. فقالت بعد الجهد الطويل: لم يكن ذلك إلا أمزوحة ودعابة. وإني أؤكد لك أنها لم تكن سوى أمزوحة. فأجا بهرمان مغضباً: لا مزاح في الأمر اذكري تشايلنسكي الذي فرجت كربته ونفست غمته وأعنته على استرداد خسائره.

فاشتد قلق الكونتيس وحيرتها وبدا في أسارير وجهها آيات الغم والكرب ثم تماسكت واستعادت ثباتها ورزانتها. وقال هرمان: ألا تستطيعين تسمية هذه الورقات الثلاث؟ فاستمرت العجوز في سكوتها وقال هرمان: لمن تدخرين هذا السر؟ لأحفادك؟ إنهم ليسو بحاجة إذ هم أغنياء من دونه ثم هم لا يعرفون للمال قيمة فورقاتك لا فائدة فيها ولا ثمرة للمبدد المبذر لأن الرجل الذي لا يستطيع صيانة تراث أبيه يعجز عن صون ما عداه من مال طريف ومتاع مستحدث ومثل هذا لا يموت إلا فقيراً ولو كان رهن إشارته وطوع بنانه جن سليمان يأتونه ما يشاء ويبغي ولكني لست من تلك الفئة وذلك القبيل إذ كنت أعرف قيمة المال فأوراقك الثلاث لن تذهب على سدى ولن تطيح معي جباراً فدعك من هذا الكتمان وبوحي لي بأسمائها. ثم سكت ولبث ينتظر رجع جوابها مرتجف الأوصال من سدة انفعاله وتمادت الكونتيس في سكوتها فخر هرمان راكعاً تحت قدميها. وقال: إذا كان شعاع الحب قد أشرق قط على ساحة قلبك. وإذا كنت تذكرين حلاوة ذلك الشعور وطربه ولذته. . إذا كنت جربت شعور الأم نحو طفلها الرضيع وأطرب أذنيك نغمة وليدك وهو يضحك ويغرد - إذا كان قلبك قد عرف قط أي شعور إنساني ودب إليه أدنى إحساس آدمي - فإني أستحلفك بعواطف الزوجة والوالدة والعاشقة - أعني بك ما هو مقدس في الحياة أن لا تردي دعائي ولا ترفضي طلبي بوحي لي بسرك أي فائدة لك فيه. ومن المحتمل أن يكون هذا السر متصلاً بإثم عظيم أو جرم جسيم - بمحالفة الأبالسة ومعاملة الشياطين مما يستوجب الحرمان الأبدي من رحمة الرحمن ويستجلب لعنة الله إلى يوم الدين. وأنت عجوز هرمة قد أكل عليك الدهر وشرب وأيامك في هذه الحياة معدودة ولعلك هامة اليوم أو غد فتدبري حالك وانظري في عاقبتك ومآلك واطرحي على كاهلي هذا السر وما يتصل به من إثم وجريمة - فإن حامله عنك ومريحك من شره وأذاه. أفشي إلي سرك

واذكري أن في يدك سعادة إنسان وشقاءه ونعيمه وبلاءه. وإني أنا وأولاد ي وأحفادي من بعد سنثني عليك ما حييت ونستمطر ضريحك سحائب الرحمة والرضوان بعد مماتك ونصلي لروحك كما يصلى لأرواح الأبرار والقديسين. كل ذلك والكونتيس صامتة لا تنبس بكلمة. فثار هرمان لقدميه. وصاح وهو يحرق نابه على العجوز غيظاً وحقداً: تباً لك وسحقاً أيتها العجوز الشوهاء سأرغمك على الكلام إرغاماً، ثم سحب مسدساً من جيبه. فعند رؤية المسدس بدت علائم القلق والاضطراب على وجه الكونتيس للمرة الثانية، فهزت رأسها ورفعت يديها كأنما تحاول اتقاء الطلق. . ثم استلقت على ظهرها وبقيت مسلوبة الحركة. فصاح هرمان وقبض على يدها: أجيبي ودعك من هذه السخافة الصبيانية إني أسألك لآخر مرة فأجيبي: أتسمين لي الورقات الثلاث. فلم تحر الكونتيس جواباً. فتأمل هرمان وجهها فإذا هي ميتة. الفصل الرابع كانت ليزافيتا إيفانوفنا جالسة في غرفتها لم تنزع بعد حلة المرقص منغمسة في لجة من الأفكار والخواطر. وكانت لدى وصولها القصر صرفت خادمتها التي تقدمت نحوها متثاقلة مكرهة لتعينها على نضو ثيابها فأخبرتها أنها ليست بحاجة إليها وأنها ستنضو ثيابها بنفسها. ثم صعدت إلى حجرة خفاقة الأحشاء وهي تتوقع أن تجد هرمان هنالك وتود من أعماق قلبها أن لا تجده فلما ولجت باب الغرفة علمت لأول وهلة أنه غير موجود فأثنت على الأقدار وحمدت حسن حظها الذي حال بين هرمان وبين المجيء في الموعد المضروب. ثم جلست دون أن تنزع ثيابها وأخذت تعيد كرة الفكر على تلك الحوادث التي ساقتها في ذلك الوقت القصير إلى هذه النقطة الخطيرة وكيف ولم يكن قد مر ثلاثة أسابيع منذ لمحت الفتى الضابط لأول مرة من النافذة وهي مع ذلك قد أصبحت تراسله وتمكن هو من حملها على أن تضرب له موعد لقاء في جوف الظلام!

ولم تكن تعرف اسمه إلا من توقيعه على بعض رسائله. ولم تكن جاذبيته الحديث قط ولا سمعت صوته ولا سمعت به إلا تلك الليلة. ولكن من العجيب أن تومسكي تلك الليلة أمل به ما ساءه وكدره من عشيقته البرنسيس بولين ن في المرقص وأراد أن يقتص منها فعمد إلى ليزافيتا فاختارها شريكة له في الرقص فطوى هزيعاً من الليل يركض بها في حلبة الراقصين وسط الملعب. وما زال طول المدة يهيجها ويستثيرها بالتلميح إلى ميلها للضباط المهندسين وأكد لها أنه أعرف منها بأخلاق هذه الفئة واتفق أن بعض الأمازيح والنكات الصادرة منه في هذا الصدد أصابت المرمى فأوجست الفتاة خيفة أن يكون سرها قد ظهر. فسألته مبتسمة: من أنبأك بكل هذا؟ فأجاب تومسكي: من صديق امرئ تعرفينه حق المعرفة، من رجل عظيم الكفاءات والمواهب. ومن هو هذا الرجل العظيم المواهب والكفاءات؟ اسمه هرمان. فلم تجب ليزافيتا ولكن يديها وقدميها فقدت الإحساس والشعور. واستمر تومسكي فقال: إن هرمان هذا لذو شخصية نادرة غريبة لامتيازها بالولوع بركوب الأهوال والأخطار. وإن له سحنة كسحنة نابليون وروحاً كروح إبليس واعتقادي أن في عنقه ثلاث جرائم. . ما أشد اصفرار وجهك!. أشعر بصداع. . ولكن خبرني ماذا قال لك هرمان هذا!. قال لي هرمان أنه ساخط على خط صديقه وأنه لو كان في مكانه لسلك سلكاً آخر. . وإني لأحسب أن هرمان نفسه له فيك مآرب ومطامع أو على الأقل أراه يصغي أشد الإصغاء إلى كل ما يقوله عنك صديقه. وأين أبصرني؟ لعله في الكنيسة أو في طابور. الله وحده يعلم. أو لعله في غرفتك وأنت نائمة. . إن هرمان هذا لا يبعد عليه. . .

وهنا أقبل عليه ثلاث سيدات إحداهن البرنسيس بولين ذاتها فقطع تومسكي حديثه. ثم جرى بين الحبيبين عتاب انتهى بالصلح والوئام. ثم أوصلها إلى مجلسها من الحفلة وعاد هو إلى مجلسه. وقد انمحى من ذاكرته ليزافيتا وهرمان وكل ما يتعلق بهما. وأرادت ليزافيتا أن تستأنف مع تومسكي الحديث المبتور ولكن الرقص انتهى وآذن عقد الحفلة بانتثار ونهضت الكونتيس للخروج. كانت لكمات تومسكي ليست أقل ولا أكثر من تافه الحديث الذي يتخلل حركات الرقص ولكنها رسبت في أعماق نفس الفتاة العاشقة. وكانت الصورة التي صور فيها تومسكي خلق هرمان وخلقه تنطبق على ما كانت الفتاة قد صورته بريشة الوهم والخيال على صحيفة ذهنها وقد أعانها ما قرأته من روايات ذلك العصر على أن تعير وجه معشوقها من المزايا والصفات ما هو جدير أن يروعها ويسحر لبها. ففي تلك اللحظة كانت الفتاة جالسة في حجرتها وذراعاها الحاسرتان مضمومتان على صدرها وراسها الذي لا يزال مزداناً بالأزهار منكس على صدرها العاري وترئبها المصقولة فإنها لكذلك إذ فتح الباب ودخل هرمان فعرتها هزة. وسألته بصوت خاف: أين كنت؟ فأجاب هرمان: في مرقد الكونتيس لقد غادرتها اللحظة أن الكونتيس قد ماتت. يا الله! ماذا تقول؟ قال هرمان: وأخشى أن أكون أنا السبب في موتها. فنظرت إليه ليزافيتا وإذا بكلمات تومسكي قد ثار لها صدى في روح الفتاة: إن في عنقه ثلاث جرائم! وجلس هرمان لدى النافذة على كثب منها فقص عليها ما جرى. وأصغت له الفتاة وفرائضها من الفزع ترتعد. وكذلك ظهر لها أن جميع تلك الرسائل الغرامية والرغبة الشديدة والحرص والطلاب والمطاردة لم تكن منبعثة عن عاطفة الحب! ولكن المال هو جل بغيته ومرغوبه وما تصبو إليه نفسه ويحن إليه قلبه! وإنها لم تكن سوى آلة عمياء في يد لص، في يد قاتل سيدتها وولية نعمتها! فذرفت دموع الندم حارة مرة. وجعل هرمان ينظر إليها صامتاً وقلبه ايضاً نهب الوساوس

الأليمة. ولكن دموع الفتاة المسكينة وفتنة جمالها التي زادها الحزن روعة وسحراً لم تكن لترقق من غلظة كبده مثقال ذرة وكذلك لم يشعر بأدنى وخزة ضمير على ما جنى من قتل العجوز. وإنما ساءه وأحزنه شيء واحد، ضياع ذلك السر الذي كان يرجو من ورائه ثروة هائلة. وقالت أخير: إنك لوحش ضار. . فأجاب هرمان: ما اردت قتلها ودليل ذلك أن مسدسي كان خالياً من الرصاص. بقي الاثنين صامتين. وبدأ الفجر ينبثق فأطفأت ليزافيتا شمعتها وضاءت الحجرة بضوء الفجر الضئيل الأصفر فأرقأت عبرتها وغيضت دمعتها ورفعت بصرها نحو هرمان وكان جالساً قرب النافذة مضموم الذراعين على صدره وعلى جبينه أشنع عبسات الغيظ والحنق. فكان في هذه الهيئة أشبه الناس طراً بصورة نابليون الأول وأحست الفتاة لهذا الشبه الغريب نوعاً من الدهشة. ثم قالت أحيراً: كيف السبيل إلى إخراجك من القصر؟ لقد فكرت في إنزالك من السلم السري ولكن ذلك يقتضي المرور خلال حجرة الكونتيس وإني لأخاف أن أدخلها. فقال: خبريني كيف أهتدي إلى السلم السري أذهب بمفردي. فقامت ليزافيتا وتناولت من درجها مفتاحاً فأعطته لهرمان ووصفت له طريق الخروج. فضغط هرمان على يدها الباردة المسلوبة القوى ثم قبل رأسها المنكس وخرج من الغرفة. فانحدر في السلم المتعرج ودخل حجرة الكونتيس مرة أخرى فأبصر العجوز الميتة جالسة مكانها كما لو كانت متحجرة وقد ارتسم على وجهها آيات السكينة التامة والطمأنينة المطلقة. فوقف هرمان أمامها وأدمن إليها النظر في جد واهتمام كأنما يحاول إقناع نفسه بحقيقة الحادث الجلل. وأخيراً دخل المقصورة والتمس الباب ثم أخذ يهبط في السلم المظلم وقلبه مفعم بإحساس غريب لا عهد له بمثله. ثم قال في نفسه: يالله يا لسخرية القضاء! أكبر ظني أن في هذا السلم بعينه ومن هذه

الحجرة بعينها وفي هذه الساعة بعينها كان يرى منذ ستين عاماً شاباً عاشقاً ينساب انسياب الأرقم في خفية وتستر بعد انصرافه من الخلوة بحبيبته يضم إلى صدره قبعته المثلثة الزوايا وهو الآن أعظُم بالية في قبره لم يبرح نهب الفناء والبلى الأعوام الطويلة ولكن قلب معشوقته الهرمة لم تقف نبضاته إلا الآن. ووجد هرمان في أسفل السلم باباً ففتحه بمفتاح ثم سلك دهليزاً أفضى به إلى الشارع. الفصل الخامس بعد مضي ثلاثة أيام من الليلة المنحوسة توجه هرمان الساعة التاسعة صباحاً إلى دير حيث احتفل بجنازة الكونتيس العجوز. فبالرغم من تحجر شعوره وموت عواطفه لم يتمالك أن أحسن شيئاً من وخزات المضير إذ ناجته نفسه أنت قاتل العجوز. . وبالرغم من قلة إيمانه وضعف عقيدته فقد كان شديد التأثر بالخرافات والخزعبلات فقام في عقيدته أن الكونتيس الميتة قد تنحس حظه وتشقي جده وتؤثر في حياته أسوأ الأثر. فعزم على أن يشهد جنازتها ليستميح عفوها وغفرانها. كانت الكنيسة غاصة بالخلق فبعد جهد جهيد استطاع هرمان أن يشق طريقه وسط الزحام وكان النعش موضوعاً على دكة فاخرة تحت سرادق من القطيفة. وفي جوفه الكونتيسة ممتدة مضمومة اليدين إلى صدرها على رأسها قبعة من مهلهل النسيج وعليها ثوب من الحرير الأبيض وحول الدكة أهل القصر وأعضاء الأسربة فالخدام في القفاطين السوداء وعلى أكتافهم شعار نسب الأسرة وفي أيديهم الشموع والأقارب والأولاد والأحفاد وأولاد الأحفاد كلهم في ملابس الحداد. لم تذرف على نعش العجوز عبرة ولم ترسل عل رفاتها زفرة فالكل مثلوج الصدر يبس المدامع بارد الأنفاس ولو سالت الدموع لعدت ضرباً من التصنع الكاذب والنفاق الممقوت. فلقد كانت الكونتيس قد بلغت من الهرم ما أصبح الموت بعده أمراً متوقعاً وشيئاً مألوفاً لا يحدث روعة ولا هشة. وكان أهلها قد أخرجوها منذ حين طويل من عداد الأحياء وشطبوا اسمها من قائمة أهل الدنيا. ثم صعد المنبر خطيب مصقع ذائع الصيت فألقى خطبة الجنازة فوصف في أبين عبارة وأرقها وأسهلها انتقال الأبرار من عالم الفناء إلى عالم البقاء. ونعت عيشة الكونتيس البارة

الصالحة بمنتهى الورع والتبتل. فقال: طوبى لك أيتها التقية النقية. لقد نزل بك ملك الموت فالفاك في هجود وسجود وخشوع وركوع. تنتطرين وفدة عروس الظلام ورسول الحمام. لقد فجعت منك الليالي نفوسها ... بصوامة الآصال محيية العتم تمت الخطبة وسط السكوت التام، ثم تقدم الأهل والأقارب ليحيوا الجثة تحية الوداع وجاء من بعدهم زمرة الزائرين ليؤدوا شعائر الولاء الأخيرة لمن قضت السنين العديدة تشاطرهم باطل اللذات والملاهي. وتقدم بعد هؤلاء خدام القصر وفي أخرياتهم عجوز من سن الميتة يدعمها فتاتان صغيرتان ولم تكن تستطيع الانحناء إلى الأرض فسكبت دمعة على رفات مولاتها ولثمت يدها الباردة. وعزم هرمان على التقدم إلى النعش فدنا منه ثم ركع على الحجارة القارة وبقي كذلك بضع دقائق ثم نهض واقفاً وبه من اصفرار الوجه وشحوبه مثل ما بالميتة. ثم ارتقى سلم الدكة وحنا فوق الجثة. وإذ ذاك خيل إليه أن الميتة رشقته بنظرة تهكم وسخرية وغمزت إليه بإحدى مقلتيها. فانقبض متراجعاً وزلت قدمه فهوى إلى الأرض فأسرع غليه أناس فأنهضوه. وفي عين اللحظة حملت ليزافيتا إيفانوفنا مغشياً عليها إلى باب الكنيسة وقد كان من هذا الحادث ما شوش سكينة المشهد الجليل وزعزع وقاره بضع دقائق فتهامس الجمع ومال أحد أمناء القصر على رجل إنكليزي واقف إلى جانبه فقال له في أذنه: إن هذا الضابط هو ولد غير شرعي للكونتيس فأجابه الإنكليزي بجمود وبرودة أوه! أحس هرمان طول ذلك اليوم بانفعال نفساني شديد فأوى إلى مطعم في ناحية منعزلة من المدينة ليتغذى وهنالك أكثر من شرب الخمرة على خلاف عادته ليسكن نافر جأشه واضطراب وجدانه ولكن الخمرة ضاعفت هياج نفسه وثورة خاطره. فلما عاد إلى غرفته فانطرح على إحدى أرائكها دون أن ينزع ثيابه فاستغرق في النوم. فلما انتبه من رقدته كان الليل قد جن وضوء القمر مستفيضاً في أرجاء غرفته فنظر في ساعته فإذا هي ثلاث ونصف فجلس في فراشه وأخذ يتذكر جنازة الكونتيس.

في هذه اللحظة أطل عليه من نافذته شخص ثم مضى في سبيله. فلم يكترث هرمان لهذا الحادث. وبعد بضع دقائق سمع باب ردهته ينفتح فظن هرمان أن خادمه قد عاد سكران من بعض معاركه الليلية ولكن لم يلبث أن سمع خطوات غير مألوفة في أذنه. وكأن أحد يتمشى في خفين على أرض الردهة في لين وخفة. ثم انفتح الباب ودخلت عليه امرأة في ثوب أبيض، فحسبها هرمان مربيته العجوز وتعجب ماذا أقدمها عليه في مثل هذه الساعة من الليل. ولكن المرأة ذات الثوب الأبيض دلفت نحوه بسرعة ثم مثلت أمامه - فإذا الكونتيس! وقالت بصوت ثابت متين: لقد جئتك على غير رغبة مني. ولكني أمرت أن أجيب سؤالك. ستربح إذا لعبت الثلاث الورقات الآتية على التوالي وهي ثلاثة سبعة فنط ولكن على الشرائط التالية: أن لا نلعب أكثر من ورقة واحدة في طظف أربع وعشرين ياعة وأن لا تعيد الكرة ما حييت وإني أغفر لك جريمة قتلي بشرط أن تتزوج وصيفتي ليزافيتا إيفانوفنا. ثم تولت عنه فهرولت نحو الباب وأملست. وسمع هرمان باب البيت يفتح ثم يغلق وأبصر للمرىة الثانية شخصاً يطل عليه من النافذة. فبقي هرمان كالمغشي عليه ساعة من الزمن ما به سبيل إلى الإفاقة من تلك الغمرة وأخيراً قام فدخل الحجرة المجاورة فأبصر خادماً طريحاً على الأرض يغط في نومه فأيقظه بعد جهد. فألفاه نشواناً كدأبه فاستفسره عما جرى فلم يستطع أن يمده من المعلومات والبيانات بأدنى شيء وألفى هرمان باب البيت مغلقاً. فانكفأ هرمان إلى حجرته فأشعل شمعة ودون كل تفاصيل رؤياه. الفصل السادس لا يمكن اجتماع فكرتين في حيز واحد من العالم الذهني إلا إذا أمكن اجتماع جسمين في حيز واحد من العالم المادي وبناء على هذه النظرية أصبحت فكرة ثلاثة، سبعة، فنط تدور في رأس الفتى وتطفو في دماغه وترسب وتتردد على شفتيه وتتكرر. فإذا أبصر فتاة قال في نفسه: ما أنحف قوام هذه الفتاة وما أشبهها بمنظر (الثلاثة القلبية)

وإذا سأله أحد الناس كم الساعة؟ أجاب: سبعة إلا ثلاثة. وكلما أبصر رجلاً سميناً أذكره بالفنط. وكذلك أصبحت فكرة ثلاثة، سبعة، فنط شغله الشاغل في اليقظة وحلمه في الكرى. وكان منظرها يتشكل لعين خياله الملتهب في شكل وصورة. فكانت الثلاثة تبدو كأنها الزهر الناضر الجميل وكانت السبعة تتراءى كأنها أبواب القصور القديمة الغوطية الطراز. والأفناط تلوح كأنها العناكب الجسيمة الهائلة. وكانت نفسه متعلقة من الدنيا بأمنية واحدة، وهي اجتناؤه أعظم الثمرات من ذلك السر الخطير الذي اشتراه بأغلى الأثمان ففكر في الذهاب إلى باريز لالتماس الثراء في أحد مقامرها الجمة. ولكن عرض له من محاسن الصدف ما أغناه عن تجشم ذلك السفر البعيد! وقبل أن يهيء الجواب على ذلك تدبر الفتاة أكرة الباب فتفتحه ثم تخرج. وكان في موسكو جمعية مؤلفة من أغنياء المقامرين يرأسها شيكالنسكي المشهور الذي قضى عمره على مائدة الميسر وجمع الملايين يأخذ أرباحه أوراقاً مالية ويدفع خسائره ذهباً منقوداً وكان لطول تجربته وفرط حنكته قد أحرز ثقة زملائه كما أن داره المفتوحة وطاهيه الحاذق وحسن آدابه ورقة شمائله أنالته إجلال الجمهور واحترامه. هذا الرجل الشهير قدم إلى سانت بطرسبرج فتهافت عليه شباب المدينة وفتيتها واستبدلوا مائدة القمار بمحافل الرقص وآثروا لذاذات الميسر على حلاوات المغازلة والمداعبة. ففي ذات ليلة سار ناروموف بالفتى هرمان إلى دار شيكالنسكي. فمرا خلال حلقة من الغرف الزاهية الزاهرة الغاصة بالخدم وكانت الدار مزدحمة فمن بين قواد ومستشارين يلعبون (الوست) وفتية وشبان يتكئون على الأرائك يرشفون المرطبان أو يلهو بالمتابغ. وكان رب الدار جالساً على مائدة مستطيلة في غرفة الاستقبال حولها نحو عشرين من اللاعبين. وكان يناهز الستين نبيل الطلعة له سمت وأبهة وعليه جلال وهيبة وقد جلله الشيب بالوقار. وقد اشرب وجهه حمرة وأشرقت له نظرة تنطق عن دماثة الطبع ولين العريكة وكانت لا تزال تبرق بعينه ابتسامة البشر والطلاقة فقدم ناروموف إليه هرمان وعرف أحدهما بالآخر.

فصافح شيكالنسكي هرمان وسأله أن يرفع الكلفة فلا يبقى واقفاً ثم استمر في اللعب. واستمر اللعب برهة وكان على المائدة نيف وثلاثون ورقة. وكان شيكالنسكي بعد كل رمية يعطي اللاعبين مهلة يرتبون فيها أوراقهم ويدون خسائرهم ثم يصغي إلى مطالبهم في أحسن أدب وأحسن من ذلك أدبه وتلطفه في معالجته إقامة المعوج ونشر المطوي من أطراف الأوراق التي كان بعض اللاعبين يطوي أطرافها من غير عمد ولا سوء نية. وأخير تم الدور وشرع شيكالنسكي يفنط الورق استعداداً لدور آخر. قال هرمان: أتسمح لي أن آخذ ورقة؟ ومد يده من وراء رجل ضخم كان يشترك في اللعب. فابتسم شيكالنسكي وانحنى في صمت دلالة على الرضا. فهنأ ناروموف هرمان على نقضه ذلك المبدأ الذي التزمه طول عمره أعني اجتناب اللعب وتمنى له الفوز والظفر. قال هرمان: أريد الاشتراك، وكتب أرقاماً بالطباشير على ظهر ورقته. فقال صاحب البنك (هوشيكالنسكي) وحدد بصره: على أي مبلغ يا سيدي؟ معذرة إن في بصري شيء من القصر. فأجاب هرمان: على سبعة وأربعين ألف روبيل. فعند سماع هذه الكلمات التفت كل من بالغرفة بغتة واتجهت الأبصار كافة نحو هرمان. وقال ناروموف في نفسه: لقد خولط الفتى في عقله!. وقال شيكالنسكي بابتسامته المعهودة: إن هذا مبلغ باهظ لم يحدث قط أن أحداً من لاعبي هذه المائدة جازف بأكثر من مائتين وخمسة وسبعين روبيل على دفعة واحدة. فأجاب هرمان: لا بأس بما تقول. ولكن خبرني أتقبل ورقتي أم ترفض؟ فانحنى شيكالنسكي قبولاً. وقال: كلا ما أقوله هو أني مع مزيد ثقتي بكلام أصدقائي لا أستطيع أن ألعب إلا على المال الحاضر المنقود. أما من جهتي فإني أعلم أن كلمتك كافية ولكني محافظة على نظام اللعب وتسهيلاً للحساب أطلب إليك أن تضع المبلغ فوق ورقتك. فاستخرج هرمان من جيبه بنكنوتاً فأسلمها إلى شيكالنسكي فنظر فيها الرجل نظرة خفيفة عجلى ثم وضعها على ورقة هرمان.

ثم شرع يلقي الورق. فبدا على اليمين ورقة تسمى وعلى اليسار ورقة ثلاثة. فقال هرمان وأبدى ورقته: لقد كسبت! فتهامس الحضور عجباً ودهشة وعبس شيكالنسكي ولكن الابتسامة الدائمة لم تلبث أن عادت إلى وجهه. ثم قال لهرمان: أتريد أن أنقدك المبلغ الآن. فأجاب هرمان: إذا شئت. فاستخرج شيكالنسكي من جيبه عدداً من أوراق البنكنوت فدفعه إليه على الفور فتناولها هرمان وترك المائدة. فبقي ناروموف ذاهلاً دهشاً وشرب هرمان زجاجة من عصير الليمون وانطلق إلى منزله. وفي مساء اليوم التالي سار هرمان إلى دار شيكالنسكي فوجده يوزع الورق فأفسح المقامرون لهرمان مجلساً بينهم وحياه رب الدار بانحنائة المستبشر بقدومه. فاشترك هرمان في الدور التالي فتناول ورقة ووضع فوقها رأس ماله أعني السبعة والأربعين ألف الروبيل مشفوعاً بما ربحه الليلة السالفة. وشرع شيكالنسكي يلقي الورق فبدا على اليمين ولد وعلى اليسار سبعة. فأظهر هرمان سبعته. فضج القوم أجمعون وعلا هتافاهم وبدا القلق على شيكالنسكي بلا شك ولكنه عد المبلغ وهو أربعة وتسعون ألف روبيل فناوله هرمان فوضعه هرمان في جيبه بأربط جأش وأوقر حال وغادر المكان في الحال. وفي الليلة التالية عاد هرمان إلى مائدة الميسر وكن الكل في انتظاره وكان الجنرالات والمستشارون قد انصرفوا عن لعبتهم الوست ليشاهدوا هذا المقامر الهائل. وقام الفتيان الضباط عن متكآتهم وأرائكهم لعين هذا السبب حتى الخدام أنفسهم تزاحموا في المكان حتى غص بهم. وأحدق الكل بهرمان إحداق السوار بالمعصم يتدافعون حوله ويتهالكون وكف اللاعبون غيره عن اللعب ليروا ماذا تكون العاقبة والمآل. ووقف هرمان على المائدة وتأهب للعب وحده ضد شيكالنسكي الذي كان على شدة اصفرار وجهه لا يزال يبتسم. وتناول هرمان ورقة غطاها بكومة من البنكنوت. فلا والله ما كان ذلك بلعب وإنما حرب وقتال. وجلاد ونضال.

غلط القوم لست تلعب بالأورا ... ق ولكن بأنفس اللعباء وأرى أن رقعة الأدم الأح ... مر أرضا عللتها بدماء وكأن الذي تدير على القو ... م حروباً دوائر الأرحاء وأخذ شيكالنسكي يطرح الورق ويداه ترتجفان فبدت على اليمين (ملكة) وعلى اليسار (فنط) فصاح هرمان: لقد فاز الفنط وأظهر ورقته فأجابه شيكالنسكي بأدب واحترام: لقد خسرت ملكتك. فانتفض هرمان مذعوراً ونظر في ورقته فإذا هي الملكة فلم يكد يصدق عينيه أو يفهم كيف غلط مثل هذه الغلطة. وفي هذه اللحظة خيل إليه وهو ينظر في ورقته أن الصورة المنقوشة عليها أعني الملكة كانت ترمقه بابتسامة الهزء والسخرية والتهكم وإنها لتغمز ليه بعينها، ثم أدهشه عظم الشبه بينها وبين.؟. . . فصاح وقد تملكه أشنع الرعب والفزع: الكونتيس العجوز! وطفق شيكالنسكي يجمع أرباحه. ولبث هرمان فاقد الحركة برهة من الزمن ولما غادر المكان علت فيه جلبة القوم ولجبهم. وقال اللاعبون: إنها لأشنع خسارة. واستأنف شيكالنسكي تفنيط الورق وجدد القوم المقامرة. جن هرمان وهو الآن سجين مستشفى المجاذيب بغرفة رقم 17 وهو لا يعي قولاً ولا يحير جواباً ولكنه لا يبرح يوسوس باستمرار وبسرعة مدهشة: ثلاثة، سبعة، فنط، ثلاثة سبعة، ملكة، ثلاثة سبعة، فنط، ثلاثة، سبعة، ملكة. . . . . . وتزوجت ليزافيتا إيفانوفنا بفتى جميل - ابن رجل م وكلاء الكونتيس المرحومة - حسن الحال ناعم العيش. ورقي تومسكي إلى رتبة كابتن وزوج من البرنسيس بولين. (تمت)

قصة رنيه

قصة رنيه للكاتب الفرنسي الخالد شاتوبريان نقلها إلى العربية الكاتب عي أدهم أفندي وأثر بها البيان ومهد لها بهذه الكلمات الآتية قال: كلمة عامة - حياة كل إنسان كنغمة يرن صداها ثم يغيب في صمت الأزل العميق حيث لا يقدر لها رجوع طوال الأيام وأبد الليالي، وتتفاوت تلك النغمات، فمنها النغمة الضاحكة المستبشرة، ومنها النغمة الموجعة الحزينة ومنه النغمة الثائرة المتمردة الساخطة المتبرمة، وكذلك كانت حياة ذلك العبقري التعس الحظ شاتوبريان، فقد عاش منشقاً على عصره خارجاً على أوضاعه وسننه، وكانت حياته عقداً منتظما من الألم، وسلسلة متصلة من الضجر والملل، وكان يحس طول حياته أن العدم كان أولى به من الوجود وكان يرى أن حب الحياة - تلك الغزيرة التي تسوقنا إلى الاستمساك بالحياة وتدفعنا إلى الرغبة فيها في أشد الأوقات محنتنا وتغطى على مساوئ العيش وعيوبه - كان يراها عارضاً من الجنون، وكان يدعو الله أن يشفيه منه، وقد كان شاتوبريان مطبوعاً على الشاعرية وكانت المواهب الأدبية متأثلة في نفسه، وإن شعراء العالم العظماء يسيرون إلى نواحي الخلود في صفين، فريق ترى حياته ممثلة مصورة في تواليفه وفريق يعكسون صورة العالم في كتاباتهم كما تتراءى الصور في صفحة البحيرة الهادئة الصافية، والنوع الأول يستثير الحب والعطف ويرجح فيه الجانب الأخلاقي على الجانب الفني، والنوع الثاني يبعث على الإعجاب والإكبار وللجانب الفني فيه القسط الأوفر، وقد كان شاتوبريان من شعراء النوع الأول ولذا ترى شخصيته جلية واضحة في كل ما يكتبه، وكل ما يقوله يدور حول محور هذه الشخصية. مولده ونشأته ووراثته - ولد في سنة (1768م) وهي واقعة على المحيط في مقاطعة بريطانيا في الشمال الغربي من فرنسا، والرياح التي تهب في تلك المقاطعة تملأ النفس بالرهبة والحزن الغامض الخفي الذي ينتقل بالروح إلى نواح مجهولة قاضية ويلبس الجو هناك لبسة الحزين فترى السماء ملتفة في سود السحائب ولأمواج المحيط هناك أرانين شجية كأنما في طيها سر من الأسرار الأبدية وقد قضى شاتوبريان أيام طفولته في تلك النواحي، وللمشاهد التي يراها الإنسان في طفولته تأثير لا يزول على حياته فإن ظلالها

لتنبسط وتخيم على أكناف العمر وكلما أقصانا عنها تيار الزمن كان خيالها أكثر لجاجة بالذهن وتشبثاً بالخاطر. وسكان بريطانيا من أصل سلتي ففيهم طبائع السلتيين وأمزجتهم مثل الحزن الصامت الذي اشتهر عن الشعب السلتي والحياء والانقباض عن الناس لأنهم يعرفون بساطة نفوسهم وبعدهم أساليب المكر فيتحامون جانب الأجنبي عنهم لئلا يقف على سر تلك السذاجة فينتفع منها، والحياء من دلائل العواطف العميقة والوجدان الحي والإحساس القوي المندفع، وقد يصمهم من يجهل أمرهم بالجفوة وخشونة الجانب ولكن من يستشف قراره قلوبهم يرى وراء تماسكهم طبعاً سمحاً وماء صافياً وفؤاداً يجيش بالعواطف الرحمة والحب، ومن عاداتهم إكبار قبور آبائهم وإجلال ذكر أجدادهم واحترام المرأة وتوقيرها، وقد ورث شاتوبريان منهم هذه الطبائع كما ورث من أبيه العبوس والتقطيب ومن والدته التقوى والتدين وقد ولد في أسرة كريمة المناسب شريفة المحتد فورث أيضاً تقاليد تلك الأسرة. روح العصر الذي عاش فيه - كانت أوروبا في الأيام التي أظلت حياة شاتوبريان تعاني عصور انتقال من أشد عصورها اضطراباً، وعصور الانتقال عرضة إسهام التطور الفجائي لأن سير الانتقال قد يسرع فتحدث التوراة وقد عاش النصف الثاني من القرن الثامن عشر وكان عصر الحاد وشك ومتناقضات إذ رفع فيه الإنسان من وجهة إلى مستوى الآلهة ومن ناحية أخرى رفع عنه آخر نقاب يستر عن النواظر وحشيته وحيوانيته وقد حدثت فيه الثورة الفرنسية تلك الأساة الكبرى وعاش النصف الأول من القرن التاسع عشر وقد كانت أوائل ذلك القرن الجليل الشأن المفعم بالحوادث أيام اضطراب وفوضى وكانت أعلام الملل تخفق في كل ناحية من أوروبا ولم يظهر شراح لفلسفة التشاؤم مثلما ظهر في ذلك الوقت، ومعرفة أسباب ذلك توقفت على درس العوامل المختلفة التي أثرت على ذلك القرن وأري أن هناك صلة شديدة بين تلك الآمال التي كانت مستسرة في النفوس قبل الثورة وبين تراميها إلى أبعد مطارح حسن الظن بإمكان تسويد مبادئ المساواة والإخاء والحرية ثم نكوصها على الأعقاب ويأس العالم من تحقيقها بعد ذلك وإنك لتقرأ في دواوين شعراء هذا العصر ما يملأ النفس ظلمة قنوط ويلهب الفؤاد حزناً وأسى في عصور الانتقال يخافون المستقبل فلا يعلقون عليه أملاً ويكون كرههم للمستقبل بقدر حبهم للماضي والعلة

في ذلك أنهم يميلون إلى تفهم الماضي وفحصه ليقيسوا عليه المستقبل فيتقدموا نحوه بقلب مشبع وجأش رابط. ومن هنا تطرق إلى شاتوبريان الميل إلى التاريخ فقد كان دائم المسير في صحراوات الأزمنة الخالية متجولاً بخياله في أطلال الأمم القديمة البالية كأنه يرى سكناً للنفس في أطلالها الدوارس وآثارها العوابس وأحوال الأمم في عصور الانتقال لا تبعث على حسن الظن بالحياة ونكتفي بهذه الإلمامة في وصفها. أخلاقه وأطواره - كانت أخلاقه نارية مستعرة هائجة مثل أمواج البحر المغتلمة منظرها يبث الروعة في النفس ويتغشى القلب حيالها مسايل الإعجاب والرهبة ولكنها كميا البحر مرة المذاق لا تجد النفوس سبيلاً إلى إساغتها وكانت نقمته تترامى إلى كل غاية وتريد أن تبلغ شأو كل مطلب ولما كان لا يجد في الوجود شيئاً يعقد به حبه كان يرجع إلى نفسه فيقصر حبه عليها وتظهر هذه الصفات في الكاتب إذا اصطدم بروح عصره فقد كان عصره عصر الحاد وسخرية بالأديان وكان هو متديناً وكانت الديموقراطية تتمشى مبادئها وهو أرستقراطي متحامل على الديموقراطية ويرى فردريك أميل في شاتوبريان نفساً معذبة وحياة بائسة شقية ولكنها مشرقة بأنوار الفخار متألق في أضاء العظمة وإنك لتلمح من كلماته عظمة الحزن وجلاله وروعة الأسى وفخامته. وقد كان قوى الروح محتدم العواطف جم الاحساسات حافل شعاب الفكر بكل سري من الخواطر عبقري من الأفكار وكان خياله متوثباً جوالاً يمر بين الزمن الماضي والحاضر عن كمال يتغنى به وعظمة يشيد بذكرها ولم يكن خياله على اتساعه من تلك الخيالات التي تؤثر على النفس بما تعرضه على الذهن من تهاويل وصور الفكر المجرد كما ترى ذلك في أصاغر الشعراء ومقعدي الكتاب بل كان أساسها الشعور المتدفق الجائش في حنايا أضلعه والفائر في مطاوى نفسه ولقد كان شديد الشعور بنفسه وبعظمتها إلى حد الطفولة، والغرور الذي كان متمسكناً من نفسه يذكرنا بغرور البحتري وهو غرور مقبول حين الموقع في النفس. وقد كان شاتوبريان يزدري أدباء عصره ويدعوهم بالأقزام الذين يلوثون بالأدب ويدنسون أديمه النقي وصفحته الطاهرة وكان ينتقد من تقدمه من الأدباء بكلمات قارصة ومن أقواله

عن برناردين بيير فيه ضيق الفكر وإسفاف الروح وكان ينتقض بيرون ويتهمه بالسطو على أفكاره وإهمال ذكره وكان يرى أن الناس لا تستطيع فهمه لأنهم أقل وأضأل من ذلك، وجميل كل هذا الغرور من شاتوبريان لصدوره من نواحي العبقرية. تأثيرات الرحلات في نفسه - طاف شاتوبريان أوروبا وزار الأراضي المقدسة وشواطئ أفريقا وسافر إلى أمريكا فترى من ذلك أنه كان جوابة أقطار وقد زاده ذلك بسطة في الخيال وفسحة في الفكر ومقدرة على الوصف. مزاجه ونفسيته - أقوي العناصر التي تكون شخصية شاتوبريان عنصران وهما عنصر التشاؤم وعنصر التدين وقد يستغرب الإنسان جمع هذا الرجل لهذين العاملين فإن نور الدين كأن من واجبه أن يبدد دهمة التشاؤم وإن تهب من ناحيته على النفس نسمات القناعة والرضى والاغتباط بالكون وحكمته ولكن بعض أنواع التشاؤم يستصحب الروح الدينية وقد طالما استبهمت حقيقة تلك العلاقة على أفهام النقاد وانطوى سرها عن علمهم وقد سهل اكتناه سرها الفيلسوف الألماني إدوارد فون هارتمان في قوله إن الأصل في الدين هو أن الروح الإنسانية كثيراً ما تلتقي بالشر وتصادفها الخطيئة وينشأ من ذلك أنها تحاول أبداً بحث ذلك الشر الذي يعترض سبيلها وتدبر تلك الخطيئة التي تعتاق سيرها لتعرف مكامنها فتأمن صولتهما. وإن من يسائل نفسه عن كيفية تصرفها حيال الشر ومسلكها أمام الخطيئة وكيف يلائم بين الشر وبين ضميره القلق من الشر ويوفق الخطيئة وبين روحه النافرة منها - أقول من يسائل نفسه عن هذين أحسبه سائراً على طريق الدين الواصل ومسلكه اللاحب وإن التأثيرات الموجعة التي تتواتر على النفس من ناحية الشر وتترادف عليها من صوب الخطيئة إذا لم ترجع كفتها في الميزان تمام الرجحان انطفأ الحماس الديني المشبوب وخمدت جمرته وكلما اشتد الشك - ذلك الشك الذي يسير على مدرجة التفكير في الشر ويتبع آثار آلام الخطيئة وتم له الانتصار والغلبة على جانب الاقتناع بالدنيا والابتسام إليها وكلما كان التشاؤم له الشعب الأوسع من النفس والجانب الأكبر فيها، وكلما امتد رواق سلكته على سائر منازع النفس وأميالها راح الدين وهو على أساس ثابت الدعائم موطد العمد، وإذا غاب عن النفس ذلك التوجه إلى التشاؤم امتنع على الدين أن يسير على سجيته

ويجري على طبعه. وليس هذا بكاف في تفهم مزاج الرجل فقد كان يتنازع نفسه عوامل أخرى وإن نفس العظيم عالم تتصادم فيه العوامل المختلفة وتتصارع ولقد قال ماكس نورداو إن الإغراق في حب الإنسانية والمغالاة في كرهها ينشاآن من سبب واحد وعوارض عقلية متحدة والمزاج السوداوي كذلك قد يسوق إلى النسك التام واستصغار أمور الحياة واحتقار ملذاتها مثل المعري وفردريك أميل وقد يسوق إلى الأبيقورية أو الخيامية وهي أن يبادر الإنسان إلى الشهوات مخلوع العنان ويفرط في الحسية وفي مثل هذه الحالة النفسية تكون فكرة العدم العدم والفناء التام مائلى للذهن إلى جانب فكرة المسارعة إلى التمتع باللذات وشرب كؤوس المسرات قاطبة وهذا ما يشاهد في رباعيات وفي كتابات شاتوبريان وما يغلب على أكثر العصور السوداوية عصور التشاؤم والممل مثل عصر شاتوبريان ومثل عصر أبي العلاء المعري. مكانه في الأدب - كان شاتوبريان طاتباً ضليعاً ومن أكبر الفرنسيين بسطة في الأدب وهو في ربيئة كتاب العالم وأكبر قواد النهضة الروانتية المعروفة في الأدب الفرنسي والتي كان من فرسانها بعد أن مهد لهم السبيل شاتوبريان بما بثه من الروح الجديد هيجو ولإمارتين وغيرهما ومن أهم مزاياه الافتتان في وصف مناظر الطبيعة والتغني بجمالها وهو كاتب يهز النفس قال عنه جوبير إن كانت كتابات برنارد دي سنت بيير مثل صوء القمر فإن كتابات شاتوبريان مثل ضوء الشمس. آراء النقاد فيه وفي القصة - يعرف أكثر النقاد قيمة شاتوبريان ويكاد يقع إجماعهم على أن قصة رينيه هي أبدع كتاباته ونجتزئ هنا بآراء ثلاثة من أكبر نقاد الدنيا. رأى هنري فردريك أميل - إن شاتوبريان بدون أن يعرف أو يقصد أخرج للناس واضحة عن نفسه في رينيه لأن رينيه هو شاتوبريان وهذه الصورة الصغيرة هي من كل الوجوه سفر خالد كامل وقد لا تشعر الأجيال القادمة يحب لرينيه ولكنه سيبقى خالداً كأبي الهول يفسره كل عصره تفسيراً خاصاُ - وكذلك كل شيء جليل. رأي سنت بيف - بين الصور والتماثيل المختلفة التي حاول شاتوبريان أن يبرزها ويعرضها على أنظارنا قد وفق في إخراج صورة واحدة خيالية لنفسه ترى فيها محاسنه

متصلة بعيوبه إتصالاً خالداً وهذه الصورة هي قصة رينيه. رأي ماثيو أرنولد - كان أرنولد يلوم الإنكليز على عدم تقديرهم لشاتوبريان وإهماله قصة رينيه وكان يؤثرها على منفرد وقابيل وهما كما يعلم القارئ أشهر ما سطرته براعة الشاعر بيرون وكان يرى في شاتوبريان روحاً قوية مسوقة بالفطرة إلى دراك الجلا والجمال. وبعد قراءة ما تقدم والمقابلة بينه وبين ما في القصة يتضح لنا أنها نوع من الاعترافات النفسية وأخت رينيه المدعوة أمليا هي أخت لشاتوبريان كانت تدعي لوسيل. * * * قصة رينيه منقولة عن شاتوبريان لما اطمأنت الأسفار بالرحالة الفرنسي رينيه في قبيلة الناتشيز لم يجد معدى عن الزواج بهندية جرياً على عادة تلك القبيلة ومساوقة لتقاليدها ولكن لم نستحكم بينهما أواصر الزواج لأنه كان يهفو به إلى أحشاء الغابات نزاع إلى الحزن قد علق بنياط قليه ونصرف بأعنة نفسه وكان يطوي هناك غلائل الأيام منفرداً يغالبه الأسى ويساوره، وتروحه الأفكار وتباكره، وكان يشبه المستوحشين بين المستوحشين، ولم يكن يخالط أحداً حاشى شكتاس الذي أقامه رينيه مقام الوالد والأب سويل الراهب في حصن روزالي، وكان لهذين الشيخين في نفسه المكانة السامقة والمنزلة الشماء، وقد اقتعد الأول غارب تلك المكانة بسلاسة أخلاقه وسهولتها، والآخر على خلافه إذ رقى ذروة تلك المنزلة بصلابة طباعه وحزونتها، ومن وقت صيد كلب الماء الذي سرد فيه الشيخ البصير شكتاس حوادث حياته على مسامع رنيه لم يرتض زنيه الكشف عن حوادثه وإبراز أخباره، وقد كان شكتاس والأب سويل بل لا ينفكان يستشيران علم دفينته ليصلا إلى مكتوم سره وكنون أمره، وليتعرفا أية ملمة قد حدث بأوروبي من أسرة كريمة المنبت وضاحة الحسب على أن يُنضى جلباب الشباب في صحراء لويزيانة، وكان رينيه يعتذر عن رده طلبهما بقوله أن تاريخ حياته ليس فيه ما يستلهي الخاطر ويستوقف الناظر، وإنه محدود بأفكار قد استفاضت أمواجها في نفسه، وإحساسات قد ثارت عواصفها في قلبه، وأما الحادثة الحافزة له على الرحلة لأمريكا فكان

يرى أن الأجمل به أن يلفها في أكفان النسيان ويكسوها من ظلمة الأبد، وقد استنت أعوام على هذه الوتيرة لم يستطع الشيخان في أثنائها أن يعلما مخزون دخيلته، ومكنون طويته. ثم وصله خطاب من أوروبا ضاعف أحزانه وأزكى قدة همومه، ولما تمادى به الأسى وكادت رواسي نفسه تميد من الألم فزع إلى صديقيه الشيخين وقد زادهما ذلك رغبة في استجاء غامض سره واستفتاح مغاليق نفسه، وقد أظهرا من حصافة العقل وركانة الحلم م لم يجد بعده ندحة عن إرضائهما، فضرب لهما موعداً لأليقص عليهما حوادث حياته التي لم يتمرس بتجاريبها ولم يزاول من أمورهما شيئاً، ولكن ليفضى إليهما بإحساساته الروحية وأسرارها، ففي اليوم الحادي والعشرين من ذلك الشهر الذي يسميه الهنود شهر بدر الأزهار صمد رنيه إلى كوخ شاكتاس واعار ذراعه للشيخ البصير وسدك به إلى سرحة فرعاء على ضفاف المسيسبي وكانت جوانب الليل قد تصدعت عن أنوا الفجر المتبلج، ولم يتريث الأب سويل عن الحضور في الميعاد المضروب، وعلى كتب في السهل كانت تتراءى للناظر قرية الناتشيز بأشجار توتها وأكواخها التي كانت تشابه خلايا النحل، وكانت المستعمرة الفرنسية وحصن روزالي قائمين في الناحية اليمنى، وكانت الخيام والمنازل التي لم يكتمل بناؤها والحصون التي لم يتم تشييدها والمزارع وقد انتشر فيها الزنوج البيض والهنود - أقول كانت كل هذه المشاهد في تلك البقعة تمثل للرائي البون الشاسع بين عادات المتدينين وعادات الهمج العاطلين من المدنية في أوضح الصور وابهر المجالي، ومن ناحية الشرق وشط تلك المناظر الرائقة كانت الشمس مقبلة تتهادى من وراء قنن جبال الأبالنسية المتكسرة، وقد كانت تلك القنن ترتسم على صفحة السماء المذهبة بأضواء الشمس في صورة حروف مصبوغة بلون لازوردي، ومن ناحية المغرب كانت أمواج المسيسيبي تطرد وقد رفرف عليها صمت فخم ضاربة أعطاف الهضبة في حلال لا يدركه التصور ولا يناله الوهم، فطار ذلك المنظر الأنيق بفؤاد الفتى وأخذ بلب الراهب فأنشأ يمتدحانه وقد احتواهما الأسف للشيخ البصير شاكتاس إذ ليس في وسعه أن يسرح الطرف في هذه المشاهد البديعة، ويتملى من تلك المحاسن الزاهرة، ثم أن الأب سويل وشكتاس اقتعدا العشب وأخذ رنيه مجلسه بينهما، وبعد سكون لم يطل أمده أخذ ينثر الكلام الآتي على مسامع الشيخين وهم جلوس تحت ظلال تلك السرحة المنهدلة فقال:

لا أستطيع في مستهل قصتي أن أكافح الحياء إذا ماجت بي أمواجه، فإن صفاء قلبيكما وسكون الطبيعة السائد حولي يغريان بي الخجل، وكم ستأخذكما الرحمة لي فإن ما استصب علي من الأمور وأحاط بي من القلق يكشفان لكم عن نفسي التعسة وجدي العاثر. ومثلكما من قد تلون به الزمن، وتصفح الليالي، وعرف هموم الحياة قاطبة، فماذا تظنان بفتى في روق الشباب مجرداً من القوة، منسرحاً من إيراد الفضيلة، يرى نفسه في نفسه الجحيم الذي قد سجر أضالعه وأضرم أنفاسه، ولا يشكو إلا من آلام قد استدرجها إلى نفسه، وهيأ لها المتغلغل إلى سويداء قلبه، ولكن لا تفرطا في عذله، ولا تجاوزا في لومه الحسد، فكفاه من مرارة الألم ولوعة الحزن ما أرمض جوانحه، وألهب جوارحه. لقد فجعت في والدتي ععند قدومي الحياة، وسحبت منها سحباً، وكان لي أخ قد خصه والدي بناصر الدعوات، وصالح البركات، لأنه أصاب فيه الولد البكر، وأما أنا فقد دفعت من ساعة مولدي إلى يد المربيات ولذا لم أذق نعيم الأبوة، ولم أنهل من حياضها العذبة الصافية، وكنت ناري المزاج غير متزن الأخلاق، تارة ضرب النفس طلق المحيا مرتفع الصوت دائب الحركة، وطوراً تدب نحوي ظلال الأسى السود فآوي إلى الصمت والإنطواء، وكنت أجمع حولي الغلمان لذاتي، ثم أنسل من غمارهم، وأعتلي هامة رابية لأعلق نظري بالسحاب السائر يطوى مراحل الفضاء، وليتسلسل في مسمعي دويّ سقوط الأمطار على أوراق الأشجار، وكنت إذا أظل الخريف أرتاد قصر أبي وهو يتوسط غابة في إقليم نائي مكان ويشرف على بحيرة، ولما كان يعتاق جناني الهيبة أزاء والدي صرت اسكن إلى أختي امليا وأصبح القرب منها مسلاة نفسي، ومتنفس خاطري وقد أربت عقدة الحب بيني وبينها مشاكلة أميالها لأميالي، وكان عمرها ينيف على عمري بسنوات قلائل، وكنا شغوفين بتسلق التلال وبالسياحة في نواحي البحيرة وكنا نجوس خلال الغابات ونتدرج في مسارحها تحت أوراقها الأشجار المتساقطة، وإن الأنس من الأشياء لا أنس تلك الأيام حيث رياض العيش خضر نواعم، ووجود المسرات وسيمات بواسم، وإن ذكرياتها لتملأ نفسي بهجة وسروراً، فلا فقدت يا أحلام الطفولة رونقك، ولا ألوت الأيام ببهجتك، ويا ذكر البلاد التي عقت بها تمائمي، ونضوت فيها الحداثة، لا تناول البلى بشاشتك، ولا عاث الزمان في زهرتك، وفي بعض الأحايين كنا نسير وقد ضرب السكون فوقنا أروقته

مسلفين الآذان لهمس الخريف واصوات الأوراق الجافة متلذذة التي كنا نطؤها بالأقدام في حزن، وأحياناً في تلك الملاهي البريئة كنا نتبع طير السنونو في البراري وقوس الغمام على القمم الماطرة، وكنا يروقنا أن نترنم بالأشعار التي كانت مشاهد الطبيعة تهتاجها في نفوسنا وقد نبتت في ثرى نفسي بذور الشاعرية، وليس هناك شيء أحفل بالشاعرية وما تتطلبه من من نضارة العواطف وغضارتها وصفاء النفس وابيضاضها من قلب لم يتبلج عليه أكثر من سبعة عشر ربيعاً، ولا غرو فإن فجر الحياة مثل فجر النهار، فياض بالطهر، ومفعم بالصفاء، مزدحم بالتصورات الجميلة غاص بالموسيقية والنغم. وكنت أسمع في أيام الآحاد والأعياد في الغابة الفسيحة الأرجاء، وبين أشجارها الفينانة، صوت جرس الكنيسة، وكان الهواء يستحمل إليّ دقاته من إقليم متراخية بعيدة الشقة، وكان ذلك الجرس يدعو المزارعين إلى انتحاء المعابد للصلاة، وكنت أستند على جذع شجرة من شجرات تلك الغابة صاغياً إلى رنات ذلك الجرس المتدفقة النقية، وكانت كل دقة من دقاته تحمل إلى روحي الصافية البريئة طهارة الحياة الريفية، فكنت كأنما أتنسم من تلك الدقات رياً شذاها، وكأن كل نبرة من نيرانه كانت تروي له عن سكون الخلاء وصمته، وتحدثني عن جمال الأديان وإشراقها ورونقها وبهائها، وتعيد في نفسي ذكر طفولتي الحزينة وأيامها المورقة الأيك والوريقة الضلال، وكيف لا يتزلزل قلب الإنسان مهما كان قاتم الأرجاء مظلم النواحي عندما تصلفح الآذان دقات جرس الكنيسة مقبلة من ناحية أوطانه البعيدة مآلف طفولته ومنازل قومه - ذلك الجرس الذي اهتز طرباً يوم ميلاده والذي أطار أنباء قدومه الحياة، والذي نقرأ فيه تاريخ أول نبضة من نبضات القلب، والذي نشر في شتى النواحي ومطرف الجهات سرور الأب الصالح التقي وآلام الأم ثم أفراحها التي لا يمكن لكاتب تصويرها، وإن صوت الجرس من ناحية الوطن يفيض على إحساساتنا من عواطف الدين والعائلة والوطن، ويذكرنا بالمهد واللحد، ويعيد لنا صور الماضي والحاضر. ولطالما كنت أنا وامليا نصعد في صعود من تلك الأفكار الوقورة الرفيعة، قد رسب في قراره نفسينا ميل إلى الحزن قد نكون ورثناه من والدتنا أو أن يكون هبة من الله قد اختصنا بها، وفي تلك الأيام استكف والدي داء أعجله إلى القبر، وقد فاضت روحه وهو في ذراعي، ورأيت صورة الموت على شفة ذلك الوالد المتفضل الذي منحني الحياة،

ووهبني الوجود، وكان لهذا المنظر في نفسي عليا التأثير ولا يزال ذكره إلى الآن يتجدد في قلبي ويتردد في خاطري، وهذه أول مرة تجلى فيها لناظري واضحاً جلياً خلود الروح، فقد كان لا يجول في بالي إذ ذاك أن هذه الجثة الهامدة الميتة هي التي أوحت إلي الفكر، وشعرت أنها تتصل بمنبع آخر وقد استولى على مشاعري حزن مقدش شماوي كان أقرب ما يكون إلى السرور، واتسق لي الأمل أني سألتقي بروح أبي، وإن زهرة حياته ستعود بعد التصوح إلى النضارة. وقد ظهر لي منظر آخر زادني إعتقاداً بتلك الفكرة السامية وذلك أني رأيت ملامح وجه أبي وقد غشاها الجلال، واكتست بهاء وروعة، فلم لا يكون ذلك السر المبهم دليلاً ناهضاً على خلود النفس؟ ولك لا يكون الموت الذي وسع علمه كل شيء قد مسم تلك الجبهة بأسرار الحياة الأخرى؟ ولم لا يكون في القبر رؤيا فخمة للأبدية. وكانت امليا وقد آدها حمل تلك الأحزان قد لاذت بحمى برج حيث كان ينسجم في آذانها تحت قبواه المبنية على الطراز القوطي أناشيد القساوسة في الجنازة ودقات الجرس المحزن، وقد شيت والدي إلى مثواه الأخير وموئله من ظلم الحياة، ورأيته وقد أهيل عليه التراب ووطئنه إذ ذاك أقدام الأبدية والنسيان، ودبت ظلال المساء غير مكترثة على قبره، ولولا تعلق ابنه وابنته بذكره لكان وكأن شخصه لم يلح على مسرح الأيام، وكأن اسمه على صحيفة الدهر، واضطررنا أن نبرح منزل والدنا لأنه صار من ميراث أخي، فعدت أنا وامليا وساكناً جماعة من ذوي قربانا، ولما حمتني الأقدار الدخول في مسالك الحياة الخادعة، أعملت فيها الفكر الواحدة بعد الأخرى قبل أن أخاطر بنفسي في اعتسافها وأقذف بمهجتي في إثارة غبار طرفها، وكانت امليا تزين لي الحياة الدينية، وتفيض في ذكر محاسنها وفي السعادة التي تتقاطر على النفس من صوبها، وكانت تقول لي وهي تنظر إليّ نظرات يتخللها الحزن وينبعث منها الأسى أنك أنت السبب الوحيد الذي يصلني بالدنيا، ولما امتلأت شعاب النفس بالاحساسات الدينية من فيض أحاديث امليا كنت كل يوم أزور صومعة قريبة من محل إقامتنا، وقد امتلكني مرة ميل شديد إلى أن أمضي حياتي هناك، ولله ما أسعد هؤلاء الذين قضوا حياتهم في سكون وعزلة، والأوروبيون دائماً في انفعال مستمر، ولذا تنزع نفوسهم إلى الراحة والسكون، وإنه كلما توالت القلب الثورات وترادفت

الاضطرابات، استمال النفس للسكون، واستروحها الهدوء. وتقام هذه الأديرة في بلادي المفتوحة الأبواب للبائسين، المباحة الحمي للمستضعفين محتجبة في الأودية التي تحمل إلى القلب شعور هؤلاء التعساء المحزونين الغامضين، وكأنها تهجس في النفس وتوسوس في الخاطر بأملهم في الخلاص، وفي بعض الأماكن تشاد تلك المناسك على الربوات والرامات، فتظهر هناك الروح الدينية سامية الطرف تلعاء الجيد كأنها أزهار الجبل مرتفعة نحو السماء لتتسنم رياها العبق، وشذاها الفواح، وكنت أنظر الاقتران الجليل بين المياه والغابات من ذلك الدير القديم العهد الذي عقدت العزيمة على الإقامة به مجهول المحل مغمور الذكر نائياً عن تقلبات الخطوط وتصاربف الزمن. ولقد كنت أطوف منفرداً نواحي ذلك الدير المنعزل، ولما كان القمر يريق أضواءه المفضضة على أعمدة الأروقة ويرسم ظلالها على الحيطان المقابلة كنت أتريث في السير متأملاً ذلك الصليب الذي يسم أراضي الموت، وكنت أرى الأعشاب الطويلة التي كانت تنمو بين أحجار القبور. ولقد كانت تلك القبور قبور الذين عاشوا بمعزل عن الدنيا وعبروا بمدرجة الزمن من سكون الحياة إلى سكون الموت تملأ قلبي بضروب كره الحياة وصنوف احتقار العيش، ثم نكبت عن تلك الخطة ولست أدري إن كان باعث ذلك هو القلق المستمكن من نفسي أو سابق انحرافي عن حياة الأديرة، ثم قامت في نفسي فكرة السياحة والتطواف فودعت أختي وقد ضمتني بين ذراعيها ضمة تبينت فيها أثر السرور وظل الفرح كأنها كانت جذلة النفس لفراقي، وقد بعثني صنيعها هذا على إرسال الفكر في المحبة البشرية وتناقضها العجيب، ولما كنت الآن في عفرة الشباب محشوّ الجوانح من حماس وقوة امتطيت ثبج بحر الحياة المصطفق الآذي، والمتناووح الرياح، وما كنت أدري ثغوره ومراسيه، ولا أخطاره ودواهيه، فيممت أطلال الأمم التي سحبت عليها الذيول أرواح الزمن، وعصفت بها أعاصير الفناء، ورأيت بقايا رومه وآثار اليونان بلاد القوة والمجد التالد، والذكر المشرفات الخوالد، حيث القصور مدفونة في كثبان الرغام وحيث أضرحه الملوك قد أجنتها الأشواك، فهناك تتجلى قوة الطبيعة أزاء ضعف الإنسان، زهناك يرى المشاهد فصيلة من فصائل النبات نخنرق أحجار تلك القبور الصلبة وتنفذ منها، بينما قد أعيا رفات هؤلاء الموتى

الجبابرة الأشداء رفع تلك الأحجار والخلاص منها. وفي بعض الأوقات يرتفع عمود عال ويخرق سماوة الجو في وسط الصحراء لا أنيس بها كما تنهض فكرة كبيرة من وقت لآخر في نفس قد نالت منها حادثات الليالي وهدمت صروحها صروف الزمن، وكنت أقضى اليوم مفكراً في تلك الآثار وبين لجج من التأملات وكنت أرى الشمس - تلك الشمس التي أبصرت بناء تلك المدن - جانحة للغروب تحفها الروعة والجلال لقد كانت تغرب الآن عن تلك المدن وقدر قمها الدهر في طراز العفاء وكنت أرى القمر يرتفع في صفحة السماء الصافية وكانت أشعته توضح لي مواقع القبور الشاحبة بين القارورتين المكسورتين وكان القمر ينير بسناه المفضض أحلامي وكنت ألمح شبح تلك العصور الغوابر إلى جانبي هائماً في بيداء التفكير ثم أمسكت عن الحفر في تلك التتوابي التي لم أكن أهز منها سوى رفات مجرمين ثم أردت أن أوازن بين الفضائل التي اكتسبتها من الأمم الحية وهل هي أكثر عدداً وأحمد أثراً من الفضائل التي تعلمتها من الأمم البائدة، وحاولت أن أقابل بين الأحزان التي تسربت إلى نفس من الحاضر وتلك التي خلصت إلي من الماضي فلما كنت يوماً أجوب نواحي مدينة من عظيمات المدن ومررت خلف قصر في فناء منعزل مهجور شاهدت تمثالاً يشير بأصبعه إلى مكان شهير بضحية من ضحايا التاريخ ووقد ملك صمت ذلك المكان عليّ مشاعري وغيض من جلادتي ولم أكن أسمع هناك غير أعوال الرياح وأنينها حول رخامه الذي كانت تخفق فوقه أعلام الحزن وكان هناك فريق من الصناع عند أقدام التمثال يستريحون في أكنانه ثم يعودون إلى تحت الأحجار وصقلها وكان يبدو عليهم لوائح عدم الاكتراث فسألهم ما شأن هذا فلحظت على أحدهم أنه يشق عليه أن بحدثني قصته وعلى آخر أنه يجهل النكبة التي ترجع أيام التمثال إلى عهدها. وقد أصبت من تلك الحادثة المقياس الصادق لحوادث الحياة وتقلباتها للإنسان وقيمته وضآلة له قدرة وصغر شأنه إذ كيف كان مصير هؤلاء الرجال حين رن صدى ذكرهم في الكون فقد ضرب الدهر من ضربانه وكر كرته فإذا وجه الأرض قد جدد وبدل، وكنت أنقب في رحلتي عن رجال الفنون وعن الرجال ذوي الأرواح السماوية الذين غنوا الأناشيد للآلهة على مزاهرهم الجوفاء الرنانة وعن السعادة التي تهدلت ظلالها على هؤلاء القوم

الذين كانوا يجلون الشرائع ويفخمون شأن الأديان ويوقرون المقابر وقد صدرت هذه الأناشيد من شعب شعاره التقوى وفيها أثر تلك الموهبة التي تمنحها السماء للأرض ولقد كانت حياتهم زاهية مستنيرة بأضواء الإيمان السامي وقد تغنوا بأسماء الآلهة أفواد ملائكية وكانوا أعرق الناس في السذاجة وكانت أحاديثهم صافية كأحاديث الخالدين أو أحاديث صغار الأطفال وكانت لهم أفكار غريبة في الموت وكانوا يموتون وهم يجهلون الموت كما يموت المولود، وفوق جبال كاليدونيا غنى لي آخر مغن رن صدى صوته في تلك الصحراء أناشيد صاغها أحد الأبطال في تهوين آلام الشيخوخة وقد كنا جالسين على أربع مغشاة بالطحلب وكان هناك جدول تتسلسل مياهه عند أقدامنا وكانت الظباء ترعى على قيد منا بين بقايا حصن قديم وقد نشرت الديانة المسيحية أعلام السلام في تلك الأماكن التي كان بها للحرب والكفاح مستراد ومذهب - أما إيطاليا القديمة البسامة الثغر فقد برزت لي مبتكرات الفن وبدائعه وكنت أجوس خلال هذه القصور الفخمة التي نذرها الفن للدين ونفسي حشوها الرهبة والخوف المقدس فكم رأيت من العمد والأقبية وما اشجى هذه الأصوات التي كنت أتسمعها من تلك القباب ولقد كانت تحاكي صوت الأمواج في المحيط أو أنين الرياح في الغابات والأجم أو صوت الله في معبده ولقد كانت هذه القصور الشاهقات القوائم وتلك العمائر المستشرقات المعالم كأنها مصورة من مخيلة شاعر مهذب الخيال حافل الذهن ولكن ما الذي وعيته من الدروس بعد ذلك التعب والنصب وطيي الفيافي واختراق السهوب وركوب متن البحار؟ لم أجد ما أنيط به ثقتي عند القدماء ولم أر شيئاً عليه طابع الجمال وميسم الحسن عند المحدثين، فالماضي والحاضر تمثالان ناقصان الأول كسرته الأجيال السالفة والثاني لم يتسلم الكمال بعد من يد المستقبل وقد يشملكما العجب وأنتما من قطان الصحراء وروادها لأني في كل هذه السياجات لم أتكلم عن أثر من آثار الطبيعة. في يوم من الايام رقيت ذروة جبل أطنه حيث البركان المتنمر الثائر في وسط الجزيرة وقد شاهدت هناك مشرق الشمس في موكب الأضواء في الأفق المنبسط الممتد وكنت أرى صقلية صغيرة متضائلة كأنها بركة تحت أقدامي وكانت امواج البحر تتابع على مسافة وقد كانت الأنهار تتراءى لي كأنها خطوط على المصور الجغرافي. هذا ما كانت تلمحه عيني من جانب وأما في الجانب الآخر فكانت تطالعني فوهة جبل أطنه

الناري وكنت أرى أحشاءه الملتهبة من بين ذلك البخار الأسود المرتفع من صدره، وإن شاباً ممتلئاً بالعواطف يجلس على فوهة بركان منهمل الدموع نادباً حظ الإنسانية التي لا يكاد يرى آثارها من مجلسه هذا لجدير أن تسعه رحمتكما ويشمله حنانكما ولكن مهما اختلفت ظنونكما برنيه فإن هذا الوصف يظهر لكما صورة أخلاقه ومن ثم كان صوب ناظري ما عشت كون عظيم القدر غير المحسوس وهاوية سحيقة مفتوحة إلى جانبي. . وبعد نطق هذه الكلمات استولى على رنبه سكون وتاه في أودية التأملات والتفكير فنظر إليه الأب سويل نظرة استغراب أما الشيخ البصير شكتاس لما لم يسمع كلام زنيه فأخذ يفكر في أسباب ذلك الصمت ثم لمحت عينا زنيه فريقاً من الهنود مارين من السهل وقد شملهم السرور ورفت على وجوههم لمحات الابتهاج والصفاء فاكتسى وجهه هيئة الحنو والرفق في أسرع من نغبة الطائر وانسكبت من عينيه الدموع دراكاً وهتف قائلاً أيها المستوحشون السعداء لم لا يتاح لي هدوء مثل المتاح لكم ولقد طوفت في الآفاق وجنيت من تجوالي ثمرة قليلة وأنتم تستظلون في هدوء تحت أشجار البلوط وتتركون الدهر وحبله على غاربه لا توكلون به فكراً وتدعون المقادير تجري في أعنتها غير حاسبين لها حساباً ولا تفكرون في غير حوائجكم ومرافق حياتكم وتصلون لي غاية الحكمة من طريق أقرب وأوضح من الطريق الذي نسلكه إليها مثل الأطفال بين اللعب والنوم وإذا أرهقكم يوماً ذلك الحزن الذي ينشأ وفرة السعادة وفيض النعيم فسرعان ما تصدع أرواحكم عنها قيوده وعيونكم موجهة نحو السماء تبحث هناك في رفق وهوادة عن ذلك الكائن المستور الذي يرسل عليكم رحمته ويحوطكم بعنايته. وهنا ضعف رينيه وأمسك عن الكلام وأسند رأسه إلى صدره فمد شكتاس يده في الظلام ولما قبض على ذراع ولده رنيه قال له بصوت تترقرق فيه مياه الإخلاص ويسمع من نبراته صدى الحب: يا ولدي - يا ولدي العزيز فاستفاق رينيه من غشيته عند ما ولجت في أذنه تلك الكلمات وسأل أباه الصفح عنه ثم قال شكتاس إن نبضات قلب مثل قلبك لا تكون متساوية متناسبة ولكن نهنه من غرب طباعك التي ساقت إليك الكثير من صنوف الأكدار وضروب الآلام وإذا كان نصيبك من شقاء الحياة وعثور الجد أوفى وأوفر من نصيب غيرك فلا يهولنك ذلك ولا يرعك فإن الروح الكبيرة الواسعة تحي من ألوان الحموم وأفانين الآلام ما لا تتيع له الروح الصغيرة فاستمر

الآن في سرد قصتك وقد طفت بنا قسماً من أوروبا فحدثنا الآن عن وطنك وأنت تعلم أني قد زرت فرنسا وإن شوابك المودة تصلني بها وإني لصديان النفس إلى نهلة من أخبار ذلك السلطان ذي الأبهة والجلال لويز الرابع عشر الذي قد تصرم عصره وانطوى زمانه وقد زرت مقصورته الفاخرة وإني لا أنظر الآن سوى بعين الذاكرة وإن الشيخ الفاني المتهدم وما يحوطه م الذكريات ليشبه شجرة هرمة من شجرات السنديان في غاباتنا فإن هذه الشجرة تعجز عن أن تتزين بأوراقها فهي تستر في بعض الأوقات صلعها بالنباتات الغريبة التي تترعرع حولها وتتشبث بهاوقد هدأ هذا الكلام ثائرة رنيه فعاد إلى سرد حوادث حياته قال: إني لآسف إذ ليس في وسعي أن أذكر الزمن من الأفيح والعهد الزاهر وإني لم أنظر سوى تصرمه في أبان طفولتي وقد كان عهده زال وزمانه مضى لما عدت إلى وطني ولم يحدث في أية أمة بغتة تحول أكثر ابتعاثاً للغرابة وإثارة للدهشة من ذلك التحول الذي حدث بفرنسا فقد أسفت من سماء العبقرية إلى الحضيض الأوهد من ضؤولة الروح وحقارتها وانحطت من توفير الأديان وإجلالها إلى عدم التقوى والطغيان وتدلت من الأدب والحشمة إلى الفجور والفسق وقد كان من العبث أن أصيب فيها هدوءاً لخواطري القلقة وسكوناً لرغبات نفسي الحرار ولم أكن قد استوعبت بعد دروس الحياة ولم يكن بي على رغم ذلك سرور الغفلة وراحة الجهل وكان يتبين لي من سلوك أختي الغريب وتصرفها المبهم معي إنها يلذ لها أن ازداد تبرماً بالحياة وعزوفاً عن العيش وكانت قد رحلت عن باريز بأيام قلائل قبل عودتي فكتبت إليها أخبرها أن في نيتي أن ألحق بها ولكنها أبطأت في الرد لترجعني عن ذلك العزم بدعوى جهلها بالمكان الذي قد تقصده لإنجاز ما ترومه من الأعمال فكم توارد عليّ إذ ذاك من الخواطر الحزينة في الصداقة التي يزيدها القرب فتوراً وانحلالاً ويعفى البعد على معالمها ولقد كنت إذ ذاك غريباً في وطني وأردت أن أغامر في طلب دنيا تلفظني ولا تأبه بي وروحي التي لم يسترقها الهوى كانت تسعى وراء ما يقتاد أهواءها ويستنزل حبها ولكني تبدي لي أني أهب من الحب وانعطف أكثر مما يمنح لي ورأيت الناس لا يتطلبون مني منطلقاً مهذباً سامياً ولا شعوراً رائعاً عميقاً وكنت أحاول أن أصغر من شأن وأقتل من قيمتها أجعلها في مستوى الجماعة.

وكان الناس في كل مكان ينظرون إليّ نظرتهم إلى رجل مفعم النفس بتهاويل الخيال وتصاوير البطولة وقد كنت خجلاً من الدور الذي أحاول تمثيله ولما كان كل يوم يزداد نفوري من القوم ومن مشاغل حياتهم رأيت الإقامة في ضاحية من الضواحي حيث أمضي تحت غياطل النسيان وخمول الذكر وقد أصبت في الأيام الاولى من تلك الحياة سروراً وراحة ولما كنت مجهول المحل مغمور الذكر صرت أدخل أحياناً في غمار الناس وأندس في جموعهم تلك الصحراوات الواسعة الجرداء وكنت كثير الجلوس في كنيسة قل ورادها وكنت هناك أذهب الساعات في التأمل والتفكير وكنت أرى النساء الفقيرات يعفرن وجوههن في طلب المغفرة وحسن المآب وكنت أرى المذنبين راكعين للندم ولقد كان ينصرفون عن ذلك المكان بوجوه باشة رائقة وإن ذلك الصياح الأصم الذي كنت أسمعه من الخارج كان يشبه صوت أمواج العواطف المغتلمة وزوابع الدنيا الثائرات التي كانت تفني عند أقدام تمثال السيد ولقد كان الله هو الشهيد على سيل تلك الدموع التي أسلمتها المحاجر هناك وكم ألقيت نفسي عند قدميه في ضرع وخشوع متوسلاً إليه أن يرفع عني أعباء الحياة أو يغير مني الإنسان القديم ومن الذي لم يشعر بحاجته إلى تجديد نفسه وإن يعيد ريعان الشباب من أمواله الغدير ويقوي روحه من ينبوع الحياة؟ ومن لم يجد نفسه موقراً بأثقال من نفسه تعجزه عن الاضطلاع بعظيمات الأمور والنهوض بجلائل الأعمال من نبل وشرف وعدل وقسطة؟ ولما كان المساء يقبل ساحباً أذياله في الأفق كنت وأنا عائد في طريقي إلى مكان عزلتي أقف على قنطرة في الطريق لا شاهد غروب الشمس وقد كانت الشمس تتراءى للناظر وهي تضيء من بين الأبخرة الكثيفة المتصاعدة من المدينة كأنها تنساب في سيال من الذهب وكأنها تتحرك مثل (البندول) في ساعة الزمن وكنت أصل منزلي وقد أفرغ الظلام أبراده على أعطاف الارض وكنت أسير في طرق كثيرة التعاريج والمنحنيات منعزلة ولما كنت أرى الأنوار اللامعة من منازل الناس كان ينتقل بي الفكر إلى داخل تلك المنازل وما انطوت عليه من مناظر الشقاء أو مرائي السعادة وكانت تمر بي خاطرة ممضة مؤلمة وهي أن تحت سقوف تلك المنازل ليس لي صديق يخفق قلبه بحبي ويهتز للقائي وكنت وأنا أسامر هذه الأفكار اسمع دقات جرس الكنيسة وكان يرن صداها وينتشر في جميع النواحي

فواأسفا على الإنسان ووارحمتا به فإن كل ساعة تمر تفتح قبراً بين القبور الإنسانية وتستذيب فؤاد الصابر الجلد وتستنزل دموع الأبي الأصيد ثم سئمت تلك الحياة التي ابتسمت لي زهرتها في الأيام الولى ومللت من ترديد أفكاري وأخذت أفتش في زوايا القلب وأحفر في قبور نفسي عما أبتغيه فلم أهتد إلى شيء ولكن خيل لي أن الغابات تؤنس من وحشتي وتجلى من حزني وقد استبدلت بي فكرة إذهاب حياتي في منفى ريفي ولم يكن قد مضى من حياتي سوى سنوا قلائل كنت أشعر أني قد عشت فيها الأجيال المتطاولة وقد حبذت تلك الفكرة وأقبلت عليها بالحماس الذي كنت أفيضه على كل ما يسنح ببالي ويهجس بخاطري وأسرعت في الانتقال لا تواري عن العالم في كوخ وقد كنت متهماً عند الناس بتقلب في الأميال وذبذبة في الأهواء وقد طالما أسحوا وأهضبوا في حديث عجزي عن البقاء على وتيرة واحدة وأسلوب متشابه وقالوا أني رهينة لكل عصاف من الأماني فريسة لكل جامح من الأهواء وإني شديد الرغبة في سرعة النفوذ إلى أعماق المسرات كأنما يضجرني بقاؤها واسترارها وكنت منسوباً إلى أني أتخطى حدود رغباتي وأجاوز دائرتها وإني من المسترسلين في البحث وراء كمال مجهول تحدوني على طلبه فطرتي وماذا على من العاب إذا كنت أرى في كل ما يحوطني حدود لرغباتي العريضة وأماني نفسي الواسعة البعيدة وقد صرت أشعر في تلك الأيام برغبة في توالي إحساسات الحياة وتكرارها وبقائها على طراز واحد وعندما كان يعتادني في بعض هذه الأوقات وهم البحث عن السعادة كنت أنقر على مكامنها وأفتش على مواطنها فيما ألفته وتعودته وقد كانت تتغشاني غشية ازاء سكون الطبيعة الخرساء تنقلني إلى حالة يعجزني وصفها ولقد كنت بعيداً عن الأهل وحيد من الخلان ولم تكن أشعة الحب قد أشاعت في نفسي أضواءها وصرت أشعر بثقل حمل الحياة وكنت أحياناً يصيبني الخجل فجأة وأظن أن أنهاراً من الأمواه الحارة تتدفق في نفسي وكنت في بعض الأوقات أرسل صيحات وصرخات على غير إرادة مني وكنت أبيت بليلة الملسوع تطرفني الأحلام المخيفة وتتأوبني الخيالات الرهيبة وكان يعتادني الأرق فأغتال الليل مسهد الجفن مشرد الفكر وكنت في افتقار إلى ما أملأ به هاوية حياتي فكنت أهبط الوادي وأفرغ ذروة الجبل ناشداً في كل منهلة طالباً في كل مكان تلك الصورة الخيالية لحبي المقبل وكنت أقبلها في الرياح وكنت كأنني أسمع صوتها الندي في خرير

مياه النهر ولقد كانت تتراءى لي صورتها في كل ما تأخذه العين وفي النجوم الزاهرات في صفحة السماء الجائدات بباهر اللألاء في كل وجوه الحياة ومناحي العيش وهذه الحالة مترجحة بين الهدوء والسكون لم تكن خيالية من أسباب السرور فقد كنت أخفف من غلواء أشجاني بتناول غصن من أغصان صفصافة كانت ترمي ظلالها على ضفاف جدول وكنت أعرى الغصن من أوراقه وكنت أرسل خاطرة وراء كل ورقة يجري بها تيار الجدول ولن يكن هم الملك الذي يخشى ضياع تاجه وانحلال ملكه بثورة تضطرم نيرانها ويتوقد جاحمها بغتة بأكثر من همى عندما كان يصادم الورقة وهي محمولة على التيار ما عسى أن يقطعها فما أضعف الإنسان وما أشد طفولة القلب الإنساني الذي تتبدل الأحوال وهو باق على حداثته لا تعلوه كبرة ولا يمسه هرم وانظر إلى أي طور من أطوار الطفولة قد يرجع بنا العقل وأنا كثيراً ما نعقد آمالنا بأشياء لا قيمة لها مثل أوراق تلك الصفصافة وإني ليعجزني التعبير عن تلك الطوائف المختلفة من الإحساسات التي كانت تتكاثر عليّ وتتغاير إليّ وإن أصداء نوازع النفس وأميالها في فضاء القلب موحش قفر مثل حشرجة الرياح وخرير الأمواه في سكون الصحراء وصمتها وإن تلك النوازع لتثور في أنفسنا ولكنا لا نملك التعبير عنها وقد أقبل الخريف وأنا بين هزاهز الحيرة ومعتلجات الشك واستقبلت شهر العواصف مفعم الخاطر ملآن النفس وكنت أغبط الراعي الذي كنت أراه يدفئ يديه في النار الكليلة التي أشغلها في الغابة وكنت أستمع إلى غنائه الفياض بالشجى والذي يقرع من النفس أوتار الحزن فيحرك ساكن الشجن ويوقظ راقد الألم وكان يذكرني غناؤه أن جميع الألحان الطبيعية مترعة بالحزن حتى تلك التي توقع عليها أنغام المسرات وأناشيد السعد وما القلب سوى آلة موسيقية غير تامة - مزهرٌ تنقصه أوتار السرور فترغم على أن نوقع نغمات السرور على تلك الاوتار الخاصة بالأنين والحسرات. وفي النهار كنت أهيم على وجهي في الأراضي الجرداء التي تفضي إلى الغابات وقد كانت أشياء قلائل تستغرق تأملاني وتستأسر بأحلامي فمن ورقة جافة تذروها الرياح أمامي ومن كوخ يتصاعد منه الغبار إلى أعالي الأشجار الصلعاء ومن طحلب متعلق بأشجار البلوط الذي كان يهتز ويرتعش عند هبوب رياح الشمال ومن صخرة نائية منفردة ونهى مهجور تسمع فيه حفيف البردي الذابل وكانت قبة جرس الكنيسة القائمة في النواحي البعيدة

تسترعي نظري وكنت أتبع نظري الطيور السابحة في الفضاء وكنت أصور لنفسي تلك الشواطئ المجهولة وأجواء تلك النواحي القاصية التي تؤمها الطيور وكنت أتمنى أن أكون محمولاً على أجنحتها وكان قد رسب في أعماق نفسي سر غريزي يكاد يصدع أركانها ويرجف جوانبها وكنت أشعر أني كمسافر له كل يوم جيئة وذهاب ورحلة ومآب ولكن صوتاً منحدراً من السماء كان يصب في مسمعي إن وقت سفرك لم يحن بعد فترقب هبوب رياح الفناء وعند ما تهب حوّل بصرك صوب تلك الأراضي التي يشتاق قلبك إليها وتنزو نفسك حنيناً إليها فهبي أيتها الرياح التي ستحمل رنيه إلى حياة جديدة. ولقد كنت أقول ذلك وأنا سائر سيراً حثيثاً وعلى وجهي آيات الحماس والتوقد وكانتالرياح تعصف بشعري وتلاعبه ولم أكن أشعر بالمطر المتساقط ولا بالجليد وكنت أسير شارد اللب مُتّله العقل وكأنما شيطان قلبي قد امتد رواق سلطته على سائري وفي الليل كانت رياح الشمال تهب فتهتز الكوخ والمطر يتساقط غزيراً على جوانبه وكنت إذا اقتربت من النافذة أبصر البدر يشق السحب المتراكمة وينساب بين الغمائم السوداء كأنه زورق أبيض اللون يغالب الأمواج وكنت أشعر أن الحياة تزداد في أعماق نفسي وإني أصبحت من القوة بحيث أستطيع خلق أكوان ولم يكن إلى جانبي أحد أسر إليه تجاريبي فيا رب لو كنت وهبت لي زوجة طبق إرادتي أو فعلت معي ما فعلته مع ابي البشر آدم ومنحتني حواء من أضلاعي لكنت أسجد قبالة صاحبة ذلك الجمال السماوي وكنت أضمها إلى في ذراعي متوسلاً إلى الله أن يهبها الأيام الباقية من حياتي ولكنني كنت مستفرداً واحداً في الأرض واستحوذ على جسمي إذ ذاك فتور وعاودني الملل القديم الذي عرفته من عهد طفولتي مشدود القوى مستحصد المريرة وامتنع القلب عن أن يمد الفكر بعناصره الكريمة وكنت أتقرا وجودي بذلك الملل العميق في نفسي وكنت أناهض في نفسي هذا الداء ولكن بدون رغبة متينة في إخماد جمرته وقل شوكته. ولما لم أجد ما يأسو جروح قلبي الكوالم التي يكن لها من جسمي مكان خاص بل كانت في كل ناحية منه عقدت العزيمة على الانتحار وأني الآن أسال الأب سويل أن يسامح بائساً غاب عنه صوابه ولقد كنت جافل النفس بالدين ولكنني كنت أسألك في التفكير مسالك الملاحدة والكفرة وكان قلبي يهوي الله ولكن عقلي كان ينكره.

ولقد كانت أخلاقي وأحاديثي واحساساتي متناقضات متنادة سوداء مظلمة ولكن هل يعرف الإنسان دائماً قيمة نفسه؟ وهو هو دائم الوثوق بما يدور في خلده من الأفكار ولقد فشلت في كل شيء وخدعتني الصداقة وغرتني الدنيا والعزلة. ولما كنت منبوذاً من المجتمع متروكاً من أمليا وأصبحت الوحدة لا تسر خاطري ولا تحث لي سلواً صرت أقول في نفسي لماذا أبقى على قيد الحياة؟ لقد كانت أمليا مٍجنى من عاديات الزمن الزمن وموثلي من ظلم الليالي والآن قد تركتني، ولما وقر في عزمي أن أطرح عن كاهلي أعياء الحياة عزمت على أن أصب كل همتي إلى ناحية هذه الفكرة النزقة ولم يكن هناك ما يبعث على الإسراع في إتيان هذا العمل ولم أضرب موعداً لساعة مبارحتي الحياة لأتملى من محاسن الوجود قبل الرحيل عنه ولأستجمع قواي كي أحس خروج الروح كما كان يفعل القدماء ورأيت من الضروري أن أعد التدابير اللازمة لما تمتلكه يدي من أمتعة فجبرت على أن أكتب لامليا كتاباً يحوي شكوى قصيرة من نسيانها لي وإهمالها لشأني وذكرت في تضاعيفه شيئاً قليلاً عن الحزن الذي قد أخذ بزمام قلبي وحسبت بذلك أنني قد واريت عنها ولكن أختي تعودت قراءة ما في سريرتي بدون عظيم مشقة وقد راعها التكتم الذي ينم عنه الخطاب وكثرة سؤالي عن أشياء لم أكن أهتم بها من قبل فلم ترد علي ولكن فدكت بنفسها وإذا أردتما أن تدركا مقدار فرحي برؤيتها فينبغي أن تعلما أنها كانت الشخص الوحيد الذي أنيط به حبي وأعقد به رجائي وإن كل شعور اختلج نفسي متصل بها فهي رفيقة طفولتي وأليفة أيامها الرائقة النضرة واستقبلت امليا بفرح شديد وكان قد مضى زمن لم أجد فيه من يفهمني ومن أفتح له مغاليق نفسي وأنشر له مطاويها وقد ألقت امليا نفسها بين ذراعي قائلة أيها الناكر للجميل أتريد الموت وأختك باقية في الدنيا؟ أتستريب في حبها لك؟ ولكن لا تعتذر عن نفسك فإني عرفت أميالك بحذافيرها كأني كنت حاضرة أملاك. أتظنني من اللواتي يرجح خداع الناس بأميالهن وأنا التي شاهدت نشأتك وميلاد عواطفك ولكن باعث كل هذا شقاء نفسك وتبرمك بالحياة وبعدك عن شرعة الإنصاف فتقسم لي الآن بكل محرجة من الأقسام وأنا أضمك إلى قلبي أن هذه آخر مرة تلقى فيها مقاليد نفسك إلى النزق والطيش وإنك لن تعود إلى التفكير في الانتحار. وكانت وهي تنطق بهذه الكلمات تنظر إليّ نظرات ملؤها الحنو والشفقة وكانت تغطي

جبهتي بالقبلات ولقد كانت كآلام الرؤوم بل كانت أكثر من ذلك وأسمى ففتح لها القلب أبوابه وأباحها ملكه وكنت في يدها كالطفل فأقسمت لها اليمين التي تريدها ولم يكن في إعتقادي أن البؤس سيجد إليّ سبيلاً بعد هذا ومضى على اجتماعنا الساحر البهيج أكثر من شهر ففي الصباح كنت أسمع صوت أختي فأشعر في نفسي برعدة فرح وهزة طرب وكانت الطبيعة قد حبتا مليا بصفات مقدسة فكان لروحها من الخفة البريئة والظرف ما لجسمها من البضاضة واللدونة وكان لإحساسها ما لا يجد من الوداعة والعذوبة واللين وكانت لها نفس حلوة لذيذة خيالية حالمة وكان الناس يقولون أن بين قلبها وفكرها وصوتها تناسباً تاماً وكان لها من صفات النساء الحياء والمحبة ومن صفات الحور الطهارة ورخامة الصوت وجاء الزمن الذي أكفر فيه عن هفواتي السابقة فقد سألت الله مرة في هذياني أن ينزل بي ملمة لتكون لي سبباً محسوساً يبعث على الألم ويدعو إلى الحزن وقد استجاب الله هذا الطلب الرهيب في ساعة من ساعات غضبه وبماذا أبوح لكما الآن يا أخوي؟ انظرا فهذه الدموع تسيل من جفني تباعاً. ومن منذ أيام لم تكن في وسع أحد الوقوف على حقيقة ذلك السر الذي اكتتمته ولكن الآن قد قضي الأمر وإنه في كل وقت ينبغي أن تدفن هذه القصة في قبور النسيان فتذكرا أني قد قصصتها عليكم تحت ظلال سرحة في الصحراء - ثم تحمل عنا الشتاء وشاهدت أن امليا تفقد راحتها وتشكل صفوها وأنها أخذت في النحول ونال منها الوهن وبأت عيناها تغوران واصبحت مشيتها بطيئة وصوتها قلقاً مضطرباً وقد فاجأتها يوماً تبكي عند أقدام صليب من الصلبان وأصبحت الدنيا والوحدة ومرور الليل والنهار - أصبحت كل هذه المظاهر تخيفها وبرعبها وكان يرتسم على شفتها الألم والملل. وكانت في بعض أوقات تقبل على العمل بدون كلال أو تعب وفي بعض الأوقات كان يجهدها المشي وكانت تبدأ العمل ثم تتركه وتفتح كتاباً للقراءة ولا تقرأ منه سطراً واحداً ثم تنهل من عينها بوادر الدموع فتطلب العزلة والعبادة وقد حاولت عبثاً الاهتداء إلى سرها ولما سألتها مرة وأنا أضمها بين ذراعي قالت لي بابتسامة حزينة أنها مثلي لا تدري سبباً لما بها ومر على ذلك ثلاثة أشهر وكانت حالتها تزداد سوءاً في كل يوم عن سابقه وظهر لي أن مكاتبان سرية كانت تصلها فتسبب لها البكاء وكانت تبدو عليها علامات الهدوء أو

الانفعال تبعاً للخطابات التي كانت تتسلمها وفي صبيحة يوم لما تولي ميعاد تناولنا الإفطار صعدت إلى مخدعها وطقت الباب فلم يجبني أحد ففتحت الباب فلم أجد أحداً في المخدع ثم رأيت على المدخنة خطاباً باسمي ففضضته وقرأته وحفظته معي لأطرد عن نفسي الأيام المقبلة كل خاطره فرح وسانحة سرور وهذا نص الخطاب: - إلى رينيه يعلم الله يا أخي أنه قد طالما وهبت لك حياتي لأطوي عنك فترة من فترات الألم ولكن لأقول نجم الحظ لم أوفق إلى طريق إسعادك ولم أهتد إلى سبيل الترفيه عنك وإني أرجّي أن يكون من ذلك العجز الواضح شفيع لديك وعذير إليك إذا أنا تلمست الخلاص منك وركنت إلى الفرار كمن قارفت ذنباً أو ارتكبت إثماً فليس لي يدان بدفع توسلاتك وقد حم الرحيل وأظل الفراق وقد جاء الوقت الذي ألبى فيه النداء المهيب الذي كان يتصبب في أذني من نواحي السماء مهيباً بي. لماذا تريثت إلى الآن؟ وأنت تعرف يا رينيه جنوح نفسي من عهد الحداثة إلى الحياة الدينية وقد كنت باقية في الحياة من أجلك فافسح لي فناء العذر فقد أدتني الأحزان لمفارقتك وإني في هذه الأيام يا أخي العزيز لأدرك من صميم نفسي وأشعر من أعماقها بضرورة هذه الملجئ التي أعهد فيك الأعراض عنها والأزوار عن جانبها وإن هناك من أفانين الشقاء وألوان المصائب ما يسوقنا إلى اعتزال الناس وإذا الناس وإذا لم يكن هناك تلك الأديار فإلى أي ركن كان يلجأ الهارب وفي أي ظل يحتمي وأكبر ظني أنك تلقي يا أخي العزيز الراحة المنشودة في تلك العزلة الدينية فليس في الأرض منزل يليق بكرامتك والناس أنذل وأقل قيمة وأقل قيمة من أن تعايشهم وهل تطن أن هناك شيئاً أكثر مجلبة للاحتقار أو مدعاة للأهوان من أدامة التفكير في ترك الحياة ورفضها وإذا كان إنسان له سجايا كسجاياك وطبائع كطبائعك يجد الموت سهل المساغ عذب المور فماذا تظن بحاجة أختك إلى الموت وتعلقها بالموثق فإني أعرف وفاءك وصدقك وقد أقسمت أنك ستعيش من أجلي ولكن يا عزيزي رينيه العزلة جانباً واخرج من أفيائها إلى مضاحي العمل وأبحث عن وظيفة لك وإني أعلم إنك تبتسم ابتسامة مرة معلقاً بأطرافها السخر من مجاري الأحوال في فرنسا وتزهد في الالتحاق بوظيفة ولكن لا تحتقر تجاريب آبائنا وحكمتهم في الحياة فقد كان نفعهم عمماً وخيرها شاملاً وكانت أقل من غيرها تعطيلاً لمصالح الناس وإضراراً بهم واتبع أسلوب الحياة الذي يعيشه أكثر الناس لتكون

أقل شقوة واندر كسوف بينا ولقد تصيب في الزواج قرة لعينك وسلوانا فتقضي الأوقات مع زوجتك وأولادك وأي امرأة لا تستفرغ جهدها في إشعارك السرور وإدخال الابتهاج على ننفسك فإن روحك النارية المتوقدة وعبقريتك الجميلة المشرقة وسمتك وما عليه من شارة الجلال والأبهة وما يقرأ في ملامحك من معاني الإباء وعزة النفس والعطف والحنان كل هذه الصفات والشمائل تجعلك تستوثق من حبها لك ولا تستريب في قصر هواها عليك وانصباب أميالها نحوك لترد عنك كياد الأحزان وتبطل أسباب الآلام وستضمك بين ذراعيها ضمات تنم عن الحب الدخيل وتبوح بالهوى المستمكن الأصيل وتكون لك ينبوعاً عذباً من الصفاء ومورد إخلاص ازرق الجمات وسأرحل إلى دير. . . فإنه مبني على شاطئ البحر وموقعه يلائم روحي ففي الليل من وسط غرفتي أسمع خرير الأمواج التي تغسل حيطان الدير وأفكر في تلك الجولات التي كنا نجولها معاً في وسط الغابة يوم كنا نظن أننا نسمع صوت البحر من قمم أشجار الصنوبر المهتزة. فيا رفيق طفولتي العزيز قل سنلتقي بعد ذلك وأعقد بك الحاظاً شيقة لرؤيتك وقد كنت أكبر منك سناً بأعوام وقد هززتك في مرقدك وكثيراً ما كنا نرقد في مرقد واحد فهلا ضمنا قبراً واحد يوماً ما ولكن أني يكون ذلك وأنا سأرقد وحيدة تحت رخام المعبد حيث نستريح الراحة الأبدية هؤلاء الفتيات اللواتي لا يأبه بهن أحد ولست أدري إن كنت سنتمكن من قراءة هذه السطور التي قد بللتها الدموع ولقد كان فراقنا أمراً محتوماً ليس في قدرتنا أن نستدفعه وأنت تعرف حيرة الإنسان وأنت تعرف حيرة الإنسان من حوادث الحياة وتدري صغر قيمتها وإني أذكرك بصديقنا الصغير م الذي مات غريقاً في جزيرة فرنسا والذي لما تسلمت آخر خطاب منه بعد مرور أشهر على موته كان جسده رهين الحفائر وفي الوقت الذي بدأت فيه تلبس عليه ثياب الحداد كان الناس قد تناسوا الحزن عليه في الهند فما قيمة الإنسان الذي تغيب ذكراه هكذا عاجلاً في سباسب النسيان؟ فريق من أصدقائه لم يصلهم بعد نبأ موته بينما الفريق الآخر قد تعزوا فيا عزيزي رينيه بل يا أعز الأعزاء هل ستغيب ذكراي من نفسك وتقفر منازل حبي من قلبك بهذه السرعة؟ يا أخي نزعت نفسي منك في الحاضر لكيلا نفترق في الأبدية. حاشية - أضيف إلى هذا الخطاب أني أهبك كل ما تمتلكه يدي من متاع الدنيا ولي أمل

أنك لا ترد ذلك وأن تقبله دليلاً على حبي لك وانعطافي نحوك. * * * ولو أن صاعقة سقطت إذ ذاك عند قدمي لما أحدثت في نفسي الذي أحدثه وقع ذلك الخطاب فما كنه ذلك السر الذي سترته عني امليا؟ وما الذي بعثها فجأة على الإقامة في الدير؟ وهل جملت في عيني الحياة بما خلعته عليها من رونق ودادها الساحر لتتركني على عجل ولم جاءت إليّ وجعلتني أصدف عن خطتي ولقد بعثها إلى دافع الشفقة ولكن لما اعتراها التعب بغتة من تلك المهمة الشاقة نأت بجانبها عن بائس لا يعقد الآمال على غيرها ولا يفكر إلا فيها ومن غرائب الأمور أن الناس يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً إلى من منعوه موارد الانتحار وبقد كنت أشكوها إلى نفسي قائلاً يا امليا يا ناكرة الجميل وجاحدة الفضل لو كنت أنت مثلي قد ضللت السبيل في صحراوات الأيام لما كنت أتحامى القرب منك وأتسلى عن بعادك ولما أعدت قراءة الخطاب تبينت فيه أثر الألم والحزن فأجدّ ذلك جروح قلبي المندملة ثم أومض لي بارق فكرة أنارت في ليل حيرتي وشكي وهي أن امليا قد تكون أحبت إنساناً وكتمت حبه ولم تجرأ على الإباحة بهواها وقد تراءى لي أن هذا الظن يوضح كل ما التبس حزنها وبواعث كآبتها والرسائل الغريبة التي كانت ترد إليها وذلك الحزن الذي يلوح من خلال خطابها فكتبت إليها فوراً متوسلاً إليها أن تكشف لي عن أسرها فأسرعت في الرد ولكن لم تطلعني على جلية أمرها وقالت لي أنها حصلت على إذن لتتدرج في صفوف المتقدمات للرهينة وأنها عن قريب ستقسم اليمين فاتقدت غضباً من إصرار امليا ومن غموض كتابها والتوائه علىى الفهم وعدم ثقتها بمودتي وبعد أن أعملت الفكر وأجلت النظر فيما أفعله حيال ذلك نويت الذهاب إلى ناحية (ب) حيث أبذل هناك ما في طوقي وكانت الديار التي نشأت فيها على الطريق ولما رأيت الغابات التي أمضيت فيها الأيام الزاهرة من حياتي لم أستطع حبس الدموع وإمساك أرسان الأشجان وكان يعز علي أن أمر عليها بلا وداع وأودعها بلا سلام وكان أخي الأكبر قد باع ميراثه ولكن المشتري الجديد لم يسكن في القصر وقد وصلت إليه من ممشى محفوف بالأشجار وكنت أمر بأطرافه المهجورة وكنت أمشي على مهل أنظر النوافذ المقفلة والمكسورة والشوك الذي ينمو عند جدران الحيطان والأوراق الجافة المنتشرة على اوصدة

الأبواب والبهو الذي كان يجلس فيه والدي مع خدامه وحاشيته وقد كانت السلالم يعلوها الطحلب وكان زهر الحيطان الأصفر نامياً بين أحجارها القلقة المهتزو ثم فتح حارس لا أعرفه الأبواب بخشونة فترددت في الدخول فصاح بي الرجل أظنك ستصنع صنيع تلك الغريبة التي جاءت هنا من منذ أيام وعند دخولها أغم واضطررت إلى حملها للعربة وكان من الواضح أن أعرف تلك الغريبة التي جاءت مثلي تودع تلك الأماكن البكاء والعبرات ومواقف الذكر والحسرات ثم سترت عيني بالمنديل ودخلت تحت أسقف ديار قومي وطفت المخادع التي لم أكن أأسمع فيها سوى صدى أقدامي وكان بالقاعات ضوء كليل من الأشعة الضئيلة الداخلة من خلال النوافذ المقفلة وزرت القاعة التي ماتت فيها والدتي والقاعة التي كان يعتزل فيها أبي والقاعة التي كان فيها مرقدي والأخرى التي نشأت فيها الصداقة بيني وبين أختي امليا وكانت كل القاعات عريانة مجردة وكنت أرى هناك نسج العنكبوت ثم خرجت مسرعاً إرجاع لطرف إلى نواحيها فما أرق حواشي الأيام الماضيات إذ عقد الأخوان منتظم وشملهم ملتئم وإذ حلو المذاق وكأس المسرات مترع دهاق ولكنها قصيرة العمر سريعة المر كأنها خطف الوميض يعارض مبراق فإن نفس الله يفرقهم كالدخان فلا يعرف الابن أباه وينكر الوالد ولده وتنسى الأخت أخاها ويتشاغل الأخ عن أخيه وإن شجرة البلوط تضم حولها صغارها ولكن ليس هذا حال بني الإنسان ولما وصلت إلى ناحية (ب) توجهت إلى الدير وطلبت أختي وسمعت أنها لا تقابل أحداً فكتبت إليها فأجابتني أنه ليس في الحق أن ترسل أي فكرة في الدنيا بينما هي تكرس حياتها لله وإني إذا كنت صادقاً في حبي لها أتحاشى أن أقلقها بأحزاني ثم أتبعت ذلك بقولها ولكن إذا كان في عزمك الحضور يوم حفلة دخولي الرهبنة فإني أختار لك أن تمثل فصل الوالد وهذا ما يليق بكرامتك وما يجدر بصداقتك. ولما قابلت بين هذا الإصرار الجاف وبين حماس صداقتي الشديد كاد يطير عقلي ويذهل لبي فكنت أحياناً أحاول العودة إلى منزلي ولكني آثرت البقاء لأبدد نظام الحفلة وقد كان يوسوس في نفسي الشيطان أن أنتحر في الكنيسة وإن أمزج زفراتي الأخيرة بالأنات المتصاعدة من أختي وقد أخبرتني ربة الدير أنهم قد أعدوا مقاعد في المحراب ودعتني لحضور الحفلة التي ستقام في الغد وعند انفجار عمود الفجر سمعت أول دقات جرس

الكنيسة ولما دنت الساعة من الحادية عشر قصدت الدير ولا شيء يصدع حصاة القلب مثل رؤية منظر كهذا ومما يشب الحسرة ويستضرم الكمد أن نعيش بعد رؤيته وكانت الكنيسة خاصة بالناي ثم اهتديت إلى مقعدي في المحراب وقد جلست على ركبتي غير عالم بما أصنع وبما قام في خاطري ثم وقف الراهب أزاء المذبح وفتحت النافذة السرية وأقبلت امليا وقد تزينت بكل لماع من الحلي وفاخر من الثياب وسائر صنوف الأبهة الدنيوية ولقد كانت إذ ذاك غاية من الملاح والحسن وكان يبدو على محياها المشرق معان مقدسة تثير الدهشة والإعجاب ولما بهر ي ذلك الحزن الجليل الفخم الذي أقبل على نفسي من تلقاء القديسة وملا نفسي ذلك الجلال الديني غابت من نفسي كل نوايا الشر للقديسة وخارت قواي وشعرت أني في قبضة يد قوية ولم أجد في قلبي غير إعجاب عميق وخشوع وضرع وجلست امليا تحت مظلة وابتدأت الحفلة على أنوار المشاعل وفي وسط الأزهار والروائح العطرية وعند ما وهبت نفسها وكرست حياتها نزع الراهب عنه ملابس ولم يبق على نفسه سوي غلالة من كتان ثم صعد المنبر وألقى خطبة قصيرة مؤثرة أتى فيها بوصف سعادة العذراء التي وهبت حياتها للسيد ولما قال وهي مثل البخور الذي يتفانى في اللهب استولى على الحاضرين سكون تام وانتشرت الروائح الفردوسية وكانت للناس تشعر أن الملائكة قد هبطت الأرض وكأن أجنحتها ترفرف ول المذبح ولما أتم الراهب خطبته ولبس سائر ثيابه واستمرت الحفلة رأيت امليا وقد ركعت على ركبتها على آخر درج المذبح وكان يعاونها في ذلك اثنان من الراهبات الصغيرات وهنا طلبت لأقوم بالوظيفة الأبوية. ولما سمعت امليا صدى خطواتي المضطربة في المعبد كانت على وشك الإغماء ووقفت إلى جانب الراهب لأقدم له المقص وفي هذه اللحظة شعرت بتجدد ثوراتي واشتعلت في تفسي نيران الغضب ولكن امليا استعادت قوتها ورمتني بنظرة حشوها التأنيب واللوم والحزن كسرت من حدتي واطفأت ما احتدم من غضبي واستفادت أختي من اضطرابي وتقدمت بكبرياء وصيد وكان شعرها الفاخر يتساقط على النيران المقدسة وارتدت برداء كثيف ونزعت الحلي ولكن ذلك لم يزر بجمالها وكان الملل المرتسم على جبهتها قد سترته تحت عصابة من التيلة كان على رأسها النقاب الغريب الذي يرمز للدير والعذراء ولم أرها

يوماً من الايام أجمل منها في ذلك اليوم ولقد كانت عينها النادمة موجهة نحو الأرض ولكن روحها كانت تحلق في السماء ولم تكن امليا قد حلفت اليمين بعد ومن أجل أن تموت من نفسها كل رغبات الدنيا كان لا بد أن تمر من جوف قبر وقد رأيت أختي راقدة على الرخام وعليها غطاء وكانت أربعة مشاعل تزهر في الأركان الأربعة وكان القسيس وهو ملتف في برد أسود وفي يده كتاب قد بدأ الجناز ثم أكملته الراهبات فما أشد السرور الديني ولكن ما أروعه وما أهوله ولم أتمالك عن الركوع حيال هذا المنظر المحزن ثم سمعت بغتة من ناحية المقبرة أنيناً مضطرباً فانحنيت قليلاً وهنا اصطدمت في أذني تلك الكلمات الهائلة (التي كنت أنا المقصود بها) ليت الله يقدر لي أن لا أعود من تلك الرقدة إلى الحياة ويرسل كل رحمته على أخي الذي لم يشاركني في أميالي الأثيمة وهنا انبلج لناظري صبح ذلك السر وغبت عن صوابي وسقطت على الرداء وضممت أختي في ذراعي وقلت يا من وهبت حياتك للسيد المسيح دعيني أعانقك العناق الأخير وأنت في هاوية الموت التي ستبعدك عن أخيك. وقد بددت هذه الكلمات وما أعقبها من سيل الدموع وانهمارهما نظام الحفلة فتوقف الراهب وأقفلت الراهبات النافذة وانصبت جموع الحاضرين إلى المذبح وحملت وأنا مفقود الرشد ولست أحمد صنيع هؤلاء الذين ردوا عليّ مشاعري وعلمت عند رجوع إحساسي أن الحفلة قد تمت وأن أختي أصيبت بحمى شديدة وأنها طلبت مني أن لا أراها فيا للهفة والشقوة! أخت تخشى محادثة أخيها وأخ لا يستطيع محادثة أخته ثم تركت المعبد كما نخرج من مكان تطهير الأرواح حيث اللهب المتطاير والنار المشتعلة يمحوان عنا الآثام ويؤهلاننا للدخول إلى النعيم المقيم والسرور المخلد ولقد نجد في نفوسنا قوة عند مقاومة النكبات التي تحل بنا وتنحت من جانبنا ولكنه يصعب علينا أن نحتمل تبعة شقاء غيرنا ولما أحطت علماً بأسباب شقاء أختي وضحت لي جملة حوادث كانت من قبل مبهمة مثل ذلك المزيج من الفرح والسرور الذي لاح على امليا عند ما كنت أودعها مسافراً لجوب الأقطار وذلك الحذر الذي كان من دأبها عند عودتي وذلك الضعف الذي كان يحجزها عن الذهاب للدير ولقد كان سبب المكاتبات التي تردها عزمها على اللحاق بالدير ورغبتها في ترك ما تمتلكه لي ولقد ذقت الآن إراقة الدموع على الهموم الخارجة عن دائرة الأوهام

الغير المكسوة بأثواب الخيال ولما كانت أهواء نفسي طويلاً بدون وجهة تنحوها وغاية ترمي إليها انثالت كلها وأقبلت من كل مشعب إلى هذا الحزن الجديد ولقد صرت أشعر بضؤب من ضروب القناعة في بلوغ همومي الكمال وقد سرني أن أعلم أن الألم ليس من الميسور أرهاقه مثل السرور ولقد كنت أريد هجران الحياة قبل الساعة التي يريدها الله. ولقد كان ذلك إثماً وقد أرسل الله امليا لتنقذني من حبائله ولتنزل بي العقاب وإن كل فكرة أثيمة أو كل عمل أثيم يسوق إلى النفس رسل الشقاء ولقد توسلت إلى امليا أن أرتضي الحياة وأن لا أأدبر عنها وكان ينبغي لي أن لا أزيد في شقائها. ولقد صرت الآن لا أرغب في الموت وهمومي حقيقة ملموسة ولقد صارت الهموم تملأ جو نفسي وقد كان قلبي بطبيعته وتركيبه كأنما قد صيغ من الضجر والملل ثم تمشي ببالي أن أهجر فرنسا وأرحل إلى أمريكا وفي هذا الوقت كانت هناك عمارة بحرية تتأهب للإبحار من ميناء (ب) إلى لويزيانا فاتفقت مع أحد رؤساء سفنها على الرحلة معه وأعلمت امليا بذلك العزم وأعددت لوازم الرحلة وكانت أختي قد قاربت الموت ولكن الله الذي قدر لها حياة في الدير أطول لم يدعها إلى جواره ولما عاودت الدخول إلى طريق الحياة ذلك الطريق الوعر الذي حفت به المخاطر وأطاف به الهلاك تقدمت ثبتة الجنان ساكنة الطير لملاقاة أحزان الحياة غير ناظرة سوي تباشير الانتصار وآيات الظفر ولقد كانت ترى في وفة الآلام وتكاثرها غاية الفخر ونهاية العظمة. وبيعي الأملاك التي كانت باقية لي والتي سلمتها لأخي والتأهب الطويل للرحلة وهبوب رياح مضادة أطالت كل هذه الأسباب انتظارنا زمناً ليس بالقصير في المرسى وكنت في كل يوم اذهب لأتنسم أخبار امليا واستطلع حوادثها وكنت أعود أدراجي وقد ثارت بنفسي عوامل جديدة تبعث على الشفقة وتدعو إلى الاعجاب وكنت أطوف بلا انقطاع حول الدير القائم على شاطئ البحر وكنت ألمح في نافذة صغيرة ذات قضبان حديدية مطلة على الساحل المقفر راهبة عليها سيما التفكير وكنت أراها تسرح النظر في المحيط حيث الأمواج تهز السفن التي ستقلع إلى أقصى نواحي الأرض وفي ضوء القمر كنت أرى الراهبة نفسها في النافذة ذاتها يشغلها التأمل في المحيط وقد أضاءته أنوار القمر وكأنها كانت تتسمع إلى أرانين أمواج المحيط وهي تنكسر على الساحل المهجور في حزن

واكتئاب ويخيل لي الآن أن صدى الجرس الذي كان يدعو الراهبات إلى الصلاة الليلية والدعاء لا يزال يظن في أذني ولما كان يدق في رفق وكانت الراهبات يتقدمن في سكون إلى المذبح كنت أسير سيراً حثيثاً إلى الدير وكنت أسمع من وراء حيطانه آخر أناشيدهن التي كانت تختلط تحت أقبية الدير بصوت الأمواج الواهي وقد ملأ نفسي السرور والابتهاج ولست أدري كيف أن تلك الحالات التي كان من حقها أن تنمى همومي وتكثر من أشجاني كانت على عكس ذلك تستدفع مرارة همي وتخضد شوكته ولقد كانت تنحدر من عيني الدموع على الصخر وفي الرياح ولكنها لم تكن دموع الغضب ولقد صار حزني الخارج بطبيعته وجوهره عن حد المألوف يحمل في ثناياه نوعاً من الشقاء وإن الإنسان ليسره كل شيء غير مألوف ولو كان في طيه نكبةمن النكبات وكنت آمل أن أختي سيقل حزنها وقد وصلني منها خطاب قبل سفري أكد في نفسي هذا الظن ولقد كانت امليا تشاركني في همومي وتحنو على في اللأواء وقد ذكرت لي أن الأيام انقضت همومها وقالت إنها لا تيأس من السعادة وقد هبت على قلبها نسمات الهدوء من وراء التي قمتها وقالت أن بساطة رفيقاتها وسمو مقاصدهن وانتظام أسلوب معيشتهن كان يرسل السرور والبهجة في نفسي ويبدد منها سحب الأكدار ولما كنت أسمع دوي الزوبعة وأرى طائر البحر من نافذتي يرنق بجناحيه ويغالب العواصف كنت أفكر في السعادة التي نالتها طائرة السماء من وراء العثور على ملأ يرد عنها هوج العواصف وإن ذلك الدير هو الجبل المقدس الذي نسمعه من قمته آخر أصوات الأرض وأول موسيقى السماوات وهنا يخدع الدين النفس عن الإحساس ويطهر حسراتنا وينقيها ويبدل اللهب المتهالك بلهب باق على الأيام ويمزج الدين سكونه وبراءته ببقايا ألعاب قلب يهوى الراحة وحياة قاربت النهاية. ولست أعرف ما تضمره لي المقادير وما ستلده الليالي الحبالي وهل الرياح العواصف ستتبع طريقي ما عشت ثم صدر أمر إلى السفن بالإقلاع وكانت طائفة من سفن العمارة على أهبة السفر عند الغروب وكنت قد نوى أن أقضي الليلة الأخيرة في البر لأكتب خطاب الوداع لامليا وعند منتصف الليل لما كنت مشغولاً بذلك ولما كانت الأوراق مبللة بدموعي وكان عزيف الرياح مرتفعاً تسمعت في صوت العاصفة المرنان فميزت صوت المدافع مختلطاً بدقات جرس الكنيسة فلجأت للساحل وكنت منفرداً وكان الشاطئ قفراً

موحشاً لا يسمع الإنسان فيه إلا ترانيم الأمواج فجست على صخرة وكانت على جانب مني تزخر أمواج البحر المؤتلفة وعلى الجانب الآخر حيطان الدير الشاهقة التي كانت كأنما تغيب عن نظري في السماء وكانت تنبعث أضواء من النافذة ذات القضبان فهل كنت أنت يا امليا الساجدة أمام الصليب متوسلة إلى الله أن يرأف بأخيك وإن صور الزوبعة الثائرة في البحر والسكون السائد في الدير والناس تنكسر على الصخور في النواحي المجاورة له ومنظر اللانهائية الواقعة على الجانب الآخر من ذلك الدير ونور المصابيح المضطرب من السفن والمنار في الدير الذي يرسل الأنوار في سكون وحياة الملاح الذي لا يدري ما تبطنه له الأيام المقبلة فوق ذلك الزاخر الهزج وحياة الراهبة في الدير التي تعرف كل مستقبلها لأن حياتها صور متشابهة ومن ناحية أخرى روح هوجاء ثائرة في غرق أشد هولاً من الغرق الذي يغشاه الملاح - كل هذه القصور لا تزال منقوشة في صفحة ذهني مائلة لعين ذاكرتي فيا سماء تلك الأرض الجديدة التي تشهد الآن دموعي السواجم ويا صدى الشواطئ الأمريكية الذي يردد الآن كلماتي لقد كان في اليوم التالي لتلك الليلة الرهيبة وأنا مضطجع في السفينة أن نظرت أرض وطني تختفي عن نظري إلى الأبد ونظرت النظرة الأخيرة إلى الأشجار المهتزة التي تنمو على شواطئ وطني وكانت بروج الكنائس تصغر في الأفق. ولما أتم رينيه قصته أخرج من ثيابه ورقة ناولها للأب سويل ثم رمى نفسه بين ذراعي شكتاس وأومأ إلى الأب - ويل وهو يحاول إخماد زفراته أن يقرأ الخطاب من رئيسة دير (ب) ويشمل تفاصيل آخر ساعة من ساعات الأخت امليا التي ماتت شهيدة حماسها وكرمها في القيام على رفيقة لها كانت مصابة بمرض معد وقد كان الحزن عليها عاماً في الدير لأنها كان لها المحلة العليا في نفوس الجميع وكن يجللنها أجلالهن للقديسات وأضافت تلك الرئيسة قولها أنها في الثلاثين سنة التي قضتها في الدير لم تنظر راهبة لها سهولة أخلاقها وتوازنها ولم تر راهبة قابلت الموت ببشاشة ورحب صدر مثلها - فضم شاكتاس رينيه في ذراعه وقال له يا ولدي لقد كنت أود أن يكون الأب أوبري هنا فلقد كان من شيمه التي عرف بها أنه يجرد من قلبه هدوءاً يخمد عواصف العقل ولقد كان مثل القمر الاضحيان في الليالي الباكيات المتعلقات بالحب فإن تلك السحب المتراكمة التي تزجيها الرياح لا تعوق

سير القمر وهو يتقدم في هدوء وصفاء في وسطها أما أنا فكل شيء يسبب لي اضطراباً ويحدث فيّ هزة ولكنه ستهوي أميالي ويقتاد أهوائي وإلى هنا كان الاب سويل صامتاً لا ينطق مرسلاً على معارفه سيما الجد وكان يحمل بين جانحيه قلباً حدباً رقيقاً ولكنه كان يلبس مظاهر التعبيس والانقباض وما أظهره شكتاس من الاحساس جعله يعدل عن صمته ويقول لرينيه إني لم أجد شيئاً يستحق الشفقة والمرحمة في قصتك وإني أرى منها شاباً مفعماً بالخيالات يؤلمه كل شيء ويترك ما عليه من الواجبات الإنسانية ليندفع في تيار أفكار لا طائل تحتها وإذا كان الإنسان ينظر إلى الحياة نظرة سوداء فليس في هذا دليل ناهض على أنه اسمي من الناس نفساً وأرجح منهم لباً وأنا لنكره الناس وتنقض الحياة عند مالعجز عن أن نمد نظرنا إلى أعماق النفس الإنسانية وإنك لو أرهفت البصر وحددت الطرف لوجدت أنك تشكو من أشياء لا وجود لها وإنه لمخجل ومزر بشأنك أن لا يكون في منال قدرتك ومناط همتك النظر إلى كارثة حياتك الوحيدة بدون أن يحمر وجهك منها خجلاً وإن الدين والفضيلة والطهارة كلها مجتمعة لم تروح عن نفسك الحزينة ولقد كفرت أختك عن ذنبها وإنك هنا في الغابات تذهب أوقاتك عبثاً وتهمل واجباتك وقد تظن أنك تتشبه بالقديسين الذين كانوا يقيمون في الصحراوات ولكن هؤلاء كانوا يقضون أوقاتهم هناك في أخماد جمرة الأهواء ومغالبة سورة الأميال بينما أنت تذهب أوقاتك في إيقاظ تلك الأهواء وتحريك هذه المنازع ومن علمك أيها الشاب المغرور أن الإنسان كثير بنفسه وغن الوحدة لتفسد من لا يعيش فيها مع الله وإنها تضاعف قوة الروح ومن ناحية أخرى لا توجد سبيلاً للانتفاع بتلك القوة وإن من تمنحه الطبيعة قوة ينبغي له أن يصرفها في إنهاض نظرائه والأخذ بيدهم وإذا ترك تلك القوة مهملة فإنه يعاقب عاجلاً أو آجلاً بالشقوة الأبدية. وقد أفاق رنيه لما سمع هذا الكلام فرفع رأسه من صدر شكتاس وابتسم شكتاس تلك الابتسامة التي تتجلى على الشفة بدون أن يظهر أثرها في العين وكان لهذه الابتسامة معنى غامض سماوي ثم قال شكتاس لرنيه إنه يخاطبنا يا ولدي بلهجة شديدة وكلامه هذا يقوم المموج فينا وهو على صواب في كل ما يقول وإني أشايعه على أنه الاليق بك أن تزايل هذه الحياة الغير المألوفة والمفعمة بالأحزان وأنه ليس هناك سعادة إلا في الاندماج في الحياة العامة وإنه في ذات يوم شكا المسيسبي عند منبعه من أنه ليس له سوى مجرى

هادئ نقي وطلب إلى السحب في الجبال الشاهقات ومياه السيول العارمة وأمطار العواصف الغزيرة أن توافيه بأمواهها فأصبح الماء يفيض على جانبيه حتى اتلف ساحله البديع الذي كان مكسوراً بالأزهار محفوفاً بالأشجار ولقد كان ذلك النهر يزهى بقوته ويزمجر ويهدر ولكنه لما رأى أنه أمسى محوطاً يصحراوات وأنه يتفق في الفقر الموحش وإن أمواجه دائمة التوثب والإغتلام صار يأسف على حالته السالفة حيث الطيور على سواحله مترنمات والأزهار زاهيات والأشجار متهدلات الظلال ترافقه في سيره الهادئ الرزين، ثم أمسك شكتاس عن الكلام وسمع في الغابة أصواتاً مقبلة من ناحية المسيسبي كانت تنبئ عن قرب هبوب العاصفة فرجع الثلاثة قاصدين أكواخهم وكان رنيه يمشي صامتاً بين الأب سويل الذي كان يدعو الله وبين شكتاس الذي كان يتلمس طريقه وقد قيل لي أنهما رداه إلى زوجته ولكنه لم يجد الراحة المنشودة. وقد مات بعد ذلك بقليل هو والأب سويل وشكتاس في المعركة التي حدثت بين الفرنسيين وقبيلة الناتشيز ويرى المشاهد هناك صخرة كان يجلس رميه فوقها عند غروب الشمس. . . تمت القصة

محاورة

محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوبنهر (تابع ما نشر في العدد 7 و 8 سنة سابعة) الفيلسوف - وكذلك ترى القساوسة ينزلون منزلة بين الخداع والوعظ لأنهم لا يجرأون على تعليم الناس الحقيقة حتى لو كانوا يعرفونها - وإنهم لا يعرفونها وعلى كل حال يمكن أن يكون هنالك فلسفة حق ولكن لا يمكن أن يكون دين حق - أعني ديناً حقاً بمعنى الكلمة الحقيقي وليس بالمعنى المجازي الرمزي الذي وصفته آنفاً. ولا بدع في أشرف الحقائق وأهمها وأقدسها وأسماها لا يمكن إظهارها للعامة إلا ممزوجة بالأكاذيب بل لا بدع في أن هذه الحقائق إنما تستفيد سلطانها وقوتها من هذه الأكاذيب إذ كانت الأكاذيب أبلغ أثراً وأروع وقعاً في نفوس العامة. أقول لا بدع في ذلك لأنها سنة الطبيعة التي ما برحت تبرز الخير بالشر مقروناً والشرف بالخسة والكرم باللؤوم والبر والفجور والوفاء بالغدر. وهذه الحقيقة هي عنوان العالم الأخلاقي. على أنه لا يليق بنا أن نيأس من مجيء يوم يبلغ فيه الناس من العقل والعلم مبلغاً يمكنهم من إنتاج فلسفة حق ثم قبولها واعتقادها. والواقع إن الحقيقة المجردة هي من البساطة وقرب الفهم بحيث يمكن إيصالها لي أذهان العامة بلا أدنى مزاج من الأساطير والخرافة (طائفة أكاذيب) أعني بدون جعلها ديناً. الفقيه - إنك لا تستطيع أن تتصور مبلغ غباوة العامة وضآلة أفهامهم. الفيلسوف - إني أقول هذا الكلام على سبيل الأمل لا غير. على أني لا أستطيع إطراح هذا الأمل - أقول إذا عرضت الحقيقة على الناس في صورة أبسط وأقرب إلى الفهم لم تلبث أن تنزل الدين عن أريكة سلطانه التي ما زال يتبوؤها منذ أقدام الأزمان وإذ ذاك يكون الدين قد ادى رسالته وجرى شأوه. فلا بأس عليه أن يترك النوع الإنساني وشأنه ملقياً حبله على غاربه ولا جرم فلقد تولاه في طفولته حتى بلغ سن التكليف والرشد - وعلى الدين إذ ذاك أن ينسحب هو ذاته ويتوارى ويستتر في أمن وسلام وطمأنينة وله ألف حمد وشكر. وعلى كل حال فما دام الدين موجوداً فإن له وجهين - وجهاً من الحق وآخر

من الزور والباطل فهو تارة سر متأمله وأخرى يسوءه. ولذلك يجب علينا أن نعد الدين أذى لازماً وشراً لا بد منه وإن ضرورته مبنية على سخافة عقول العامة وضعف أذهانهم حتى أصبحوا بعجزهم عن إدراك الحقيقة محتاجين إلى ما يقوم وينوب عنه. الفقيه - إنكم معشر الفلاسفة لتتكلمون كما لو كانت الحقيقة رهن أدنى إشارتكم تدعونها فتجيب وعلى متناولكم تمدون أيديكم فتأخذون بزمامها وتقبضون على ناصيتها. الفيلسوف - إذا كنا لا نملكها فذلك والله راجع إليكم معشر الفقهاء إذ جعلتم من الدين في جميع الأمكنة والأزمان سلاسل وأغلالاً شللتم بها حركة الفلسفة وحبستم سعيها. ولم يكفنا إن منعنا الناس من نشرها أو النطق بها حتى حلنا بينهم وبين التصدي لها التفكير فيها واستكشافها بوضعنا أذهان الأطفال في نعومة أظفارهم في أيدي القسوس يعبثون بها كما شاؤا ويملأونها من السخافات والخرافات بما أرادوا - ويحفرون في أدمغتهم المسالك التي تخصص لمجرى الأفكار الأساسية والآراء الجوهرية في أمهات المسائل حفراً عميقاً يبقى ثابتاً معيناً أبد الدهر. وإني ليزعجني أحياناً ما أراه في مؤلفات الفطاحل من أكبر مفكري القرن السادس عشر والسابع عشر من شدة تقيد عقولهم وفرط اعتقال أذهانهم بعقائد التوراة والإنجيل - وأظهر ما يكون أثر هذا الأسر والاستعباد الذهني في نظري عقب تلاوتي مؤلفات المفكرين من فلاسفة المشرق. فأقوام يهيئون مثل هذه التهيئة العقيمة خلقاء أن لا يدركوا للفلسفة الصادقة أدنى معنى! الفقيه - وعلى فرض إمكان التوفق إلى هذه الفلسفة الصادقة فإن ذلك لا يقتضي إلغاء الديانة كما تتوهم إذ لا يمكن اشتراك الناس أجمع في مذهب فلسفي وأحد لاختلاف طبائع الأذهان وتعدد أساليب التعليم والتربية. ولا بد أن ينصرف السواد الأعظم من الناس إلى الاعمال الدينية البدنية الشاقة التي عليها المدار والمعول في سد حاجات النوع البشري ففضلاً عن أن هذا يحرم أغلبية الناس الوقت اللازم للتربية والتعليم والتفكير والتأمل ولكنه بسبب ما هنالك من التباين والتناقض بين القوى الجثمانية البحتة والقوى الذهنية المحضة قد تقرر أن الإفراط في المجهودات البدنية ببلد الذهن وبرده ثقيلاً كثيفاً وبالتالي عاجزاً عن أن يدرك من المعاني إلا الساذج البسيط والملموس المحس. وعلى هذا النحو تسعة أعشار العالم - إن الناس يحتاجون إلى مذهب عن العالم الغيبي أو فيما وراء الطبيعة أعني أصل

العالم والوجود وحياة البشر لأن هذا من أمس حاجات النفس البشرية ومما تشرئب إليه الأرواح بفطرتها وتتطلع. ولكنه يحتاجون إلى أن يكون هذا المذهب الباحث في هذه المسائل مذهباً مألوفاً وهذا لا يتأتي إلا بشرائط ومزايا - أهمها الوضوح والجلاء على أنه يجب مع ذلك أن يكون في بعض المواقع مبهماً غامضاً بل ملغزاً معمي لا يهتك الذهن حجبه ولا ينفذ الوهم إلى لبابه. وإلى هذا يضاف نظام أخلاقي صحيح مرض. وأهم من كل ذلك هذا المذهب الآنف الذكر يجب أن يتضمن ذخراً وافراً من وسائل العزاء والسلوان وأسباب الترويح والترفيه يقدمها للإنسان في المحنة والمصاب والألم وعند حضور الوفاة. فينتج من هذا أن الدين ليس حقاً إلا من الوجهة الرمزية لا بالمعنى الحقيقي. وينبغي فوق ذلك أن يستعد سلطانه إلى الأذهان وروعته في القلب مما له من الثقة المكتسبة من تواتر الأجيال الحائزة لمزية الإجماع والإطباق المؤيدة بالآيات المدونة والصحف المأثورة - وهذه الصفات والمزايا مما يتعذر جمعه وتأليفه وضم شتاته - بحيث أن المفكر المدقق والمتأمل المحقق البعيد الأناة والروية إذا تدبر الأمر لا تطاوعه نفسه على التصدي لهدم أي دين ما وتقويض أركانه ولكنه جدير أن يرى الدين أنفس ذخيرة وأحسن عدة للسواد الأعظم من بني البشر. فعلى من أراد انتقاد الدين أن لا يزال يذكر طبائع الجماهير التي من أجلهم وضع ويصور لنفسه فرط انحطاطهم الذهني والأخلاقي. وليعلم بعد أن وراء أكثف حجاب من سخيف الخرافات ومستنكر الشعائر والمناسك تلمع وتتألق جذوة من الحق كامنة في تلك السخافات كمون العطر في عوده والمسك في مادته وإن هذا الأرج الذكي يتعلق ويعبق بكل ما قد لامسه واتصل به. خذ مثلاً على ذلك الحكمة النابغة والعظة البالغة الواردة في الأسفار المقدسة الهندية القديمة المسماة اليوبناشاد - اتظر إلى هذه الحكمة النابغة والعظة البالغة ثم حوّل عنها بصرك إلى شعائر الوثنية الجنونية الشائعة اليوم في بلاد الهند وما تتضمنه من المواكب والأعياد ورحلات الحجيج أو إلى جنونيات الطوائف الهندية العصرية المسماة السانياساي في مراسمهم الدينية ومناسكهم التعبدية. ومع ذلك فليس في وسعنا إنكار ما يكمن تحت كل هذه الجنونيات والسخافات من معنى هو في الحقيقة مطابق للحكمة البالغة الآنفة الذكر بل هو

صورة منها. فهذا المعنى الفلسفي يحتاج إلى إبرازه في تلك الأشكال المستنكرة لتقريبه من أفهام الجماهير الحشية البهيمية. وكذلك نرى في هذا المذهب المتناقض الطرفين قطبي الإنسانية: أعني حكمة الفرد (العبقري الواضح لتلك الأسفار الحكيمة المقدسة) وبهيمية الجماهير وكلا القطبين يلتقيان على كل حال في نقطة ائتلاف مشتركة بينهما في العالم الأخلاقي. ومن ذا الذي لا يذكر حكمة القائل إن الغوغاء والطغام يبدون لي كأنهم بشر على أني لم أر في صنوف الخلائق مثلهم حمقاً وخسة وغباء وقول الآخر يا أشباه الرجال ولا رجال وبيت القائل: إني لأغمض عيني ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحداً إن العالم التحرير يعد الدين من قبيل العناصر الإصلاحية فيراه ضرورياً للجماعات كالملح للطعام ويمكنه أن يتخذ لنفسه سراً مذهباً فلسفياً واحداً لا يصلح لكل الناس. فكل فلسفة تجذب إليها - بناء على ناموس التآلف الطبيعي - فريقاً من الناس تكون ملائمة لأسلوب تعليمهم وكفاءتهم العقلية. وعلى ذلك فلا يزال ثمت مذهب فلسفي (غيبي - متعلق بما وراء الطبيعة) لمتعلمي العوام ومذهب أرقى للفئة القليلة المختارة. مثال ذلك أظن مذهب الفيلسوف كانت - ذلك المذهب الأشرف الأسمى قد تناوله العلماء فرايز وكروج وسالات بالإفساد والتنكير والحط والتسفيل تنزلاً به إلى مدارك العامة واحتياجاتهم. وهذا مصداق لقول جيتا (شاعر الألمان الأكبر وكاتبهم الأشهر) الواحد لا يكفي الجميع. فمحض الإيمان بالوحي والتنزيل ومحض الفلسفة هما طرفا نقيض وقطبا تباين واختلاف تنحصر بينهما عدة مذاهب هي بمثابة تعديلات وتحويرات مؤلفة من عناصر هذين القطبين وجزئيات ذينك الطرفين بما يلائم مآرب ومشارب لطبقات المنوعة والفرق المختلفة. وهذه نتيجة لزومية مترتبة على ما أحدثته الطبيعة ونظامات التربية بين ضروب الناس وصنوف البشر. الفيلسوف - إن رأيك هذا يذكرني ما قد ذكرته قبل من أسرار القدماء وإنهم كانوا يرمون إلى معالجة الشر المترتب على فروق الكفاءات العقلية وأساليب التعليم وكانت خطتهم في ذلك إنهم ينتخبون من بين الجماهير أناساً قلائل فيكشفون لهم قناع الخفاء عن جانب من الحقيقة فيبصرون طرفاً منها بعد أن كانوا في ظلام دامس وعمى مطلق عن جميعها. ثم

هذه الفئة القليلة يختارون فئة أقل وإلى هؤلاء يحسرون اللئام عن جزء آخر من الحقيقة ثم ينحون هذا النحو حتى يصلوا إلى النخبة المتقاة والصفوة المختارة. وهي أساسها المعرفة الصحيحة والخبرة الدقيقة باختلاف الكفاءة الذهنية في طبقات البشر. الفقيه - إن ما تتخذه الآن من أساليب التربية الثلاثة أعني الابتدائي والثانوي والعالي هي إلى حد ما صورة مما كان يتبعه القدماء من طريق تعليم الناس أشرار العلوم. الفيلسوف - هذا على التقريب فقط وهو صحيح من هذه الوجهة وهي أن العلوم الراقية كانت تكتب باللاتينية التي كان لا يفهمها إلا الصفوة المختارة من العلماء. فإما وقد ألغي هذا النظام فقد تدنست تلك الأسرار المقدسة بإبرازها من حجاب اللاتينية وابتذالها بعرضها على أبصار الغوغاء المدنسة. الفقيه - كيفما يكن ذلك فلا تنس أن الواجب عليك عند انتقاد الدين أن تتأمله من الوجهة العملية أكثر مما تتدبره من الوجهة النظرية. فغير خاف أن الفلسفة الغيبية (ما وراء المادة) قد تكون عدوة الدين ولكن الفلسفة الأخلاقية لن تزال صديقة له وخليلة. ويحتمل أن يكون أكذب ما في الدين هو جانبه المتعلق بالغيب وما وراء المادة. ولكن لا مشاحة في أن جانبه الخاص بالأخلاقيات حق صراح. وهذا ظاهر من الأديان المختلفة إذا تباينت وتناقضت من حيث ناحيتها الغيبية (الخاصة بما وراء المادة) فإنها لتتفق في ناحيتها الأخلاقية. الفيلسوف - وهذا يؤيد القاعدة المنطقية وهي أن المقدمات الباطلة قد تؤدي إلى نتيجة صحيحة. الفقيه - تمسك إذن بنتيجتك التي وصلت إليها ولا يفوتنك أبداً أن للدين جانبين فهو إذا كان باطلاً ومحالاً من الجانب النظري أعني من الجانب الذهني فإنه من الجانب الأخلاقي الوسيلة الوحيدة لهداية وإرشاد وتعليم وتهدئة هذه الحيوانات المتعقلة الذين قرابتهم إلى القردة لا ننفي أن لهم نسبة قريبة ورحماً ماسة بالذئاب والنمرة والدين في الوقت ذاته فيه قضاء حاجتهم وشفاء غليلهم من حيث تفسير أسرار الكائنات والغاز الحياة والموت والفناء والخلود والروح والمادة والآجلة والعاجلة تفسيرا يلائم كثافة أذهانهم وانحطاط مداركهم. والظاهر لي أنه يعوزك الفطنة التامة إلى الفرق الهائل الذي هو كفرق ما بين السماء والأرض والهوة السحيقة بين الرجل العالم المستنير المدرب على التفكير والتدبر وبين

سخافة عقول البهائم الإنسانية وكثافة أذهانهم وقصر مداركهم وبلادة مشاعرهم وغلظة أفهامهم وانحصار أفكارهم في سبيل واحدة ترمي إلى إحراز الغذاء خوف الفناء - سبيل يلزمونها طول اعمارهم لزوم الإنسان لظله لا يريدون بها بديلاً ولا يبغون عنها حولاً ولا تستطيع قوة أن تصرفهم عنها إلى غيرها - ولا بدع فإن ما تقتضيه أشغالهم من حصر مجهوداتهم في كد القوة العضلية يضئل ويهزل القوة العصبية التي هي مصدر الذكاء والفطنة. فأمثال هؤلاء يجب أن يعطوا عماداً ودعامة يعتصمون بها ويرتكنون عليها أثناء مسيرهم على زحلوقة الحياة الزلقة وسبيلها الشائكة - أعني ينبغي أن يقدم إليهم القصص الخرافي الشائق والأساطير الخرافية المستملحة البديعة معروضاً فيها ما يهمهم ويعنيهم من مسائل الحياة والموت والروح والمادة وأسرار الكون والغاز الطبيعة في قالب الصور والحكايات إذ كان والقلب الوحيد الذي تستطيع إدراكه أذهانهم البليدة وإفهامهم البطيئة وإذ كان من المستحيل أن تسمو بعقولهم الراكدة إلى فهم التفاسير الدقيقة والفروق اللطيفة الغامضة فأنت إذا نظرت إلى الدين هذه النظرة وتذكرت أن أغراضه وغاياته عملية من الوجه الأهم نظرية من الوجهة الضأل كنت جديراً أن تراها خليقه بأجزل المدح والثناء وأجل الاحترام والتبجيل. الفيلسوف - أجل. التبجيل الذي أساسه المبدأ القائل بأن الغاية تبرر الواسطة. إني على كل حال لا أوافق على جعل هذا المبدأ الأساس الذي عليه يبني حل هذه المشكلة وفك تلك المعضلة. أنا لا أعارض في أن الدين أحسن واسطة لكبح جماح ذوات الاثنين من بهائم الإنسانية البلداء الأذهان الخبثاء النفوس ذوي الحران والعناد والإصرار. غير أن أخا الحق يرقص الزور والبهتان وينبذ الغش والخداع مهما قيل أنه واسطة إلى الخير. وإن من أعجب الأمور أن تروج الفضيلة بوسائل الخدع والأكاذيب. أما أنا فقد أعطت بيعتي وعهدي وذمتي لسلطان الحق المبين ودخلت في شيعته وتحت لوائه ولن يراني الله ما حييت خافراً للذمة ناكثاً للعهد. وعزمي ونيتي أن أقاتل شيعة الباطل وأنصار الأخاديع والأكاذيب ذوداً عن حمى وذباً عن حريمه غير مكترث لما عساه يصيبني في تلك السبيل من الأخطار والأهوال والمتالف والمهالك. فإذا آنست من جانب الدين دلائل العداء ونوايا الاعتداء -.

لها بقية

الأمل والمستقبل

الأمل والمستقبل مازيني في طليعة قواد الوطنية ومن اعز الأصدقاء الإنسانية في القرن التاسع عشر وإن اسمي مزايا العظيم أن يعيش للنوع لا لنفسه وإن العظيم يقبل إلى السكون وهو عالم إنه ليس له مطلق السيادة على نفسه فإن صوت ضميره يذكره دائماً أن يعيش لإسعاد من حوله وهو بطبعه من أجنح الناس وأميلهم إلى قول أوجست كونت عش للناس وهو مدفوع بجبلته وغريزته إلى ذلك وإذا تلوم عليه فإن ما يصيبه من الندم أشد مما عسى أن يلاقيه من الألم ولذا قال رينان العظيم أبعد الناس عن الحرية وإن الإنسانية لتعجز عن قضاء ديونها للعظماء وإنه لولاهم لكانت أكثر النفوس صحراوات مجدبة ومغارات مظلمة. وينبغي أن يكون حبنا للبطل وإعجابنا به قريبين من حد العبادة وذلك لأن البطل صورة من صور اللانهائية وإن الروعة التي تداخل النفس عند النظر إلى الأبطال نشبه الإحساس الذي تستشعره النفس عند مشاهدة غابة فسيحة الأرجاء باسقة الأشجار أو رؤية بحر عجّاج متلاطم الأمواج إلى أمثال هذه المشاهد التي تحرك في أعماق نفوسنا الشعور الديني لما فيها مرائي اللانهائية وصورها ونرى في مازيني مثلاً أعلى في إنكار الذات قال عنه كارليل (مازيني رجل فضيلة وعبقرية وأحد هؤلاء الرجال النوادر الذين يجدر بنا أن نسميهم الأرواح الشهيدة) وقد كان مازيني من رواد الكمال وعشاقه وكانت في أخلاق القديسين وطهارتهم وصفات الأبطال وأعمالهم. وقد نشأ مازيني فوجد أوطانه مفككة الأوصال مصدوعة القوى فساءه أن يرى إيطاليا المشرقة الجميلة مهد الحضارة الرومانية وأرض بروتس ودانتي وقد استعبدها النمساويون القساة الغلاظ القلوب وعز عليه أن يسوم النمساويون أبناء وطنه سلالة الرومان الأمجاد الخسف والعبودية ويحجبوا عنهم ضوء الحرية المقدس ونور العلم والعرفان وآلم نفسه كل ذلك فامتشق سيف الجهاد وكان يطارد شرور الحياة بقوة الأمل. وقد كان ثابتاً في جهاده فلا يستهويه النجاح ولا يكسر من عزيمته الفشل. وقد كان في مازيني بشر سكان الجنوب وتفاؤلهم ولكن السنوات الطويلة الموقرة بالحزن التي قضاها في سويسرة وتحت سماء لندن الغائمة المربدة بعيداً عن سماء إيطاليا الطلقة الصافية قللت من بشره وغبطت من بشاشته فكان لا يزايله اكتئاب صامت شجى كالغيمة الرقيقة الشفافة التي تعلو صفحة القمر الباهر. وكان هذا الحزن يزيد نفسه ملائكية ويبث

في تضاعيف كلامه رنة مؤثرة تجذب نحوه القلوب وكان يزيده إنكاراً لذاته وتجرداً عن شخصيته. وقد كانت مع أصدقائه خضر الربى موطأة الأكناف وكانت أحاديثه جذابة حلوة المساق إلا إذا عاج به الحديث على المسائل السياسية فقد كان يتحول من الهدوء والسكون إلى الثورة والانفعال ويحور صوته المؤثر الرخيم الحواشي زأر أسد أو عزيف عاصفة وكان عسر الخليقة شديد القسوة مع رفاقه السياسيين. وكان كثير الثقة بنفسه والتثبت من آرائه كأنه كان يشعر أنها ضرب من ضروب الوحي والإلهام فهي مسلمة من الخطأ ولذل كان لا يسمح لأحد من حزبه أن يتخطى حدود أفكاره أو يخرج عن دائرتها وتغلب هذه الصفات على رؤساء الأحزاب السياسية العظماء، ونحن نعرف أمثالها في سعد زغلول باشا رئيس وفدنا المحبوب، وتتشابه أخلاق العظماء على الرغم من اختلاف البيئة وتفاوت الزمن. وقد كتب المقالة التي انتخبنا منها النبذة الآتية وهو في المنفى ليستحث عزيمة حزبه ويدعوهم إلى النهوض والثورة. إن دماء الأبطال المراقة وعبرات الأمهات المسفوحة ستسقيان قبور الشهداء وتبتلان ثراهم ونحن أوفر من أعدائنا شجاعة وأقداماً وأميل منهم إلى التضحية وتكريس حياتنا وأعرف منهم وأبصر بحوائج العصر ولوازمه وروحه وطبيعته ولقد شردنا عن أوطاننا فحملنا إلى مطارح الفي ضميراً نقياً ونية ثابتاً وإن مصير أعدائنا مرتكز على نجاح مساعينا فإن تولت بهم الليالي وهي متدبرة وإلا متنا كراماً أحراراً وإننا نسير تحت العاصفة والسحب المتلبدة الكثيفة في السماء ولكن هناك وراء تلك السحب الشمس الخالدة إنهم ليحجبونها عن عيوننا زمناً ولكنهم لا يستطيعون إذهابها من الأفق وإن العالم يتقدم إلى الأمام بخطوات رزينة ثابتة ومحال أن تعترض تقدمه قصاصات أوراق الساسة الدنسة ودسائسهم الوضيعة وإن الإسراع في الحركة هو سر الانتصارات الكبيرة. وينبغي لنا أن لا نقصر نظرنا على أنفسنا فإن داخل النفس أنفاس القبر الباردة والشك يسير بين المقابر والأطلال تتبعه الأنانية وإن الشعوب ستتبوأ في المستقبل مقاعد الملك لا الملوك ولا الإشراف وإني أقول قولة حق أن الأمة التي قد تأصل حب الحرية في قلوب أفرادها رسب الميل إلى التضحية في قرارة نفوسهم واستظهروا أسباب الثورات ونتائجها

- مثل هؤلاء لا يعجزهم أن يكسروا قيودهم ويصدوا عنهم الأغلال ويردوا عن أوطانهم رعيل الممالك المتواطئة على سلب حقوقهم ويستذلوا الجموع المحتشدة لسحق حريتهم وليس في الأرض قوة تردهم عن الغابة التي صمدوا إليها والمطلب الذي قصدوا إليه وبقد كانت النيران التي أضرمت في أبدان القوم مدعاة إلى عبادة الحرية وقد حملوا ما يعي عن حمله المناكب وبقوا من الآلام ما لا يملكون التعبير عنه لأنه تجاوز الحد وفات الغاية وستكون ثورتهم لذلك يحسر دونها الوصف ويخون نعتها البيان ولقد كانت أحزانهم مباركة وقد علموا من كل دمعة مترقرقة حقيقة مشرقة وكان كل سنة تتسلخ بضحاياها تزيدهم إيماناً بالتضحية وأملاً في الخلاص والحرية ولقد تجرعوا الكأس مترعة ولم يتركوا بها صبابة فلم يبق لهم إلا كسر تلك الكأس. يقول لنا فريق من خصومنا إنكم تسخرون بأنفسكم وتزينون لها المحال وإن اليقين قد غاب من النفوس وقد صدأت القلوب وقد ران عليها الخمول ولقد طال عهد القوم بالقيود حتى فترت عزائمهم ونكلت هممهم ونسوا المشي والحركة وأنكم تحاولون أن تثيروا حفيظة جماعة من الأرقاء المستضعفين الأذلاء المنبوذين فكيف تجمعون شتاتهم وتؤلفون شملهم لملاقاة الصعاب ودفعها ورد البلايا ودرئها وقد طالما أهبتم بهم إلى الكفاح والمجالدة في طلب الحرية وبغية الانتقام فتصاموا عن النداء أو رفعوا رؤوسهم المشوشة برهة ثم عادوا إلى سباتهم وبقد شاهدوا جنائز الشهداء تمر أمامهم ولم يكن يخالط عقولهم أو ينصب في آذانهم إنهم يشيعون منها إلى القبر حقوقاً فرطوا في التماسها وأخلوا في طلبها وإن نفوسهم إلى المال منجذبة إلى الماديات وإن الخوف ليقع في قلوبهم من كل جرس ولقد خمدت في نفوسهم نيران الحماس وليس من الميسور معاودة إشعالها وبدون مناصرتهم لا يتم لكم أمر ولا يعتدل بكم حال وليس في طاقتكم أن تبلغوا شأو الانتصار ولكن في مكنتكم أن تلقوا عليهم دروساً في التضحية إذا اعتقدتم أن الدماء المسفوكة لا تنشب أن ينهض على آثارها جبل من الساخطين المنتقمين الثائرين المتمردين ينادون بالثارات ويصبون الويلات ولكن لا تجشموا على المكروه من لم تكن له نفس وثابة كنفوسكم أو همة قعساء كهمتكم أو مال كبار كآمالكم. . . . . إن اليقين يتطلب غرضاً شاملاً يعانق الحياة ويضم بين حاشيته كل مظاهرها ويحول كل

مجاريها إلى مصب واحد تنساب فيه القوات المختلفة ويستلزم عزيمة صارمة وهمة ماضية واعتقاداً راسخاً بأن ذلك الغرض ليس بالممتنع وليس من المستحيل إدراكه ويستصحب ذلك الاعتقاد بقوة سامية مرهونة الجانب مشرقة على هذا الكون ومطلة على هؤلاء المجاهدين في سبيل الوصول إلى ذلك الغرض. إن الأفكار الكبيرة تخلق الأمم الكبيرة فلتكن حياتنا وقفاُ على فكرة كبيرة وفي ذمة غاية سامية وأفسحوا أفق أفكار الشعب ووسعوا نطاق معرفته وحرروا الضمائر من رق المادية الجاثمة على النفوس واجعلوا قبالتهم رسالة كبيرة وإن المصالح المادية عند ما يمسها الضرر تنجاب ظلمتها عن الفتن والقلاقل لكن المبادئ الكبيرة هي التي تتفجر عن الثورات الهائلة وإن اليقين ينفخ في الشعر روحاً قوية فيترجم لنا الشعر عن تلك الآمال المتراميات الجوابة في نفوسنا ويسربلها في أضوائه فيزيدها جمالاً في النفوس وإشراقاً وبهجة وإتلافاً وسيرتل الشر على مسامعنا أنغام التضحية ويسمعنا أناشيد الأحرار المقهورين ويترنم بذكر تلك الدموع التي تمحو الآثام ويصف لنا تلك الأحزان الجليلة التي تنفي النفس ويليح لنا بصور عظمة الماضي الملتفة حول مهد الزمن الحاضر وسيرقرق الشعر أنداء العرب المطوية على الأشجان وسيعلم الشعر الناشئين المترعرعين والذين لا تزال تندي على جوانبهم ظلال الشباب شريف التضحية وعظمة الثبات وفخامة الصمت وكيف لا يستكينون للشدائد إذا حفتهم منفردين الوحشة المخيفة وكيف يتقدمون برباطة جأشن فلا يتغشاهم الخوف وعن يمينهم السهام الصوارد وعن شمالهم البارقات الرواعد وكيف لا تخالج نفوسهم الشكوى والملل في السنوات الطويلة من الكمد والبرجاء والجروح الدامية الغيبة ويلقنهم اليقين بالمستقبل فلا تتراخى عزائمهم عن السعي ولا تكل هممهم عن العمل وإن كان الموت قد يستلب حياتهم قبل إقبال ذلك الزمن البسام المستنير الذي يعملون من أجله ويذيبون أنفسهم على جوانب الدهر في طلبه. لقد أتى على الدولة الرومانية حين من الدهر كانت فيه الأزمان ملفوفة في أردية الظلماء وكانت السماء خاوية مقفرة وكانت الإنسانية تسير ضاربة في تيه الضلال وبيداء الحيرة وقد خيمت فوقها الوحشة الرهيبة وأحاطت بها المخاوف المرعبة وكانت تقف وقفة الحائر اللهف في دهش وذهول وقد اختفت إذ ذاك أمم بأجمعها من وجه الأرض وأدرجت في

أكفان الفناء وتطلعت أمم أخرى غيرها رافعات الرقاب كأنها تشرئب لرؤية مصارع الأمم الزائلة وقد عم آفاق البسيطة وطار لعناً السماء صوت أجش أجوف كصوت الفناء والانحلال وقد علت الخليقة رجفة فاهتزت السموات وزلزلت الأرض وكان الإنسان إذ ذاك مكفهر الطلعة جهم المحيا يثير منظره المخاوف ويبعث على القلق ولقد كان واقفاً بين أبديتين لا يعرفهما فقد كان يجهل الماضي وصوره المطوية ولا يدري المستقبل وما تضمره له بطون الغيوب وكانت القلوب إذ ذاك فارغة من الإيمان مقوية من اليقين وكانت الجوانح قد أظلت من أنوار التقية بالله والاعتقاد بالجماعة وكان الاجتماع قد تخلخلت أركانه وامتزجت أموره وكانت هناك سلطة حاكمة واهنة متعثرة في حمأة الخطيئة ووهدة الشهوات وكان هناك مجلس أعيان يعيد في الذاكرة رسم العظمة الخالية وكان يهب الأموال ويقيم التماثيل للظلمة المستبدين وكانت هناك عصابة من الرؤساء قد اشتد بينهم حب المنافسة والمباهاة وفريق من الجواسيس ولمة من السفسطائيين والأذلاء الخاضعين وكانت المبادئ الكبيرة قد سدت عليها المطالع وأخذت المسالك وكان الناس ايأبهون لغير الماديات وكانت الوطنية الصادقة قد طار طيرها من أوكان القلوب وكان صوت بروتس مقبلاً من ناحية القبور يقول للعالم أيتها الفضيلة ما أنت إلا كلمة وكان هناك طائفة من ذوي النفوس النبيلة الصالحة والضمائر العفة النازهة وقد تماسكوا عن الدنيا إبقاء على نقاوة عقولهم وصفاء أرواحهم من العيوب الفاشية من إطراح وطنية ومن إقلاع عن فضيلة ولم كانت الأرواح قد تضاءلت استبدت الحواس بالناس فحامت نفوسهم على الشهوات وكانت هممهم لا تترامى إلى أبعد من طلب المعاش ونهمة الدنيا وكانت الفلسفة قد تحيف جانبها الشك وأصبحت أبيقورية ثم فنيت في زوابع من الرياح الكلامية وكان الشعر قد تحول إلى أهاجي ومقذعات ولقد كان الإنسان وهو يجتاز هذه المرحلة من الحياة يقف الفينة بعد الفينة قلق الخاطر غير مستقر النفس كالريشة في العاصف الماثر وكان يقف وقد توحشت ألحاظه ووجب قلبه من هول الوحدة التي تحيطه وكانت أصوات الخوف تدوي في جوف الليل الموحش على قوارع الطرق وكان بعض الأفراد وقد أثاره الخوف ينهد إلى تماثيل الآلهة العريانة الباردة التي كانت تعيد في الأيام السالفة وينظمها بالقبلات كأنما قد مسه عارض من الجنون وكانوا ينفخون في غير مكدم ويمون من اليقين الديني بناء غير مرموم وكانوا

يعودون وقلوبهم طافحة باليأس وكلمات الكفر جارية على ألسنتهم - هكذا كانت تلك الأزمان كأزماننا هذه ولكن لم يكن ذلك آخر عهد الدنيا ونهاية الحياة ولكن كان آخر صفحة من صفحات التقدم والرقي وكانت تطوي لتنشر صفحة أخرى ويقبل عصر جديد قد لاحت بشائره وأقبلت بوادره ولقد كان العالم إذ ذاك يتهيأ لاستقبال السيد المسيح الروح الملأى بالحب والتقديس ولقد حنا أضلاعه على ذلك العالم ونفث فيه يقيناً هو الحب والتضحية. أيها المجاهدون لغرض سام وشريف تدرعوا بدرع اليقين واشعروا قلوبكم عز الحق الذي أيها الداعون إلى الحق الذي لا تغَره الدنيا اليوم المجالدون في الحرب المقدسة لئن دعاكم العالم اليوم بالثار سن المتمردين فغدا هذه الدنيا الغير الوافقة بكم ولا الحافلة بأموركم غداً تدين لكم منه الرقاب المتطاولة وتخشع العيون الطامحة وتتطامن أمامكم المفارق وتنكس الأعناق وإن الشهداء هم الأولياء عندنا والقديسون والأبطال هم قساوستنا وقوادنا الروحيون وإن الأعمال الكبيرة هي توسلاتنا وصلاتنا التي نصل بها إلى عليبن ولقد حث بروما في ذات يوم من أيام القرن السادس عشر أن جماعة ديوان التفتيش انتظم سمط أعضائها ليعقدوا أمراً ينكر دوران الأرض وكانوا يزعمون أنهم يعلمون خفيات كل مكتم وأسرار كل مجهول وأنهم ستمدون واسع سلطتهم ويستقون غزير علمهم من الله وكان واقفاً أمامهم سجين يرسف في ثقيل القيود ينتظر يصبر ما تصطفق عليه آراؤهم في أمره وكانت أنوار العبقرية تضيء معالم وجهه وكان هذا الأسير قد سبق عصره وجاء قبل أوانه وكان قد استل من صدر الزمن سراً من أسرار الكون الخفية الجليلة وذلكم السجين هو جليليو - هز ذلك الشيخ رأسه الوقورة الصلعاء وقد أخذت نيران الثورة تدور في نواحي نفسه التي قد تملأت من الغضب من هذه النفوس المغلقة والإحساسات الراكدة التي تروم إرغامه على إنكار حق اجتلى نوره وانبلج لعينه صبحه ولكن الآلام التي ألمت به وما قاساه من عنت الأسر قد نقضت مرته وألانت شكيمته ولما كان يخشى ضير وعيدهم ويود لو يستدفع إذا هم كاد يلين لهم ويغلب على أمره حيالهم فرفع يديه ليقسم اليمين ولما كان يحرك يديه رفع عينيه الكليلتين للسماء التي ظالما أجال في طرفه الليالي الطويلة ليطالع في صفحتها سطراً من قوانين الكون ونواميسه فلمح أشعة الشمس التي كان لا يخالطه الريب في ثباتها وسط العوالم المتحركة فتمشى في قلبه الندم وصاح من أعماق نفسه، لكنها تدور وقد كرت على

ذلك ثلاثة أجيال نهل فيها الزمان وعل من تلك المجالس فغابت آثارها ولكن الأرض لا تزال تدور وأصبح دورانها أمراً لا مساغ للشك فيه ولا نزال كلمات جليليو ترفرف فوق هام الأجيال. فارفعي أيتها الإنسانية عينيك إلى السماء وإقرائي هناك قصة أنها تدور فلنصدع دجنة الحوادث بأنوار اليقين ولننسف بقوة العمل ما في طريقنا من الموانع والعقبات وأن المستقبل لنا.

جامعة الدين

جامعة الدين وجامعة الوطن إن نزعة مقدسة لأنها رسالة إلى السماء إلى أهل الأرض. ولكن نزعة الوطن أقدس منها لأنها جاذبية الأرض لأهلها. ومغناطيسية التراب لمن خلقوا منه ودرجوا فوق أديمه. والنزعة الأولى إحساس داخلي عميق صادر من مكان خفي. وعوامل غامضة. ولكن النزعة الأخرى ليست إلا حاسة واضحة، ونتاج بواعث جلية ظاهرة. وتاريخ الدنيا ليس إلا تاريخ النزاع المستمر بن العاطفتين، وسجل الحرب الطاحنة بين الحاستين، وليست المدنية التي نزهى اليوم بها والحضارة الحديثة التي نشيد بذكرها، إلا وليدة الأولى، وربيبة الأخرى، على أنه كثيراً ما بنيت الثانية. وكثيراً ما هدمت الأولى. وكل دين في العالم لم ينهض إلا على أنهار من الدماء. ولم يذع إلا بعد ذبح عظيم، ونفوس تلاشت في سبيله، وأرواح ذهبت في طريقه، وقد كان الدين لا يزال في الجماعات الدينية التي لا تزال تعيش بروح القرون الماضية، يدخل في كل قطعة نم الحياة ويتغلغل أثره في كل ظاهرة نم ظواهر العيش، وكان الدين في الحياة الإنسانية الأولى السلطان الأكبر الذي يحكم الناس ويمتلك رقابهم. وينفذ أحكامه في نفوسهم وأفئدتهم. وهو الذي أثار تلك الحروب المخيفة التي ما أن تزال عنواناً على تاريخ الماضي المظلم. وآية باقية على مبادئ القرون الوسطى. إذ كان الناس يأبون إلا أن يقتتلوا ويدس الأخ أخاه في الثرى، ويبقر الجار بطن جاره على حاسة الدين التي ليست إلا العلاقة الخفية القائمة بين الفرد والكون العظيم الذي حوله. ولا شأن لها بعلاقة الفرد بالفرد والجمع بالجمع. وما كان ذلك إلا لأن الدين وإن عظم إذ ذاك سلطانه على الأرواح. كانت تغلب عليه الروح المادية. وكان أكبر مظاهرة الأنانية. إذ كان الناس يرون يومذاك في أوثانهم آلهة محسوسة فعالة نافذة السلطان. وإن حياتهم لا تسير إلا إذا جرها الدين جراً. وساقها الإيمان بالعقيدة سوقاً، وإن نشبهم لا يزيد إذا لم يجاهدوا للعقيدة التي يدينون بها. وإن شاءهم وأنعامهم لا تسمن ولا تربو إلا إذا حاربوا من أجلها. وكانوا يرون من الأنفة وقوة الجانب والعزة الكبرى أن يكرهوا الدنيا على أن تدين بدينهم. وإن لا يسمحوا بالحياة في جوارهم لما ليسوا على نحلتهم. وبجانب تلك الحاسة العظيمة الجبارة. كانت تعيش نزعة الدفاع عن الأرض التي يعيش

الجماعات الإنسانية فيها متضائلة بجانب أختها حاسة الدين، مستسلمة لأحكامها، نازلة على أمرها ونهيها، إذ كان الناس يرون يمذاك أن الأرض فسيحة فحيث القي الفرد خيامه، وضرب مضاربه، وسرح ماشيته. فله أن يميها وطناً، وينسبها له داراً، فإذا سئمها وانتقل به عنها مطلب من مطالب الحياة أو وثبة من وثبات الدين، فما هم بضائره أن يتحمل إلى مكان آخر يختاره وينزل حيث تحط به ركابه، فإذا هو عند وطن جديد، وإذا هو ناشئ في قوم آخرين، ولهذا كثير ما اقتتلت عشائر كانت تعيش في إقليم واحد، وتتجاور في صعيد مفرد، وحمل القوم على إخوانهم الذبن يشاركونهم في ملكية الأرض التي هم عليها جميعاً، وراء الخلاف الديني، ونزاع العقيدة للعقيدة، فلم يكن من ذلك إلا أن أغار عليهم من هم أقوى منهم جانباً، وكان من خلافهم أن ديثوا بالصغار وحقت عليهم المهانة وذلة الأسار. على أنه كان الدين في العصور الماضية قد تغلب على الروح الوطنية. فما كان ذلك إلا لأن العقل الإنساني كان لا يزال ضيق الدائرة، محصور المضطرب لا يستطيع أن يتحمل التسامح الفكري، وحرية المبدأ، لأنه كان يخشى أن يكون في تقلبه ذلك الشر كله على مبادئه. وكان يشفق من أن يهدم عقيدته أو يضعف من شوكتها، أو يفقدها مكانتها إذا أجاز بجانبها عقيدة عقل غيره وارتضى أن تعيش مذاهب الناس بجانب مذهبه. وخاف أن يفقد كل شيء إذا هو فعل ذلك ثم تبين له سخف بجانب عقائد جاره ومنافسه. ولكن العقل الإنساني الذي صير على سلطان الدين ومشى على حكمه قروناً عدة وأجيالاً، ما زال يوسع من جوانبه أن خفية أو جهاراً يفتح نوافذه المطلة على حدود الشك والتفكير المطلق الحر خلسة واستتاراً، لكي تدخل إليه نسائم الرياح النقية المتطهرة فتمسح عنه بعض أقداره حتى استطاع آخر أمره أن يعلن على رأس العالم كله أن العقل الإنساني لا حدود له ولا تخوم وأن من أكبر الجرائم أن يوحد العقل في العالم بأسرد فتعيش الدنيا كله بعقل واحد. وأنه ينبغي لهذا أن تحترم كل عقيدة. لأن في احترامها احتراماً للعقل الذي صدرت عنه. وكان في ذلك أول بواكر التسامح الفكري. وظهور حرية الأديان في العالم وإذا استتب بالتسامح في الدنيا المقام بدأت روح الدفاع عن الأرض تنمو وتزحزح روح الدفاع عن السماء. حتى جعل الناس في المدينة الحديثة يؤثرون وطنهم على الدنيا بأجمعها. وعلى الأرض والسماء معاً، وانكمشت الروح الدينية فأضحت في مكانتها الواجبة لها. وهي

أن تكون العلاقة الشخصية القائمة يبن الفرج وخالقه دون أن تمس العلاقة بين الفرد وجاره. وأصبحت الأمم تقف صفاً صفاً، أمام أي خطر يحدق بأرضها غير حافلة جموعها باختلاف أحزابها في عقائدهم وتنوع مذاهبهم. وأصبح الدفاع عن الأرض ديناً للإنسانية عاماً. ومشى الدين الروحاني بجانب ذلك الدين العام المقدس ورضيه وتقبله وانبرى زعماء الأديان ورجالاتها في مواطن الخطر المحدق بأوطانهم ينضون عنهم أثواب القساوسة. وينزعون معاطف الكهنوت. ويثبون إلى محاربة أعداء بلادهم في لباس الجند. وشملة الحرب. ونحن لا نستطيع أن نحصي عدد رجال الكنيسة الذين تطوعوا في هذه الحرب الطاحنة من كل أمة من الأمم التي تناجزت فيها وأسهمت في وطيسها. على حين كانت المسيحية هي الدين الذي يؤمن به الجميع: وإذا كان هذا هكذا. فلا عجب أن ترى مصر التي كن يظن العالم أن أقباطها ومسلميها يوم النضال عنها وفي موقف الذود عن ذمارها سيظلون أقباطاً ومسلمين ويخذل عنصر عنصراً قد انضووا تحت لواء دين واحد، هو دين الحياة والإنسانية كلها. وهو الوطن فإذا هم جميعاً صفوف منظمة تسير إلى غاية واحدة هي نشدان الحيرة أو الفناء. الخرطوم ع. ح

باب الزراعة

باب الزراعة زراعة القطن حقائق ودقائق عنها منذ سنوات كنت أبحث في غيطان القطن عن تأثير الحشرات فلفت نظري غيطان متلاصان أعرف نم قبل تماثلهما في الأحوال الزراعية ولكني وجدت أن أحدهما أزكى من الآخر زكاء بيناً. كان ذانك الغيطان متماثلين في نوع التربة والزراعة السابقة للقطن وكان زارعاهما متساويين في العناية بهما وكانا مزروعين من صنف واحد من أصناف القطن ولكن نبات أحدهما عفى من نبات الآخر وأكثر منه وأبكر فروعاً وأزهاراً بحثت فلم أجد في وسائل تهيز الأرض وخدمة الزرع فيهما ما يعلل به هذا التفاوت الكبير بين زرعيهما واستزدت من المشاهدات في غيرهما مع المقابلة يبن بعض الغيطان وبعضها الآخر فوجدت أيضاً أنه بنما تكون الزراعة الكبيرة أنمى من غيط يجاوره ويماثله تكون الزراعة الوخرية ذات البقعة يرجع إليها في التعليل عادة بين جمهور الزراع ليست وحدها هي الفعالة في تخصيب الزرع وأنه لا بد أن يكون هناك عوامل أخرى ولذلك أخذت أستكشف باستمرار وأراقب بعين ساهرة كل ما يمكن تبينه من وسائل فلاحة القطن وكيفياتها المختلفة وملابساتها المتنوعة حتى وقفت بعد طول الملاحظة والاختبار والبحث والاستبصار إلى حقائق ودقائق جديرة بلفت نظر الزراع إليها أذكر منها الآن ما يلي: (1) أن لصفة البذرة في ذاتها (بصرف النظر عن نوعها) تأثيراً قوياً قلما يلتفت الكافة إلى دراسة نتائجه وتقديرها حق قدرها بالدقة والعناية اللازميتن وأن عامة الزراع مهملون في اختيار البذور فلا يكادون يفرقون بين الطيب والدون أو الطيب والأطيب حاسبين أنه ما دامت البذرة تنبت فنماء نباتها وزكاؤه بعد تابع لخصبة التربة فحسب وهذا خطأ فإنه كلما كانت البذرة أزكى أصلاً وأرسخ صفات أي أصيلة ونقية (بالمعنى النباتي) كان نبتها أقوى وأمنع - أي ذا مناعة والمناعة هي القدرة على مقاومة الأدواء. ومما يحسن التنبيه إليه لمناسبة ذكر البذرة تصحيحاً لبعض المزاعم الشائعة في القرن الزراعي خطأ ما يأتي:

(ا) زعم التقاوى تكون أحسن لجهة ما إذا جلبت لها من جهة أخرى فإن هذا على ما يلوح لي بل أكاد أتأكده من الأوهام فهؤلاء زراع الخضروات المصرية كانوا ولا يزالون ينتخبون تقاويها نم ذات زراعتهم ويتداولون زراعتها وانتخابها دواليك منذ سنين عديدة ولا تزال مع ذلك حافظة لجودتها وخصائصها مع المزيد فيهما حيث يكون الانتخاب أدق والعناية بالفلاحة أتم ولعل سبب هذا الوهم أن البذرة المجلوبة تكون عادة مجلوبة من مزارع مشهورة بحسن عناية زراعها. فتكون لذلك جيدة وإذاً بالفضل لحسن التخير والانتقاء لا للجهة فإذا أحسن إنسان انتقاء بذرته نم غلة أرضه كان ذلك وافياً بالغرض. (ب) إن البذرة المتخيرة إذا زرعت في غيط غير معتنى به وانحط نسلها فيه لذلك نسلها هذا تعود بذرته وتسترجع جودتها. الأولى إذا زرعت في غيط معتنى به كما يجب ولذلك قد تكون صفة البذرة الظاهرة أحياناً ليست دليلاً تام الدلالة عليها بدون الرجوع إلى استكناه أصلها. (2) إن لدرجة جفاف الأرض تأثيراً فإذا كانت الأرض حلوة ولم تجف تماماً للدرجة التي يحسن معها الحرث فإن نبتها ينشأ ضعيفاً وإذا كانت الأرض بها شيء نم الملوحة وحرثت وهي جافة جفافاً تاماً فإن نبتها ينشأ ضعيفاً أيضاً وفي الأرض الحلوة كلما كانت مدة التشميس أطول كان إخصابها للزرع أزكى وبالعكس الأرض الغير حلوة فإنها إذا شمست كثيراً تفوخر. (3) إن لأوقات الري سيما مدة التزهير تأثيراً شديداً سريعاً فأحسن ما يكون الرى حينئذ في الأوقات اللينة صباحاً ومساءً وليلاً أما الري في أوقات الحرارة سيما إذا كان الزرع عطشاناً عطشاً بينا فإنه يكون مفاجأة مضرة به للغاية. وبعد فإني أذكر فيما يلي بعض الحقائق التي لا يد نم التدقيق في مراعاتها لتحسين غلة القطن نوعاً ومقداراً. (أولاً) تدمس الأرض (تروى) قبل الحرث إذا كانت بائرة أو بعد التخطيط (قبل وضع البذرة) فإنه يلطف خصوبة الأرض الفائقة الخصوبة حتى لا يهيج قطنها ويغسل ملوحة الأرض فلا تعيق نمو نباتها ويزيل خشونة الأرض إذا كانت فلا تعاكس خروج نبتها (وإذا كانت الأرض نقية من الملوحة ومتوسطة الخصب ومحروثة جيداً فإنه لا يلزم دمسها إلا

إذا كانت ستزرع قطناً رجيعاً) وإذا وجد أن الدمس سينشأ عنه تأخير زرع الأرض عن إبانه أي عن وقته المناسب فيمكن الاكتفاء بجعل رية الزرع إشباعاً. (ثانياً) أن تكون سعة التخطيط متوسطة توسطاً يميل إلى تسعة مثلاً إذا قدرنا لأرض جعل التخطيط كل 9 أو 10 خطوط في القصبتين فيرجع ال9 أو 11 و12 فيرجع ال11 وأن تكون المسافة يبن الزرع أي بين النقرة والنقرة أو الجورة والجورة متوسطة أيضاً ولكن بميل إلى التضييق فإذا قدرنا لأرض أن تكون المسافة 35 أو 30 سنتيماً رجحنا المسافة الأقل والسبب في ذلك أنه مع جعل التخطيط أقرب إلى السعة - إلى حد محدود طبعاً - تصير المساطب أعلى فتجد فيها جذور النبات عمقاً أكثر (مما تجده في المساطب ذات التخطيط الضيق) مخدوماً خدمة حسنة فينشط نموها وبالتالي نمو الشجيرات وتفريعها وتزهيرها. ثالثاً: تنقع البذرة في المساء مسافة الليلة التي ستكون الزراعة في صباحها وأحسن أن يكون الماء بقدر ما يغمر البذرة فقط بدون أن يطف عليها. رابعاً: أن تؤخر رية المحاياة ما أمكن للزرع احتمال ذلك بحيث لا يروى إلا إذا ظهرت عليه أمارات الظمأ الشديد. خامساً: أن يبكر بخف القطن ما أمكن التكبير. سادساً: أن يروى القطن رياً إشباعاً متقارباً ما أمكن ذلك في الوقت ما بين نزول النقطة ومجيء الفيضان أو من أواسط يونيو إلى أوائل أغسطس. سابعا: أن يبادر بجني القطن كلما وجد به ثلث محصول أي يجني ثلاث مرات الألفى آلات زراعية جديدة بقية محاضرة الأستاذ عبد الله أفندي عبد المجيد التي نشر قسم منها في العدد 7 و8 سنة سابعة البذارة تبذر بسرعة هائلة. وباقتصاد هائل. هـ آلة تضع فيها القمح أو البرسيم ويجرها حصان أو بغل فتسير وتدفن في الأرض البذور على أبعاد متساوية وعلى خطوط هندسية متباعدة

تباعداً متساوياً فلا تبذير ولا إسراف مهندس حكيم يخط لك حديقة غناء. لقد نشرت نقابة سنتماي الزراعية سنة 1916 في الجرائد المصرية نتيجة أبحاثي وطريقتي في بذر القمح. وبرهنت أنه لا يجب أن يوضع في الفدان أكثر من ثلاث كيلات حتى يجد النبات هواء يتخلله ومسكناً صحياً فتكبر السنبلة وتكون أقل عرضة للأمراض الفطرية الخ وأخيراً يعطي محصولاً أكبر. وقد جربت وزارة الزراعة هذه الطريقة ورأت أنها خير طريقة من الوجهة الزراعية والاقتصادية. البذارة أيها السادة آلة رخيصة يجب أن تكون عند كل مزارع وكل نقابة أنها توفر في سنة واحدة ضعف ثمنها وتوفر الوقت والعمل والعمال. وللسباخ بذارة مخصوصة تنثر على الأرض بميزان عادل. * * * العزاقة آلة سهلة يحركها حصان فتسير بين خطوط القطن أو الذرة وتعمل في الساعة الواحدة مالا يعمله العامل في يوم. فانظروا الاقتصاد الهائل. الوابورات البخارية التي تدار بالغاز كلكم يعرفها أو كلكم تملكون منها في دوائركم قد عرفتم نفعها الجم فلا أود أن أكلمكم عنها. آلة ضم القمح عربة يركبها الفلاح يجرها حصان وكلما سارت تساقط القمح بكل لطف وحزمته وتركته مجهزاً للدراس. آلة الدراس آلة تدرس القمح والشعير وخلافة فيتساقط الحب خيالياً من كل الوساخات وهي تكفي المالك تعب المواشي وهلاكها في الحر وتقتصد في الوقت. ومنها الرخيصة التي تسير بالمواشي ومنها ما يدار بالآلات. الغرابيل الميكانيكية من ذا الذي يسير حقل من القمح ولا يرى اختلاف العينات؟ تزرع قمحاً بلدياً فتراه خليطاً من الهندي والبلدي. تزرع برسيماً فتراه مزيجاً من نباتات متعددة ولم ذلك أيها السادة؟ لأننا

لا نعتني بتنقية البذور. إن هناك قانوناً طبيعياً يتصرف في الإنسان والحيوان والنبات. ذلك القانون هو أن الضعيف لا يوجد إلا ضعيفاً. الشيخ الهرم ل يوجد نسلاً قوياً كالشاب. كذلك الحبة الضعيفة لا توجد نباتاً قوياً. لذلك وجب علي أيها السادة أن أنبهكم بكل قواي أن من الواجب ليكون عندك محاصيل جيدة أن تنتخب البذور القوية. وما هي الطريقة؟ الغرابيل الميكانيكية. تضع القمح بكل ما فيه من وساخة؟ فيحرك رجل بسيط؟؟؟؟ فيتساقط خمسة أنواع من القمح أو البرسيم. كل عينة لوحدها. درجة أولى وثانية. وثالثة. والزلط والتراب لوحده. والزميل والحبوب الدخيلة لوحدها وبذلك يخرج عندك النوع الجيد لبذار أرضك ولبيعه بذوراً للغير بثمن عالٍ جداً. ويكون قمحك خالياً من كل أنواع الحبوب الدخيلة كالزميل وخلافه. إننا في حاجة شديدة أيها السادة لهذه الغرابيل. وإني أود أن أجاهد بكل قواي لأقنعكم أنه من الواجب أن يكون عندكم نم الغد غرابيل منها. اقتنوها وجربوها تروا أني أخلص لكم النصح. طالما كنت أتمنى أن أجد الفرصة السانحة فأقول بملء صوتي: إلى الغرابيل الميكانيكية. إلى الآلات الزراعية الحديثة. لا تبخلوا على أرضكم لتجود عليكم. اخدموها تخدمكم. حافظوا على خصوبتها تحافظ على ثروتكم. إن هذه الآلات أيها السادة لا تكلف كثيراً ولا تطلب مالاً جماً وهي ثروة باقية. أن نم هذه الآلات ما يمكن للمزارع الذي يملك عشرة فدنة أن يقتنيه. منها لبسيط الرخيص. ومنها صغير الحجم. ومنها كبير. منها ما يقدر عليه كل جيب وفي الختام أيها السادة نشكركم على تشريفكم وتشجيعكم. ولنا الأمل الأعظم أن تكونوا أكبر معضدين لنا. وإنا ننتهز الفرصة لنبوح لكم جهاراً أننا لا نبغي من عملنا هذا حطام الحياة إنما هو واجب نؤديه فلتؤدوه معنا ولتساعدونا عليه والسلام.

متفرقات

متفرقات أبطال بريطانيا العظمى يموتون جوعاً يوجد في بريطانيا ثلثمائة شخص من أبطال هذه الحرب الكبرى لا يجدون مورداً للارتزاق. وقد أصبحوا من الهلاك على رقاب قوسين أو أدنى. ومن بين هؤلاء الثلثمائة ألف بطل ستون ألف ضابط يبحثون في بلادهم عن وظائف أية كانت - كما أن مننهم رجلاً عد من الأبطال مراراً ضاقت الآن سبل العيش في وجهه فلم يجد وسيلة سوى أن يجوب الطرقات (يضرب على مزمار) ليلفت الأنظار إليه. وآخر كان في المدفعية وجرح مرتين وحاز نيشان لشجاعته وأقدامه تجده إلا أن يعيش بالاستجداء بأن يبيع ظهور النتائج الملونة وعلب الشوكولاته الفارغة. وإذا علم القارئ أن (ملازماً) و (يوزباشياً) أصبحا يجوبان الشوارع وهم يبيعان سندويش ويعلنان للملأ جلية أمرهما، أمكنه أن يصور لنفسه مقدار البؤس والفاقة والشقاء الذي أصحبت الأبطال تقاسيه في بلادهم بريطانيا العظمى. . . العيون والأمراض ما رأيكم يا معشر الأطباء؟ يقولون أنه كما يقيس الحرارة الترمومتر، وحالة الجو بوساطة البارومتر كذلك يمكننا أن نعرف ما إذا كان الإنسان صحيحاً أو مريضاً من عينيه. وهذه الطريقة تسمى القزحية وقد قال عنها الدكتور أندرسون الدانيماركي أنها هي الطريقة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في استكشاف مكان المرض. وأول من كشف هذه الطريقة هو رجل هنغاري. فقد حدث وهو في صغره أنه أمسك بومة قد كسرت ساقها، فلاحظ أن نقطة سوداء قد ظهرت على الحلقة الملونة التي تحيط بإنسان العين - وهي التي تسمى القزحية - وبعد مضي سنين عدة لاحظ نفس النقطة على القزحية رجل قد كسرت ساقه كذلك. . . فأدت به هذه الملاحظة إلى بحث الموضوع بشكل دقيق، فاتضح له أن كل مرض من الأمراض يحدث نقطة في مكان خاص من القزحية. . حتى إذا ما عولج المرض وزال اختفت هذه النقطة، وبقدر الشفاء كون الاختفاء حتى ليمكن الطبيب أن يعرق متى يتم شفاء المريض.

* * * قطارات تسير بالهواء هل سيأتي يوم سيتغني فيه العالم عن البخار والفحم وقوة الماء والكهرباء في تسيير القطارات؟ أجل ربما كان ذلك، إذا نجح ذلك الشاب الإيطالي في إتمام إختراعه. فبواسطة هذا الاختراع الذي قد سجل في جميع أنحاء العالم سيصبح من الممكن تسيير القطارات بقوة الهواء المضغوط. والسبيل إلى ذلك - وإن كان لا يزال سراً من أسرار المخترع - ينحصر في استنباط طريقة جديدة لضغط الهواء بكمية هائلة في مركز من المراكز، ثم يوزع كوقود في أنابيب متينة صلبة بطول الخط الحديدي على المحطات المختلفة حتى تملأ منها خزانات القطارات عند الحاجة. وإذا تمت هذه الطريقة فإنها ستكون أقل نفقة بكثير من أية طريقة استعملت للآن حتى الكهرباء لأنها لا تحتاج إلى إنشاء مركز الضغط ووضع الأنابيب فبارك الله في أولئك الرجال العاملين الذين يكدون أذهانهم في استنباط الطرق التي تعود بالخير العميم على العالم بأسره. * * * يقول العقلاء - رب فتاة ثرية، كانت زوجة زرية - من تردد في النجاح، أكد له الخيبة - علم المرء بجهله، شطر كبير من العلم - تجربة واحدة خير من ألف نصيحة * * أغني ممالك الأرض بالنسبة لسكانها هي لكسمبرج بألمانيا ثروة الفرد الواحد في المتوسط في أهم الممالك: لكمبرج 480ج - الولايات المتحدة 420ج - بريطانيا 390ج فرنسا 300ج * *

ماتت امرأة في (برستد فوجدت جدران منزلها مغطاة بطوابع بوستة قديمة، فيا لها من نزعة غريبة. * * * الحرير من خيوط العناكب يقولون أنه أصبح من الممكن أن يحصل الإنسان على خيط حريري يبلغ ميلين من نسيج العنكبوت المعتاد مرة أو مرتين في الأسبوع وذلك بواسطة آلة حديثة أنشئت لذلك الغرض خاصة. وقد نجحت مدغشقر نجاحاً باهراً في عمل خيوط حريرية من نسيج العنكبوت حتى لقد أصبحت تصنع منه جوارب وقفازات (جونتيات). وينقسم جسم العنكبوت إلى قسمين أحدهما صغير، وفيه الرأس والصدر، والثاني كبير فوفيه المعدة والبطن، والفم فكان قويان ونابان حادان. وإلى جانبيه يدان حساستان بهما يقبض العنكبوت على فريسته. أما مخالب أرجله فهي أشبه شيء بأسنان المشط ولذا تمكن من أن يسير في بيته ف أي تجاه دون أن يسقط فيه. وللعنكبوت ثمانية أعين موضوعة حول رأسه بحيث يرى من جميع الاتجاهات في وقت واحد. . . . أما آلة النسيج في هذا الحيوان فهي آخر بطنه. . . . ترى لها نوعاً من الأصابع القصيرة المدببة الأطراف، تخرج منها المادة السائلة بإرادة العنكبوت. وهذه المادة السائلة تجمد وتقوي بمجرد ملامسة الهواء. * * * ألوان المدن لاحظ الطيارون وهم يحلقون في أجواء المدتن المختلفة أن لكل منها لوناً خاصاً تترآى لهم فيه. . فمثلاً نيويورك تظهر: حمراء - وواشنجطن: خضراء - وشيكاجو وسان فرانسيسكو: أبيض سنجابي - وسنت لويس: أبيض ناصع - وبستن: رمادي كالسحاب الذي يتلبد في سمائها أحياناً. أما لندن: فتظهر لون أزرق أغبر ليس رائقاً ما عدا حدائقها الواسعة فتظهر بلون أخضر مائل إلى السواد - وبرمنجهام وغيرها من البلدان الصناعية مثل شيفيلد فلونها بني قائم - وعلى العموم ترى ألوان المدن التي على الشاطئ ليست قائمة كالتي داخل المملكة.

* * * أيهما تفضل أيهما تفضل، أعلاوة قدرها عشرون جنيهاً كل سنة، أم علاوة فدرها خمسة جنيهات كل ستة أشهر؟ بديهي أنه إذا ألقي هذا السؤال على جماعة الموظفين، فإن 99 في المائة منهم لا يترددون في اختيار العلاوة الأولى - ولكن هذا الواحد من المائة هو لا شك أحست تقديراً وأكثر فوزاً وإليك البرهان: لنفرض أن هذا الموظف سيبتدئ بمرتب قدره 100 جنيه في السنة، ولنحسب إيراده في مدة سنتين ففي الستة أشهر الأولى 50 جنيهاً وفي الثانية 55 جنيهاً وفي الثالثة 60 والرابعة 65 وعلى ذلك يكون المجموع 230 جنيهاً أما إذا قبل 20 جنيهاً كل سنة، فإنه يأخذ 100 جنيهاً في السنة الأولى و120 في السنة الثانية، فيكون المجموع 230 جنيهاً فقط. . . . * * * عجائب المخلوقات يوجد رجل يدعى (لويس) له قلب يدق دقات موسيقية رنانة يمكن سماعها من جميع أركان غرفة واسعة. ولويس هذا هو رجل بولاندي نفي منذ سنوات في سيبريا لجريمة ارتكبها ثم حاول الفرار فأصيب بجرح واسع من جراء ذلك. والظاهر أن الحربة لما اخترقت صدره مست قلبه بكيفية خاصة استحال بعدها آلة موسيقية لا تزال للآن موضع دهشة رجال الطب واستغرابهم. وأعجب من هذا ما سمعناه عن رجل في نيويورك يتلاعب بالجاذبية بكيفية لم يكن للعقل أن يقلبها أو يصدق خبرها لولا إقرار كثير من علماء ورياضي أوروبا وأمريكا بوجوده. كنا نعلم أن وزن أي شيء من الأشياء ثابت لا يتغير لأنه يتعلق بجاذبية الأرض للمادة التي يتكون منها الجسم. . ولكنا نسمع أن هذا الرجل الغريب يمكنه وهو فوق الميزان أتن يجعل وزنه يتزايد كيفما شاء، فيكون 200 و400 و600 وفي بعض الأحيان 800 رطل

مع أنه رجل نحيل لا يزيد عن 120 رطلاً وكذلك في استطاعته أن ينقص وزنه حتى لتخاله من حمله أنه طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره. وهذا الرجل نفسه لا يقدر أن يشرح السر في هذه الميزة العجيبة. وكل ما يعرفه هو أنها تزداد فيه قوة يوماً عن يوم وهو يقول لابد من أحداث تعديل في قانون الجاذبية حتى يتفق مع حالته. * * * معلومات صغيرة يبلغ عدد الذين يتناولون (معاش الحرب) 2، 621، 313 نسمة يوجد أكثر من 500 مدرسة للموسيقى في ألمانيا لا يبلغ سن المائة إلا واحد من كل عشرة آلاف نسمة نالت المرأة في غرب استراليا حق الانتخاب نمذ خمسين سنة تقريباً في 1913 - 1914 كانت نفقة الجيش البريطاني (28، 220، 000) جنيهاً وفي 1919 كان نفقته (268، 534، 000) جنيه تستطيع (1، 000، 000) مكروبة أن تقف على سن الدبوس يبلغ عدد اليهود في أنحاء العالم 15، 430، 000 نسمة العائلة الحاكمة في اليابان هي أقدم العائلات في العالم. فإن الحاكم الحالي هناك يقول أن به يكون قد حكم اليابان 122 حاكماً من أسرة واحدة لم تنقطع وقد وليت الحكم عام 700 قبل الميلاد. رؤوس صلعاء للإيجار لقد أصبحنا في زمن لا ينتهي فيه العجب! حتى لقد أصبح الناس الآن يعالجون أبواباً والارتزاق هي النهاية والغرابة. فمن ذلك ما قرأناه عن شاب متعلم حسن البزة طيب المنبت طال عليه أمد البطالة واشتد به البؤس وضيق ذات اليد، حتى لقد اضطر أخيراً أن يقبل ما عرضته عليه شركة من أشهر شركات المسارح بباريس. . وهو أن يحلق رأسه كلها (بالموسى) ثم يكتب على جلدها اسم المسرح وعنوان الرواية وميعاد التمثيل ثم يجلس هكذا في قهوة غاصة بالقوم على سيبل الإعلان. . . فاللهم فرج هذا الكرب وارفع هذا

البلاء الذي عم العالم قاطبة، وارحم عبادك فحسبهم ما قاسوه من صنوف العذاب والويلات والمهانة في هذه السنوات الأخيرة.

الحق صراح

الحق صراح غريب في أمر هذه المجلة - غريب أمرها للغاية التي لا بعدها - إذ كلما حز بها أمر، وأخذت بخناقها ضيقة مالية من جراء وكلائها، وخراب ذممهم وعبثهم بأموالها - وبهذا الجرم الدنيء - الجرم الذي لا ينال من صاحب المجلة نقول أنهم بهذا الجرم الخبيث الذي لا جرم مثله يقتصون الحين بعد الحين جناحي البيان فتكون النتيجة أنه يعجز عن أن يطير إليهم فيه - ويطول هذا العجز الشهر والشهرين والثلاثة حسب كمية هذا الجرم، فتذهب الظنون إذ ذاك مذاهبها ويكاد اليأس من ظهور المجلة مرة أخرى يتسرب لا إلى نفوس القراء فقط بل إلى القائم بالعمل نفسه. وعلى الرغم نم ذلك كله لا تكون إلا عشية أو ضحاها حتى يهيئ الله من أمرنا رشداً، ويتيح لهذه المجلة ما يقيلها من عثرتها، وينتاشها من وهدتها، فيرتاش البيان - ويرتاش أبدع الارتياش ويطير باسم الله مجراه، إلى من ينتظرون بشغف سراه. ألم بالبيان في هذا العام ثلاث ملمات من نوع واحد، وذلك أن ايتلي ثلاثة من المخلوقات، عينوا وكلاء محصلين له في الجهات، حصل ثلاثتهم على نحو من خمسين ومائة جنيه، لم يحظ البيان منها بخمسين ومائة مليم، بينما ذلك المقدار كان يكون كافياً لإخراج خمسة أعداد البيان، فسببت هذه الملة المروعة عدم ظهور عددي نوفمبر وديسمبر لأن البيان من ابتداء سنته الثالثة يتأثر باشتراكاته تأثراً بيناً، فيهبط ويرتفع كالبارومتر يتأثر بالجو الذي يحيط به. . . فأخذنا نم ذلك المقيم المقعد، وصرنا بحيث لا نستقر على حال من القلق. إذ قد بذر الله في قلبنا حب هذا العمل ولا تعلق بالمضي فيه بصفة لا أدل عليها من ثباتنا فيه إلى اليوم على الرغم من أمثال هذه العقبات التي تكاد أكبر قوة ما دامت طريقة الحصول على الاشتراكات ترسل إلى الجريدة أو المجلة مباشرة دون واسطة، مجصل فلو أن هذه الطريقة تتبع في مصر لكان البيان اليوم على حال يحسد عليها. . . لكان يجاري اليوم مجلات الغرب ويلز الغرب معها في قرن. أما بعد فلما رأينا البيان بهذه الحال أخذنا نبحث عن حيلة نخرج بها من هذا المأزق المتضايق فشغلنا أولاً بتأديب هؤلاء الخونة حتى يكون فيهم لمن بقى اعتبار ثم بعد ذلك لم نر أمامنا للحول على مبلغ من المال ندارك به حالة سوى ذلك الذماء الباقي لأولادنا فما كان منا إلا أن أزعجناهم إزعاجاً كأنا بهم لا ينسون أبد الدهر حرقته وذلك بأن أخذنا منهم

أخذ عنيدهم، ثمن قطنهم، واشترينا به ورقاً يكفي البيان عاماً كاملاً، ثم اتفق أن شغلنا في تلك الآونة بحفلة البيان السنوية التي لم نوفق إلى إقامتها إلا في مساء يوم الخميس الموافق 2 يناير - والشيء يذكر بالشيء، فقد كانت حفلة هذا العام حفلة من أجمل حفلات! إذ مثلت فيها جمعية أنصار التمثيل رواية من أبدع روايات الدنيا وأروعها وهي رواية بني الوطنية أو الرسول التي نقلها من الفرنسية إلى العربية الكاتب المبدع عباس أفندي حافظ أحد كتاب هذه المجلة، وأهداها إلينا لتمثل في هذه الحفلة، وزاد هذه الحفلة رونقاً وجلالاً أن رأسها حضرة صاحب المعالي أحمد حشمت باشا الذي رأينا منه ما يصح معه أن نلقبه بحق - نصير العلم والأدب في مصر - وقد دعونا لتشريف هذه الحفلة كل من نعرف منه سمو الخلق ونبل الروح والغيرة على العلم والأدب في شخص هذه المجلة فكان في طليعة من أجابوا الدعوة حضرة صاحب المعالي عدلي يكن باشا وحضرة صاحب السعادة الوطني الكبير علي شعراوي باشا وحضرة صاحب السعادة الأديب الكبير أحمد تيمور باشا وحضرة صاحب السعادة محمود فخري باشا وحضرة صاحب السعادة عثمات مرتضى باشا وحضرة صاحب العزة ذي الحسب العد والإحساس المتفضل القاضي الفاضل السيد فوده بك القاضي بمحكمة مصر وحضرة صاحب العزة الوطني الغيور الهمام عبد الستار الباسل بك وحضرة صاحب العزة المهذب النبيل على محمود بك نجل حضرة صاحب السعادة محمود سليمان باشا وحضرة صاحب العزة العالم الجليل وشاعر العربية والتركية نور الدين مصطفى بك وحضرات أصحاب العزة الأفاضل الأماجد علي جلال بك القاضي بمحكمة مصر المختلطة وإبراهيم الهلباوي بك وإسماعيل شرين بك وأحمد ومحمد شريف صبري بك والعالم الفاضل السيد مصطفى عبد الرزاق وسعادة الأصولي الفاضل محمد أسعد بك وسعادة الشاب الكبير علي توفيق بك ومحمد محمود جلال بك إلى كثير من كرائم السيدات وطلبة المدارس وتلاميذها وقد ألقيت خلال فصول الرواية منولوجات وطنية جميلة آية في الإبداع وختمت الحفلة بأن ألقى كاتب هذه الأسطر كلمة شكر لحضرات الذين أجابوا الدعوة متفضلين وجملة القول أن هذه الحفلة أصابت من النفوس أقصر غايات الاستحسان، فكان لديهم يد نعم اليد على البيان. وبعد فلما قطعت هذه المرحلة الأولى رأينا أنها لا تصل وحدها بالبيان إلى الغرض الذي

نرمي إليه ويرمي إليه عشاقه، وذلك إنا - كما يعرف ذلك كثير من خلطائنا - كنا وحدنا القائمين بجميع أعمال هذه المجلة من مادية وأدبية فكان لذلك أثر سيء على البيان - فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فلم نر أبداً من أستاذ الأعمال الإدارية إلى ابن عمنا وشريكنا في هذا العمل ناجي أفندي البرقوقي - فكان ذلك، وأصبح حضرته من اليوم هو الذي يجعل أن يفاوض في جميع شؤون هه المجلة الإدارية وأهمها تعيين الوكلاء ومحاسبتهم. وبذلك أدرك البيان ما يتمنى، وأصبح البيان بحال تبعث على الطمأنينة التامة من جميع جهاته. يبدأ أن لنا لدى حضرات المشتركين الذين اعتادوا أن يدفعوا الاشتراكات بواسطة المحصلين ولا سيما الذين يقيمون في غير القاهرة والإسكندرية أن يعدلوا عن هذه العادة جهد استطاعتهم بأن يكلفوا خاطرهم ويرسلوا إلينا قيمة الاشتراك في ميعادها مباشرة بواسطة البريد وبذلك يؤدون لنا ولأنفسهم ولوطننا المحبوب أجل خدمة. . سدد الله خطواتنا جميعاً إلى ما فيه الخير لمصر والمصريين. فلتحي مصر الحرة المحبوبة - وليحي كل مصري يعمل لمصر وإسعادها - وليحي من يقدر الواجب حق قدره.

اعترافات الفرد دي موسيه

اعترافات الفرد دي موسيه كان من بين الموضوعات التي وقع عليها اختيارنا لنشرها مذ السنة الثانية للبيان اعترافات شاعر فرنسا الخالد الفرد دي موسيه - وقد نشرنا فعلاً من هذه الاعترافات الفصل الثالث والرابع - لأن الأول والثاني كمدخل لهذه الاعترافات، ولاعترافات نفسها إنما تبتدئ من الفصل الثالث، ثم سكتنا عن الاسترسال في نشرها لاشتغالنا بالموضوعات الأخرى التي كانت أهم في نظرنا بيد أن كثيراً من قراء البيان اليوم طلبوا إلينا ملحين أن نعود إلى ترجمة الاعترافات - ولأن العهد بالسنة الثانية قد طال وأصبح الكثير من قراء البيان اليوم غير قرائه بالأمس - لذلك لم يجد ندحة عن استئناف ترجمة هذه الاعترافات من أولها. والمحور الذي تدور هذه الاعترافات حوله هو التشهير بعصر الشاعر ومساوئه ومن هنا اسماها اعترافات فتى العصر. (الفصل الثالث) حضرة وليمة في دار بعض الناس، وكان حولي أصدقائي في الحلل الفاخرة. والحلى الباهرة. والمكان غاص بالفتيان والفتيات - يتلأ لأن جمالاً وبشراً، ويتألقن سروراً وحسناً. وعن يميني ويساري الأباريق والأقداح. والنرجس والأقاح. والألوان في الصحاف، والزجاج يجلو السلاف. وفرقة الموسيقى تصدح الألحان. كهديل الورق في الأغصان. وكانت تجلس أمامي على المائدة حبيبتي - وكانت من أمنح خلق الله وكنت بها صبا مستهاماً. وكانت سني إذ ذاك تسعة عشر، وكنت في رخاء من العيش وصفاء من الدهر وأمان من النوائب. وكنت شاباً نبيلاً شريفاً، ومخلصاً صريحاً، مملوء الفؤاد بالأماني المستحيلة مما تفيض به قلوب الأحداث والشباب. وكانت الخمر قد دبت في عظامي والتهبت حمياها في عروقي. فكنت بتلك الحال التي يظل فيها المرء يبصر شخص حبيبته في كل ما تقع عليه عينه من المرئيات. فكأن الكون كله في نظرة جوهرة عظيمة لها ألف ألف وجه وعلى كل وجه يبدو وجه حبيبته. وكنت فرحاً مسروراً طرباً أحس كأن كل مخلوقات الله أخوة لي وأكاد أهم باعتناق كل من رأيته يبتسم. وكانت حبيبتي قد وعدتني اللقاء في تلك الليلة بعد؟؟؟؟؟ الحفلة. فرفعت شفة الكأس إلى شفتي أرتشف ريقتها، وفي تلك اللحظة نظرت

إليها وفي أثناء ذلك التفت أتناول صفحة من يد الخادم فسقطت شوكتي فانحنيت التقطها. ولما لم أجدها رفعت ذيل غطاء المائدة لأبحث عنها. فأبصرت تحت الخوان قدم حبيبتي مستقراً على قدم شاب كان جالساً إلى جانبها وقد التفت الساق بالساق وهما من آن لي آخر يتغامزان بالأكف ويتضاغطان بالأرجل والأقدام ثم استويت جالساً وطلبت شوكة أهرى واسترسلت في الأكل والشرب على غاية نم السكون والطمأنينة. وكذلك كان شأن حبيبتي وجارها - ساكتين صامتين لا يتنابسان شفة ولا يتبادلان النظرات ولا اللمحات - لا علناً ولا اختلاساً. وكان جارها قد ارتفق على المائدة وأقبل على امرأة أخرى حياله يمازحها ويداعبها وهي ترية أسوارها ودمالجها، وكانت حبيبتي ساكتة الأوصال لا تبدي حراكاً، ترنو بلحظ فاتر وطرف مريض. وجعلت أراقبها أثناء الطعام فلم يبدر من أيهما أدنى ما يدعو إلى ريبة أو تهمة. لما وضع الآخر الألوان أسقطت فوطتي عمداً ثم انحنيت لآخذها فألفيتهما على مثل حالتهما الأولى لم يتحولا عنها مثقال ذرة. وقد كنت واعدت حبيبتي على أن أرافقها إلى دارها بعد الوليمة. فأقضي معها هزيعاً من الليل. وكانت أرملة، فكان لا قيد عليها ولا بأس أن تستقبل الضيوف في دارها ولا سيما إذا كان لها قريبة عجوز كانت لا تزال ترافقها وتنزل منها منزلة الحارسة والرقيبة. فلما رفع الخوان ونهضت للانصراف نادتني قائلة أوكتاف! أوكتاف! هلم إليّ! أما آن أن نذهب إلى الدار؟ أني متأهبة للذهاب فلم التفت إليها ولكني أخذت في الضحك ثم غادرت إلى حجر في الطريق فقعدت عليه ولم أدر فيما كنت أفكر وبماذا اشتغل بالي إذ ذاك وماذا جال بخاطري. فلقد كنت يعلم الله قد راعني وهالني ما شهدت نم خيانة حبيبتي، وبهرني وغمرني ما رأيت من غدرها حتى رحت كما قال القائل: ترى الجلد مغموراً يميد مرنحا ... كان به سكراً وإن كان صاحياً وكان الذي أبصرته بعيني رأسي من عملها الآنف الذكر لم يدع للشك أدنى مجال عندي. فأحسست كأنما شج رأسي بصخرة أو سقط عليّ حائط. فلست أدري ماذا كان يمر بخاطري ساعة كنت جالساً على ذلك الحجر سوى أني كنت أرفع طرفي بلا تفكير نحو السماء حيث أبصرت شهاباً ينقض، فنزعت قبعتي أحيي ذلك البارق المارق الذي يبصر فيه الشعراء آية على خراب عالم من العوالم.

ثم عدت إلى منزلي على مهل وأنا لا أحس ولا أشعر ولا أعقل ولا أفكر كمن قد ذهب فلبه وطاح لبه. ثم أني نزعت ثيابي ومضيت إلى مضجعي ولكني لم أكد أضع رأسي على الوسادة حتى تملكني حب الانتقام والأخذ بالثأر وجاش بقلبي جيشة حفزتني من فراشي حفزاً، فلم أشعر إلا وأنا قائم على الجدار منتصباً كأني الرمح أو الجذع وقد خنقني البكاء ثم انطلقت عيني بوابل من الدمع هطال، وذراعاي ممدودتان وقد ارتفع مشطا قدمي عن الأرض لتشنج أعصابي فلم أطأ أديمها إل بعقبي. ومضت عليّ ساعة وأنا على هذه الحال من الجنون التام يابس المفاصل جامد الأوصال كالهيكل العظمي. وهذه كانت أول ما أصابني نم الثورات الغضبية والنوبات العصبية. كان الرجل الذي فاجأته يغمز حبيبتي ويجمشها أحد أصدقائي المقربين. فجئته في الغد يصحبني رفيق لي من فئة المحامين اسمه ديزينيه ثم أخذنا مسدسين ومضينا إلى غابة فينسين وجعلت أثناء الطريق أتحاشى النظر إلى خصمي والدنو منه فمنعت نفسي بذلك من الاعتداء عليه بالنسب أو الضرب. ومثل هذا الاعتداء يعد شيئاً وعبثاً ما دام القانون يجيز المبارزة القائمة على أساس منظم غير أني لم أملك مع ذلك أن صوبت إليه طرفي خلسةً وكان رفيق صباي منذ الطفولة وقد قضينا معاً حقبة من الدهر كأحسن ما يكون صديقان ونحن من الألفة بحال هي المصافاة بين الماء والراح. وامتزاج الأبدان بالأرواح. وكان عليماً بحبي لعشيقتي وفد أفهمني مراراً أن مثل هذه الروابط الغرامية مقدسة في مذهبه وأن يؤثر الانتحار على أن يكون لعهدي غادراً - ويفضل أن يحثى فوقه تراب القبر على أن يحاول خلعي من منزلتي في فؤاد حبيبتي ليحتلها بدلي ويقوم فيها مقامي فوثقت به الثقة العمياء ولعلي لم أخلص لإنسان قط إخلاصي له ولم أختص رفيقاً ولا خلا بمثل مكانته في صدري. فجعلت أنظر نظرة المندهش المستغرب إلى ذلك الرجل الذي ما برح يصف لي فرائض الصدقة وواجبات الإخاء كما كان يصفها أبطال الأزمان الغابرة ثم قد أبصرته بعد ذلك يداعب حبيبتي - نظرت إليه بعين شاخصة ذالهة. ونفس من لوعة الجوى متساقطة ذابلة. نظرت إليه أتأمل كيف صاغه الله وكيف صوره وركبه، ومن أي جوهر صنعه ومن أي طينة عجنه، وهل هو من معشر الأنس منذ الطفولة، وعاشرته عشرة الأصفياء الأولياء.

والخلان الأوفياء. قد بدا لي الآن كأنه مخلوق عجيب لم أره قط ولم تقع عليه عيني إلا في تلك اللحظة. ثم وصلنا إلى مكان البارزة وبعد إجراء التمهيدات الأولية وقف كل منها موقفه وأخذ يدنو من الثاني على مهل وكان وهو أول مطلق فأصابني في ذراعي اليمين فحولت المسدس إلى يساري ولكن خارت قواي فوقعت إلى ركبتي. وهنا رأيت خصمي يهرع نحوي أصفر الوجه مضطرباً. وهرع إليّ شاهدي أيضاً إذ رأياني جريحاً. فأومأ إليهما بالتنحي وقبض على يدي المجروحة واصطكت أسنانه وأعياه النطق ورأيت عليه آية الكرب الحازب، والبرح الأليم. وكأنه كان إذ كان يقاسي من الكمد والبلاء أشد ما قاساه إنسان. فقلت له إليك عني! اذهب فاغسل يديك الملطختين بدمي في فراش -! عند ذلك خنقته العبرة - وخنقتني ثم حملت إلى مركبة وأتيت بطبيب ولم يكن الجرح بليغاً ولا خطراً. إذ كانت الرصاصة لم تبلغ العظم. ولكني كنت من الهياج العصبي بحالة منعت من تضميد الجراحة! فلما همت المركبة بالمسير بصرت على بابها بيد مرتعشة - يد خصمي قد مدها للمصافحة فكان جوابه مني هزة الرأس إباء ورفضاً. ولقد كان بي من حدة الغيظ ووقدة الحنق ما أغلق باب العفو والغفران وإن كانت شواهد حالته دلتني إذ ذاك إن ندمه كان صادقاً وكانت توبته نصوحاً. ولما بلغت منزلي كان جريان الدم من جرحي قد نفعني كثيراً بإضعاف قوتي لأن هذا الضعف الحادث كسر شوكة غضبي وأنقذني من سورة ذلك الحنق والهياج الذي كان أشد بلاء على من جرحي. فذهبت مسروراً إلى فراشي. وقدمت إلى كوبة ماء، فما أظن أني ترشفت في حياتي شراباً كان أبرد على كبدي وأندى وأطيب في فمي واحلي من تلك الكوبة. ولما استلقيت على الفراش أخذتني الحمى. فأخذت اسكب العبرات. وجعلت أقول لنفسي لو أن حبيبتي كان أمرها مقصوراً على الصد والهجر بل على الجفاء ولا أتصور. وإني والله لا أستطيع أن أتخيل كيف أن امرأة تخدع الرجل وتكذب عليه بيننا هي تحب غيره وماذا

يدعوها إلى ذلك وليس يضطرها إليه دافع من واجب أو مصلحة. ثم جعلت أسأل صاحبي ديزينيه عشرين مرة في اليوم كيف يتفق ذلك وكيف يحدث؟ أما لو كنت زوجاً لها أو مستأجراً لفهمت علة خيانتها لي. فما بالها إذ زال حبها لي لا تصارحني بذلك ولا تكاشفني فما بالها تكذبني وتخدعني؟ والواقع أنني لم أكن أتصور أن أمر الحب مما يجوز فيه الكذب. ولا جرم فإنما كنت يومذاك طفلاً، وأعجب من ذلك أي لا أزال ف هذا الباب طفلاً ولا أزال لا أستطيع أن أتصور أن أمر الحب مما يجوز فيه الخداع والكذب. فكلما أحببت امرأة خبرتها أني أحبها وكلما زال حبي خبرتها بزواله. إذ كنت اعلم أن أمر الحب هو اضطراري قهري يسير فيه الإنسان ولا يخير ولا يكون له فيه رأى ولا حيلة - فهو في كل أطواره آلة بريئة - فإن كانت فيه جريمة فتلك هي الكذب والخديعة. فكان لا يزال جواب ديزينيه على كل أسئلتي هو أنها لمجرمة شقية فعدني أن لا تراها البتة فأقسمت له على ذلك. ثم نصح إليّ أيضاً أن لا أكتب إليها ولا على سبيل التوبيخ والتأنيب وأن لا أرد عليها إذا بدأتني بالكتابة فوعدته الطاعة في كل ذلك وجعلت أغضب كلما أبدى لي شكة في صحة نيتي على هذا. ولكن أول ما عملته بالرغم من كل ذلك أني ذهبت عقب خروجه من عندي إلى دار حبيبتي لألقاها فألفيتها منفردة قد جلست على كرسي بزاوية حجرتها مطرقة الرأس عليها شواهد الاضطراب والحيرة. فأنحيت عليها بأشنع التعنيف والتوبيخ وكنت من اليأس في سكرة وغمرة. وجعلت أصيح بأرفع صوت وكانت العبرة ربما اعترضتني حتى تحول بيني وبين الإبانة فكنت راكب على السرير لأطلق العنان لدموعي وأطرح منها عبأ عن مهجتي ثقيلاً. وكان مما قلت لها الويل لك أيتها الخائنة الغادرة الفاجرة! إنك لتعلمين إن في ماجئته هلاكي وحتفي وهذا لعمري بغيتك ومناك، ومرادك ومشتهاك خبريني ماذا كلن مني يستوجب ذلك وماذا صنعت وما ذنبي فطوقتني بذراعيها وقالت أنه فخ نصب لها وشرك أتيح لها الوقوع فيه. وأنه القضاء المحتوم والقدر المحموم ابتلاها بالماكر المحتال الخلاب المنطق الذلق اللسان ما زال بها

يغريها ويغويها وينصب لها من مصايد كيده حتى نشبت في الحبالة. وأنه استعان على لذك بإضعاف عقلها يحميها الشراب وعصفة الكأس على أنه لم يبلغ منها وطراً سوى ما كان من ذلك الغمز والتجميش على الخوان فكل ما أتته هو هفوة بسيطة في بعض فترات الغفلة والغرة وليست بسقطة ولا جريمة. وأنها على هذه الهفوة النادمة ندامة غيرها على الإثم والجناية - فهي قاتلة نفسها حسرة لا محالة وهي قاضية نحبها وكمداً ولوعة - حتى ولو غفرت لها وعفوت عنها. وكانت في أثناء ذلك يبكي بكاء مراً وقد استنفدت دموع الندامة الصريحة والتوبة الصحيحة ونفضت جعبة اللفظ الخلاب والكلم الجذاب في سبيل استمالتي وتعزيتي واستعطافي وتسليتي. ولم أر أجمل منظراً منها ساعة ركعت لي وسط الحجرة وقد علاها شحوب واصفراراً واضطربت هيئتها وتشوشت ثيابها وانتفش شعرها واسندل على منكبيها - أجل لم أر أحسن منها بهجة وأملح رواء وهي على هذه الحال. فلقد والله هاج المنظر حواسي فارتجفت ورهبة من هذا الهياج وعاقبته. ثم خرجت متعباً مكدوداً منهوك القوى لا أكاد أبصر أو أسمي وعزمت على أن لا أراها ثانية ولكني عدت إليها قبل اقضاء ربع ساعة. وما أدري أي قوة خفية كاتن تدفع بي إليها. ولقد قامت بنفسي في رغبة شديدة في حيازتها مرة أخرى لأشرب على نحرها المشرق وترائبها المصقولة دموعها ودموعي ثم أقتلها وانتحر. والواقع أني كنت أمقتها وأعبدها. وكنت أشعر أن حبها مضيعتي ومتلفتي ولكني كنت أشعر أيضاً أن حياتي من دونها إحدى المستحيلات فأسرعت إلى غرفتها كالبرق الخاطف ولم أقف! أكلم أحداً من الخدم ولكني دخلت بلا تردد ففتحت عليها باب حجرتها. فألفيتها جالسة إلى المرآة تتجمل وتتبرح وقد تكللت بالجواهر وتجللت بالدرر واللآل. وإن خادمتها؟؟؟؟ شعرها وترجله، وتضفره وتعقصه والغانية ممسكة في يدها قطعة من مادة حمراء كانت تدلك بها وجنتيها دلكاً رفيقاً ليناً. عند ذلك أحسست كأني في حلم إذ لم أستطع أتصور أن هذه هي عين المرأة التي رأيتها منذ ربع ساعة منطرحةً على الأرض في غمرة من الحزن والكمد. فمثلت ثابتاً مكاني كالنصب جامد الحركة شاخص البصر. وكانت هي لما سمعت الباب يفتح لفتت رأسها مبتسمة وقالت أهذا أنت؟

وكانت تريد الذهاب إلى بعض المراقص وهي في انتظار من كان سيصحبها إلى هنالك. فلما رأتني - وغيري كانت تنتظر - ضمت شفتيها وقطبت جبينها. فتقدمت خطوة نحو الباب. ثم نظرت إلى جيدها لاحسان المعطر يزينه شعرها المسلسل مشبوكاً بمشط من الماس. فخيل إلى أن هذا الجيد - مركز القوة الحيوية - كان أسود من الجحيم. وكان ملتفاً فوقه ضفيرتان لماعتان مزدانتان بحلي من اللجين وما كان أعجب التباين يبن بياض جيدها وكتفيها وبين لون ذلك الشعر المتكاثف. ولكن جمال هذا المنظر كان مشوباً بمعنى من معاني الدعاة والفجور. فما أكدت أتبين هذا المعنى حتى استفقت مما كان غشيني من الحيرة والارتباك منذ دقيقة فتقدمت خطوة نحوها فجأة وضربت هذا الجيد بجمع كفي. فصاحت حبيبتي صيحة منكرة وخرت على الأرض صريعة وانطلقت من المكان في الحال. ولما عدت إلى غرفتي عاودتني الحمى بما لا أستطع معه التهالك على الفراش ونكأ جرحي بعد اندماله فأصابني منه عذاب الأليم. وجاء ديزينيه يعودني فأخبرته بالذي كان! فأصغى إلى في صمت وإطراق. ثم أقبل يتمشى في الحجرة جيئة وذهاباً برهة من الوقت كالمتردد الحائر الذي لا يدري كيف يصنع. وأخيراً وقف أمامي. وقهقه ضاحكاً. وقال أهي حبيبتك الأولى؟ قلت كلا. بل الأخيرة وقرب منتصف الليل وأني لفي سنة من النوم القلق المضطرب أريت فيما يرى النائم كأني أسمع صوت زفرة ففتحت عيني فإذا حبيبتي واقفة إلى جانب فراشي مضمومة الذراعين على صدرها كأنها شبح أو خيال. فلم أملك أن صحت صيحة عالية وقد حسبت أن هذا اللطيف من خيالات ذهني المختل المشوش. فوثبت من فراشي وهربت إلى الركن المقابل من الحجرة فأقبلت إليّ تقول لي: إنه أنا ثم طوقت خاصرتي بيمينها وسحبتني نحو الفراش. فصحت ماذا تريدين؟ دعيني وشأني. فإني والله لا أكاد أهم بقتلك الآن! فقالت إذن اقتلني. لقد خدعتك وكذبت عليك. وإني لمجرمة أثيمة وشقية تعسة. ولكني أحبك ولا سيبل إلى تركك وقطيعتك

فنظرت إليها. فما كان أجملها وأحلاها! لقد كانت كل أوصالها ترتجف وترتعد. وطوفان الدمع يفيض وينهمل من عينيها المحورين الممتلئتين حباً وشغفاً وغراماً. ونحرها عار وشفتاها تلتهبان وجداً وهياماً. فاحتملتها بين ذراعي وقلت فليكن كما تقولين. إني أشهد الله المطلع العليم وأقسم بروح أبي لأقتلنك ونفسي معاً ثم تناولت سكيناً من الرف ووضعته تحت الوسادة. فمالت عليّ فقبلتني وقالت مبتسمة هلم يا أوكتاف. لا تكن أبله - هلم يا ولدي. إن هذه الأوهام تمرضك. وإنك محموم. فأعطني السكين فعلمت أنها تريد أن تأخذ السكين. فقلت لها أصغي إلي. أنا لا أعرف من أنت. ولا أي رواية هزلية تمثلين. ولكني أعرف من نفسي أني لا أهزل ولا أمزح. لقد أحببتك كما لم يجب امرأة إنسان. ولا أزال - لسوء حظي ومن بلائي وسبب حتفي - أحبك حباً يدخل معي قبري. ولقد جثتني الآن تعرفينني أنك تحبينني. وهذا يسرني. ولكني أعرفك مع كل هذا أن في الحياة شيئاً مقدساً. فإذا كنت أنا حبيبك الليلة فلن يكون لك حبيب غداً. إني أشهد الله أني لن أجعلك حبيبتي من الغد لأني أبغضك بقدر ما أحبك. وإني أشهد الله أني لا أمتنع من قتلك غداة إذا شئت وهنا بدأت أهذي هذيان الحمى. فألقت رداءها على كتفيها وانطلقت من حجرتي تعدو عدواً. ولما علم ديزينيه بهذا الحادث قال لي: (لماذا رفضتها وصددت عنها؟ أنك لتمقتها أشد المقت. وأنها والله لمليحة حسناء.) قلت له أتمزح؟ أنحسب أني أرتضي مثل هذه المرأة حبيبة لي وعشيقة؟ أم تحسب أني أقبل الشريك في الرفيقة؟ ألا تذكر أنها اعترفت بأنها ملكت نفسها رجلاً سواي. وهل نسيت أن بي من الوجد بها ما أرفض معه إلا امتلاكها أيضاً. إذا كان هذا مذهبك في الحب فأني لك راث وعليك باك) فقال ديزينيه أنه لا يغالي في الحب إلى مثل هذا الحد. ولا يتطرف لمثل هذه الغاية. ثم استرسل في هذا المعنى فقال (عزيزي أوكتاف. أنك لا تزال صبياً. فأنت مولع بها لا يكون في هذه الحياة، مشغوف بما لا يتفق مع أخلاق الزمان وطبائع الدهر. وأنت لا تؤمن إلا بمذهب واحد في الحب لعلك قد انفردت به من بين الملأ فلن تجد لك فيه شريكاً. على

أنك لا تحسد على هذا ولا تغبط. وأراك ستتخذ من هذه المرأة أبدالاً وأعواضاً ولكني أراك أيضاً ستندم يوماً ما على ما كان منك هذه الليلة: ورب يوم بكيت فيه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه إلا فاعلمن أن هذه المرأة كانت إذ طرقتك تلك الساعة وأنت نائم عاشقة لك لا محالة. ولعلها ليست عاشقة لك الآن إذ ربما تكون في حضن غيرك. ولكنها كانت تحبك في ذلك الأوان بذلك المكان وماذا يهمك غير ذلك؟ فلقد سنحت لك إذ ذاك فرصة من أسعد فرص الهر فأضعتها وما هي وربك بعائدة كم من مؤخر فرصة قد أمكنت ... لغد وليس غد هلا بمؤات حتى إذا فاتت وفات طلابها ... ذهبت عليها نفسها حسرت أجل والله أن هذه المرأة لن تعود إليك. فإن المرأة لتغفر لكل إنسان إلا الذي زهد فيها. واحسب أن وجدها بك قد كان عظيماً هائل العظم إذ رفع بها إلى أن تلتمسك وتطلبك مع اعترافها لك بالجريمة وتوقعها منك الإباء والرفض إلا فاعلمن علم اليقين لتند من والله على إضاعتك هذه الفرصة فما أحسب أن الحظ بمثلها جواد الدهر يشبهها سخى. لقد كان في كل ما قاله ديرينيه لهجة اعتقاد راسخ هدوء عميق وثقة تامة مما أزعج خاطري وراع قلبي وارتعدت له فرائضي أثناء إصغائي إليه. حتى لقد هممت وهو يتكلم أن أذهب ثانياً إلى دارها أو أكتب إليها لتأتيني. ولكني لم أستطع أن أنهض لتنفيذ هذه الرغبة - وبذلك سلمت من تعريض نفسي ثانياً لغضاضة مصادفتي إياها مع خصمي أو في انتظاره. ولكني كنت أملك القدرة على الكتابة إليها ثم سألت نفسي على الرغم مني هل هي مجيبتي إذا دعوتها. ولما انصرف ديزينيه عراني من فرط الكرب والوجد ما عزمت معه على حسم الأمر بأية طريقة وعلى أية وجه. وبعد كفاح شديد بين إحساسي الحب والبغض في صدري تغلب الثاني على الأول فكتبت إليّ حبيبتي أني لن أراها بعد اليوم البتة. وسألتها أن لا تأتيني حتى لا تتحمل مضاضة إغلاق الباب في وجهها. ثم أعطيت الخادم الرسالة ليوصلها إليها. ولكنه ما كاد يغلق الباب خلفه حتى ناديته فلم يسمع ثم لم أجرؤ على ندائه مرة أخرى، فدفنت وجهي من بين يدي واستسلمت لليأس.

* * * الفصل الرابع في فجر اليوم التالي كان أول - سؤال وجهته إلى نفسي هو ماذا أنا فاعل؟ وكنت خالياً من الأعمال والأشغال. وكنت قد درست الحقوق والطب ولكن ميلي كان موزعاً بينهما ولم أقرر أي هاتين الصناعتين أتخذها عملاً ومرتزقاً. وكان سبق لي التوظف في مصرف رجل مالي ولكن تتابع أغلاطي في الحساب اضطرني إلى تقديم استقالتي تفادياً من سبة الرفت وعاره. وكنت قد أكثرت من الدراسة ولكنها سطحية إذ كتن سريع الحفظ ولكني كنت أسرع نسياناً. وكانت اللذة الباقية لي بعد ذهاب لذة الحب هي الحرية والاستقلال. وكنت ما زلت منذ حداثتي أغرس الوصول هذه المزية الغالية في صدري وأربها وأنميها حتى أضحت ولها في فؤادي محراب مطهر ومن جوانحي هيكل مقدس. وكانت أبي ذات يوم فكر في أمر مستقبلي فعدد لي جملة صناعات وأعمال وأطلق لي أن أختار أحبها إلى قلبي وأشهاها إلى نفسي لتكون مهنتي في المستقبل. فأشرفت من نافذتي فنظرت إلى شجرة نحيفة عالية وأخذت أتأمل هذه الصناعات واحدة بعد واحدة فلم تمل نفسي إلى شيء منها البتة ثم شرد ذهني. فأحسست كأن الأرض تتحرك حتى لكأنما تلك القوة الخفية الكامنة الموكلة بتصريفها في الفضاء قد عادت ظاهرة لحسي فأبصرت الأرض تنهض في الفضاء. وخيل إلي كأني على ظهر سفينة وأن شجرة التي أمامي هي السارية (الصاري). فنهضت من مجلسي وتمطيت ثم صحت: هذه السفينة السابحة في الأثير! ما أبخس أن لا يظل بها المرء إلا برهة ثم يتركها. وما أبخس أن لا يكون أحدنا إنساناً حقيراً وشبحاً ضئيلاً ونقطة سوداء على هذه السفينة. أفتراني أزيد نفسي بخساً وغبناً. لقد رضيت بما لا بد منه أن بكوني إنساناً مطلقاً ولن أتسفل بنفسي إلى ما دون ذلك فأكون إنسان مقيد بحرفة أو مهنة وهذا كان أول قسم أقسمته وأنا لم أعد الرابعة عشرة بمشهد الطبيعة الهائلة على أن لا أتقيد بحرفة فإن أك قد حنثت فيه فإنما ذاك مجاراة لأميال أبي ومساوقة لأهوائه على الكرة مني وبالرغم من أنفي. وكذلك نهجت منهج الاستقلال لا كلاً ولكن بمحض إرادتي. وآثرت بحبي كل ما كان من

صنع الله والنزر القليل من مصنوعات البشر. ولم أك قد عرفت من الحياة سوى الحب ولا من الدنيا سوى حبيبتي وبهذا وهذه قد اكتفيت وأصبت فيها مقنعاً من كل ما عداهما. فلا جرم حين عشقت لدى خروجي من المدرسة إن كان هذا العشق باقياً لا محالة أبد الدهر وإني ممتع به في هذه الحياة وفي الآخرة ولا بدع أن أصبحت فكرة الحب قد نفت عن ساحة خاطري كل ما عداها من الأفكار والخواطر. وهكذا نعمت بعيشة رخوة كسلي إذ كنت أقضي اليوم مع حبيبتي أذهب بها إلى المروج الخضر أيام الصيف وإلى الغابات والرياض فأستلقي على العشب جانبها وكان منظر الطبيعة لا يزال من أقوى المؤثرات في نفسي. أما في الشتاء فكنت إتباعاً لأميالها أمضي بها إلى حفلات الرقص والغناء. وكذلك انسجم بنا زورق الحياة الذهبي في تيار من اللذة لا يعرف نهاية ولا يقف عند غاية. أما الآن وقد أصبحت لا أفكر في شيء سواها بعد ما بدا لي من خيانتها فقد أصبحت لا أحد لي في الحياة رأياً ولا فكرة. ولا أعرف صورة تسف بقارئ حالتي النفسانية إذ ذاك أبلغ من تشبيه هذه الحالة بغرفة جمعت أنواعاً من الأثاث من كل جيل وعصر وأصنافاً من الأمتعة من كل أرض وإقليم في هيئة مضطربة وخليط مشوش. إن جيلنا هذا لم يتميز بشكل خاص ولا صورة مميزة. فنحن لم نطبع طابع العصر على مساكننا ولا حدائقنا ولا منتزهاتنا ولا ملاهينا. فإذا سرت في الطرقات صادفك ذوو اللحى المقصوصة على هيئة اللحى التي كانت في عهد هنري الثالث وصادفك أيضاً المحلوقو اللحى وصادفك ذوو الشعور المجعولة على هيئة المنظورة في صور الرسام الكبير روفائيل وآخرون قد جعلت شعورهم على نحو ما كان يرى في عهد يسوع المسيح. وكذلك غرف المترفين قد ملئت بالطرائف والعجائب - بين يونانية وغوطية ومنسوبة إلى عهد الرينيسانس (أحياء الفنون والمعارف) ومعزوة إلى عهد لويز الثالث عشر، كلها مخلوطة لا يتميز بعضها من بعض. وهكذا ترانا قد أحرزنا أشياء القرون المختلفة والأجيال المتنوعة وحزناً من الأمتعة والأدوات ما يتصل بجميع العصور إلا عصرنا - وتلك لعمري حالة لم تقع في أي عصر آخر. فمذهبنا في ذلك مذهب احتيار لا ابتكار نأخذ كل ما وجدنا وأصبنا - هذا لفائدته وهذا لقدمه وهذا لحسنه بل ربما كان لقبحه. فنحن نعيش بين آثار حتى لكأن قد اقتربت الساعة وأزفت الآزفة.

وعلى هذا النحو كانت حالتي النفسانية. وذلك أني كنت قد أكثرت من الإطلاع وتعلمت فن التصوير. وحفظت غيباً أشياء عديدة بلا نظام ولا ترتيب فكنت ترى رأسي تارة خالياً وتارةً مفعماً مكتظاً كالإسفنجة. وجعلت أولع بالشعراء واحداً أثر واحد. وإذ كنت بطبيعتي حساساً سريع التأثر كان لا يزال الشاعر الأخير يبغض إلى كل من سبقه. وهكذا صيرت مع نفسي محزناً حافلاً بالأطلال القديمة حتى إذا آل بي الأمر إلى العجز عن الازدياد من المقتنيات الجديدة أصبح انا نفسي طللاً. ولكن هذا الطلل كان عليه شيء حديث فتى - وذاك هو آمال قلبي الذي كان لا يزال طفلاً. فهذا الأمل الذي كان لم بفسده طارئ ولم يبله والذي كان الحب قد أنمى غرسه وأنضر عوده قد أصابته الطعنة النجلاء من خيانة حبيبتي فأصبح مهيض الجناح دامي الجراح. وأصبح منه فؤادي كأنه قطاة عزها شرك فباتت ... تغالبه وقد علق الجناح إن المجتمع - ذلك الجم الأذى الكثير الضرر - ليشبه الأفعوان الهندي الذي يكن في أوراق النبات هو الشفاء من سمه والترياق من عضته - وكذلك المجتمع أبداً يجعل الدواء إلى جانب الداء الذي يحدثه. مثال ذلك أن الرجل المنغمس في المجتمع العائش عيشاً منظماً مطرداً - المقسم أوقاته بين أعمال وواجبات أسرته وزيارة أقاربه وتعهد إخوانه والتمتع بحبيبته (كقسم من أقسام أعماله وبعض من كل) إذا أصيب بفقد حبيبته لم يكن في ذلك عليه خطر ولا يناله منه قاصمة الظهر ولا موهنة العظم. إذ أنه لن يلبث أن يجد في سائر واجباته وأعماله ملهاة ومسلاة ومندوحة عن إقضاء النهار بالفكر المقلق. والليل بالهم المؤرق. فيوشك أن يهون بلاؤه ويزول عناؤه. فمثل هذا يكون له من مجموع أعماله وجملة خواطره وأفكاره كالجيش الململم والخميس العرموم فإذا رمته يد القضاء بسهم مسدد فأصاب أحد هذا العسكر الذي تتكون من أفراده مجموع أعماله وأفكاره. فخر المصاب صريعاً أسرع إلى يد فراغه والقيام مقامه فلا يشعر بفقدانه. ولكني كان يعوزني مثل هذا العزاء والسلوى إذ كنت منفرداً وحيداً. وكنت إذا لجأت إلى الطبيعة - أمي المحبوبة - أحاول التسلي بها والترفه بها ألفيتها قاعاً صفصفاً مفعمة

بالوحشة خالية من الأنس. فلو أني استطعت إذ ذاك أن أسلو حبيبتي وأنساها لنجوت وسلمت. وكم من صب أضناه الهوى وأضواه الجوى لغدر الأليف وخيانة الحبيب فراح من كاس الغرام مقهوراً وفي لجة الهيام مغموراً، وفي غل الذلة والهوان مأسوراً. ثم كان عليّ أهون سبب شفاؤه، وبأيسر دية خلاصه وافتداؤه. ذلك لأن أمثال هؤلاء تأبى طباعهم الاستمرار على حب الغادرة الفاجرة والاسترسال في هوى الخافرة للعهد الخاترة. هنيئاً لهؤلاء ما أوتوا من ثبات عزيمة، ونفاذ صريمة. لكن غير هذا شأن المحبين في التاسعة عشرة من العمر لا عزم ولا حزم - فهم أغرار أغمار يجهلون من أمور الدنيا وأحوالها كل شيء ويتطلبون من متاعها ولذتها كل شيء وأينما التفتوا - يساراً أو يميناً وخلفاً أو أماماً - تتراءى لهم عروس الدنيا في أبهى زخرف وأبهر زينة تناديهم وتستدعيهم، وتستميلهم وتستهويهم. وصوتها الفاتن الخلاب يلج إسماعهم في مهب كل ريح خاطرة. وشبحها الساحر الجذاب يطالع أبصارهم قي مدب كل لحظة باردة. فكل شيء شهوة خلوب، وكل شيء حلم كذوب. وإذا كان القلب فتياً فالحقيقة معدومة. كذلك خيال الشباب يتراءى له أن الحجر الأصم ينفطر وهمه عن الكنوز الذهبية. والسلمة الصلبة تنشق له عن أملح حورية. ولو أن للعاشق في هذه السن الخيالية ألف ذراع لما خشى أن يفتحها جميعاً إذ ما عليه إلا أن يعتنق بها حبيبته حتى يجد كل ذلك الفراغ قد انسد. في ذلك العهد لم أك أستطيع أن أتصور أن للإنسان في الحياة وظيفة سوى الحب وإنه يقدر أن يصنع شيئاً سوى أنه يحب. فإذا ذكر لي الناس صناعة أخرى حرت وبهت فلم أحر جواباً. وقد كان غرامي بحبيبتي غراماً وحشياً وكانت روحي تشعر من وقع هذا الغرام بمعنى شيطاني جهنمي. وسأضرب لك مثلاً يشراح هذا. وذلك أنها أعطتني يوماً صورة صغيرة لها فحملتها على قلبي شأن المحبين. فإني ذات يوم سائر في طرقات المدينة إذ رأيت في بعض حوانيت التحف والنوادر آلة التعذيب حديدية في طرفها صفيحة ذات أسنة وأبر فشددت الصورة إلى هذه الصفيحة ولبستها على جلدي فكانت الأسنة والإبر تنغرز في صدري لدي كل حركة فتحدث لي بذلك لذة كبرى حتى لقد كنت أحياناً أضغط بيدي على

الصفيحة استزادة من اللذة. وكنت أعلم أنها حماقة ولكن الحب مصدر الحماقات. فمنذ خانتني هذه المرأة نزعت الصورة الأليمة، ولا تستطيع أيها القارئ أن تتصور أي لوعة وكمد شف قلبي إذ أفض مغلاق تلك الصفيحة. واى زفرة ملتهبة لفحت جوانحي وضاقت بها أضلعي حين تخلصت من ألم لذة تلك الصورة وصوبت نظري إلى ما بصدري من ندوب الإبر والأسنة فخاطبتها قائلاً: أيتها الندوب المسكينة! عما قريب تزولين. ألا أيها الجرح العزيز على آسوك بأي مرهم؟ وأداويك بأي بلسم؟ ثم حاولت أن أبغض هذه المرأة - ولكن عبثاً إذ كانت كأنها في دم عروقي. فكنت ألعنها ولكني أحلم بها. فقل لي كيف أملك هذا؟ ومن لي بأن أصرف الأحلام وأسيرها. وأحرك رؤى المنام وأدبرها؟ أما ترى ماكبث قال بعد ما قتل دنكين إن ماء الأقيانوس بأسره ما كان ليمحو الدم البريء من يدي وإني لا ضيف إلى ذلك ولا هذه الجراح والندوب الظاهرة والباطنة، وقلت لصاحبي ديزينيه بالله خبرني ما أنا صانع؟ وكيف السبيل إلى الخروج من هذه الغمة؟ أني والله لا أكاد أضع رأسي على وسادتي إلا وجدت رأسها إلى جانبيي! لقد عشت في الحياة بروح هذه المرأة انظر إلى الدنيا بعينيها. وأنصت إلى الدنيا بأذنيها. فزوال ثقتي بها هي زوال ثقتي بالعالم أجمع. وبراءتي منها هي براءتي من العالم أجمع وخسارتي إياها هي خسارتي العالم أجمع! ومن ثم استترت في داري لا أغادرها إذ خيل إليّ أن الدنيا مملوءة بالوحوش الضارية. والسباع العادية. وبالجان والمردة والأغوال والسعال وكان لي جواب وأحد على كل ما كان يلقى على من كلمات الإرشاد والنصيحة وهو لا أنكر أنه رأي صواب ولكني سأصر على مخالفته وجلست إلى النافذة وناجيت نفسيأنا واثق أنها آتية. أحل إنها في الطريق لقد اقتربت من منزلي وأنها لتزداد دنوا فهي والله لا تحيا بدوني كمالا أحيا بدونها فماذا أقول لها وبأية هيئة ألقاها؟ أني أتذكر خيانتها فأقول أولي لها أن لا تحيي أليس من الصواب أن أبعث إليها أن لا تحضر خشية أن أثور بها فأقتلها؟ وبعد رسالتي الأخيرة إليها لم أسمع عنها نبأ. فجعلت أناجي نفسي ترى ماذا تصنع الغادة

الآن؟ وبماذا هي مشغولة؟ أنها تعشق رجلاً غيري. فلا عشقن فتاة سواها ولكن من؟ وجعلت كلما فكرت وبحثت ونقبت عن مليحة أهواها أحسست كان هاتفاً يهتف بي أتحب امرأة غيري! أيمكن أن أراك تهوى امرأة وتشعقها ثم تكون هذه المرأة إنسانة سواي أذلك ممكن! أمجنون أنت وقال لي ديزينيه ويحك أيها النذل الخسيس! أما تفتأ تذكر هذه المرأة؟ فمتى أنت ناسيها أو متناسيها؟ أو قد بلغ من عظم قدرها وضخامة شأنها عندك أنت لا تعدل بها شيئاً سواها؟ لقد والله عظمت من شأنها صغيراً. وأجللت من أمرها حقيراً. ثب إلى رشدك والتقف أول غادرة ترميك بها يد القدر. فأجبته: كلا إنما مصيبتي فيها بالطامة الكبرى والآفة الجلى. أو لم أصنع الواجب؟ أو لم تطردها من منزلي؟ فماذا عساك تنكر عليّ وتنقم مني؟ لقد فعلت ما يقتضيه الواجب. فإما ما دون؟؟؟؟ فمن خاص شؤون وشخصي أحوالي وخارج عن نطاق عتبك ومجال نقدك أن الأسد الذي يجرح في معترك الأسود والظباء خليق أن يحمل السهم في جنبه ثم يأوى إلى زاوية مستترة فيقضي بها نحبه بمعزل عن أعين الشامتين. وبمأمن من السن اللائمين. فخبرني ماذا أصنع؟ وأين فتياتك التي سترميني بها يد القدر؟ قصاراك والله أن تريني أرضاً وسماءً ودوراً وقصوراً ورياضاً وغياضاً. ورجالاً صلاباً. وكواعب أتراباً. وتقول لي دونك فهذه هي الحياة وبهجتها. والدنيا وزينتها. وما هي بالحياة ولكنها لجب الحياة وجلبتها. وصخبها وضجتها. فاكفف عني غرب لسانك فما في كلامك من ثمرة ولا فائدة وأمض عني وجعني وشأني. * * * الفصل الخامس ولما رأى ديزينيه أن دائي عضال وما ليأسي من دواء وإني عن العذال في صمم وعن اللوام في ذهول وإني قد حبست نفسي في حجرتي إلى أمد غير محدود على أن الأمر خطير والخطب جليل فجاءني ذات ليلة مطرقاً كئيباً فذكر لي حبيبتي وأقبل يهيجني ويستثيرني بسرد الجم الكثير من سوءات النساء وعوراتهن وبينما كان يتكلم كنت متكئاً على مرفقي ثم استويت جالساً في فراشي وأنعمت الإصغاء إليه.

وكانت ليلة حالكة الظلام وعزيف الرياح يخيل إليك أنات المحتضرين في سكرة الموت. وأقواس الغمام تضرب زجاج النوافذ بسهام القطر. وجيوش السحاب تزدحم وتلتطم.؟؟؟؟؟ الربق تحتدم وتضطرم وقطع الصبير شهب بسلاسل البرق ملجمة. وبذهبية خيوطه ملاحف المزن مسداة ملحمة. وللرعد خلال ذاك قروم هدارة الشقاشق وخضوم هرت الاشداق مفوهة المناطق. وقد؟؟؟؟؟ طيور الجو ففزعت إلى الدوح والأشجار. وأوت إلى الوكنات والأوكار. فخلت السيل من الأنيس وصفرت. وخويت الطرقات من الخيط وأقفرت. وكان جرحي قد تحرك عليّ ساكنه ودائى قد ثار على كامنه. لقد كان لي آنفاً حبيبة وصاحب. فقد خانتني حبيبتي. وأرقدني صاحبي على فراش المرض. فكنت في تلك الساعة لا أستطيع أن أميز بالضبط ما كان يتتابع في خاطري من الهواجس. ويتواتر على بالي من البلابل والوساوس. فأحياناً يخيل إلي أني كنت في حلم مزعج فليس علي إلا ن أغمض فأنام فأستيقظ في صبيحة الغد سعيداً ضاحكاً فرحاً وأحياناً يخيل إلي أن حياتي الماضية لم تكن إلا حلماً صبيانياً مهزأ سخيفاً وأني قد صحوت منه وانقشعت عني ضبابته. وظهر لي بطلانه وضلالته. وكان ديزينيه جالساً حيالي قرب المصباح وكان رزيناً ركيناً وقور الجلسة لا يطيش ركنه ولا تستطار حيوته. وهو لا يزال يفتر عن ابتسامة يقين بحقائق الأمور واستهزاء بالظواهر الكاذبة والزخارف الخداعة. وكان له قلب كبير لكنه صلب الحصاة جلمد لا يبض حجره ولا تندى صفاته. وقد كان له سابقة في الحب والغرام أسفرت عن خيانة المحبوب. فهذه الحادثة أجدبت روضته قبل أوانها. وصوحت زهرته قبل ابانها. فصحا من سكرة الهوى وأترابه منغمسون في أنهارها. ونجا من حومة الصبا ولداته غرقون في غمارها. وأضحى ينشد وأنداده ينشدون؟؟؟؟؟ والنسيب. صحا القلب عن ليلى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحه وكان بالحياة عليماً بصيرا. وبصروفها وتقلباتها خبيرا. وقد مر به زمن وقف على الربوع والديار وساءل الدمن والآثار. ولاعب المها وغازل الدمى. وساهر؟؟؟؟؟ وزجر القطا. وضرب الحمقى. وقال متمثلا. أبيت أهتف بالشكوى وأشرب من ... دمعي وانشق ريا ذكرك العطر

ثم أفاق وصحا. وعاد جلمد الفؤاد متحجر الحشا. وقال لقلبه مالك وللهيام والصبا. إنما شأنك الدورة الدموية وتدبير مجراها. وتصريف مسراها. وقال لذهنه مالك ولعالم الخيالات والأوهام. والأباطيل والأحلام. الذي يسمونه الهوى. ويدعونه الصبا. فدعك من هذا وخذ في المحسوسات والملموسات. وانعم بطعمة شهية. ورشفة هنية. وغادة بضة طرية. واغتنم اللذة اغتناماً. والتهم المسرة التهاماً وانتهب من قيضة الحظ من المناعم ما استطعت انتهاباً.؟؟؟؟؟ من حوزة الدهر من المطارب ما وجدت إلى ذلك السبيل انتهاباً. خذ من زمانك ما أعطاك مغنما ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره فالعيش كالكاس تستحلي أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره وكذلك أصبح ومذهبه في الحياة إنها وليمة يجلس الحي على خوانها ساعة ثم يخرج إلى العدم. فهو أبداً على خوان الحياة يخطف ما وصلت إليه يده، وعينه أثناء ذلك ترتقب شيخ الغول المخوف المسرع إليه في ظلم الغيب وحجب القضاء - الموت. وقال لي هذا الصاحب يوماً أي أوكتاف: يلوح لي من شواهد أحوالك أنك ترى في الحب رأي الشعراء والروائيين كما وصفوه في تصانيفهم. فأنت على الأقوال لا الفعال تعوّ ل وتعتمد. ومنشأ هذه السفسطة والقياس الفاسد وهذا يجلب عليك شراً كبيرا. فاعلم رعاك الله أن الشاعر يصور الحب كما يصور النحات الجمال، وكما يبتدع الموسيقار النغم، أعني أن هؤلاء الثلاثة لما كانت الطبيعة قد وهبتهم جهازاً عصبياً دقيقاً حساساً تراهم ينتقون ويختارون بحذق وتحمس أصفى وأنقى عناصر الحياة وأجمل وأبدع أصناف المواد التي منها يؤلفون ملحهم وتحفهم، وأشجى وأرخم أصوات الطبيعة. يروى أنه كان في أثينا عدد جم من الفتيات الحسان. فقام المصور بركسيتيل فصورهن جميعاً واحدة بعد أخرى. وكانت كل حسناء من هؤلاء مهما أفرط جمالها لا تخلو من عيب واو في منتهى الغموض والدقة. فعمد ذلك المصور إلى هذه المجموعة العجيبة فاختار من كل واحدة أملح ما فيها وكوّن من هذه المختارات صورة القصوى في الحسن الإحسان. والمثل الأعلى في الإبداع والإتقان - وسماها فيناس الزهرة ربة الجمال. وكذلك لأول من ابتدع آلة الموسيقى وضع لهذا الفن قواعده وقوانينه كان امرأ قد طالما أصغى إلى وسوسة النسيم عذبات الأغصان. وسجع

الحمام على منابر القضبان. وكذلك الشعراء الذين عرفوا الحياة لما رأوا الجم الكثير من غدرات العشاق. وفجرات من كانوا يظهرون الصبابات والأشواق. وأبصروا الملائكية. فصلوا عن الطبيعة الإنسانية كل ما يدنس أردانها ويشوه محاسنها من الخبائث والخسائس فخلقوا تلك الأسماء الغريبة الخفية التي ما برحت تتنقل على السنة الخلق من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل - دافنيس وشلو وهيرو ولياندار وبراميس وثسبي فالدي يفتش في الحقيقة الواقعية عن مثل ما كان لتلك الأسماء الخيالية من الحب والصادق والهوى العذري كالذي يفتش في الشوارع العمومية عن نساء في مثل محاسن فيناس أو كالذي يشتهي أن يسمع من الحمام والبلابل ألحان الموسيقا البديع بيتهوفن الكمال لا يوجد فتفهم معانيه هو أقصى ما يبلغه الذهن البشري من ذوي النبوغ والعظمة. ولكن الرغبة في امتلاك الكمال هو أقصى درجات الحمق والسخافة افتح نافذتك يا أوكتاف - ألا ترى أمامك اللانهاية؟ ألا تشعر أن الجو لا حد له ولا غاية؟ ألا ترى أن عقلك يوحي إليك بهذا؟ ولكن هل تستطيع إدراك معنى هذه اللانهاية؟ وهل في مقدورك وأنت الفاني ابن الفاني والمحدود بن المحدود والمولود بالأمس والهالك غداً - هل في مقدور من هذا شأنه وهذه حاله أن يتصور أن شيئاً يكون بلا غاية ولا نهاية؟ إلا فاعلمن أن هذا المشهد الهائل - مشهد اللانهاية مازال أعظم داع إلى الجنون في كل قطر من أقطار العالم. وهذا المشهد مشهد اللانهاية هو المصدر الذي نبعث منه الأديان والعقائد. ولقد روي أن البطل الروماني العظيم كاتو قد انتحر ليخرج من العالم المحدود إلى العالم العديم الحدود، أعني أنه ألقى ما يملك من عالم الفناء ليملك عالم الخلود واستغنى عن هذه الحياة المحصورة ليحرز تلك اللانهاية. ومن أجل إحراز هذه اللانهاية ألقى القديسون من طوائف عيسى والمتقون والأبرار والصالحون والمصطفون والأخيار بأنفسهم على ألسنة النيران الحامية. وفي لهوات الوحوش الضارية وقذفت شيعة الهيوجينوت في يوم القديس بارثيلوميوس وغيره أنفسهم أسنة رماح الكاثوليك وظبي سيوفهم. وكل شعوب الدنيا وأمم الأرض قد مدوا أذرعهم إلى هذه اللانهاية وودوا لو يقذفون بأنفسهم في أعماقها وكم ترى المجنون يود لو يملك السماء ولكن العاقل الحكيم يعجب بها وطرب فيخر لها ويركع وبذلك يرضى ويقنع.

فالكمال كاللانهاية كلاهما لا ينل ولا يدرك. وما لنا خلق ولا جد. وما كان لنا أن نرجو الكمال في أي كائن أو نبتغيه في أي شيء - من حب أو جمال أو سعادة أو فضيلة. ولكن على المرء أن يتمادى ويغرق ما استطاع في حب الكمال ليكون فاضلاً طاهراً سعيداً. فهبك أنك تملك صورة من صنع المصور الخالد روفائيل وأنك تبصر في هذه الصورة آية الكمال. ثم هبك أنك بينما تتأملها ذات يوم وتدقق النظر في أجزائها وتفاصيلها عثرت في بعض أركانها على عيب - عضو مكسور أو عضلة غير طبيعية كالذي يرى في إحدى ذراعي (المصارع القديم) فإن ذلك سيحزنك بلا شك ولكنه لا يحملك على إلقاء الصورة في النار. بل أقصى ما تقوله إذ ذاك هو إن الصورة لم تبلغ حد الكمال ولكن فيها من المحاسن الجم العديد. (إن من النساء ما يكون لهن من كرم الطباع وحسن الوفاء ما يمنعهن من اتخاذ حبيبين في وقت واحد. وعساك ظننت خليلتك من هذا الصنف وحبذا لو كانت ولكنك علت أنها خدعتك. أفكان ذلك موجباً لأن تحتقرها وتسيء معاملتها وتراها أهلاً لبغضك ومقتك! (فهب يا أوكتاف إن هذه المرأة لم تخدعك ولم تخن عهدك ولم تشرك بك حبيباً آخر. أفكان حبها إياك مع هذا كله بالغاً حد الكمال أو قرابه. كلا فما كان أبعده من الكمال من كل ذلك وما كان أقله وأضأله وأشده تقيداً بأوضاع من بعدك. (فتأمل ذلك تدرك أن الذي يطيح بك الآن في مهواة اليأس هو معنى الكمال الذي أسندته إلى خليلتك ثم أتضح لك أنه زور وباطل فمتى علمت أن هذا المعنى - أي الكمال - لم يكن في ذاته إلا ضئيلاً بشرياً محدوداً علمت أن ارتفاعك أو هبوطك درجة في ذلك السلم العفن القذر - سلم النقص والعيب البشري إنما هو أمر حقير تافه. (أنت لا تنكر أن خليلتك قد كانت تحب وسوف تحب أناساً غيرك. فعساك قائلاً لي إن هذا لا يهمك ما دامت تحبك ولا تشرك معك غيرك ولكني قائل لك إذا كنت توقن أنها قد أحبت سواك فسيان كان ذلل بالأمس أو منذ عامين وإذا كنت توقن أنها ستكون لها معشوقان فماذا يهمك إلا مرة واحدة فماذا يعنيك دام ذلك عامين أو ليلة واحدة. أأنت رجل يا أوكتاف؟ أفلا ترى الأوراق عن شجرها تتساقط انتثاراً؟ والشمس تشرق ثم بالحجاب تتوراى؟

أفلا تسمع ساعة الحياة تدق لدى كل نبضة من فؤادك؟ فهل بين حب عام وحب ساعة كل ذلك الفرق العظيم في نظرنا نخن معشر السخفاء والحمقى وأننا لنبصر من هذه النافذة - وشبر عرضها - أعماق اللانهاية. (أنت تسمى المرأة التي تمحضت الحب مدة عامين مختصة وفية. فلديك فيما يظهر إلى تقويم يبين لك كم مرة تجف لثمرات الرجال على شفاه النساء. وأنت ترى بوناً شاسعاً بين التي تهب نفسك نم أجل المال والتي تهب نفسها من أجل اللذة. وبين من تهب نفسها عن باعث كبرياء وزهو وبين من تهب نفسها عن وفاء وإخلاص. وإن فيمن تشتري من النساء من هن أغلى ثمناً من غيرهن. فأما من تحوزهن عن باعث زهو وتعاظم فإنك تظهر من الأبهة والجلال لبعضهن أكثر مما تظهر لبعض الآخر. وأما من تخلص لهن الود وتمحضهن الوفاء فإلى بعضهن تهب نصف قلبك وإلى البعض ثلثه وإلى البعض ربعه حيث متفاوت أقدارهن في التربية بالأدب. وفي الحسب والنسب وفي الجمال والدلال والشيم والخصال. وحسب لظروف وأحياناً حسب الساعة وحالتها الجوية وما قد شربت من أصناف الخمر في غدائك. (أنت تملك النساء اليوم يا أوكتاف بفضل زهرة صباك ونار شبابك وحسن صورتك وأنت ترجل لمتك وتسوي طرتك ولكنك لعين هذه الأسباب لا تعرف لبائع المرأة وكنه حقيقتها. تناسل الخلائق أهم أغراض الطبيعة. فأينما طرحت بصرك من ذروة الجبل لي قرارة البحر وجدت الحياة ترهب الموت. فالله سبحانه وتعالى محافظة على مصنوعاته وضع هذا القانون الأعظم وهو أن أكبر ملاذ المخلوقات جميعاً محصورة بي العمل المؤدي إلى التناسل. فالفحل من النخيل حينما يرسل إلى أنثاه المادة اللقحة تراه يخفق غراماً ويرجف صبابة في الرياح اللافحة الملتهبة. ولو عل إذا أبت عليه أنثاه وتصعبت فربما مزق جلدها وهتك أديمها. ولحمامة تخف وترعش ت جناحي ذكرها كالعاشقة المغرمة. والرجل حين يعانق حبيبته يحس في قلبه الطابر ذلك الشرر المقدس الذي منه خلق. فيا صديقي العزيز إذا عانقت يوماً مليحة حسناء فتية قوية فبكيت نم شرط اللذة وأحسست إيمان الوفاء والحفاظ تثب إلى شفتيك وأحسست السر الإلهي به على روحك إلى إخراج نفسك من هذه الغمرة الروحانية والنوبة الخيالية وأرسل من ثاقب بصيرتك شعاعاً من نور

الحقيقة يبددما يلف شخص هذه المرأة من ضباب تلك الفضائل الوهمية والكمالات الخيالية ويجلوها لك على حقيقتها المجردة فأتخذ منها ومطية لذة مادية وأظفر منها بومس. ولكن لا تخلط بين الخمرة والنشوة. لا تحسبن الكاس التي شربت منها الرحيق المقدس مقدسة. ولا يدهشنك أن تجدها في المساء فارغة مكسورة. فما هي امرأة أي قارورة من طين قد صنعها خزاف. فاحمد الله إذا أراك السماء. وإذا رأيت لك أجنحة تصفق بها وترفرف فلا تحسبن أنك قد صرت بذلك طائراً. واعلم أن الطيور ذاتها لا تستطيع اختراق السموات وهتك حجاب السحاب. فإن في أعماق السماء طبقات لا تجد فيها الطرب هواء تحبي به. وإن القنبرة التي تطمع في ضباب الصباح تريد مطلع الشمس ربما سقطت إلى الأرض ميتة. فارتشف كاس الحب كما يرشف العاقل الرزين كاس الخمر وإياك أن تكون سكيراً مستهتراً. فإذا صادفت في معشوقاتك مخلصة أمينة فأحببها لهذا. فإذا وجدتها خلاف ذلك ولكن مليحة حسناء فأحببها لحسنها وملاحتها. وإذا ألقيتها فوق ذلك ظريفة لبيبة فزدها حباً. فإذا كانت من كل هذه المحاسن والمزايا عارية وكان كل ما فيها أنها تحبك فأحببها أيضاً. فإنك لن تظفر بمن هواك في كل آونة ولحظة. ولا تحملنك الغيرة من النظير المزاحم على نتف شعرك وحثو التراب على رأسك وإرادة الانتحار. فإن الذي يتألم فيك إذ ذاك أنما روح الكبرياء والتعاظم. ولكن اقلب سياق الألفاظ وهب أنها تخون خصمك من أجلك تجد في عملها هذ - وإن كان لا يزال خيانة وغدر - منتهى السرور واللذة. لا تسن لنفسك قوانين السلوك خاصة. ولا تردان إن تفردك المعشوقة بالحب وحدك وتؤثرك بالهوى على كل من عداك. لأنك لما كنت بشراً وقليل الوفاء فإن قانونك هذا يضطرك إلى أن تقيده بهذه العبارة على قدر الإمكان أرض بالجو كيفما كان. وبالريح كيفما هبت. وبالمرأة كيفما بدت. إن الإسبانيوليات - خير النساء - يحببن بإخلاص. فلهن قلب صدق ملتهب ولكنهن يلبسن عليه خنجراً. والإيطاليات شهويات شيقات ولكنهن يخترن من الرجال أعرضهن مناكب وينتقين عشاقهن بمقياس الخياط. والإنكليزيات ميالات للكآبة متطرفات ولكنهن فاترات جامدات. والألمانيات

لطاف ورقاق ولكنهن تافهات غير مفتنات. والفرنسيات لبقات متأنقات غنجات ولكنهن مجدبات. وعلى كل حال فلا تتهمن النساء بمالهن من الصفات والأخلاق فنحن الذين ألبسناهن ما ترى لهن من الخلال إذ كنا لا تزال تخلع ما كستهن الطبيعة من الطباع ونعيرهن المتكلف المصطنع. إن الطبيعة التي تعني بكل شيء قد خلقت العذراء ملحة للعاشق. فلما ولدت نبت شعرها وتغير شكل ثدييها ووسم بدنها بميسم القبح فخلقت المرأة لتكون أما فأصبحت بذلك جديرة أن يهجرها الرجل إذ كانت قد فقدت جمالها ولكن طفلة يتشبث به باكياً. وهذا قانون الأسرة البشري. وكل ما يرمي إلى خرقة يعد منكراً. وإن السبب الباعث طبقات الفلاحين إلى استشعار الصلاح والتقوى هو أن نساءهن لسن إلا آلات للولادة والرضاعة وما رجالهن سوى آلات للكد والكسب. فليس لنسائهن شعور مستعارة ولا في ثديهن لبن العذرة. ولكن حب هذه الطبقات صحيح الأديم صافيه غير نغل ولا أبرص. وهم إذا تعانقوا فعلوا ذلك وهم يجهلون البتة أن كولومباس اكتشف أمريكا. وإذا كانوا غير شهويين كانت نساؤهم صحيحات معافيات. وإذا كانت أيديهم صلاباً غلاطاً فما قلوبهم بالصلاب ولا الغلاط. إن المدينة لتجري على نقيض الطبيعة ففي مدائننا وحسب عادتنا ترى العذراء التي خلقت لتمرح في ضياء الشمس لتقر ناظرها برؤية المصارعين العراة كما كانت الحال في لاسيديمونيا ولتختار الخليل من بينهم وتنتقي. وتعشق كما تشاء وتهوى. تحجب في مقصورتها وتسجن. ولكنها تكتم تحت صليبها رواية غرامية فتجلس في سجنها صفراء فاترة كسلى تذوي نضرتها. وتذبل زهرتها أمام مرآتها. وكذلك تسهر الليل الطويل وفي فحمته تخبو جذوة جمالها الوقاد وتنطفئ جمرة حسنها المشبوب. وتصوح محاسنها فتذوي إذ لا تجد مجالاً للإزهار والإيناع ولا تصيب فضاء وهواء طلقاً ثم تخرج من سجنها بغتة وهي لا تعرف شيئاً ولا تحب شيئاً. ولكنها تشتهي كل شيء. فتتولي تعليمها عجوز ثم تهمس في إذنها كلمة منكرة وبعد ذلك تطرح على فراش رجل مجهول فيغتصبها اغتصاباً - وهذا يسمونه زواج نظام الأسرة المتمدينة. ثم تلد الفتاة المسكينة ويذهب جمال شعرها وثدييها وبدنها. وأهالها! لقد فقدت جمال عاشقة وما ذاقت عشقاً. لقد حملت وولدت وأنها لا

تعرف لذلك علة ولا سببا. وكذلك ترزق صبياً ويقال لها قد أصبحت أمّاً. فتجيب (قائلاً لست أماً). أعطوا هذا الوليد لامرأة ذات لبن فإنه لا لبن في ثديي. وما كذلك يسرى اللبن إلى ثديي النساء ويقول زوجها (إنها لعلى حق. وإن هذا الطفل مسخطة لها ومضجرة. وكذلك تعالج الفتاة من داء الأمومة فتعافى. ولا يمضى شهر حتى تجدها في أحد المراقص أو دور الأوبرا. وطفلها في شايوت أو (زير) وزوجها في بيت من بيوت الفجور وترى حولها الرجال عشرات يغازلونها ويداعبونها ويعدونها الحب والإخلاص والوفاء يحلقون لها بأغلط الإيمان أنهم عبيدها وأسراها وأنهم فيها هائمون وبهواها متيمون. فتختار منهم واحداً وتضمه إلى صدرها. فيدنس عرضها ثم يدعها وشأنها. فتقضي ليلتها بكاء وانتحاباً ثم تنظر فإذا عيناها قد احمرتا من البكاء فتلتمس من يهون خطبها ويسرى كربها ويهبها العزاء والسلوى فتتخذه أنيساً وجليساً وصديقاً ورفيقاً. حتى إذا فقدته استبدلت به آخر ثم آخر وهكذا حتى تتجاوز الثلاثين من عمرها وأخيراً تمل وتسأم وتتسخط وتتبرم وتشتكي كظة السرف وفقدان الأمل ثم يمرض يقينها وتضمحل عقيدتها. ويخلو فؤادها من كل عاطفة إنسانية حتة من الاشمئزاز والتأفف. فيناهي كذلك إذ تصادف ليلة في بعض المراقص فتحب فتى جميلاً أسود الشعر متلألئ العينين فياض الأمل. فتعرف في وجهه نضرة الصبا ثم تتذكر آلامها وأوجاعها فتقبل عليه تعطيه عبراً ودروساً من تاريخ حياتها وتعلمه التشاؤم وتبرهن له على استحالة ما يسمونه الحب وتحذره من الهيام عبثاً وراء هذا السراب الخادع والبرق الخلب. فهذه هي المرأة كما خلقتموها - كما صورتها يد المدنية. ومن هذا القبيل حبائبنا ومعشوقاتنا. ولكنهن على أية حال نساء ولهن محاسنهن كما لهن عيوبهن. وفيهن ملهى ومستمتع! وقد تصاب منهن أحياناً فرص النعيم وخلسات اللذة! فإذا كنت يا صاحبي متين الخلق قوي العزيمة واثقاً من نفسك مستكمل الرجولة فإني أشير عليك بهذه النصيحة. ادفع بنفسك غير هياب ولا وجل في غمار الدنيا واركب متن لجهاً وعباب موجهاً! وأنعم من النساء بكل من حصلت لديك - من مومس وعاهرة ورقاصة وفلاحة وشريفة وكريمة. وكن تارة وفياً وطوراً غادراً. وآناً فرحاً وآونة حزيناً. وساعة منخدعاً وأخرى محترما ولكن إذا ظفرت من امرأة بحبها وهواها فضن بنعمة هذا الغرام

أن تضيعها - ول يعينك صنف المرأة التي تهواك - فكل ما عدا نعمة الحب باطل لا قيمة له وإذا كنت أمراً عادياً فأكبر ظني أنك تطيل الفكر والتدبر قبل عقد نيتك وإجماع أمرك. ولكنك تكون جديراً أن لا تعول على أدنى شيء مما تتوقع أن نجده في عشيقتك وإن كنت ضعيفاً سخيفاً مليئاً أن ترسو وترسخ وترسل جذورك حيث تصادف قطعة من الطين مهما قلت - فإني أنصح إليك أن تتخذ درعاً حصداء نتقي بها كل شيء. فإنك إذا أذعنت لخلقك الضعيف وطبعك السخيف عيق نماؤك واكدى شبابك ولم تنتشر لك فروع وأغصان وراء مرسى أصولك ومغرس جذورك. فلا تلبث أن تذبل وتذوي كالنبات العقيم ثم لا تزهر ولا تثمر وينتقل ماء حياتك إلى شجرة أخرى. وتصير كل أعمالك ومجهوداتك أصغر من ورق الصفصاف. ثم لا تسقى إلا من ري مدامعك. ولا تغذي إلا من مادة قلبك وإذا كنت متحمساً ملتهب الحمية تصدق بالخيالات والأحلام وتريد تحقيقها فليس لك عندي جواب سوي لا وجود للحب لأني موافق على ما تراه من أن الحب إنما هوان يهب المرء نفسه روحاً وجسماً! وبعبارة أبلغ أن يجعل المرء من شخصين شخصاً - والحب هو التقلب في ضياء الشمس وفي الهواء النقي وبين الزهر والريحان بجسم ذي أربعة اذرع ورأسين وقلبين. والحب هو اليقين والإيمان. وهو دين السعادة الدنيوية والنعيم الأرضى. وهو مثلث مستنير في سقف هذا المعبد المسمى الدنيا. والحب هو أن يرتع المرء إرجاء هذا المعبد وإلى جانبه مخلوق يستطيع أن يفهم لماذا يستوقفك خاطرا أو كلمة أو زهرة أثناء سيرك فتدعوك إلى رفع رأسك إلى ذلك المثلث السماوي. هذا ولا ننسى أن أعمال المرء أشرف ملكاته نعمة كبرى ومن ثم كان للعبقرية. أتعرف من جمالها وروعتها. فما بالك إذن بمضاعفة هذه الملكات ويضم فؤاد إلى فؤاد وذهن إلى ذهن - إلا أن هذه لهي السعادة القصوى. والنعمة العليا. وما من الله على عبده بأكثر من هذا ولا أجزل. ومن ثم فضل الحب حتى على العبقرية. فبالله الا ما خبرتني - أكذلك رأى زوجاتنا في الحب؟ كلا! فغير ذلك في الحب رأيهن. وإنما الحب عندهن هو السير مقنعات وكتابة الرسائل الغامضة المبهمة والمشي على أمشاط أقدامهن. والنكيت والتبكيت والنظرات الفاترة والالجاظ المراض وإرسال الزفرات العفيفة

الطاهرة ويدبرون المكايد وهن في الحلل البيض المنشاة ثم ينصبن الحبائل لأشجاء نظيره أو خديعة زوج أو تعذيب عاشق. والحب في رأي زوجاتنا هو أن يلعبن لعبة الغش والكذب كما يلعب الأطفال لعبة المراوغة وهو دعارة القلب وفسوق الروح وذلك حيث مما كان يحدث من دعارة نسوة الرومان في ساتورنالية بريايوس وهو صورة مموهة من الرذيلة والفضيلة وهو مهزلة باردة سخيفة - يظل كل الممثلين فيها يتهامسون ويؤودن أعمالهم بوجوه مزوية وأعين مغضوضة ويظل كل شيء فيها حقيراً مشوهاً على فرط التألق والتكلف - مثل ما تصدره إلينا الصين من تلك التحف الخزفية البشعة المنكرة. وهو خليط ممقوت من الحسن والقبح ومن عنصري الخير والشر والرحمة والنقمة والنعيم والجحيم في هذه الدنيا. وهو ظل لا جسم وخيال بلا حقيقة وهو هيكل عظمي لجملة مصنوعات الخالق. هذا ما قاله ديزينيه بصوت صارم في سكينة الليل وهدوئه.

محاورة

محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوينهور (تابع ما نشر في العدد الأول من هذه السنة) الفقيه - ولكنك لن تؤنس ذلك! هذا وأن الأديان ليست بخديعة ولكنها حقيقة وأهم الحقائق. ولكن فرط سموها هو الذي يبعدها عن منال أذهان العامة ووهج ضيلئها، هو الذي يعشى العين الاعتيادية فلا تراها ومن ثم كان وجوب خفائها تحت ستار الرمز والكتابة حتى أصبح الدين يعلم الناس ماليس بحقيقة في حد ذاته ولكنه حقيقة باعتبار ما يكمن وراءه من المعاني. فإذا نظرت إلى الدين من هذه الوجهة رأيته حقاً. الفيلسوف - قد يجوز لك لو كان يحكم للدين بأنه حق من الوجهة الكنائية ليس إلى ولكن أنصار الدين يدعون أنه حق بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهنا موضع الغش والتدليس. ومن هذا الوجه يجب على ناصر الحق أن يقاوم الدين ويحاربه. الفقيه - ولكن هذا الخداع شرط أساسي لا بد منه وذلك أن الدين إذا صرح بأن عنصر الحق فيه مقصور على ما تتضمنه عقائده من المعنى الرمزي الكنائي لزالت عنه قوة نفوذه وسلطانه وزال بزوالها جميل أثره في مشاعر الناس وعواطفهم وحسب تهذيبه لطباعهم وأخلاقهم. فبدلاً من تناول الذين بهذا الانتقاد المر والاعتراض الشديد ينبغي أن تنظر إلى فوائده العملية الجليلة من حيث تهذيب النفوس وترقيق المشاعر وتسكين العواطف باعتباره هادياً إلى سبيل الرشاد. ودليلاً على طرق الصلاح والسداد، وملاذاً وملجأً وعمادً وعصمة للإنسانية المنكوبة المحروبة المتوجعة المتفجعة في الحياة والممات. ولا مشاحة في أنه يجب عليك أن تحاذر إيقاظ الريب والشكوك في صدور الجماهير بإثارة المجادلات النظرية فتسلبهم بذلك أحسن مصدر للعزاء والسلوان وأغزر منبع للأمن والسلام، والتوكل والاستسلام، مما هم في أمس الحاجة إليه - بل أحوج إليه منا نحن المتعلمين - لتخفيف وطأة النحس. وتهوين فدحة البؤس، وتنفيس غمة الكرب وتفريج أزمة الخطب. ولهذا السبب وحده لا يصح الطعن على الدين. الفيلسوف - إن حجتك هذه لواهنة واهية وبمثلها كان يمكن خذلان البطل لوثر ورده

بالهزيمة حين شن حربه العوان على الكاثوليكية وصب غارته الشعواء على فعلتها القبيحة المنكرة أعني بيعها عفو الله وغفرانه بالذهب والفضة في سوق الكذبة والخديعة. أفلا ترى أن أوراق العفو وصكوك الغفران التي كان قسوس الكاثوليكية يزورونها على الله في ذلك الزمان كانت تمد العدد العديد من البشر بأمتن أسباب العزاء والسلوان وأحسن وسائل الأمن والسلام في سكرة الموت وغمرة الاحتضار حتى كان الرجل يفارق الدنيا قرير العين مثلوج الفؤاد مملوءاً ثقة واعتقاد بصحة ما يحمل في يده من تلك الأوراق المزورة وهو على سرير الموت مقتنعاً بأنه يحمل منها عدة ترخيصات وجوازات بدخول الجنان والتمتع بصفوة خيراتها ونخبة لذائذها. أي فائدة وثمرة في تقديم أسباب العزاء والسلام إذا كان لا يزال مشهوراً فوقها سيف الغش والخديعة؟ الحق يا سيدي - الحق وحده - هو القوي المتين الوفي الأمين. والحق أبلج والباطل لجلج. والحق هو العزاء المادي الوحيد الراسخ الأساس الصلب الدعائم الذي لا تزعزعه الحوادث والكوارث - هو الجوهر الفرد والمفرد العلم والحي الباقي. الفقيه - أجل ما أصح قولك هذا لو كنت تحمل الحق في جيبك وتضم عليه أصابعك تمن علينا وتنعم كلما سألناك منه حفنة أو قبضة ولكن ما لديك هو مذاهب فلسفية لا مادية. (أي عما وراء المادة) ليس فيها شيء محقق سوى وجع الرأس. والقنوط من الحقيقة واليأس. وقد كان أجدر بك أن تعلم أن على أطلال ما هدم ويشيده على أنقاض ما قوض. الفيلسوف - يسؤوني أن أراك متمسكاً بهذا القول، ألا تعلم أن تحرير المرء من أغلال أكذوبة ليس معناه أنك سلبته شيئاً بل أنك وهبته شيئاً. لأن عرفانك عن شيء أنه باطل إنما هو حقيقة من الحقائق. هذا وإنك لن تجد أكذوبة أية كانت إلا ولها شر وفيها أذى. وليس من أكذوبة إلا ستلحق الضرر باتباعها عاجلاً أو آجلاً. فعليك إذن أن تكف عن خديعة الناس وتقر أنك جاهل بما لا تعرف وتترك الحرية لكل امرئ يختار من المبادئ والعقائد ما يشاء وتشاء أمياله ونزعاته ويكون آراءه وأفكاره لنفسه. ولعل هذه الأفكار والآراء لن تكون في النهاية كما تتوهم أنت من السخافة ولرداءة إذ كان في طول احتكاكها واصطكاكها ما هو كفيل بتهذيبها وتنقيحها وتصفيتها من خبث الضلال وتنقيتها من شوائب الكذب والبهتان. وعلى كل حال فإن اختلاف المذاهب والآراء يقيم بين الناس التسامح والتساهل

ويبث فيهم روح الملاينة والمهادنة. ولمن أوتي بعد من العلم والقدرة ما يمكنه من الاشتغال في الفلسفة أن يفعل ذلك وأن يعدو بها شأوا وراء ما قد وصلت إليه إذا استطاع ويسمو بها درجة فوق ما بلغت. الفقيه - حبذا ذلك أو أمكن! شعب كل أفراده فلاسفة يجتمعون في حومة الخصام تحت عجاجة المغالطة والتضليل والسفسطة يثور بعضهم على بعض ويثب بعضهم ببعض وقد يضرب بعضهم بعضاً. لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضل عن الهدى وتجور وهن كآنية الزجاج تصادمت ... فهوت وكل كاسر مكسور الفيلسوف - إن القليل من اللطمات واللكمات يتبادله الجماعات من آن إلى آخر ليصلح من أحوالهم كما يصلح الطعام القليل من الملح والبهار. وبفرض أن هذا التلاكم شر فإنه على كل حال أهون من شر حكومة القسوس وما تتضمنه من اضطهاد الشيع من المارقين والخوارج ونهب الأهالي ونصب محاكم التفتيش وشن الحروب الصليبية وما إلى ذلك. كل هذه الآفات كانت نتيجة خرافات الدين ورموزه وكناياته وأساطيره المقررة المسجلة المسنونة المشروعة. ولذلك لا أزل أقول إنك لن تحصد الخير من الزور والباطل كما لن تجني العنب من الشوك. الفقيه - إلى م أكرر سمعك أن الدين ليس بزور وباطل وإنما الحق ذاته في ثوب من الرمز والكتابة. أما قولك أن لكل فرد أن يقرر لنفسه ما شاء من المذاهب الدينية فإني أعترض عليه بأن مثل هذا التخصيص جد مخالف ومناف لطبيعة البشر، فلو حدث لمحي النظام الاجتماعي بحذافيره. وقد قيل أن الإنسان حيوان لا مادي (مولع بالبحث فيما وراء المادة) أي أن له في الغيب وفيما وراء الطبيعة حاجات ومآرب. ومن ثم تراه لا يزال ينظر إلى الحياة من وجهتها اللامادية ومن هذه الوجهة وعلى هذا الاعتبار يحاول أن يفهم معاني كل شيء في الوجود وأسرار كل كائن. وعلى ذلك فبالرغم مما نراه من ضعف الثقة ومرض اليقين في كافة العقائد الدينية وكثرة ما يغشاها من الريب ويحوم حولها من الشكوك فقد نرى أن الأديان كلها متشابهة متماثلة في الجوهر الأساسي من أركان ناحيتها اللامادية وعناصر جانبها (الغيبي) حتى لترى أن

الصداقة لمتينة والتحالف الدائم لا يكون لا بين الأمم المتحدين أراء في هذه النقطة ونتيجة هذا إنك ترى تشابه الأمم واختلافها أشد وأعظم في مسألة الدين منه في أمر الحكومة بل اللغة وعلى ذلك فإن نظام المجتمع أعني الحكومة لا يضمن ثبات أركانه ورسوخ أصوله إلا إذا قام على أساس مذهب (لا مادي) شائع معترف به من جميع الطبقات ولا مراء في أن مثل هذا المذهب اللامادي لا يكن أن يكون إلا مذهباً (لاماديا) مألوفاً - أعني ديناً من الأديان فحينئذٍ يصبح على تمام ملاءمة ومطابقة للحكومة ولكافة أساليب الحياة الوطنية ومناهجها ومظاهرها لجميع ما يقوم به عامة أفراد الشعب من الأعمال المقدسة في حياتهم الشخصية. ولقد كانت هذه هي الحال عند قدماء الهنود والفرس والمصريين واليهود واليونان والرومان ولا تزال هي الحال عند البراهمة والبوذية والمسلمين. أجل إن في بلاد الصين ثلاث عقائد دينية وأشيع هذه الثلاثة أعني البوذية أقلها نصيباً من رعاية الحكومة وعطفها وحمايتها ومع ذلك فإن الأمثال السائرة في بلاد الصين الكثيرة التردد على الألسن ذلك المثل القائل (إنما الثلاث العقائد هي في الحقيقة عقيدة واحدة) أو بعبارة أخرى إنها متحدة في الجوهر. وإمبراطور الصين يقر بالثلاث ويوافق عليها جميعاً. وهذه أوروبا هي حلقة دول نصرانية. والنصرانية هي أساس كل واحدة من فرائد هذه الحلقة وهي رابطة الكل والعروة الوثقى المؤلفة شمل الجميع ومن ثم ترى أن تركيا بالرغم من وقوعها داخل حدود القارة الأوروبية لا تدرج ولا تدمج في سلكها. وعلى هذا النحو ترى أن ملوك أوروبا ليسوا ملوكاً إلا بإذن الله رضاه وإن الباب ولي الله في أرضه ووكيله ومندوبه وعلى ذلك فلما كان عرشه باعتباره وكيل الذات الإلهية ومندوبها هو أسمى عرش في أوروبا رغم أن سائر عروش هذه القارة إنما هو عالة على عرشه وذيل له وحاشية أو هو فرع منه مستأجر من قداسته. وعلى هذا النحو ترى البطارقة والكرادلة والأساقفة ليس سلطانهم محصوراً في دائرة الدين بل يتناول أيضاً الشؤون الدنيوية والمسائل المادية. ألا ترى أن الأساقفة ورؤساء الأساقفة لا يزال لهم إلى الآن في بلاد الإنجليز مجالس يشغلونها وأصواتاً يرفعونها في مجلس الشيوخ. هذا وإن الملوك البروتستانتيين يصبحون بفضل بروتستانتيهم زعماء الدين في مملكهم ورؤساء الكنيسة. ولقد كان الذي يشغل هذه الوظيفة الدينية الكبرى في إنكلترا منذ أعوام قلائل فتاة لا تجاوز

الثامنة عشرة من العمر. ولما ثارت البروتستانتية ثورتها في وجه البابا مزقت شمل النظام الأوروبي وهدمت بنيانه وبددت سلسكه وحلت عراه ولا سيما أواصر الوحدة الألمانية الصادقة بإلغاء دينها المشترك. فقضى على هذه الوحدة وما زالت مقضياً عليها حتى أتاح الله من عوضنا منها - لا أقول خيراً - ولكن شراً - أعني بذلك ما قد أقامته السياسة على أنقاض الوحدة الدينية المتينة القوية الرصينة بعد انقراضها بأزمان من تلك الوحدة الحالية التي هي محض سياسية وبحث اصطناعية. وبعد كل ما سردته لا أخالك تشك في شدة الارتباط الكائن بين الوحدة الدينية في الشعوب وبين حسن النظام وصلاح غيره من الشؤون الدولية والأحوال الاجتماعية. فهذه الوحدة لا تزال في كل زمان ومكان عماد الشرائع والستور أي أنهما قاعدة النظام الاجتماعي الذي لا يكاد يقوم على أساسه ويعتدل في نصابه إلا أذا استمدت الحكومة قوة وتأييداً من جانب الدين واستمد الملك الحاكم فخامة وأبهة زجلالاً. الفيلسوف - حسن جميل الحق ما تقول، أجل إن الملوك ليعدون الله عفريتاً يخوفون به الأطفال الكبار الشيب ويدفعونهم باسمه الرهيب إلى فراشهم حينما تعوزهم وسائل الإرهاب والإفزاع. ومن ثم شدة اعتمادهم على الله. فأما وقد ألغيت خطة التعذيب والتنكيل ونصيبهم من الخوازيق والأوتاد وصارت في خبر كان فقد أصبحت تلك الخطة في سياسة الأمم وتدبير الشعوب باطلة ملغاة عديمة الأثر والمفعول. ولتعلم أن بعض الديانات هي أشبه شيء بالحباحب لا تضيء إلا في الظلام فالجهل العام شرط أساسي لصولة الأديان ونفوذها وهو النصر الوحيد الذي ليس إلا فيه يستقيم أمرها ويقوى شأنها. فإذا بزغت في أفق الحياة كواكب العلم على اختلاف أشكالها بين تاريخ وجيولوجيا وطبيعيات وفلك فبثت شعاعها وأفاضت نورها على أرجاء العالم وأنحائه وإذا ما استطاعت الفلسفة بعد طول الاحتجاب والاحتباس أن ترفع عبقريتها وآرائها ومعتقداتها فقد آن إذ ذاك أن تنهار أركان الأديان المبنية على الخوارق والمعجزات وتنقوض دعامها فتهلك وتبيد ووترك مكانها للفلسفة أحكامها. وقد لاح فجر العلم والعرفان وانصدع عموده في القارة الأوروبية في أخريات القرن الخامس عشر بقدوم الفلاسفة اليونان الحديثين ثم ما لبثت شمسه أن ارتفعت وأتلع ضحى ذلك العلم والعرفان ومتع نهاره أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر الخصيبين

المنتجين. فانكشف بذلك دياجير العصور الوسطى وتبددت غيومها وأدجانها. وبقدر سطوع ذلك النور وانتشاره اضطرت الكنيسة والإيمان إلى الانزواء والاستتار والاختفاء تدريجاً على ممر الأيام. وترتب على ذلك تناقض الفلاسفة الانكليز والفرنسيين وتخاصمهم وتضاربهم. وما زال دأبهم ذلك حتى ظهر إمام الفلسفة وعميدها وقطبها ومحورها الحكيم الأشهر والمنطقي الأكبر عميويل كانت الألماني في عهد فريدريك الكبير فنزع من الدين والإيمان عماده وسنده الذي كان قد استمده سالفاً من الفلسفة. فكانت نتيجة ذلك ما نراه في القرن التاسع عشر من وهن المسيحية وتضعضعها وتجردها من راسخ الاعتقاد وصحيح الإيمان ودفاعها للمحافظة على كيانها. وكفاحها لصون موضعها ومكانه. والملوك المذعورون المروعون يحاولون أثناء ذلك إنهاضها وإنعاشها وإمساك رمقها واستبقاء عنصر الحياة فيها كالمنبهات الصناعية كما يحاول الطبيب استحياء المحتضر بالأودية والعقاقير، ولا يخفين عليك أن العلم والدين ما برحا أثناء هذه الحوادث التي قد يبيّنها لك ينزا أحدهما من الآخر منزلة إحدى كفتي الميزان من الأخرى إذا شالت واحدة فلا بد أن ترجح الثانية. وهذا الميزان حساس للغاية بحيث يمثل لك التأثيرات الدقيقة الوقتية، فمن أمثلة ذلك أن غارات السلب والنهب التي قام بها لصوص الفرنسيس تحت زعامة اللص الأكبر نابليون بونابرت في أوائل القرن التاسع عشر وما تكلفته شعوب أوروبا من المجهودات العظيمة لرد عاديات أولئك اللصوص وغوائلهم وطردهم من حمى أملاكهم وحريم أوطانهم - كل ذلك أدى إلى إهمال العلوم الطبيعية وبالتالي إلى تقصير عظيم في نشر نتائج هذه العلوم ونشر آثارها. وإذ ذاك بدأت الكنيسة ترفع رأسها ثانياً وبدأ الإيمان ينتعش انتعاشاً شعرياً ملاءمة لروح ذلك العصر ثم نرى من جهة أخرى أن في خلال الثلاثين عاماً التي أعقبت ذلك العهد تمالأ الرخاء والفراغ على تشييد صرح العلوم ونشر المعارف بمقدار خارق للعادة مما أدى إلى ما قد ذكرت آنفاً من تصدع صرح الدين وتفسخ أركانه وإيذائه بالتهدم والسقوط، ولعل التنبؤ بزوال الدين قاطبة من العالم الأوروبي سيتحقق عن قريب فينسل الدين من أوروبا كما تنسل الحاضن من الطفل الذي كبر ونما وبلغ أشده - ثم يسند بعد ذلك أمره إلى معلم ومهذب ليثقفه ويقومه. ولا جرم فإن مذاهب

الإيمان والاعتقاد التي لا أساس لها سوى الثقة العمياء والوحي والخوارق والمعجزات لا تنفع ولا تصلح ولا تليق إلى بطفولة إنسانية. ولا خفاء أن النوع البشري لم يخرج بعد من طور الطفولة إذ كل الحقائق الطبيعية والتاريخية تقرر أن عمر الإنسانية لا يتجاوز الستة آلاف من السنين وهذا يعادل متوسط عمر الفرد مائة مرة. وحسبك بذلك دليلاً على طفولة النوع البشري. لها بقية

البلشفية

البلشفية حقيقتها ومبادئها ونظاماتها (بقلم الكاتب الإنجليزي المنصف. و. ن. جود) ترجمة العالم الكاتب الأستاذ محمود طاهر ظهرت البلشفية في روسيا في أواخر الحرب الأوروبية الكبرى. وقام زعماؤها ينشرون مبادئهم ويبثون تعاليمهم بين مواطنيهم الذين ما برحوا يرزحون تحت نير حكم الفرد حتى تدهوروا إلى أوهد هوات الخمول وأسحق أغوار الاضمحلال، فهب الشعب الروسي من سباته العميق وقام ينشد حريته المسلوبة ويطلب حظه من الحياة الحقة. فنشأ من جراء ذلك تلكم الثورة الهائلة التي أدهشت العالم وأفزعته، وحدت ببعض السوء على أن يقرفوها يكل تهمة نكراء ويلبسوها بالأوهام والأباطيل. ولكن سدى ذهبت جميع مجهوداتهم إذ رأينا البلشفية تنمو وتذيع وتنتشر، والناس شعوباً وجماعات يلوذون بأكنافها أفواجاً حتى اضطرت الدول العظمى لأن تعترف بعجزها عن مناوأتها وترى ضرورة التفاهم معها والاتفاق وإياها، كما قام الكثيرون من فطاحل السياسة ورجالات الاجتماع، ممن روسيا في السنوات الأخيرة - ينتصرون للبلشفية ويؤدون إلى العالم أمرها زاروا أداء تنزه عن الغرض والهوى. وسننشر تباعاً سلسلة المقالات التي نشرتها جريدة المنشتر جارديان لمراسا الخاص و. ت. جود عن كل ما يتعلق بالبلشفية مبتدئين بما جاء تحت العنوان الآتي: أساس التربية الحديثة لما كنت قد قضيت أغلب حياتي في التعليم وأعماله على اختلاف أنواعها عنيت بالطبع عناية خاصة بأن أقف على نظامات الحكومة الروسية الحاضرة إزاء التعليم. إن روسيا كتلة من الأمية وقسطها من الجهالة أو فر من قسط أية بقعة أخرى من بقاع أوروبا. ولكن بقاء كيان الحكومات ورسوخ أقدامها يتوقف على طريقة علاج هذه المسألة. وإنا نعلم أن أهمية التعليم قد قدرت حق قدرها في الثورة الفرنسية الكبرى، لذا كنت أتوق إلى معرفة مقدار إدراك قادة تلكم الثورة الأخيرة لهذه النقطة التي تعد نتيجتها من الأهمية والخطورة بمكان عظيم. فانتهزت اقرب الفرص لمقابلة لونا كارسكي مدير لجنة التعليم كما أنى

تحادثت غير مرة مع مساعدة الأستاذ بوكروفسكي ذلكم المؤرخ الكبير فعلمت علم اليقين أن البلشفيك على بينة تامة من جسامة مسألة التعليم الروسي وضرورتها لدعوتهم وأنظمتهم وحياتهم وعلمت أنهم طرحوها على بساط واسع من البحث والفحص بكيفية تدعو إلى الدهشة والاستغراب. وضالتهم في ذلك هي أن يمحو الجهالة من عقول الفلاحين، وأن ينشروا المدارس في جميع القرى والأرياف، وأن يعدوا الفصول ويضعوا البرامج الخاصة للتعليم الصناعي والفنى الترفيه حال العمال، وأن يؤسسوا جامعة أهلية تقوم بما تقصر عنه تلك المعاهد المتقدمة من تهذيب الفنون الجميلة كالتمثيل والغناء والتصوير. وجملة القول أنك إن رأيت النهضة قائمة في روسيا الآن فثم تياراً هائلاً من الرغبات يدفع القوم إلى إصلاح التعليم من وجوهه جمعاء، وأن هذه الحركة المباركة لو تعهدوها باعتناء وحنكة لأخرجت جني يانعاً طيباً لروسيا بل وللعالم قاطبة. ولقد ينال منك العجب إذا أنت علمت أن الفكرة السائدة هنالك أن جهل وطني واحد وهو خطر على الأمة، وأن من أول واجبات الحكومة أن تساعده حتى تزول جهالته. ولقد كنت عام 1911 في موسكو أزور المدارس وأنتقد حال التعليم، فرأيت جماعة من المصلحين نشطوا لترفيه حال تلاميذ مدارس القرى بإمدادهم بكتب المطالعة القيمة السهلة المأخذ الأكيدة الفائدة. ومساعدتهم على تعليم الحساب والرياضة، كل ذلك على نفقة الجماعة لا يكلف الحكومة فتيلاً، غير أنهم ما عتموا أن اضطهدوا وصودرت تآليفهم وأصبحوا عرضة لكل مهانة واحتقار وهدفاً لجميع أنواع التشهير والقذف سراً وعلانية. ثم هبت فئة أخرى تريد إنشاء ناد ودار كتب يأتي إليهما معلموا مدارس القرى في أيام العطلة وأوقات الفراغ لتبادل الآراء وتصفح الأسفار واكتساب المعلومات ولكنها كانت في كفاح ونضال مع الحكومة التي لم تأل جهداً في عرقلتها. ولكن ما هي إلا الفترة بين سنة 1911 و 1919 حتى جاءت البلشفية تحمل كل خير وفخار. سخاء الحكومة تبرع الناس بالأموال عن طيبة خاطر فجمعوا في مدى ستة أشهر مبالغ باهظة ومقادير جساماً. وأول خطوة عملية كانت في سبيل تعميم التعليم في القرى وكان الرائد فيها الفكر الناضج والرأي السديد. حتى ولقد مهدوا السبل ليشركوا الزراع أنفسهم في هذه الحركة

العلمية كي لا يفوتهم نصيبهم فيها لهذا أصبحت المدارس (مدارس صناعية) تعلم فيها القراءة والكتابة والحساب ثم يدرب طلابها على كل ما يحتاج إليه معيشة القرى من الصنائع كالتجارة والحدادة والزراعة وأعداد الكتان والصوف والغزل والنسيج وما إلى ذلك. والمدارس الصناعية الحديثة تضيف إلى ذلك تعليم الفلاحة وزارعة الحدائق ومن هنا يمكنك أن تتصور مقدار حب الأهالي ومقدار إقبالهم على هذه المدارس التي تعود بهذا النفع العميم. وحسبنا دليلاً على ذلك مئات المدارس من هذا النمط التي أنشأها المزارعون أنفسهم في المدة الأخيرة. ويكفينا برهاناً على ضمان استمرارها في سبيل التقدم والنجاح تلك الهمة العالية التي يبذلونها في موسكو لتدريب معلمين أكفاء لهذه المدارس الصناعية. ففي ميدان (اكاتير نسكي) يوجد بناء عظيم تحيط به حديقة شاسعة واسعة تبلغ مساحتها أفدنة عديدة - كان قبلاً مدرسة داخلية لبنات الأغنياء وعليه القوم. أما الآن فهو يجمع بين جدرانه 300 مدرس انتخبهم السوفيت من جميع أنحاء روسيا وأركانها وهو يعيشون في تلكم الدار إذ بها العد الكافي من غرف النوم وقاعات التدريس وورش الصناعة كما أن بها مثل ذلك لعدد كبير من صغار التلاميذ ذكوراً وإناثاُ يستخدمون لتدريب المدرسين وتمرينهم. أما إدارة هذا المعهد العظيم ففي يدي اثنين - امرأة ورجل - لهما كفاءة عظمى في التدريس، ومهارة فائقة في حسن الإدارة وحظ وافر من جميل الخلق وهمة لا تحد في إنجاز الأعمال وهناك تعطى النظريات أولاً ثم تطبق عملياً في (الورش). التعليم العملي فكانت نتيجة ذلك أن دبت في القوم روح سارة كادت أن تؤدى بنفسي إلا الحسد. وأنت يمكنك أن تعرف قيمة هذا المعهد وأهميته حينما تعلم أن كل من تخرج منه يرسل إلى بلدته لينشر فيها ما اكتسبه من علوم وصنائع. أما التلاميذ الصغار فإن سوادهم الأعظم من أبناء العمال وكلهم في أحسن صحة، وخير حال، وأقوم خلق، وإن مداركهم لتنمو بسرعة حتى إن منهم من يظهر ذكاء نادراً وحذقاً فوق المنتظر. وبهذه الطريقة الناجعة تسني لهم أن يربوا ملكات نشئتهم ومواهبهم الطبيعية ويستخدمونها في صالح روسيا ولولا ذلك لظلت خافية مختبئة إلى أن تذوي وتموت دون أن يستفاد منها شيء.

أما عمال المدن والمصانع الكبرى فقد أعدت لهم الفصول ووضعت لهم البرامج لتعليم العلوم الصناعية والفنون المختلفة. ولما كانت الحاجة شديدة جداً إلى أمثال هؤلاء العمال قامت الحكومة فاتخذت لهم مدارس من الدور الكبيرة وردهات المطاعم ولا أندية. والعناية موجهة أيضاً إلى فني الموسيقى والتمثيل ولقد صادف المسرح من الشباب ميلاً عظيماً حتى أن عدد الملتحقين به في موسكو وبتروغراد أصبح هائلاً لدرجة مدهشة. وسن ابتداء العمل هي السادسة عشر، وإذ ذاك يكون العمل ست ساعات فقد بينا تقضى الساعتان الباقيتان من اليوم في الدرس والتعليم وذلك لمدة عامين ويؤمل فيما بعد أن ترفع سن ابتداء العمل إلى الثامنة عشر. أما في هذه الأيام فنظراً لحاجة الأمة وافتقارها الشديد إلى الأيدي العاملة صرح أن يكون سن العمل من الرابعة. على شريطة أن يشتغل ذلك العامل الصغير أربع ساعات فقط ثم يقضي الأربعة الأخريات في قاعة الدرس. وإني لأرى في هذا النظام النية الخالصة لخير النشء الروسي والاحتفاظ به أن يناله أقل ضير. وبينا كنت حاضراً مؤتمراً عقده المدرسون ليقرروا رأيهم إزاء مسألة التجنيد إذ أتى لينين - وكنت رأيته في ذلك الوقت للمرة الأولى - لا يخفره حرس ولا اتباع وأنشأ يتكلم نحو ساعة من الزمن عن واجبات كل روسي وأن كل امرئ يلزمه أن يعمل بمفرده على خدمة البلاد وإعلاء شأنها. وإن حضور لينين هذا المجتمع لهو دليل على مقدار اهتمام القوم بأمر التعليم. المسارح والفنون الجميلة أما المسارح فقد أصبحت حقاً عاماً للشعب. وألفت لجان من رجال الدين يساعدها أخريات من سوفيت موسكو ولمراقبتها والاهتمام بأمرها ما عدا مرقصهم الشهير ودار التمثيل في موسكو فقد تركا وشأنهما ولم يغيروا فيهما شيئاً عن ذي قبل. فهناك تمثل الروايات الدوام والفودفيل والأوبرا وتقام المراقص وكل شيء. . . . ولكن الجمهور المشاهد قد تغير!. . فالقوم اليوم يذهبون إلى التمثيل حباً لا كعادة قومية كما كانت الحال قبلاً. وفي كثير من الليالي يكون للعمال الفرصة الأولى والتفضيل الكلي في توزيع البطاقات (التذاكر) وذلك مع مراعاة حالتهم الاقتصادية. وتوفير أسباب الراحة والسرور لهم. . ويحي سوفيت موسكو حفلات سمر نسائية يحفظون أجورها جداً ليكون المشاهدون أكثر ما

يمكن. ومما يدعو إلى الدهشة والاستغراب والإعجاب معاً أنهم يبذلون مجهوداً عظيماً في إنشاء سبع دور للتمثيل في الحدائق وفي بعض الأماكن الأخرى حيث تمثل في أيام الآحاد روايات خاصة يحضرها الأطفال فقد وذلك بلا مقابل. ولقد ذهبت إلى إحدى هذه الدور في حديقة الحيوانات وهنالك رأيت أحوال ألف طفل لا يتجاوزون الرابعة عشر وكلهم يتبعون باهتمام زائد تمثيل رواية اسمها عشة العم تم ثم إني تجولت فيما بينهم لأتبينهم وأرى حالهم فإذا بهم - والحق يقال - يضارعون أترابهم ونظائرهم في لندن. * * * ولتعلم أن روسيا غنية جداً من ناحية التحف وكنوز الفنون. ولقد كان قلبي منقبضاً حزيناً وراسي مفعماً بأخبار الممالك الغربية ومفترياتها عن البلشفيك وكنت موجساً خيفة مما عسى أن يكون قد حل بهذه النفائس. ولكن عيني كذبت تلك الأقاويل وأرجعت لي طمأنينتي. فإن كنوز الاسكندر ومحتويات المتاحف الآخر، ما زالت محفوظة مصونة معتنى بأمرها. وقد أرسلت جميعها على موسكو لتكون في مكان مكين وحرز حريز، ولقد كانوا يودون أن ينشؤوا لها متحفاً في موسكو ولكنهم عدلوا عن ذلك لأن النفائس حق من حقوق بتروغراد وليس من العدل والذوق أن يسلبوا مدينة حقها، ولذا كانت مصونة حتى ترد إلى صاحبتها في الحين المناسب. أما معرض صور تيرتيا كوفسكي في موسكو، فهو اليوم أغنى منه في أي وقت آخر، ولقد زرته فأليفته غاصاً بالمتفرجين - وأغلبهم من الجنود - ووجدت جماعة المرشدين يقومون بوظائفهم بمهارة فائقة، ولطف ليس وراءه زيادة لمستزيد، ولقد جمعت أنفس الصور ومجموعاتها من بيوت الأفراد كما أنه قد أعد متحف خاص لأعمال الزخرفة والبناء والأثاث، والكل معنى به عناية عظمى ومصرح للجميع بالتفرج عليه. وإني هنا أعترف بأن مبادئ البلشفيك ونظاماتهم أبعد ما يكون عن فكرة أماتة الفنون والقضاء عليها بل إنها ستكون سبباً في إنمائها وتهذيبها وإعلاء شأنها. وحسبي ما قاله لونا كارسكي وهو يتكلم عن المسارح والفنون الجميلة حيث قال لي: إن لدينا مواد صالحة لن ندعها تذوي وتموت ونحن سكوت راضون.

كيف تربي طفلك

كيف تربي طفلك إياك وعلى الآباء ألا يكونوا أشبه شيء بالشرطة، وأن لا ينظروا إلى الحياة نظر هؤلاء إليها فيأخذوا الناس بالوعيد وييضعوا لهم الذُر وألوان التهديد، فإن واجب الشرطي أن يراقب الناس ويكون بمرصد لمن يعتدي على القانون ويخالف السنة ويركب رأسه في هذه الحياة، ولكن واجبك أيها الوالد أن تزرع في فؤاد صبيك حب القانون ولا يتوفر لك ذلك إلا إذا جنيت نفسك استعمال آداب الشدة وعبارات النهي والزجر ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وتوفرت على تصوير الخير أمام أعين أطفالك وبصيرتهم بجماله وأريتهم وجه صلاحه وسداد الرأي في اتباعه فذلك أنفع لهم وأحدى عليك من تحذيرهم الشر وإصرارك على تكريههم فيه وزرع البغضاء له في قلوبهم من طريق النهي والزجر والتأنيب. فدع قولك لصبيك. . . إنك لطفل خبيث شرير. . . . . واستعض عنه قولك في رفق. . . . إنك لست بالمحمود الخلق الآن. . . . . وبدلا من أن تصدر له وخامة العاقبة إذا هو حاد عن طريق الخير وشذ عن قانونك الذي وضعته له. يخلق بك أن تصور حسن العواقب إذا هو أطاع قانونك وعمل بإرادتك وصدع برأيك. فبدلاً من تقول له. . . . . إنك مخطئ. . . لا تقطف الأزاهر من أفنانها - لا تبك لأنك قذرً. . . . لا تصرخ. . . . . لا تحدث هذه الضوضاء!. . . . لا تهبط عن مقعدك!. . . لا تكن قاسياً معك أخيك!. . . . يحسن لك أن تقول له في رفق وهداوة ولين، لقد ارتكبت هفوة. . . . . . الله في الأزاهر المسكينة. خل عنك البكاء وكن فرحاً طروباً. اجتهد أن تكون أنظف هنداماً. . . تكلم بصوت رقيق خفيض. . . رفقاً رفقاً. . . . أرجوك أن تمكث في مكانك - ترفق بأخيك. . . . . وهلم. . . . . فإذا أنت فعلت ذلك لم تلبث أن بوناً شاسعاً بين الأدبين، وفرقاً عظيماً، فإن آداب النهي والزجر تبصر الطفل بكل ما هو شر وأثم، وتريه أنه الطفل الشرير الأثيم. أما آدب العرف والرفق فتدله على الجميل وتجلبه إلى الخير وتعوده التزامه والدأب عليه وسلوك مالكه. فعليك أن تأخذ إذن بالآداب الموجبة وتحاش الآداب السالبة، وليكن مقصدك الحض على

الخير لإزالة الشر بتنبيه الطفل إليه. العناية بالبدن من الناس طائفة يرون أنه إذا اعتنى الإنسان بصحة الطفل فلا مشاحة في أنه سيروح بطبيعة الحال فرحاً ذكياً نشيطاً متقدماً في النماء، مون الناس آخرون يذهبون إلى أن الصحة لا أهمية لها البتة في ترقية عقول الأطفال وتهذيبهم وإعدادهم للأغراض السامية التي يتطلع الآباء إليها في الحياة، ونحن نتخذ مكاناً وسطاً بين الرأيين ولا نغالي في المذهب مغالاة الرأيين بل نقول أنه إذا أهملت تربية الذهن والأخلاق فلا شك في أن الصحة لا تلبث أن تفسد وتهن يوماً وإنه إذا غفل أمر الصحة فمن الصعب أو المستحيل أن يصل المربي إلى تحقيق شيء من المقاصد الأخلاقية التي يريدها لطفله ولا أمل في تنمية مدارك الطفل أو تهذيب خلقه. فحذار أن تستهين بأمر صحة الأطفال فإنك إن فعلت سقطت عنك وظائف المربي المهذب فأما العناية بثياب الأطفال الداخلية اللاصقة بأبدانهم والعمل على تنظيفهم أبداً فأمر معلوم لا يريد بسطاً ولا شرحاً ولكن ينبغي أن تحشد العناية التامة بوجه خاص لكل ما يمس الأطعمة ويختص بنظافتها وجودتها وصلاحيتها. ومما هو بسبيل ذلك أن يعتني الآباء بأمر اللبان وغيرها من الأطعمة ويهتموا باختيار أجودها وأصلحها وأصحها، ويغلى اللبن أو كل ما هو أشبه به من الأطعمة أو وضعه فوق النار قبل تقديمه للأطفال بل لطالما رأينا الآباء العقلاء بعيدي النظر لا يفتأون يغلون اللبن أو الماء قبل إعطائهم لأصبيتهم - ثم لا ننس وجوب تغيير الأطعمة والأوان الأطعمة وألوان الأكل وتنويعها من حين إلى حين كما تقتضيه فصول العام وتستوجبه اختلافات الطقس والهواء. ويجب أن يقدم إليهم في كل يوم لون من الفاكهة أو نوع من الحلوى. وينبغي أن تكون المآكل في منتهى البساطة دون أن ينقصها التنويع والتغيير ثم ينبغي للأطفال الدفء في الشتاء والاشتمال بالثياب الباعثة عليه والتخفف منها في الصيف والارتداء بالثياب المناسبة له الصالحة لجوه ولاغناء عن تغيير ثياب النوم عند تغيير كل فصل أو مرحلة من العام، ولا بد من أن يكونوا في وقاء من تقلبات الطقس أو من التيارات الهوائية عند النوم وهبات

الرياح في الشتاء وأيام البرد ثم لا ينبغي إذا كفلت للأطفال مستلزمات الرياضة في الهواء الطلق والنسيم العليل أن يحمل على الأطفال بالتعب ويطلب منهم الإجهاد والاستمرار حتى يدركهم اللغوب بل يجب أن تحترم رغبتهم في الراحة وينزل عن طلبهم عند الجهد والكلال. فإذا رأيت الطفل قلقاً باكياً أو نحو ذلك، فانتظر وتحر السبب لعل الباعث هواء الحجرة أو خلوها منه أو درجة الهضم عند الطفل أو فساد معدته. فإذا ألمّ به ما يلم بالأطفال من الدعكات الانحرافات فعليك استشارة الطبيب للتو والساعة وإنفاذ وصاياه ووصفاته مراعياً الدقة التامة والحذر الشديد، وينبغي لك العناية بأسنان الطفل من الحين إلى الحين والنظر إليها وتقفقد شئونها وحالاتها ثم فحص عينيه وجميع أطراف بدنه وأطراف جثمانه فإذا تيسر لك الوقوع على طبيب تستطيع أن تسترشد به في أمر تربية طفلك فلا تن عن الاسترشاد به والركون إلى نصائحه. وإذا أمكنك الحضور إلى محاضرات التربية والجلوس إلى مذكرات التمريض ودروس الإسعافات الوقتية وما إليها من الدروس التي تلقى على الجماهير لتدريبهم على مستلزمات الصحة فافعل ولا تتأخر وادخر لك إذا استطعت كتاباً أو دليلاً من الكتب الطبية التي وضعت لإرشاد الآباء خاصة. وبد فإنه لا يتسع المقام هنا للاستطراد في ذكر وجوه عديدة من شرائط العناية بالصحة ولا استيعاب هذا الباب برمته. ولكن إذا كنت قد أدركت روح هذه التعاليم التي بسطناها لك فقد سهل عليك أن تجد لنفسك ما يلزم للطفل من العناية البدنية وما يجب وما يصلح. واعلم أننا نريد في جميع أجزاء هذا الكتاب الذي توفرنا فيه على حشد مبادئ التربية الحديثة أن نفهم الناس أن الوالد الذي يهمل أمر الصحة أو يغفل أمر الخلق إنما يهمل بذلك الصحة والخلق معاً. الأدوار الأربعة للحياة الآن وقد بسطنا لك المبادئ الأولية في التربية فنحن مستطردون إلى الطرائق الواجبة لها. ومن هنا يصح لنا أن نقسم التربية إلى أربعة أدوار - فالدور الأول - من وقت الميلاد إلى سن الثانية ومنتصف الثالثة. - والدور الثاني - في هذه السن الأخيرة إلى السابعة - والدور الثالث - من السابعة إلى الربيع الواحد والعشرين أو حواليه والدور الأخير من ثمت إلى السنين التالية.

ففي الدور الأول - إذ يكون الطفل عاجزاً عن الإدراك - لا سبيل عليه لا من ناحية تكوين العادات المحمودة. وأما الدور الثاني إذ يكون قد أصاب قسطاً من الإدراك يكفل له فهم أوامرك. فلا سلطان لك عليه إلا من ناحية الطاعة. وفي الدور الثالث حيث يكون الصبي قد تهذبت قواه العقلية وعرف ضبط نفسه ليكن رائدك الحث ومقصدك الأول الحض والترغيب وإن كانت الإرادة الشخصية هي الباعث الأكبر على الصلاح في هذا الدور الثالث. والذي قصدنا إليه من وضع هذا الكتاب لا يتعدى بسط المبادئ الرشيدة الواجبة للأدوار الثلاثة الأولى وأما الدور الأخير فلا سلطان لنا عليه.

باب الزراعة

باب الزراعة زراعة القطن الفلاحة المصرية عبارة عن معارف وقواعد توصل إليها الفلاحون بمشاهداتهم واختباراتهم المتوالية والمتداولة بينهم خلفاً على سلف وحتى الآن لم يدون منها إلا قليل من كثير وإذاً فلا مندوحة لطلابها من الرجوع إلى عرف أهلها وهو يختلف باختلاف بيآت الأرض ومراتبها ووسائل فلاحتها وإذا كانت معرفة هذا العرف الزراعي صعبة لما تقتضيه من المثابرة في البحث والاستقصاء وقوة الإدراك في تخليصه مما يغشاه أحياناً من الإبهام والأوهام فإن تطبيق قواعده في استغلال الأرض وتكييفها حسبما تستدعيه الظروف أصعب لما يقتضيه من حسن التمييز ودقة الملاحظة وقوة الفطنة في إرجاع المسببات في أسبابها الحقيقية وذلك لا يتم إلا بالمرانة والتدريب الطويلين وبعد فإني سأتي فيما يلي على مشاهدات لبعض مهرة الزراع في تحريهم إجراء تلك القواعد مجرى العمل الصحيح. في زراع القطن الرجيع كل نبات يفرز بجذوره مادة يفيده إفرازها ولكنها إذا ظلت في التربة وتلاه زرع من صنفه أضرت بهذا الزرع التالي وهذا من دواعي رداءة القطن الرجيع (القطن بعد القطن) ولملافاة ذلك يجب تطهير التربة من تلك المادة السامة حتى يقل أو ينعدم تأثيرها، ويتم هذا التطهير بغسل الأرض وترويحها وإحرارها، وللوصول إلى ذلك يزال أثر الزراعة السابقة من الأرض فيقلع حطب القطن قلعاً وتدمس الأرض قبل الحرث مرة وقبل الزرع مرة أخرى سواء كانت أثناء الحرث أو بعد التخطيط وتهويتها وتشميسها سيما أثناء الحرث مدة كافية وبعد زراعتها تظل بدون محاياة إلى أن يقوى نبتها ويخف لأن تبكير محاياة القطن الرجيع تسبب تسقيطه وبدون استيفاء الإجراءات الآنفة الذكر يضعف نمو النبات للغاية. شاهدت هذا العام غيطاً من غيطان القطن يراد زراعته رجعياً وكانت إزالة الحطب منه تقطيعاً لا تقليعاً (وهذا من دواعي الرادءة لأن أثر الجذر السابق يعاكس نمو الجذر اللاحق ولذلك اضطررنا لجمعها من الأرض بكلفة كان يمكن اقتصادها لو روعي ذلك من قبل) ثم دمست الأرض واستجعل فلاحها فحرثها وهي طرية نوعاً ما وذلك يستدعي ضعف نباتها أول نشأته سيما إذا لم تسمد سماداً كافياً وبعد أن تم حرث الأرض وتخطيطها ومسحها

جرى البحث في هل الأوفق دمسها قبل الزراعة أو زراعتها بدون دمس. في حالة إذا ما دمست الأرض خشي زراعها من تأخير الزراعة عن أول الوقت البدري وهو من المتشبثين بالزراعة البدرية كل التشبث - وخشي أيضاً من أن الدمس بعد أن حرثت طرية يزيد في تبريدها وهذا هو الأهم. وفي حالة عدم الدمس - يخشى من تأثير الإفرازات السامة من أثر القطن السابق فضلاً عن أن الأرض الغير مدموسة أي المزروعة على الناشف تشقق عاجلاً وذلك من دواعي طلبها المحاياة واللازم في الأرض الرجيع تأخير محاياتها إلى ما بعد الخف وإلا يحصل تسقيط النبات كما سبقت الإشارة. وقيل في علاج ذلك أنه مع الزراعة على الناشف فلاجل عدم طلبها المحاياة إلا بعد مدة كافية - يمكن احد أمرين. 1 - إما إعادة نزول المياه ثانياً عقب الزراعة ببضعة أيام وقبل ظهور النبات وبذلك يمتنع التشقيق وتطول مدة احتمال الأرض بعد ذلك لمنع الري ولكن خشي مع ذلك أمرين أ - إن مولاة الري تزيد برودة الأرض كما سبق الإشارة ب - إن بعض أجزاء هذه الأرض محشة أي بها حشائش بكثرة يخشى من تكاثرها على نبات القطن فتخنقه. 2 - أما التكبير بعزقها أول عزقة (نكش) نكشاً خفيفاً لسد الشقوق وحفظ ثرى التربة ثم إعادة العزق بعد مدة أخرى. قد يفيد ذلك في تأخير حاجة الأرض للمحاياة ولكن يبقى أثر المادة السامة مضعفاً للنبات ولذلك ترجح دمس الأرض وإن تأخرت الزراعة من أول الوقت البدري إلى أول الوقت المتوسط فلا بأس فإن ذلك خير من اختصار إجراءات الفلاحة فإن إعطاء الأرض حقها من الخدمة أولى بالاعتبار. ترجح الدمس ولكن صادف ذلك حبس المياه لخلل طرأ على إحدى برايخ الري وكا تصليحه منوطاً بمصلحة الري وخيف من طول مدة الحبس فرؤي حينئذٍ أنه إذا ترائ أن ذلك سيؤخر الزراعة كثيراً فيفضل عدم الدمس وقيل أن ترك الأرض (من منع المياه بهذا الحبس) عرضة لتأثيرات الجو مفيد في تطهيرها وإذن يترجح بعد ذلك الزراعة بدون دمس.

ولو كان أمكن دمس الأرض حال ورود المياه عقي الجفاف مباشرة وكانت لأرض مع ذلك لم تحرث ندية نداوة ظاهرة لما كان حصل هناك تردد في دمسها البتة. ومن العوامل التي ينظر إليها في ترجيح الدمس أن البذرة المعدة لزراعة هذه الأرض منتقاة من أجود عينة يعز الحصول على مثلها فيما إذا حصل تسقيط التبات وأريد الترقيع زيادة عن المعتاد. وتقرر مع الدمس أنه لا تزرع الأرض غلا بعد أن تنشف وتستحصف جيداً والنايدة الزرع تكون تكون أشفافاً أي خفيفة جداً وأنه إذا اقتضى الحال تساعد التربة بالتسميد تكبيشاً أثر الخف مباشرة وكانت أرض هذا الغيط كحلاء. متوسطة الخصب إلا أن المادة العضوية (السماد البلدي) فيها قليلة عما يجب وكان ذلك من دواعي زيادة الحذر من برودة الأرض بسبب حرثها طرية وإعادة دمسها مع ذلك. وفي غيط آخر زرع رجعياً أجريت الإجراءات الآتية في خدمته: أزيل حطب القطن السابق تقليعاً ثم حرثت الأرض ولوطت ثم حرثت أول حرثة ودمست ثم سمدت وحرثت ثانية وخططت فجاء محصولها جيداً لم يقل عن القطن المبكر إلا نحو 20 في المائة وقد كانت الأرض سواء متوسطة الخصب ليست غنية بالمواد العضوية غناء تاماً. وفي الغيطين الآنفي الذكر لم تزرع الأرض برسيم تحريش وهذا (أي عدم زراعة البرسيم التحريش في الأرض المراد زرعها قطناً رجعياً) هو المختار في الأرض الجنوبية وما يصاقبها اما في البراري حيث الأرض غير نقية من الملوحة وغير قوية الخصب فإنه يكون الأوفق في كثير من الأحوال زراعتها برسيم تحريش ثم حرثها بدرياً ودمسها في الخطوط - والري الذي تستدعيه زراعة البرسيم والدمس بعد ذلك كافيان في تطهيرها ولا خفاء إن مثل هذه الأرض لا تحتاج للتشميس مدة طويلة خلافاً للأرض الجنوبية فإنه كلما طالت مدة تشميسها كان ذلك أحسن لها. أحمد الألفي

متفرقات

متفرقات أسعد البلدان في كندا بلد اسمه (مِدِسن هات) هو بلا شك أسعد بلاد العالم، وذلك لأن في جوف الأرض تحت هذا البلد خزاناً هائلاً ومعيناً لا ينضب من غاز الاستصباح وهو ليس بزيت البترول كما قد يتوهم البعض، بل هو الغاز (يشبه الهواء) الذي تضاء به الشوارع وكثير من الحوانيت عندنا. فتجد القوم هنالك ينيرون منازلهم منه ويستعملونه في تشغيل آلات المصانع التي سرعان ما أنشأوها بعد اكتشاف ذلك الكنز العظيم. ومصابيح الشوارع لا تطفأ قد في مدرسن هات هذه. لأن أولياء الأمر هناك يرون أن من العبث وخرق الرأي والإسراف أن يدفعوا أجوراً خاصة لإشعال وإطفاء المصابيح مع أنها لا تكلفهم شيئاً. وليس هناك من يخطر على باله أن يستعمل الفحم، فالكل يستعملون الغاز في الإضاءة والطهي وجميع ما يلزم لهم. وإذا ما زار هذا البلد زائر عظيم ذو حيثية. أكرموه بما لا يمكن أن يحظى به في أي بقعة أخرى من بقاع الأرض وذلك بأن يأمر أولياء الأمر بأن يكشف بئر من الآبار - وما أكثرها - ثم يشعلونها، فيرتقع لهيبها إلا ارتفاع شاهق ويسطع ضوؤها في اميال عديدة. فيا لها من نعمة قد خصَّ الله بها أولئك القوم!! * * * كثيراً ما يبحث المرء عن سعادته كما يبحث عن نظارته. حين تكون معلقة على أنفه. جوستاف دروز الرجل الذي لا يرضيه القليل لا يرضيه شيء.

اعترافات الفرددي موسيه

اعترافات الفرددي موسيه الفصل الخامس في اليوم التالي ذهبت إلى غابة بولونيا قبل الغذاء. وكان الجو مغيماً. فلما بلغت بوابة مايوت أرخيت عنان جوادي ملقياً حبله على غارية يذهب أين يشاء وأرخيت كذلك عنان فكري أستعيد في ذاكرتي ما قاله لي ديزينيه. فبين أنا كذلك إذ سمعت صوتاً ينادي باسمي فالتفت ورائي فابصرت في عربة مكشوفة إحدى صويحبات حبيبتي. فاستوقفتني وأومأت إلي بيدها إيماءة الصديق الودود ودعتني للتوجه معها في عربتها لمنازعتها الغداء إذا شئت. وكانت هذه المرأة (واسمها مدام ليفازير) صغيرة الجرم بضة مكتزة شقراء وكان بي أبداً نفرة عنها وتبرم بها لا أدري لماذا لم يكن بيني وبينها ما يدعو إلى ذاك، وكانت علاقتي بها ما برحت ودية. ولكنها حينما دعتني لم أجد بداً من قبول دعوتها، لعلمي أن حديثي معها سيدور على حبيبتي. لذلك ضغطت على يدها أثناء المصافحة وشكرت لها حسن صنيعها بي. فناطت حراسة جوادي إلى واحد من خدمها وأجلستني بالعربة إلى جانبها وانطلت بنا العربة عائدة إلى باريز. وهنا أصابتنا السماء برذاذ فأغلقنا العربة وسددنا نوافذها ولبثنا صامتين برهة فنظرت إليها نظر الحزين الكمد وكنت أرى فيها صديقة حبيبتي الغادرة وحميمتها وكاتمة أسرارها. وقد كانت في أيام تصافينا وتآلفنا في عهد الوصال الطيب الحلو تجلس معنا في خلوتنا فاستثقل حضرتها وأتمنى انصرافها وأعد عليها مقامها بيننا في الدقيقة والثانية! ولعل هذا كان سبب تبرمي بها واستيائي منها. وكنت أعلم أنها كانت تشفع لي عند حبيبتي وتدافع عني وتصون غيبتي فكنت خليقاً أن أغفر لها دخولها بيننا لحسن نتيتها وإرادتها الخير لي. ولكني كنت أجدها بالرغم من محاسن صنائعها عندي قبيحة مملولة وبغيضة ممجوجة. كذلك كان رأيي فيها أيام الوصال الهنية. أما الآن فقد بدت لي مليحة حسناء فو أسفاً! فجعلت أتأمل يديها وثيابها. وجعلت كل حركة وإشارة منها تخلص إلي أعماق قلبي وما ذاك إلا لأن عهد الماضي كان في هذه الأعماق حياً جديداً يعيش ويجيش كما كان أبان

حدوثه وفطنت المرأة إلى حقيقة أمري وكنه حالي واطلعت على خبايا ضميري وقرأت صفحة الماضي في مطاوي سريرتي فعرفت ما كان يلقح جوانحي وينضج كبدي من تلك الذكريات الأليمة والهواجس القديمة. وعلى هذه الحال انقضت العودة - أنظر إليها وتبتسم إلي. فلما بلغنا باريز قبضت على يدي وقال (واها. وها) فأجبتها والعبرة تختفي (خبريها إذا شئت) ثم فاضت دموعي. ولما فرغنا من الغداء وجلسنا إلى النار قالتأوقد نفذ السهم وقضى الأمر؟ أو ليس لما فات من رجعة؟ أم لارد لذلك القضاء ولا دافع. أفلا سبيل ولا حيلة؟ فأجبتها واحزناً وواأسفاً! يا سيدتي اعلم أن الحزن لا شك قاتلي. وإن أمري لينحصر في هذه الكلمة وهي: لا أستطيع أن أحبها وليس في وسعي أن أحب سواها ولا طاقة لي أن أبقى بلا حب. فهزت رأسها عند سماع كلمتي هذه وتبينت في وجهها أثر الرحمة والرثاء ولبثت برهة طويلة تفكر وترجع كرة الذهن في ماضي حياتها كالتي تبحث عن صدى في أعماق قلبها. وقد أسدلت من أهدابها حجاباً على عينيها واستغرقت في لجة من الذكرى. ثم مدت إلي يدها فدنوت منها وقالت وأنا أيضاً قد جربت كل ذلك ثم خنقتها العبرة فسكتت. لعاطفة الحب لدات وأتراب فمن أجمل لداتها وأملح أترابها عاطفة الرحمة. أمسكت بيد مدام ليفازير وكدت أضمها بين ذراعي وأخذت تسرد على مسمعي كل ما استطاعت أن تذكره من محاسن حبيبتي شفاعة لها عندي. وجعلت تقول في سبيل الاعتذار عنها بمقدار ما تقول في سبيل الرثاء لي والترحم علي فاشتد حزني وشجني. فماذا أقول؟ هذا وأن مدام ليفازير شرعت تتكلم عن نفسها. فما قالت لي في هذا الصدد أنه كان لها عشيق فهجرها. وأنها ضجت من أجله ضحايا عظيمة فخاطرت بثروتها وشرفها معاً واستجلبت وعيد زوجها وتهديده وكانت قصتها ممزوجة بدموعها فأنستني أحزانها أحزاني. وأذهلتني بأشجانها عن أشجاني. وقالت لي إن تزويجها من زوجها هذا كان على خلاف رغبتها وبعد جهاد طويل وكفاح عنيف. على أنها إن أصبحت اليوم حزينة فما ذاك إلا لأنها أصبحت لا تجد من يحبها ويهواها. وآنست منها أنها كانت تنقم من نفسها عجزها عن استبقاء ذلك الحبيب واحتجاز قلبه لديها حتى أوجدت له سبيلاً إلى تركها والتخلي عنها وتعزو الذنب في ذلك إلى نفسها بتنكبها سبيل الحفاظ

وعدو لها عن سنة الوفاء بالعهد. وبعد تهدئة روعها شيئاً قلت لها (كلا يا سيدتي ما أظن التقائي بك اليوم كان عن طريق الصدفة. ولكنه كان مدبراً بحكم العناية الإلهية التي لا تزال تجمع بين المحزونين المنكوبين - أهداف النحس وأغراض البؤس وتضم بين الأكف المرفوعة إلى الله! فلا تندمي على ما كان من دعوتك إياي وحديثك لي وليس على أمريء يصغي إلى حديثك من بأس ولا عار عليه إن جرت على شكواك دموعه. وضاقت الزفرات المتصاعدة ضلوعه. فاعلمي أن السر الذي أفضيت به إلي إنما هو دمعة تحدرت من جفونك فسقطت على فؤادي وستبقى أبداً هنالك واسمحي لي يا سيدتي بزيارتك كرة أخرى لأشاطرك همومك وأقاسمك أحزانك. وبلغ من شدة عطفي عليها ورثائي لها أن خرجت من سجيتي وشيمتي وعانقتها بلا تبصر ولا روية. ولم يجل بخاطري أن ذلك يسوؤها والواقع أنها لم تكترث له قط ولا رأته إلا أمراً اعتيادياً محضاً. وكان السكوت قد ضرب أطنابه في المنزل الذي كانت تقطن فيه مدام ليفازير وقد فرش فناؤه بالقش لمرض كان أصاب أحد سكانه حتى لا يحدث مرور المركبات والبهائم ضوضاء فتزعج ذلك المريض وتهيج أعصابه. وكنت ملتصقاً بها أضم عليها ذراعي وقد أسلمت قلبي إلى أمتع العواطف النفسانية - أعني عاطفة الحزن المشترك واللوعة الموزعة. وتماد بنا الحديث بلهجة أخوان الصفاء وأخدان الإخاء. فتشاكينا آلامنا وأوجاعنا وأحسست بين ملتقى هذا الحزنين المتلاطمين كأنما هب على قلبي نسيم لين من ملكوت الرحمة يأسو جراحي وينفي أتراحي وكأنما قد هتف بي صوت رخيم من عالم الخلد كموسيقى السموات ونغمة الملائكة قد تألف من أنات النفس الإنسانية وحنات الروح البشرية يسكن لوعتي ويطفئ حرقتي. ولكني في أثناء هذا العناق والبكاء لم أكن أبصر من جسم هذه المرأة سوى وجهها. فلما نهضت من جانبها وذهبت عني خطوات ظهر لي أنها تعمدت في أثناء انحنائي عليها وتحدبي فوقها أن ترفع رجلها على صفة الموقد رفعاً أدى إلى إسقاط أزارها حتى انكشفت ساقها وتعرت. وأعجب من هذا أنها بالرغم مما شاهدت علي من أثر الارتباك والخجل والحيرة عندما

أبصرت ساقها عارية - لم تحرك ساكناً ولم تحاول ستر عورتها فتنحيت جانباً وزويت نظري عن هذا المنظر الأليم ريثما تستر نفسها ولكنها لم تفعل فعدت إلى صفة الموقد فارتفعت عليها وجعلت أنظر إلى تلك العورة نظرة المشمئز المتأفف وأخيراً وقعت عيني على عينها فأدركت من ألحاظها أنها قد عرفت كل ما وقع وجرى وأنها أتته عامدة قاصدة. فدهشت وبهت وأصابني كالصاعقة، إذ علمت أن كل ما أتته المرأة من بثها الشكوى إلي واستدارز رأفتي ورحمتي لم يكن إلا تصنعاً أرادت به غشي وخديعتي وقصدت به إلى استدراجي واستهوائي وإيقاعي في حبائل كيدها. فلما تجلت لي الحقيقة غراء واضحة تناولت قبعتي دون أن أنبس بكلمة واحدة وإذ ذاك أصلحت هي هيئتها وسترت ساقها، وخرجت من الغرفة بأسرع ما في طاقتي. ولما بلغت منزلي ألفيت وسط حجرتي صندوقاً كبيراً من الخشب. وذلك أن إحدى خالاتي توفيت وأورثتني شيئاً زهيداً من متاعها. وكان بين محتويات هذا الصندوق بضعة كتب تربة. فعولت على قراءة جانب من هذه الكتب إذ كنت في فراغ من الوقت وقد نال مني الضجر وكان معظم تلك الأسفار قصصاً مما ألف في عهد الملك لويز الخامس عشر. وكانت خالتي لما أوتيت من الورع والتقى ترفعت عن قراءة تلك القصص إذ كانت تلاوة أمثالها ضرباً من الفجور والمنكر. وليعلم القارئ أن من دأبي وديدني أني أطيل التأمل في كل ما يقع لي من الحوادث مما دق وحقر ثم أعزو حدوثها إلى سبب قوي وحكمة بليغة من الأقدار التي أعتقد أنها تسير في كل ما تخصني به من الأحداث على نظام وتدبير - لذلك تراني إذا جلست أتذكر ما مر بي من الحوادث ضممت بعضها إلى بعض في نساق منضود كأنها فرائد العقد النظيم - يربطها سلك واحد من المناسبة والملاءمة قد أبرمته يد العناية والتدبير الإلهي. ليعجب القارئ ما شاء فما عجبه بما نعي أن أقول أن ورود هذه الكتب وقع مني في تلك الظروف التي وصفتها أجل موقع وأعظمه. فأسرعت فيها التهاما لمشمولاتها أسراع النار في اليراع وانتهبتها انتهاباً وأنا أثناء ذلك بحال جمعت بين لوعة الكمد ولذعة اليأس. وقلت لهذه الكتب مناجياً ألا فحياك الله وأبقاك على مدى الأزمان فإنما أنت على هدى وسواك على ضلال. فمن ثناياك يفيض نور اليقين. وبين سطورك يشرق البرهان المبين. وفي كل

لفظ فيك لسان صادق. وكل حرف من حروفك مقول بالحق ناطق. وأنت وحدك تعرفين أسرار الحياة وسرائر الإنسان. وأنت وحدك تجرؤين أن تصرحي بأنه لا حقيقة في الوجود إلا الدعارة والمنكر والنفاق والبهتان. فكوني أصدقائي وشيعتي ورفاقي وانفثي سمومك الكاوية على ما بقلبي من الجراح، وعلميني أن أتلقى عنك الصدق المبين والحق الصراح. ثم التفت إلى مكتبتي وما قد احتوته من دواوين الشعر والمباحث الفلسفية فخاطبتها قائلاً: وأنت يا عصبة المجانين والمتهوسين والمتعلقين بأذيال الخزعبلات والترهات والخرافة، السادرين في الغواية. والغرور والعماية. الغرقى في الأحلام. والأوهام. والأباطيل. والأضاليل - أيتها الفئة المفتونة التي لا تجني من أوراقها سوى الغصص والكروب. والمحن والخطوب. والرزايا والبلايا. لئن كنت تعرفين الحقيقة ولكنك تغريننا وتخدعيننا فلأنت الأفاكة والمزورة والغشاشة والدجالة. ولئن كنت تعتقدين بصحة ما تنطقين به من الهذر والهذيان فلأنت السخيفة الحمقاء. والغريرة البلهاء. ففي كلتا الحالتين لا تخلين من الكذب والبهتان، تعبثين بألباب الرجال وبأحلامهم تلعبين وتتخذين من الشيب والشباب أطفالاً بهم تهزئين ومن سذاجتهم تضحكين، تجمعينهم حولك كما تجمع العجوز أطفال البيت حولها في ليلة الشتاء فتدهشهم بعجيب الأقاصيص وتروعهم براويات العفاريت والجان. ثم تسرهم بحيث عصا موسى وخاتم سليمان. تالله لأحرقنك جميعاً! وفي أثناء هذه المناجاة أسعفتني الشؤون بديمة من الدمع مدرار وأدركت أن حزني العميق هو كل ما أدركت من حقائق هذا الوجود فصحت في هذيان هذه النوبة الأليمة مخاطباً الكتب خبريني أيتها الملائكة أو الشياطين. خبريني أيتها الكهنة العرافة والزجرة العيافة. المشيرة بالخير أو بالشر، المتفائلة بالسعد أو المتشائمة بالنحس - خبريني كيف أسير وماذ أصنع وأي منهج أسلك؟ كوني حكماً بيني وبينها قاضياً!. ثم إني تناولت من بين تلكم الأسفار كتاب التوراة وفتحته عفواً وأنا أقول: أجيبيني يا كلمة الله أبدي لي طرفاً من رأيك. ثم نظرت في الكتاب حيث فتحته فإذا فيه: لقد تأملت في أعماق نفسي فعرفت هذه الحقيقة وهي أن الله وحده عليم بذات الصدور ليس غيره يعلم شأن الصالح التقي والأريب اللبيب وما يصنعان وما كسبت أيديهما. وليس امرؤ ما يستطيع أن يستدل بكل ما لديه من شواهد الأحوال على ما تكنه صدور الغير من حب

وبغض. إن الدهر ليسوي في معاملاته بين شتى أصناف البشر - بين الصالح والطالح والبر والفاجر. والوفي والغادر. والكريم واللئيم والبريء والأثيم. إن من أسوأ البلايا. وشر الرزايا. أن نرى الدهر يصيب الناس طرا بسيئته ومحنته عل حد سواء. هذا وأن السيئة والآفة والشر عريقة في الإنسان متأصلة في نفسه. فالناس قلوبهم مفعمة بالجنون ما عاشوا وهم إذا ماتوا لحقوا بسكان القبور. فلما تلوت في التوراة هذه الآيات استولى علي العجب والدهشة ولبثت حائراً مبهوتاً. ولم أك أحسب أن التوراة يكون فيه مثل هذا المعنى فصحت قائلاً مخاطباً الكتاب المقدس: وأنت أيضاً قد خامرتك الريب يا كتاب الأمل ويا سفر الرجاء!. ماذا يظن الفلكيون حينما يحسبون مدار الكوكب ومجرى الرجوم ومواقيتها؟ ماذا يظن الطبيعيون حينما يرونك بالمجهر آلاف الحيوانات الدقيقة في قطرة من الماء؟ أيظن هؤلاء أنهم قد اخترعوا ما قد يرون وأن إسطرلابهم ومجهرهم هما اللذان يسنان قوانين الطبيعة ويضعان نواميس الوجود؟ وماذا كان ظن أول المشرعين حينما جعل يبحث عن الحجر الأساسي في البناء الاجتماعي فعارضه معارض فهاج غضبه فضرب الموائد النحاسية بكفه فأحس عند ذلك بقوة قانون الجزاء والمكافأة في أجزاء كيانه وأحس بصوت هذا القانون يصيح في أعماق نفسه؟ أفظن ذلك المشرع أنه هو الذي ابتدع العدل وأحدثه؟ وهل ذلك الذي كان أول سارق لثمرة غرس جاره ظن أنه هو أول من اخترع الإثم وابتدع العار؟ وهل كان صاحب ذلك الغرس حينما غفر لهذا السارق وبدلاً من ضربه إياه ترفق به وتعطف عليه وقال له: لا بأس عليك ولا حرج هنيئاً لك ما أخذت بارك الله لك فيه هلم إلي أزدك وأضاعف لك العطية وكذلك جزاه على الإساءة إحسانا. وأولاه على الإيذاء والإضرار براً وحناناً - هل ظن إذ ذاك أنه هو اخترع الحلم والعفو والمروءة. وإنه ابتدع المكرمة والفضيلة؟ رحماك اللهم يا إله الأرض والسماء! هاك امرأة تلهج بذكر الحب والصبابة ثم تغرو تندر وتنكث العهد وتنقض الميثاق، وهاك رجلاً يلهج بذكر الصداقة والإخاء ثم ينصح لي أن أبتغي أسباب العزاء والسلوان في الفسق والدعارة والسكر والعربدة وهناك امرأة تبكي لي رثاء ورحمة ثم تحاول أن تعزيني عن مصائبي بفتنة ساقها

الملساء. وهاك توراة تلهج بذكر الله ثم تجيبني بألفاظ الشك والتهمة وسوء الظن. وهنا أسرعت إلى نافذتي المفتوحة فنظرت منها في أعماق السموات ثم صحت قائلاً: أحقاً أيتها السموات أنت خالية فارغة؟ أجيبي أجيبي! هلا قبل موتي أريتني أن هذا الوجود شيئاً خلاف الأوهام والأحلام؟. كان السكون العميق يغشي أنحاء ذلك الميدان الفسيح. وبينا أنا شاخص البصر في أعماق الجو ممدود الذراعين طرق أذني صوت حمامة ترجع الهتاف والهديل. فاتبعتها عيني وإنها لتحلق في السماء حتى إذا غابت عن بصري في زرفة السموات مرت من تحت نافذتي صبية تغني. لم أحبب أن أذعن واستكين. ولكني رأيت أنه قبل استعراض الجانب المشرق في الحياة - هذا واقد ظهر لي لآن مظلماً مربداً كريهاً - يجب علي أن أجرب كل شيء وأحاول كل أمر. لذلك بقيت مدة طويلة ضحية للأحزان والآلام فريسة لمزعجات الرؤى والأحلام. ولعل الشباب قد كان السبب الأكبر في عدم استفاقتي وامتناع صلاحي وتعذر شفائي فأينما كنت وكيفما كنت لم يكن يشغل بالي شيء سوى النساء فكلما وقعت عيني على امرأة عرتني هزة ورعشة. وكم مرة اتنبهت من رقدتي أثناء الليل أتصبب عرقاً فوضعت فمي على جدار الغرفة وأنا أشعر أني أكاد أختنق! لقد قضيت ريعان شبابي وريق صباي في الحب الطاهر والهوى العذري فأصبحت كل معاني اللذة عندي مقرونة بذلك الحب منحصرة فيه ولكني علمت أن مثل هذا الحب لم يكن إلا ضرباً من المحال وشيئاً لا يكون في هذه الحياة. فأصبحت مصيبتي وبلائي أني كنت أبداً أفكر في النساء وأبداً أقرن بخيالاتهن في مصورتي معاني الدعارة والفسق والفجور والحب الكاذب وغدر النساء وخياناتهن وكيدهن. وكان اتصالي بأي امرأة هو في مذهبي حبها الحب الطاهر. فأصبحت الآن لا أفكر إلا في النساء ولا أعتقد بوجود الحب الطاهر. فأورثني هذا الشعور ثورة نفسانية وهياجاً ونوعاً من الخبل والجنون. فجعلت أحياناً أقترح على نفسي أن أفعل كما يفعل الرهبان - أعني أن أفصد نفسي لأخمد ثوران الحواس. وأحياناً أفكر في الخروج إلى الشارع أو إلى الريف أو إلى أي مكان آخر فأرتمي تحت قدمي أول امرأة أصادفها وأعطيها عهد الله أن أمحضها الحب الصريح أبد الدهر وأكون لها

على الدوام العبد الخاضع المطيع. والله وحده شهيد إني لم آل جهداً ولم أدخر وسعاً في سبيل الاستفاقة من هذه الغمرة الكاربة والاستسفاء من هذا الداء الأليم. ففي أول الأمر وقد قام بعقيدتي أن مجتمع الرجال هو بيئة الفسق وبؤرة الفساد ومواطن الغدر والخيانة وإن الرجال كلهم فجرة خونة فشأنهم شأن حبيبتي - اعتزمت اعتزالهم جميعاً والركون إلى الوحدة والانفراد ثم عاودت الاشتغال بالدرس والقراءة فأقبلت على كتب التاريخ ودواوين الشعر القديم ومباحث علم التشريح. وكان في الدور الرابع من الدار رجل ألماني عالم تحرير قد اعتزل الناس وآثر الوحدة. فما زالت به حتى وعدني أن يعلمني لغته. ثم أخذ في إنجاز وعده بجد ولكن ساءه مني عزوب عقلي وشرود ذهني. وكم من مرة جعل ينظر إلي حائراً دهشاً ضاماً يديه فوق كتابه وأنا غارق في غمار أحلامي لا أعي ما يقول بل لا أسمعه ولا أراه ولا أبصر فرط أسفه علي ورثائه لحالي! وأخيراً قلت له جعلت فداك أيها السيد الكريم. إلا أنه لا مراء في الحق. لا شك أن فائدة من محاولتك تعليمي ولا ثمرة. على انك وايم الله أكرم من رأيت وأفضل الناس طرا، عبثاً تحاول إصلاحي وإنه وأبيك لأمر تعجز عنه قوى السموات والأرض. فدعني وشأني وما قد كتب لي وجرى علي. وإني وإياك لعلى حد قول القائل: جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفيالي فقالا شفاك الله والله مالنا ... بما حملت منك الضلوع يدان لا أدري أفهم الرجل مني الرجل هذا الكلام الملغز وهذه الرموز والإشارات ولكنه ضغط على يدي دون أن يفوه بكلمة - وبذلك أغلق باب الألمسانية إلى الأبد. ثم رأيت أن العزلة بدلاً من إصلاح حالي قد زادتها فساداً فعدلت عن هذا المذهب. فمضيت إلى الريف وانهمكت في الصيد وأخذت في شتى ضروب من الألعاب الرياضية فكنت إذا قضيت النهار الطويل بالعدو والركض والضرب والطعن والكد والكدح ثم انقلبت إلى الدار بعد الغروب متعباً منهوكاً يتفضخ العرق من جبيني وتفوح مني رائحة البارود والاصطبل لا أكاد أتماسك ولا أقوى على حمل بدني فتهافت على فراشي وأغمضت أجفاني التمس النوم وأستدرج شبحه الشارد امتنع مني ولج في نفوره ومثل أمامي طيف تلك الحبيبة فصحت قائلاً أناجي ذلك الشبح المائل: أيها الخيال أيها الخيال. ألا تزال تطاردني

وتقفوني؟ حسبك الله أما تسأم؟ أما تمل ألا تعفيني ليلة؟ ألا تعفيني ساعة؟ فخبرني بالله أي فائدة جنيت من هذه المجهودات والمحاولات؟ إلا أن العزلة لم تصنع أكثر من انها أرجعتني إلى الطبيعة وألقت بي في أحضانها. والطبيعة أرجعتني إلى الحب وأقلت بي في أحضانه. فعندما دخلت المشرحة بذلك المستشفى (في شارع الأوبزفانس) فألفيتني محوطاً بالخبث أمسح يدي الملطخة بالدماء في أطراف منديلي أصفر الوجه بين الموتى وأكاد أختنق بروائح البلى المعفنة المنتنة أصابني من ذلك أعظم الكرب وضاق صدري فزويت وجهي عن هذه المشاهد الأليمة والتفت خلفي فإذا المروج الخضراء والحدائق الزهراء. والخمائل الغناء وجمال شمس المغيب في جلال سكينة الغروب فناجيت نفسي قائلاً: كلا! كلا. لن يكون في معاهد العلم عزائي! فما بي والله غير جمرة الشباب وجزوة الصبا من داء. وداء الشباب لا علاج له ولا دواء. فدعني أحيا حيث لجة الحياة زاخرة وريح الحياة ثائرة. وإن كان الموت فدعني أمت في الضياء وتحت سرادق السماء. ثم تركت ذلك المعهد على جواد عتيق فطويت بساط الثرى حتى انتهيت إلى روض عشيب مزهر في واد عازب مهجور. فيا ويلتا لكان هذه الأودية والرياض كانت كلها تصيح إلي قائلة: ماذا تبغي وماذا تريد؟ نحن في نضرة وأزهار. وفي بهجة واخضرار. نحن نلبس لون الأمل. فعدت أدراجي إلى المدينة فأضللت نفسي في طرقاتها الغامضة. وجعلت أنظر إلى الأنوار المشرقة من نوافذ أعشاش الأسرات الخفية المجهولة وأرمق السابلة والمركبات السائرة. يالله أي وحدة وعزلة في هذا الجموع المحتشدة والفئات المزدحمة! وأي دخان كثيف السواد. كثوب الحداد. فوق المنازل. وأي أحزان وأشجان في هذه السبل الملتوية والطرق المتعطفة - حيث لا تبصر إلا عاملاً مجهوداً. وناصباً مكدوداً. وإلا ازدحاماً. وتدافعاً واصطداما. إن هي (أعني المدينة) إلا بالوعة تلتقي فيها الأجسام لا الأرواح وتجتمع فيها الأبدان فأما النفوس فشاردة الأذهان نادرة نافرة. وما أن تبصر العين فيها إلا فجاراً عاهرين يمدون الأيدي للسابلة! فإن كان للمدينة لسان لكانت نصيحتها لبني الإنسان

والمذهب الذي تشير عليهم باتباعه هو: عليكم بالفسق والفجور والدعارة فإنها منفاة الهموم ومسلات المحزون والمغموم! هذه هي موعظة المدن لبني الإنسان وهذا هو إنجيلها ووحيها المنقوش على جدرانها بتراب الفحم وعلى أرضها بالأوحال وعلى وجوه أهلها بالدماء. وكنت إذا شهدت محافل الرقص في فاخرات القصور فأبصرت الغانيات في الحلل والخمر والزرق والبيض يتوثبن بأقدام خفاف لطاف حاسرات الأذرع والصدور. منشورات الذوائب والشعور. كأنهن الملائكة قد ثملت بخمرة النور في فلك النغم والجمال - قلت في نفسي يا لكن الله أيتها الحسان؟ لأنتن والله بستان أي بستان! فأي رياحين أنتن اليوم مشمة وقطاف! ولكن خيرنني ماذا تقلن للعابث بكن إذ ينتزع آخر ورقة من ورقاتكن. أفلا تقلن له ترفق بنا وتحنن وابق فينا على البقية الباقية! لا بأس عليكن. هذه سنة الوجود - وهذا ختام حياتكن الفرحة المرحة وهذه غاية ضحكاتكن وابتساماتكن إلا فاعرفن أنه فوق أعماق هذه الهاوية السحيقة الهائلة ينتشر نسيجكن الحريري المهلهل المكلل بالأزهار والرياحين ويرفرف! وعلى شفا جرف هذه الهاوية تتوثب أقدامكن الخفاف وتتنزي!. لقد قال لي مرة صاحبي ديزينيه لماذا تنظر إلى هذه الحياة النظرة الجدية؟ ما هكذا ينظر إلى الحياة غيرك. تقول إن الزجاجات من الخمر تخلو وتفرغ ألا فاعلمن انك واجد بدلاً منها في الكهوف، وإن الكهوف جمة على السواحل ألا فاصنع لي شبكة وزخرفها بخلابة القول وسحر البيان واجعل فيها طعمة من نحلة مجاجة بالعسل وألقها لي في نهر السلوان فصد لي بها مليحة حسناء ذات شماص وملاص يكون فيها عوض مما فاتني من وصل الحسان وفيها عزاء وسلوى. فإن أفلتت مني وأملست فإن الشبكة باقية. تقول لي الحب الحب، لا تزال تلهج بذكره. هلا دريت يا مفتون أن الحب اسم بلا مسمى ولفظ بلا معنى وخيال كاذب ووهم باطل! فكبر ظني أنك ستقتل نفسك حسرة في أطلابه ثم لن تنال شيئاً. هلا علمت أن الشباب دائب في انقضاء والصبا إلى الزوال. مهما امتد به الأمد وطال. فلو حزمت ورشدت لعمدت إلى ملكة البور تغال استبيتها بدلاً من إضاعة الوقت في دراسة التشريح والطب. فهذه وأمثالها كانت نصائحه إلي وكنت إذا أنفضت تلك الحفلات والمراقص مضيت إلى داري.

المرأة والرجل

المرأة والرجل وأيهما أحظى في الحياة من صاحبه ذلك بحث طريف. وسؤال دقيق. لا يزال يجري على ألسنة الرجال وتمتضغه أفواه كثير من النساء. ولا يزال كل إنسان أرجلاً كان أم امرأة يضع قبالة عينه أن يظفر بالسعادة. وينعم بأحسن نصيب في الحياة دون غيره. على أن الجنسين اللذين تتكون منهما الإنسانية لا يزالان في نزاع على هذا السؤال. كل يريد أن يخص نفسه بشرف أنه الأقل حظاً. الأشقى نصيباً من الآخر. وقد عرض هذا السؤال على طائفة من الكتاب والكاتبات الذائعي الذكر فجاءت الأجوبة من نواحيهم جد متباينة وهي غاية في التعارض والتباين وقد آثرنا أن ننشر تلك الفتاوى لقراء البيان. سئل الروائي الطائر الصيت مسيو دينيه بوليسف العضو في المجمع الأدبي بباريس. وصاحب طائفة من الروايات الخالدة - فقال أتسألونني أي الفريقين أحسن نصيباً في الحياة الإنسانية وأنتم تعلمون أن هذا السؤال قد أصبح محلولاً في هذه الحرب. وإن هذه المجزرة التي أطاحت بالعالم كله أبدت الجواب الصراح عليه. أليس الرجل هو الذي خلق الحرب. والحرب أبداً في الدنيا من عمله وصنع يده. وستكون الحرب أبداً حقاً من حقوقه. فأي عبء عمركم الله ثقيل مثل هذا اضطلعت به المرأة. وأي خطب أشبه بهذا احتملته النساء. لعلكم تقولون أن في الأمومة ومتاعبها الكفاية للمرأة. على أني لا أرى في الأمومة أن اكتنفتها المتاعب من جميع وجوهها ما يؤلم المرأة ويخيفها ويثقل كاهلها. فهي تخرج الطفل إلى الدنيا. ولعل في ذلك شيئاً من الألم. ولكن حبها إياه هو الغاية وفيه العزاء والسلوى. ومهما كان الوالد يحب أطفاله وولدانه فهل كان حبه ليقارن بحب أمهم إياهم. فإذا تقرر ذلك أفليس الحب في الحياة هو السعادة كلها ثم أنتم تعلمون أن حب المرأة أشد من حب الرجل، وفي كثير من الأحايين أسمى منه عنصراً. وأصفى منه باطناً وظاهراً. والخطأ الذي يشترك فيه الناس قاطبة هو ذهابهم إلى أن الرجل أكثر تنعماً بالحب من المرأة إذ كان أكثر منها حرية، وأطلق سراحاً وأوسع حدوداً. إذ يجب أن لا ننسى أن الرجل أكثر خلق الله سوء استعمال لهذا الحب. وكم من رجل بدد حبه وعبث به. وبعثره وذراه مع الريح. أفهل

ترون الذي يحب ويبقى على الحب وإن كان ذلك من الألم ما فيه. أسوأ حظاً من الذي يحب فيعبث بالحب: وجملة القول أن المرأة من الوجهتين معاً الحب وراحة البال أحسن حظاً من الرجل. قد تقولون أن المرأة لا تستطيع أن تحرز المجد وتدرك الشأو البعيد، وإنه إذا كان الناس يستميتون في طلاب المجد واعتلاء متن الغاية القصية من رفعة الشأن أفلا ترى هذا المجد نعمة كبرى انفرد بها الرجل دون المرأة. وأنا لا أنكر أن للرجل فرصاً سوانح أكثر من المرأة في سبيل إحراز المجد. ولكن أليس المجد الذي نكتسبه نعود فتخلعه على النساء. أليس الرجل يكدح لنيل الفخار. فإذا ظفر به ألقى منه على امرأة من نساء الدنيا. وكذلك كان النساء يتنعمن بالعلاء والشهرة على حساب الرجال. وجملة قولي أن رأيي هو أن المرأة خير نصيباً من الرجل في حياتنا هذه. * * * فتوى مدام سيمون اكبر ممثلة أديبة في باريس وصاحبة الدور الأكبر في رواية النسر الصغير التي وضعها الروائي أدمون روستان أول ما عرض السؤال عليها صاحت قائلة: وهل هذا يحتاج إلى سؤال. وهل هناك شك في أن الرجل هو الظافر دون المرأة بأحسن نصيب من الحياة! إني أقول ذلك بلاد أدنى تردد أو حيرة. حسب الرجل حريته. أليست القهوة أكبر نعمة للرجل، فهو إذا ضاق صدره في المنزل وتألم من صراخ الأطفال واجتوى جو الحجرات. انفلت إلى القهوة فنعم فيها بحريته. والرجل ينعم بالاستقلال لأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء ويختار. فهل ثمت يرجح بهذه السعادة ويفضل تلك النعمة. من هذا تعلم أن المرأة يجب أن تكتسب شيئاً فشيئاً كثيراً من الحرية والاستقلال لأجل سعادة البيت وصلاح الأسرة، وإني لأرى أن المنازعات العاطفية القائمة اليوم بين الرجال والنساء ليست إلا منازعات اقتصادية فإذا اشتغلت المرأة وكدحت لاكتساب الرزق وظفرت بحريتها، تغيرت صفة حب الرجل لها. ففي سبيل تحسين نصيب

المرأة ينبغي لهن أن يطلبن من العمل والإسهام في الأشغال المطلوبة من الرجال اليوم وحدهم استقلالهن وتحريرهن، ولعل معترضاً يقول إن ذلك قد يراد منه المساواة بين الجنسين. ولكن المرأة في حبها لا بد أن تكون دائماً تابعة للرجل طائعة نازلة على أوامره خاضعة لسلطانه، وكيف بعد هذا يمكن أن تقارن المرأة بالرجل في هذه الحياة. ونحن قد رأينا ما فعل الرجل في هذه الحرب الكبرى مما لا تستطيع المرأة أن تفعل شيئاً منه. إذن لا ريب في أن الرجال هم الذين يتمتعون في الحياة بنصيب أكبر، ولكم ندمت وتمنيت لو أنني كنت رجلاً. وإذا كانت المرأة تجد في الحب اكبر لذاذتها، فإن للرجل كذلك ألف لذة ولذة. * * * فتوى مدام الفونس دوديه زوجة الكاتب الخالد الفونس دوديه ماأصعب هذا السؤال وما أعصاه على الحل والشرح: إذ لكل من الرجل والمرأة واجب خاص مختلف عن واجب صاحبه. وإذا كان لكل أثر في تخفيف أعباء رفيقه، وتسهيل احتمال خطوبه، فإن الرجل هو الذي يؤسس العائلة، والمرأة هي التي تدير شؤونها وتعمل على الاقتصاد في أمورها وبذلك تزيد في ما يكسب الرجل بجهد يده وتنميه وتصلح منه فإذا هو أكثر بركة، والمرأة هي التي تضع الطفل والرجل هو الذي يكفل له الغذاء والتربية والحماية، والمرأة هي الحارسة داخل أسرتها وهي التي تخلع من جمالها على الدار جمالاً. وتجعل من البيت نظاماً وكمالاً، والرجل يتألق خارج البيت ويشرق ذكاء وهمة وطموحاً، وكدحاً وسعياً، ولعلكم تسألون إذا كان الأمر كذلك. فليس أحد خيراً نصيباً من صاحبه. فأقول إن الفريق الذي يقع له أحسن النصيبين هو أشدهم تقديراً لواجباته، واحتراماً لما يطلب منه أداؤه وهو الذي يستطيع أن يعلو بالأسرة ويسقط، وهو الذي بيده صلاح البيت وفساده، وأنتم تعلمون أن كل ذلك مشترك بين الرجل والمرأة، ليس لأحد منهما سلطان أكثر من رفيقه وعدم المساواة بين الرجل والمرأة إنما مصدره الضعف وإغفال الواجب والجهل. * * * فتوى الكاتب المشهور نانجسر

أنتم تعلمون أن الجواب يتوقف على الناحية التي ينظر منها المسؤوا إلى السؤال وما حوى - وأنا أقول أن امرأة غفلا بلهاء أسعد حالاً من الرجل، فإن المرأة الحمقاء إنما تضيع وقتها في ارتداء ملابسها وإظهار محاسنها والبروز في أجمل بزاتها، والتهادي في مجامع الشاي وحفلات الرقص، لا حزن تحزن، ولا شيء يؤلم نفسها، وهي كذلك وهي تعيش وكلاً على الرجل، وقفاً على ما يكسبه، أما المرأة الذكية فإنها تحسد الرجل على استقلاله. وتنفس عليه حريته، وتغبطه على قوته، وتود لو أن يتاح لها ما ينعم به من سهولة التعليم وحرية التهذيب - وتود لو تيسر لها أن تعيش كما يعيش - وتضطلع بخطوب كخطوبه، وتؤدي أعمالاً شاقة كأعماله. وأن تقوم بأفعال جسام، وشؤون عالية، ولهذا تتألم لأنها لا تستطيع حولا، وتحزن أن ليس لها بكل ذلك يدان وكذلك ترى الرجل أسعد حالاً من هذه المرأة.

العودة إلى الحياة

العودة إلى الحياة بعد عشرة آلاف سنة الحيوانات التي ينتظر العلم خلقها أخيراً أحد أبطال العلم في أوروبا في هذه الأيام الأخيرة وهو العلامة جوليان هيكسلي أن يعلن أنه قد يستطيع أن يعيد إلى الحياة مخلوقاً من العدم منذ عشرة آلاف سنة فضج عالم العلماء لهذا الخبر. وأخذت ندوات العلماء تبحث في هذا الأمر وتنقب وقد قال هيكسلي بعد ذلك في هذا لأمر بنفسه - قد اكتشفنا منذ أشهر إننا إذا وضعنا قليلاً من سائل الشيرويد على بيض ضفدع وهو في حالة الجمود قبل أن تتحرك فيه الحياة، مشى فإذا هو ضفدعة تامة التكوين. نامية ألأجزاء. وأننا إذا استخرجنا تلك العصارة من ذلك البيض منعناه الحياة فظل جامداً لا يحور حيواناً متحركاً. وقد استطاع هذا العالم أن يحدث كذلك طائفة من الضباب (جمع ضب) والجراذين (جمع جرزون). وقد ختم العلامة هيكسلي بحثه بقوله: - على أن العلم الذي اهتدينا إليه اليوم ليس شيئاً مذكوراً يخول لنا حق ارتقاب الشيء الكثير. وإنني الآن لا أستطيع أن أظن أن الشيوخ قد يمكن أن يعادوا إلى الشباب، وتسترد عهد الصبا. وغاية ما يستطيعه العلم الحديث اليوم أن يرد القوى إلى طائفة من وظائف الجسم. ونحن نعلم أن باستخدام طائفة معينة من الغدد قد يمكن تغيير أعضاء البدن وعملها. على أنني أرجو أن أوفق إلى خلق مخلوقات حية لم تكن في عالم الحياة من قبل. وقد تمكنت من استخراج حرباوات كثيرة وقد استمدها كثيرون من أصدقائي العلماء ليروا رأيهم في تركيبها وتكوينها: فهي لا تختلف عن الحرباوات الأخرى في شيء. على أنه لا ينبغي أن يظن الناس أنني أستطيع بذلك أني أدعي المقدرة على أني أستخرج من القردة أناسا يتكلمون وإنما نحن العلماء نستطيع أن نرقي العضويات في حدودها الواجبة. ونعمل على تنميتها إن أمكن. وقد أيد أبحاثه العلامة السير لانكستر المشهور في التاريخ الطبيعي فقال: إن هذه الاكتشافات ولا ريب ستفتح باباً لكثير من الممكنات المدهشة. وإن كان ينبغي لنا أن لا

نغالي في التكهن عما يكون من ورائها. ويصح لنا القول بأن إحداث تلك الضفادع من الكائنات الجامدة إنما كان من جراء سرعة العمل على نموها بقوة الحرارة والغذاء.

أخلاق العظماء

أخلاق العظماء من توقيعاتهم لا تزال توقيعات الناس في الرقوق والكتب والرسائل تكشف أسراراً غريبة عن خلقهم ونزعات أنفسهم ورأيهم في أقدارهم واعتدادهم بأنفسهم. وإذا أصبح معرفة هذا السر ميسوراً لكل إنسان فإنا ندع القارئ أن يتصور النتائج الخطيرة التي تنجم عن ذلك الاكتشاف لوذاع وعرفه الناس جميعاً. وقد تناول رجل من مشهوري علماء الفراسة في علاقة الخطوط بأخلاق الناس جملة من توقيعات عظماء هذا العصر وقاد ة السياسة وملوك الأرض. فأظهر ما يكمن من دلائل نفوسهم ومنازع عواطفهم وراء خطوطهم وفي أضعاف أمضاءآتهم. ونحن ننشر هنا نتائج أبحاثه عن طائفة من عظماء أوروبا وأمريكا. الملك جورج الخامس أكبر ما يأخذ النفس من إمضاء الملك جورج الخامس بساطتها المتناهية ومنها يتبين الإنسان أن الملك لا يرى في نفسه شيئاً كثيراً ولا هو بالمتكبر المعتد بنفسه وحروف إمضائه تدل على أنه رجل. . . دُغْري. والذيل المتطاول الذي يضعه تحت اسمه من ابتداء حرف الجيم يدل على رقة القلب وشدة العاطفة ومن أمضائه كذلك يتبين الإنسان حدة الخلق وسرعة الغضب وشدة الانفعال عند الغيظ. الرئيس ويلسون أما الرئيس الأمريكي فإنما يكتب خطاً واضحاً دقيقاً فيه علائم العناية. ومن إمضائه يرى الإنسان آثار الاحتراس وحب التدقيق المواظبة والنظام ومنه نعرف أن للأستاذ ويلسون خلق المدرس والسرعة التي ينهي بها الحروف الأخيرة من كلمة. . . ويلسون. . . تدل على حب الكتمان والالتجاء إلى الإخفاء والإبهام في الموضوعات الكبرى وتدل كذلك إمضاؤه على هدوء المزاج والصبر وإغراء الناس بالإعجاب به والإكبار من شأنه. لويد جورج من توقيع رئيس الوزارة الإنجليزية يرى الإنسان أسراراً غريبة لم تتفق لتوقيع أي رجل آخر. ولم يكن في جميع رؤساء الوزارة قبله وزير كتب بخط غريب مثل خطه، ومن هذا

الإمضاء الغريب دليل على شخصيته المبتكرة الشاذة التي ليست على مثال متكلف مفتعل. فإن حرف الدال فيها يبعث على الظن بأن الرجل كبير الاعتداد بنفسه ومن الذيول العليا التي يربط بها رؤوس الحرف دليل على الطمع وحب العلاء والظهور. ومن تفكك بعض حروفه برهان على سرعة جريه إلى معرفته لنتائج الأمور ووثبته إلى معرفة العواقب بلا تمهل. ومن خطه يتجلى الرجل أشد الناس حباً للأفكار الخيالية والمشروعات الخيالية وإلى التحليق في سماء كل شيء خيالي. والرجل من خطه مفراح تغلب عليه سرعة التأثر وتغير المزاج وهو يتكلف النظام ويتطبع به لا يجده طبعاً. وهو قلق لا يهدأ في مكان. ولديه أثر من الشجاعة الأدبية. المارشال فوش توقيعه توقيع جميل واضح مقروء ثابت وحروفه المستديرة الجلية تدل على الصراحة المتناهية فليس ثمت خفاء أو دسيسة أو سر يجنح إليه ومن التعاريج العليا في إمضائه أثر للطبيعة الفرحة البهيجة التي تغلب على رجال الجند الكبار. والحروف التي يبدأ بها اسمه تدل على الرأي المتعالي الذي يراه في نفسه وعلى احترام الجنس اللطيف وجبه. . . الفيلد مارشال هيج ما أشد وجه الشبه بين إمضاء الجنديين، فوش وهيج. ولهما من خلقهما أشباه ونظائر. على أن إمضاء هيج أدل على حب الاحتراز والثقة بالنفس وصرامة العزيمة مع مزاج هادئ إذا استفز كأنه أشبه شيء بأسد - وهو رجل فخور تياه ذو خيلاء يعتد بنفسه وبالعنصر الذي منه انحدر. المستر اسكويث في إمضاء الرجل دليل على العزيمة العتيدة التي لا تستشعر يأساً. عزيمة رجل يناضل ويحارب بكل وسيلة للوصول إلى غرضه. وفي توقيعه إمارات الجرأة والبلاغة وحب الحق والكرم والتسامح، وهو كثير العواطف ولوع بإشباع لذاذات نفسه. وفيه للطمع دلائل. ولحب المجد والفخار. الملكة ماري

إن خط الملكة ماري زوجة جورج الخامس يخالف خط بعلها جد المخالفة. وهو يدل على الحزم والتدبير وحب النظام والروح العملية، والخط الطويل العريض الذي تضعه تحت اسمها بأكمله يدل على إعجابها بأنها ملكة لا عن غرور بنفسها.

لماذا تقف أجسامنا عن النمو

لماذا تقف أجسامنا عن النمو عند غاية محدودة أشد ما نعجب له أن نرى الفريق الأكبر من الناس يأخذون في النماء ويسترسلون في الطول حتى إذا بلغوا حداً ما وقفوا عنده فلا طول ولا نماء. ولا ريب أن العالم رجالاً ونساء ما يفتأون ينمون ويفرعون بلا وقوف ولا تمهل. حتى لتراهم بعد سنين مردة يطولون أخواتهم جميعاً. على حين ترى في الناس أقزاماً صغاراً لا يفرعون ولا يزكون. ولكن السواد الأعظم من الناس ينمون إلى حد محدود. وإلى طول مناسب يبين في وسط الزحام ولا يصغر عن الأنظار في الجموع الحاشدة. وهؤلاء الذين نسميهم الفريق الذي ينمو بنظام. على أن محور هذا النماء في الطول والعرض والحجم غدة صغيرة في حجم العنبة لا تزن أكثر من عشر حبات واقعة في الجزء الأمامي من قاعدة الجمجمة - وقد دلت الأبحاث العلمية على أن الغدد تفرز سائلاً أسموه (الهرمون) أو المهيج، وهذا السائل يسري في الدم فيجعل فيها نشاطاً حاداً ينبعث في جميع أجزاء الجسم والأجهزة والأنسجة. وهناك عوامل كثيرة تعمل على هذا النماء بخلاف تلك الغدة ولا سيما الغذاء ووجود الخلايا الكثيرة في داخل البدن وازديادها وحدوث بعضها بواسطة بعض. على أن هذه القوى لا بد لها منة الغدة الهرمونية السابقة الذكر حتى تضبطها في الحدود الواجبة لنماء الجسم الإنساني. وما كان المردة الطوال من خلق الله يطولون ويفرعون إلا من كثرة إفراز هذا السائل. وقد اهتدى العلم إلى أن غدد الخنازير إذا أخذت وضعت في جسوم المصابين بقلة سائل الهرمون في أبدانهم أحدثت أثرها فيهم وعملت على نمائهم ولو كانوا أقزاماً. ويؤكد العلماء أن غدد القردة والفيلة تؤدي كذلك إلى هذه النتيجة بعينها - ولا ريب أن في الأفيال الضخمة العظيمة التي خبرنا عنها الصيادون أنها تسكن بجوار المستنقعات في مجاهل أفريقية ليست إلا صحية وجود سائل (الهرمون) في جماجمها بكمية كبرى حتى ليبلغ الحيوان الواحد من جرّاء كثرة هذا السائل الغدّي مائة قدم طولاً. وهناك في البدن غدد أخرى لا تزال تفعل فعلها. ومن تلك غدد داخل المخ تقع وراء الينين

وفوقهما بقليل ولها أثر كبير في النماء وقد ذهب علماء التشريح وعلم طبائع الحيوان إلى أن تلك الغدة أثر قديم يدل على أن الإنسان كان قديماً ذا أعين ثلاث على أن الاكتشافات الحديثة عادت فدلت على أن لهذه الغدة أثراً كبيراً في نماء حجم الرأس. . . . . .

محاورة

محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوبنهور (تابع ما نشر في العدد 2 سنة ثامنة) الفقيه - إذا كنت بدلاً من تنبئك الزوال المسيحية فرحاً بذلك مسروراً تتأمل أعظم أفضالها وآلائها وآلاء وأفضال الديانة التي نبعت بعد عهد غير طويل من عين المنبع الذي فاض بالمسيحية - أعني الشرق - أقول ذا تأملت جليل منن هذين الدينين على العالم الأوروبي لكان ذلك أولى بك وأجدر. أجل لقد استفادت أوروبا من المسيحية معنى ما برح مجهولاً لديها - أعني هذه الحقيقة الجوهرية وهي أن الحياة الدنيا لا يمكن أن تكون في ذاتها غاية ونهاية ولكنها سبب نتيجته فيما يليه ووسيلة غايتها فيما وراءها. ولقد وجدنا اليونان والرومان حصروا غاية الحياة في ذاتها فحق لنا أن ندعوهم وثنية ضالة عمياء ثم كان من نتيجة عقيدتهم هذه ان أصبحت كل فضائلهم تنحصر فيما هو مفيد للمجتمع - أعني في النافع وقد قال ارسطاليسأن أحسن الفضائل أنفعها للغير ومن ثم رأينا الأقدمين يفضلون حب الأوطان على سائر الفضائل مع أنه صفة مشكوك في فضلها إذ كان مبنياً على ضيق النظر والمحاباة وفساد الحكم والزهو والافتخار الباطل والغرور والأنانية. وقد ذكر ارسطاليس الفضائل الإنسانية مرتبة حسب قيمها وأقدارها وها هي: العدالة والبسالة والاعتدال والأبهة والمروءة والسخاء والحفاوة والاقتصاد والعقل فما أبعد الفرق بين الفضائل وبين الفضائل المسيحية. بل أن أفلاطون ذاته وهو أشد الفلاسفة القدماء روحانية لا يرى فضيلة فوق العدالة - فهو وحده الذي يوصي بها ويحث عليها ويأمر الناس بحبها لذاتها بينما سائر الفلاسفة يذهبون إلى أن العيش الهنيء هو الغرض الأوحد للفضائل - وإلى أن الواسطة إلى نيل هذه الغاية هو التمسك بمكارم الأخلاق. فلما ظهرت المسيحية أنقذت العالم الأوروبي من استغراقها جهالة وخطأ في حياة فارغة فانية غير مأمونة. فالمسيحية لا تقتصر على تعلم العدالة ولكنها تعلم أيضاً حب الغير والرحمة والعفو وحب الأعداء والصبر والتواضع والزهد والإيمان والأمل. بل لقد ذهبت المسيحية وراء ذلك فدلت على أن الحياة الدنيا شر وضير وأن الإنسان في حاجة إلى النجاة والخلاص فحضت

على احتقار الدنيا وعلى الورع والتقشف وعلى العفاف والتقوى وعلى إنكار الذات وعصيان النفس إذ كانت بالسوء أمارة وما يقتضي ذلك من الصد والإعراض عن الحياة الدنيا وزخرفها الباطل وزبرجها الكاذب وغرور لذاتها الفانية ثم دلت فوق ذلك كله على فضلى الفضائل وكبرى المحامد أعني مكرمة الارتياح إلى مكابدة الآلام واحتمال المصائب حتى جعلت الصليب (آلة العذاب) رمزاً على النصرانية. لا أنكر أن هذا المذهب في الحياة - وهو بلا جدال أصح المذاهب - قد ظهر قبل عهد المسيحية بالآف السنين في الأقطار الآسيوية على أشكال أخرى وبلا اتصال بالمسيحية كما لا يزال في تلك الأقطار حتى الساعة. ولكن أوروبا لم تتلقه إلا بفضل ظهور المسيحية في بلدانها. إذ من المعلوم أن سكان أوروبا وإن لم يكونوا سوى قبائل أسيوية نزحت في الأصل عن أوطانها بآسيا فلبثت أزماناً جوالة بالآفاق حتى انتهت أخيراً إلى القارة الأوروبية فخيمت بها واستوطنت بقاعها - غير أن هذه القبائل لم تلبث أثناء تجولاتها الطويلة أن نسيت ديانة أوطانها الأصلية فنسيت معها أيضاً المذهب الصحيح في الحياة الدنيا. ثم استحدثت في أوطانها الجديدة (أوروبا) أديانا أخرى أحط منزلة من الأولى وأخبث جوهراً وأقل تهذيباً - كعبادة أو دين (في اسكاندينيفيا) وما إليها من البقاع الشمالية الأوروبية) والأديان الدرودية واليونانية وهذه لا تحتوي من المذاهب والعقائد إلا ما هو حقير سطحي ضئيل بالقياس إلى الديانات الآسيوية القديمة أو إلى الدين المسيحي. وفي هذه الأثناء تولد في أمة اليونان ذوي خاص غريزي عن عنصر الجمال في الكون والخليقة وبصر ثاقب بمواطن الجمال وأسراره فكان من نتيجة ذلك أن خرافاتهم الدينية أخذت على السنة شعرائهم وعلى أنامل مصوريهم ونحاتيهم أشكالاً بديعة عجيبة. وصوراً أنيقة غريبة. لا يدانيها في الحسن مدان. ولا ترام غايتها من الإحسان والإتقان. ولكنا من جهة أخرى نرى أن المذهب الصحيح في الحياة الدنيا والغرض الأشرف الأسمى من الوجود والغاية القصوى كان مما قد غاب عن أذهان أولئك اليونان ودق عن إفهامهم. وكذلك شأن الرومان في هذا الصدد. فعاش أولئك وهؤلاء أعمارهم كأنهم أطفال كبار حتى ظهرت المسيحية فلفتت أنظارهم إلى الناحية الخطيرة من الحياة والجانب الجليل. الفيلسوف - أجل. وإذا أردنا أن نعرف ما كان من نتيجة ذلك فما علينا إلا المقارنة بين

العصور القديمة وما تبعها من القرون الوسطى - أعني بين عهد بيريكليز اليوناني وبين القرن الرابع عشر بعد الميلاد. أجل والله إن أحدنا لا يكاد يصدق أن أهل هذين العصرين هم من جنس وأحد وطنية واحدة. فقد امتاز أقدم العصرين عصر قدماء اليونان بأرقى مدينة وأسماها وأرفعها وأسناها. واشدها تهذيباً وأحسنها ترتيباً مع النظامات المتقنة والقوانين المحكمة وجميع الفنون الجميلة والصناعات البديعة فضلاً عن الشعر والقصص والفلسفة في أكمل مظاهرها وأجمل مجاليها - تلك آيات روائع وملح بدائع قد مرت عليها آلاف السنين. وهي في بابها فذة نادرة فريدة مقطوعة الأشياء والنظائر لا يلحقها مقارب ولا مدان. ولا يشق غبارها في مضمار الرهان. فهي نتائج قرائح وأذهان لم تتوفر لغير أربابها من بني الإنسان. فكأنها صنعة لأنس أو أنس لجان. أولئك قوم أفاضوا على صفحة الحياة رونق الغضارة. وأسالوا على جبينها عزة البهجة والنضارة. ووثقوا عراها بأجمل أواصر الألفة والوداد: وشادوا صرحها على أوطد دعائم التضامن ولاتحاد (اقرأ كتاب مأدبة زينزفون). هذا عهد يونان القديمة. فانظر الآن إلى أوروبا في القرون الوسطى وخبرني ماذا تجد؟. . الكنيسة تأسر الأذهان. وتفل مضارب اللسان، وتحطم الأقلام وتطمس الأفهام وتحرق الأجسام. وقد أصبح الناس سوقة وملوكاً وشريفاً وصعلوكاً وعبيداً وأرباباً وأسوداً وكلاباً. فهنالك تجد القوة الغاشمة والشريعة الظالمة وعماية التعصب العاسفة وسطوة الاستبداد العاصفة. وما ينجم عن ذلك ويتلوه من ظلمة العقول والإفهام ودياجير الشكوك والأوهام وتضارب العقائد والملل واصطدام المذاهب والنحل. ونتائج هذا من محاكم التفتيش والتعذيب والحروب الدينية ووقائع الصليب ومصارع الخارجة والمارقة. ومقاتل أهل البدع من الزنادقة. فإذا تأملت النظام الاجتماعي في ذلك العصر المظلم لم تجد سوى نظام الفروسية وما أدراك ما هو؟. . مزيج من الحمق والوحشية يمتاز بفرط التكلف المرذول والتصنع الممقوت وفاحش الخرافات والترهات والخزعبلات ونهاية الغلو والإغراق في تقديس النساء. ولا يزال لهذا النظام البائد المفترض بقية بين ظهرانينا أي في أوروبا الحديثة تظهر في هذه العصور الحديثة في مظهر ما يسمونه الآن احترام المرأة وهو كما لا يخفى نظام فاسد سخيف قد عوقبنا على اتباعه بالعقاب الطبيعي المنتظر - أعني طغيان المرأة وعتوها وغطرستها - مما لا يزال يستثير علينا بحق هزء الشرقيين

وسخريتهم ويجعلنا - ونحن أهل ذلك - أضحوكة في نظرهم وهدفاً لسهام تنديدهم وتبكيتهم - وهي سخرية قد كان قدماء اليونان يشاركونهم فيها لو أنهم بقوا إلى هذه الساعة. أجل لقد وصل الأمر في العصور الوسطى المظلمة (التي تسمونها كذباً ذهبية) إلى أن الفرسان صاروا يعبدون المرأة عبادة ذات مراسم ومناسك مرتبة ومنظمة. ويأتون في سبيل عبادتها ما يسمونه آيات البطولة وقام الشعراء يتغنون في النسيب بالأشعار الغنائية وما شاكلها من السخافات على أن هذه الأناشيد والأغاني كانت مما امتازت به فرنسا بينما الألمان الأبلد طباعاً الأجمد شمائل كانوا أميل إلى إدمان الشرب وإدمامة السطو والنهب يملأون أجوافهم بالخمور ويفعمون من الأسلاب والغنائم الدور والقصور، دأبهم ذلك وديدنهم طول أعمارهم. ولم تخل سوامرهم وأنديتهم أيضاً من سخيف الأشعار الغزلية. والأناشيد الغنائية. وهذا كله ثمرة الهجرة والنصرانية. الفقيه - أجل إن هجرة أولئك الشعوب الآسيوية البربرية هي التي أرسلت هذا السيل الجارف من تلك الأمم الوحشية فأطفأت به سراج المدينة اليونانية الوهاج وطمست معالم هذه الحضارة الزهراء. وأعادت الصلاح فساداً ورواج الفنون والمعارف كسادا. ولكن خبرني بماذا عاد الأمر إلى صلاحه. وتمكن في نصابه بعد التقوض عماد نجاح الأمر وفلاحه؟ بالديانة المسيحية. لقد أصيبت مدينة أوروبا القديمة من هجرة الآسيويين بالداء. ثم ظفرت من ظهور المسيحية وانتشارها بالدواء. فالمسيحية هي التي كبحت جماح أولئك الشعوب الوحشية الهمجية وقمعت غلواءهم وردت عرامهم وراضتِ شمائلهم وألانت من غلظة أكبادهم وملست من خشونة جوانبهم. وغير خاف أن أول ما يجب في تأديب الهمجي وتهذيبه هو تعليمه كيف يسجد ويركع. ويبتها ويتضرع ويطبع ويخضع. إذ ليس إلا بعد ذلك يمكن تمدينه وتحضيره. وهذا ما قد حصل في ايرلندة على يدي القديس باتريك وفي ألمانيا على يدي وينفريد السكسوني أجل لم يكن شيء سوى هجرة الشعوب الآسيوية في قديم الزمان - تلك الهجرة التي حاول عبثاً أن يعيدها في عهد أحث الغزاة الجبابرة عطيل وكنجبز خان وتيمور لنك (ثم طوائف الغجر بشكل هزلي) - لم يكون شيء سوى هجرة تلك الشعوب ما اجتاح مدينة أوروبا القديمة وأبادها. ثم جاءت المسيحية فكانت القوة المقاومة لهذه الهمجية العاملة على استئصالها مثلما غدت فيما بعد ذلك أعني من خلال

القرون الوسطى القوة المقاومة لهمجية جبابرة الظلم والطغيان أعني الأمراء والفرسان الآنفي الذكر. بيد أن قصوى غاية المسيحية وأهم أغراضها ليس هو توفير الملذات في هذه الحياة الدنيا وإنما هو ترشيح أهلها لاستجلاب النعيم في الآخرة. فالمسيحية ترمي إلى غاية وراء هذه الحياة القصيرة الفانية وتتجاوز ببصرها هذا الحلم الطائف إلى موطن السعادة الأبدية والنجاة السرمدية. فمذهبها من هذه الوجهة مذهب الفضيلة المحضة المطلقة - وهو مذهب لم تعهده أوروبا قبل المسيحية كما قد بينت لك عند المقارنة بين ديانة القدماء ونظامهم الأخلاقي وبين المسيحية ونظامها الأخلاقي. الفيلسوف - هذا صحيح من الوجهة النظرية فقط ولكن انظر إلى الأعمال والآثار، ألا ترى أن أوروبا القديمة كانت بلا شك أقل قسوة من القرون الوسطى وما ارتكب فيها من إزهاق النفوس بأنكل ضروب التعذيب وبالإحراق بالنيران الحامية. . . . هذا ولا ننسى ما كان عليه القوم القدماء من فضائل الصبر والاحتمال والجلد وشغفهم بالحق والدفاع عن حوزته وحب الأوطان والاستبسال في الذود عن حياضها وتحليهم بصنوف المكارم والمحامد حتى أصبح النظر في آدابهم وآرائهم وفي مذاهبهم وفي أعمالهم وآثارهم يعد من أفضل دراسة الأخلاق والآداب. ثم انظر هل كانت الحروب الدينية والمذابح والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش وغيرها من الضيم والاهتضام والاضطهاد واستئصال سكان أمريكا الأصليين وإحلال رقيق الزنوج محلهم - فهذه كلها ثمار المسيحية ولا ترى في سيرة القدماء ما يشبه أدنى شيء من هذا أو يوازيه فأما الرقيق عند القدماء فما كانوا من الرق من شيء وإنما كان ذاك من حيث هذه الدلالة لفظاً بلا معنى واسما بلا مسمى إذ كان أولئك الأرقاء قوماً في رخاء عيشهم وفي سهولة وفي بلهنية وفي رغد قد نعموا بغبطة ألمن والطمأنينة جزاء إخلاصهم ووفائهم لسادتهم فالفرق بينهم وبين أشقياء رقيق الزنوج الذين هم وصمة في وجه الإنسانية ولوثة في عرضها كالفرق بين الفريقين في اللون أما ما يعاب على القدماء من استهانتهم بأمر اللواط وتسامحهم فيه مع أنه إثم ومنكر فهذا شيء يسير جداً في جانب ما عددت لك من فظائع المسيحية - على أن اللواط بعد ليس بالأمر النادر بين أهل العصر الحاضر كما يتوهم البعض.

إذا قارنت بين العهدين من كل الوجوه غير تارك لا صغيرة ولا كبيرة أفلا تزال بعد ذلك تصر على أن بني البشر قد أصبحوا بفضل المسيحية أكرم طبعاً وأرقى خلقاً؟ لها بقية

روح الإسلام

روح الإسلام (لأكبر نصير للإسلام اليوم السيد أمير علي) (الباب الثالث) إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. * * * إن ما امتاز به الإسلام من سرعة الانتشار المدهش في أرجاء الأرض لمن أعجب ما رؤى في تاريخ الأديان، فأنا إذا تدبرنا أمر المسيحية وجدنا أنها لبثت حقباً بعد ظهورها وهي تكمن في المغامض والخفايا، وتختبئ في الأنفاق والزوايا. ولم يك إلا بعد ما تشربت في ذاتها مذاهب الوثنية وامتصتها واشتملت وبعد ما قام بأنهاضها ورفع شأنها ملك نصفه وثني ونصفه مسيحي - أقول لم يك إلا بعد هذا وذاك أن استطاعت المسيحية أن ترفع رأسها وتنال مركزها بين سائر أديان هذا العالم أما الإسلام فإنه لم يمضي على وفاة مؤسسه ثلاثون عاماً حتى كان قد أفضى إلى قلوب الملايين من سكان المعمورة وقبل مضي مائة عام كان صوت الأمين ابن الصحراء صلوات الله عليه قد دوى صداه في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا وإن كتائب الفرس والروم وجحافل كسرى وقيصر الذين حاولوا أن يردوا طغيان هذا السيل الجارف ويصدوا طوفان تلك الديمقراطية الجديدة التي نِات في جزيرة العرب لقوا شر هزيمة على أيدي فيالق الأعراب وأعملت فيهم السنة والظبى حتى تمزقوا شذر مذر وطاحوا جباراً بيد أن ما أتيح للإسلام من هذا النجاح الباهر وما خص به من عجيب تأثيره في أذهان الرجال وعظم موقعه في نفوسهم قد كان باعثاً على مزعم فاسد وتهمة كاذبة ألا وهي أن الإسلام دين السيف قد قام بالسيف وزاج بالسيف، ونحن الآن باحثون في عوامل انتشار الإسلام وأسباب شيوعه لنرى هل لهذه التهمة أدنى نصيب من الصحة. * * * لما ورد النبي كانت قبيلتا الأوس والخزرج اللتان كانتا قد أقامتا منذ سنين عديدة في حرب عوان مستمرة طحون حُطَمة - وقد وضعنا السلاح عقب حلف كاذب وصلح مموه - إذ

كانت شواهد الأحوال تدل على تجدد القتال بأفظع مما كان وأشنع وكان اليهود بعد غارة حبلة قد قبلوا حماية عرب المدينة ثم أخذوا يجددون ما درس من بأسهم وشوكتهم ويستجمعون ما انتشر من أمرهم، وشرعوا يهددون أقرانهم الوثنيين بانتقام المسيح الذين كانوا يزعمون أنه عما قريب سيظهر وأنهم يرتقبون مطلعه من آونة إلى أخرى، وكانت قبائل الأعراب المحيطة الذين كان لقريش عليهم السيطرة التامة قد تألبوا من صوب وجدب على عرب المدينة وتمالأوا عليهم. فما كاد محمد ينزل المدينة حتى بدت للعيان تلك الأخطار المهددة للديانة الجديدة الإسلام - وكان المهاجرون (أعني الصحابة المكبين) أولئك الذين استقبلوا الموت واستهدفوا للمنون من أجل سيدهم وما ابتعث من النور في صدورهم ثم كابدوا من بعد ذلك آلام النفي والاغتراب والحَرب والاستلاب - أولئك كانوا الفئة القليلة يكادون يعدون على الأصابع. هذا شأن المهاجرين، وما كان الأنصار أهل المدينة بأمثل ولا أجزل لقد كانوا لقد كانوا أكثر بلا شك من المهاجرين ولكنهم لم يكونوا بالجم الفقير والعديد المجمهر وكانوا فوق هذا منقسمين بعضهم على بعض تدب بينهم عقارب التحاسد وتسعى بينهم أفاعي التضاغن والتحاقد. وكان في المدينة حزب قوي تحت زعامة رجل. عظيم النفوذ يطمح إلى عرش المدينة وهذا الحزب كان للكفار مؤازر، أضف إلى ذلك أن اليهود وقد اتحدت كلمتهم جعلوا يكيدون لمحمد تارة بالسم وتارة بالدسائس ولكن ذلك القلب الجريء الذي لم يتزعزع حين هددته بالموت قريش بقي ثابتاً متماسكاًُ إذ أصبح يرى حوله شيعة مخلصين لا يجدون لهم ملاذً غيره ولا عصمة سواه. لذلك نرى محمداً في هذه الأزمة قد ظل يجمع بين تلك العناصر المتنافرة والقوات المتخاذلة المتناكرة التي التفت حوله مؤمنة به وبرسالته فألف منها هيئة موحدة متينة الروابط وثيقة العرى فأقام القضاة المحكمين بين هذا المجتمع بدلاً من السنة الانتقالية الثأرية التي كانت شائعة بين عرب القبائل وكانوا لا يعرفون غيرها. . وقضى عل العصبة القبائلية فمحا بذلك مذهب التفريق بين أوس وخزرج فأصبحنا قبيلة واحدة. وإضافة إلى ذلك اتبع خطة التسامح مع من كان في جمهوريته الجديدة من اليهود والنصارى فوسعهم في مدينته مسوياً بينهم وبين شيعته من اتباع دينه. ونثر بذور المودة والإخاء بين الفئات المختلفة من حملة الكتب السماوية جميعاً. فصرح أن الكل سواء في نظر الخالق إن الذين آمنوا والذين هادوا

والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. لقد صادف محمد أناسيا (أعني العرب) بدينون بأخبث ضروب الوثنية ويعيشون بالغارة والسلب والنهب ويرتاحون بسفك الدماء كأنهم فيهم غريزة وجبلة - فهذب طبائعهم - وطهر نفوسهم وعلمهم الصدق والعفاف والتقوى والحلم والأناة والصبر والعفو والغفران والرحمة والتحاب والمؤخاة، والتواد والمصافاة. فكان يقول لهم وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنا المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، وهكذا. وبينما كان محمد يؤدي هذا الواجب الأقدس - يهذب قومه ويغرس فيهم حامد الخصال ومكارم الخلال ويرفعهم من وهدة الخسة وينتاشهم من بؤرة الفساد ويستنقذهم من حمأة الرذيلة ويطهرهم من أدران الخبائث وأدناس الموبقات - أعداؤه - وقلوبهم تغلي مراجلها عليه حقد ونفور مشاعرها عليه بغضاً - يهاجمونه ويحملون عليه أشد الحملات وأنكرها. وكانوا قد أجمعوا قتله واستئصال. وقالوا إن هذا الخارج من ملة آبائه (يعنون محمدا) وهؤلاء المارقين من دين أسلافهم (يعنون أتباع محمد) قد لجأوا إلى المدينة (بلدة اقراننا ومنافسينا) يزرع بها بذور المروق والإفك والضلالة. فحق على جميع الشعوب العربية أن تتضافر وتتناصر على إبادة أولئك الحمقى المجانين الذين هجروا أوطانهم وعقارهم من أجل إله خفي مجهول لا يحس ولا يرى، وكذلك نرى أن محمد منذ دخل الإسلام بدينه أصبحت حياته مرتبطة بحياة قومه وحياة الأنصار الذين دعوهم إلى ديارهم ورحبوا به وأكرموا مثواه فأصبح هلاكه ليس بهلاك فرد ولكنه هلاك كل من التف حوله وانضم تحت لوائه. وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدم فإذا تأملت حالة النبي إذ ذاك يحدق به الأعداء والخونة وتحمل عليه قريش والعرب كلها تؤيدها وترفدها علمت أنه كان هو وعصبته هالكين لا محالة لولا وثوبهم وثبة الضياغم. والليوث الضراغم. وأسياف بأيديهم هي كما قال الشاعر: صفحتاه عقيقتان من البر_ق ... وفي مضربيه صاعقتان ولم يك إلا بعد أن دهمتهم قيالق الأعداء أن خاطب النبي رهطه بكلمة الوحي وقاتلوا الذين

يقاتلوكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. وكذلك أصبح الدفاع في نظر المسلمين هو بمثابة المحافظة على أرواحهم. فليس أمامهم إلا خطتان: إما الاستسلام للقتل والذبح إما الدفاع عن أنفسهم. وقد آثروا الثانية فأفلحوا واستطاعوا بعد طول الجهاد أن يخضعوا أعداءهم. ثم كان من أمر اليهود بعد ذلك أن حقدهم الشديد على المسلمين ونكثهم العهود والمواثيق المرة بعد الأخرى ودوامهم على إثارة الفتن ودأبهم في السعي إلى إيقاع المسلمين في حبائل كيد الكفار - كل ذلك أدى إلى إنزال العقوبة بهم وسومهم أنكل العذاب. وكان ذلك من النبي ورهطه بمثابة دفاع الضعيف عن نفسه وعلى سبيل الإنذار والتحذير وليس من باب الانتقام والتفشي. * * * وليس لمعترض أن يقول أن محمداً كان من الواجب عليه أن يكون كبعض من ظهروا في هذا العالم من آن إلى آخر من أرباب المذهب ومؤسسي العقائد ممن آثروا أن يذعنوا لقوة الظروف والعوامل المعاكسة فيقنعوا بإرسال القول دون تنفيذه وبتشييد عوالم الخير والصلاح في مخيلاتهم حيث تظل ضرباً من الأحلام والمنى لا تخرج من حيز الوهم والتأميل إلى حيز التحقيق والعمل. ويرضون أن يؤول أمرهم إلى التضحية والاستشهاد وتختم حياتهم على المشنقة أو على المقصلة أو هلاكاً في النار. أو الأسار. فيكون كل ما صنعوه هو أن يخرج أحدهم من الدنيا بأحلام لم تحقق وميتة بالسيف أو بالنار تكسبه حلية الشهيد أو التضحية - نقول ليس لمعترض أن يعيب على محمد أنه لم يكن من أمثال هؤلاء ولم يرض لنفسه مثل هذه السيرة ولم يقتنع بمثل هذا العمل - إن صح أن نسميه عملاً - وليس لمعترض أن يقول أنه قد كان من الواجب على النبي أن يخرج إلى الدنيا ثم يخرج عنها دون أن ينفذ مهمته ويبلغ غايته. وما كان لعاقل أن يقول أن ظهور أمثال ما ذكرنا في هذه الدنيا يوجب على محمد أن يحذو حذوهم فيضحى نفسه وجميع شيعته وأتباعه تأييداً لما نسميه في عصرنا هذا فكرة. دعنا نقارن بين جهاد المسلمين في سبيل الدفاع عن أنفسهم وحفظ أراوحهم بما جاءته اليهود والنصارى بل بما جاءته أمة الفرس المهذبة الرقيقة من الحروب الفظيعة لنشر

عقائدهم وأديانهم. فأما اليهود فقد كان الاعتداء والسطو والاستئصال والإبادة مما تحلله وتجض عليهم شريعتهم بل كان حقن الدماء واستبقاء العدو مما يستوجب لعنة الله في عقيدتهم. وأما أهل الصدر الأول من المسيحية فسرعان ما نسوا وأهملوا ما كان أوصى به المسيح من فضائل التواضع والخشوع والحلم والوداعة حينما اشتد بأسهم وقويت شوكتهم. فما كادت المسيحية تصير الدين الشائع لطائفة من الناس حتى استشعرت خلال الحيف والجور والاضطهاد. ولقد قارن كثير من المؤرخين بين عيسى ومحمد - فمن كان منهم مقتنعاً بألوهية عيسى ذهب إلى أن الوسائل الدنيوية التي استخدمها محمد لإصلاح أمته لم تكن إلا (وحياً شيطانيا) وأن انصراف عيسى عن هذه الوسائل (ولعل ذلك كان لعدم سنوح الفرصة ومساعدة الظروف) من أوضح الدلالة على ألوهية عيسى، وسندلي بالحجج والبراهين الدالة على سخف هذا الكلام وبطلانه وما فيه من البعد عن جادة الصواب والجنف عن محجة السداد وإنه كذب على التاريخ وافتراء، بل مناقض للطبيعة البشرية. لقد كان ثمت بون شاسع بين الظروف والأحوال التي عاش فيها محمد والتي عاش فيها المسيح. كان نفوذ عيسى أثناء مدة زعامته القصيرة مقصوراً على فئة قليلة من أتباعه كلهم من طبقة العوام الوضيعة. ولقد ذهب عيسى ضحية ما أثار من الحنق على نفسه بمطاعنه من أكاذيب الطبقة الدينية في عصره - ضحية بغضاء أمة عنيدة قاسية - وذلك قبل أن يصبح لأتباعه من كثرة العدد وقوة النفوذ ما يدعو إلى وضع القوانين العملية للسير عليها والاهتداء بها في مسالك الحياة - وقبل أن يؤسسوا نظاماً لنشر تعاليمهم الدينية أو الاتقاء سطوات أهل الدين الشائع يومذاك. وذلك أن أتباع عيسى لما كانوا قد انشعبوا من أمة عظيمة الشأن ذات قوانين ثابتة موطدة تقوم بتنفيذها حكومة قوية - فقد أعوزتهم لذلك الفرصة لتأسيس نظام، وكذلك الأستاذ الزعيم عيسى لم يجد ثمت داعياً لوضع القوانين العملية الأخلاقية. زلكن القوم أحسوا بهذه الحاجة حينما عظم شأنهم وكثر عددهم، ثم ظهر رجل عبقري متضلع من كنوز الحكمة الأفلاطونية الجديدة فألف هذه النابغة من الأصول والقوانين والآداب نظاماً محا ماامتازت به تعاليم المسيح من البساطة وسائر الخصائص التي انفردت بها تلك التعاليم.

وقد ابتلى محمد - كالمسيح - منذ أول مرة بمناوأة قومه إياه ومكافحتهم له. وكان أتباعه بادىء ذي بدء كأتباع عيسى صغر شأن وقلة عدد. وكان محمد قد أشبه المسيح أيضاً من حيث أنه قد جاء قبله رجال قد طرحوا عنهم قيود الوثنية وأصغوا إلى نجوى الحقيقة المطلقة في أعماق صدورهم. وأشبه المسيح أيضاً من حيث أنه كان يحث على الحلم والوداعة والبر والمعروف والتألف والتآخي. ولكن محمد ظهر بين أمة منغمسة في العادات الوحشية والتقاليد الهمجية كانت ترى أن الحرب هو المقصد الوحيد في الحياة - أمة كانت بمعزل عن العوامل المادية الخسيسة الشائعة إذ ذاك بين أمتي اليونان والرومان ولكنها كانت كذلك بمعزل عن عوامل المدنية التي كانت فاشية بين تينك الأمتين. ففي أول الأمر أثارت تصريحات النبي احتقار الأعراب ثم هيجت بعد ذلك سورة غضبهم وانتقامهم. على أن أتباعه جعلوا مع ذلك يزدادون في العدد والعدد حتى جاءته دعوت الأنصار إلى المدينة فتوجت بالنجاح أعماله. ومنذ قبل هذه الدعوة بهذا الملاذ الكريم - منذ دعته الأنصار إلى أن يكون مشرعهم الأكبر وقاضيهم الأعظم وأستاذهم الروحاني أصبح حظه بحظهم مقروناً. ومستقبله بمستقبلهم مرهوناً. منذ تلك الساعة أصبح المسلمون مضطرين إلى إقامة الأرصاد على الوثنيين وأشياعهم وغدامة اليقظة والرقابة على حركاتهم وتدابيرهم وعلى أغراضهم ونواياهم. وكذلك نرى أن بلدة واحدة اضطرت إلى القيام في وجه الأعراب بأسرهم ونهضت لصد هجمات القبائل العديدة التي كانت تسكن جزيرة العرب - فهذه الظروف ألجأت حضنة الإسلام في الأحايين الكثيرة إلى اتخاذ أشد التدابير للمحافظة على كيانهم. ولا غرو فإنه إذا خابت وسائل الحث والإغراء لم يبق سوى طرق الإكراه والضغط. وهكذا يتضح لنا أن غريزة المحافظة على النفس التي أوحت إلى نبي النصرانية عيسى أن يشير إلى أتباعه باتخاذ آلات الدفاع عن أنفسهم هي التي ألهمت المسلمين في زمن محنتهم إلى شهر السلاح عندما ألح عليهم أعداؤهم ذووا البطش والصولة. وكذلك استطاع محمد بطرق اللين تارة وبالهمة الصارمة أخرى أن يؤلف أشتات الأمة العربية ويضم نافر تلك العناصر المتناكرة تحت لواء الدين السديد. وفي ظل كلمة التوحيد وإذ ذاك ساد السلام في أنحاء البلاد. ورفرفت أجنحة الأمن والطمأنينة على رؤوس العباد.

لقد ظهر محمد في أمة كانت - كما لا تزال نراها - أشد الأمم نارية وأسرعهم بطشاً وفتكاً تنطوي صدورهم على مثل شمسهم المحرقة شهوات وأهواء - فلطف سورة أعدائهم. وسكن ثورة طغيانهم. ورد جماح عسفهم. وكف عرام عنفهم. وأشعر قلوبهم الرفق والحلم والتقوى وأورثهم فضائل الورع والزهد وإنكار الذات. وهجرة اللذات - مما لم يشهد التاريخ مثله. ولم يعهد العالم نظيره وشكله. لهذا الفصل بقيةٍ

صور هزلية

صور هزلية من أخلاق الناس للكاتب المبدع عباس حافظ عم زايد كان عم زايد. . . . رحمة الله عليه - خادماً أسود في دار قوم عشيرتنا. نسخة قديمة من كتاب البلاهة الطبيعية التي أول ما خرجت طبعتها من مطابع المكتبة السماوية، في الأحراش، وتفرقت نسخها في الأجم، تحت ظلال الدوح وفي أفياء السرحات الباسقات، يوم كانت الإنسانية لا تزال في عنفوانها لا تعرف إلا ألكل والشرب - فقد ولد عم زايد ونما وكبر وشاخ ومات، أبله لم يزد عقله في رجولته عن حلمه في طفولته. وكان ذلك منه مثالاً على الثبات والوفاء، فقد كان رحمه الله وفيا في خدمته، ثابتاً على وفائه لسادته، فأبى ثباته إلا أن يظهر كذلك في بلاهته فظل عليها طول حياته. ولم يشأ وفاؤه إلا أن يبدو كذلك في سذاجته فمات عليها رحمه الله عليها وعليه! وليس ألذ للسيد من أن يكوت الخادم أبله مغفلاً، حتى لا يأخذ سيده بالحقد أو بالمعارضة إذا كان عاقلاً، حتى ولا يكون في البيت عاقلان، فيصطدم عقيل السادة بعقيل العبيد، ولأن يجد الإنسان المتاعب من تحريك الخادم الأبله، خير له من أن يجد العنت كله من وراء الخادم العاقل. وندر ما تجد في الخدم العقلاء. أوفياء، ولكن أندر منه أن ترى في الخدم البله خونة، وليس في الخادم من لذة للسيد إلا إن كان في خلقه شيء من عنصر البلاهة فإن الدار ولا ريب تصبح به فرعاً منالتياترو وقاعة من قاعات السنيماتوغراف ولكنه سينماتوغراف قاصر على الأهل والمعارف فقط، ولا أنكر أن في اقتناء الخادم العاقل بعض الرحة والعون على شؤون البيت. ولكنه لا يزال بعد ثقيل الظل - لأنه يعرف الواجبات المطلوبة منه، ويضع لنفسه حدود خدمته فلا يريد أن يتطامن لأطفال البيت حتى يركبوا ظهره، ويتخذوه مطية مضحكة لهم. على حين يجد الصغار الروح كله والسرور من امتطاء ظهور الخدم البله، وفي رضى أولئك بذلك وتقليدهم للحيوانات والدواب. والسيد العاقل بل ربة البيت العاقلة تستطيع أن تتخذ من الخادم الأبله، خادمين اثنين، رجلاً وامرأة، فهو لا يأنف ولا يتعالى ولا يتململ إن دعي إلى الاشتراك في غسل الأواني،

وتنظيف المقاذر وحمل الكناسة، ويجد في اللطمات تهوي على قفاه مزحاً دعابة، فلا يكون منه إذا ضرب إلا أن يرفع عينيه إلى السيد الضارب، وهو ضاحك السن شاكر لهذه الهزة اللذيذة التي نبهت أعصابه، فإذا أنت فعلت شيئاً من ذلك، أو طلبت بعضه من الخادم العاقل، فلا تجد أمامك إلا كلمة حسابي تنذرك بالمتاعب التي تجرها على نفسك بالوقوف مرة أخرى على أبواب المخدمين ودفع العرايين وقراءة الرخص وشهادة الشاهين. ولذلك آثرت أنا - الخدم البله على مزاحميهم العقلاء - الخدم العقلاء، ولهذا كان خادمنا - عم سرور حبيبنا إلي وكان عم زايد هو الذي جئت أصفه لكم ساداتي القراء. أعز الأصدقاء. * * * وأعجب ما في خلق عم زايد أن الناس يتوسلون بالشراب إلى فك قيود العقل. والتحلل من الرزانة والجد، ولكن عم زايد كان على نقيض العالم كله فلا تزيده البوظة إلا سكوناً ووجوماً، ولا يزداد بها إلا خرساً، وانكماشاً وكان الرجل قليل الأكل، كثير الشراب، ولا أذكر أنه طلب إلى ربة البيت الذي هو فيه يوماً طعاماً، بل لا يزال صابراُ فإن قدم إليه طعام طعم، وإن لم يطعم لم يتكلم ولو أنه نسي شهراً. أو أغفل طعامه زماناً، إذن لغاب عن ذاكرته أن هناك في الدنيا عملية كيماوية اسمها االأكل! بل لمضى على شرابه حتى يقع من شدة الجوع يلهث تعباً وإذ يلوح إليه الناس أمام بصره الزائغ بقطعة من الخبز فتعاود الذكرى أن العالم طعاماً وشراباً لا شراباً فقط. وكان عم زايد - أسكنه الله الجنة في مقاصير البله والمعتوقين - كثير المشي، فلو أنك أمرته بالتحرك وسرت في أثره فلم تقل له قف عن المسير، لظل يسير في الأرض حتى يصل إلى ساحل البحر فيظل ماشياً يخوض الماء حتى تأمره بالوقوف أو ليسيرن، أشبه شيء بقطار السكة الحديد الذي أغفل سائقه الالتفات إلى إشارة الخطر فجعل يطوي القنطرة حتى وقع في البحر بمن فيه، أو كالجندي الذي أمره نابليون بالانصراف عن حضراته فظل سائراً حتى وصل شاطئ النهر ومشي حتى وقع في البحر غريقاً، لأن قائده لم يقل له دور!. . أي لم يعطه الأمر بالوقوف، وهذا مثل الطاعة البلهاء العمياء التي تطلب إلى الجندي في الجيش.

وكان عم زايد لا يعرف حتى ولا أصحاب المنزل الذي يخدم فيه وسادته الذي نشأ فيهم وقضى حياته في ظلهم إلا إذا كانوا داخل جدران المنزل. فإذا خرجوا إلى حاجة لهم أو مشوار من المشاوير فالتقى بهم في طريقه لم يعرفهم ولم ينظر إليهم ولم يلتفت أو يدر مكانهم منه إلا إذا استوقفه أحدهم فذكره بأسمه أو عرفه بصوته. فإذا أنت بعثت به إلى شراء شيء من السوق ثم خرجت في أثره تمشي في السوق لترى ماذا هو صانع وجئت حتى حاذيته فلا تتوقع أن ينظر إليك أو يتبينك وإن حك ذراعك بذراعه. وقد تقف بجانبه أمام البائع وتأخذ في جدل معه أو حوار فلا يدرك من أنت وما شأنك. ولم أر عم زيد في دموع ولم أشهده باكياً وقد يقف في جنازة سيد من ساداته مبتسماً بين النواجذ كما يقف يوم العرس لا يدري ماذا شغل الناس حوله. . . . أعلى ميت يبكون أم تلك عروس إلى عروس يزجون. على أنه كان متزوجاً ولكن لم يكن زواجه بلاهة منه كما هو من بلاهات العقلاء بل كان بلاهة من أسياده إذ رأوا جارية لهم تناهز السن التي كان هو يعض عليها، فزوجوهما على بركة الله ولم يجتمع الزوجان في شيء اجتماعهما في خصلة واحدة هو أنه كان أفطس الأنف وكانت هي بسلامتها فطساء. ولم يفترقا في شيء افتراقهما في شيء واحد: هو أنها كانت نصف عاقلة. وكان هو تام البلاهة. فجعلت تشده إلى العقل وجعل هو يجذبها إلى البلاهة. فلما لم تتغلب عليه ولما لم يتغلب عليها جعلت هي تضحك منه مع الضاحكين. وجعل هو الآخر يسخر منها ومن الناس أجمعين.

انقباض النفس

انقباض النفس للشاعر النفساني الروحاني كلوردج نقلها إلى العربية الكاتب الشاعر عبد الرحمن أفندي صدقي حزن من غير ما ألم، أجوف موحش معتم. حزن مكظوم نعسان هادئ لا يجد له مخرجاً أو مفرّجاً في كلمة أو زفرة أو غيره - بلى سيدتي في هذه الحال من الكمد والخمود استغوتني أغاريد طائر صداح إلى الاسترسال في التأملات فكنت طوال هذا المساء المتأرج الساجي أرمق الأفق الغربي وصبغته الوارسة وقد رنقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورسا مذ عذها وما زالت أرمق - ولكن بأيما عين غافلة وألحاظ جوفاء - وسوارى المزن فوقي شفيفة متفتقة قد تنصلت عن ظاهر سريانها وخيلت أنه لهاتيك الكواكب والدراري اللآئي يمرقن خلفها أو ما بينها. آونة متلالئات وأخرى معتمات ولكن على الحالين مستبينات للعيان. وذياك الهلاك مستقر كأنما قد ترعرع ونما في بحيرة له ولازوردية لا تعرف دراريا ولا مزنا. أرى كل هذه المشاهد حسانة فاخرة أرى ولكن لا أشعركم هي أنيقة حلواء. (3) حال سالف ابتهاجي إلى كآبة وانقباض. وإني لهذه المشاهد أن ترفع الوقر المزهق عن صدري فعبثاً أحاول الترفيه ولو رمقت إلى الأبد هذه الأضواء الوارسة التي تتلكأ في المغرب إذ لا أمل أن أستمد من المظاهر الخارجية حرارة وحياة ينابيهعما باطنية. (4) بلى يا سيدتي إنما نسترد ما أعرناه وإن حياتنا وحدها تحيا الطبيعة وحياتنا وحدها تسربلها إما في رياط عرس أو لفائف كفن فإذا شئنا أن نعاين شيئاً أسمى قيمة مما تخوله هذه الدنيا الميتة الباردة لهذا الملأ التعس اللازب القلق الخامد الحب فعلى النفس وحدها أن ينبجس عنها ضوء بهاء، رباب ضحيان أغر يشمل الأرض - وعلى النفس وحدها أن تنخمضعن صوت حلو جهوري من نتاجها وهو من كل الأنغام الحياة والعنصر. (5) آه أيتها النقية القلب لا أظن بك حاجة أن تستفسري مني وتتساءلي ما تكون هذه الموسيقى

الفعالة النفسية، ما تكون وأين توجد، وهذا الضوء، هذا البهاء، هذا الرباب الضحيان الأغر، هذه القوة الجميلة المجملة - الابتهاج يا سيدتي الفاضلة، الابتهاج الذي لم يسوغه أبداً إلا الاتقياء وحدهم وفي أتقى ساعة لهم، وهو الحياة وعصير الحياة، رباب وشؤبوب في آن. الابتهاج يا سيدتي هو الروح والقوة تهبنا إياه الطبيعة صداق زفافها علينا. هو أرض جديدة وسماء جديدة لم يحلم بها الفاسق ولا الأصعر الصليف - الابتهاج هو الصوت الحلو، الابتهاج الابتهاج هو الرباب الضحيان - وإنا لنبتهج في داخل أنفسنا ومن تلقاء أنفسنا، ومنها يتدفق كل مايفتن بعدها السمع منا والبصر فكل الأنغام أصداء لذياك الصوت وكل الألوان سطوع وانتشار لذياك الضوء. (6) ولقد جازت بي - على الرغم من خشونة السنن - حقيبة من الدهر كان فيها ابتهاجي هذا يداعب كل ملمة وضيق، ولم تكن الرزايا كلها إلا بمثابة مادة يصوغ لي منها الخيال أحلام سعادة، لأنة الأمل إذ ذاك كان يزكو حولي كالكرم المؤتشبة أفنانه، وكانت الثمار والأوراق التي تخص غيري كأنما تختصني. وأما الآن فالنكبات تقوس إلى الرغام كاهلي ولو أنها اقتصرت على استلاب تهللي ومرحي ما حفلت بها ولا اكترثت لها لكنها - وأبؤس نفسي - في كل زيارة تعطل ما أودعته في الطبيعة منذ ميلادي من روح الخيال الفاطر فلا اعني اليوم بما يجب أن يخامر إحساسي ويستولي على مشاعري بل الاستسلام والصبر كل مقدروي ولقد رأيت أن أنصرف إلى أبحاث الفلسفة الجافة العويصة عسى استل من فطرتي كل الرجل الفطري، وكانت هذه خطتي التي أترسم وحيلتي التي إليها أركن فإذا بالذي يناسب الجزء يعدي الكل حتى لصار الآن ديدن نفسي. (7) إليك عني يا أفاعي الهواجس التي تلتف حول عقلي، يا رؤيا الحقيقة المعتمة. بي أتحول عنك منصتاً إلى الريح التي طال في الخارج هذيانها دون أن تسترعي إليها انتباهي. فيالها من صرخة نزع هائلة نبهني بها مزهرها وكأنما مدفيها التعذيب. ولكن، أيتها الريح الهاذية الهاذرة ألا ترين أن الجلمد العاري والغدير في قنة الطود والشجرة المسفوعة وحرج الصنوبر السحوق الذي لم يبلغ إليه تسلق حطاب، والدار المنعزلة اتخذتها الساحرات مثوى

من قديم: كل هاتيك ألا ترينها كانت معازف أصلح لك أنت أيتها العازفة المعتوهة التي اسمعها في هذا الشهر، شهر الشآبيب المنهلة والخمائل والأزاهر الموصوصة - أسمعها تحتفل بعيد الشيطان منشدة أسوأ من نشيد الشتاء، خلال النوار والبراعم والأوراق المرتجفة. أنت أيتها الممثلة المبرزة في كل أصوات المأساة. أنت أيتها الشاعرة القديرة المتحمسة إلى حد الجنون! عما تحدثين تحدثين عن هرب الجيش المهزوم بما فيه من تأوهات المدعوسين والمثخنين بالجراح - في آن واحد يتأوهون من مضض الكلوم ومن كلب البرد. ولكن انصت - هذه فترة سكون عميق! وكل هذه الجلبة التي كانت كأنها لملأ هارب بما فيه من تأوهات وارتعاد مقضقض - كل هذا انقضى فإنها تقص الآن أسطورة أخرى بأصوات أقل عمقاً وأخفت جرساً، والأسطورة أقل رعباً من سابقتها مشوبة من بهجة التصوير بما يطأ من من هو لها، كالتي صورها الشاعر (اتواي) نفسه من أنشودته الرقيقة فهي أسطورة طفلة صغيرة في مجهل منعزل لا يبعد عن السكن ولكنها ضلت طريقها فآونة تئن في خفوت من لأسى المر والفرق الأخرى ترفع عقيرتها بالصياح في أمل أن تسمع أمها. (8) انتصف الليل ولكن قل أن مر في خاطري خاطر اليوم. وأني لأسأل الله لخلّي أن ينر احياؤها نظائر هذه السهرات. فلتطرقها أيها الكرى المدمث المترفق ولترف عليها بأجنحة شفاء وعافية. ولتكن هذه العاصفة على حد المثل القائل تمخض الجبل فولد فأرة، ولتتدل الدراري كلها مؤتلفة على سكنها، مستقرة شاخصة كأنها تسهر على حراسة الأرض النائمة. ولتنتبه خلّتي وقلبها الممراح الطروب وتصوراتها الزاهية المبرقشة وعيونها الطافطة بالبشر، وليسبح الابتهاج بروحها إلى فراديسه العليا، وليدوزن الابتهاج صوتها طبق أنغامه الحلوة ونبراته المستعذبة ولنحي لأجلها كل الأشياء قاطبة من قطب إلى قطب إذ حياتهن مجال تدويم لروحها الحية. إيه أيتها الروح الناصعة الطويلة التي ترشدها السماء وتهدى خطواتها الفانية المعبودة. يا أروع خلة اصطفيت أسأل الله أن تغتبطي وتطربي دواماً وإلى أبد الآبدين.

تفاريق

تفاريق أشهر مخترعي العالم غوتنبرج: مكتشف الطباعة بالأحرف جميس واط: مستعمل قوة البخار بل: مخترع التليفون أديسن: مخترع الفوتوغراف وكثير من المخترعات الكهربائية ديزل: مخترع (المكنة) الهائلة المعروفة باسمه. ألمانيا والتجارة عجيب ما يأتينا من تلكم الأخبار المتضاربة عن ألمانيا. فبينما نحن نسمع عن إفلاسها وفاقتها وتدهور حالها الاقتصادية وما إلى ذلك مما أدهش عقولنا وجعلنا نظن أن ألمانيا قد دالت دولتها وأصبحت في خبر كان. أقول بينا نحن نسمع ذلك إذ توافينا أنباء أخرى على النقيض من هذا. فقد أرسلت إحدى المجلات الإنجليزية رسولاً من قبلها ليستطلع طلع هذه البلاد الغريبة ويقف على جلبة أمرها. فعاد هذا الرسول. وأخذ يدبج المقالات الضافية ويصرح فيها بأن الحال في ألمانيا ليست من الظلمة والارتباك والتدهور في شيء بل على العكس نرى أن القوم هنالك هانئون في خير حال وعيشتهم راضية مرضية، وكلها أمل في المستقبل. ولقد أعرب في مقال له بالعنوان السابق، عن عظيم دهشته من وفرة المال في ألمانيا وضخامة رؤوس الأموال واستعداد القوم لشراء المواد الخام بأي ثمن كان. وسرد لذلك أمثالاً كثيرة منها أنه جلس مرة مع تاجر من التجار المتوسطي الحال يجاذبه أطراف الحديث فأراه هذا أنه مستعد لشراء أربعمائة طن من النحاس لاستخدامها في بعض الأغراض الكهربائية وأنه مستعد أن يعقد أي شروط لذلك وأن يدفع الثمن المطلوب في أي وقت. . . . ثم سمع أيضاً بأن شركة قد تألفت لصنع (الكاوتشوك) من بعض المواد الكيمية ورأس مالها بلغ 000، 000، 5 من الجنيهات جمعت كلها من (برلين) فقط. ولقد صرح له بول فون مندسون رئيس الغرفة التجارية في برلين بقوله: إن انخفاض سعر المارك في الوقت الحاضر ليس من الأهمية بمكان. لأنه لا شك سيرتفع حينما نبتدئ في

تصدير بضائعنا. أما الآن فكل مجهودنا موجه إلى شراء المواد الخام بأي ثمن وبأية طريقة، وعندنا لذلك المال الكافي. وسنناقش تجارة العالم كله. ومع ذلك سنربح ربحاً عظيماً. ولقد أشيع مثلاً خبر اعتصاب المعدنيين في ألمانيا، وصارت الحكومة نفسها تصدر لذلك النشرات المطولة وتذيعها في العالم كله، مع أن الغرض من ذلك إنما هو حمل مؤتمر الصلح على إنقاص كمية الفحم المطلوبة من ألمانيا لفرنسا من 000، 000، 40 طناً إلى 000، 000، 21 فقط. ثم قال المراسل أيضاً. ولقد كنت في برلين في الوقت الذي حدث فيه اعتصاب عمال السكك الحديدية في انجلترة. فكنت أرى الألمان على اختلاف طبقاتهم يقابلون أخبار اشتداد الأزمة في انجلترة بالضحكات والنكات. ضيق الأرزاق في بلاد المغرب أكلة في المطعم بصورة يذكر القراء ما كتبنا قبل هذا عن رؤوس صلعاء للإيجار وما كان من ضيق المرتزق اليوم في بلاد المغرب من أثر الحرب، حتى أصبح أشد الناس حياء لا يستحي أن يبحث رزقه من أتفه السبل، ولو عرض نفسه بذلك لسخرية الناس، واستدف لضحكات القوم وقد قرأنا عن أمثلة أعجب من ذلك، وهو أنه يوجد في الحي اللاتيني بباريس عدة مطاعم صغيرة قد غطت جدرانها صور مختلفات ألوانها ورسوم بالزيت أو الدهن أو المداد، وكل صورة منها تمثل رجلاً جائعاً لا درهم يملك، ولا رغيف يأكل، وقد صور هذه الصور كثيرون من أهل الفنون الفقراء الذين عز عليهم القوت. فاتفق أصحاب تلك المطاعم على أن كل صورة بأكلة في المطعم من غير مقابل وليس على المصور المسكين كلما عضه الجوع، وعز عليه الطعام إلا أن يمشي إلى ذلك المطعم فيضيف إلى مجموعة تلك الصور الجائعة أقرب صورة إلى حالته، ومن هنا كانت هذه المطاعم متاحف كبرى لصور الجوع. وأغرب من هذا كله أن نسمع بجندي في انجلترة من الذين سرحتهم الحكومة بعد انتهاء الحرب يعرف 6 لغات مختلفة ثم لم يجد في جميع سبل الرزق ما يستطيع به أن يسد أرماقه، إلا أن يجمع أعقاب السجائر.

هذه طائفة من ويلات تلك الحرب المدهشة، وهي ولا ريب معرة للإنسانية لا يمحوها شيء من صفحات التاريخ.

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة كتاب مختصر تاريخ أوروبا في العصور الوسطى أهدى إلينا صديقنا الكاتب المؤرخ الفاضل الأستاذ حسين أفندي لبيب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي وصاحب كتاب تاريخ الأتراك العثمانيين وتاريخ الأندلس والجغرافية التجارية - كتاباً له وضعه أخيراً في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى بسط فيه القول على الحروب الصليبية والفروسية والنظام الإقطاعي ونشوء دول أوروبا الخ الخ والكتاب يوجد في جميع مكاتب القاهرة وثمنه 15 غرش. التربية والتعليم مجلة شهرية تعني عناية خاصة بكل المباحث التي تبحث في شؤون التربية والتعليم لمديرها حضرة الأستاذ الفاضل عز الدين أفندي علم الدين وتظهر في دمشق عاصمة الدولة السورية فنرحب بهذه المجلة المفيدة وننصح القائمين بالتربية والتعليم خاصة بأن يقتنوها. البيان مجلة شهرية علمية أدبية تاريخية اجتماعية سياسية لمنشئيها حضرات الأفاضل عبد الرزاق أفندي وعبد الله أفندي وعثمان أفندي وصاحب امتيازها حضرة الفاضل عبد القوي افندي وتكتب باللغتين العربية والهندية وتظهر في لكنؤ - الهند. وهي الآن في سنتها التاسعة عشر اشتراكها اثنا عشر شلنا.

أحداث الشهر

أحداث الشهر سار يباري النجم في جده ... وعاد كالسيف إلى غمده ذاك سيد الشعراء وشاعر العربية الأوحد - أحمد شوقي بك - فقد رفهت الأقدار عن الناطقين بالضاد عامة والمصريين خاصة بأن أدال الله لنا من غربته جميل اوبته - وما كاد ينطلق بلبلنا الغرد من معتقله حتى شدانا بهذه الأبيات. أنادي الرسم لو ملك الجوابا ... واجزيه بدمعي لو أثابا وقلّ لحقه العبرات تجري ... وإن كانت سواد القلب ذابا سبقن مقبلات الترب عني ... وأدين التحية والخطابا نثرت الدمع في الدمن البوالي ... كنظمي في كواعبها الشبابا وقفت بها كما شاءت وشاؤوا ... وقوفاً علم الصب الذهابا لها حق وللأحباب حق ... رشفت وصالهم فيها حبابا ومن شكر المناجم محسنات ... إذا التبر انجلى شكر الترابا وبين جوانحي واف ألوف ... إذا لمح الديار ومضى وثابا رأى ميل الزمان بها فكانت ... على الأيام صحبته عتابا * * * وداعاً أرض أندلس وهذا ... ثنائي إن رضيت به ثوابا وما أثنيت إلا بعد علم ... وكم من جاهل أثنى فعابا تخذتك موئلاً فحللت أندي ... ذراً من وائل وأعز غابا مغرّب آدم من دار عدن ... قضاها في حماك لي اغترابا شكرت الفلك يوم حويت رحلي ... فيا لمفارق شكر الغرابا فأنت أرحتني من كل أنف ... كانف الميت في النزع انتصابا ومنظر كل خوان يراني ... بوجه كالبغي رمى النقابا وليس يعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا * * * أحق كنت للزهراء ساحاً ... وكنت لساكن (الزاهي) رحابا ولم تك (صور) أبهى منك ورداً ... ولم تك بابل أشهى شرابا

وإن المجد في الدنيا رحيق ... إذا طال الزمان عليه طابا أولئك أمة ضربوا المعالي ... بمشرقها ومغربها قبابا جرى كدراً لهم صفو الليالي ... وغاية كل صفو أن يشابا مشيبة القرون أديل منها ... ألم تر قرنها في الجو شابا معلقة تنظر صولجاناً ... يخر عن السماء بها لعابا تعد بها على الأمم الليالي ... وما تدري السنين ولا الحسابا * * * أيا وطني لقيتك بعد بأس ... كأني قد لقيت بك الشباب وكل مسافر سيؤوب يوماً ... إذا رزق السلامة والإيابا ولو أني دعيت لكنت ديني ... عليه أقابل الحتم المجابا أدير إليك قبل البيت وجهي ... إذا فهت الشهادة والمتابا وقد سبقت ركائبي القوافي ... مقلدة أزمتها طرابا تجوب الدهر نحوك والفيافي ... وتقتحم الليالي لا العبابا وتهديك الثناء الحر تاجاً=على تاجيك مؤتلقاً عجابا * * * هدانا ضوء ثغرك من ثلاث ... كما تهدي (المنورة) الركابا وقد غشى المنار البحر نوراً ... كنار (الطور) جللت الشعابا وقيل الثغر فاتأدت فأرست ... فكانت من ثراك الطهر قابا فصفحاً للزمان لصبح يوم ... به أضحى الزمان إلي تابا وحيا الله فتيانا سماحاً ... كسو عطفي من فخر ثيابا ملائكة إذا حفوك يوماً ... أحبك كل من تلقى وهابا وإن حملتك أيديهم بحوراً ... على أكفهم السحابا تلقوني بكل أغر زاه ... كأن على أسرته شهابا ترى الإيمان مؤتلقاً عليه ... ونور العلم والكرم اللبابا وتلمح من وضاءة صفحتيه ... محيا مصر رائعة كعابا

وما أدبي لما أسدوه أهل ... ولكن أحب الشيء حابي شباب النيل إن لكم لصوتاً ... ملبي حين يرفع مستجابا فهزوا (العرش) بالدعوات حتى ... يخفف عن (كنانته) العذابا أمن حرب البسوس إلى غلاء ... يكاد يعيدها سبعاً صعابا وهل في القوم يوسف يتقيها ... ويحسن حسبة ويرى صوابا عبادك رب قد جاعوا بمصر ... أنيلا سقت فيهم أم سرابا حنانك واهد للحسنى تجارا ... بها ملكوا المرافق والرقابا ورقق للفقير بها قلوباً ... محجرة وأكباداً صلابا أمن أكل اليتيم له عقاب ... ومن أكل الفقير فلا عقابا أصيب من التجار بكل ضار ... أشد من الزمان عليه نابا يكاد إذا غذاه أو كساه ... ينازعه الحشاشة والإهابا وتسمع رحمة من ناد ... ولست تحس للبر انتدابا أكل في كتاب الله إلا ... زكاة المال ليست فيه بابا إذا ما الطاعمون شكوا وضجوا ... فدعهم واسمع الغربى السغابا فما يبكون من ثكل ولكن ... كما تصف المعددة المصابا ولم أر مثل سوق الخير كسبا ... ولا كتجارة السوء اكتسابا ولا كأولئك البؤساء شاء ... إذا جوعتها انتشرت ذئابا ولولا البر لم يبعث رسول ... ولم يحمل على قوم كتابا شهداؤنا الاثنا عشر علمونا الصبر نطفئ ما استعر ... إنما الأجر لمفجوع صبر صدمة في الغرب أمسى وقعها ... في ربوع الشرق مشؤوم الأثر زلزلت في أرض مصر أنفساً ... لم يزلزلها قرار المؤتمر ما اصطدم النجم بالنجم على ... ساكن الأرض بأدهى وأمر قطف الموت بواكير النهى ... فجنى أجمل طاقات الزهر وعدا الموت على أقمارنا ... فتهاووا قمراً بعد قمر

في سبيل النيل والعلم وفى ... ذمة الله قضى الاثنا عشر أي بدور الشرق مذا نابكم ... في مسار الغرب من صرف الغير نبأ قطع أوصال المنى ... وأصم السمع منا والبصر كم بمصر زفرة من حزها ... كنس الأعفر والطير وكر كم أب أسوان دام قلبه ... مستطير اللب مفقور الظهر ساهم الوجه لما حل به ... سادر النظرة من وقع الخبر كم بها والدة وآلهة ... عضها الثكل بنار فعقر ذات نوح تحت أذيال الدجى ... علم الاشجان سكان الشجر تسأل الأطيار عن مؤنسها ... كلما صفق طير واصطخر تسأل الأنجم عن واحدها ... كلما غور نجم أو ظهر تهب العمر لمن ينبئها ... أنه أفلت من كف القدر ويح مصر كل يوم حادث ... وبلاء مالها منه مفر هان ما تلقاه إلا خطبها ... في تراث من بنيها مدخر * * * أمة الطليان خففت الأسى ... بصنيع من أياديك الغرر جمعت كفاك عقد زاهيا ... من بنينا فوق واديك انتثر ومشى في موكب الدفن لهم ... من بنيكم كل مسماح أغر وسعى كل امرئ مفضل ... بادي الأحزان مخفوض النظر وبكت أفلاذكم أفلاذنا ... بدموع روضت تلك الحفر وصنعتم صنع الله لكم ... فوق ما يصنعه الخل الابر فقد بكينا لكم من رحمة ... يوم (مسينا) فأرخصنا الدرر فحفظتم وشكرتم صنعنا ... وبنو الرومان أولى من شكر أي شباب النيل لا تقعد بكم ... عن حظير المجد أخطار السفر إن من يعشق أسباب العلى ... يطرح الأحجام عنه والحذر فاطلبوا العلم ولو جشمكم ... فوق ما تحمل أطواق البشر

نحن في عهد جهاد قائم ... بين موت وحياة لم تقر حافظ إبراهيم

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الثانية من المرية إلى قرطبة تابع ما نشر في العددين 7و 8 من السنة السابعة الأسطول الأندلسي وروح العظمة التي ترفرف عليه أسلفنا لك في الرسالة الأولى من هذه الرسائل شيئاً من القول قد يكون مغنياً في معنى الأسطول وأثره الصالح في ادلولة التي تعنى به، وإن الدولة الفاطمية في أفريقية، والدولة الأموية في الأندلس لهذا السبب بعينه ولأن بلادهما واقعة على سيف البحر الرومي البحر الأبيض المتوسط وبحر الظلمات المحيط الاطلانطي قد بذتا سائر الدول في العناية بالأساطيل حتى قبضنا بها على أعنة البحار، واستوتا على ما فيه من جزائر وأقطار، وآضنا بذلك وآضت رعاياهما سادة البر والبحر، بل ذل الزمان لهم ولانت أعطاف الدهر، وهذا هو الذي أرهج بين هاتين الدولتين بالفساد. وأرسل بينهما عقارب ألحقاد، وأثار بينهما نقع الحرب والجهاد، حتى لا تكاد الحروب بين الدولتين ينطفئ لهيبها، فتراهما للتافه من ألأسباب يجردان الجيوش بعضهما على بعض، وتتلاقى أساطيلهما مصرجة بالشر، ولعلك لم تنسى بعدُ حادثة هذا المركب الأندلسي الذي قمنا فيه من الاسكندرية، وأنه تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز لدين الله الفاطمي وأخذ ما فيه من بريد وبضائع، فما كان من المعز إلا أن أرسل أسطولاً كبيراً إلى؟؟؟؟ لأسطول الأندلسي في المرية - كما أُخبرنا بذلك ونحن في هذا البلد - فعاث فيه عيثاً والحق به وبالمرية ما أرضاه ونقع غلته وأطفاً لهيبه، فلم يسع أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر إلا الانتقام من المعز، فأمر بتجريد الأسطول وحشد المقاتلة والذهاب إلى أفريقية، فذهب إليها تحت أمرة حاجبه الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد أسطول كبير يقل عدداً عظيماً من رجالات الحرب، فعاج أولاً على مدينة وهران وجمع من فرسان الأندلس المحتلين بلاد المغرب نحواً من خمسة وعشرين ألف فارس ثم هجم بالرجلان والفرسان على أفريقية ودارت بينه وبين رجال المعز رحى الحرب فهزم الأندلسيون قبائل صنهاجة وكتامة، وكان يتلف منها السواد

الأعظم من جيش الأفارقة - واقتفوا آثارهم حتى بلغوا ضواحي تونس - وهي غنية بتجاربها الواسعة يسكنها كثير من تجار اليهود الأغنياء فحصروها براً وبحراً وألحوا في الحصر، فلما رأى أهلها أن الخطر محدق بهم عرضوا أن يسلموهم المدينة وقدموا مبلغاً كبيراً من المال إلى الحاجب ابن شهيد، وقدموا إليه كذلك أنسجة من كل نوع وطرفاً من الحلي وذهباً وحجارة كريمة وملابس من الصوف والحرير وأسلحة وخيلاً وعدداً عظيماً من الأرقاء، ثم غنم عدا ذلك سفن الميناء وأثقالها وضمها إلى سفنه وكر راجعاً إلى الأندلس. * * * ومن سننهم التي مضوا عليها وجرات عادتهم بها أن يحتفلوا بالأسطول عند رجوعه ظافراً من حرب، فتقوم الأساطيل بألعاب وحركات بمرأى من عظماء الدولة ومسمع، كأنها في حرب مع الأعداء فاتفق في اليوم الذي وصلنا فيه إلى المرية أن آب الأسطول الأندلسي رافعاً أعلام النصر في هذه الواقعة، فأمر أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس بأن تقوم الأساطيل بألعابها، فما كان منا إلا أن بادرنا إلى إمتاع أنفسنا بمشاهدة هذه الألاعيب صحبة الأمير، فذهبنا إلى الميناء - ميناء المرية - فوجدنا ثمت في انتظارنا مركب كبيراً كأنه رضَوى أو ثبير، أو الأمل الكبير، فدعينا إلى النزول فيه، ثم أخد لأمير ابن رماحس في أن يرينا ما في هذا المركب من بروج وقلاع ومناظر وتوابيت ومن منجنيقات ومكاحل بارود ونفط - ومن نوتية ومن مقاتلة وأسلحة وهلم مما قضينا منه عجباً - وهذا المركب نوع من الأنواع التي يتألف من منها الأسطول يسمى الشواني الواحد منه شونة وبعد ذلك أخذ هذا المركب يسير بنا الهوينا في اختيال، مترجحاً ذات اليمين وذات الشمال كأنه عروس يرفرف عليها روج الجمال والإجلال، وبعد أن سار في البحر شيئاً وقف بنا حيث نشاهد حركات الاسطول وألاعيبه. وكان الشاطئ. ساعتئذٍ قد غُص بالنظارة من كل صنف من أصناف الناس، والزوارق قد انتثرت على متن البحر من جميع النواحي، وفيها لا يعلم عديدهم إلا الله من الاندلسيين والاندلسيات، كي يشاهدوا حركات الأسطول - فكان لذلك منظر تحسر دونه الظنون، وتتراجع دون إدراكه الأوهام - منظر يهز رواؤه الفكر، ويُشيع الروعة في الصدر، وينتقل من هذا العالم إلى عالم آخر كأنه الخلود.

مجال أسود وملهى سفين ... فياطيب لهو ويامنظر وياحسن دنيا وياعز كلك ... يسوسهما السائس الأكبر ثم بصرنا بعد ذلك الأساطيل على اختلاف ضروبها، وقد أخذت بصورة شيطانية في ألاعيبها، فإذا رأيت ثَم رأيت، كنائن، غير أنها تمرق مروق السهام، ورواكد هي مدائن، بيد أنها تمر مر السحاب غير الجهام، وأطياراً إلا لها جوارح، لا تصبد إلا الأرواح وأفراساً في سرعة البرق اللامح، سوى أنها ذات دُسُر وألواح. معيدة السقائف ذات دسر ... مضبَّرة جوانبها رَدَاح * * * تتخاذل الألحاظ في إداركها ... ويحار فيها الناظر المتأمل فكأنها في اللطف فهم ثاقب ... وكأنها في الحسن حظ مقبل * * * فيا للجواري المنشئآت وحسنها=طوائر بين الماء والجو موماً إذا نشرت في الجو أجنحة لها ... رأيت به روضاً ونوراً مكمما * * * ذات هدب من المجاذيف حاك ... هدب باك لدمعه أسغاد حمم فوقها من البيض نار ... كل من أسلت عليه رماد * * * ملأة الكماةُ ظهورها وبطونها ... فأتت كما يأتي السحاب المغدق عجباً لها ما خلت قبل عيانها ... أن يحمل الأسد الضواري زورق * * * رأرت زئير الأسد وهي صوامت=وزحفن زحف مواكب في زورق * * * ترمي ببروج إن ظهرت ... لعدو محرقة بطنا وبنفط أبيض تحسبه ... ماء وبه تذكى السكنا * * *

وما زالت الأساطيل تلعب كأنها في سوح القتال، من لدن ذَرَّ قرن الشمس إلى أن جاء وقت الزوال. * * * وهنا يجمل بنا أن نقول لك القول على أنواع السفن التي يتألف منها الأسطول الأندلسي وعُددها وآلاتها - فمن تلك الأساطيل نوع ما يقال له الشواني جمع الشونة أو الشيني كما بك آنفاً - وهي أجفان حربية كبيرة تقام فيها الأبراج والقلاع للدفاع والهجوم - وأبراجها ذات طبقات مربعة - فالطبقة العليا منها تقف منها الجنود المسلحة بالقِسيَّ والسهام - وفي الطبقة السفلى الملاحون الذين يجذفون بنحو من مائة مجذاف، ويتراوح ما تحمله الشونة من الشونة من المقاتلة - ما بين المائة والخمسين وبين المائتين - وتجهز الشواني وقت الحرب بالسلاح والنفطية والازودة بله الجنود البحرية، ومن أنواع الأسطول نوع يعرف بالبوارج جمع البارجة وهو أكبر من الشواني - ومثله نوع يقال له المسطحات - ومن هذه الأساطيل نوع يقال له الحرافات جمع الحرافة وهي مراكب حربية كبيرة قُرابَة الشواني بيد أن هذه تماز عن تلك بالمنجنيقات وتلك هذه عن بالقلاع، فتراهم يحملون في الحراقة مكاحل البارود والعرادات والمنجنيقات يرمي بها النفط المشتعل على الأعداء - وهم يعملون الحراقة في صورة الأسد وفي صورة الفيل وفي صورة العقاب وفي صورة الحية وفي صورة الفرس كتلك الحراقات التي كانت للأمين بن الرشيد والتي يقول فيها الحسن بن هانئ: سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب فإذا ما ركابه سرن برا ... سار في الماء راكباً ليث غاب أسداً باسطاً ذراعيه يعدو ... أهزت الشدق كالح الأنياب لا يعانيه باللجام ولا السو - ط ... ولا غمز رجله في الركاب عجب الناس إذ رأوه على صو - رة ليث يمر مر السحاب إلى أن قال يصف هذه المطايا: تستبق الطير في السماء إذا ما ... استعجلوها بجيئة وذهاب ذات سور ومنسر وجناحين ... تشق العباب بعد العباب

أما الطرائد فهي السفن التي تحمل الخيل للأسطول، وأكثر ما يكون فيها أربعون فرساًة والقرافير - فهي السفن الكبيرة التي تحمل الزاد والكراع والمتاع - والفلائك والقوارب والشلنديات فهي من توابع الأسطول كالطرائد والقرافير. * * * أما عُدد الأساطيل وآلاتها ومعداتها وأسلحتها فهي الرماح والعِصي والتراس والزرد والخوذ المنجنيقات والعرادات. وقد رأيت الأندلسيين يستعملون في حروبهم البحرية، النار اليونانية وهي مزيج من الكبريت وبعض الراتنجات والادهان في شكل سائل يطلقونه من اسطوانة نحاسية مستطيلة يشدونها في مقدم السفينة فيقذفون منها السائل مشتعلاً أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة أو قطع من الكتان الملتوت بالنفط فيقع فيحقهل حرقاُ، ومن غريب هذه النار أنها تشتعل في الماء والهواء والنفط - وقد رأيتهم كذلك يستظهرون بالبارود الذي يسمونه الثلج الهندي - ونحن قلم نسمع بأمة من الأمم اهتدت إلى هذا الثلج الهندي قبلهم - ذلك إلى معدات أخرى لا أظنهم قد سُبقوا إليها، أرانيها الأمير ابن رماحس في الشونة، التي كنا نشاهد منها حركات الأسطول، مثل التوابيت المعلقة فوق البروج، وهي صناديق كبيرة مفتوحة من أعلاها، يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو فيقيمون فيها للاستكشاف ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق فيرمون العدو بها وهم مختبئون في هذه الصناديق، ومعهم عدا الحجارة قوارير النفط يقذفون بها السفن والقلاع فتحترق في التو واللحظة - ومعهم كذلك عدا الحجارة وقوارير النفط جرارة النورة وهي مسحوق ناعم مؤلف من الكلس والزرنيخ يرومون بها الأعداء في مراكبهم فتعمى أبصارهم بغبارها وقد تلتهب فيهم التهاباً - وقد رأيتهم وهم يرمونهم أيضاً بقدور الحيات والعقارب وربقدور الصابون اللين كي يزولقوا أقداهم - ومن حيلهم التي يتخذونها وقاء من أعدائهم أنهم يحوطون المراكب بالجلود أو اللبود المبلولة بالخل والماء أو الشب والنطرون كي لا يفعل النفط فيها فعله - ومن حيلهم أنهم يجعلون في مقدم المركب هناة كالفأس يسمونها اللجام، وهي حديدة طويلة محددة الرأس وأسفلها مجوف كسنان الرمح تدخل في أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها الاسطام فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز في

مقدم المركب فيطعنون مركب العدو به فلا يلبث حتى ينخرق فينصب فيه الماء فيغرق - ومن تلك الحيل أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم ناراً ولا يتركون فيها ديكا وقد يسدلون على المراكب قلوعاً زرقاء، فلا يرى العدو مراكبهم التي يشبه لونها لون الماء أو السماء. فسبحان الملهم من يشاء ما يشاء، ويخلق ما لا تعلمون لا إله غيره. * * * أما رآسة الأساطيل فقد جعلوا على كل أسطول قائداً ورئيساً فالقائد يدبر أمر سلاحه وحربه ومقاتلته، والرئيس يدبر أمر جريه بالريح أو المجاذيف ومعرفة مسالك البحر وطرقه بواسطة الرهنامج وبيت الابره التي هي مبتكراتهم ولم يسبقهم إليهم سابق فيما علمنا. أما النظر في الأساطيل كله فيرجع إلى أمير واحد من أعلى طبقات المملكة يلقبونه أمير البحر أو أمير الماء. مدينة المرية أما مدينة المرية فهي من مشهور مدائن الأندلس، وهي على ساحل البحر الرومي كما اسلفنا، وفيها دار الصناعة، ويربض فيها الشطر الأكبر من الأساطيل الأندلسية، والشطر الآخر يربض في مدينة بجاية - وهي واقعة بين جبلين، فعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة وعلى الآخر ربضها والسور محيط بها وبالربض، وفي غريبها ربض له آخر يسمى ربض الحوض، ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة وأحجار أولية وكأنما غربلت أرضها من التراب، ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار، وطول واديها أربعون ميلاً في مثلها كلها بساتين بهجة وجنان نضرة مطردة وطيور مغردة وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام - وبها لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول وللحل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللثياب الجرجانية والأصفانية كذلك - ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف، وقد علمت أنه لا يوجد في بلاد الأندلس أكثر مالاً من أهل المرية، ولا أعظم متاجر وذخائر - وبها من الحمامات والفنادق نحو الألف وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسناً - وفيها كثير من العلماء والأدباء والفلاسفة. وجملة القول أن المرية هذه كما رأيت تزخر بالحياة زخراُ، وتنطق بنشاط المسلمين

وجدهم، وبأقصى غايات عزهم لذلك ومجدهم فلو أن السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السماء

روح الإسلام

روح الإسلام الأكبر نصير للإسلام اليوم سيد أمير علي لما ظهر محمد كان العالم لا عهد له بما يسمى الحقوق الدولية. فكانت الحرب إذا نشبت بين القبائل المختلفة أو الأمم المتنوعة، كانت نتيجتها أن القبيلة أو الأمة الفائزة تبطش بالأمة المغلوبة فتذبح رجالها وتسبي نساءها وتأسر عجزتها وصبيانها وتغنم أسلابها وتنهب متاع دورها وأثاث قصورها وتغصب عقارها وأموالها. إن الرومان الذين استغرقوا ثلثمائة وألف عام في تكوين مجموعة قوانينهم ونظام شرائعهم لم يفطنوا قط إلى هذه المسألة الخطيرة. أعني واجبات السلوك الدولي، وفررائض المعاملات الإنسانية، فكان لا باعث لهم على الحرب والقتال إلا الرغبة في إخضاع الأمم المجاورة. وكانوا إذا انتصروا ففازوا بغرضهم من إخضاع الأمة المهزومة تحكموا فيها وضربوا على أيديها وساموها الخسف والضيم وتصرفوا فيها تصرف السيد في المسود. والأرباب في العبيد. كانوا إذا أبرموا عهداً مع المغلوب ثم بدا لهم أن ينكثوه لفائدة أو منفعة لم يترددوا في ذلك طرفة عين. وكانت حقوق حرية الشعوب المهزومة لا قيمة لها عندهم ولا تزن في نظرهم مثقال ذرة فلما دخلت النصرانية في العالم الروماني لم تحدث لأدنى تعبير أو تبديل في آراء مشرعي الرومان عن مسألة الواجبات الدولية بل بقيت الحرب على ما كانت عليه قبل من فظائع التخريب والعسف. والتدمير والحيف. ولضيم والإذلال. والإبادة والاستئصال. وذلك أن المسيحية أخلت نفسها ونفضت يدها من مسألة المعاملات الدولية والواجبات الإنسانية المتبادلة بين شعب وآخر - وبذلك تركت أربابها وأتباعها يتعسفون مجاهل الضلال في أسود ياجير الجهل والعماية. والعجب العجاب أن ترى العلماء والمفكرين من فطاحل العصور الحديثة بدلاً من ان يعتدوا هذا عيباً في نظام المسيحية وخللاً في جهاز شريعتها سببه أن هذه الديانة كانت قد تركت عند هلاك مؤسسها في حالة نقص بين لم تستكمل أصولها ولم تستنم قواعدها - حاولوا تبريرها وتحبيذها! ضلة منهم وسفهاً مصدره الأهواء الزائغة والمحاباة الباطلة. وهذا لعمرك مذها جائر يقضي بأن ما يعد صواباً بالنسبة للأفراد يعتبر خطأ بالنسبة للأمم والعكس بالعكس. وهكذا بقيت الديانة وواجبات الآداب التعاملية بمعزل عن نظام القوانين

والشرائع. فأصبحنا نرى الدين مع ادعائه أنه المنظم لما بين الأفراد من العلاقات والروابط لا يعترف بأن هنالك علاقات وروابط بين المجاميع المختلفة المؤلفة لجملة الإنسانية. وبذلك انحط الدين عن المنزلة اللائقة به وأصبح لا يعدو كونه تظاهراً بفيضان الوجدان والشعور أو طريقة لتبادل التقاريظ والاطراءات في مواطن الجمل ومواقف المناظرة - وإن كان (أي الدين) ربما ارتفع أحياناً إلى مرتبة الفلسفة الأخلاقية. إن الأساس الذي عليه تقوم الحقوق الدولية وواجبات السلوك بين مختلف الأمم هو معاملة الشعوب كالأفراد والاعتراف بأن لهؤلاء من الحقوق مثل ما لاولئك وأن النظام الحقوقي للاثنين واحد. لأنه كما أن من الأفراد تتكون الشعوب فكذلك من الشعوب تتكون الإنسانية - فحقوق الأمم واوجبات المتبادلة بينها لا تختلف بوجه ما عما هو عليه كائن بين الفرد والفرد. لا أنكر أن نهضة الكنيسة اللاتينية في غربي أوروبا وما اقتضى ذلك من توسيع سلطة الأساقفة بمدينة روما ومد نفوذهم قد أوجد في عالم النصرانية اللاتينية شيئاً من المسؤولية الدولية. وكلن هذا كان مقصوراً على اتباع كنيسة روما - أو كان في الأحايين القليلة يتناول عالم المسيحية الإغريقية على سبيل الامتنان والتفضل. أما سائر شعوب الأرض فكانت تحرم ثمرات هذه المسؤولية. حتى أصبح الدين يتخذ ذريعة للاعتداء على الأمم المستضعفة وحجة مبررة لاضطهادها واهتضام حقوقها فباسمه كان يرتكب في هذه السبيل كل جريمة وتقترف كل جناية. إذ كانت الكنيسة تصادق على كل فظائع السطو والاستلاب. وتؤمن على مظالم العسف والاغتصاب. وإذا أفرط الجبار المستبد في الظلم والحيف استطاع أن يخرج من ذنوبه ويتخلص من آثامه بتوسيط الكنيسة بينه وبين رب العباد. وتشفيعها في جرائمه يوم الحشر والمعاد. وكذلك كان الطاغية الغشوم لا يعدم من الكنيسة شفيعاً لدى الرحمن. وممهداً وموطئاً بحابح الجنان. فمن مذابح شارلمان التي أتاها بترخيص الكنيسة ومصادقتها إلى قتل أو أسر شعوب أمريكا الأصليين الأبرياء تمتد سلسلة متوالية من الاعتداءات على حقوق الأمم وواجبات الإنسانية، فهذا الاستخفاف بالأساسي من قواعد المروءة وأصول البر والتقوى هو أيضاً كان الدافع إلى الاضطهاد من كان من أتباع المسيح قد جرؤ على إيتان شذوذ في الرأي والتفكير عن سنة الكنيسة.

ولما ظهر المذهب البروتستانتي لم يحدث أدنى تغيير في هذه الحالة، بل إن ما وقع من الحروب وضروب الاضطهاد بين أرباب النحل النصرانية المختلفة يصح أن يؤلف منه تاريخ قائم بذاته فقد قال هالام في تاريخه: إن جريمة الاضطهاد هي الجريمة الأساسية الدولية التي كان يرتكبها أرباب الملل الجديدة من أهل المسيحية حتى أنك إذا قرأت أخبارهم لم تلبث أن تثور عليهم أو تحنق على مسلكهم فيتحول انتصارك لهم مقتاً لهم وعطفك عليهم اشمئزازاً منهم. على أنه مهما بلغ من اختلاف النحل النصرانية الجديدة في ما بينهم أو بلغ من شذوذهم عن كنيسة روما من حيث المسائل الفقهية والنقط المذهبية فلقد أتفقوا جميعاً ضد الشعوب الخارجة عن دائرة المسيحية في إجماعهم على الامتناع من تبادل الحقوق والمصالح مع أولئك الشعوب قاطبة فهذا جروشياس مؤسس القانون الدولي في أوروبا قد استثنى الأمم الإسلامية من امتياز تبادل الحقوق والمصالح مع الأمم الأوروبية. أما روح الإسلام فعلى عكس ذلك، مناف للاحتجاب والاحتجاز مناقض للانفراد والاعتزال. فإن محمداً بالرغم من ظهوره في عصر جاهلية الأمم وانغماس العالم في ظلمات الضلال قد وضع من مبادئ العدالة ما لم يفطن لبعضه زعماء أي ملة أخرى، وسن من القوانين الممتازة بفرط التسامح وسعة النظر ما لم يكد يوجد في أي دين آخر. فلقد قال ذلك المؤرخ النابغة الذي أشرنا إليه آنفاًإن الإسلام إنما كان يعرض دينه عرضاً ولا يفرضه فرضاً وإذا كان يمنح الأمم المقهورة إذا احتضنته مزية مساواة الأمة الفاتحة أعني المسلمين في كافة الحقوق والمصالح ويخلصها من كل ما كان جميع الأمم القاهرة قد اعتادت ضربه على المقهورين من الشرائط القاسية. والفرائض العاتية منذ بدأ العالم إلى مظهر محمد صلى الله عليه وسلم. وبمقتضى الشرائع الإسلامية كان كافة الخاضعين لدولة الإسلام من أهل الديانات المخالفة يمنحون حرية الضمير والفكر والعقيدة وفي الآية لا إكراه في الدين أوضح دليل على ما قد امتاز به الإسلام من فضيلة الرفق والبر والرأفة والتسامح وبعد ذلك كله يقوم أهل العناد والمكابرة فيرمون الإسلام بالبطش والفتك والقسوة. ونرى أناساً قد بلغ من فرط ظلمهم وجورهم ولجاجهم في الباطل وتعاميهم عن الحق أن ينسبوا التعصب والجبروت والعسف

الذي ينطق بأمثال الآيات الآتية: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء صل من قطعك واحسن إلى من ساء إليك أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك وليذكر القارئ أن هذه الآيات والأحاديث ليس مما يصدر عن صاحب مبدأ غيور متحمس لكنه ضعيف غير ذي بأس أو فيلسوف خيالي ينشر من المبادئ ما لا طاقة له بتنفيذه قد يديه الأحزاب المعاكسة والقوات المعاندة ولكنها كلمات رجل في غلواء قوته وعنفوان شبابه على رأس حكومة قوية محكمة النظام قادر على تنفيذ مبادئه بحد سيفه المشهور. ونحن ما زلنا نرى في عالم السياسة والديانة أن الأفراد والأحزاب لا تحض عل خلة التسامح والرفق والتجاوز إلا وهي حالة الضعف والعجز. حتى إذا ما اجتمع إليهم من الحول والطول ما يستطيعون به محاربة الأحزاب المعارضة ذهب ما كانوا يدعون من حب التسامح والتجاوز واستبدلوا به القسوة والاضطهاد. فلا رقى قسطنطين عرش القياصرة زال الخطر عن المسيحية وأمنت شر المسيئين والمعتدين، ولكن منذ هذه الساعة ابتدأت المسيحية خطة من العسف الطغيان والبطش والاضطهاد لا يدانيها في الفظاعة إلا خطة اليهود من قبل. قال المؤرخ ليكي: لم تكد الكنسية المسيحية تكتسب السلطة المدنية في حكم قسطنطين حتى سلكت أسوأ مناهج السقوة والقهر والإكراه سواء ضد اليهود والوثنيين والخوارج. فتولت التنكيل بهم على أشنع آلات العذاب - تحرقهم على جمرات نيران بطيئة الالتهام، وتنضج جلودهم على جذوات أفران متمهلة الضرام، لتربهم بذلك مبلغ ما وصلت إليه المسيحية من الرأفة والرفق والإنساني. وأعجب من ذلك أن ترى زعماء المسيحية قد جعلوا واحداً بعد واحد يكتبون الرسائل عن قداسة القسوة والاضطهاد ومن بين هؤلاء قديس قد اشتهر بالبر والتقوى - فهذا أدلى بالعدد الجم من البراهين والادلة على صواب اتخاذ أشنع وسائل العقاب والتمثيل، وأفظع طرائق العذاب والتنكيل، محتجاً بوق المسيح ما معناهأرغموهم على الدخول في الدين. تلك شيمة النصرانية، ولكن انظر إلى الإسلام في أقصى صولته وسلطانه لما دخل محمد

الكعبة مظفراً منصوراً قد هبت ريح فوزه وسطعت نجمة عزه وأخذ يحطم الأنصاب والأوثان، ويعلن أنها رجس من عمل الشيطان. لم يظهر إ ذاك عنفاً ولا عدواناً. ولا بطشاً ولا طغياناً، ولكن رحمة وحناناً، وبراً وإحساناً إذ قال لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، وحينذاك أذاع معروفاً وبراً، وأوصى بالضعيف والفقير خيراً، وأمن الخائف وأغاث اللهيف وأطلق العاني وفك الأسير. ولم يقتصر محمد على الإيصاء بالرفق والتسامح بل جعل ذلك قانوناً موضوعاً وشرعاً متبوعاً. فكان يمنح ألأمم المقهورة الحرية المطلقة في اختيار ما شاؤوا من ألأديان والعقائد. ومقابل هذا التمتع بحرية العبادة لم يكن يطلب منهم أكثر من جزية محدودة. ومتى عقد الاتفاق على هذه الحرية فكل تداخل في شأن دياناتهم أو حرية ضمائرهم كان يعد خرقاً لقوانين الإسلام ونقضاً لشرائعه. . . . فهل يستطيع امرؤ أن يقول مثل هذا عن أي دينآخر؟. وإليك رسالة محمد إلى نصارى نجران: قال صلى الله عليه وسلم ما نصه بمعناه إن رسول الله يكتب إلى قساوسة بني الحارث وقساوسة نجران وأساقفتهم وأتباعهم ورهبانهم بالترخيص لهم بالإقامة على دينهم واستدامة شعائرهم ومناسكهم صغيرها وكبيرها سواء في الأديرة والكنائس والهياكل والمعابد. ويعظهم عهد الله وميثاقه وحمايتهم ورعايتهم فلا يطرد أسقف من أسقفيته ولا قس من كنسيته ولا راهب من ديره. ولا تمس كرامتهم ولا يعتدى على نفوذهم وسلطتهم ولا يغير أدنى شيء من مراسمهم وتقاليدهم. وما داموا على مراعاة حرمة السلام والاستقامة فلا ينالون بسوء ولا أذى ولا يحل بهم ضيم ولا اضطهاد، فهذا دليل يبين على أن نشر الدين بالسيف كان منافياً لروح الإسلام متناقضاً لمذهب محمد كما أن الجدال والخصام في المفاضلة بين الأديان والعقائد كان من أبغض الأشياء إليه. وكثيراً ما كان يقول ما معناه قيم المخاصمة والمنازعة فيما تجهلونه. ألا فاجعلوا همكم الاستباق إلى الحسنات، وابتداء الصالحات والطيبات. والآن نرجع إلى النظر في وجوب حروب محمد لاستقصاء بحثها وفحصها. فقد رأينا أن وقائع المسلمين تحت قيادة النبي مع القبائل المختلفة كان سببها عدوان الوثنيين وبغيهم مما اضطر المسلمين إلى الدفاع عن أنفسهم والمحافظة على كيانهم. أما وقعة مؤته وغزوة تبوك وهما أول ما قام به المسلمون لمدافعة اعتداء دولة أجنبية

(الروم) فقد أثارهما ما كان من مصرع سفير المسلمين بأسياف الروم، فولا قيام المسلمين بعقاب نصارى الدولة الرومانية الشرقية على ذبحهم ذلك السفير لما وجد أعداء الإسلام سبيلاً إلى اتهامه بأنه لم ينتشر إلا بحد الحسام، فأما وقعة مؤتة فكانت سجالاً لا عليهم ولا لهم وأما غزوة تبوك وكانت دفاعية محضة (لصد جيوش هرقل) فلم تشف نفوس المسلمين بثأر ذلك السفير القتيل بل تركت دمه مطلولاً أثناء حياة النبي. ولكن خلفاءه لم ينسوا ذلك الدم المهراق ولم يلبثوا أن أدركوا الثأر من دولة الروم الباغية فأنزلوا بها من العقاب أنكله وأنكاه، ومن الانتقام أشده وأقساه. إن مبلغ اتساع الدولة الرومانية الشرقية وامتداد أملاكها وولاياتها ترك المسلمين في حالة حرب مستمرة مع الجانب الأكبر مة العالم المسيحي، أضف إلى ذلك ما كان لولاة الولايات الرومانية من السلطة الشاذة تحت سلطة قياصرة الدولة الرومانية الشرقية المتضائلة المضحكة، صعب على ملوك الإسلام حسم هذا النزاع بوسائل المعاهدات والمحالفات مع أولئك الولاة، فكان المسلمون لا يكادون يفرغون من أحدهم بعد إخضاعه وعقد المعاهدة معه حتى يداهمهم آخر بضري من الاعتداء فيضطرهم إلى معاقبته. ومن ثم استمر المسلمون مع عالم النصرانية بأسره في حرب عوان شرعية مبررة. ولا أدعي أن المسلمين لم يندفعوا قط إلى محاربة الشعوب المسيحية بعوامل الاعتداء والجشع. فإنه لن يدعي مثل ذلك إلا جاهل بطبيعة الإنسان وغريزة البشر، إذ أن من المحال أن ترى المسلمين بعد إيغالهم في ممالك الأعداء وتغلغلهم في صميم أحشائها وبعد ما أدركوا من تلك الفتوحات المتوالية والانتصارات المتتالية في أقصر مدة من الزمن مما لم يسبق له نظير في تاريخ العالم - وبعدما تقرر في نفوسهم من ضعف الأمم المجاورة ووهنها - يستطيعون أن يستمروا على مبدئهم الأول من التسامح والتجاوز فيبقون داخل نطاق القانون لا يتعدونه كما إني لا أنكر أنه قد كان بين أتباع محمد من الحروب ما لا تقل فظاعة عما وقع بين أتباع المسيح. ولكن هذه الحروب كانت داخلية أسرية_منبعثة عن تنافس الأسر الحاكمة المختلفة) وهذا السبب بعينه هو الذي أدى إلى ما حل ببعض الطوائف الإسلامية من الاضطهاد والضيم، فإن ما أصاب أبناء علي وفاطمة من ألأمويين راجع ولا شك إلى تلك العداوة القديمة والأحقاد المتأصلة في نفوس قريش على بني هاشم

وزعيمهم محمد كما سأبين فيما يلي: - ولا خفاء في أن ذوي المطامع من قادة المسلمين كانوا كأمثالهم من زعماء المسيحية وملوكها يتخذون الدين ذريعة إلى غزو لأمم والشعوب للاستيلاء عليها قضاء لمآربهم. ولكنا كنا نقصر أبحاثنا على تأصل روح الشرائع والوصايا التي سنها محمد وأدلى بها إلى أتباعه تراثاً كريماً مشرفاً، فإن روح الاعتداء لا يتبين لها أدنى أثر في تلك الشريعة الغراء التي أدخلت قانون حقوق الأمم في نطاق الإسلام ودائرته وما برح المسلمون وهم في اوج مجدهم وعنفوان سلطانهم يخاطبون الأمم المغلوبة بأمثال هذه الكلمات: كفوا العداء. واقصروا عن الاعتداء. وحالفونا نكن لكم من الأولياء ونمحصكم الحب والولاء. والحفاظ والوفاء. أو ادفعوا الجزية نجركم ونؤمنكم ونرعى حرمكم ونصون حريمكم ونحفظ حقوقكم. أو ادخلوا في ديننا نسوّكم بأنفسنا في كل شؤوننا وأحوالنا لا يكن ثمت فارق بينكم وبيننا - لكم مالنا وعليكم ما علينا. إن القواعد الأساسية التي عليها بنت قواعد الإسلام الحربية لتدل على تلك الحكمة والسداد والبر والتقوى التي هي أكبر من مزايا الشريعة الإسلامية وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم. ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. ولما حول المسلمون جيوشهم إلى فارس كان داعيهم إلى ذلك أحوال وظروف خاصة، فإن المناذرة وهم أسرة نصف عربية كانوا يحكمون تحت لواء المملكة الفارسية. وكانوا مع وجود العداوة السياسية بينهم وبين قياصرة الروم إلا أنهم كانوا مرتبطين بأولئك القياصرة بأواصر الدين (المسيحية) والمصلحة. ولذلك كان لأوائل حروب المسلمين مع الدولة الرومانية الشرقية تأثير على أهل الحيرة الذين هم رعية المناذرة. وكانت ولايات الحيرة تشمل بقية عظيمة من الأرض تمتد من شواطئ الفرات غرباً متجاوزة صحراء العراق إلى ما يلي مراعي العرب الغسانيين (من أرض الشام) الذين كانوا ولاة القياصرة (ملوك الدولة الشرقية الرومانية). وكانت منزلة ولاية الحيرة تحت سيادة الفرس تمائل منزلة ولاية جوديا تحت سيادة أغسطس قيصر أو طيبارنوس قيصر. وكان على الحيرة في أبان غزو المسلمين لبلاد فارس حاكم فارسي. ولكن الأكاسرة لفرط غيرتهم كانوا قد أشركوا في السلطة مع خليفة

المناذرة مرزباياً (أعني عميداً) وكان أهل هذه الناحية (أعراب الحيرة) لا يحتملون رقابة أمراء الفرس ولا سيطرتهم (كشأن ذريتهم اليوم) فجعلوا يشنون الغارات على القبائل المجاورة حتى امتد أذاهم إلى المسلمين. وكانت حكومة هؤلاء قد اشتدت وتضاعفت قوتها بإخضاع من كان ثار من قبائل العرب وارتد عقب وفاة محمد. وأصبحت دولة العرب متماسكة متدامجة مجتمعة ململمة متآزرة متضافرة تحت سلطان ملك فرد وخليفة واحد - عمر - فأصبحت ترى من العار أن يحتمل اعتدءآت ولاية حقيرة من ولايات دولة مضمحلة قد آذن عهدها بانضرام. وتداعي صرحها لانهدام. . . . فجرد خليفة المسلمين جيشاً لغزو العراق فزحف هذا الجيش على الحيرة ففر المرزبان هارباً إلى المداين عاصمة الدولة الفارسية وأذعن الأمير العربي - بلا كفاح ولا نضال - إلى جيش المسلمين تحت قيادة البطل الهمام. والأسد الضرغام. سيف الله القاضب. وشهاب الله الثاقب. خالد بن الوليد. ولما استولى المسلمون على الحيرة أصبحوا على أبواب دولة الأكاسرة. وكانت هذه الدولة قد تتابعت عليها فتن وثورات داخلية ارتكبت فيها الفظائع والجرائم. ثم أتيح لها في شخص الملك يزدجر حاكم صارم العزيمة بعيد الهمة. فاستطاع هذا الملك القادر أن يوجه إلى كتائب المسلمين الزاحفة جيشاً ململماً. وخميساً عرمرماً. وكان عمر إذ ذاك خليفة الإسلام بالمدينة. ومع تفوقه على سلفه أبي بكر في توقد العزيمة والنشاط وطموح الهمة وبعد الغاية فقد كان عنده من الحزم والاناة والروية ما آثر معه أن يجرب مع الملك يزدجر أولا طريقة المسالمة فعرض عليه بواسطة سفرائه شروط التحالف المعهودة حقناً للدماء. وتفادياً من كوارث الهيجاء. أما هذه الشروط فهي اعتناق الإسلام وهو داعية كل خير وباب كل بر والكفيل بتقويم تلك الخطط السياسية العوجاء التي هبطت بالدولة الكنعانية (الفارسية) إلى وهدة الضعة والانحطاط. ونقص تلك الضرائب الفادحة التي امتصت دماء الشعب. وتنفيذ مبادئ العدل حسب نصوص الشريعة الإسلامية التي قضت بالتسوية بين مختلف الرتب والدرجات. والمنازل والطبقات في اعتبار القانون. فأما الرضوخ لهذه الشروط وأما دفع الجزية مقابل التمتع بنعمة الحماية. فلم يكن من الملك يزدجرد إلا أنه رفض هذه الشروط المعروضة

رفضاً مقروناً بالأنفة والكبرياء. . . . والاستهانة والازدراء. . فنشب القتال بين المسلمين والفرس وحدثت وقعة القادسية ووقعة نهاوند. فأنحن المسلمون في جموع الفرس وأفنوا منهم خلقاً كثيراً ومزقوا شملهم كل ممزق. وقتل إذ ذلك كثيراً من أشراف الدولة وكهنتها ممن كان جل همهم وأقصى مناهم في استدامة دولة الفوضى والفساد. وحكومة الظلم والاستبداد. وفر الملك يزدجرد هارباً كما فعل سلفه داريوس من قبل. ورحب بنوساسان (أمة الفرس) بالمسلمين إذ رأو فيهمخ منقذيهم من دولة المنكرات والمآثم. وحكومة المجحفات والمظالم. إن تحول الشعب الفارسي بأسره إلى دين محمد وانمحاء المجوسية من تلك البلاد البتة لمما يحتج به أحياناً على نفي روح التسامح عن الدين الإسلامي ووصمه بروح التعصب والاستبداد. ولكن من تأمل الظروف التي كانت عليها أمة الفرس عند استيلاء المسلمين على بلادهم أدرك بطلان هذا القول. وذلك أن روح التعبد والتدين لم يكن لها أدنى أثر بين أمة الفرس في ذلك الحين. وكان الشعب قد تضعضع وتحطم وهبط إلى أسفل درك الانحطاط والاضمحلال. والتفكك والانحلال بتأثير أسوأ عاملين. وأخبث آفتين: فساد الطائفة الدينية (المجوسية) وانحطاطها. وفجور الهيئة الحاكمة وسوء إدارة الحكومة. أضف إلى ذلك أن بدعة المذهب المازادكياني والمذهب المانيكياني كانت قد فصمت كل عروة ورابطة في النظام الاجتماعي. فكان كل ما صنعه كسرى يزدجرد هو أنه استطاع أن يؤجل إلى حين انحلال الروابط الاجتماعية بتة وانهدام بنيان المجتمع انهداماً تاماً. فكانت النتيجة أنه بمجرد دخل المسلمين تلك البلاد مبشرين بتوطيد دعائم النظام والقانون هنالك تهافت الشعب بأسره على الإسلام ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وانضوت أمة الفرس تحت لواء الملة المحمدية إلى ألبد. فمن حقق النظر ودقق البحث عرف بطلان ما عزاه خَطأ أمثال المؤرخ موبر حيث يقول في رسالته عن الإسلام لقد كان من الضروري لبقاء الإسلام أن تتبع في نشره وسائل العنف والقهر. والغضب والقسر. وإن ما يرمي إليه من التفشي في جميع الشعوب التعميم في مشارق الأرض ومغاربها كان أمراً يتحتم تنفيذه بحد الحسام وبديهي أنه ليس من دين

ظهر في العالم إلا أتى عليه دور أصبح فيه سالكاً ملك الاغتصاب والاعتداء تبعاً لمذهب زعمائه ورؤسائه. وكذلك كان شأن الإسلام في بعض أدواره. فأما أنه يجتذب الناس إليه عنوة وقهراً أو أنه كان في أي أدوار حياته أكثر عدواناً. وأشد طغياناً من أي دين آخر، فهذا زور وباطل يقوم بتنفيذه ألف دليل من التاريخ والواقع. ما شهر الإسلام السيف ولا اعمله إلا دفاعاً عن كيانه. وذودوا بنيانه. وكذلك سيفعل ما بقي له على وجه البسيطة أثر ببصر. وشأن يذكر. ولكنا ما رأينا الإسلام قد يتداخل في شأن أي دين ذي فضيلة ولا يأخذ الناس باضطهاد ولا بتعذيب ولا يؤسس أمثال ما كان من المسيحية من محاكم التفتيش ولجان التنكيل والتمثيل. والإسلام - هداك الله - لم يخترع آلات التعذيب لمحو الاختلافات المذهبية وغل الأذهان وأسر العقول ودفن الضمائر واستئصال البدع والأهواء واصطدام جرثومة كل مروق وشذوذ - وهذا كبر خطر على حرية التفكير وشر عائق للرقي والتقدم وأعظم بلاء على المدينة. وليس أحد ينكر أن النصرانية حينما كانت تدعي أنها الدين الأقدس المعصوم من كل خطأ وزلة - كانت تسفك من الدم الطاهر الزكي. البريْ. النقي أكثر مما سفكه أي نظام آخر من دين أو حكومة منذ بدء الخليقة. فلما صارت النصرانية في انكلترا البروتستانتي ظلت طائفة البريزبارتين هنالك تلقى أشنع ضروب التعذيب السنين العديدة - حبساً في ظلمات السجون وكياً بالنيران وتقطيعاً للأوصال والأعضاء. وتمزيقاً للجوارح والأشلاء. وتنكيلاً. وتمثيلاً. أما في اسكوتلندة فكانوا يطاردون فيقتنصون كالوحوش في البراري والقفار. والانجاد والأغوار. وكانت تصطلم آذانهم من جذورها وتستل ألسمنتهم من اوصلوها. وتكوى جلودهم بالمياسم المحماة في الأفران. وتنتزع أصابعهم من رواجبها بنسافات حديدية. وتفضخ عظام أرجلهم في أحذية فولاذية. وكانت النساء تسام سوء العذاب علانية على قارعة الطريق بمشهد الجماهير الكثيفة. وكذلك طوائف الكاثوليك كانوا بعذبون ويشنقون ويلقون في النيران أحياء فتجعل أشلاؤهم حطباً لجاحمها المشبوب وقوداً. ولكن هذه الملل المختلفة والنحل المتنوعة وهذه الطوائف المتناكرة والأحزاب المتنافرة بين كاثوليك وبروتستانت وأرثودوكس وغير أرثودوكس - كانوا جميعاً يطرحون الخلاف والتناقض. وينبذون الفوو والترافض. ويتركون الخصام والمجادلة. والمشاحنة والمناضلة. ثم يترافدون

ويتساندون. ويتآزرون ويتناصرون. فيصبحوا جميعاً حزباً واحداً وعصبة فردة ضد الأقوام غير المسيحية جميعاً. ففي انكلترا كانوا يعذبون اليهود ويشنقونهم. وفي اسبانيا كانوا يحرقون المسلمين. وكان الزواج أمراً محرماً بين النصارى واليهود وبين النصارى والكفار (يعني المسلمين) وإذا وقع عد باطلاً وملغى. بل كان عند المسيحيين من أشنع المحرمات يعاقب عليه بأشنع العقوبة بل إنا لنبصر في هذا العصر الحاضر أمريكا المسيحية تلقي في النار الزنجي المسيحي إذا جرؤ على التزوج بامرأة مسيحية بيضاء. فهذا وربك أثر آخر على طغيان المسحية! ولا تزال هذه اللحظة ترى أن بقعة لم تفض فيها أنهار العلوم الحديثة وكل ناحية لم تبعث فيها مبادي، التفكير النظامي العلمي روحاً جديدة - فهنالك روح القسوة والاستبداد والعنف والتعسف لا تزال سائدة متسلطة، وهنالك البغض القديم والحقد على الإسلام لا يزال يبدو في مظاهر شتى: في حملات الصحف والجرائد وغيرها من النشرات والرسائل وفي أحاديث الأندية ومجادلات المجالس ومشاحنات المحافل وفي تضاعيف الخطب والمحاضرات العامة، فروح الاضطهاد لم تذهب إلى النصرانية ولم تنعدم ولكنها كامنة راكدة تتوقع أدنى استثارة من رجل متعصب متعسف فتنفجر انفجار البركان. وتنبجس انبجاس الطوفان. وكمين الحريق في العود مخفي ... وحقين الرحيق في العنقود والآن نتحول عن هذه الصورة المنكرة إلى عالم الإسلام. فنقول: بينما كانت المسيحية تبتلى بأفظع ضروب الاضطهاد ملتي اليهود والنسطوريين على حد سواء وقوم أسوأ العذاب أولئك الأقوام المزعوم أنهم ذرية الذين صلبوا الهم الروحاني والذين أبوا أن يقدسوا أمه العذراء - بينما كانت المسيحية تصنع هذا بهؤلاء الناس كان الإسلام يترفق بهم ويتعطف عليهم ويمنحهم نعمة رعايته وحمايته. أجل بينما كانت اوروبا المسيحية تحرق الساحرات والخوارج والزنادقة وتذبح اليهود والكفار (أعني المسلمين) كانت ملوك الإسلام تعامل رعاياهم غير المسلمين بمنتهى الرفق والتسامح - يتخذون منهم الوزراء والمستشارين والأمناء وكتمة الأسرار. وكل مأمون على الغيب مستودع للثقة مستكفي جلائل الأعمال. وكل أمر ذي بال، وكذلك كانت وظائف

الحكومة ومناصب الدولة مستباحة للمسلم وغير المسلم على السواء. ولقد أحل النبي عليه السلام زواج المسلم من اليهودية والنصرانية والزردشتيه. ولكنه لم يحلل ذلك لأسباب سياسية ظاهرة. وهذه تركيا وفارس الإسلاميتان تستند مصالحها الخارجية إلى نفر من نصارى رعيتها. وكذلك نرى أن اختلاف الدين يعد في عالم النصرانية جريمة ولكنه في نظر الإسلام لا يعد إلا شيئاً عرضياً وأمراً اتفاقياً. وقد قال المؤرج ايركيهار (مازال اختلاف الدسن في مذهب المسحيين بعد سبباً حاملاً على إقامة الحرب وليس هذا مقصوراً على عهد القرون المظلمة ولا بين ذوي التعصب الديني فقط، ومن نظر في صحف التاريخ رأى أنه منذ مذابح السكسون والفرزبانيين وغيرهما من القبائل الجرمانية باسم الدين بسيف شارلمان، ومنذ مقتل الملايين من خلق الله في المكسيك وفي بيرو، ومنذ إحراق الالآف من عباد الله الصالحين رجالاً ونساء. ومنذ مذبحة قبيلة الالبيجبنزبين ومنذ المشاهد الدموية التي وقعت في الحرب الثلاثينية الدينية - إلى فظائع الاضطهاد التي وقعت في اسكولتندة الكلفينسنية (نسبة إلى مذهب كالفين الزعيم الديني المشهور) وفي انكلترا اللوثرية (نسبة إلى مارتن لوثر وهو أشهر من أن يذكر) - تمتد سلسلة متوالية متواصلة من الظلم والعدوان والبغي والطغيان. والجهل والجمود والتعصب. لقد قيل أن دين الإسلام ذا الغبي والعدوان قد بث روحاً حربية في عالم النصرانية أثناء القرون الوسطى، فرداً على هذا نقول أن مذابح جاستنيان وحروب كلوفيس الفظيعة التي جرت باسم الدين (المسيحية) قد وقعت قبل عهد محمد بأزمان طويلة. قارن أيضاً بين سلوك النصارى الصليبيين والمسلمين. لما استولى الخليفة عمر على بيت المقدس في عام 637 بعد الميلاد سار على ظهر جواده خلال المدينة إلى جانب البطريق (سوفرونيوس) يحاوره في شأن ما بها من الآثار. فلما جاءت ساعة الصلاة أبى أن يصلي في كنيسة (البعث) حيث اتفق وجوده إذ ذاك واكنه أدى فريضة الصلاة على عتبة كنيسة (قسطنطين) واحتج لعمله هذا بقوله للبطريق (لو أني تبعت رايك لما أمنت أن بجرؤ المسلمون في مستقبل الزمان أن ينقضوا المعاهدة بحجة أنهم يحذون حذوى ويقفون أثري) فلما استولى الصليبيون على المدينة لم يمتنعوا من فلق جماجم الأطفال على الجدران وقذف الرضعاء من فوق شرفات الحصون. وشي الرجال على جمر النيران. ومن يقر بطون

الناس لاتهامهم بابتلاع الذهب والفضة. ومن احراق اليهود في معابدهم. وفي هذه المذبحة بلغ عدد القتلى 700000 نفس وقد شوهد مندوب البابا بين طائفة المعتدين يشاركهم سرورهم وطربهم. وخلاصة القول أن الإسلام جرد السيف دفاعاً عن كيانه. وشهرت المسيحية السيف لإخماد الفكر واستعباد الأذهان والضمائر. ولما اعتنق قسطنطين النصرانية أصبحت هذه الديانة سلطان الأديان في عالم الغرب فلم تكن تخشى أدنى اعتداء من أعدائها. ولكنها منذ بلغت هذه السلطة والنفوذ تخلقت بخلائق التعصب والاعتزال والاستبداد فحيثما تمكنت النصرانية استحال على أي دين آخر أن يرفع رأسه دون أن تتناوله المسيحية بالبغي والعدوان. أما المسلمون فعلى العكس من ذلك كانوا يكتفون من أرباب العقائد الأخرى بضمانات المسألة والمحاسنة ودفع الجزية مقابل الرعاية والحماية - هذا وإلا فالمساواة في الحقوق والامتيازات والمصالح - إذا قبلت الأمم المغلوبة الدخول في الإسلام.

قصة الكاس

قصة الكاس للكاتب الألماني لودويج تيك نقلها إلى العربية الكاتب الفاضل علي أفندي أدهم (الفصل الأول) كانت أجراس الظهر تدق في الكنيسة الكاتدرائية العالية، وفي الساحة المنبسطة أمام الكنيسة كان الرجال والنساء في جيئة وذهوب، ورواح وغدو وكانت العربات تكر وتسير، وكان القساوسة يحثون الخطى متجهين إلى كنائسهم المختلفة، وكان فرديناند واقفاً على السلم العريض يرمق الناس وهم قادمون للصلاة وكانت أشعة الشمس تلمع على الأحجار البيضاء، وكان الكل يبحثون عن ملجأ يرد لوافح الشمس وحرها، ويقيهم اصطكاك الهواجر وأوارها، وكان هو الوحيد الذي قضى وقتاً طويلاً معتمداً على عمود بين الأشعة الحارة اللافحة غير محتفل بها كأنه لا يحس وقداتها ولا يتأذى بلسعها لأنه كان مستغرقاً في طوائف من الذكر كانت تنتظم في سلك ذاكرته، مسترسلاً في أفكار كانت تردد في ذهنه وتبرق، وكان يعيد في نفسه صور أيامه المواضي وعهوده الخوالي. كان يوقظ في نفسه كل عزيمة راقدة، ويشب منها كل همة خابية بذلك الشعور الطريف الذي تخلل حياته وأفاض صبغته على كل رغباته وجعل أزمتها في يده يصرفها كيف شاء. في مثل هذه الساعة من العام الفائت كان واقفاً هنا ناظراً إلى النساء والفتيات المجتمعات بقلب غير مكترث ووجه متهلل مشرف، وكان ينظر الحفلة المزينة المزخرفة وكانت تلتقي بألحاظه في مكر وخلابة ألحاظ مترعة بالحنان، وكانت خدود تتورد خجلاً وألحاظ ترتد حياء، وكانت عينه المشغولة تلمح القدم الدقيقة وكبف كانت تصعد درجات السلم وكيف كان الثوب الهفهاف يميل على جوانبه فتظهر من تحت أرساغ القدم اللطيفة، وعند ذلك مرت في الساحة حسناء ريانة الشباب مرتدية سوداء، وكانت نحيفة ضامرة نبيلة الطلعة شريفة المحيا، وكانت غاضة الطرف في انكسار وفتور، وكانت تصعد السلالم غير ملتفتة إلى شيء في حسن مستملح، زكان ثوبها الحريري مفاضاً على أحسن الأشكال وأبرع الصور، ولما بلغت آخر درجات السلم رفعت رأسها بغتة فالتقى لحظها بلحظه فصب في عينه شؤبوباً من الضوء الصافي.

وقد أصمته سهام تلك النظرة ونفذت إلى صميم نفسه ثم داست قدمها أطراف الرداء. وبينما هو يسرع نحوها لم يستطع أن يمنعها من الركوع أمامه لحظة وهي في شكل يطبي نافر الهواء ويسلس جامح القلوب، وكانت كلها حياء ولم تكن روحه سوى مرآة تترآءى في صقالها الصورة التي كانت راكعة أمامه وتلك الزهرة المتفتحة التي مثلت لعينه. وفي اليوم التالي زار الكنيسة وصار هذا المكان مقدساً في عينه وقد كان في نيته مواصلة الأسفار ومتابعة الرحلات، وكان رفقاؤه ينتظرونه بصبر وقلق المنزل ولكن منذ اليوم صار هذا المكان مألف نفسه ومهوى أفكاره ومعقد أهوائه، وكانت صورتها حاضرة لعينه مصورة في قلبه، وكان يراها في أوقات كثيرة ولم تكن هي تتجنبه، وكانت لا تستطيع القرب منه أكثر من دقائق متقطعة منّهبة من خلسات الزمان وغفلات العيش لأن عائلتها الواسعة الثروة الجاه كانت تشدد الرقابة عليها وكان لها خطيب. وقد كانا يتبادلان الإقرار بالحب ولكنهما كانالا يعرفان ما يصنعان بعد ذلك لأنه كان غريباًٍ وليس في طاقته أن يقدم لمحبوبته ثروة طائلة كما كان ينتظر، وكان يشعر الآن بخصاصته ونضاضة وفره ولكنه لما كان ينظر إلى أسلوب الحياة الذي يعيشه الآن كان يخيل إليه أنه سائر إلى طريق الغنى والثروة وأنه سيفادى العيش أخضر صافياً وكان يرى وجوده قد أصبح طاهراً نقياً وقد صار قلبه مجالاً للعواطف الكريمة وكأنها كشفت له الغطاء عن محاسنها وأطلعته على فتان جمالها وبارع حسنها وصار يشعر أنه ليس بعيداً عن العبادة والدين، وكان الآن يعبر مدخل الكنيسة. وقد صار لظلال المجهول الخافقة في نواحي المعبد شعور آخر في نفسه لم يكن يخالجها من قبل في أيام لهوه وطيشه وقد هجر أصحابه ومعارفه وعاش للحب، ولما كان يجتاز الشارع الذي فيه منزلها ويراها مطلة من النافذة وكان يقضي نهاره رخيّ البال منشرح الصدر وكان يخاطبها في أغلب الأحيان عند تدجي الليل وانتشار الظلام وكانت حديقة منزلها مصاقبة لحديقة صديق له لم يكن عالماً بسره وقد مر عام على كل ذلك. كل هذه المناظر مرت صورها في ذاكرته، وكانت تلك الصورة النبيلة مارة إذ ذلك أمام بصره في الساحة الممتدة أمامه، وكانت تضيء بين الجموع كما تضئ الشمس، وكانت نغمات موسيقية لذيذة تصدح في قلبه الملب بالأشواق وبينما هي قادمة كان يعود إلى

الكنيسة وهناك قدم لها الماء المقدس وكانت أصابعها البيضاء تهتز عندما تلمس أصابعه ثم انحنت في رفق شاكرة له صنيعه فتبعها وسجد على كثب منها وكان قلبه يكاد يذوب حباً ويقطر حزناً وكان يظن أنه من جروح الاشتياق الرغيبة وصدوعه الدامية تكاد روحه تفنى في توسلات مستحرة وكانت كل كلمة من كلمات القسيس تدوي في أركان نفسه فتزداد حباً وإيماناً وكانت شفتاه ترتعشان والفتاة الحسناء تدني صليب سبحتها إلى فمها الياقوتي ولقد صار قلبه ملآن بالحب بعدما كان منه فارغاً، وزاهياً بالإيمان بعدما كان منه عاطلاً. ثم أن الراهب رفع الخبز ودق الجرس فانحنت بضراعة وخشوع، وكأن ومض البرق مس إذ ذاك مشاعره ووجداناته، ومثل له أن الصورة التي على المذبح قد دبت فيه الحياة وأن النوافذ المعتمة الملونة كأنها أضواء منتشرة من نواحي الجنة، ثم فاضت مدامعه واستبقت عبراته فخفضت من نيران قلبه، وأطفأت من وقدة أحزانه. انتهت الصلاة فقدم إليها الإناء المقدس ثم خاطبها ببعض كلمات ثم سارت عنه وتأخر هو قليلاً لكيلا يبعث على الريبة والظنون وأتبعها الطرف حتى اختفت حاشية ثوبها فأخذت بوارح الشوق تنشره وتطويه، ولواعج الحب تدنيه وتقصيه. وصار يشعر شعور الجوابة الحائر في نواحي غابة فسيحة متباعدة الأطراف وقد غابت عن نظره آخر أشعة من شعاع الشمس الغاربة ولكنه انتبه من رقدته وأحلامه واستيقظ من تأملاته وغفلانه لما لمسته يد رجل متكهل ونادته باسمه فأجفل وتراجع إلى الوراء وعرف صديقه ألبرت، المسن، الملتهب الطباع الداني الغضب والذي كان يعيش في عزلة عن الناس وكان منزله المنفرد مباحاً لألبرت وقال له بصوته الخشن الأبح هل تتذكر وعدنا؟ فقال فرديناند نعم! وهل عقدت النية على أن تفي اليوم بوعدك؟ فأجابه ألبرت نعم وفي هذه الساعة فاتبعني إن شئت. فسارا في المدينة إلى شارع قاص وهناك دخلا عمارة كبيرة وقال له ألبرت يلزم الآن أن تدخل معي إلى غرفتي المنعزلة حتى لا يكدر صفاءنا أحد. فمرا من غرف عدة ومن سلالم كثيرة وممرات حمة وكان فرديناند يظن نفسه قد حدق المنزل وأحاط بكل نواحيه خبراً وقد صار يتعجب من كثرة الغرف ومن تنظيم المنزل وتنسيقه الغريب وكان يزيد في دهشته أن يسكن مثل هذا المنزل شيخ أعزب منفرد مع

عدد قليل من الخدم ولا ترك الغرف الزائدة عن حاجته للناس. ثم فك ألبرت مزلاج إحدى القاعات وقال هنا المكان الذي أقصده فدخلا قاعة واسعة عالية مغطاة الحيطان بنسيج أحمر تتقاطع فيه خيوط ذهبية وكانت المقاعد والكراسي مغطاة بالقماش الأحمر نفسه وكان يأتي ضوء أرجواني من خلال الأستار الحمراء الحريرية الضخمة ثم قال له ألبرت انتظر قليلاً وذهب إلى غرفة أخرى فتناول فرديناند بعض الكتب فوجد فيها كتابة غير واضحة ودوائر وخطوطاً، ومن الأشياء القليلة التي استطاع قراءتها استبان له أنها كتب في الكيمياء وقد كان يعلم من قبل اشتهار ذلك المسن بصنع الذهب وكان هنا مزهر معلق على المائدة وكان محلى بلؤلؤ وأخشاب مزخرفة وعليه صور تمثل طيوراً وأهاراً بديعة الرسم غاية في الاتقان ونهاية في الدقة وكان في وسطه لؤلؤة في صورة نجمة قد تمهر فيها صانعها حتى بلغ أتم الإتقان ومنتهى الحذق وكان في وسطها دوائر مستطيلة متقاطعة مثل نوافذ الكنائس القوطية. فقال له ألبرت وهو عائد أنت تنظر إلى ذلك المزهر وتتأمله؟ إن عمره مئتا سنة وقد أحضرته معي كتذكار لسياحتي في اسبانيا ولكن دعنا من هذا وخذ مجلسنا. فجلسنا إلى جانب المائدة التي كانت مغطاة كذلك بقماش أحمر ووضع الشيخ المسن عليها شيئاً ملفوفاً بدقة ولباقة - ثم تابع القول فقال رحمة بشبابك الغض - وعدتك أخيراً بأن أنظر لك هل ستضاحك السعادة يوماً ما وهل ستفتر لك مباسم الحياة؟ وسأقوم الآن بإنجاز هذا الوعد وإن كنت تظن الموضوع هزلاً ولا يلمم بك الخوف لأن ما أحاوله سيقع بدون خطر مرعب أو عزائم مخيفة أو دعوات رهيبة تزعج مشاعرك وتقلق حواسك وأن العمل الذي أنا الآن بصدده لا يؤتي إلا من وجهتين ولا يتسور عليه الفشل إلا من ناحيتين وهما إما إنك كاذب في حبك مزور في هواك وفي هذه الحالة لا يجدي العمل ولا يثمر إذ لاشيء يكشف لي سره ويزيل الستار عن خبيئته وإما أنك تكدر سكون الوحي وتعكره بأسئلة لا فائدة منها أو بحركة سريعة عجلى أو بترك مكانك وتشبثك بالصورة فعدني الآن بأن تحافظ على نفسك سكونها وأن تلزم الهدوء. فوعده فرديناند بذلك وأخرج الربطة التي كانت فوق المائدة من لفائفها. ولقد كان داخل تلك اللفائف كأس ذهبية مصنوعة صنعاً دقيقاً جميلاً وكان حول قدمه

العريضة إكليل من الزهر يتخلله الآس وأوراق أخرى كثيرة وفواكه دقيقة الصنع بديعة الحفر يتخلله ذهب لامع وآخر معتم وكان حول منتصف الكأس منطقة ثمينة عليها صور أطفال وحيوانات وحشية صغيرة تلعب مع الأطفال أو تفر بين يديها ثم أديرت الكأس برشاقة وخفة فانحنت من أعاليها. كأنها تتهيأ لملاقاة الشفة وكان الذهب يتوهج من داخلها. فوضع ألبرت الكأس بينه وبين الشاب وأشار إليه أن يقترب ثم قال له ألا تشعر بشيء لما تغرق ألحاظك في سنا الكأس؟ فقال فرديناند نعم فإن هذا الضوء يشرق في أقصى أعماق قلبي وإني أشعر به كقبلة في صدري الحران المشتاق. فقال له ألبرت هذا حق فلا تحرك الآن عينك عنه ولكن صوبها نحوه وأثئر طرفك باستقامة إلى لمعان وبريق هذا الذهب وفكر جهدك في المرأة التي يهواها قلبك. جلس الاثنان صامتين وكلاهما يرمق باهتمام الكأس اللامعة وكان ألبرت قد بدأ قبل ذلك بدقائق يصنع إشارات ساكنة في بطء ثم ازدادت سرعتها حتى صارت جد سريعة. وكان يدير أصبعه في دائرة دائمة حول الكأس اللامعة ثم توقف وابتدأ يصنع الدورات نفسها من الناحية المقابلة، وبعد انتهاء هذا بدقائق أخذ فرديناند يظن أنه يسمع عزف موسيقى مقبلة من الخارج من شارع بعيد ولكن النغمات كانت تقترب مرتعشة في الهواء وأخيراً صار لا يخالجه الشك في أن هذه النغمات مقبلة من الكأس ثم صارت صدحاتها تزداد قوة، وكانت لها قوة تضرب في أعشار القلوب تركت قلبه رجافاً نباضاً على أنغامها المصبوبة المتدفعة وكانت الدموع تنهل من مآقيه وتتفجر في عينه وكانت يد ألبرت الحاذقة الصناع تتجه في نواح مختلفة حول فم الكأس وكان يظهر كأن شرار يتطاير من بين أصابعه وكأن ذلك الشرر كان ينقض في طرق متشعبة إلى الذهب وكان يسمع لها طنين عندما تلاقيه، وكانت النواحي اللامعة تكثر وتتتابع وكانت تتبع حركات يده إلى الأمام والخلف وكانت تنبعث منها أنوار مختلفة الألوان وكانت تزدحم وتلتئم حتى اجتمعت في خيوط غير منكسرة وقد ظهر الآن أن ألبرت كان وهو في الناحية الحمراء المعتمة يلقي شبكة غريبة فوق الذهب المتوهج لأنه كان يجر حزم الضوء إلى هذه الناحية أو تلك كما يريد وكان يليح بها نحو الكأس وكانت تطيعه وتثبت في موضعها كغطاء يروح ويجيء وبنتثر وينتظم وينفصل

ويتصل، ولما قيدهما هكذا أخذ يزيد الدائرة حول حافة الكأس وضوحاً فتباعدت المسيقى وصارت تضعف شيئاً فشيئاً حتى غابت آثارها ولما كانت النغمات تولي كانت الشبكة الملتهبة بالشرر تهتز إلى أمام والخلف كأنها تتنزى من الالم وبينا هي يزداد انفعالها إذ نبذت إلى قطع وصارت خيوط الضوء تنصب في الكأس ولما كانت هذه النقط تساقط ارتفع منها سحابة حمراء كانت تتحرك داخل نفسها في دوامات عدة كانت تظهر فوق الحافة كالرغوة ثم برزت نقطة بيضاء مسرعة من خلل الدائرة السحابية وأخذ يتكون في وسطها شبح وظهر فجأة من فتق البخار صورة عين وفوقها جاءت غدائر الشعر تلتوي ثم أخذ يتمشى احمرار رقيق من فوق الظل ومن تحته ورأى فرديناند صورة حبيبته بسامة المحيا مشرقة الوجه وعينيها الزرقاوين وخدها الأسيل الرقيق وفمها المتورد الجميل وكانت رأسها تروح وتجيء ثم أخذت تظهر أكثر جلاء فوق الرقبة الهيفاء البيضاء وانحنت أمام الشاب المأخوذ بالدهشة والسرور. وكان ألبرت مقبلاً على إقامة الدوائر حول الكأس حتى برزت الأعطاف وكانت الصورة الحسناء تستتم تركيبها وتستكمل شكلها وكانت تنحني في رشاقة مستحبة ثم أخذ يظهر الصدر الناعم المقوس وعلى النهدين البارزين وردتان لهما حمرة سرية كانت تحلو في النفوس وتعذب، ويحسن موقعها في الأرواح ويجمل وكان فرديناند يتوهم أنه يشعر بالنفَس المتردد ولما كانت تلك الصورة تنحني مائلة نحوه بل تكاد تلمسه بشفتيها الملتهبتين نسي من فرط السرور وعده وقام وانحنى على ذلك الفم الياقوتي وقبله وأراد أن يقبض بيديه على المعصمين الجملين وأن ينقذ تلك الصور الآسرة للأرواح السالبة للمهج من سجنها الذهبي فحدث ارتجاج واهتزاز في الصورة الحسناء وانفصلت الرأس عن الجسم وتبددا في خطوط كثيرة العدد وكانت وردة ملقاة في أسفل الكأس كانت تكثل حزمتها بابتسامة عذبة فتناولها فرديناد في لهفة والتياع وضمها لشفته فذبلت من حرارة أشواقه وآضت هواء. فقال له ألبرت بصوت الغاضب الحنق لقد أسأت كل الإساءة ولم تف بوعدك ونفسك فقطعها لوماً ثم لف الكأس كما كانت وأزاح الستائر وفتح نافذة دخلت منها أضواء النهار ثم خرج فرديناند كاسفاً منكسراً آسفاً حزيناً بعد أن حاول عبثاً أرضاء ألبرت وترك البرت

متقد الغضب. وانفدفع وهو في اضطراب بال وتشرد خاطر في شوارع المدينة حتى أفضى به التسيار إلى أحد أبوابها فجلس خارج الباب تحت رفرف شجرة وكانت قد أخبرته في الصباح أنها ستذهب في المساء مع أقرباء لها إلى الضواحي ولما أسكره الحب ورنحه قام وطاف نواحي الغابات وجاس خلالها وكان ذلك الشكل المأنوس لا يزال ماثلاً لعينه بينا هو يطفو ويرسب في لهب من الذهب. وكان ينتظر ظهورها لملاقاته في رونق بهائها ولكن الشبح كان ينكسر ثانياً أمام عينه وقد كان مغضباً من نفسه حنقاً عليها لأن هواه الغير المستقر وضجة مشاعره وهياج حواسه، كل أولئك قد بدد نظام الصورة وربما بدد آماله وشتت سعادته إلى الأبد. ولما صار الطريق بعد الظهر مزدحماً غاصاً بالناس انسحب إلى أعماق الغابات ولكنه كان لا يزال يرمق جانب الطريق البعيد فكانت كل عربة تمر من الباب تلمحها عينه - وأقبل الليل وكانت الشمس الغاربة تتطرح أشعتها الحمراء عندما خرجت من الباب عربة مذهبة مزخرفة وكان يلمع منها ضوء ناري في توهج المساء فانسل إلى ناحيتها وكانت عينها قد لمحته وحنت صدره اللماع الزاهي من النافذة في رفق وقد علت وجهها ابتسامة صافية، ورأى تحيتها الدقيقة وإشارتها وكان واقفاً إلى جانب العربة فانهلت عليه نظرتها ولما اكنت تتحول للذهاب سقطت الوردة التي كانت تزين صدرها عند قدمه فرفعها وقبلها وقد اختلج في نفسه أن تلك الوردة تقول له أنه لن يرى حبيبته مرة أخرى، أن غدر مسراته قد جفت فلن يعود لها تدفق ومسيل، وأن نجم سعادته قد غاله من بعد البزوغ الافول، وان زهرة حباته ستلجّ من بعد النضرة في الذيول. * * * (الفصل الثاني) كانت الخطوات السراع تمر فوق السلالم في هبوط وصعود، وكان المنزل كله في هرج وحركة وجلبة، وكان سكانه يتأهبون لحفلات الغد وكانت ربة المنزل أكثرهم فرحاً وأشدهم إقبالاً على العمل، وكانت العروس قد نفضت يدها من العمل وتراجعت إلى حجرتها لترسل الفكر في مصير حياتها، وكانت العائلة تنتظر ولدها الأكبر وزوجه - وكان ضابطاً في

الجيش - والأختين الكبيرتين وزوجيهما وكان ليوبولد الأصغر يتفنن في الخبث لإكثار الفوضى وتعميمها وإطالة الهرج والجلبة، وكان يعرقل أعمال الجميع ويفسد مساعيهم بدعوى أنه يعاونهم على تقويض الفوضى وإبطالها، وكانت أخته أجاثا التي لم تتزوج بعد تحاول عبثاً رده إلى عقله وإقناعه بأن لا يضيع شيئاً وأن يترك الآخرين في سلام، ولكن والدتها قالت دعيه وسخافاته، وخليه وحماقاته، لأن اليوم الكثير منها أو القليل لا يعد شيئاً مذكوراً، وإني أطلب إليكم أمراً واحداً وهو أنه لنزاحم الأشغال عليّ اليوم أرجو أن لا أزعج بأنباء جديدة إلا إذا كانت عن أمر كبير الأهمية خطير الشأن، فإذا كسر أحد طبقاً أو نقص معلقتان أو هم أحد الخدام الأجانب بتحطيم النوافذ فإني لا أعبأ فتيلاً بأمثال هذه الحوادث، ومن أجل ذلك أطلب إليكم بكل رجاء وأتوسل بكل وسيلة أن تريحوا آذاني اليوم من سماعها وإن شاء الله متى انتهت هذه الأيام وجلبتها نعاود النظر في أمثال هذه الحوادث ونتصفح وجوهها ونوسعها تدبراً وتفكراً. فقال له ولدها ليوبولد لله درّك يا والدتي. إن الشجاعة لتلمح من كلماتك وإن هذه الاحساسات حديرة بربة منزل مثلك وإنه إذا دقت إحدى الخادمات عنقها أو أن الطاهي أخذ منه السكر فحرق المطبخ، أو أن الساقي لشدة سروره أراق النبيذ الجيد كله على الأرض أو شربه، فإن أخبار هذه الحوادث التافهة سوف لا تصل مسمعك، ولكن إذا كان هناك زلزال سيهدم المنزل - مثل هذا الخبر يا والدتي العزيزة لا يمكن أن يحفظ سراً. فقالت والدته متى يتخلى عن هرائه وسخفه وماذا يقول أختاك عندما يجدانك في هذه الحالة من الميل إلى المرح واللعب والخبث مثلما تركاك من منذ عامين؟ فقال ليوبولد أنهما سيمتدحان ثبات أخلاقي ولا يقولان أني إنسان سريع التحول كثير التلون مثلهما أو مثل زوجيهما اللذين قد تغيرا تغيراً كبيراً في هذه السنين القصيرة. ثم دخل العروس وسأل عن عروسه فأرسلت الخادمة إليها ثم قال العروس هل ذكر لك ليوبولد طلبي يا والدتي العزيزة. فقال ليوبولد نعم قد ذكرت لها طلبك بلا شك ولكن الفوضى التي تراها حولنا لا تترك للإنسان منفسحاً ليفكر فكرة مقبولة. ثم دخلت العروس وحيت عروسها بفرح - ثم قال العروس إن الطلب الذي أبغيه هو أنك

لا تعدينها كبيرة إذا أنا أحضرت ضيفاً غريباً إلى منزلكم المزدحم الآن. فقالت له الوالدة إن المنزل على اتساعه لا يتبسر أن أجد فيه الآن غرفة أخرى. فقال ليوبولد لقد سبقتكما إلى تسوية هذه المسألة وقد أعددت المخدع المتسع له. فقالت الوالدة ولم ذلك؟ وأنها محل بغيض وقد مضت سنوات وهو مخزن للأخشاب. فقال ليوبولد ولكنها الآن مرتبة ترتيباً بديعاً، وصديقنا الذي أعددنا له لا يعير أمثال هذه الأمور التفاتاً وهو لا يبغي منا سوى حبنا ورضانا وهو أعزب يهوى الانفراد والوحدة وإنها المكان الذي يلائمه وقد صادفنا مشقة في أغرائه على المجيئ وحثه على الظهور ثانية بين رفقائه البشر. فقالت أجاثا أظنه لا صديقكم المظلم الناحية الكريه المتوسم صانع الذهب، فقال العروس هو بعينه إذا كنت تصرين على تلقيبه بذلك. فقالت أجاثا ولا تسمحي له إذن ياوالدتي بدخول منزلنا، وماذا نصنع برجل كهذا، ولقد نظرته مرة في الشارع مع ليوبولد فخامرني منه الخوف وأن ذلك المجرم المتطاول الأمد، العالي السن، لا يذهب إلى الكنيسة ولا يهوى الله، وهو فارغ القلب من حيث الإنسانية، وقد يصيبنا شر من وراء حضور مثل هذا الكافر في حفلة عرس كهذه. فقال لها ليوبولد إنك ترمينه بذلك لجهلك أمره ولأن سَحبة أنفه لا تسرك، وإنك تظنينه ساحراً من خدام الشيطان لأن ظلال الشباب قد تحسرت عنه وبهجة الصبي فارقته. فقال العروس: افسحي يا والداتي العزيزة محلاً لهذا الصديق المسن في منزلك ودعيه يقاسمنا أفراحنا ويساهمنا مسراتنا وإنه يا عزيزتي أحاثا قد قاسى كثيراً من عنت الهموم وطالت معالجته للبأساء ومصابرته للبلايا وأن همومه التوالي جعلته قليل الثقة كارهاً للناس وهو يتجنب الجماعات ويؤثر الوحدة وإن صديقيه الوحيدين هما ليويولد وأنا وغني مدين له كثيراً فعو الذي حول أميالي إلى ناحية مهذبة وهو الذي جعلني جديراً بحب جوليا. فقال ليوبولد وهو يعيرني كل كتبه ولا يبخل علي بمخطوطاته ولا يمنعني نقوده عند سماع كلمة واحدة وهو رجل سمح الأخلاق كريم النزعة ولعلك يا أختي الصغيرة عندما تنظرينه بعين الرضى تقتربين منه ويزول من نفسك الأعراض عنه والخوف من جهامة نظره. فقالت الوالدة لا أرى بأساً في إحضاره هنا وقد سمعت عنه كثيراً من ليوبولد حتى لقد

استشرفت إلى لقائه وتطلعت إلى الوقوف على أمره ولكنني لا يمكنني أن أقيمه في مكان أليق من المخدع المذكور. وفي الساعة نفسها طار إليهم خبر حضور أضياف من أفراد العائلة وهم الأختان المتزوجتان وأخوهما الضابط، وكان معهن أولادهن وكانت الوالدة تسر من رؤية حفيداتها وكان الكل قد شملهم السرور واحتواهم الفرح ثم تجاذبوا أطراف أحاديث مروحة مبهجة ثم إن العروس وليوبولد توجها بعد التحية والسلام ليبحثا عن منزل صديقهما الشيخ الهرم الحزين، وكان يقيم أكثر أيام السنة في الضواحي على بعد فرسخ من المدينة ولكن كان له أيضاً محفوف بحديقة على كثب من باب المدينة وهناك جمعتهما به قذفات الاتفاق وقد وجداه في قهوة كانا قد اتفقا معه على الالتقاء بها ولما حان المساء أتيا به بعد محادثة قصيرة إلى المنزل فتلقته الوالدة بالبشر والحفاوة ووقفت البنات بعيدات عنه وكانت أجاثا خجلة وكانت تتجنب نظراته وتتقيها وعند انتهاء أحادي ثالاستقبال دخلت العروس عليهم فلما أبصرها وضحت على وجهه آيات الفرح الشديد وإنه يحاول جهده أن يحبس قطرة من الدمع متحدرة وقد سر العروس لسروره وحدث بعد ذلك وهما واقفان عند نافذة أن قيض على يده وقال له ما قولك الآن في جوليا الجملة الحسناء؟ أليست هي ملكة من السماء؟ فقال الرجل المسن والانفعال باد عليه إني لم أنظر جمالاً كهذا الجمال الفتان البارع وإني أقول أنها قد بلغت من القسامة والحسن إلى حد أنه يمثل إلى أن عرفتها في أزمان تصرمت وهي وإن كانت غريبة عني فإن صورتها كانت لا تغب عن ناظري وكانت مرسومة أبداً في مخيلتي. فقل له الشاب إني أفهم مغزى أحاديثك فإن الشيء الصادق الحسن الجليل الفخم عندما يغمر مشاعرنا ويبهر حواسنا يكون على رغم ذلك غير مستغرب في عيوننا كأنه شيء لم نسمع به أو لم ننظره ولكن على العكس من ذلك فإن روحنا الداخلية في ساعات كهذه تصير واضحة لنا وتستيقظ في نفوسنا الذكر الراقدة وتنتبه وجداناتنا الهاجعة. ولم يشاركهم هذا الغريب في الأحاديث عند تناولهم العشاء وكانت عينه موجهة إلى العروس في لهف واهتمام حتى أربكها بنظراته وأخافها ثم قص الضابط حوادث غزوة كان من أبطالها وأفاض التاجر المتمول في ذكر التجارة وما يتهددها من الأخطار وأخذ المزارع

يتكلم عن الاصلاحات التي يزمع إدخالها في ضيعته. ولما انتهى العشاء استأذن العروس وعاد لآخر مرة إلى غرفته المنعزلة لأنه كان قد اتفق أن الزوجين يسكنان في منزل الوالدة وكانت قد أعدت الغرف لهما ثم انفرط عقد الجماعة وقاد ليوبولد الغريب إلى غرفته وقال له وهما سائران أنك تسامحنا لاضطرارنا إلى أن نقيمك في مكان بعيد أسباب الراحة فيه غير متوفرة ولكنك قد نظرت بعينك كثرة أفراد عائلتنا وبعضهم سيحضر غداً وإني أعلم أنه ليس في وسعك أن تفر من يدنا لأنك لا تدري طريقك في هذا المنزل الواسع الرحيب. ثم سارا من مرات كثيرة وترك ليوبولد صديقه بعد أن حياه ثم وضع الخادم مشعلين على المائدة وسأل الغريب إن كان يطلب مساعدته في خلع ملابسه، وتركه لما أعفاه من ذلك وخلا إذ ذاك الغريب في نفسه. فاخذ يقول لنفسه وهو يروح ويجيء في الغرفة كيف نبعت من قلبي هذه الصورة اليوم واضحة جلية ولقد نسيت الماضي البعيد وخلتها أمام عيني ولقد عدت إلى الشباب وكان صوتها في أذني حلو الرنين كما أعهده ولقد ظننت أني أستفيق من حلم ثقيل ولكن لا - لقد صحوت من رقدتي وإن تلك الدقائق اللذيذة لم تكن سوى وهم جميل. وقد كان مهتاج الخاطر مضطرب الذهن وأخذ ينظر إلى بعض الصور المعلقة على الحوائط ثم أجال نظره في الغرفة ثم قال اليوم كل ما أرى على حاله ولم يتغير شيء وإني لأذكر أني عرفت هذه الدار من أزمان ماضية بعيدة ثم أخذ يجمع تذكراته من جوانب الماضي ونواحيه ورفع بعدُ الكتب الكبيرة وكانت إحدى الأركان ولما قلب صفحاتها خر رأسه وكان معلقاً على الحائط غطاء عود ولما كشف الغطاء وجد آلة قديمة قد أخلق الزمن جدتها وبدد أوتارها فقال لا لست مخطئاً وهذه العود لها صورة خاصة وهو العود الإسباني عود صديقي الراحل من أزمان - ألبرت المسن -. وهذه كتب السحر وهذه الغرفة التي أطلعني فيها على الرؤيا المباركة وقد بهت احمرار الجدران ولكن كل ما يتعلق بتلك الساعات في نفسي واضح جلي وقد كان ذلك سبب ما تغشاني من الخوف عند قدومي إلى هنا من الممرات التي قادني فيها ليوبولد. فيالله! هاهنا على تلك المائدة ارتفعت الصورة ونمت كأنها قد سقيت وانتعشت من احمرار

الذهب وهنا ابتسمت لي تلك الصورة التي كادت ترميني بالجنون هذه الليلة وهاهنا كنت أحادث ألبرت. ثم خلع ملابسه ولم ينم إلا حُثاثاً واستيقظ عندما ضرب الفجر بعموده وفتح النافذة وكانت الحدائق والمباني كما كانت إذ برد شبابه قشيب وإذ آماله زاهية متفتحة الزهرات فقال وقد تصعدت من زفراته لقد مرت أربعون عاماً على ذلك المساء ولقد عشت في كل يوم من تلك الأيام المشرقات أطول ما بيني وبينها الآن. ثم دعته الجماعة وأمضى الصباح في أحاديث مختلفة وأخيراً دخلت العروس في زينتها وبهائها فلما لحظها أظهر عليه تأثر شديد شاهدوه الحاضرون ثم ساروا إلى الكنيسة وتمت هناك حفلة الزواج ولما عادوا إلى المنزل قال ليوبولد لأمه الآن يا أماه ماذا تقولين عند صديقنا الكهل الطيب السريرة. فقالت لقد كنت أظن صورته تبعث على القلق والخوف أكثر من ذلك وإنه رجل عواطف وشعور وقد نرى فيه صديقاً ناصح الجيب وافر الإخلاص. فقال أجاثا: أتؤملين الإخلاص في صاحب تلك النظرات الحائرة المتوقدة وهذا الموجه الممتلئ بالتجعدات وهذا الفم الأصفر الغارق وهذه الضحكة الغريبة التي ترن في سخرية واستهزاء. لا. فليدفع عنها الله شر صداقته، وإن الأرواح الشريرة إذا ظهرت في صورة إنسان فإن مما لا نزاع فيه ولا مماراة أنها تظهر في صوراته. فقالت والدتها إني أظنه أقل سناً من ذلك وأجمل وإني أنظره بالعين التي تنظرين إليه بها وفي استطاعة الإنسان أن يلحظ عليه أنه حاد الطبع فوار الإحساس وإنه قد راض نفسه على أن يحجز فيها مشاعره وأنه اعتاد أن يحزن إحساسه في صدره وقد يكون - كما يقول ليوبولد - لاقى من أبكار الخطوب الفواجع ونوازل الهموم الصوادع ما جمع في نفسه الأحزان وألف فيها الأشجان حتى فقد صراحته البسيطة التي هي في العادة نصيب السعيد وقسط المنعم. ثم دخلت بقية الجماعة فوقف مجرى الحديث ثم حضرت المائدة وجلس الغريب بين أجاثا وبين التاجر الغني ولما ابتدأ شرب النخب صاح ليوبولد قائلاً انتظروا قليلاً يا أصدقائي

المبجلون وإني سأحضر الكأس الذهبية لأديرها على الحاضرين وهم بترك مكانه ولكن والدته أشارت إليه أن يلزم محله وقالت له لا يمكنك أن تعرض موضعها لأني حفظتها في مكان خاص ثم انفلتت لإحضار الكأس. فقال التاجر: إنها خفيفة الحركة فانظر كيف تسير في رشاقة وقد أربى عمرها على الستين وأنها أبداً ضحاكة الوجه والبشر والإيناس وهي موفورة السرور في هذا اليوم خاصة لأنها ترى نفسها قد عادت إلى رونق الشباب في جوليا. فوافقه على ذلك الضيف الغريب ثم عادت السيدة وفي يدها الكأس وكانت ملآى بالنبيذ ثم أديرت عليهم فكان كل منهم يشرب نخب أعز الناس عليه وأحبهم إليه فجوليا شربت نخب زوجها وهو شرب نخب حبيبته جوليا واقتدى بهم الآخرون عندما أفضنت إليهم الكأس ولكن الوالدة أبطأت عندما وصلتها الكأس. فقال لها ولدها الضابط في الجيش في خشونة أسرعي وأديري الكأس إننا نعرف اعتقادك في خيانة الرجال ونبذهم الحفاظ وأنهم ليس فيهم أحد يستحق الحب من المرأة فقولي لنا إذن من أعز عليك؟ فنظرت إليه والدته وقد غابت عن وجهها مظاهر السرور وعلته لمحات الكدر وقالت إن ابني من أدرى الناس بطبائعي وقد ركز رأيه في، فليسامحني الحضور إذا أنا كتمت عنهم ما جال بفكري الآن ولعل ولدي يستمر صادقاً في حبه مخلصاً في هواه حتى يظهر بطلان اعتقادي وفساد فكري، ودفعت الكاس بدون شرب، وقد عرت الحضور من ذلك حيرة. فقال التاجر وهو مقبل على الغريب أنه مما يروى عنها أنها كانت لا تحب زوجها وكانت تهوى رجلاً غيره نكث عهده ولم يستمسك بموثقه ولقد كانت في صباها من ربات الحسن والملاحة. ولما وصلت الكأس إلى فرديناند أخذ يحدق فيها وقد تملكته الدهشة لأنها كانت الكأس التي أخرج منها ألبرت المسن الشيخ الجميل ثم أخذ ينظر إلى ذهبها وإلى تماوج النبيذ بها وارتعشت يده وصار يظن أنه ليس من الممتنع المستحيل أن يخرج من تلك الكأس المسحورة الصورة التي يعرفها وتجلب معها الشباب الراحل والعيش الزائل ثم قال بصوت مسموع هل الذي يلمع داخل الكأس نبيذ؟

فقال التاجر: نعم أكنت تظنه شيئاً آخر. اشرب وكن مسروراً. فسرت رعدة خوف في أضلاع الرجل وقال اسم فرانشسكافي صوت عال مرتح \ جف ووضع الكاس على فمه فرمته الوالدة بنظرة دهشة واستفسار. ثم قال فرديناند وقد استحيا من حيرته من منذ كم اشتريتم تلك الكأس؟ فقال ليوبولد إنها في المنزل من قبل مولدي وقد اشتراها والدي وسائر المنزل وأمتعته من رجل كبير السن أعزب كان دائم العزلة والصمت وكان جيرانه يظنونه ساحراً. ولم يقل الضيف إنه يعرف هذا المسن لأنه كان في حيرة وخيال. ثم رفع الطعام ونزل فرديناند منفرداً مع الوالدة وانصرف الصغار يستعدون لحفلة الرقص فقالت الوالدة اقترب مني فإن سنوات رقصنا قد تصرمت وإذا كنت لا ترى في سؤالي نكراً فاسمح لي أن أعلم منك هل أبصرت كأسنا مرة أخرى قبل اليوم وما الذي سبب لك كل هذه الأزمات النفسية والثورات الداخلية؟ فقال لها إني يا سيدتي أسألك الصفح وأطلب إليك المعذرة لما بدا من آثار انفعالات وإني من ساعة دخولي منزلك شعرت كأني غبت عن نفسي وإني في كل دقيقة أنسى أن شعوري بيضاء قد كللها المشيب وأن القلوب التي كانت تنبض بحبي قد أسكتها الموت وأن ابنتك الجميلة التي تلقى اليوم أسعد أيام حياتها تشبه حسناء عرفتها في أيامي الماضيات حيث الشباب غض نضير وماء العيش سلسال غير وإني لأحسب ذلك معجزة خارقة للعادة وأعجوبة شاذة عن المألوف وقد اختلفت إلي هذا المنزل قبل اليوم وعرفت تلك الكأس في حادثة لا تزال منقوشة في ذاكرتي وإنه ليعز على يد الأيام أن تمحوها منها وهنا أخبرها قصته وقال في ختامها إني في مساء ذاك اليوم وأنا في الحديقة نظرت صببتي آخر نظرة لما كانت تسير بها العربة وقد سقطت من صدرها وردة التقطتها ثم فقدت مني وأثبتت أنها لم ترع أمانتي ولم تحفظ عهدي وتزوجت بعد ذلك بأيام قليلة. فقالت السيدة وقد ثارت سواكن نفسها وهبت في قلبها رياح طال ركودها في صوت مرتفع ألست أنت فرديناند؟ فقال: نعم هذا اسمي يا سيدتي فقالت السيدة: أنا فرانشكا

فقاما ليتعانقا ثم تراجعا إلى الوراء وأخذ كل منهما يحدق في الآخر ويتدبره وكانا يبذلان الجهد ليجمعا من أطلال الزمن ودمن الماضي تلك الصورة التي كان يعرفها كل منهما في الآخر، ومثلما يوجد دقائق في الليالي الكدراء الممتلئة بالزوابع والأعاصير والسحب السوداء تومض فيها النجوم اللامعات خلسة وتختفي فكذلك كانت تنبعث لعينيهما الملامح الزائلة من الحواجب والعيون والشفاه وكانا كأنهما يريان شبابهما واقفاً على كثب منهما بين الدموع والبسمات فانحنى فرديناند ثم قبل يدها وتساقطت من عينيه دمعتان كبيرتان ثن تعانقا عناقاً قلبياً مخلصاً. ثم قالت: هل توفيت زوجتك؟ فقال متنهداً إني لم أتخذ زوجة لي طول حياتي. فقال وهي تضرب كفيها إذن أنا التي خنت عهدك - ولكن لا إني لم أكن خائنة فإني عند عودتي من الضواحي حيث أمضيت شهرين سمعت من كل أصدقائك وأصدقائي أنك رجعت إلى وطنك وتزوجت هناك وأطلعوني على خطابات منك تؤكد ذلك وتدعمه وكانوا يستفيدون من يأسي وحيرتي وغضبي ولهذا رضيت الزواج من آخر وكان يستحق مني ذلك ولكن أفكاري وقلبي كانا دائماً في حوزتك. فقال فرديناند: إني لم أترك هذا البلد ولكني سمعت بعد مضي زمن أنك تزوجت ولقد أرادوا أن يفرقوا بيننا وقد تم لهم ذلك ولقد صرت والدة سعيدة وإني سأعيش في الماضي وسأحب أولادك كأنهم أولادي ولكن ألا ترين شيئاً يبعث على الغرابة في أننا لم نلتق مرة قبل ذلك. فقالت: - لقد كان خروجي من المنزل نادراً وزوجي تغير اسمه بعد أن مضى على الزواج وقت قصير لميراث استحقه وبذلك كنت لا تستطيع أن تعرف أو أن يداخلك الظن من قربنا منك. فقال فرديناند: - لقد كنت أحاشى الناس وعشت للانفراد والوحدة. وقد كان ليوبولد الشخص الوحيد الذي اجتلب انتباهي وحبب إلي الخروج إلى رفقائي بني الإنسان وإنه يا صديقتي المحبوبة كحلم مخيف مرعب أن نظن كيف افترقنا وكيف التقينا ثانيا.

ولما دخل الصغار كان يبكيان وكانا في تأثر شديد ولم يقل أحدهما عما حدث فلقد كان السر جليلاً مقدساً وبعد ذلك كان الرجل الهرم صديق العائلة ولقد التقيا في شكل غريب ليرتبطا رابطة لانفصم عروتها ولا تحل عقدتها ولم يفرق بينهما إلا محتوم الموت. تمت القصة

خواطر ليوباردي

خواطر ليوباردي الكونت جياكو موليو باردي أكبر كتاب إيطاليا وشعرائها بعد دانتي. فضله أرنولد - النقادة الانجليزي العظيم - على اللورد بيرون من حيث الكتابة والأسلوب وغزارة الاطلاع والقدرة الفنية، وفضله أيضاً على وردزورث من حيث القوة الشعرية. وقد عاش ليوباردي في أوائل القرن الماضي عيشة معذبة يلاقي الأمرين من اعتلال صحته وسوء معاملة أبيه إياه. ومات وهو في الثامنة والثلاثين، وقد خلف كتباً كثيرة وأشعاراً طويلة ممتلئة بالحزن والكآبة والسخط والألم، ناظراً إلى الحياة نظرة سوداء، غير واجد في المجتمع إلا البؤس والشقاء، وتعد خواطره هذه من أبدع ما كتبه الكتاب من عهد باسكال وبيكون إلى اليوم. - 1 - كان الفيلسوف شيلو الذي يعد أحد حكماء اليونان السبعة الذي يقول أنه ينبغي لمن أوتوا بسطة في الجسم أن يكونوا ذوي شمائل عذبة وأخلاق لبينة رقيقة كي يوحوا إلى الناس عاطفة الحب لهم لا الخوف منهم. وكذلك أقول أنه ينبغي لمن أوتوا الأذهان العظيمة أو المواهب الكبيرة أن يعملوا دائماً أبداً على التلطف وحسن المعاشرة، إن لم أقل التواضع الحقيقي لمن حولهم. ينبغي أن يتذكروا عظيم الجريمة التي يجب أن يكفروا عنها، وعناد العدو الذي يجب عليهم إرضاؤه - فالأول تفوقهم، والثاني حسد الناس لهم! وكذلك كان يعتقد القدماء إذا ما رأوا أنفسهم في أوج الرفاهة والنعيم، أنه ينبغي لهم إرضاء آلهتم، فكانوا يقدمون على التضحية وامتهان النفس وتعذيبها تكفيراً عن شيء قلما يكفرون عنه، وهو التنعم والسعادة. - 2 - إن المجتمع مهما تعددت طبقاته يرجع إلى قسمين: نفر قوي يتحكم وآخر يشقى من جراء هذا الحكم. وما من قانون أو قوة تستطيع أن تمنع هذه الظاهرة. بل إن الناس مهما تقدمت المدنية وارتقت الفلسفة لا بد منقسمون إلى هاتين الطبقتين. فعلى الذين يستطيعون الخيرة أن يختاروا ما يشاؤون وإن كانت الحقيقة أن الجميع لا يملكون هذا الاختيار في جميع الأوقات. - 3 -

ليس هناك حرفة كحرفة الأدب ناضبة المعين غير مجدية محترفها شيا. ولكن للتدليس في هذا العالم قوة تستطيع أن تجعل حتى حرفة الأدب منتجة مثمرة. إن الخداع هو روح الإنسانية وعنصرها الحي القوي. وما من موهبة أو فضل لا تسعين به بقادرة على أن تؤثر في قلوب الناس تأثيراً صحيحاً أو كاملاً. وإنك لا تكاد تختبر رجلين أحدهما ذو مواهب صادقة في أي عمل من أعمال الحياة والآخر ذو مواهب داعية، إلى وجدت هذا أكثر نجاحاً وظفر في الحياة من الأول. إن الخداع على تعدد أنواعه يستطيع أن يسود في أحيان كثيرة دون الاستعانة بالحق، ولكن الحق الخالص غير المشوب با لخداع لا يكون إلا قليل الغناء والأثر. ولا أعتقد أن هذا نتيجة طبع سيء فطرت عليه الإنسانية ولكنني أعتقد أنه ناتج من أن الحقيقة الخالصة الناصعة تكون غالباً ممتقعة غير جذابة. فلا بد للتأثير في الناس من أن نمزجها بالألوان ونكملها بالمبالغة والتفاخر وبذلك نستطيع أن نلقي في أذهانهم صوراً أسمى وأكثر من الحقيقة الواقعة. بل إن الطبيعة نفسها تعمل على خديعة الإنسان، فهي تمنحه الخيال والأوهام ولن يطيب له العيش فيها بل لن يطيقه ويسيغه بدونهما. - 4 - يعتقد بعض الشباب أنهم ينالون استحسان غيرهم إذا ما تكلفوا هيئة الكئيب الحزين، قد تكون الكآبة المتكلفة مقبولة إلى قدر معلوم ولا سيما من النساء. ولكنما إذا كانت كآبة صادقة حقيقية فإن الناس لا يطيقونها ويفرون منها، ولا شيء أبهج وأدنى إلى الفوز في المجتمعات من طلاقة الوجه وبشاشة النفس وابتهاج الأسارير. فالحقيقة أن الناس إذا فرغوا من أحاديثهم كانوا - مع احترامي الشديد لأولئك الشبان - أميل إلى الضحك والجذل منهم إلى البكاء والتقطب. - 5 - إن جهل الناس بالناس هو ذلك الذي لم يتعلم بعد أن أفرغ الكلمات وأخلاها من المعاني وأبعدها عن الصدق هي تلك المنح والوعود التي يدفعها الإشفاق والعطف أو حب المساعدة وإسداء الخير، مهما كان المصدر الذي قيلت منه. وكلما ظهرت هذه الكلمات بمظهر الأريحية والرغبة الصادقة وتكررت بحماسة وتأكيد كانت أدعى إلى قلة الثقة بها

والارتياب في وفائها. فكن حذراً غير متسرع في قبول كل طلب ملح في خدمتك ومنفعتك ولو كان مصحوباً بأحر مظاهر المروءة والعطف. فإنك لو ركنت إلى هذا المظهر من الأريحية أو خدعت بهذا الإلحاح المتكرر وأقضيت بحاجتك لمن يريد أن يوليك الجميل لم تلبث أن تري وجهه امتقع وراح يغير في الحديث ويجيبك إجابات متقطع ويتركك أخيراً في حال غامضة مبهمة، ويكون حظك أسعد الحظوظ لو استطعت أن تقف له على أثر بعد هذه لمقابلة أو أن تسمع عنه شيئاً زمناً طويلاً. ذلك لأن الناس لا يرغبون كثيراً في إسداء الصنيعة إلى غيرهم، لأن إسداءها يورثهم مشقة وتعباً ولأن مصائب أصدقاؤنا لا بد تاركة أثر من الرضى في نفوسنا وإنما يرغب الناس حقيقة في الاشتهار بالمروءة والعطف واكتساب شكر الآخرين ودلهم عليهم بالغنى وعزة الثراء إذ يعرضوا عليهم المساعدة والجود. وفي أغلب الأحيان لا يكون الناس راضين عن العطاء ولكنهم راضون أن يعرضوا هذا العطاء، وكلما ازددت رفضاً وإباءاً ازدادوا إلحافاً ورجاء ليغنموا نتيجتين: جرح كبريائك ورجوعهم بعد رفضك غير ملزمين بما وعدوا. وبهذه الطريقة تراهم يتظاهرون بشجاعة غريبة بالاهتمام بالمسألة والرغبة في إنجازها دون أن يخافوا فضيحة أمرهم مؤملين أن يكسبوا من وراء ذلك اعترافات بالجميل دون أن يخسروا شيئاً، حتى إذا ما ظهرت من ناحيتك بادرة الإجابة إلى مطلبهم وقبول منحنهم ولوا منك فراراً!! - 6 - لقد صدق لا. بروبير إذ قال أنه لا سهل على الكتاب السخيف أن يشتهر ويعظم أمره إذا كان مؤلفه مشهوراً من أن يشتهر كاتب وضع كتباً قيماً نفيساً. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أن خير طريق لاكتساب الشهرة ربما كانت في أن يعلن الإنسان عن نفسه بثقة ومثابرة ويؤكد بكل الوسائل الممكنة أنه قد اكتسب تلك الشهرة فعلاً. - 7 - ظن الإنسان الذي يصرح بمتاعبه وأحواله وبفتح قلب همومه وأحزانه مهما كانت منزلة أقواله من الصدق، إنما يهدم في الوقت نفسه صرح منزلته ومقامه في قلي أعز أصدقائه عليه. ولكن ينبغي للإنسان أن يتماسك لدى الخطوب ويثبت عند صدمات النوائب ويحتفظ

بكرامته الشخصية وبذلك يرغم الآخرين على احترامه ويحملهم على الإعجاب بمتانة خلقه وعظمة نفسه. فإجلال الشخص نفسه إن لم يبدأ أولاً في قلب الإنسان فإنه لم يخلق في قلوب الآخرين. وإذا لم يكن الإنسان ذا شعور خاص بكرامة نفسه فإنه يجد هذه لكرامة في مكان آخر. - 8 - إن الناس يضحكون غالباً مما يعجبون به كالثعلب الذي يحكم بحموضة العنب الذي يوده ولا يقدر عليه! فالناس أشوق ما يكون إلى الظفر بالحب العميق الصادق مع ما فيه من حزن وفرح وهم في الوقت عينه يحملون عليه ويوسعونه ذماً. وكذلك العاطفة الشريفة أو العمل العظيم الحليق بالإعجاب والإجلال يكتم الناس شعورهم نحوه لا يعترفون به. ولا سيما إذا كان من استحق منهم هذا الإعجاب هو من أصحابهم وطبقتهم فيرون من لهوان على أنفسهم أن يقروا له بذلك الإعجاب والاحترام ويعمدون إلا السخر منه والتحقير به. وهذا العمل مطرد في حياة الإنسانية في كل يوم حتى أصبح من الضروري للإنسان أن يعمل على إخفاء كل مكرمة ونبل أكثر مما يعمل على إخفاء هفوة أو رذيلة. ذلك لأن الرذيلة على ما يظهر هي مبدأ السواد لأعظم من الناس فهم يغفرونها ويصفحون عنها على حين أن المكرمات والعظائم أعمال غير مألوفة ولا شائعة فيقابلونها بالشك والارتياب. - 9 - ليس شيء أدعى إلى السخرية والغرابة كتعمد الناس أن يظهروا على غير حقيقتهم. فالفقير والجاهل والقروي والمريض والعجوز كل أولئك لن يكونوا أبداً موضعاً للغمز والاستهزاء والسخرية ما داموا لا يحاولون الظهور بغير ما هم عليه. ولكن العجوز إذا تصابى والفقير إذا ادعى الغنى والريفي إذا تحضر والمريض إذا تظاهر بالصحة والجاهل إذا ادعى العلم فإنهم يصبحون جميعاً خليقين بالسخرية والاستهزاء ومبعثاً للفكاهة والضحك. من ذلك يتضح لنا أنه ليست معايبنا ونقائصنا هي سبب الضحك والسخرية ولكنه تكلف إخفائها والتظاهر بخلافها. - 10 - إن الذين لا يغامرون بأنفسهم في المجتمعات والمجالس فلما يكونون من أهل الوحشة

وكارهي الإنسانية. فإن المبغض الحقيقي للبشرية إنما تعثر عليه في مزدحم المجتمعات والمجالس لا في مجاهل الأرض وفلواتها. لأنه ليس هي الفلسفة والتفكير بل التجاريب والمشاهدات التي تولد في قلب الإنسان بغض البشر وكراهة النوع الإنساني - ذلك وأن ما من إنسان كاره لأخيه الإنسان انصرف إلى الوحشة والعزلة والانفراد إلا خبت في قلبه شعلة ذلك البغض وانطفأت تلك الحفيظة. - 11 - قد مرت بالإنسانية عصور لم تحدث أثراً في عالم الفنون والآداب بل ولا في غيره من عوالم التهذيب والعرفان ولكنها كانت مع ذلك سبباً في إشعال نار الثورة في كل شيء في العصور التي تلتها. - 12 - إن النوابغ وأصحاب العقول الكبيرة قد يصبحون على مر الزمن غير مهتمين ولا مكترثين بالشهرة والمديح والهتاف الذي يعلو من أجلهم. ولكنهم لن يغضوا الطرف أبداً عن النقد والطعن الذي يوجه إليهم. فالحقيقة أن كل الإجلال والإعظام والثناء الذي يظفر به أولئك العظماء لا يجزيهم شيئاً عن الألم الشديد الذي يحسونه من نقد قارص أو كلمة واحدة لاذعة ربما رصدت من إنسان لا يقام له وزن ولا رأي. وعلى العكس من ذلك ترى الرجال المغمورين والخاملين الذين ألفوا النقد وعدم الاكتراث لا يتألمون ولا يتعذبون، وتراهم فرحين مبتهجين بالثناء الذي لم يألفوه إذا جادت عليه الأيام بشيء منه. - 13 - ليس الموت شراً لأنه ينقذ الإنسان من كل الشرور. وإن في الحرمان بعده من تناعم الحياة ولذائذها لاطفاء لرغباتنا إليها. ولكن الشيخوخة هي الشر المحض إنها بينما تحرم الإنسان من لذاته لا تطفئ رغباته، وتورثه الآلام والأحزان. لكن الناس يخشون الموت ويطلبون الشيخوخة.

شهداؤنا الاثنا عشر

شهداؤنا الاثنا عشر خلدوا تاريخهم بين السير ... وارفعوهم فوق أقدار البشر واقطعو من جلدنا أكفانهم ... واجعلوا أهدابنا خيط الإبر واغسلوا من دمعنا أجسادهم ... وادفنوهم بين سمعي والبصر في هوى النيل هوت أقمارنا ... من سما (دُجنا) وأرداها الخطر فإذا مصر في ظلام حالك ... تستغيث الله من وقع الخبر مادت الهرام حزناً وأسىً ... وأبو الهول من الهول زأر لا ترى في الناس إلا باكياً ... مذ بكى العلم عليهم وانفطر * * * مجّدوا تلك الضحايا واقرأوا ... آية الإخلاص في تلك السور لم تكن هجرتهم من أرضهم ... عن جفاء بيننا أو عن بطر إنما هجرتهم للعلم كي ... ينهلوا من ورده حيث انهمر فإذا الموت (بدجنا) رابض ... في انتظار الركب إذا وفى ومر فدهاهم فوق جسر ومضى ... حاملاً أراوحهم الاثنى عشر * * * يا بقايا همة ناهضة ... سوف يبقى بيننا هذا الأثر كلما مر عليكم ناشئ ... جدد العهد وحيى وادكر مصر أولى بالضحايا إنها ... أمهم أحنى عليهم وأبر جشموا أنفسهم من أجلها ... غربة كانت عذاباً للأسر فّا ما استشهدوا في حبها ... كان في أقصائهم إحدى الكبر بل هنا في مصر في أحضانها ... ينبغي أن ينعموا بالمستقر وبإيطاليا ارفعوا ما شئتم ... أثراً بالقرب من ذاك الممر * * * أيها المصري لا تهلك أسىً ... كل شيء في كتاب مستطر حكمة بالغة بل عبرة ... لو وعاها المرء منا لاعتبر كم غريب آب من أسفاره ... بعد ما أمسى شهيداً وانقبر

ومقيم هب من رقدته ... بسلم الروح على متن السفر في التوابيت شباب ناهض ... رلزل القطرين لما أن عثر في التوابيت رجال صمدوا ... في قتال الدهر لما أن غدر في التوابيت كرام أنفقوا ... عمرهم في رفعة النيل لأعز في التوابيت هنا أكبادنا ... أودعوها في الحشا لا في الحشر في التوابيت وما أدراكم ... ما التوابيت ضحايا المؤتمر * * * يا شباب النيل سر نحو العلا ... رافع الرأس وجده ما اندثر وأين كالأهرام مجداً خالداً ... ليس تلبيه الليالي والغير أمة مظلومة من خلقكم ... لا ترى ذون الورى أن تحتقر * * * أمة النيل تأسي واصبري ... واشتري صفو الليالي بالكدر واحمدي الله على أحكامه ... يرحم الموتى ويجز من صبر محمد نجيب الفرابلي المحامي

تفاريق

تفاريق النساء في انكلترا دارت رحى الحرب الأوربية، واستغرقت نيرانها خمسة أعوم طوال، حصدت فيها ملايين النفوس البريئة من الطرفين، إذ كانت الأمم المتمدينة تقذف في سعيرها بأقوى رجالها وخيرة شبابها بلا حساب ولا مبالاة. وما كادت الحرب تضع أوزارها حتى رأى العالم من ذيولها أهوالاً ومشاكل - دولية واقتصادية واجتماعية - لا تقل في فظاعتها وتعقدها عن أهوال الحرب نفسها ومشاكلها. ومن أكبر تلك المعضلات التي تشغل الآن بال المفكرين وأولياء الأمور في البلاد الأوروبية عامة وانجلترة خاصة هي مسألة آلاف الآلاف من النساء اللاتي أصبحن ولا أمل لهن في الزواج لقلة الرجال، والقوم في حيرة حيال ذلك، وإليك بعض ما جاء في إحدى المجلات الانجليزية بهذا الصدد، قال الكاتب: - بينما كان مندوب إحدى الجرائد ماراً في شارع أستراند، خطر له أن يلاحظ نسبة الرجال إلى النساء، فوجد في خلال ربع ساعة أن قد مر به 230 امرأة، 58 رجلاً ولقي كذلك في عربة من عربات الترام 22 امرأة وستة رجال فقط. ومعلوم أن النساء عندنا يربون قبل الحرب على الرجال بمليون امرأة أما الآن فقد صار النساء يزدن على الرجال بمليوني امرأة. لقد جاهر الكثير منا يعني الانجليز بأن ليس ثم أي دواء لتلك الحال. ولكن لماذا؟ إن هنالك ممالك كثيرة هي في حاجة إلى النساء - خصوصاً في مستعمراتنا - فأستراليا مثلاً تحتاج إلى 200 ألف امرأة حتى يتساوى عدد الفريقين وكندا إلى 130 ألف امرأة لنفس السبب، كما أن جزائر (فوكلاند) تحتوي على 1200 رجل و 80 امرأة فقط وفي ترينيدار 136 ألف رجل و 119 ألف امرأة. أجل إني أرى أن المهاجرة إلى المستعمرات هي أفضل الوسائل وأمثلها لمعالجة حالتنا الحاضرة. . . . . * * * معلومات صغيرة

- لو أذيب جميع ما في العالم من ذهب لأمكن احتواؤه في غرفة طولها سبعة أمتار وعرضها كذلك وارتفاعها خمسة أمتار. - كان للمدينة تأثير عظيم في أعمار الخيل ففي أيام وحشيتها الأولى كان الحصان يعيش ما بين 36 إلى 40 سنة. أما الآن فالجواد الذي يبلغ الخامسة والعشرين يعد مسنّاً. - إذا عاشت الدجاجة عيشة صحية، فإنها تضع من 300 إلى 500 بيضة في حياتها. وأكثر ما تبيض الدجاجة في سنتها الثانية. - يعرف الآن نحو2000 نوع من أنواع النمل. . . . والنملة تستطيع أن تسير بحمل يزن أضعاف وزنها هي، وليس لمخلوق آخر هذه القوة! - أول من تعلم أن يسوق سيارته بنفسه هو ملك إيطاليا - لا تسنح الفرص الكبيرة إلا لمن ينتفع بالفرص الصغيرة.

عجز الذهن البشري

عجز الذهن البشري عن إدراك خفايا الأشياء للعلامة الفيلسوف الأمريكي البروفيسير وليم جيمس إن أحكامنا عن قيم الأشياء وأقدارها - صغيرة كانت أم كبيرة - تتوقف على ما تثيره هذه الأشياء في نفوسنا من الإحساسات والعواطف، فنحن إذا وصفنا شيئاً بالنفاسة بناء على الفكرة التي نكونها عنه فما ذلك إلا لأن هذه الفكرة ذاتها تكون مقرونة بإحساس خاص. ومعنى هذا لو أننا لو كنا بفطرتنا عديمي الإحساسات وكانت الفكرة هي كل ما يمكن أنة يقوم بنفوسنا من أشياء هذا الوجود. إذن لفقدنا كل ما نسميه شهوات ومكاره وأصبحنا عاجزين عن أي شيء من الأشياء هذا أنفس وأهم من ذلك. وبعد فإن عجز الذهن البشري عن إدراك خفايا الأشياء الذي هو موضوع مقالنا هذا هو عجزنا جميعاً عن إدراك ما يقوم بنفس كل إنسان سوانا من والاحساسات العواطف المتسببة عن أشياء هذا الوجود. نحن أشخاص عمليون لكل واحد منا وظائف وواجبات محدودة. كل منا مدفوع بالفطرة إلى أن يشعر أتم الشعور بأهمية واجباته وبخطورة الأحوال والظروف التي تستدعي هذه الواجبات. ولكن هذا الشعور يكون في كل واحد منا سراً حيوياً مكنوناً مكتوماً في خزائن صدورنا لا يمكننا إيقاف الغير على حقيقة؟؟؟؟ ومقجاره، إذ كنا عبثاً نحاول من الغير أن يشاركونا في هذا الشعور أو ينظروا إليه بالعين التي بها إليه ننظر أو يزنوه بالميزان الذي به نزنه. وذلك لأن هؤلاء الغير مشغولون عنا تمام الانشغال بأسرارهم الحيوية وقد بلغ من فرط اهتمامهم بخفايا وجداناتهم ومكنونات صدورهم ما لا يستطيعون معه اهتماماً بخبايا عواطفنا ودقائق أسرارنا، ومن ثم ما تراه من خطأ أحكامنا حين ترانا ندعي القدرة التامة على تكييف أحوال الغير واحساساتهم وتقدير مرمى أغراضهم وغاياتهم. وقيم مشتهايتهم ومبتغياتهم. ولنضرب لك مثلاً على ذلك شأننا مع كلابنا. ألا ترى أنه ما يربطنا بهذه المخلوقات من عروة تلك المودة التي هي أوثق من معظم ما يرى في هذا العالم من الصلات والروابط - فنحن وهم أعني الكلاب في ماوراء هذه الصلة الودية العاطفية - كلانا غافل تمام الغفلة

عن كل ما يحب الحياة إلى الآخر يجعل لها قيمة ووزناً. فأما نحن فغافلون عن فرط لذة العظام تحت الأسوار والجدران وعن روائح الأشجار وعمدان المصابيح وأما هم أعني الكلاب فغافلون عن ملاذ الكتب والقراءة والمباحث الفلسفية والفنون الجميلة. فأنت إذا جلست مكباً على قراءة أمتع ما صادفت من الروايات والقصص ترى ماذا يكون رأى كلبك في سلوكك نحوه إذ ذاك وما ترى حكمة على خطتك معه وموقفك إزاءه إما أنه مع ملية إليك وعطفه عليك فإن منه حالتك إذ ذاك ومعنى سلوكك يكون مما يقع وراء دائرة فهمه ودون نطاق إدراكه. ما معنى جلوسك كالتمثال أو الصنم فاقد الحس والشعور معدوم الحركة في حين كان الواجب عليك والمتوقع منك أن تخرج به للتنزه في الغابات لملاعبته ومداعبته تقذف العصى والعيدان في الماء ثم تأمره بالتقاطها وهلم جرّا! ما معنى هذا المرض العجيب الذي ينتابك كل يوم في ساعة مخصوصة - مرض تناول الأشياء وإمساكها بين يديك وإدامة النظر إليها الساعات المتوالية وأنت ثناء ذلك فاقد الحركة مسلوب الحس قد زال عنك كل دليل على أنك حي ذو روح. إن همج أفريقيا كانوا أقرب إلى الحقيقة من هذا الكلب الذي لا يفهم أدنى شيء من حقيقة حال صاحبه وهو مكب على القراءة، حين ازدحموا متعجبين حول أحد سياح الأمريكان وقد ظفر بعدد من جريدة الأميركان أدفر تيراز وأكب عليها يلتهم سطورها. وذلك أنه ما كاد يفرغ منها حتى أقبل عليه أولئك الهمج المتوحشون فأخذوا يسامونه في هذا العدد من الجريدة المذكورة وعرضوا عليه ثمناً غالياً جداً في ذلك الشيء الغريب المجهول. فلما سألهم فيم ولوعهم بهذا الشيء ولم يطلبونه قالوا إنما نريده دواء للهين إذ م يستطيعوا أن يؤولوا إلا على هذا الوجه معنى ذلك الحمام البصري، البطيء الذي أعطاه ذلك الأمريكي لعينه على سطح ذلك الشيء (أي على صفحات الجريدة). والواقع أن كل عمل من أعمال الحياة يبعث في الإنسان فرط الاشتياق إلى مزاولته وشدة الرغبة في إنجازه وإدراك غايته وكل أسلوب من العيشة يكون مشفوعاً بتوقد الحركة وجيشان الهمة وتحفز العزيمة وبالولوع والتطلع والتشوق والتلهف فهذا هو الذي يكون ذا أهمية وقيمة - وهذا التطلع والولوع والتلهف قد يكون متصلاً بالحواس أو بالنشاط العضلي والعصبي أو بالمخيلة أو بمملكة التأمل والتفكر - وعلى كل حال فهو حيثما يوجد

يكون مقروناً باللذة والمتاع - وليس الا معه تكون شهوة الحياة وتوقد جمرتهما ولآلاء بهجتها. وتدفق موجها. وتدفع لجها. وهنا الأهمية والخطورة والقيمة والنفاسة. ولقد أوضح الكاتب الشهير روبرت لويز ستيفنسون هذا المعنى بأبدع مثل وأروعه في مقالة أعتقد حقاً أنها جديرة بالخلود جزالة معنى وسداد حكمة ورشاقة معرض وحسن سلوك قال هذا الكاتب البديع: في نهاية شهر سبتمبر حينما يدنو ميعاد عودة الطلبة إلى المدارس ويأخذ الليل في اشتداد الحلك كنا نخرج من بيوتنا ليلاً حاملين تلك المصابيح الصفيحية المسماة (عين الثور) - وكانت هذه المصابيح من الشيوع والاشتهار بحيث أصبحت من أهم متاجر الجزائر البريطانية. ففي ذلك الأوان كانت حوانيت التجار تعرض في نوافذها تلك المصابيح. فكنا نشتريها ونشدها في وسطنا معقودة في مناطقنا فكانت تفوح منها رائحة الصفيح المحرق. وكان ينبعث لها لهب لا يصلح لإضاءة وأنما يصلح لإحراق أصابعنا. وكان لا فائدة له وكانت لذتها خيالية فقط. غير أن الغلام الذي يحمل مثل هذا المصباح كان يحسب أنه ملك الدنيا بحذافيرها. فليس وراء ما قد بلغه غاية. وكأننا في هذا كنا ننتظر من طرف خفي إلى عادة الأجيال الغابرة وإلى ما كنا نقرؤه في الأقاصيص عن تلك العصور العجيبة - ولكن مهما يكن من مصدر هذه الفكرة فلقد كان متاعها عظيماً. وكان المصباح الصفيحي عين الثور أقصى أماني الغلام وغاية مأمولة. وألذ ما في هذه اللذة أن الغلام كان إذا ركب المصباح في منطقته زر فوقه معطفه (البلطو) فخبأه تحته وحجب سناه وكتم شعاعه ثم انطلق في سبيله في الظلام الدامس فإذا التقى اثنان من أولئك الغلمان نادى الواحد الآخر أمعك مصباحك فيجيب الثاني أجل وفيها الكفاية. وذلك أنه لما كانت القاعدة في هذا الشأن أن يحجب الغلام نوره الباهر. وكوكبه الزاهر. كان لا يمكنك أن تعرف حامل المصباح إلا برائحته فكأنه في ذلك قطة الزبد لا تعرف إلا بعبق رياها. وأرج شذاها. فكان الغلام يعتسف الدجى مزرور الساء. مضموم الرداء. لا يتسرب شعاع من سناه. ولا يفلت بريق من ضياه ولا يتسلل من نوره الوهاج أدنى بصيص يسدد خطاه. ويضيء مراه. - فكأنه وسط الظلام عمود من الظلام. فاللذة كلها والطرب والنعيم في هذا وفي اعتقادك في أعماق ذهنك الأبله المعتوه أنك تحمل تحت

كسائك مصباح عين الثور وفي فرط جذلك وطربك لهذا الاعتقاد. لقد جاء في حكمة المتقدمين أن كل طفل شاعر وأن كل رجل مهما بلغ من جموده وجفائه ومن غلظته وقسوته فإنه يحمل في صميم قلبه قبر ذلك الشاعر الذي كأنه أيام هو صبي لاعب. على أنه يصح لنا القول بأنه لا يزال كل رجل مهما غلظت طباعه وجفت أخلاقه يضم بين جوانجه ويحمل في أعماق قلبه شاعراً حياً يعيش ويجيش ويلهو ويلعب تحت ظاهر الجامد القاسي - وهذا الشاعر الحي المتوقد في قلبه هو متعة حياته ولذة عيشه ومصدر ذاته ومبعث مسراته - أو هو كما يقال بهارى هذه الحياة وتوابلها وهو ترياقها وأكسيرها. وهو أريجها وعبيرها. وهو مجمرتها الفواحة بالطيب والشذا، التفاحة بالمسك والعنبر. ولقد أرى الناس يغفلون أو يتغافلون عما لا يبرح الإنسان يحمله في فؤاده حتى عهد المشيب والشيوخة - بل حتى يواري في ثرى رمسه من معاني الطفولة وخرافات الخيال وأخاديع المني وزخارف الأوهام والأحلام. فأنت إذا نظرت إلى حياته من الظاهر لم تلقها سوى كوخاً حقيراً من الطوب والآحر. فإذا استبطنتها وأفضيت إلى جوفها فلعلك واجد في صميمها غرفة ذهبية يرتع فيها الرجل ويمرح ويختال في برد ملفوف من نسيج أوهامه. ويرفل في وشي منمنم من غزل خرافاته وأحلامه. ويسحب مثل ذيل الطاووس من صنعة أباطيله. وينشر مثل أجنحة الملائكة من حوك أخاديعه وأضاليله. وفيها ينعم ويلهو. ويصدح ويشدو. ويجذل ويطرب. ويزهي ويعجب. ويمتع نفسه خيالاً بكل ما حرمه حقيقة ويستوهب من أكف الأوهام السخية السجيجة. أضعاف ما ضنت به الحقائق البخيلة الشحيحة، فإذا أبصرت طريقه في الحياة اسودت أرجاؤه وتكلفت ظلماؤه. فاعلم أنه يحمل في منطقته وتحت ردائه مصباح عين الثور. لقد سمعت حكاية خرافية قرعت حبة فؤادي ومست صميم روحي. وهي حكاية الراهب الذي ولج بعض الغابات فسمع طائراً يغرد فلبث يصغي دقيقة أو اثنتين ثم عاد من حيث أتى فلما انقلب إلى الدير بالمدينة وجد نفسه غريباً بين أهله وسكانه من الرهبان ثم علم أنه قد غاب من الغاب مدة خمسين عاماً خيل إليه أنها دقيقتان. فعلم - هداك الله - أن هذا الطائر ليس مقصوراً على الغابة ولكنه كائن في حياة كل إنسان يكمن منها في أعماقها وأغوارها حيث لا بني يهتف ويغرد فلا يسمعه إلا هذا الإنسان وقد غفل عنه سائر الناس

طرا. فالحمال المسكين الذي يرزح تحت حمله من أجل درهم - إنه والله ليسمع أغاريد هذا الطائر فيبتهج في أعماق نفسه ويطرب وأنت تحسب أنه ليس على أديم الأرض أبأس منه ولا أشقى. ولقد أمكنني بغير واسطة سوى مصباح عين ثور أيام طفولتي أن أستثير هذا الطائر من عالم الخيال فاستمتع ما شئت بمطارب ملاحنه وأنا ذلك الطفل المعدم المسكين الرث الملابس يخالني الناظر فريسة الوجاع والآلام. واليتيم في مأذبة اللئام. فحياة الإنسان مؤلفة من عنصرين - أولهما البحث عن مكان هذا الطائر وثانيهما الإصغاء إلى أغانيه. فمعرفتنا هذه الحقيقة وذكرانا لتلك الساعات الهنيئة التي كنا فيها ننصت إلى أغاريد الطائر هما اللذان يملآننا عجباً عندما ننظر في قصص الروائيين الوقعيين وذلك أن كل ما تجده في هذه القصص هو الجزء الظاهر لك من حياة الأشخاص - وهذا في الغالب لا يكون إلا المؤلم الموجع المضيض القفر الموحش المجدب. فأنت في تلك الروايات لا ترى الحياة إلا مؤلفة من الطوب والطين والوحل والخشب والحديد ورخيص الشهوات وحقير المخاوف والآمال - وكل ما يخجلنا أن نذكره وكل ما لا يهمنا أن ننساه - فأما أغاني ذلك الطائر المغتال لدولة الزمن الفيحاء فلا نسمع لها خبراً. ولا نبصر لها أثراً. أرأيت إذ عثرت أثناء قراءة بعض تلك القصص الوقعية على قطعة نصف لك حال غلام مثلي أيام طفولتي يسير في الظلماء رث الثياب سيء الحال مجوّعاً مقروراً تقذفه السماء بنبالها الصائبة. وتضربه النكباء بسياطها القاضبة. أكنت واجداً في هذه الصورة سوى ما تصف لك من بؤس ذلك الغلام وكربته. وما تصور لك من مسكنته وذلته. ولكن هذه هي الحقيقة كلا هذا ما قد حسبه مؤلف القصة المضلل وما يظنه القراء الغافلون أنه الحقيقة. ولكن هؤلاء لم يبصروا سوى الظاهر الكذاب. وقد خفي عنهم الباطن والسر واللباب. فسل الغلام نفسه ينبئك أنه في جنة من النعيم أساسها هو ذلك المصباح الكريه الرائحة. والواقع أن سر سعادة امرئ ومنبع سروره هو أعقد من المشكلات. وأعوض المعضلات. ومما لا يكاد إنسان مهما نفذت بصيرته. وثقبت بديهته. أن يستطيع الوقوف عليه. والاهتداء إليه فهذا السر والعلة الخفية قد تتعلق على أوهى من خيط العنكبوت من الوسائط الخارجية كمصباح عين الثور وقد تكون كامنة في خفايا نظام العقل وجوهر النفس وتركيب الروح وهي (أعني العلة الخفية في سعادة الإنسان) لا يكاد يكون لها روابط

بالأشياء الظاهرية - بل ربما لم يكن لها بتلك مساس البتة. حتى ترى أن عيشة الإنسان التي قد قبلها وارتضاها من القدر هي بحذافيرها خارجة عن منطقة الحقائق واقعة في دائرة الخيال، وفي هذه الحال يكون نهر اللذة في حياة المرء هو مما يجري تحت الثرى والأديم فأعين الناظرين البله المغفلين (أني لأرحمنهم رحمة واسعة لغرورهم وغفلتهم) لا تأخذ إلا ظاهر الأمر ولكنها عن مكنون الحقيقة عمية مكفوفة. لأنها لا تنظر إلا إلى الرجل. . . ومن نظر إلى الرجل كان بخيبه الظن وفساد الرأي مليئاً جديراً. لأن عين الناظر في هذه الحال لا تصيب من الإنسان إلا ما يماثل الساق من الشجرة الباسقة - فهو لا يرى إلا واسطة التغذية ومصدر القوت للإنسان فأما الإنسان ذاته فهو في عليا طبقات الجو وسط قبة الورق الخضراء ينعشه بمراوحها الهفهافة أيدي النسيم. وتطرب نغمات ألحان البلبل الرخيم. فالمذهب التأليفي الحقيقي هو في الواقع ليس سوى مذهب الشعراء (الذي يعده الناس خطأ نقيضاً للمذهب الحقيقي) فإنك ترى الشاعر يتغلغل بين الأغصان والقضبان وراء الإنسان الحقيقي المستتر كما قلنا في عليا طبقات الجو وسط قبة الورق الخضراء، وما أن ينى يرتقي ويتسلق كأنه السنجاب حتى يسمو إلى حيث يستطيع أن ينال لمحة من الفردوس السماوي الذي ينعم فيه الإنسان الحقيقي ويتلذذ. أجل إن المذهب الحقيقي مازال أبداً مذهب الشعراء - إذ ينقبون عن مكنون موضع اللذة ويفتشون عن محجوب مستقر الطرب ثم يجعلون لهذا الطرب صوتاً فوق مرتبة الغناء. ووراء أقصى غاية الموسيقى. فإن الطرب هو سر السعادة فإذا فاتك الطرب فقد فاتك كل شيء. والطرب الذي يجد المرء في مباشرة أي عمل هو الذي يحعل لهذا العمل معنى وغاية وغرضاً وقيمة ووزناً. فهذا بيان الأمر - وهذا عذر كل امرئ في كل ما يباشر من الأعمال ألا ترى أن الذي لم يقف على سر المصباح لا يستطيع أن يدلاك حقيقة ما يجده الغلام حامل المصباح من اللذة الخفية. والنغمة اليسرية. ومتى صح الحكم على الكتب المسماة حقيقة المذهب بأنها أبعد الأشياء من الحقيقة. فإن كل هذه الكتب خلو من اللذة الشخصية والمعاني الشعرية ومن عالم السحر والأحلام ومن نسيج الخيال الذهبي الذي يكسو كل معنى عار ويشرف كل معنى خسيس. وفي كل كتاب منها (من الكتب الحقيقة) ترى الحياة هاوية إلى أسفل كالرصاص بدلاً من سموها كالمنطاد وتغلغلها في ذهب الأصيل وبهجة جمال الغروب. فإن

قيل أن هذه الكتب الحقيقية صادقة قيل في الوقت نفسه وإنها أيضاً كاذبة. فإنك لا تكاد تبصر إنساناً يعيش وسط الحقائق الظاهرية - بين أحماض معمل الوجود وأملاحه ولكن في غرفة خياله الملونة بين نوافذها المنقوشة الزجاجات وبين جدرانها المسطورة بأساطير الأقاصيص وأعاجيب الروايات والأحاديث لها بقية في بيت القصيد سنأتي عليها في العدد القادم

النهضة الإيرلندية

النهضة الإيرلندية شيء عن حزب السين فين قد أضحى العالم بأجمعه يعلم نبأ النار المشتعلة في تلك الجزيرة ثالثة ثلاثة الممالك المتحدة البريطانية. وهي ايرلندة. والحركة الثائرة القائمة في أرضها النزاعة بأهلها إلى الاستقلال ولكن قليلين من الناس الذين يدركون معنى كلمة السين فين التي تطالعهم في كل يوم من أنهار الصحف. والرّوح التي تنطوي تحت تلك اللفظة. والمبادئ التي تتوخى منها. والأغراض التي يسعى الساعون باسمها. ولهذا آثرنا أن نوجز في المقال الآتي تاريخ تلك الحركة حتى يكون القراء على بينة منها. * * * معنى كلمة السين فين في اللغة الايرلندية بالحرف الواحد نحن انفسنا ولما كانت هذه الكلمة تطوي تحتها النهضة النزاعة إلى استقلال ايرلندة، لم تلبث أن أصبحت اسماً للحزب الجمهوري في تلك البلاد. وهذا المعنى الذي جثا اليوم هو الذي سيدون في معاجم الغد، ويدرج في قواميس لغة الحرية في المستقبل. وأول ظهور هذه الكلمة في عالم الدنيا كان عام 1904 - أي منذ ستة عشر عاماً وكانت تدل على كثير من المعاني، وغلب عليها جملة من التطورات، وتشعبت فيها المطامح والأغراض، حتى أضحت لها المكانة التي تمت لها اليوم. وقد شرحت المبادئ التي يقصد إليها من كلمة السين فين والحركة الناهضة من جوانبها في أبحاث عدة وسمت بعنوان أبحاث في عودة المجر إلى الحياة ونشرت عام 1904 في صحيفة سيارة اسمها الايرلندي المتحد وقد وصفت الحركة المجربة لنيل الاستقلال في تلك المباحث بأنها نتاج ثورة منتصرة ناجحة لم يسفك فيها دم ولم تسل في سبيلها نفوس، ولم يطح فيها بأرواح وأبدان. وعزيمة صارمة في شعب مظلوم أبي ألا أن ينكر سيادة الأقوياء عليه، ويخلع عنه سلطان الجبروت الذي يريد أن يتحكم في حياته، ورغبة شديدة في العمل بنفسه لإصلاح شن بلاده من جميع الوجود الأدبية والاقتصادية والسياسية، وقد حض بها كاتب تلك المباحث أهل جلدته وأبناء وطنه الايرانديين أن يحتذوا هذا الحذو ويتبعوا تلك المبادئ بعينها، فأغرى ايرلندة بأن تكف عن إرسال مندوبين عنها في البرلمان البريطاني

وتمتنع عن دفع الضرائب إلى الخزانة البريطانية والالتجاء إلى قضاة المحاكم البريطانية وإدارتها وتقليد الانجليز في مبادئ الأخلاق وفي الآداب وفي حركة العلم وفي تيار الشعر والنثر. وبذلك كله تصبح ايرلندة قائمة بذاتها وتكتب بيدها في لوحة التاريخ ايرلندة الحرة بلا انجلترة. ذلكم الكاتب القوي العظيم الجبار الروح الذي كان القائد الأول من قواد النهضة، والجندي السائر في الطليعة، كانا رجلاً بسيطاً يدعى آرثر جريفيس وهو فتى ملتهب الروح. ناضج الذهن، اجتمعت فيه الروح السلتية بالخيال الايرلندي، وكان رئيس تحرير تلك الصحيفة الأسبوعية، التي كانت تعيش في العن مظاهر الفقر عام 1903، في شارع مهجور من شوارع عاصمة ايرلندة، حتى لقد وصفها أحد الكتاب الفرنسيين الذين اتفق لهم رؤيتها في ذلك الحين فقال إن إدارة تحرير تلك الصحيفة لم تكن إلا حجرة صغيرة ضيقة الجوانب، لا ينفذ إليها بصيص الضياء إلا من نافذة واحدة قد استعيض عن زجاجها صحائف الجرائد، ولا تحتوي من الأثاث إلا كراسي قذرة علاها الماد والصمغ والتراب وقد علل فقر تلك الصحيفة كثيرون بسوء حالها وقلة دخلها. وآخرون زعموا أن أصحاب الصحيفة أنفسهم هم الذين أبوا إلا أن تظهر بهذه الحال الرثة، وتبدو بذلك مظاهر الفقر، حتى لا تقع أدوات المكتب وأثاثاته إن احتوت منه الشيء الفخم والمظهر الغني في أيدي الشرطة وتحت طائلة القانون الذي كان يصادر الصحف التي تكتب في حدود التطرف وتنشيء المقال الثائر المخيف من تلكم الحجرة الصغيرة. ومن وسط مظاهر ذلك الفقر الشديد والرثائة البادية راحت إذ ذاك كلمات ذلك الكاتب تخرج ملايين من أهل ايرلندة إلى النور وتشيع في أجزاء الإمبراطورية كلها، وتنتقل في ندوات البرلمان. وكان ذلك الرجل يكتب فكأنما كان محامياً أصولياً مدرها يحمي عن الحق، ويبسط مبادئ القانون، وكأنما كان قاضياً يصدر حكمه من دست القضاء. وكان المجمع الغالي في ذلك (نسبة إلا بلاد غاله - وبلس) العهد قد أعاد ماضي اللغة وأقر رجعتها الايرلندية إلى البلاد، وأسس الروح الغالية القديمة، ولكن كان الفلاحون والزارعون الصغار في الوقت نفسه منكبين على شراء الأراضي والانتفاع بالمخترعات الحديثة الزراعية في الاستثمار والاستكثار حتى أصبح لا هم لهم إلا الأرض تخرج لهم الحب

يكنزون بثمنه أموالهم، ويملأون خزانتهم، حتى لم تلبث البلاد أن احتوت جمهوراً من المزاعين المترفين المتبلدين المتناسين حركة الاستقلال والعمل للحرية، وكذلك تنازعت المادية والمبادئ الروحية العالية ووقعت بينهما الحرب. ونشب الخلاف وتركت مقاليد النهضة السياسية في أيدي قوم من أهل الصناعة وقصروا سعيهم على طلب الهوم رول حتى ذهبت الطنون إلى أن جماهير الشعب الايرلندي لا تجد روحاً إلى الاستقلال ولا نميل بقلوبها إلى طلاب تحقيق النهضة، وفي الحقيقة لم يتبع الحزب البرلماني من أهل ايرلندة المبادئ كلها التي كان يسعى إلى تحقيقها جملة لشعب ولم يرعوا حق تلك الرغبة الايرلندية في وستمنستر وفي مقاعد أهل البرلمان من الايرلنديين كماليتها السماوية والروحانية العالية التي تتجلى من ناحيتها في بلادها، والإلهية التي تشع على الناس من سماء كلمة الحرية الجميلة ولم يلبث أن عدت مبادئ الكاتب الأول، والجبدي الحي الآنف آرثر جريفيس، واضع أساس النهضة، وراسم خطة السعي - مبادئ طوينية خيالية، وأمثلة عليا لا سبيل إلى بلوغها. على أنه في اليوم الثامن والعشرين من شهر نوفمبر عام 1905 انتدبت طائفة صغيرة من زعماء الوطنية الايرلندية وألفت المجلس الأهلي وطلبت إلى جريفيس أن يضع البرنامج الوطني الذي ينبغي العمل على إنفاذه ورسم الخطة العملية الخليقة بالتحقيق فقام الرجل بإلقاء مباحث ومحاضرات عن ذلك وكانت كلمة سياسة السين فين أول ما ظهرت على شفتيه، وجرت في مباحثه. ولم تكن تلك الندوة يوماً من الأيام منذ نشأتها الأولى جمعية سرية، أو شرذمة من الناس يعملون في الظلام وتحت أستار الدسائس. بل كانت تتألف من أندية صغيرة منتشرة في جميع أطراف أيرلندة. مفتحة أبوابها للقصاد. مجاهرة بمبادئها وأغراضها. معلنة مقاصدها ومساعيها. وكانت كلها تحت اسم واحد وهو ندوات السن فين وما كاد يحل عام 1907 حتى كان منها في أيرلندة كلها سبعون نادياً ولم تلبث صحيفة الأيرلندي المتحد التي مر بك ذكرها أن غيرت اسمها فراحت تنادي في ذلك الوطن الملتهب لمعنى الحرية صحيفة السين فين وأضحت يومية سيارة عدة أشهر في عام 1909 واجتمعت نية الوطنيين على إصدار طوابع للبريد خاصة بأيرلندة مختلفة عن الطابع البريطاني. ولكن لم تلبث الأموال التي

خصصت لأغراض تلك الحركة أن نفذت. وضعف شأن الحزب الأيرلندي المعين في البرلمان. وقامت ثائرة المتطرفين والاشتراكيين، ففقدت نهضة السين فين مكانتها الكبرى التي كانت لها. وذهبت ريحها. فتولى عنها. وتفرق القوم. ولم تعد ندوات السين فين تلفت أنظار الإنسانية والعالم المتحضر - على أن دور النشاط الثاني وعهد الحمية والعمل والسعي، لم يلبث أن أقبل عام 1913 فظل باقياً مستحراً حتى عام 1916 وهو دور الأيرلنديين الذين تطوعوا للجندية، ودخلوا في غمار القتال طواعية واختياراً. يومئذٍ لعبت أحزاب السين فين دوراً خطيراً في سبيل الاستقلال. فإنه لما أصبح التصويت للهوم رول أمراً محققاً. قرر أهل ولاية بلفاست أن ينفذوا بالقوة والاقتسار قانون الاستقلال الذاتي ولهذا أنشأوا جيشاً من المتطوعين الالتريين من جراء الحرب الداخلية التي أثارتها الحكومة الوقتية تحت إشراف السير ادوارد كرزون. ثم جمع الاشتراكيون من ناحيتهم كذلك جيشاً آخر من أهل دبلن سموه الجيش المدني وفي الحال أعدوا العدة لتعليمه واستمدوا له الذخيرة واللباس. وجعلوه على الطراز الأخير من فن قيادة الجيوش. فلما نشبت الحربر الأوربية اقترح جون ردموند على وزارة الحرب الانجليزية أن تحول فرقة الأيرلنديين المتطوعين إلى فرقة مقيمة في انجلترة لا تبرحها لحماية الأرض والدفاع عن الحمى والذمار ولكن اللورد كتشنر قابل المقترح بالرفض استكباراً وأنفة واعتزازاً، فنصح النواب الوطنيون الأيرلنديون لجنود تلك الفرقة ورجالاتها أن يخرجوا من سلكها ويندمجوا في جيش الإمبراطورية التي منحتهم الهوم رول والتي جعلت تقول أنها تدافع عن حرية الشعوب. وكذلك سلك كثيرون أنفسهم في الجيوش المتدفعة إلى الحرب وأسدل الستار يومذاك على الهوم رول إلى أجل مسمى على أن زعماء إيرلندة رأوا أنه قد خدعوا عن أمرهم وأن أيرلندة لم تكن من بين الشعوب التي من أجلها شبت نار الحرب في الغرب لمنحها حريتها، وفك رقبتها من أغلال الاستبداد وأنه خليق بهم أن يكون السعي لتحرير بلادهم في أرضهم والجهاد للحرية فرق ثري وطنهم فأعادوا إنشاء جيشهم الأول ألذي أصبح العالم كله يعرفه باسم جيش السين فين ولم بكن في صفوف ذلك الجيش كثيرون من شيوخ السين فين الأولين، وإنما كان فيهم قلائل من الجمهوريين نخض بالذكر منهم العالم الأيرلندي ماكتيل والأستاذ دي فلبرا ومؤسس جامعة سارت انده ونعني به باتريك بيرس

وقد احتذى الزعماء الجدد حذو الأولين فجعلوا يثيرون الحرب على إنجلترة ويطلبون فصل أيرلندة عنها الفصل التام. وإنشاء جمهورية أيرلندية على أنقاض البناء الأول. ولا تظن العالم قد نسي القتال العنيف الذي وقع عام 1916 يوم ثار فتيان أيرلندة وهم نحو ألفي رجل فاحتلوا جزءاً كبيراً من عاصمة البلاد ونادوا بالجمهورية الأيرلندية وجعلوا يقفون أمام جيش منظم ويقاومون مدفعية شديدة النيران وظلوا وقوفاً أمام تلك الشراذم التي تفوقهم عدداً عديداً أسبوعاً كاملاً حتى استشهدوا والابتسامة الحلوة العذبة ابتسامة الاستشهاد في سبيل الحرية - تجري على شفاههم في محضر الموت. ورفعوا إلى أداة الإعدام. والمقصلة مصلته. والمنون متداينةز وهم فرحون لا تفتر ثغورهم عن الابتسام. وأما الشعب الأيرلندي - إن لم يظهر إعجاباً بتلك الثورة الطائشة المستميتة فقد أبدى إكباره الأعظم لبطولة أولئك الفتيان ولقد شهد لهم بتلك البطولة أعداؤهم. كان من وراء تلك الثورة أن ضرب خمسة وعشرين من الزعماء بالرصاص ومن بينهم الزعيم توماس كلارك ذلك الوطني المغوار اذي جعل طوال حياته يشتهي أن يلقي تلك المنية الحلوة. وضربت رقاب كثيرين، منهم في الربيع العشرين. ماتوا جميعاً وظل الابتسامة الناضرة التياهة المدلة ببطولتها يجري على أفواههم. وحكم على الشاعر الأيرلندي الجميل يوسف بلا نكت بالإعدام وكان إذ ذاك خطيب عروس حسناء. ففي الليلة السابقة لموعد شنقه انسلت العروس تحت ستار الظلام إلى السجن ومعها قسيس فعقد للعروسين وتم الزواج. وفي الغداة سقط ذلكم البطل قتيلاً إذ بدت أمينة عن كثب زوجه وهي في إطار حفلة العرس والأزاهر حافة بها. كان موت أولئك الأبطال وزج إخوانهم في غيابات السجون ونفي رفاقهم وتشريدهم في الأصقاع النائية. والبلاد البعيدة. صفحة أخرى في كتاب الذكريات الوطنية التي يكتب منها تاريخ أيرلندة المجيد. وكان تقتيلهم سبباً من الأسباب التي دفعت السواد الأعظم من الشعب الأيرلندي إلى الرغبة عن الهوم رول. وإنشاء السين فين - علم الجمهورية الجميلة المبتغاة. * * * منذ ذلك العهد أصبح السين فين حزباً سياسياً كبير الشأن كبير الخطر، واتخذ مركزه مدينة

دبلن وانتشرت منه ندوات فوقعت في جميع بلاد أيرلنده وحواضرها أضحى المبدأ الأوحد الذي تعمل جميعاً له هو أيرلندة بلا أنجلترة، وجمهورية على أنقاض العبودية، وأصبح الزعيمان جريفيس ودي فاليرا يضعات أيديهما على هذا العمل لا كبر. فلما كانت انتخابات ديسمبر سنة 1918 انتصر في الانتخاب أعضاء السين فين على مزاحميهم وأصبحوا أعضاء الحزب الأهلي الأكبر، وأصر الأعضاء المنتخبون وهم أحد بني وطنهم أخلاصاً، وأكبرهم نفوسها - على مبدأهم وهو أن لا يجلسوا في مجالس البرلمان الإنجليزي ولا يشغلوا منه المقاعد، ولا تكون لهم في تلك الندوة أشباح، ولذلك اجتمعوا في شهر يناير عام 1919 فأنشأوا مجلساً وطنياً يدعى في اللغة الأيرلندية (الديل إيربين) ونشر ذلكم المجلس دعوة بالاستقلال ونادى بتأسيس الجمهورية الأيرلندية. ثم قر بعد ذلك القرار على إرسال نائبين إلى باريس ي طلبان إلى مؤتمر الصلح سماع القضية الأيرلندية. ووقع الاختيار على الزعيم جون أوكلي رئيس ذلكم المجلس وكاتب من مشهوري الكتاب، وبطل من الأبطال جرج في تلك الموقعة التي مر بك بيانها. والثاني جورج دوفي النائب عن دبلن وهو رجل من كبار أهل القضاء. وانضم إليهما ثلاثة زعماء من قبل أيرلندي أمريكا وهم الذين قووا شوكة النهضة، وأيدوها بالحمية والنشاط، وهم فرانك والش وادوارد ون من حكام الولايات المتحدة الأسبقين ثم ميشيل ريان. على أن المؤتمر لم يستمع لهم. ولم يتقبلهم. ولم يرتض زيارتهم، بل لقد كان من كليمنصو أن رفض مقابلة مدام دوفي وهي السيدة التي أوفدت برسالة إليه من قبل نساء أيرلندة للدفاع عن حق وطنهن. ولكن الرئيس ويلسون رضي بلقاء الثلاثة النواب من أهل مملكته، ووقعت بينه وبينهم أحاديث، ودارت مناقشات، وبعد لأي تنازل مستر لويد جورج بالموافقة على مقابلتهم. * * * أبطال ذلك الحزب السياسي الكبير اليوم رهائن المحابس، يعيشون في الحواصل والسجون، ومنهم اللذين توسدوا الحفر، واضطجعوا في ظلمة القبور \، إذ رأت الحكومة المسيطرة أن ذلك الحزب مسؤول عما وقع في أيرلندة من المجازر وأنه من الأحزاب المشاغبة المرجفة بالفتن، الناشرة أعلام القلاقل، فعملت على مصادرته، والتنكيل بزعمائه.

على أن كلمة السين فين ستخلد في تاريخ الدنيا علماً على ما كان في جزء من بلاد الله من الاستماتة في سبيل الحرية والاستشهاد لنيل نعمة الاستقلال.

روح الإسلام

روح الإسلام لأكبر نصير للإسلام اليوم سيد أمير على النابغة الهندي العظيم الفصل الثامن مركز المرأة في الإسلام في دوار معينة من التطور الاجتماعي لا يكون تعدد الزوجات أو ارتباط الرجل بعدة نساء إلا أمراً لا بد منه وحالاً لا مفر منها، ولقد كانت الحروب التي نسبت بين القبائل وما كان منها من إقلال عدد الرجال وكثرة عداد النساء، والسلطان المطلق الذي ينعم به زعماء القبائل وسادة العشائر والأفخاذ والبطون - كل أولئك كان السبب في إيجاد عادة تعدد الأزواج التي أصبحنا نعدها بحق في هذا العصر المتحضر نقيضة لا تحتمل واذاة وشر من شرور المجتمع. وقد كان تعدد الزوجات في الأمم الشرقية جمعاء شريعة مقررة وسنة متبعة. وكان اعتياد الملوك إياها والأكاسرة وأهل بيت الملك - وكانوا إذ ذاك ينزلون من أممهم منازل الأبارب ويحملون علم الألوهية - باعثاً للناس على اتباعها. والجري على سنن ملوكهم من ناحيتها. فقد ذع تعدد الأزواج (من كلتا ناحيتيه أي إكثار الرجل من النساء وارتباط لنساء بعدد من الرجال) بين أهل الهند منذ زمن بعيد في التاريخ ولم يكن ثمت بين الآشوريين والميديين والبابليين أي حد لعدد النساء الزوجات التي يحوز للرجل الأعراس بهن. ولا يزال الرجل في البراهمة إلى يومنا هذا يستطيع أن يتزوج من النساء العدد الذي يحب ويختار. ولقد كان تعدد الزوجات؟؟؟؟؟ بين بني إسرائيل قبل عهد موسى وفي أيامه إذ أقر تلك السنة ولم يضع لعدد زوجات حداً ولا قيداً ولكن وضع ذلك القيد بعد ذلك في التلمود ونص على جواز الزواج بعدد من النساء على قدرة مكنة الرجل من إطعامهن والإنفاق عليهن ولئن كان زعماء اليهودية قد قالوا بتحريم الزواج بأكثر من أربع نسوة فقد خالفهم قوم في ذلك ولم يعترفوا بحد ولا شرط. أما الفرس فإن دينهم أباح الإكثار من اتخاذ الزوجات، وقد انحط تعدد الزوجات بين الشعوب الفينيقية السورية - التي هزمها بنو إسرائيل وأبادوها - إلى درك ليس بينه وبين الحيوانية الشنعاء أي فارق أو خلاف. وكذلك فشت سنة تعدد الزوجات في أهل طراقية

وليديا وكثير من الشعوب القديمة التي كانت تسكن أقاليم عدة من بلاد الغرب والأقاليم الواقعة في غربي آسية وزادت عن الحد وتمادت حتى تجاوزت الوصف. ولقد كانت الزوجة في أهل أثينا القديمة - وهي ولا خفاء أكبر الأمم الأثرية القديمة حضارة - متاعاً يباع ويشترى وسلعة في السوق تنتقل من حوزة رجل إلى رجل، وكانت تعد شراً لا غنى عنه في البيت وللابتذال في لخدمة وإخراج الذراري والأطفال وكان للأثيني أن يتزوج بمن شاء من النساء حتى فقد جعل الخطيب ديموستينس - وهوهو في براعة الخطابة - يفخر بأن في أمته ثلاث طبقات من النساء، طبقتان منها أزواج شرعية وأخريات غير شرعية. ولئن كان الرجال في اسبارطة القديمة لا يباح لهم الزواج بأكثر من واحدة فقد كان لنسائهم أن يتزوجن بأكثر من رجل واحد. ولعل الظروف لخاصة التي وضعت فيها أنظمة الدولة الرومانية هي التي حالت دون إباحة تعدد الزوجات في إبان نشأة تلك الدولة، ومهما كان نصيب قصة اختطاف نساء السابين وسبيهن في أوائل العهد بدولة الرومان من الصحة والحق، فإن ثبوت تلك القصة في سجل التاريخ باعث على الظن بأنها كانت العامل في وضع الأنظمة الأولى عندهم في الزواج والأسرة، على حين أن تعدد الزوجات في الولايات المجاورة لرومة وفي ولاية اتروسكان خاصة كان عادة شائعة وسنة مألوفة، وجاءت بعد ذلك الحروب الكثيرة والغزوات الطويلة والفتوح المستمرة وما كان منها من حدوث الاختلاط بالأمم الأخرى التي كانت تسكن إيطالية. ثم الترف الناشئ من النجاح والرفاهية التي تعقب الانتصارات فكانت كلها سبباً في جعل مشروعية الزواج عند الرومان أمراً لا أهمية له ولا ضرورة فلم يكتفوا بإباحة تعدد الزواج وجعله شرعة ونظاماً مقرراً بل استحال الزواج كذلك ضرباً من النسري لا أكثر ولا أقل. ولم يلبث النسري بعد أن أقرته شرائع الدولة الرومانية أن أضح في قوة الشريعة المباحة والسنة المقررة، ولذلك كانت حرية النساء وضعف الرابطة التي تمسكهن بالرجال وتبادل الزوجات بين الرجال أو التنازل عنهن لم تكن جميعاً إلا تعدد الزوجات بعينه وإنما تحت اسم آخر، وفي شكل مختلف. وبدأت يومئذِ تعاليم المسيحية الأولى تلقي على سواحل غاليلية وتشع على العالم الروماني

بأسره، على أن نبي الناصرة (عيسى عليه السلام) لم يستطع أن يقدر مسألة الزواج حق قدرها عامة وكذلك شاعت سنة تعدد الزوجات وفشت وسادت، حتى جاءت قوانين حوستنيان فأبطأتها وحرمتها ولكن أمر تحريمها في تلك القوانين المدنية لم يحدث أي تغيير في أخلاق الشعب ومبادئ الآداب عندهم فظل تعدد الزوجات باقياً معمولاً به متبعاً حتى جاءت مدنية المجتمع المتحضر فقطعت بتحريمه، وحكمت عليه بالموت. وكانت الزوجات عدا الزوجة الأولى التي بنى الرجل بها قبل الأخريات في شر حال وأسوأ عيشة، سلبية الحقوق، لا تنعم بشيء من تلك الرعاية التي ترعى القوانين بها حق الزوجة الأولى، عبيداً أرقاء، مستهدفات لتقلب الزوج، رهائن أوهامه، غرضاً لمنازعه وأهواء نفسه، وكان أطفالهن يوسمون بمسم الزنا، ويدعون مزنمين، ويحرمون من حقهم في إرث أبيهم، ويعاملون كأنهم طرائد المجتمع متمردين منبوذيتن من صفوفه. ولم يكن التمتع بعدد من الزوجات شرعيات وغير شرعيات مقصوراً على طبقة النبلاء والأشراف بل لقد كان كثيرون من رجال الدين يتناسون العهد الذي عاهدوه والقسم الذي اتخذوه من البقاء في العزوبة والتحرج من الأزواج فيرتبطون بزيجة أو زيجتين شرعيتين أو غير شرعيتين، والتاريخ يدل على أن تعدد الزوجات لم يكن في نظرة الإنسانية محرماً غير جائز كما هو اليوم بل أن القديس اوغستين نفسه لم يكن فيه شيئاً من الإثم أو المعابة أو مخالفة نواميس الآداب واعترف بأنه لا يعد جريمة إذا كان سنة مقررة في بلد من البلدان وقرر المصلحون الدينيون من الجرمان في القرن السادس عشر صحة الزواج بامرأة ثانية أو ثالثة بجانب الزوجة الأولى لأسباب كثيرة منها العقم وقلة النسل. ونحن نرى كثيرين من العلماء الدينين يعترفون بأن ليس في تعدد الزوجات أي مخالفة لقواعد الآداب وأن عيسى لم يحرم التعدد تحريماً قاطعاً ولم يقل بمنعه منعاً باتاً ومع ذلك يقولون بأن فكرة الفردية في الزواج لم تعم في الغرب ولم تنتشر إلا بفضل التعاليم التي بثها الجرمان أو أهل الدولة الرومانية الشرقية في تضاعيف المسيحية ولكن هذه الفكرة الأخيرة تخالف الواقع والتاريخ ولا أثر لها من الصحة. إذ لم يقل باستمساك الجرمان بسنة الاقتصار على زوج واحدة غير واحد أو اثنين لا تصح شهادتهما ثم لا ينبغي أن ننسى الغرض الذي من أجله وضع المؤرخ تاسيتاس كتابه في في آداب الجرمان فقد كان كتابه

ذاك نقداً حاراً شديداً على الإباحية التي كانت متفشية في بني وطنه وكان غرضه إدخال مبادئ أطهر من المبادئ التي كانت سائدة يومذاك في رومه. وإذا نحن فرضنا أن تاسيتاس كان علي الحق فبماذا نؤول عادة تعدد الأزواج التي ظل عليها طبقات النبلاء من الجرمان حتى القرن التاسع عشر. ومهما كانت عادة الرومان في العهود الأولى من تاريخهم فلا نزاع في أن تعدد الأزواج في أخريات أيام الجمهورية الرومانية وأبان عهد الامبراطورية كان ولا ريب مقرراً كسنة مشروعة أو لم يكن على ألأقل معتبراً اثماً محرماً وأمراً غير مشروع فإن الإمبراطور فالنتيان الثاني أصدر قانون أباح به لرعايا مملكته الزواج بعدة نساء إذا شاؤوا وليس في التاريخ الديني لتلك الأزمنة دليل ما على أن أساقفة ذلك العصر ورؤوس الكنيسة أقاموا أي اعتراض على إصدار ذلك القانون بل لقد تابع القياصرة الذين جاءوا بعد ذلك الإمبراطور سنة تعدد الزوجات ومشي قومهم في آثارهم. وبقيت تلك القوانين على حالها تلك حتى عهد جوستيان إذ كان أكبر نصحاء ذلك الإمبراطور ووزرائه رجلاً ملحداً وثنياً. ولكن تحريم ذلك الملك تعدد الزوجات لم يستطع أن يزجر ميل ذلك العصر ويقمع رغبته بل لم يكن قانون تحريم تلك السنة القديمة إلا دليلاً على تقدم الفكر الإنساني في تلك العصور وأثراً من تطور الآداب ليس غير ولم يتعد تأثيرها فئة قليلة من المفكرين وراحت في الجماهير ضعيفة الأثر لا سلطان لها ولا نفوذ. وفي الأقاليم الغربية من أوروبا لم يكن من علو كفة البرابرة واختلاط مبادئ السكان بمبادئ الفاتحين إلا أن حطت من علاقة الرجل بالمرأة وحاولت جملة من قوانين أولئك البرابرة أن تضع نصوصاً خاصة بتعدد الزوجات ولكن التعاليم والنصوص لم تغن شيئاً ولم تفد فتيلاً. إذ كانت الشعوب والجماهير ترى ملوكهم مكثرين من الزوجات فلا تجد على احتذائهم حولا. ولا ترى أبداً من الاقتداء بهم حتى أن رجال الدين على الرغم من وصايا الاستمساك بالعزوبة التي كانت تلقن في الكنيسة جعلوا يتسرون بامرأة أو بأكثر من امرأة. وذلك بإذن من رئيس أسقفيهم. * * * والخطأ الأكبر الذي وقع فيه كتاب المسيحية قولهم أن محمداً اتخذ تعدد الزوجات سنة من سنن دينه وأقره وأباحه أجازه.

والفكرة القديمة التي كانت تجري في أذهانهم من أن نبي الإسلام هو الذي كان أول من سن تعدد الزوجات وجعله شريعة من الشرائع الاجتماعية - وهي فكرة تدل على مقدار جهل الذين حملوها أدمغتهم - قد هدمت اليوم ودحضت وظهر لهم فسادها ولكن الخطأ الذي لا تزال جماهير العامة تستمسك به وتصر عليه. ولا يزال خلق كثير من المتعلمين ورجال المسيحية يقولون به هو ما قدمنا من أن محمداً اتخذ تعدد الزوجات شريعة وأقره سنة وقانوناً. وتلكم فكرة ليس في الدنيا أفسد منها وأبعد عن الحق. وأضعف أساساً. فإن محمداً وجد تعدد الزوجات معمولاً به بين أمته وجيران أمته والبلاد الواقعة حول جزيرته حيث اتخذت ثمت مظهراً مخيفاً. وكانت في حال التفشي سيئة نكراء ونحن لا ننكر أن قوانين الإمبراطورية المسيحية حاولت أن تصلح من أمر هذه النقيصة وتكسر من حدتها ولكنها عجزت وعادت مخيبة طائشة السهام فظلت تلك العادة نامية متأصلة لا راد لها ولا زاجر يزجرها. وظلت الزوجات المسكينات اللاتي تزوج منهن الرجل بعد زوجته الأولى يعانين جملة من الآلام وضروباً من الشقاء. وكان فساد أمر الأخلاق في بلاد فارس على عهد ظهور النبي وتحطم مبادئ الأدب والشفاعة والسوء بحال مروعة. فلم يكن ثمت للزواج قانون أو شرعة معروفة. وإن كان ثمت قانون فلم يكن أحد منهم يعترف به أو يرتضيه. ولما كان كتاب الزندافستا لم يضع حداً محدوداً لعدد النساء اللاتي يجوز للرجل الابتناء بهن لم يكن من الفرس إلا أن جعلوا ينعمون بعدد عديد من النساء وعدد مثله من السراري. وكانت هناك عادة أخرى غير تعدد الزوجات عند الجاهلية واليهود وهي عادة زواج المتعة فكان هذا التحلل الشنيع في المبادئ الاجتماعية أثر مخيف سيء منكر في حياة المجتمع بجزيرة العرب. على أن الإصلاحات التي أسننها النبي أحدثت تحسيناً متسع المدى بينا محسوساً من وجهة مركز المرأة على حين كانت حالة النساء عند اليهود والعرب غير المستعربة نهاية في الانحطاط والمهانة والسوء فقد كانت الفتاة اليهودية في بيت أبيها في مكان الخادم لا أكثر ولا أقل وكان لأبيها أن يبيعها في السوق إن كانت قاصرة ولأبنائه الذكران من بعده أن يتصرفوا بأمرها كما تشاء أهواؤهم وكانت الفتاة لا ترث أبويها إلا إذا كانت وحيدة لا

ذكور معها. وكان أهل الوثنية القديمة من العرب من جراء تأثير اختلاطهم بالبلدان المحيطة بهم يعدون المرأة سلعة وملكاً من سلع الرجل وأملاكه وكانت الأرامل تنتقل بعد موت بعولتهم إلى حوزة أبنائهم بحق الإرث. وكان ذلك منشأ زيجات كثيرة بين أبناء الزوج وآرامل آبائهم وهي التي جاء الإسلام فمنعها وسميت بعد ذلك زواج المقت وتمادت بعرب الجاهلية الأولى الكراهية للنساء حتى جعلوا يئدون النساء ويدسون الولائد الإناث في الثرى أحياء، وهذه العادة الشنعاء التي كانت سائدة بين أهل قريش وقبائل كندة حاربها الإسلام وشدد محمد الكير عليها وأسنن لها العقوبة الصارمة والمثلات الشديدة وكذلك قل عن عادة تقريب الأطفال قرابين لآلهتهم. وكان مكان المرأة في دولة الفرس وكذلك في دولة بيزانطة حقيراً مهيناً في نظام المجتمع وانبرى قوم من المتهوسين الدينيين خلعت عليهم المسيحية بعد ذلك ألقاب القديسين والولياء الصالحين فجعلوا يحطون من قدر المرأة وينكرون فضليتها ويحكمون؟؟؟؟؟؟ ناسين أن النقائص التي رأوها في المرأة ليست إلا صورة أذهانهم الناقصة الصفراء المريضة معكوسة أمام أعينهم. في ذلك العهد وبناء المجتمع يكاد يخر إلى الأرض وينتقض حجراً حجراً. والرابطة التي كانت تربط ذلك البناء هاوية متحللة، ظهر محمد بتعاليمه الجديدة، وسننه الصالحة فوضع ذلكم النبي الكريم المبدأ الأول في رأس تعاليمه. الوصاة بالنساء واحترامهن، وتغلغل أثر ذلك المبدأ في صحابته وأتباعه وأنصاره فأسموا ابنة النبي تقديراً لمكانها وإجلالاً لطهرها وقداستها، سيدة شباب أهل الجنة وفاطمة الزهراء ثم قفت على آثار ابنة النبي طائفة طويلة من النساء أعلين من شأن جنسهن لفضيلتهن، ومزاياهن. ومن بين الشرائع التي دعا إليها النبي وسنها منعه عادة الزيجة الوقتية - زواج المتعة - ولئن كان قد أباحها اضطراراً في مبدأ المر فقد عاد فحرمها تحريماً في العالم الثالث من الهجرة بل لقد وضع محمد للنساء حقوقاً لم تكن لهن من قبل وأسس لهن امتيازات سيدرك العالم قيمتها على ممر الزمن بل لقد رفعهن من وهدنْهن فسوى بينهن وبين الرجال في الوظائف والحقوق وكسر من شوكة تعدد الأزواج فوضع حداً لعدد الزوجات التي يجوز للرجل الابتناء بهن معاً ولا ننسى أن الآية التي جاءت في الكتاب العزيز لتحديد عدد

الزوجات وإباحة الزواج بأربع نسوة إنما عقبت بآية أخرى وهي (وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة) فإن هذا الشرط من الأهمية بمكان عظيم ولم يغفل قيمته علماء الإسلام وسادات الدين ففي القرن الثالث من الهجرة جعل علماء الإسلام في عهد المأمون يعلمون الناس أن مبادئ القرآن أنما تبث فكرة الاقتصار على زوج واحدة وتوحي إلى المسلمين الاستمساك بتلك الفكرة وإنها في صف فردية الزواج وعلى الرغم من الاضطهادات التي حمل بها ذلكم الخليقة المرور المتوكل على أولئك العلماء ومنع بها انتشار تلك التعاليم التي بثوها بين الناس والمبادئ التي نادوا الجماهير إليها فإن الاعتقاد بصحة تلك المبادئ لا يزال ينشر نفسه في كل مكان ويكره الجميع على الاقتناع به ويوحي إلى الجماعات الإسلامية المستنيرة المهذبة أن تعدد الزوجات يناقض تعاليم الإسلام كما هو مناقض لتقدم المجتمع المتحضر والآداب الخلقية الحقة والمدنية الحديثة. وينبغي أن لا نسى الناس أن وجود تعدد الزوجات يتوقف على ظروف خاصة وأحوال معينة وأزمنة معلومة تجعل العمل به لزاماً وأمراً لا بد منه لحماية العنصر النسائي من شر الجوع والفاقة وإذا صحت التقارير وصدقت الإحصائيات التي بين أيدينافان أغلب الفساد الخلقي والإباحية وتهدم المبادئ الأدبية المتفشية في أكبر حواضر المدينة في بلاد الفرنجة لا منشأ له إلا الفاقة الشديدة وقد أبان الأب هوك والسيدة دف غوردون في تواليفهما أن مجرد الحاجة في أكثر الأحابين يدفع الناس في المشرق إلى إتباع فكرة تعدد الزوجات. لهذا الفصل بقية ستنشر في العدد القادم

ماوراء الساحل المجهول

ماوراء الساحل المجهول طائفة من المشاهدات النفسانية الغريبة بقلم كونان دويل تحت هذا العنوان ماوراء الساحل المجهول بدأ كبير الروايات في الغرب. وأكبر علماء العصر كذلك - ونعني به السير كونان دويل - صاحب روايات شرلوك هولمز التي دلت على براعة الخيال وأبانت عن طول باع المؤلف في العلوم الحديثة بخاصة وعلوم النفس وما إليها - بنشر طائفة من المقالات الممتعة في إثبات آرائه في اتصال هذا العالم الدنيوي بعالم آخر والحياة بعد الموت. وهذه المقالات تحوي جملة من الشواهد الغريبة والأمثلة المدهشة وقد آثرنا أن ننشرها لقراء البيان تباعاً كما ظهرت في صحائف الغرب. أشباح الماضي ليس هناك أعجب ولا أمر أبعد عن التصديق وأقرب إلى الحق أيضاً من أن الحوادث الماضية قد تترك أثراً باقياً في البيئة التي نعيش فيها لا يني يوماً يظهر ثانية للعيان كأن يشعر الإنسان به أو يسمع به أو يراه بعد زمن. وقد وضعت هذه الوجوه التي يظهر فيها أثر الماضي بهذا الترتيب. أعني الحس والسمع والنظر لأن الإنسان في أغلب الأحوال يشعر بالماضي أكثر مما يسمع به أو يسمع به أكثر مما يراه. هذا ونحن نعلم أن الذهن الحساس يتأثر بسرعة في مكان حدث فيه مصاب أو وقع حادث أليم فقد زارت سيدة من أقاربي يوماً ممرضة في أحد المستشفيات فلم تجدها هناك فسألت إحدى الممرضات قائلة. . . هل السيدة فلانة خرجت. وهل تلقت أنباء سيئة. . . فكان الجواب. . نعم خرجت لأنها تلقت نبأ برقياً بأن زوجها مريض. ونحن نسأل أنفسنا من أين علمت السيدة قريبتي أن هناك أنباء سيئة وصلت إلى صديقتها. والجواب أنها أحست ذلك من الشعور بأن قلبها خفق عند دخولها رحبة المستشفى. والعلماء يقولون هذا هو التليبائي. أو انتقال صور الذهن ونحن نقول أننا إذا كنا نقصد بمعنى التليبائي انتقال فكرة معلقة بهذه الصورة ساعة أو نحوها ثم وقوعها في نفس حساسة بعد ذلك. فإنني لا أريد جدالاً ولا أقصد دحضاً. ولكن إذا قلنا أن في الإمكان بقاء الفكرة المتنقلة ساعة فلماذا لا نقول بإمكان بقائها عاماً ثم قرناً كاملاً.

لي صديق كان يسكن منزلاً عتيقاً كان له زوج سريعة الإحساس وكانت تشعر دائماً بهزة محسوسة كلما نزلت السلم عند وصولها إلى درجة معلومة من السلالم وقد اكتشف بعد ذلك أن سيدة عجوزاً كانت تسكن تلك الدار منذ زمن بعيد صدمها طفل ماجن وهي هابطة السلم عند تلك الدرجة ففقدت توازنها فوقعت من السلالم وليس من الضروري أن نعتقد بأن عفريتاً ظل يختلف إلى تلك البقعة فيحدث نفس تلك الهزة مع السيدة الجديدة بل الشرح القريب للصواب هو أن ذهن السيدة العجوز عند وقوعها من السلم اضطرب أشد الاضطراب فترك أثراً دائماً وراءه جعل يظهر بهذه الصورة العجيبة. تأثير الوقائع القديمة كثيراً ما رأينا أو سمعنا برجال أقوياء الأعصاب رابطي الجأش تولاهم الخوف والرعب في أماكن معينة دون أن يعلموا سبب جزعهم ولكن يلوح لنا أن رعباً وقع لهم في الماضي عاد إذ ذاك فأثر في حواسهم دون أن تراه أعينهم مرة ثانية. وليس من الضروري أن يكون الإنسان معتقداً بوجود الأرواح حتى يحدث لديه هذا الشعور بعينه إذا كان في ميدان وقعت فيه حرب قديمة. وإنني لأشعر بتأثير غريب لا وهماً ولا خيلاً عند زيارتي لأرض كانت يوماً ميداناً للقتال وساحة موقعة حربية كأن يظلم المكان في ناظري، وأشعر بقلبي يخفق وأنفاسي تتصاعد وتترادف بسرعة، وقد وقع لي نفس هذا التأثير، وأخذني في عين هذا الإحساس عندما زرت الأرض التي حدثت عنها موقعة هايستنج الكبرى المشهورة في التاريخ. وشبيه بهذا التأثير ما يعتري أغلب الناس من الظلمة التي تحدث في أذهانهم عند دخولهم بعض المنازل والدور. وخليق بالفقراء وزعماء الاشتراكية الذين يحسدون أهل الثراء وسادات الأشراف والنبلاء على تلك القصور الشاهقة والاطم العالية الرائعة التي يسكنونها أن؟؟؟؟ عليهم تلك المنازل فلعلهم أسعد حالاً ولعله أفضل لهم أن يعيشوا في تلك الأكواخ البسطة والمنازل الصغيرة اللطيفة من العيش في تلك القصور بعيدين عن الاضطرابات والوساوس والهواجس النفسانية التي تعتريهم في تلك القصور الرائعة التي لا تزال عليها آثار مظلمة رهيبة تملأ جو حجراتها وغرفها مما وقع فيها من جرائم وشرور. وإذا كان بالإمكان أن يشعر ذو النفس الحساسة بأثر حادثة من حوادث الماضي فقد جاز أن

يتمكن شخص منه حساسة أن يرى عياناً الشخص الذي وقعت له تلك الحادثة. ولكني لا أكاد أصدق أن روح تلك الشخص بعينه هي التي تتراءى في مكان تلك الحادثة ولا أستطيع أن أصدق أن شخصاً كان ضحية جريمة من الجرائم منذ مائة سنة أو خمسين سنة يتقمص وتتبدى روحه في عين ألأثواب التي كان يرتديها فيتغشى الأماكن التي وقعت فيها الجريمة ولكن يجوز أن صورة الذهن تبقى ظاهرة في المكان الذي وقعت فيها آلام ذهنية شديدة. وإن سألت كيف ولمَ فما أحد يستطيع أن يجيبك اليوم ولكن لعل الجيل الذي سيعقب جيلنا هذا قد يتمكن من حل الأسئلة، ولنضرب لك أمثلة ظهور الصور الذهنية للحوادث التي وقعت في ماضي الزمن. وإنني لا أرى مثلاً أبدع من الحادثة التي وقعت للسيدو جورديتش فربير. وهي سيدة جمعت إلى قوة الأعصاب رباطة الجأش بعد النظر والتفكير قبل التصديق والاقتناع فقد نامت تلك السيدة في حجرة من حجرات قصرها مبتون كورت وكان القصر مشهوراً بأن الأرواح ترتاده وتغشاه وقد وصفت ما حدث لها أتم الوصف حتى لا يتردد من يقرأ تلك الدقائق في الاقتناع بأن الحادثة التي حصلت كانت حقيقية ومنطقية على الوصف أتم الانطباق. وكانت الحجرة التي تنام فيها غرفة صغيرة لا أستار لها ولا حجب. وليس بها إلا باب واحد بجانيب السرير وقد جاءت تلك السيدة إلى القصر خاصة لرؤية الشبح الذي يرتاد جوانب القصر فظلت ساعات من الليل تقرأ في كتاب ثم أخذ بها النوم ولكنها لم تلبث أن استيقظت على أصوات حركة وكان الظلام دامساً وخيل لها أن قوة مجهولة تمنعها من الوصول إلى المكان الذي وضعت عنده ثقاب الكبريت عندما أرادت أن تضيء الحجرة. ولما سألت عن الطارق لم تلق جواباً. وللحال ظهر بصيص من النور في وسط تلك الظلمة الحالكة وجعل البصيص ينتشر ويشع ويضيء حتى بان شبح سيدة مشوقة القد نحيلة جعلت تخطو ببطء في الحجرة حتى بلغت أقصى ركن منها فوقفت ثمت لا تتحرك. وقد استطاعت السيدة رواية الحادثة أن تتبين أن الشبح بكل دقة وقد وصفت تلك السيدة التي تراءت لها فقالت كان لها وجه جميل. وجه امرأة في الثلاثين أو تزيد خمساً. وكانت نحيلة في ثوب رمادي ناعم. قميص ووشاح.

فأعادت السؤال على الشبح فلم تجب كذلك وإما رفعت ذراعيها وجثمت فوق ركبتيها ودفنت وجهها في راحتيها وجعلت تصلي ثم لم تلبث أن زال الضوء واختفى كل شيء. والأثر الذي أحدث ذلك المنظر في السيدة المشاهدة دل على أن تلك المرأة كانت في يأس واستسلام. على أن المشاهدة لم تنزعج مطلقاً ولم تضطرب أعصابها من هذا المشهد بل أخذت بقية الليل تقرأ في كتابها الذي تركته قبل النوم. وهذه الحادثة وأمثالها كثيرات. ومن بينها ما روته السيدة تويديل في كتابها الأشباح التي رأيتها وهي سيدة مصدقة منة الثقات. فقد روت تلك الكاتبة أنها كانت تسكن يوماً في بيت قديم في غربي لندن. ففي ليلة قرة من ليالي الشتاء وإنها لمغفية بين النوم واليقظة. إذ سمعت صوتاً أشبه بتصفيح أوراق كثيفة ففتحت عينيها وإذ ذاك رجلاً جالساً في مقعد أمام الموقدة المشبوبة. وكان في ثوب عسكري من الطراز الذي كان يلبس في أيام القائد نلسون ذي أزرار نحاسية. وكان الرجل مجيلاً البصر في النار المشبوبة أمامه. وهو ممسك بإحدى يديه عدة أوراق وكان جميل الطلعة رائعاً غيسانياً. وظل ساعة في مجلسه ودخان النار متصاعد من فوق الأزرار النحاسية. ولبث كذلك حت الساعة الأولى من الصبح فاختفى بالتدريج. ورأت السيدة الشبح بعينه عدة مرات ولا مشاحة في أن الشبح كان دائماً في مكانه. وإنما رؤيته كانت تتوقف على حالة السيدة المشاهدة. وهذه الحادثة تشرح رأينا في أن ذلك الشبح إنما كان صورة ذهنية ظلت بالمكان الذي وقعت عنده الحادثة. فإن تلك الأوراق التي كانت في يده توحي إلى الإنسان إنها كانت وصية أو أوراقاً ذات أهمية كان ذلك الضابط بعدها أو كان تلقاها. وكانت قد أحدثت له مشاغل وآلاماً ودليل ذلك جلوسه أمام النار مفكراً واجماً سارحاً في التفكير. وهنا أضرب لكم مثلاً من أعجب الأمثلة التي دونت منذ بضع سنين ونشرت في مجلة الوايد ورلد وأنا على أتم الاعتقاد بأن تلك القضية حقيقية، وقامت على أساس متين من الحقائق. وتفصيل تلك القصة إن سيدة وأطفالاً لها كانوا يسكنون بيتاً منفرداً منعزلاً على ساحل البحر وقد أزعجهم شبح جعل في ساعة معلومة من الليل يهبط سلالم البيت ثم يختفي في حجرة الطابق الأرضي في البيت. وكانت السيدة على شيء من الشجاعة فأجمعت النية على أن تجلس لانتظار رؤية ذلك الشبح فما لبثت عند حلول الميعاد المعلوم

أن رأته أمامها وتبينت ثم رجلاً قزماً شيخاً في ثوب بال عتيق يحمل حذاءيه في يديه غير منتعل وهو يخرج نوراً أصفر براقاً. فجعل ينزل مدارج السلم بخطى ثقيلة بينة الوقع فعزمت السيدة أن لا تكاشف أحداً من أهل البيت بالأمر ولكن مرضعاً في الدار لطفل من أطفال السيدة جاءت تصرخ وتصيح قائلة أنها رأت في البيت رجلاً عجوزاً مخيفاً وقد رأته وهي تنزل السلم إلى قاعة المائدة لتحضر قدحاً من الماء وشهدته عياناً وقد جلس إلى مقعد وجعل يخلع نعليه وقد تبينته من النور الذي كان معه لأنها لم تجد من اضطرابها وقتاً لإشعال عود الكبريت. فقام وزوج السيدة وأخوها بتحقيق الأمر فوجدا أن هناك تحت البيت قبواً أو مخزناً كان يؤدي إلى مغارة أو كهف يتصل بمياه البحر فدل ذلك على أن المكان كان معداً لتهريب البضائع. فقام الزوج وشقيق السيدة بتحقيق الأمر ومشاهدة ذلك القبو. وإذ ذاك رأيا أشنع منظر وشهدا أرهب مشهد. وجدا رجلين في صراع مخيف وشجار رهيب. وتغلب رجل منهما على الآخر فصرعه إلى الأرض وقتله ثم حمل جثته إلى الكهف وراح يدفن السكين في حفرة في الأرض. وكان الزوج هو الذي تمكن وحده من رؤية الرجل وهو يدفن السكين وأغرب ما في الأمر أن الزوج أخرج فعلاً سكيناً من أرض الكهف بعد ذلك. وشهد الرجلان بعد هذا الحادث القاتل يمر بهما فتبعاه ودخل قاعة الطعام فشرب كأساً من الخمر ثم خلع نعليه وحملهما في يده وصعد السلم ودخل حجرة من الحجرات واختفى. وكانت تلك الأفعال تحدث منه كل ليلة يرقبانه فيها. فانتهى منهم البحث إلا الاستدلال على أن البيت كان يسكنه منذ عدة سنين إخوان جمعا ثروة طائلة من وراء التهريب وكانا يجمعان المال على نية المشاركة فأراد أحدهما الزواج فطلب أخذ نصيبه من الثروة ولكنه لم يلبث أن اختفى فجأة وأشيع عنه أنه ركب البحر في سفرة طويلة وأعقب ذلك أن الأخ الثاني لم يلبث أن جن. ولم يظهر سر اختفاء أخيه في حياته البتة وهنا نقول أن الحجرة التي دخل فيها الشبح كانت تحوي دولاباً لعله كان خزانة المال الذي جمعاه من تهريب البضائع. والغالب على الظن أن حمل الرجل نعليه في يديه كان باعثه أن القاتل يخشى حارس البيت ويخاف أن يسمع وقع أقدامه في هدأة الليل. من هذه القصة نستطيع أن نتصور أنه في تلك المجالدة الأخوية المخيفة كان الرجلان في أشد ثورة العواطف حتى تركت أثراً في لوحة المكان الذي وقعت فيه. وهذا الأثر ظهر

جلياً لكل من السيدة والزوج والممرضة والأخ. لأنهم جميعاً رأوا الشبح مما يدل على أن صورته كانت لا تزال متينة لم تتغير وهنا نقول أن القصة مثل من الأمثلة الدالة على وجود صور ذهنية تنطبع فوق لوحة الزمن والمكان في أوقات الشدائد وثوران العواطف. وإنه كلما كانت العاطفة شديدة عند وقوع الحادث. كان الشبح أثبت على البقاء عدة سنين.

أشعار منثورة

أشعار منثورة للكاتب الروائي الروسي تورجنيف ينقلها إلى العربية الكاتب الفاضل علي أفندي أدهم لا نزال نجاهد أي حادث تافه زهيد قد ينتقل الإنسان في بعض الأحايين من حال إلى حال؟ مشيت مرة في الطريق ولخطرات الهموم الهواجس في نفسي أي اعتلاج، وكان قلبي قد كظته أوصاب مخاوف سوداء ثم رفعت رأسي وكان الطريق ينطلق أمامي انطلاق السهم بين صفين من شجر الحور المتطاول الفارع. فوق ذلك الطريق على مسافة عشر خطوات مني في أشعة الشمس الذهبية المتلألئة الباهرة للعيون السادرة للأبصار كانت تثب طائفة من العصافير بسلاطة وخفة وحسن ثقة بالنفس ولمحت واحداً منها خاصاً كان يطفر على جوانب الطريق بعزيمة المستئيس وهمة المستميت نافخاً صدره مغرّداً في زهو وطغيان وتصلف كأنه يريد أن يقول ليس ثمت ما يخشى. مجاهد صغير مستبسل مغامر أروع مقدام؟ وفي الوقت نفسه كان باز يرنق بجناحيه في أعنان السماء كأنه قد قيض لابتلاع هذا المجاهد الباسل الصغير. فنظرت وتضاحكت وانتفضت نفسي فتبدد عني شمل الخواطر الحزينة وشعرت بتجديد العزيمة والإقدام وتوقد الحماس للحياة. دع بازي أيضاً يرنق بأجنحته فوقي فإننا سنجاهد ولا نعبأ بشيء. ن. ن في سكون ورشاقة أنت تسيرين في طريق الحياة، فلا دموع ولا ابتسامات وقل أن تنبعث من عينيك نظرة غير مكترثة صادرة عن انتباه بدون احتفال تتخلل سكونك. أنت صالحة عاقلة وفي منتأى عن كل شيء وليس بك منة حاجة إلى أي إنسان. أنت حسناء ولا يستطيع أحد أن يدري أأنت تقدرين حسنك أم لا؟ وليس عندك عطف فتمنحيه ولا ود فتبذليه ولست ترغبين في أحد.

نظرتك عميقة ولا فكر فيها وفي ذلك العمق الواضح المستبين فراغ. كذلك في حقول الجنة ومزارعها تتحرك الظلال اللطائف على الأنغام الموقرة المصبوبة بلا حزن ولا سرور. غداً غداً كل يوم نعيشه ونقضيه يكاد يكون فارغاً مملاً قليل المنفعة والجدوى وليس يترك وراءه سوى القليل من الآثار وأن الساعات القليلة عندما تمر الواحدة تخطف في ذيل الأخرى لجنونية مفقود المعنى. ولكن بعد ذلك يرتضي الإنسان الوجود ويغالي بالحياة ويعلق عليها الآمال وعلى نفسه وعلى المستقبل، وأي عميم من الخبر ومستفيض من اليمن ينتظره من المستقبل ويرجّيه من ورائه. ولكن لماذا يخيل له أن الأيام المقبلة سوف لا تكون مثل هذا اليوم الذي عاشه. ولكنه لا يتصور حتى ذلك وهو لا يحب التفكير وهو يحس بذلك صنعاً. آه الغد الغد؟ وهو يرفه عن نفسه بذلك حتى يطوح به ذلك الغد في القبر وفي القبر لا اختيار ولا تفكير. رجلان مثريان عندما أسمع إطراء الرجل التمول روتشلد الذي يوقف من ريعه الضخم وثروته الطائلة الآلاف لتربية الأطفال والعناية بالمرضى والآخذ بيد العجائز والمقعدين أستحسن منه ذلك ويصيب مني مواقع الرقة والتأثير. ولكني وأنا في غمرة ذلك التأثير الحسن لا أتناسى مزارعاً آوى إلى كوخه ابنة أخ له يتيمة. قالت له امرأته: إذا نحنح أوينا كانكا فنصرف من أجلها كل نقودنا ونبددها ونصبح لا نملك ما يكفي لاستحضار ملح نتناوله طعاماً مع قطعة من الخبز. فقال زوجها الزراع حسن - نستغني عن الملح! إن روتشلد جِدُّ متأخر عن ذلك المزارع. الطبيعة

أريت فيما يُرى النائم أني جئت معبداً ضخماً تحت الأرض ذا سقف عال مقوس وقد كان غاصاً بأنوار أرضية متشابهة وفي وسط المعبد كانت تجلس امرأة وقور فخمة عليها ثوب أخضر فضفاض وكانت قد أسندت رأسها إلى يدها وكان يلوح عليها أنها مسترسلة في تفكير عميق. علمت في الفور أن هذه المرأة هي الطبيعة نفسها فسرت في نفسي رجفة احترام ممزوج بخوف صاعد من قرارة روحي. وأتيت تلك الصورة الجالسة وانحنيت بإكبار وقلت يا أمنا وأم الجميع فيم تفكرين؟ أتفكرين في مستقبل الإنسانية وكيف ينال الإنسان أسمى ما في دائرة الامكان من الكمال والسعادة. فحركت المرأة عينيها السوداوين الرهيبتين في بكاء وتراخ وتمتمت شفتيها فسمعت صوتاً رناناً صليل الحديد يقول أني أفكر في كيف أمنح قوة أوفر لساق البرغوث ليتسنى له الفرار من أعدائه على أحسن وجه فإن ميزان الهجوم والدفاع مختل غير متزن فيه ويجب أن يراعى ويحفظ. فتلجلجت في الجواب وقلت ماذا؟ وما الذي تفكرين فيه؟ أولسنا نحن بني الإنسان أولادك الأعزاء؟ فتململت ثم قالت كل المخلوقات أبنائي وإن عنايتي ترفرف فوق الجميع وأنا كذلك أفني الجميع وأبيدهم. فأجبتها متلجلجاً، ولكن الحق والعقل والعدل. فقالت بصوتها الحديدي: هذه كلمات الإنسان! وإني لا أعرف الحق من غيره وإن العقل قانون الإنسان وماذا يعنيني من العدل؟ لقد وهبتك الحياة وسأستردها وأهبها لغيرك أديداناً كانوا أم رجالا - أنا لا أبالي. فانظر في خلال ذلك لنفسك ولا تقف في سبيلي - وكنت أود مراجعتها ولكن ألأرض اهتزت وتنهدت فاستيقظت.

سلطان مضحك

سلطان مضحك مولاي الحفيظ ومضحكاته يعرف الشرقيون مولاي الحفيظ سلطان مراكش السابق، وما كان من تنازله عن الملك، وتركه السلطان لفرنسا، ونحن نذكر القراء بما نشرناه عنه من قبل يوم ضرب الموعد لاستلامه المبلغ المتفق عليه وقدره أربعون ألفاً من الجنيهات من القائد ليوتي: المعتمد السامي في مراكش. على أن يسلمه عهد التنازل. فقد وقف السلطان أمام القائد يحمل عهد التنازل في يد ويمد الأخرى إلى الجنرال لتناول المال. وجعل يمد يده بعهد التنازل ثم يراخيها. ويبسطها ثم يقبضها. خوفاً من أن تكون ثمت خديعة يراد منها أن سيحب منه التنازل ولا يقبض المال المتفق عليه. ولقد كان منظراً مضحكاً. ومشهداً آية في الغرابة. إذ وقف الحفيظ هكذا كالأطفال. لا يريد أن يتنازل عن القرش حتى يعطى قطعة الحلوى. وقد كان ذلك على ظهر سفينة من سفائن الفرنسيس وكانت النية في ذلك أن يسافر الحفيظ إلى جبل طارق ومنها على صدر المحيط إلى فرنسا تنزهاً وترويجاً عن نفسه وأبعاداً له عن مقر ملكه الذي باعه في سبيل مال قليل لا تباع به العروش. وقد وصف أحد كتاب الإنجليز ما كان من الحفيظ في رحلته من عجائب خلقه. ومضحكات أطواره. وكان ذلك الكاتب مسافراً في السفينة يعنيها إلى باريس. وكان قد أقام ردحاً من الزمن في مراكش وعرف الحفيظ واختلط به. وقد نشر تلك. المذكرات عنه في مجلة كبري من مجلات الإنكليز. ولغرابة موضوعها. واحتوائها الكثير من الفكاهة والمجون. آثرنا أن نطوف بها قراء البيان. * * * قال الكاتب: وصلت بنا الباخرة في اليوم التالي وعلى صدرها السلطان. إلى جبل طارق. وقد اتفق لكاتب هذه السطور أن ان عائداً من مراكش إلى موطنه في إنجلتره عن طريق فرنسا. وكان يريد أن يرحل في سفينة أخرى. ولكنه أراد أن يودع صحابة له من حاشية السلطان والموظفين الفرنسيين المسافرين في حراسته على ظهر السفينة قبل ارتحالها. وكانت الرغبة أن يتجنب رؤية الحفيظ ويتحاشى لقاءه لأن السلطان كان منه مغضباً. ووقع

بينه وبين الكاتب شجار طويل في فاس قلب السفر بنحو خمسة أشهر إذ جعل الحفيظ يصب جام غضبه الملوكي على الكاتب لنشره المقالات الضافية عن الفظائع التي كان الحفيظ يرتكبها في مراكش قبل اعتزاله. ولذلك نزل السفينة وهي بالساحل راسية ليودع أصحابه وهو متحرش أن يرى السلطان مخافة أن يصب عليه غضبه مرة أخرى. ولكن السلطان ما كاد يلمحه وهو يخطو إلى السفينة حتى أسرع إليه فعانقه أحر عناق بين صديقين ودودين وقال لمن حوله أنه إذا لم يوافق كاتب هذه السطور على السفر معه في حاشيته. فليس على الحفيظ إلا أن يعلن أنه في منطقة المياه البريطانية ويرفض التقدم خطوة واحدة. كان المركز حرجاً، والمأزق صعباً، فتشاور الموظفون الفرنسيون فيما بينهم، وعرضوا عليّ الفكرة فأينت لهم أن خطتي قد وضعت، ولا أستطيع تغييرها، ولكن السلطان ظل على إصراره، فوقع المندوبون الفرنسيون في حيص بيص وجعلوا يرجون إليّ أن تنازل عن فكرتي وأسافر معهم فلما رأيت الأمر ازداد حرجاً، لم يسعني إلا القبول، فبدأت ثرثرة السلطان، وفرح بالأمر، وارتضى السفر وما كاد النهار ينتصف حتى كنا مغذين السير إلى مرسيليا وقد أدركت السبب الذب من أجله أبى السلطان إلا أن أكون معه، على الرغم من شدة كراهيته لي، ذلك أنه كان مضطرباً منزعج الأعصاب، متوهماً أنه كان معتقلاً، وإن النية فيه أن يؤخذ إلى فرنسا فيزج في غيابات السجن، ولهذا أراد أن يكون من بين حاشيته رجل إنكليزي أو رجلان، ليكونا شاهدين على ما يكون من الفرنسيين معه، على أنه لم تخطر هذه الفكرة بأذهان الفرنسيين البتة، ولم تكن على بال الحكومة الفرنسية. وبعد يومين وصلت الباخرة مارسيليا فاستقبل السلطان استقبالاً رسمياً إذ علقت الأعلام. فوق الميناء وخفقت الرايات. واصطف حرس من الفرسان وصدحت الموسيقى العسكرية بالتحية. وعلى أن مولاي الحفيظ لم يكن معروفة في فرنسا. فقد لفتت رحلته أنظار الشعب الفرنسي واهتم القوم به وبتحليل شخصيته. وكان إذ ذاك النجم المتألق. وظهرت صورته في الصحف ونشرت سياحته وبرنامج زيارته في الجرائد واجترأ مصنع من مصانع الأساور فملاً حيطان الحانوت بصور الحفيظ وهو يلبس تلك الأساور. وكان مولاي الحفيظ على الرغم من عدم اكتراثه بسرعة السيارات التي نركبها شديد

الجزع من سرعة القطار وكان من الصعب إقناعه بوجوب ركوب القطار إلى مدينة فيشي للاستحمام بمياهها المعدنية المشهورة فإن المسافة شاسعة والسفر مع حاشيته الكبيرة والضباط الفرنسيين الكثيرين شاق بالسيارات. فبعد أيام ثلاثة من مقامه بمارسيليا ركب المركبة الخاصة به في القطار الذي أعد له ولحاشيته وحرسه ليقله إلى ذلك المصطاف الجميل فما كاد القطار يترك إلافريز وينهب الأرض نهباً. حتى جزع السلطان واضطربت أعصابه واشتد قلقه ولم يستطع أن يكتم خوفه ويسر جزعه فلما زاد القطار سرعته. صاح السلطان طالباً إيقاف القطار وقال أنه يؤثر أن يصل إلى فيشي سعياً على القدم من أن يظل دقيقة واحدة في ذلك القطار اللعين. وبلغ جزعه الحد الأقصى. وتناهت مخاوفه. إذ بلغ القطار فسرب فيه وما لبث أن جري في ظلمة طخياء وحلكة شديدة وكان منظر السلطان يستثير الشفقة فقد جعل يتشبث بذراع الضابط الفرنسي الذي كان بجانبه والرعب في عينيه وهب لا ينفك يصيح. قل لهم أن يوقفوا القطار. لماذا لا تأمرهم بإيقاف القطار: وكان رعب حاشيته من المراكشيين أشد ظهوراً. إذ جعلوا يصرخون ويتماسكون ويتشبثون بعضهم ببعض خوفاً وهولاً ثم ما لبث القطار أن نفذ من النفق فعاد يجري في أرض سهلة وضياء منبسط فاستوى السلطان في مجلسه وسرى عنه. وذهب الروع، وراح يقول في لهجة عظيمة جريحة متألمة تكرم بكفهم عن هذا العمل! قال الضابط: أخشي أن لا يكون ذلك ممكناً. فقال السلطان: ولماذا قال الضابط: لأن القطار لا بد من أن يجري في سفح الجبل فنهض السلطان من مجلسه وراح يقول: إذن فيجب أن يقف القطار عن المسير وسأمشي فوق الجبال حتى الحق به عند تركه هذه الجهة. فصاح الضابط مقاطعاً مبيناً للسلطان مقدار المسافة: فلم يكن من السلطان إلا أن قال لا اتهمني المسافة أصلاً: فإنني أفضل أي شيء غير هذه الالآم التي يحدثها لي القطار. فبعد لأي استطاع القوم الذين حوله أن يقنعوه بالرضي بالسفر فأذعن صابراً: ولكنه لم ينفك طول المساء يلعن مخترع القطارات وبناة السكك الحديدية ويشتم مخترعي الفق خاصة وبفردهم بذمه ولعناته. وحدث عن الأشياء الكثيرة التي جعل يشتريها الحفيظ ولا حرج ففي

ذات يوم ونحن في فيشى معه انطلق السلطان فزار ضيعة قريبة من الموضع وأصر على أن يطوف خلالها ويجوس بين ديارها وأرباضها حتى جاء إلى مكان اجتمع فيه قطيع كبير من الماشية فقرر السلطان ابتياع القطيع برمته ودفع إلى صاحب النعم بطاقته (كرته) وقال: لترسل الأغنام بهذ العنوان الليلة وكان العنوان الذي ذكره في البطاقة، فندق ماجستيك وهو أبدع قصور فيشى وفنادقها الفخمة، فما كادت تؤذن الساعة الحادية عشرة من تلك الليلة بعينها. وهي الساعة التي يكون الفندق فيها في أشد حركته، والنازلون به في أشد سمرهم، وأعز حوارهم وطوفاتهم حتى جاء صاحب الفندق إلى وأخبرني بأنه قد وصلت إلى الفندق سبع وعشرون بقرة بيضاء على غير انتظار وقد ادخلت رحبة الفندق وهي إذ ذاك به، فرأيت ثم أبقاراً بيضاً غلاظاً، تجري مصطدمة متدفعة في وسط عشرات من السيارات وهي في خوار وصياح، والخدم حولها مزدحمون بفصلون بعضها عن بعض، تلك كانت صفقة السلطان، ولا أعلم أين كان مبيت تلك الأبقار في تلك الليلة، ولكن اضطر صاحب الفندق في اليوم الثاني أن يجد لها مكاناً صالحاً. وكان السلطان يتناول العشاء في حجرة الطعام الكبرى في الفندق، وقد أعدت له مائدة متعالية حتى يكون على مستشرف من الآكلين جميعاً - وهم صفوة أهل باريس، وخيرة النجوم المتألقة في الحياة، وأعمدة المجتمع التسامية، ففي ذات مساء، والقوم صافون حول الموائد والسلطان إلى المائدة جالس، إذ جعل ينظر نظرات ذهول وشرود ذهن إلى الجلاس وبرتو إليهم رجل مشفق عليهم. راث لحالهم، وكان قليل الكلام، ملازم الصوت وأخيراً استدعي صاحب الفندق فهرع إليه الرجل في أدب وشدة إجلال فلما وقف أمامه راح الحفيظ يقول وهو يشير إلى جمع الجالسين في المائدة: إن هذا الجمع موزع اسوأ توزيع، وكثيرون منهم لهذا الترتيب السيء متألمون، يبدو عليهم الحزن، وتتجلى شيماء الكآبة على معارفهم، فلنعمل على ترتيبهم كما يجب فإن هذا الرجل العجوز ذا اللحية الشهباء المستطيلة لا حق له في الجلوس بجانب تلك السيدة الشابة الحسناء ذات القبعة الطويلة الجميلة والعقد اللؤلؤى المتلألئ - فإن ثمت فارقاً فظيعاً بين عمريهما، فيجب أن تجاس بجانب ذلك الضابط الفتى الجالس هناك: وأشار إلى مائدة أخرى - لأن السيدة العجوز التي تجلس بثيابه - وكأنها أمه وخالته - هي التي ينبغي أن تكون جلية ذلك العجوز ذي اللحية

البيضاء. ألا ينبغي لك أن تمهد السعادة لضيوف فندقك، وتعمل على راحة النازلين بدارك وهنا أشار إلى جهة أخرى من الحجرة، والآن ألا ترى تلك السيدة الجالسة هناك تبدو حزينة متألمة، وقد جعلت تضرب الصحفة التي أمامها بطرف شوكتها دون أن تمس طعاماً، ويلوح لي أنها كارهة الجلوس بجانب الرجل الذي بجانبها ولعله زوجها. أنني مراقب حركاتها طول هذه المدة وقد رأيتها تنظر إلى الفتى الجميل الذي يجلس هناك وحيداً بفتل شاربه فاذهب وقم بواجب تعريفها بعضهما فإن زوجها لم يخاطبها بكلمة واحدة كل هذا المساء فاذهب وافعل كا أشرت عليك، وبذلك تجعل من مخلوقين محزونين إنسانين سعيدين فرحين فإذا ساء الزوج ذلك، واسوحش العزلة فادع إلى الجلوس بجانبه تلك السيدة ذات الفروع الحمراء التي تخالسه النظرات. وإذ ذاك تستطيع أن تشغله عن زوجته. هذا التقسيم جميل بلا شك ولطيف الغاية، ولكن للأسف لم يكن في إلا مكان إنفاذه وكانت الأيام التي قضاها السلطان في فيشى غائمة سوداء لا تطالعها شمس، ولكن لم تلبث الشمس أن أعلنت نفسها فكان صباح جميل ناضر، فرأى السلطان أن يغير المكان الذي اعتاد المكث والمبيت، فوجد في الناحية المقابلة حجرة ذات شرفة ازدانت بالأزاهر، فدخلها وفي أثره غلمانه وخدمه، ولما رأى الشرير فيها أمر الغلمان بأزاحته إلى جانب الناقدة المؤدية إلى الشرفة، وجلس هو على الزرابي في الشرفة جلسة القرفصاء وراح يطل على الشارع. على أن تلك كانت السيدة نبيلة من الروس وكانت قد ذهبت إلى الحمام لتبترد، فلما انتهت من الاستحمام دخلت الحجرة متفصلة من ثيابها ليس عليها إلا ثوب الحمام فإذا بها أما رجل شرقي أسمر المعارف، وحوله غلمان سود، وخدم في القفاطين، فذعرت السيدة، ولكن السلطان قابلها بأشد الاحتشام، وألطف عبارات التأدب، ودليل الأدب أنه عزم عليها إلا ما جلست بجانبه على الزرابي. فقابلت السيدة ذلك بالتلطف ولولا ذلك لازداد الأمر حرجاً، ودعى كاتب هذه السطور في الحال لفض المشكل، فانفض على خير وجاء زوج السيدة فجعل الزوجان يضحكان من هذه المباغتة المسرحية. ومثلت ليلة في الأوبرا تحت رعاية السلطان وكانت الرواية غنائية، وأنتم تعلمون أن الغناء في مراكش أو قل في الشرق عامة يختلف والغناء الفرنجي أشد الاختلاف، وكان المغنى في تلك الرواية رجلاً جهيراً ذا صوت كالرعد، غما كادت الأوركسترا تعزف وتعينه على

القطعة الثانية، حتى انفجر صوته فملأ قاعة الملهى وجوها كله. فاضطرب السلطان الحفيظ إذ لم تفعل فيه الموسيقى الأثر الذي فعلته في الجمهور. ولم يقهم من كل هذه الصيحات الغنائية والإشارات التي جعل الرجل يصحبها بالغناء إلا أن الممثل كان مريضاً يحس آلاماً شديدة ولا سيما أنه كلما رفع بالغناء عقيرته. راح يلوح بذراعيه في الهواء، ثم يدنيهما حتى يمسا معدته. فلما رأى السلطان الرجل مسترسلاً في الصياح. لم يلبث أن نهض من مجلسه مذعوراً وصاح. أين الطبيب، أين الطبيب، ليذهب لاستدعائه رجل منكم فلعله مستطيع أن ينقذ حياة هذا الرجل المسكين: وما كاد ينتهي من عبارته حتى أرسل عينيه تدوران في الملهى تبحث عن الطبيب وهو في أشيد الجزع على المغني ولكن بعد أشد الجهد استطعنا أن نقنع السلطان بأن الرجل ليس مريضاً بل كان يغني لتسلية الجمهور. ولكنه لم يصدق بتة وجلس برهةً ثم سئم الغناء وسماعه فترك المكان قبل أن تنتهي الرواية، فلما كان اليوم التالي سألني عما حدث في الفصل الأخير فلما نبيء بالختام المحزن الذي وقع لجميع أشخاص الرواية. لم يكن منه إلا أن قال أنني آسفت على تركي الملهى قبل النهاية ولو كنت مكثت لاستدعيت صاحب دار التمثيل في الحال وأصررت على أن يكون ختام الرواية ساراً مفرحاً فإن ذلك الجندي في الرواية كان يجب أن يتزوج السيدة ذات الثوب الأبيض. وتلك المرأة العمياء كان ينبغي أن يبحث لها عن طبيب يرد عليها بصرها: وكنت قديراً على أن أنقذ الرواية من كل هذه المصائب. . .

الملوك ورؤساء الجمهوريات

الملوك ورؤساء الجمهوريات موازنة وضع أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية السابقين - المستر روزفلت - وهو من أكبر رجال السياسة. وقدر كتاب العالم الجديد. مذكرات لرحلة من رحلاته طاف فيها بلاد الغرب وعاج فيها على الشرق. وقد وصف في تلك المذكرات ما كان منن لقائه الملوك. وزيارته قصور الإمارة. وآداب الحكام الذين نزل عليهم ضيفاً. وهي من أبدع ما كتب رجال السياسة. لذلك آثرنا أن نقتطف منها القطعة الآنية لغرابة موضوعها وطلاوة بحثها. وهي الموازنة بين الملك ورئيس الجمهورية والفروق التي بينهما في الحقوق والامتيازات. * * * وقد أضحكني عند وصولي رومه أن وجدت سفير أمريكا بها على خلاف حاد وشجار مستطيل ورئيس تشريفات الملك. وقد أدار الأول أن يكره الآخر على لأن يستقبلني عند وصولي الحاضرة الكبرى بما يجب لي من الحفاوة الخليقة بملك. وأصر على رأيه من أنني لست إلا زائراً عمومياً. ورجلاً من عامة الناس لا حق لي في استقبال ملكي ولا يصح استقبالي كما يستقبل الملوك وأهل الألقاب الموروثة كابرا عن كابر فلما وصلت ورأيت ذلك الشجار الحاد تداخلت بسرعة في الأمر وأخبرت السفير أنني مشارك رئيس التشريفات كل المشاركة في رأيه. وطلبت إليه أن يعدني كما عدني رئيس التشريفات. رجلاً عمومياً لا أكثر ولا أقل. وأن ينبئ جميع عماله بأن يكون لهم في شأني هذا الرأي بعينه. وكاشفته برغبتي في أن أترك في كل حركة من حركاتي. أرسمية كانت أم غير رسمية افعل كما أشاء. وأمشي وأجلس وأتنقل كما أريد وأن أنزل على حكم أهل المدينة وحكامها. فأظهر في المجالس إذا أرادوا. واختفي إذا شاؤا. وقد أردفت كلماتي تلك بأنبائه أنني لم أقل ذلك تواضعاً مني وتنزلاً. بل عزة وإدلالا وفخراً. فأنني علم الله أشعر باحترام صادق للملك الذي يؤدي واجبه خير الأداء وأسر بإظهار الاحترام الخليق به وإبداء الإجلال الواجب لمكانته ولكني أكره ما أكون للرجل العادئ الناشئ نشأة العامة والذي وثب من الصفوف فكان القائد الديموقراطي. وما أبغض شيئاً من شؤونه قدر ما أبغض افتخاره بأنه الديموقراطي الواثب من عرض الجماهير ث إلحاحه في طلب حقوق وإكراهه الإنسانية

على منعه امتيازات ورسوماً وفرائض ليست منه إلا حجة تناقض ادعاءه الديموقراطية. وافتخاره بها، وإذلاله على الناس من ناجيتها. ولعمري ما أبدع رأى الأمريكان. وما أجمل نظريتهم. وهي أن الرجل من عامة الناس قد يثب من غمار الجماهير فيشغل من سمع الدنيا وبصرها مكاناً قد يساوي فقي عظمته مكانة أكبر ملوك الأرض. ويكون له من السلطان ما بين سلطان القياصرة والعواهل العظم والباباوات الكبار. فإذا أتم دوره ترك المكان لسواه. ومضي لا عطاء يتناوله. ولا معاش يتقاضاه. ولا وظيفة تجري عليه. وعاد إلى صفوف الناس موفور الكرامة. لا يطالب الدنيا من الاحترام إلا على قدر كفاءته الشخصية. ومواهبه واستعداده ومقدار عمله. وأسخف شيء وأحمقه. أن ترى رئيس الجمهورية. أو الرجل الذي كان يوماً رئيس للجمهورية بريد الناس على الاعتقاد بأنه أشبه بتقليد ملك. أو ملك (نصلبه) أو إمبراطور (ترسو) ولو فعل لكان أشبه بالقائد الروماني الذي أراد أن يعامل في الناس معاملة ملم من ملوك آسية الأقدمين. إذ ينبغي أن يعلم الناس أن يعلم الناس أن مكان الملك جد مخالف لمكان الرئيس درجة ومرتبة وشكلاً وصورة. ومن الحماقة نسيان هذه الحقيقة أو تناسيها. ونحن لا يهمنا أن تتقبل الشعوب الأخرى مبدأ الأمريكان ويرتضوه مبدأ طيباً لهم. وإنما أكرب همنا أن لا يحيد أمريكي يصعد مكان الرآسة، ويتربع في دست الولاية، عن ذلكم المبدأ، أو ينجرف عن هذا الرأي الجميل. على أن الملك إيطاليا تلقاني بأكبر الحفاوة، وأنزلني أكبر منزل. فلما أعدت حفلة العشاء في القصر، والشيء يذكر بالشيء. اضطرتني الحال إلى أتن أستغل آداباً لم أستعملها في بلاط ملك آخر من الملوك الذين نزلت عليهم، وقد اجتهدت أن أترك قبعتي وأمشي إلى المائدة حاسر الرأس، عند ما تركت معطفي في الحجرة المجاورة لحجرة المائدة، ولكن لم ألبث أن وجدت قبعتي مردودة إلى. وقد تولي القوم الدهشة وأنكروا تلك الغفلة مني واستفظعوها ولم أدرك شيئاً نم ذلك. حتى رأيت الضيوف الآخرين قد أبقوا قبعاتهم فوق رؤوسهم، ففعلت فعلهم، ومشيت إلى المائدة بالقبعة فلما أقبل الملك والملكة، وقدمت إلى الملكة لآخذ بذراعها إلى المائدة، ظننت أنه يصح إذ ذاك أن تخلى عن القبعة، ولكن القوم أفهموني أنه ينبغي أن أمسك ذراع الملكة بذراعي، وأمسك في يدي الأخرى قبعتي، ولم أكن رأيت هذه الآداب من قبل إلا في حفلات اليهود في نيويورك وأعراسهم.

وقد أذكر حال أولئك الملوك بوجه شبه بينهم وبين ضباط جيشنا الأمريكي القديم في القرون الماضية، وإن كان هذا الشبه يلوح غريباً شاذاً مؤلم الوقع، وذلك من ناحية علاقاتهم بعضهم بعض، يوم كان أولئك الضباط وأزواجهم محتبسين في بقعة بعيدة عن الحضر ضاربين خيامهم في أرض قفز قصية عن المدينة، وكان بينهم وبين من دونهم نم الجند والكشافين والقابضة والصيادين البلدين بتلك الأرض، وإن كانوا متربطين برابطة واحدة، وعقد متينة، على شيء كثير من الغيرة والتنافس والمشاحنات والكراهية والمنازعات تفرق بينهم وتقطع حبل الصلة بين بعضهم والبعض وشبيه بهذا ما يقع هؤلاء الملوك والأمراء وما يحدث بين الملكات والأميرات، وما يكون بين الملك الصغير والإمبراطور العظيم إذا أراد هذا أن يغيظه ويحنقه عليه ويضرق عليه أشبه شيء بما يقع يبن زوجة السكابتن وابنة الكولونيل. وكنت أتصور قبل رؤيتي هؤلاء الملوك أن حياتهم لا بد نم أن تكون محدودة ضيقة الجوانب مقيدة فزادتني هذه الرحلة التي أديتها ثقة بصحة ظني وإيماناً بعقيدتي وأنا أستطيع أن أفهم رغبة المرأة في أن تكون ملكة وأقدر اعتزازها بهذا اللقب العظيم ولكني لا أستطيع أن أدرك لم يبتهج الرجال بأن ينادوا في الدنيا ملوكاً، وأنا لا أنكر أن لذة الملك والسلطان عظيمة فاتنة ساحرة إذا كان الرجل منا ملكاً وحاكماً مسيطراً، كان له من القوة والنفوذ ما يجعل منه فردريكاً كبيراً، أو على الأقل أشبه بالإمبراطور ويليم الأول. وهو وإن لم يكن رجلاً عظيماً، وملكاً بطلاً. كانت له الصفات والسجايا والأخلاق التي مكنته من استخدام أمثال بسمارك ومولتكي وفون رون، والنزول على إرادتهم كذلك واستخدامهم له وأما الملك العادي البسيط فلا سلطان له على شيء سوى الأزياء والمودات فإن كان فاضلاً مستقيماً شريفاً استطاع أن يكون لامته الأسوة الحسنة، فإن لم يكن على شيء من ذلك اضطرت حاشيته وعلماء الدين حوله وأهل بلاطه وصنائعه أن يكونوا عمي البصائر فيقولوا له أن الفاضل والمستقيم والشريف ويخلقوا له فضائل ومقدوا عليه مدائح ليس هو منها في شيء، وأمثال هؤلاء الملوك العاديين لا يؤدون في الحياة عمل قواد الإنسانية الذين يبثون من صفوف الشعب فيقودوا الناس والحياة طوعاً أو كرهاً، وهذا العجز ينطبق على ملوك الحكومات الملكية الدستورية.

وهنا أسأل القراء أن يفهموني ويضعوا بألهم معي عند هذه النقطة من البحث. أنني لا أريد بقولي هذا أن الملك الحكومة الدستورية لا يستطيع أن يؤدي عملاماً، أوان لا تكون منه قائدة: بل أنه لأشبه بالراية الأهلية والمعنى الذي يدور حولها. والفكرة الاجتماعية التي تخفق مع خفقة قماشها، ولكن الرجل المجنون الأحمق لا يري الراية الوطنية إلا قطعة مصبوغة من القماش وخرقة بالية، على حين أنها في الحقيقة رمز عظيم الأثر في حياة الشعب وتفكيره وآدابه الاجتماعية وكذلك لا يكون الملك إلا رمزاً كرمز الراية ولا أريد أن أبحث قولهم أنه قد يكون من سوء الحظ في بعض الشعوب أن يروا على رأسهم مثل هذا الرمز وهذه التصويرة الخيالية الغريبة. فإنني لا أريد أتن أتكلم عن فائدة الملك لشعبه. فذلكم ما اعتقد، وإنما أريد أن أقول أنه إذا كان الملك عظيماً في نفسه، وثاب النشاط، عظيماً في سلطانه وقوته، فلا يمكن أن يحتمل ولا يرضى لنفسه أن يرى كل ماله في الدنيا وفي أمته أن يبقى رمزاً مقرراً وصورة خيالية لا بد منها.

عالم الأدب

عالم الأدب دول العرب أمير الشعراء أحمد شوقي بك كنا وكان الناس جميعاً على أن أمير الشعراء، وسيد الشعر العربي دون امتراء، حضرة صاحب السعادة أحمد شوقي بك، لا بد محدث حدثاً كبيراً لم يسبق إليه في عالم الأدب أثناء تلك الفترة التي قضاها في أسبانيا - واليوم وقد آب سيد الشعراء إلى وطنه، وعاد بلبلنا الغرد الصداح إلى وكنه، ظهران قد حقق الله آمالنا فيه وكان عمد حسن ظننا به وبشاعريته، فقد وضع في دول العرب مذ جاهليتها إلى أن أدال الله منها في الإسلام ملحمة بل ملاحم شعرية كبرى سد بها ثلمة في الأدب العربي ما كانت لتسد لولا سيد الشعراء. وهذه الملاحم بين قصيد وأراجيز وموشحات تلاقى فيها التاريخ بالشعر والحقيقة بالخيال والمعاني السرية، بالأساليب الملوكية، والنقد التاريخي الصريح، بالأدب العالي الصحيح، وهلم مما لا يبقي معه موضع لأن يستطيل علينا الأدب الغربي بمثل اليذة هوميروس مما يسمونه العشر القصصي وأزروا على العشر العربي عطله منه، وقد أهدى إلينا شاعرنا العظيم حلقة من حلقات تلكم الملحمة خاصة بالدولة الفاطمية وناط بنا شكلها وشرحها وسطاً ثم نشرها بعد ذلك في البيان. نسأل الله جل شأنه أن يجعلنا عند ظن شاعرنا العظيم بنا، وأن نوفق إلى نشر هذه الملحمة الفاطمية في العدد المقبل إن شاء الله. في سبيل التاج هي تلكم الرواية البديعة التي نقلها عن الفرنسية إلى العربية الروائي الكاتب المبدع السيد مصطفى لطفي المنفلوطي المشهور بشخصيته الأدبية الممتازة وأسلوبه الجميل الذي يستهوي النفوس وينحدر إلى القلوب انحدار الماء في الكثيب وإنا لنعرف عن عشاق الأدب والجمال تهافتهم على كل ما يدبجه السيد المنفلوطي دون حاجة إلى تفريط صحيفة أو مجلة وإن كل ما يكتبه السيد حفظه الله لخليق بذلك لإقبال وبأكثر منه - والكتاب يباع في جميع المكاتب وثمنه 10 قروش صحيحة. كتاب الأخلاق

للأستاذ العالم المهذب الكاتب الشيخ أحمد أمين خريج مدرسة القضاء الشرعي والمعلم بها اليوم. والكتاب حسنة من حسنات العصر لغة وتنسيقاً وموضوعاً فنحث جميع المولعين بالإطلاع على النافع المفيد أن يبادروا بقراءة هذا الكتاب وهو يطلب من حضرة صاحبه الفاضل بمدرسة القضاء الشرعي.

اعترافات دى موسيه

اعترافات دى موسيه الفصل السادس وبينا أنا مغمور في لجة هذا الحزن الفياض واليأس العميق دفعتني حدة الشباب على مساعفة من الفرص المؤاتية إلي إتيان عمل كان فيه الحكم الفاصل في مستقبل أمري وحالتي لقد كنت كتبت قبل ذلك إلى حبيبتي أني لا أشتهي البتة أن أرى وجهها، وقد أمضيت هذا العزم ولكني بقيت مع ذلك أقضى الليالي العديدة تحت نافذتها على عتبة دارها. وكنت أرقب شعاع المصباح نم وراء زجاج النوافذ وأنصت إلي النغمات لمنبعثة من معزفها. وكنت أحياناً ألمح شخصيتها نم خلل السجوف والستائر. فبينا أنا ذات ليلة جالس هذه الجلسة قد جهدني الحزن وبلغ مني الأسى بصرت بعامل يسعى وهو أثناء سعيه يتغنى بألحان متقطعة تشوبها صيحات نم الطرب. وكأنه كان قد أفرط في السكر فكان يتمايل في مشيته ويتخبط لا تكاد تحمله رجلاه. ثم أن هذا الرجل قعد على دكة إزائي فلبث برهة جاعلاً يديه تحت ذقنه ثم أخذه السكرى فغط غطيطاً. وكان الشارع خلواً من الأنيس وقد وهبت ريح جافة أثارت التراب وأسفر القمر يترقرق غديره في روض سماء تطفو على نهر مجرتها أزاهير نجومها. فنظرت إلى وجه ذلك النائم تستضيء ملامحه في سنا القمر الباهر. وكان لم يشعر بوجودي. وقد خيل إلى أنه كان فوق ذلك الحجر أهأ هجعة. وأوطأ ضجعة. مما لو كان على فراشه بمنزله. لقد أذهلني منظر ذلك الرجل عما كنت فيه من الحزن والكمد على الرغم مني. فنهضت لمغادرة هذا المكان ولكني ما لبثت أن عاودت مجلسي. والواقع أنه لم يكن في طاقتي الانصراف عن ذلك الباب وإن ظلت نفسي تأبى أن أطرقه ولو أن لي الدنيا بحذافيرها. وأخيراً قمت فتمشيت قليلاً ثم عرجت نحو ذلك النائم فوفقت أمامه. وقلت في نفسي (ما أعمق نومه؟ ما أشك والله في أن مثل هذه الرقدة العميقة خيالية من الرؤى والأحلام. هذه ثيابه بالية. وعظامه بادية. ويداه مقرورتان. وذراعاه معروفتان. ووجته ذابلة. وجثته ناحلة. لا غرو أنه أحد أولئك البائسين الذين لا يملكون قوت يومهم. ينامون على غصص الكروب الفادحة. ويستيقظون على مضض الخطوب القادحة. وأكبر ظني أنه أصاب الليلة دربهمات فاشترى بها من بعض الحانات جرعة نم جرع النسيان

أذهلته بالنوم عن آلامه. وكذلك قد أصاب في أجرة الأسبوع ما استجلب به رقاد ليلة - ولعل ما دفعه في ذلك إنما هو نفقة قوت عليه. والآن وقد ترك داره في مثل هذه الساعة فلا يبعد أن زوجته تغشه وتخدعه وتفتح باب حجرته لأنداده. وتبذل فراشه لخصومه وأضداده. ما أعمق نومه! ووالله لو أني ضربت بيدي على عاتقه وصحت به انتبه فلقد هجم عليك من بهم أو قلت له قم فلقد والله شبت النار في بيتك لما زاد على أن يتحول عن جنب إلى جنب ثم يعاود نومه. وهنا انصرفت عن الرجل أسير في الطريق بخطوات فسيحة ثم استرسلت في مناجاة نفسي فقلت (هذه حال ذلك الرجل وعكسها حالي. فأنا الذي أملك من المال ما يمكنني من إدامة النوم عامين أو ثلاثة وتراني مع ذلك لا أكاد أحصل على ساعة من النوم إلا بشق الأنفس. وإني لفرط كبريائي لا أستطيع غشيان الحانات لاستجلاب النوم بالكأس كما فعل هذا الرجل. ولا أكاد أصدق أن كأساً نم الراح تذهب عن المرء آلامه وأوجاعه. ولا أدري كيف يتأني أن عنقوداً من العنب ينسحق تحت أقدام أناس عديدين مستطيع أن يبدد أوجع الأحزان. وأبرح الأشجان. وكيف ونحن من فرط الألم نبكي بكاء النساء ونتوجع توجع الشهداء ويخيل إلينا في وحشة اليأس والقنوط أن عالمه قد سقط على رؤوسنا فتصدع وتحطم وارفض حولنا بددا وتمزق أرباً أرباً. فنحن نبكي وننتحب كما كان يفعل آدم مطروداً على أبواب الجنة. أرشفة من المدام.؟؟؟؟ للغليل والأوام. تشفي آلام الإنسان. وتأسو جراح الأحزان؟ إذن فما أيسر خطبنا. وما أهون كربنا. إذا كان في حسوة نم المدام وشك شفائه. وفي نهلة من الشمول ذهاب دائه. ولقد يدهشنا أن عين العناية المطلعة على كل آلامنا وأوجاعنا. وعلى شهواتنا ورغباتنا. وأغراضنا وأوطارنا. وعلى عزائمنا وهممنا. وخيبتنا وفشلنا. وعلى لجج الشرور والآفات المحدقة ينا. المصطدمة حولنا. لا تكلؤنا ولا تحوطنا ولا ترعانا ولا ترسل إلينا ملائكتها الكرام ليقضوا حاجاتنا ويجيبوا مطالبنا فمالي لا أصنع صنيع هذا الرجل. ومالي لا أنام على هذا المقعد كما ينام على مقعده. لعل خصمي يخلو الآن بحبيبتي وسيفارقها مطلع الفجر إذ تشيعه إلى الباب وعساهما يرياني وإني لمستغرق في نومي. فإذا وقع ذلك فما أحسب أن صوت لثماتهما المتبادلة يستطيع أن يوقظني من رقدتي. فيضطران إلى إيقاظي بلكزة من كفيهما. فإذا فعلا

فلن أنتبه ولم أزد على أن أتحول إلى جنب ثم أعاود النوم. فامتلأت سروراً لهذه الفكرة ومضيت ألتمس حانة الشرب. ولما كان الوقت قرب السحر كان معظم الحانات مغلقاً فغاظني ذلك وأضرم نار غضبي فقلت في نفسي (ويحي ثم ويحي! أأحرم حق هذا المتاع القليل والعزاء اليسير. فعدوت مسرعاً في كل ناحية وجعلت أدق على أبواب الحانات وأصبح (خمراً! خمراً) وأخيراً وجدت حانة مفتوحة فطلبت زجاجة من النبيذ وطفقت احتسي رضابها علاّ على نهل حتى أتيت ثم دعوت بثانية فثالثة وكنت أثناء ذلك أكره نفسي على الشرب إكراهاً كما يتوجر جرع الدواء مكرهاً. مضطراً يقاسي مرارته. ويعاني بشاعته. إذ كان يعلم في تعاطيه حياته. وفي تركه مماته. وما لبثت أبخرة الشراب أن اشتملت على ذهني وقد أسرعت إلى النشرة بقدر إسراعي إلى الشرب. فأحسست في أفكاري تكدرا ثم صفاء ثم تكدرا. ولما فقدت ملكة التدبر والتروى رفعت إلى السماء بصري كالذي يودع نفسه واتكأت على المائدة. ويف هذه اللحظة ظهر لي أني لم أكن وحيداً في الحانة إذ أبصرت في طرفها الأقصى طائفة من أناس غلاظ الأصوات تخاف الوجوه شاجي الألوان: وكانت أزيائهم تدل على أنهم ليسوا من الشعب ولكن من تلك الطبقة الملتبسة المشتبهة التي هي أخبث الطبقات وأرذلها والتي لا أخلاق لها ولا منصب ولا ثراء ولا صناعة ولا حرفة إلا أن تكون حرفة سافلة مرذولة وهي طبقة لا إلى لأغنياء ولا إلى الفقراء قد أخذت من الأولى برذائلها وخسائسها. ومن الثانية بمتاعسها ومبائسها. وكان أولئك القوم قد حمى بينهم ولميس الجدل على مائدة المقامرة. وكان بينهم فتاة صغيرة جداً رشيقة مليحة أنيقة الملبس بديعة الزي لا نشيه سائر الجماعة في أدنى شيء سوى صوتها وكان كأصواتهم خشناً مبحوحاً متقطعاً. وكان وجهها لفرط احمراره يوهمك أن الفتاة ما برحت منذ نعومة أظفارها تعالج مهنة منادي في شوارع البلدة. أقول لما نظرت إلى هذه الفتاة ألفيتها تحدد إلى طرفها كمن به حيرة ودهشة ولا جرم فلقد راعها وأدهشها أن يغشى مثل هذا المكان الحقير شاب في أفخر ملبس وأجمل شارة وأكمل زخرف وأبهج زينة. والحقيقة أن تأنقي كان مفرطاً خارقاً للعادة.

قامت هذه الغادة نم مجلسها فدنت مني في لين وخفة ثم رفعت الثلاث الزجاجات من أمامي وابتسمت حينما رأتها جميعاً فارغة. فراعني ثغرها الوضاح إذ رأيت ملثمها الحلو الرضاب يفتر عن لؤلؤ رطب وعن حبب ... وعن إقاح وعن طلع وعن برد ثم أني يدها وسألتها أن تجلس إلى جانبي ففعلت بلا احتشام ولا كلفة ودعت للعشاء على نفقتها. فرنوت إليها دون أن أنبس بكلمة واغرورقت عيناي فراعها مني ذلك وسألتني السبب ولكني وجمت فلم أحر جواباً سوى أني هززت رأسي كأني أبغي بذلك إطلاق العنان لمدامعي فأدركت الفتاة أن بي حزناً مضمراً وكمداً مستسرأ. ولكنها لم تحول استخراج دفائنه. ولا أراغت استثارة كوانمه. ببد أنها أخرجت منديلاً وجعلت أثناء تناول الطعام كلما فيض الدموع على وجنتي تمسح سيلها المنحدر. ودفاعها المتفجر فآنست في طبع الفترة مزيجاً من الغلظة والرقة ولالين والخشونة. وودجت في خلقها خليطاً نم القحة والرحمة والجرأة والحنان حتى جرت في أمرها وتعذر على أن أقف على حقيقة كنهها وماهيتها. فلو أن هذه الفتاة لقيتني صدفة في الطريق فتناولت بدب بمثل ما أبدت من الوقاحة وقلة الحياء لاستبشعت عملها واستبشعت صنعها. ولكن أدهشني جداً أن فتاة لم ترها عيني قط قبل الساعة تأتي فتجلس إلي ثم تؤاكلني وتمسح بمنديلها دمعي بلا أذني معرفة ولا مقدمة - حتى بقيت من الدهش صامتاً لا أفوه بكلمة أشعر بتقزز واشمئزاز يشوبه من الميل إلى الفتاة والافتتان بها. وهنا سمعت صاحب الحان يسألها هل تعرفني فأجابته نعم وسألته أن يتركني وشأني، وبعد برهة انصرف المنقامرون، وأغلق الخمار الباب الخارجي ومضى إلى خلف المكان وتركني والفتاة في خلوة. وكان هذا قد حدث بغاية السرعة حتى حسبتني في حلم وكأن خواطري وأفكاري تتعسف في متائه وأغماض وتتخبط في الغاز وأنفاق، وقد خيل إلى أني خولطت في عقلي أو أني أأتمر بوحي قوة آلهية وشيطانية. فصحت بالفتاة فجأة (من أنت؟ وماذا تريدين؟ ومن أين تعرفينني؟ ومن أمرك أن تمسحي مدامعي؟ أهذه وظيفتك التي تؤدينها في الدنيا؟ وهل حسبت ني في حاجة إليك؟ ألا فاعلمي أني لن أمسك بأطراف أناملي؟ فخبرني ماذا تصنعين وماذا تبغين؟ هل المال تريدين؟ وهل بإظهار العطف والحنان لأبناء السبيل تحترفين؟ وبإبداء الرأفة والرحمة للمحزونين

تتجرين؟ فإن كان ذلك فخبريني ما ثمن عطفك ورأفتك؟ وماذا تطلبين نظير ما تبذلن من حنانك ورحمتك؟ ثم أني نهضت من مجلسي وحاولت مغادرة المكان ولكنني وجدت رجلي تصطكان وتتعثران وأني أميد وأترتح وقد أظلمت عيني وتفترت أوصالي وتفككت مفاصلي وأن عرى قوتي تنحل وتنفصم، ودعائم بنيتي تنهار وتصدم، ثم مادت بي الأرض ودار الكون في ناظري وسقطت على أحد المقاعد صريعاً. فأخذت الفتاة بيدي وقالت (أنك لفي ألم وعناء. لقد شربت شرب الأطفال وما أنت في الحقيقة سوى طفل وما نظرت إلى عاقبة ما أتن صانع، فاجلس الآن ههنا وانتظر حتى تمر مركبة وحينذاك تخبرني أين دار أمك وإلى هنا لك تحملك المركبة ولن أصحبك إذ كنت قد صرحت لي بأنك تستقبح صورتي ولا تراني إلا بغيضة المنظر كريهة الطلعة. وقد شفعت الجملة الأخيرة بضحكة طويلة. وبينا هي تتكلم رفعت عيني إلى وجهها فليت شعري أكان حقاً ما رأيت إذ ذاك أم كان باطلا مما خيلته الخمرة، ووهماً مما زورته لنشوة - ولكني على أية حال أبصرت بوجه الفتاة في تلك اللحظة مشابهة مشؤومة لوجه حبيبتي. فحينما آنست هذا الشبه المنحوس تثلج الدم في عروقي وجمد مجراه، وقف شعر رأسي، ويزعم جهال الناس أن هذه الرعشة التي تصيب شعر الرأس إنما هي الموت يمر من فوق رأسي. ولكنه كان داء العصر ومرض الجيل، بل أن الفتاة نفسها هي كانت مرض الجيل ودار العصر، وقد جاءتني وجهها الأصفر الساخر المتهكم وصوتها الخشن الأبح وجلست إزائي في مؤخرة الحانة.

عجز الذهن البشري

عجز الذهن البشري عن إدراك خفايا الأشياء للبروفيسر وليم جمس أجل إن من الخطأ سر اللذة في شؤون الحياة فقد أخطأ كل شيء هذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها ولا مراء، بيد أننا محدودون قد انحصر نظرنا في لذة خصوصية لا نكاد ندرك سواها وقد عميت أبصارنا عن كل ما عداها، وكأن كل ما نستجمعه من مجهود لننفقه في نيل وطرنا الخاص لا يتم لنا إلا بالانصراف عن كل ما عداه نم أوطار الدنيا وبتقسية قلوبنا وتحصينها ضد ما خالفه من أغراض الحياة وشهوات العيش، هكذا خلق الناس وعلى هذا جبلوا وطبعوا، ولا يستثنى من سوادهم في هذا الصدد إلا أفراد قلائل بين شاعر أو قصصي أو فيلسوف في أودية الخيال قد هام، وأسلم ذهنه لأفانين الأحلام والأوهام ففي أمثال هؤلاء وأشباههم نم رجل اعتيادي عملي يصيب العشق حبه وفؤاده فيدرجه في سلكهم ويدخله في زمرتهم أقول في أمثال هؤلاء تنصدع هذه القيود وتنهار جدران هذا الجمود، وتتقوض تلك الأسوار الخارجية، وتنتهك هاتيك الحجب الظاهرية، فتبدو للعيان أسرار الحياة الباطنة، وتتجلى للإنسان مكنونات العواطف الكامنة، ويعود هذا العالم الخفي الوجداني المستسر النفساني، قد أضاء الذهن بأنوار حقائقه الزاهرة، وأنار نواحي الروح بأشعة سرائره الباهرة، فحينئذ يدرك المرد من أكناه الأمور وماهيات المسائل ما لم يكن يعلم،، وعندئذ يعرف أن ما قد وضعه لأشياء هذه الحياة وشؤون هذه الدنيا وأغراض هذا الوجود وأوطار العيش من أقدار، ومن قيم وأخطاء، كان كله خطأ وزوراً ومكذوباً، فيلتبس عليه نظام هذه القيم ويتشوش، ويختل ميزان هذه الأقدار والأخطار، وعندئذ تضمحل في نظرنا أوطار الشخصية السخيفة، وتتلاشى في أبصارنا مآربنا الذاتية الضيئلة الضعيفة، وعندئذ تبدو لنا الحياة في صورة مغايرة وهيئة مخالفة مباينة. وهذا التغير والاختلاف قد أجاد وصفه واحكم بيانه زمبلي جوسيارويس حيث قال في إحدى رسائله الكلمة الآتية: (ماذا تبصر أيها الرجل في جارك؟ أنت ترى في أفكاه وخواطره وفي مشاعره شيئاً مخالفاً لما يضمره جنانك، وينطوي عليه وجدانك أتن تقول لنفسك أن آلامه وأشجانه ليست كآلامك

وأشجانك ولكنها شيء أسهل وألطف، وعبء أهون وأخف. هو يظهر لك كأن نصيبه نم الحياة وحظه من الوجود أقل نم حظك ونصيبك - كأنه مخلوق أبتر ناقص. فعنصر الحياة فيه أبرد وأجمد. وكوكب الحياة فيه أكسف وأخمد. ونار الحياة فيه أخبى ضراماً. وأبوخ احتداماً، فهي رماد بالقياس إلى شعلتك المتأججة، وجذوتك الملتهبة المتوهجة، وشهوته ضعيفة فاترة، بالنسبة إلى شهوتك المضرمة المستعرة، وكذلك قد عاشرت جارك الأعوام الطويلة في غفلة من حقيقة أمره، وعلى جهالة نم مكتوم حاله ومضمر شره، فأنت حين تزايله أجهل الناس به وأعماهم عن ماهيته وكنهه فأتن معه على حد قول القائل: يا شاهداً يرنو بعيني غائب ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد لقد رأيت في جارك جماداً لا بشراً، ولم تر فيه ولا قلباً بل جحراً، فدع عنك هذا الغرور، وهذا الباطل والزور، وحاول أن تعرف الخلق، وتدرك الصدق، أن الألم حيثما كان ألم، واللذة أينما وجدت لذة، شأنهما ذلك سواء أكانا فيك أم في غيرك. إلا فاعلمن أنه في جميع أغاريد الطير وأساجيع الورق وأهاتيف القمارى بكل خميلة وروضة، وكل أجمة وغيضة، وفي جميع صيحات المتألم والمتوجع والمحتضر والمعاني سكرة الموت من الإنسان والحيوان وفي الزاخر الإقيانوس العديم النهاية الغاص بالملايين من الخلائق المائية المتنازعة على الحياة المتسابقة إلى الملمات، وفي الجماهير المكاثفة والجماعات المحتشدة نم الجوارح والسباع والضواري ومن القبائل العديدة والفضائل الجمة نم الهمج والمتوخشين. وفي كل بالأرض من الأمراض والأدواء والأحزان والأشجان ومن الفوز والانتصار والزهو والفخار. والهزيمة والاندحار. والزلل والعثار وفي جميع الخلائق من الذرة إلى المجرة. ومن سطور النمال إلى مواكب الأبطال. ومن أخس الأشياء وأوضعها. إلى شرفها وأرفعها. - في كل ما سردت وأوردت يبصر اللبيب المتبصر. والأريب المتدرب. عين ما يجيش بقلبه من تلك الحياة القوية. الجادة الذكية. المضربة الخفاقة، المنسكية الدفاقة. المحتدمة. المضطرمة. المأججة المتوهجة. البادية في عدد الرمل من الأشكال والمظاهر. المترائية في عدد الفطر من الصور والمناظر. التي لا تطفأ ولا تخمد أو تخبو نيران الشموس والأقمار. ولا تني ولا تخسر أو يقف الفلك المدار. فياليها الغافل أو المتغافل أدر في أنحاء الكون نظرك وقلب في أرجاء الوجود بصرك. فانظر قوة الحياة

الهائلة ثم اصرف نظرك وحوّل بصرك وحاول إن استطعت أن تنساها أو تتناساها. فإذا عرفت هذه القوة الهائلة وأدركت في كل ذرة نم ذرات الكون معناها فلقد بدأت أن تعرف الواجب أن تجلى أسرار الحياة بعد طول غموض واحتجاب قد يحدث لبعض الناس فجأة وبغتة ولكنه متى حدثت كان فاتحة عهد جديد في تاريخ حياته. ولقد قبل الكاتب الكبير إمرسون في هذا الصدد ما فحواه أن الحوادث التي تكشف لنا الحجاب عن أسرار الحياة يكون لها نم العمق ما ليس لغيرها من الحادثة وهذا العمق يقذف لنا من الحقيقة أضعاف ما تلقي به إلينا الحوادث العادية السطحية. ومن هذه الأحداث العميقة حادث الحب فالحب يعتري أحدنا فيزلزله زلزالاً ويصدع حجب روحه كأنما قد انفجر في أعماقها بركان. وقد تبدر من الإنسان فعلة يأسف على إتيانها تستثير في نفسه ندامة تظل سحابتها السوداء ناشرة ظلال الأسى فوق رأسه طول حياته ولكن لهذه السحابة بروق تريه شيئاً كثيراً من الحقيقة وإن كانت بروق صواعق. ودقائق معاني الأسرار الغامضة ربما غتتنا نم ثنايا الجمادات وتضاعيف الكائنات الطبيعية. واستشهاداً على ذلك أسرد ههنا الفقرة الآتية من رواية. أو برمان، وهي قصة فرنسية كان لها في زمنها7 شأن. وها هي الفقرة. باريز في 7 مارس. كان الجو مظلماً بارداً وكنت أشعر بكآبة وانقباض فجعلت أطوف في الطرقات إذ لم أجد لي شغلاً سوى ذلك. فجزت أثناء جولتي ببضع أزاهير مدلاة على جدار. وكان بين هذه الأزاهير جلنارة قانية زاهية وكانت هذه الجلنارة أسطع عنوان على الشهوة الملتهبة والشوق المشتعل. وكانت باكورة رياحين الربيع فلما تنسمت عبقها. وتوسمت رونقها. أحسست كأن كل ما قدره الله من سعادة لبني الإنسان قد شاع في جوانحي واستفاض في ضميري. أجل أن خيال الحياة الملائكية الوهمية. وشبح السعادة الأبدية الحلمية. قد تمثل في صفحة ضميري تاماً مستكملاً. وإني أشهد الله أني ما شعرت قط بشيء يداني ذلك المعنى أو ذلك الشكل أو تلك المشابهة الخفية التي جعلتني أبصر في تلك الزهرة جمالاً غير محدود وجلالاً غير محصور. . . . . وليس في مقدوري ولا في مقدور أي إنسان أن يعبر بالألفاظ عن كنه تلك القوة وماهية تلك العظمة! التي لا ينهض بنعتها شيء في عالم السموات والأرض.

ومن ذا الذي يستطيع أن يصف بالكلام ذلك المعنى الذي لا شيء يسعه ويحتويه أو يشرح بالألفاظ ذلك المثل الأعلى من الحياة المثلى الذي يحسه المرء في أعماق قلبه ولكنه يشعر مع ذلك أتن الطبيعة لم تخلقه. وكذلك الشاعران العظيمان وردذورث وشلى كانا مفعمين بمعنى ذلك السر الباهر المتجلى من وراء ظواهر الكائنات الطبيعية. فأما وردذورث فقد كان هذا السر يبدو لعينه هائلاً ذا معنى أخلاقي عظيم أو كما قال ذلك الشعار في بعض قصائده كان يبدو له كصوت مرحب منفرد في خلوة الطبيعية المنعزلة انظر إلى قوله: لقد رأيت في كل كائن من كائنات الطبيعة - في كل صخرة وثمة وزهرة بل في كل حجر مفكك مما يكسو ظاهر الثرى - حياة وروحاً. لقد أعرت كل هذه شعوراً ووجداناً - لقد رأيت كل هذه تحس وتشعر وإن تشأ فقل أني ألحقتها بما له شعور وإحساس. أجل يا صاحبي أن كتلة الكون العظيمة لتبدو لي كأنها مغمورة في أثناء الروح مائجة خفاقة وكأن كل ما وقع عليه نظر يتنفس عن معان باطنة. ويبوح بأسرار كامنة. وقد سمي وردزورث في قصيدة أخرى هذا السر الخفي الأنباء الصحيحة الواردة من قدسي المصادر عن خفايا الوجود هذا السر الخفي - هذا المعنى المستتر هذه القوة الرهيبة والحضرة المهيبة، التي تظهرها الطبيعة وتخفيها. وتنشرها صحيفة الوجود وتطويها، هذا الروح الخفي، والسر الجلي، لم يكن وردزورث الشاعر يدرك حقيقة ماهيته، أو يتجلى معالم صورته، أو يستطيع شرحه بالبرهان، أو يطيق وصفه بالقلم واللسان، بيد أن الذي قد=من عليه الله سبحانه وتعالى بوميض من ذلك النور المقدس ولمحة من ذلك السر الروحاني يطرب لا مثل شعر وردزورث الآنف الذكر ويرتاح لخفي معناه. وغامض مغزاه. ويبتهج بكل ما شابهه وجانسه من شعر ذلك الشاعر العميق - كالقطعة الآتية: أسفر الصباح كالملك ذي السلطان يحتال في حاشية نم النساء، وموكب من الأنوار والأضواء، وكالبحر الجياش منفسح إزاءه مشرق الغرة، ضاحك الأسرة، وعلى كثب من ذلك تسمو الجبال الشماء، إلى عنان السماء، مصقولة الجوانب كأنها السحب الغراء، قد غمرت في نهر من الضياء، أما المروج الخضر والسهول والوديان فكانت ترفل في أبهى حلل الفجر الأرجواني. والصباح المتورد القاني، قد حليت نم الندى إجيادها بأمثال نظم

الجمان وسحبت عليها الشمائل مطارفها عفية الذيول ممسكة الأردان، والدوح نم رحيق الجداول مرنح الأعطاف نشوان، والطير من طرب يرجع الهديل ويردد التحنان. أفبعد هذا كله يعجب الناس أن رأوني أبدي غاية الفرح والسرور. وأعلن أقصى غاية الجذل والحبور. وهل أنا في حاجة أن أقول أن قلبي كان بالسعادة فياضا وأني تسربات من أنس هذا الصباح ثوب ملذة فضفاضا. في تلك اللحظة المانوسة عاهدتني الطبيعة على أن أكون في معبدها المقدس حد خدمته: وفي محرابها المطهر بعض سدنته. في هذه اللحظة السعيدة بايعتني الطبيعة على أن أظل روحاً من أرواحها الطاهرة. وملكاً من ملائكتها البارة: وبهذه البيعة الشريفة تمسكت وبهذا السبب المتين تعلقت: وها أنا ذا سير في ساحة الطبيعة الرحيبة: وأمرح في مراتعها الخصيبة: مباركاً مبروراً ممتعاً مسروراً: ولكن خبرني أيها القارئ ماذا كان يرى جيران وردزورث من القرويين السخفاء: والفلاحين الأغنياء: ماذا كان يرى منهم حينما كانوا يرونه يسير - على حد قوله - في ساحة الطبيعة الرحيبة: ويمرح في مراتعها الخصيبة: عاشقاً لبديع الكائنات مستهاماً: مشغفاً بروائع الآيات صبوة وغراماً: بالسر الجليّ مولعاً مفتوناً وبالروح المقدس الخفي مولها مجنوناً؟ ماذا كان أغنياء المزارعين من عادى الناس يرون في شاعر بريطانيا الأكبر. وهو هائم على وجهه في السهول والأوعار. والحزون والأغوار: والبراري والقفار: كالصيد النافر والوحش الضاري. أو كالظبية التي قد تاه رشأها وطلاها: مولهة قد ضل بالقاع خشفاها: ينهب الأرض نهباً: ويستعف الفضاء تمهلاً أرخبباً: شارد الذهن فيما يظهر لبصائرهم العمياء عازب اللب شارد العقل - ماذا كان أولئك الغوغاء - وإن كان فيهم السري والوجيه والغني - يرون في شاعر بريطانيا بل في شاعر العالم أجمع - شاعر الإنسانية في كل زمان ومكان - سوي شخص أحمق معتوه أبله قد مسه الخيال - وما ذلك إلا لأنه قد خالف سيرتهم: وتنكب طريقتهم فلم يجعل غرضه الأبعد وهمّه الأوحد من الحياة زراعة الأرض مثلهم وبذر البذرة وسقى الأغراس والعزق والجني والحصاد وتربية الماشية والدجن وهلم جراً: وما أحسب أن أحد هؤلاء المزارعين القصار الأبصار الكلال البصائر خطر بباله قط أن يسائل نفسه - إذ ينظر إلى شخص وردزوروث غارقاً في بحار تأملاته - في أي شيء يفكر مثل هذا المخلوق وماذا يدور بخلده وماذا عسى أن تكون تلك

الخواطر التي شغلته عمايمهم الناس من شؤون هذه الحياة وأغراضها ومآربها وأوطارها - وهل لا يجوز أن ما يملأ ذهنه من الأفكار والخواطر ربما كان ذا قيمة ونفسة؟ كلا ما أحسب أن أحد أولئك الأقوام عني بشيء لا قيمة له وصورة متحركة وكائن عدمه خير من وجوده على أننا نعلم بالرغم من ذلك أن فكرة ذلك الشاعر كانت مادة طالما استمدت منها أذهان الأجيال المتتابعة والقرون المتوالية ومنهلاً طالما استقت منه قلوب البشر على اختلاف أنواعهم وأجاسهم وتباين مللهم ونحلهم: ومن معادن وجدانه المفعم تقتبس الضمائر أنفس كنوز المكنون: ومن صهاريج روحه الجياش تستعير الألباب أثمن ودائع اللؤلؤ المصون: وقد ألف الكاتب المشهور ريتشارد جيفريز: كتاباً جليلاً سماه قصة وجداني وحديث جناني ضمنها شيئاً كثيراً من وصف ما يجيش به قلب الشباب نم الطرب إلى مباهج الطبيعة والابتهاج ببدائع أسرار الكائنات: ومن ذلك فصل في شرح ما جلا بنفسه خواطر الفرح والسرور حينما كان واقفاً مرة على رأس جبل: كنت منفرداً في خلوة مع الشمس والأرض لا رابع بيننا: فاستلقيت على مهاد العشب الوثير وجعلت أناجي الأرض والشمس من أعماق روحي والهواء والجو والبحر القصي وراء مدى البصر: لقد امتلأ قليب بحلاوة ذلك الشعور اللذيذ حتى فاض فأقبلت أسبح ببدائع صنع الله من شمس وأفق: وأرض وسموات طباق: وأمزج روحي بهذه المصنوعات الألهية وأصلي شافعاً صلواتي بما استثيره من النغمات الصامتة: والألحان الخافية: المنبعثة عن هذه الكائنات - كما يشفع المتعبد صلواته بأنغام الأرغن - على أن وجداناتي إذ ذاك هي مما يعني بشرحه البيان: ويعجز عن نعته اللسان أجل يا صاح إن الشمس الهائلة ضياء والأرض الراسية - الحنون الرؤوم - والجو الدافئ والهواء النقي أفعمت قلبي مسرة وعجباً: ملذة وطرباً: وبهذا الطرب مزجت صلواتي وبذلك التيه والعجب شفعت تعبداتي ولم أكن قصد بهذه الصلاة ولا بذلك الوجدان الروحاني والانفعال النفساني إلى شيء معين ولمنه كان مجرد انفعال ووجدان وعاطفة مطلقة وكان شوقاً وصبابة وغراماً وهياماً - لقد دفنت وجهي بين الأعشاب وقد تراخت أوصالي وتفترت مفاصلي وانحل عقد قوتي. وأنبت سلك مني وضممت الأرض حتى كدت أفني في هذه الضمة واعتنقت العشب حتى أوشكت

أن أتلاشى في ذلك العناق وكأنما قد ضعت من شدة التأثر ضياعاً وكأن نفسي من فرط الطرب قد طاحت جباراً: ولو أن فلاحاً أو راعياً مربي عرضاً وأنا على هذه الحال لم يشكك في أن كل ما بي هو مجرد استلقاء على العشب التماس الراحة بضع دقائق ولم يكن ظاهر حالي يدل على أكثر من ذلك. ومن ذا الذي كان يدك ما ظل يجيش بفؤادي نم طوفان ذلك الطرب وما طفق يثور بضميري من عواصف ذاك الوجد والهياج وظاهر أمري لا ينم على أدنى شيء من باطنه. ولا مشاحة في أن مثل هذه الساعة من الحياة تبدو حقيرة قليلة القيمة إذا قيست بالمقاييس التجارية الاعتيادية التي تجعل قيمة كل ساعة حسب ما يستفاد فيها نم المادة. ولكن خبرني أيها القارئ هل للقيمة التجارية المادية أدنى قدر إذا قيست بالقيمة الوجدانية الروحانية المعزوة لأمثال ما وصفنا من تلك الساعة الخطيرة التي تتفتح فيها صفحات زهرة القلب لاستيعاب الأنوار الملكوتية والنفحات القدسية فتزهو وتنضر. وتسقى بالفيوض الإلهية فتزكو وتثمر. وهل ما يستفاد في مثل تلك الساعة من كنوز العلم والحكمة يصح أن يقاس به ما يكتسب من خسيس المعدن الأصفر والأبيض في الساعات التجارية المادية؟ ومع ذلك فنحن نرى أن لمصالحنا المادية وشؤوننا العملية من فرط الضجة والصخب ومن شدة الجلبة واللجب. ما يصمنا ويعمينا عن كل ما عداها من الشؤون والمسائل. حتى لقد نستنتج من ذلك أنه ليس ثمت سيبل إلى الوقوف على شيء من أسرار الحياة ولا إلى استجلاء الغامض من محاسن الطبيعة إلا بانصراف الإنسان عن المطالب المادية وصيروته كمية مهملة وشيئاً عديم القيمة من الوجهة العملية في نظر المجتمع. وعلى ذلك ترى أن هذه الوظيفة السامية - وظيفة الانصراف عن الماديات إلى الروحانيات وترك عيشة الجمود والنحجر إلى حياة الإحساس اللطيف الرقيق. والشعور الحاد الدقيق وما يقتضيه ذلك من الامتزاج بروح الله المتفجرة نم كل ذرات الكون وجزئيات الوجود حتى يصبح الإنسان كأنه شعبة نم شجرة الوجود العظمى ولبنة نم لبنات هيكل الكون إلا كبر ووتراً حساساً من الأوتار المؤلف منها قانون الطبيعة إلا كمل - أقول وعلى ذلك نرى أن هذه الوظيفة السامية وظيفة لا يستطيع تعاطيها وتأديتها إلا الرجل المطلق الدنيا الهائم وراء الخيالات والأحلام أو الرجل المتصوف المجذوب ممن يسمونهم أهلا لباطن أو الرجل

العاطل البطال المتشرد الرافس بقدمه الحرف والمهن والصناعات والمعايش وأساليب الارتزاق النستهام في حب الله الطارح نفسه تحت مهاب أدق المؤثرات وألطفها تحرك أوتار قلبه كما تنبعث أنفاس النسيم بأوتار المعزف. فتبعث أنغامها - فأمثال هؤلاء من متخيل حال. أو متصوف مدله أو متشرد عاطل هم القادرون على تعاطي تلك الوظيفة الروحانية السامية التي تغير اصطلاحات الدنيا في أسرع نم لمح على الجد والمجون على الوقار والحمق على العقل والطيش على الرزانة والبله على الدهاء والفقر على الغني والمسكنة على الجاه والصعلكة على الإمارة وتمحو في لمحة كل ما أحرزه لنفسه الرجل الدنيوي المادي من الامتيازات والمناقب والمفاخر طول عمره بالكد الناصب. والجهد الحازب. والسعي الدائب. وتعزو كل محمدة ومفخرة للمتشرد البطال. والنؤوم المضيع المكسال. فأتن أيها القارئ إذا استطعت تعاطي هذه الوظيفة والقيام بأدائها حق قيام أمكنك أن تصبر نبياً ولكنك لن تنال في المطالب الدنيوية نجاحاً. يرى الكثيرون منا في شاعر أمريكا والت ويتمان نبياً عظيماً ورسولاً كريماً بما قد ألغى من الامتيازات البشرية المألوفة. والإصلاحات الاجتماعية المقررة المعروفة ولأنه لم يجد ولم ينظم من الصفات الإنسانية سوى تلك الخصال البسيطة الأولية العامة المشتركة بين كافة أفراد البشر. ومن ثم أصبح يعده الناس الأعلى للعاطلين، والنموذج الأسمى للضائعين المضيعين، إذ كان رجلاً جل عمله وصناعته التفرج بمشاهدة خلق الله في موكبهم المتواصل المستمر الأبدي ينظر إليه تارة من نافذة غرفته وأخرى من سطح مركبة. الأمنوبيس وآنا من طاقة القاطرة وآونة من قارب المعدية وهلم جرا، ويرى فيه طائفة أهل العمل وطلاب الدنيا وأيضاً الدنيا رجال العم وأعضاء المجمع العلمي الأكاديمي شخصاً حقيراً قليل الغناء عديم الفائدة والقيمة عدمه خبر من وجوده، ولا يبصرون في شعره أكثر من مجموعة صيحات وصرخات - وجمل مفككة خال معظمها من الفعل أو الفاعل - وأكثر ألفاظها تعجب وأحرف استغاثة وندبة، والحقيقة أن هذا الرجل كان يتحرك ودجانه، ويهب إحساسه ويجيش صدره وجنانه لرؤية جمهور الخلق ومحتشد الجماعات الإنسانية كما كان يجيش روح وردزورث الشاعر الإنكليزي لآنف الذكر لرؤية الطبيعة واجتلاء منظر الأرض والسماء. والجبل والماء. أجل لقد كن يرى في منظر المجتمع الإنساني قوة

باهرة. وحضرة جليلة للشعور غامرة. جديرة أن تستغرق الذهن فتصرفه عما به هو أحق وأولى نم المصالح الدنيوية. والشؤون المادية مما هو أكثر من أن تسعه مرحلة العمر عند الرجل الجاد المجتهد الرابئ بعمره أن يضيعه في أمثال تلك الترهات والخزعبلات والسفاسف. وإذا شاء القارئ أن يعرف رأي هذا الشيخ المتشرد الذي شاب فؤاده في العطلة ولاكسل والبطالة في الطريقة المثلى لانتهاز فرص الحياة السانحة من قبل الملكوت الأعلى إلى المختارين نم صفوة عباده وصرفها في اكتساب أفضل نعم الحياة وأكرم ثمرات العيش فليقل كلمته الآتية من أحد رسائله إلى صديق كان سواقاً لبعض المركبات العمومية. وهي: نيويورك 9 أكتوبر 1868 عزيزي بيت - إن الجو ههنا غاية في الصفاء والجمال. ونهاية في الطيب والاعتدال فهو سجسج لا قرّ ولا حرور. مصقول الأديم لا غيم ولا صبير. ولقد بكرت الغداة إلى ضفاف النهر فسرت فرسخاً أو اثنين. وبعد فهل لك أن تعرف كيف أمضي ساعات النهار؟ فاعلم أني أصرف الشطر الأول إلى الظهيرة في حجرتي أقرأ أو اكتب ثم أذهب إلى الحمام ثم ألبس ثيابي وأترك الدار فألقي حبلي على غاربي وألقي زمامي بيد الأهواء تذهب بي حيث تشاء. لا أتقيد في تصرفاتي نم الأغراض المادية بحاد ولا دليل ولا أوثر في تقلباتي سبيلاً على سبيل. وتراني مع ذلك لا أشعر بطول الوقت ولا ثقله ولا أحس منه بفراغ بل أجد لدي من الأعمال والأشغال ومن المآرب والأوطار ما يملأ ساعات اليوم ويزيد. فأنا إذا ركبت إحدى المركبات العمومية بعد ظهر يوم فاندفعت بي في شوارع والطرقات كان لي فيما أمر به من مختلف المناظر والمشاهد خير مسلاة. ومبهجة وملهاة. ومستراد للعين ناضر بهيّ. ومستمتع للنفس. مستملح شهيّ. كيف لا توان المركبة لتعرض على البصر في ممرها من مناظر المجتمع صورة حية متجددة سرمدية - دوراً. وحوانيت وقصوراً. وأرصفة للسفن وحياضاً. وخمائل وجنات ورياضا. ومخارف. ومصايف. ومعارض ومتاحف. ومرابع ومعامل ومصانع. وعلى جوانب الطرق يتدفق تيار المارة بين رجال في المجاسد والمعاطف. والملاحف والمطارف. وأوانس حسان. يبن حاليات وعاطلات لكنهن من حلى الملاحة غوان. وأتراب كواعب. بأفئدة الرجل عائبات لواعب. بيض السوالف

مصقولة الترائب. ذلك إلى المركبات في إسراعها. والعجلات في اندفاعها. والدراجات في انسيابها. والسيارات في انصبابها. وما يتخلل كل ذاك من هرج. ومرج. ومن ضجيج. وعجيج. ومن صخب. ولجب ومن فرح. ومن مرح. ومن نداء. وضوضاء. وكأني بك أيها الصديق لا تكاد تدرك فرط ما لكل هذا من الأثر في نفس متشرد مثلى ولا عظم ماله من الوقع في فؤاد صاحبك الذي لا ألذ في قلبه ولا أحلى في نفسه من منظر المتجمع الهائج المائج يمر به عارضاً شتى صوره وأفانين مشاهده لا بهاجه وإمتاعه وهو واقف ينظر إليه نظرة وادع متمهل طويل النؤدة بعيد الأناة ليس يعنيه من أمر هذا المشهد العظيم سوى أنه ينظر فيتدبر. ويشهد فيتفكر. ويرمق فيتبصر. ويرنو فيتذكر. انتهت رسالة شاعر أمريكا الأكبر إلى صديقه السوّاق. وما أشك أن الكثيرين من القراء سيعدون مثل هذا الصنيع شرّ طريقة لصرف الوقت وأسوأ مضيعة لفرصة الثمينة وعملاً لا يصح أن يصدر نم رجل قد جاوز مرحلتي الشباب والرجولة وأشرف على الكهولة مثل الشارع والت ويتمان ولكن خبرني أيها القارئ إذا نظرنا إلى لباب الحقيقة أي الرجلين أنفذ بصيرة إلى أسرار الحياة وصميم الحق - الشاعر والت ويتمان ينظر إلى الدنيا من مظاهر مركبة الأومنوبيس يستطلع خبايا النفوس وخفايا القلوب نم أسارير الوجوه مملوءاً فرحاً بتلاوة آيات الخلق مسطورة على صفحة الوجود تجيش روحه طرباً باستجلاء هذه الأسرار المكنونة أم أنت أيها القارئ منصرفاً عن هذه الآيات الروائع والآثار البدائع ممتلئاً نقمة واحتقاراً. ومقتاً واستصغارا. لذلك الشاعر الذي تراه في رأيك ونظرك الأسمى عاطلاً متشرداً مضياعاً للوقت النفيس في الصغائر والحقائر. أرأيت إذا امتطى ظهر تلك المركبة رجل نم الأغنياء الموسرين بين المتقلبين في أحضان النعيم المضجعين في أمهدة الترف أو رجل من التجار أو المزارعين المهتمين بشؤونهم الشخصية ومسائلهم الذاتية أكان خياله الراكد الضعيف مستطيعاً أن يطمح إلى عنان السماء فيحلق إلى ذهب الأصيل وبديع وشى الغروب بألوانه البهيجة وأصباغه العجيبة كما يفعل خيال ويتمان أم كان بفطن في أعماق قلبه إلى هذه الحقيقة المؤكدة وهي أن الدنيا في أزمانها المتوالية المختلفة وعصورها المنوعة المتتابعة لم تكن تشتمل قط معان أقدس ولا

على أغراض أجل وأسمى مما كانت تشتمل عليه ساعة كان ينظر إليها من ظهر مركبته. هذه هي الحياة أمامه وعلة نحو شبر منها الموت. هذا الجمال الذي يراه الساعة في الدنيا هو ذاك الذي قد كان لها منذ القدم - هذه حرب الحياة العوان ومعركتها الدائمة مشفوعة بثمراتها وفؤادها ولكن العين الجامدة البليدة لا ترى في ذلك المشهد سوى شيء سوقي اعتيادي غث سخيف ممقوت. قال الفيلسوف المتشائم توماس كارليل ذات يوم لصديق كان يسايره تحت سرادق السماء المزدان بمصابيح الفلك وفد لفته ذاك الصديق إلى جمال روعة النجوم مه! إنه لمنظر يبعث على الحزن والأسى واذكر أيضاً أن تجدد منظر المجتمع على مرسح الحياة على أعين متتابع القرون والأجيلا وتكرر نظام الوجود العادي الأبدي الذي يملأ قلب ويتمان وأمثاله بذلك الفرح الباطن والطرب الدخيل كان يراه شيخ المتشائمين شوبنهور فيسوف ألمانيا العظيم المصاب بأعضل الأدواء وحشة القلب المظلمة وفراغ النفس الأليم الذي كان ينظر إلى الوجود من خلاله فيعيره وحشته وفراغه - مصدر الملل ومبعث الألم والسآمة. أليس هو القائل ما هي الحياة؟ أن هي ألا تجدد سخافات وتفاهات وتكرار أوهام وأباطيل وأصغار - وعين ما لم يزل نسمع ونرى منذ القدم من الصراخ والعواء ونبح الكلاب. وطنين الذباب! ولكنا على الرغم من مقالة كارليل ومقال شوينهور هذا نرى من صنف الخيوط التي تتكون منها هذه التفاهات والأباطيل والأصغار يصنع الوشى المنسوج منه كل ما كان ويكون وسوف يكون في هذه الدنيا من الشهوات والعواطف والنزعات والأهواء والأميال والمخاوف والآمال والأحزان والأفراح وسائر معاني الحياة!

فصول مختارة من كتاب الحكمة والقدر

فصول مختارة من كتاب الحكمة والقدر للشاعر الكاتب البلجيكي مترلنك مترلنك من أكبر شعراء أوروبا الحديثة وكتابها، وقد اشتهر بطائفة من الروايات التمثيلية وجملة نم المقالات الأدبية، وإن كتابه الموسوم بالحكمة والقدر لكاف في أن يجعل اسمه في عداد الكتاب الثابتين على الدهر القلب، الخالدين على الزمن الفاني. وهذا الكتاب تتخلله روح التفاؤل المهذب المستنير الذي يدل على سعة الذهن وانفراج ما بين أطراف الخيال، ويتغشاه ضوء الرضى الناشئ نم قوة الدراية بحقائق الحياة والمنبعث عن استفاضة العلم بدخائل الروح، فهو جدير بأن ينبط في النفس مشارع الأمل ويبجس فيها عيون الرجاء وينضر أمانيها الذابلة ويروّض تعلاتها المصوحة، وأن هناك ضرباً من التفؤل يستفز فينا الغضب ويبتعث السخط لأنه يدل على رقدة العقل وجموده وبلادة الحس وركوده وينم عن إدراك مواطن الروعة وجوانب العظمة في الحياة، فإن الناظر في الحياة قد تهوله عظمة الخير فتسبب له القلق والخضوع وقد ترهبه صولة الشر فتحدث في نفسه الحزن وتولد فيها الألم، وأن عقيدة الأمل لتسفل في النفوس التي ينشأ فيها الأمل من عدم الفطنة لما يحفهم من أسرار الكون الخفية ودخائله المستترة وفتور شعورهم بالحيرة الضاربة بأرواقها حول الإنسان والتي هي من أكبر البواعث للفكر على التفكير، والقارئ قمين أن يعلم من أمل مترلنك أن فضل العقيدة وأثرها في الحياة - سواسية عقيدة الأمل وعقيدة اليأس - لا يتوقف عليها في ذاتها ولكن على كيفية اعتقادها وطريقة اعتناقها، والعقائد في الحياة الفردية مثل الأديان في الحياة العامة تسمو وتنحط تبعاً لحالة معتقديها فإن الدين إذا ولج إلى عقول الهمج المستوحشين تحول في أذهانهم إلى خرافات مشوشة وأباطيل فارغة وتعصب ضيق ممقوت ولكنه في الأذهان الصافية المتفتحة للمعرفة تفتح الزهرة لقطرات الندى يتحول إلى منافذ من خلالها الكمال والخير، وطاقات ترى بها الجمال والحق، وينشأ من ذلك أن العقيدة التي تنهض بأمة وتسمو بها في مدراج السيادة والعظمة قد تكون هي نفسها التي تحدو بأمة أخرى في ركاب الفناء والزوال وقد لاحظ أحد الكتاب أن فلسفة شوبنهور النافية للحياة الزاهدة في الوجود كانت من بواعث الهاض الشعوب السلافية لأنها كشفت لهم أن الحياة لا تستحق الحرص عليها فحببت إليهم الأقدام

على المخاطر وعدم المبالاة بالصعاب وهو نت عليهم ملافاة الموت بصبر لا ينتكث وعزم لا يفل فزادت الحيوية المتحيرة في نفوسهم جيشاناً، وقد تكون فلسفة شبوبنهور نفسها من بواعث الخمول والسقوط لامة أخرى. وتفاؤل مترلنك تفاؤل رجل أطل على الهاويات البعيدة الغور التي نتثاءب لابتلاعنا وأشرف على الجبال السامية الأعلام الشامخة الذرى التي تحاول تسلقها فيعجزنا، فرأى أنه من الميسور تجنب تلك الهاويات وأنه ليس من وراء الإمكان صعود تلك الجبال - جبال الكمال التي يشم منها أزاهير الحكمة ونسائم السعادة وليس المنشأ الوحيد لتفاؤله إطراحه المذهب الجبريين فقد يكون الإنسان من القائلين بحرية الإرادة وهو عليل الظن بالإنسانية من ناحية انتفاعها بتلك الحرية ولكنه يرى ان دائرة حكم القدر ضيقة الرقعة محصورة التخوم وأن الإنسانية في يدها تهذيب نفسها، وهو واسع السعادة مشردة عن رياض النعيم وأن الفكرة الابدالتي تترك نفساً مثل نفس كارليل أو شوبنهور مثل الصدفة تسمع منها أنين لج الأبد الزاخر قد استحالت على يده إلى فكرة لماعة الجنبات مشرفة النواحي نستمد منها القوة في ساعات الكلال والفتور إذ يري أن أعمالنا الفكر في عظمة الأبد مما يزيدنا قوة على قوة لأننا في تأملنا تلك العظمة إنما نملح ظلال عظمة نفوسنا وقد لا يكون مترلنك أصاب من الحق الكلي والمفاصل في الكثير نم أفكاره ولكنه مما لا سبيل إلى دفعه أنه قد أتى بأفكار سامية تندى على الكبد الحرى وأعاد في الأذان في هذه الأوقات المادية العصيبة النغمات الحسان والأناشيد العذاب التي سمعها القدماء من أمثال مرقس أورلياس وسنكا وغيرهما من الفلاسفة والأسطوانيين و؟؟؟؟ الصول التي وقع عليها الاختبار. * * * أنا لا أزعم أن القدر عادل وأنه يكافئ الصالح ويعاقب الشرير، وأي روح واثقة من المكافأة مطمئنة إلى طيب الجزاء يمكن أن تدعى الصلاح وصحة الضمير وسلامة دواعي الصدر، وأننا عند ما نحكم على القدر لأقل منه عدلاً وأشد مغاراً في الظلم، وأن عيوننا لا تنظر سوى المصائب التي تقرع مروة الحليم ولا تبصر غير سحب الهم المركوة التي تمطره، ولكننا لا نري سعادته ونعيمه لأنه من شرائط تفهم سعادة العاقل الحكيم ووسائل إدراكها أن يكون في نفوسنا من الحكمة والعدل بقدر ما في نفسه، وأن الر=جل ذا النفس الأرضية

الوضيعة والقلب المغلف الجاف إذا حاول تقدير حكيم جليل وزنته ألفيت سعادة الحكيم تنساب من بين أنامله انسياب الماء، ولكنها في زنة الذهب ولمعانه ولألأئه وتوهجه في يد ضريبة الحكيم وصنوه العادل لأن كليهما قد منح ثقوب الرأي ونفاذ البصيرة وأن يرى أبعد من مرمى الأبصار وأسمى من تحليق الأفكار، وأن المصيبة التي تنزل بالحكيم قد تكون قريبة الشبه موجودة النظير في الملمات التي تحل ركابها بساحات غيره من الناس ولكن سعادته ليس لها أدنى علاقة ولا أقل صلة بتلك السعادة التي يتوهمها من لم يكن حكيماً، وأن في السعادة لأقاليم مجهولة أكثر مما في الشقاء، وأن صوت الشقاء واحداً بداً ولكن السعادة كلما نفذت إلى الأعماق كانت أخفت صوتاً وأكثر صمتاً، وإذا نحن وضعنا في كفة الميزان الأحزان والهموم ومناكر الأيام وعيوبها ووازناها في الكفة الأخرى بما يحسبه كل منا سعادة رأينا المستوحش يضع في كفة السعادة مقداراً من الريش وكمية من البارود ويضع الذهب المتحضر بعض الذهب وعدة أيام الأحلام وليالي الصبوات وذكر النشوات، ولكن الحكيم يضع آلاف الأشياء التي لا تستطيع عيوننا أن تستشفها يضع كل روحه وحتى الشقاء الذي كابده فهذبه والألم الذي مارسه فنقاه. إذا تلفظت بكلمة القدر انطبعت في صفحات أذهان الناس مجللة بالسواد مكسوة بالمخاوف فإن الذي يدور بخلدهم بالغريزة والجلبة هو أن الشعب الذي يؤدي بسالكه إلى القبر - وهو في أكثر الأوقات الاسم الذي يطلقونه على الموت عندما تكون يده خافية عن الأبصار - هو عندهم الموت الذي يحوك سداره ولحمته من المستقبل ليمد ظلال الموت على الحياة، ونحن نسمع بالموت يتربص الدوائر بالمسافر في منعطف الطريق وحنيته نقول أنه لا محيد لأحد عن ملاقاة المقدور ولكن لو لاقى المسافر بديلاً فنحن لا ننيط ذلك بالمقدور ولو أنا فعلنا ذلك لكانت له صورة أخرى في القلوب وشأن مختلف في النفوس ولكن بين كل ذلك ألا يوجد أفراح ومسرات نلتقي بها في طريق الحياة ورحلتها أكبر وأجل من أية كارثة وأفدح نزلة، بل أضخم وأفخم من الموت نفسه؟ أما يمكن أن نلتقي بسعادة سامية على منال العيون قصية على مرامي الأبصار؟ أو ليس من طبائع السعادة أنها أقل ظهوراً وأخفى مدباً من الشقاء، وأن الطرف يتقاصر عن إدراكها كلما تسامت وتوقلت في النواحي العالية؟ ولكن هذه الأنعيرة التفافاً ولا نكلف به خاطراً، وأن كل القرية قد تحتشد جموعها وتلتف

حول مشهد محزن ولكن قل بين الناس من يتمهل ملياً ويوكل ألحاظه بقبلة عذبة ندية أو برؤية جمال مشرق زاهر يبهج الروح ويسرها أو بتأمل أشعة نم الحب تنير نواحي القلب وتشرق في دياجيه، ولقد تكون تلك القبلة منتجة لسرور ليس بأقل من الألم الذي يتولد من الجرح. إننا نظلم القدر ونحن لا نؤلف أبداً بين القدر والسعادة، وإذا نحن اعتبرنا القدر منفصلاً عن الموت فإنما نفعل ذلك لنحكم الأواخي ونقوى الروابط بينه وبين مصائب أفدح من الموت وآلم وقعاً. * * * من الشطط أن نفكر دائماً في القدر موصولاً بالموت مرتبطاً بالدواهي والنكبات، فمتى يحين الوقت الذي يبطل فيه اعتقادنا أن الموت خير نم الحياة وأكثر أهمية وأن الشقاء أعظم من السعادة؟ ولماذا عند ما نحاول أن نستحضر مصير رجل من الرجال نحصر نظرتنا في الدموع التي تصوبت من جفونه والزفرات التي تصعدت من صدره لا في الابتسامات التي علت صفحة وجهه في أوقات المسرات ومصابيح الطلاقة والبشر التي توقدت عليه في ساعات الابتهاج والإطراب؟ ولأين تعلمنا أن قيمة الحياة مرتهنة بالموت لأن الموت موقوف على الحياة؟ ولماذا مصرع رج كسقراط وغيره ممن كانت حياتهم مستنبلة سامية يترك منا بكي العيون هاملاً ويخلف فينا الهم مقيداً ومرسلاً لأن خاتمتهم كانت فجاءة وكانت مريرة مؤلمة، ونستريح إلى أن الشقاء يتغشى الحكمة والفضيلة وأنه سواء عنده الباز الأشهب والغراب الأبفع وأنا ليفصلنا عن العدل نفنف متباعد إذا كنا لا نريد أن نري ف الحكمة واعدل ونواحيهما غير الحكمة والعجل فحسب ولماذا نحصر وجوداً بأكمله وحياة تامة في ساعة الموت، ولماذا نظن أن حكمة سقراط وفضيلته وقد ساقتا إليه رسل الشقاء وأوفدتا عليه طوائف المصائب وهل الموت يحوي منتدحاً أكثر امتداداً من الميلاد؟ أو لسنا نفكر في مولد الحكيم عندما نفكر في مصيره؟ أن السعادة أو الشقاء تنشأ عن الأعمال التي تصدر عنا في الفترة الممتدة بين ساعة المولد وساعة الموت وبذلك لا تقدر سعادة الرجل عند الموت ولكن يفتش عنها في الأعوام الطوال التي تتقدمه، ويخيل إلى أننا دائماً نتوهم أن الحكيم الذي سطر لنا التاريخ ميتته الرهيبة كان يطوي الأيام في تنبئ مظلم مخيف بالحادثة التي أضمرتها له الأيام وخبأتها له حكمته؟ وأننا لنخطئ في ذلك

فإن الموت يخيف الشرير اكثر مما يخيف الحكيم، ومهما كانت خاتمة الحكيم مؤلمة فإنها لم ترسل ظلالاً سوداء فوق حياته لأنه لم يصرف أوقاته في ميتات أولية ولكنه من أصعب الأمور علينا أن لا نظن أن جرحاً ينضج بالدم يحيل إلى لا شيء كل سكون الحياة وهدوئها. * * * لنذكر دائماً أنه لا شيء يصيبنا إلا وهو من طبيعة روحنا ومعدنها، وأن كل الأخطار التي تقدم علينا تلبس لأرواحنا أزياء الأفكار التي تمر بإخلادنا كل يوم وأن أعمال الشجاعة وأحداث البطولة لا تمنح إلا لهؤلاء الذين عاشوا السنين الطويلة أبطالاً في زوايا النسيان وأكنان الخفاء، وسواء هبطت الوادي أو رقيت الجبل سواء شرقت حتى لم تجد ذكر مشرق وغربت حتى لم تجد ذكر مغرب أو اقتصرت على الطواف بمنزلك فإنك ملاق نفسك في طرق القدر، وأن مخاطراتنا لتتطاير حولنا تطاير النحل حول خلاياه عند ما يكون على نية الاحتشاد، وهذه المخاطرات تترقب ظهور الفكرة الرئيسية من أرواحنا فإذا لاحت تلك الفكرة تدفعت نحوها والتفت حولها، فكن كاذباً يسرع إليك الكذب وكن نباض القلب بالحب نزاعاً إلى البطولة يترادف إليك الحب وتتلاحق إليك أحداث البطولة، فإن كل ذلك يقبل إليك إذا أشار إليه طرف القلب، وإن الروح إذا صارت عند إقبال المساء أوفر عقلاً وأصفى حكمة صار الحزن الذي كاثرها في الصباح أحكم وأصفى وأطهر وأنقى. * * * حول الرجل الصالح دائرة متسعة من السلام والأمن من داخلها. تزول سهام الشر وتفنى وليس في طاقة زملائه أن يقذفوه بالمكائد ويهيجوا به الألم، ومن الحقائق الجلية أننا إذا كنا نرسل العبرات من حنث أعدائنا ومكائدهم فما ذلك إلا أننا نسر ونبهّج إذا نحن أبكيناهم وحشونا قلوبهم حرفاً وإذا كانت سهام الحسد في وسعها أن تصل إلى جلودنا وتسيل من دمنا فإن ذلك لأن في نفوسنا سهاماً نريد أن نطلقها، وإذا كانت الخيانة تستثير الزفرات من حنايا ضلوعنا وتستوقد الغضب بين جوانحنا فإنه لا بد من أن نكون غير مخلصين لأنفسنا، فإن كل تلك الأسلحة لا تجرح إلا الروح التي لم تقدمها قرباناً على مذبح الحب. * * *

إذا نحن تعمقنا في الحياة وضح لنا الكثير مما خفى علينا من أسرار الأحزان الكبيرة وأسباب اليأس العظيم ورأينا أرواحاً كثيرة حولنا تحيا حياة خمول وإن النفوس قد أقفرت فلم تتفتح لها نفس لأنها على يقين من خلوها من كل ما يحفز على الإعجاب ويثير الإجلال ولكن الحكيم ترتاده الساعة التي تدعى فيها كل روح يقظته وانتباهه وحبه وحنانه ولو لم يكن ذلك إلا لأنها تملك هبة الوجود الخفية المقدسة والتي فيها ينظر الكذب والضعف والرذيلة كلها متجمعة على السطح حيث ينفذ عينه من خلالها وتستشف من ورائها القوة والصدق والفضيلة في الأعماق، وإنها لساعة مباركة سعيدة حيث يقف الشر وقد تجلى خيراً لم يجد هادياً وتظهر الخيانة كأمانة كانت مضللة مصدوده عن سبيل الرشد مبعدة عن ورد السعادة وحيث يصير الكره حباً واليأس قوة. لنذهب حيث شئنا فإن نهر الحياة الجياش العباب يتدفق تحت قبة السماء ويسير بين حيطان السجون وأسوارها حيث لا تضاحك الشمس غوارب أمواجه بينما هو يتدفق بين درجات القصور حيث السرور والابتهاج، وليس يعنينا عمق ذلك النهر أو اتساعه أو قوة تياره الدائم التدفع والوثوب ولكننا نروم معرفة حجم وصفاء الكاس التي نغمرها في مائه الجاري لأن كل ما نحمله ونستهلكه من أمواهه يأخذ شكل تلك اتلكاس لأنها قد استعارت شكل أفكارنا وصورة إحساساتنا وإن لكل إنسان كاساً من صنع أمانيه وأحلامه وصياغة نوازعه ورغباته، فإذا نحن تذمرنا من القدر وتسخطنا أحكامه فإن ما يحزنن ويسبب شكوانا هو أن القدر لم يوقظ في نفوسنا إلا رغبة في كأس أفتن صنعاً وأبهر لألأ، والحقيقة التي قد تغيب عن أذهاننا هو أن فكرة عدم المساواة محصورة في الرغبة، وعدم المساواة هذه نزول في اللحظة التي ندركها فيها، وأن النزوع إلى رغبة أشرف كفيل أن يأتي لنا بها، فإن صدر المقدور لينبض بهذا الطموح الجديد فيزيد كأسنا جمالاً وإشراقاً وعمقاً واتساعاً لأن معدن تلك الكأس قابل للالتواء حتى في ساعة الموت العابسة الجافة، وليس هناك من سبيل لشكوى هذا الذي علم أن مشاعره ينقصها الحماس الرفيع أو للآخر الذي يصعد في أفق نفسه الأمل سعادة أوسع نطاقاً وإني إذا كنت أحسد حسداً شريفاً هؤلاء الذين استطاعوا أن يملؤا كؤوسهم أكثر فتنة وأمهر ائتلاقاً من كأسي حيث مجرى النهر سلسال صاف فإن عندي - وإن كنت أجهل ذلك - نصيباً وافراً من كل ما يستقون من النهر بل أن شفي

لتجاور شفاههم على حافة تلك الكأس اللماعة. * * * لنترك الشكوى من عدم اكتراث الطبيعة بالحكيم، وإن هذا الاكتراث يبدو لنا غربياً لأننا نتوغل في أقاليم الحكمة، فإن أول واجبات الحكمة أن نطرح في الضوء ضآلة الفراغ الذي يملؤه الإنسان في ذلك الوجود، وفي هذا الصراع يظهر الإنسان خطير الشأن مثل النحل في خلاياه، وإن النحل ليحمل نفسه عناء إذا أظن أن زهرة واحدة تكون في الروض أكثر ازدهاراً وإشراقاً لأن ملكة النحل قد ثبت أنها شجاعة باسلة جديرة بالسطوة والنفوذ في الخلايا، وأن لا ينبغي أن نظن أننا نحط من قيمة أنفسنا ونهضم من جانبها عند ما نعلي قدر الكون ونفخمه، وسواء أنطنا العظمة بنفوسنا أو بالكون فإن هذا يسوق إلى أرواحنا حلسة اللانهائي التي هي دم الفضيلة وقوتها ولا ينبغي أن نتطلب من وراء الفضيلة جزاء ضخماً، فإن جزاء الفضيلة داخل نفوسنا لا خارجها، والذين يرفعون أصواتهم في طلب مكافأة هم أبعد الناس وأقصاهم عنها، ولا ينبغي أن يعزب عن بالنا أن عمل الخير نفسه هو زهرة لحياة داخلية طويلة من السرور والقناعة والبشاشة والرضي، وهو يحدث عن ساعات الهدوء والسلام في أشرق أعالي الروح واسحق نواحيها، وأنه لا مكافأة تأتي بعد عمل الخير تعادل أو تقارن بذلك الجزاء العذب الجميل الذي ذهب معه وأن هؤلاء الذين يفعلون الخير غير منتظرين لجزاء هم الذين يعرفون سرور الروح، وأننا نفعل الشر لأسباب واضحة معلومة لنا ولكن أفعال الخير تصيرا كثر صفاء ونقاوة كلما جهلنا الدافع لها والحافز عليها، ولو أدنا أن نقدر فضيلة رجل فلنسأله عن بواعث الفضيلة في نفسه وإن أقل الناس علماً بالجواب هو أصدقهم فضيلة، وقد تظن أن العقل إذا اتسع وترامت حدوده تزول من الروح الشجاعة وهذا نقيض الحق فإن العقل الأكثر اتساعاً يستصحب مثلاً أعلى للشجاعة أسمى وأبعد عن الغرض، وإن هذا الذي يذهب إلى أن الفضيلة في حاجة إلى تأييد ومساعدة من القدر أو نم العوالم الأخرى ليس في نفسه حاسة الفضيلة المبجلة المحترمة، وإذا أردنا أن نخلص في عمل الخير فإنه يلزم أن نعمل الخير لتلهفنا إلى الخير نفسه ولتلفتنا إلى معرفة أدنى وأعرق بالخير. وإن هناك فرقاً لا يخفي على العين البصيرة بين روح الرجل الذي يعتقد أن أشعة عمل الخير ستترامى إلى مسافات بعيدة وتنير في

نواح قاصية وبين هذا الذي يعتقد أنها لا تنير سوى روحه ولقد توجد قوة وقتية في الحق الطموح المتطلع ولكن القوة التي تأتي من ناحية الحق المتواضع المتخشع أكثر دواماً وأبقى على الزمن، ولخير لنا أن نكون مثل الجندي الذي يغرف صغر قدره وتفاهة تأثيره في المعركة ولكنه يظل يجاهد بقوة وعزيمة مشدودة نم أن نكون مثل الجندي الآخر الذي يخيل له أن كل ضربة من ضرباته تقرب النصر وأن الرجل المهذب المستقيم ليحقر أن يخدح جاره ويزيل له المحال ولكنه شديد الميل إلى أن يعتبر أن مقداراً من خداع النفس لا يمكننا فصله عن المثل الأعلى وإذا كان في الفضيلة مكسب وربح فإن أنبل الناس نفساً يرغم على أن يفتش عن السعادة في مظان أخرى. لماذا لا نعتقد أنه ليس من واجبنا أن نرسل العبرات مع كل الباكين ولأن نشاطر الأحزان كل موجع كسير القلب وأن نعرض قلبنا لكل طارق فيلاطفه ويسليه أو يطعنه ويدميه؟ إنا لا نجد من الدموع والجروح والآلام أعواناً إلا إذا كانت لا تحل منا عرى العزمات ولا تقدح منا في معاقد القوة والثبات، ولا يغيبن عن بالنا أنه مهما متن رسالتنا في الدنيا ومهما كان الغرض من مساعينا وآمالنا ومن نتيجة أفراحنا ومسراتنا فنحن قبل كل شيء حراس للحياة وإن هذا لا صدق الحقائق وأثبتها بل هو الأساس الذي تشاد عليه أخلاق البشر وآدابهم، وإن الحياة منحت لنا السبب نجهله فليس من شأننا أن نصغر من قيمتها وأن نقذف بها في زوايا الإهمال وأننا نمثل في هذا الكوكب الأرضي حياة الشعور والفكر ولذا فإن كل الميول التي من شأنها ان تطفئ حماس الإحساس وتفت قوة الروح هي في مصدرها غير تهذيبية، وواجبنا هو أن نتعهد ذلك الحماس وأن نزيد في قيمته ونعلي من أمره ولنحاول دائماً أن نتهدى إلى يقين أعمق في عظمة الإنسان وفي قوته وفي مصيره ومآله أوفى شعفه وشقائه وبؤسه ومرارته لأن الشفاء النبيل السامي ليس بأقل إنهاضاً للروح نم السعادة النبيلة السامية من أشعتها إلى ميولنا وأفكارنا وتبعث من ضيائها إلى شجاعتنا وأقدامنا وإن كل جمال تأخذه العين ويستمكن منه البصر فيما حولنا لجميل أيضاً في نفوسنا وإن كل ما نجده في نفوسنا عظيماً مستحقاً للإجلال والتوقير نجده أيضاً في نفوس الآخرين واني لا أستطيع أن أجعلك نبيل النفس ما لم أكن نبيلها ولست أمنحك إعجاباً ما لم يكن في روحي شيء يستوجب الإعجاب.

* * * إن السمو لا يأتي إلى الروح من طريق تضحية النفس وإن النفس كلما صارت أسمى أخذت التضحية تختفي عن الإبصار كما تختفي أزهار الوادي عن ناظر الصاعد الجبل وإن التضحية لعلامة جميلة على قلق الروح ولكن القلق لا ينبغي أن يعيش وأن يتغذى في نفوسنا من أجل نفسه والروح التي على طريق اليقظة ترى في كل شيء سبباً للتضحية ولكن أشياء قليلة تظهر كذلك للروح التي صارت لا ترى في أنكار النفس والرحمة والتطوع جذوراً لا يستغنى عنها بل فيها أزهاراً خفية، وكثيرون من يهدمون قصور سعادتهم ويطفئون أنوار مآلهم المتألقة ليصلوا إلى رؤية أوضح للنفس في اللهب المتهالك الفاني وكأنهم يمسكون في يدهم مصباحاً يجهلون طريقة استعماله فإذا انتظم سلك الليل وتشوقوا للأنوار بددوا مادته في نار غيرهم ولنحذر أن تعمل عمل الرجال في الخرافة الذي وقف يحرس المنارة ثم تصدق بزيتها الذي كان يضيء فيملأ البحر نوراً، وإن كل روح في فضائها منار تتفاوت حاجتها إليه وإن القوة اللامدية التي تغير في أرواحنا ينبغي أن تضيء أولاً لنفسها لأنها بهذا الشرط فقط ستضيء للآخرين أيضاً. * * * إن أصغر فكرة مسلية فيها من القوة في ذاتها ما ليس موجوداً في أبلغ شكوى وأفصح تعبير عن ألم وحزن، وإن الفكرة العامة المتسعة العميقة التي لا تجلب سوى الحزن لقوة تحرق أجنحتها في الظلام لترمي أشعة حول جدران سجنها وإن أبسط فكرة أمل أو خضوع بارتياح لقانون لا مندوحة عنه لقوة في نفسها. علي أدهم

محاورة

محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوبنهور تابع لما نشر في العدد الثالث من هذه السنة الفقيه - إذا كانت نتيجة تعاليم المسيحية لم تجيء متفقة مع هذه الملة الغراء في الطهر والنقاء فلعل السبب في ذلك أرجع إلى أن شرف المسيحية وقداستها هي أعلى وأرفع من أن ترتقي إليها الإنسانية مع ما قد ركب فيها من غرائز السفال وما جبلت عليه من نحائز اللؤم والضعة - وإن أغراضها أسمى من أن تنالها همة البشر الضعيفة الواهنة الكليلة الوانية مع ما يقعد بها من دواعي السقوط والضعة والإسفاف. ولا مراء عندي في أنه أهون على بني البشر وأيسر أن يتبعوا شريعة الوثنية أو اليهودية. ولا مشاحة في أن أسمى ما في المسيحية وأسناه. وأشرفه وأعلاه. هو أقربه أن يجعل ذريعة إلى الشرور والإضرار. أفلا ترى كيف عمد ذوو المآرب والغايات إلى أقدس عقائد المسيحية فاتخذوه سلّماً إلى إتيان أشنع المآثم. واقترف أفظع الجنايات والجرائم. ونحن قد أسلفنا أن انقراض النظامات الأوروبية القديمة واضمحلال الفنون والعلوم اليونانية والرومانية معزوّ إلى غزوات الشعوب البربرية أثناء القرون الوسطى. فلا غزو للحالة هذه إذا رأينا الجهالة والهمجية قد تسيطرت وتسلطت ونهضت دولة العنف والاعتساف. وقام سلطان البغي والإجحاف. وأصبحت فئة الإشراف وطائفة القسوس على كاهل الإنسانية كلاّ. وعلى عاتق الجماعات عالة وحملا. وبعض السبب في هذا راجع إلى أن المسيحية جعلت تحث على ترك المصالح الدنيوية والأخذ بالمصالح الدينية وتعلم الناس أن اتقاء السريرة وسلامة الطوية مفضلة على العلوم العقلية والمعارف الذهنية، وتحض على إطراح اللذات والملاهي التي هي في الحقيقة ثمرات العلوم ونتائج الصناعات والفنون. على أن المسيحية لم تحث على ترك العلوم والفنون فيما يعود على الدين بالفائدة بترويح شرائعه ونشر مبادئه وتعاليمه وعلى ذلك فقد استبقى للفنون والعلوم رواجها وانتشارها في هذه الناحية وهذا المجال. الفيلسوف - مجال لعمر أبيك ضنك ضيّق - لقد صادف رجال الدين في العلم رفيقاً متهماً

ظنيناً. وصاحباً لا موثوقاً به ولا مأموناً. فشددوا عليه الرقابة والتضييق وشدوا عله كل غل محكم وقيد وثيق. بينما الجهل وهو ذاك العنصر الضروري لنفاق مذاهب الدين قد بدل أقصى العناية في حفه، ورفه. وفي تأييده. وتعضيده. الفقيه - ومع قولك هذا فنحن نرى أن الذين استنقذوا ودائع العلوم الأولين نم هاوية الفناء. وتلافوا نفائس فنون الأقدمين من شفا جرف الهلاك والتواء. إنما هم قسوس النصرانية من جلة الرجال. ولا سيما من سكن منهم الهضاب والجبال. فماذا كانت إليه تنتهي الحال لو أن المسيحية لم تظهر في العالم قبل غزوات الشعوب الهمجية وغارات الأمم المتوحشة البربرية؟ الفيلسوف - هذا لعمري مبحث عظيم جليل الفائدة لا مريء حر نزيه شريف الغاية نبيل المقصد. يتحرى سبيل العدالة والإنصاف ويتنكب طريق الجور والإجحاف. يوازن بأحكم قسطاس. ويوضح بأسطع نبراس. بين ما للمسيحية من مزايا وحسنات. ومخازي وعورات. ويبن ما نجم عنها من فائدة وخير وكارثة وشرّ. ولكن الذي يتصدى لمثل لهذا هذا البحث يجب أن يكون لديه من المعلومات التاريخية والبسيكولوجية ذخيرة أوفر مما لديّ أو لديك. فهو عمل أحق بالقيام به المجامع العلمية (الأكاديمية). ولكن حسبنا الآن رجل إحصائي يبين كم عدد الجرائم التي تحول البواعث الدينية دون وقوعها وكم عدد الجرائم التي تحول دون وقوعها بواعث أخرى. فاعتقادي أن الرجل إذا أحس في نفسه ميلاً إلى اقتراف جريمة فلا مشاحة في أن أول ما يخطر بباله هو الخوف من عقوبة القانون التي لا بد سيلقاها - ثم يتلو ذلك مسألة تعريضه سمعته للتشويه. ولا عندي في أنه سيفكر الساعة تلو الساعة في هذين الأمرين قبل أن يخطر بباله أدنى شيء من الاعتبارات الدينية وإني لعلى يقين من أنه إذا استطاع أن يأمن شرّ هذين الخطرين - خطر القانون وخطر تشويه سمعته فقلما تقف في سبيله دون الجريمة الموانع والعوائق من قبل الدين وزواجره. الفقيه - إلى لعلى خلاف رأيك في ذلك، اعتقد أن زواجر الدين كثيراً ما تقوم عقبة دون ارتكاب الجرائم ولا سيما إذا كانت المؤثرات الدينية تحدث أثرها من طريق العادة فتزجر الإنسان عن مقارفة الجريمة لأول وهلة وذلك لتشبث المرء بما جبل عليه ولأن اعلق

المؤثرات بالنفس أقدمها عهداً. وإذا طلبت مثلاً على ذلك فإذا كركم من رجل - ولا سيما الكريم العنصر الشريف المحتد - يضحي الضحايا العظيمة من ذات ماله وجاهه ونفسه ليفي بموعد أو يبر بقسم ولا باعث له على ذلك سوى ما كان أبوه لا يزال يوصيه به في الصغر من أن الرجل الشريف الكريم البعيد الهمة لا يمنعه من الوفاء بالعهد مانع مهما عظم الفيلسوف - لقد غابت عنك أن هذه لن تنجع حتى تصادف المؤثرات من المرء نفساً شريفة وغريزة كرم ونبل فهي كالبذور ولا يزكو لها غرس وتينع ثمرة حتى يصيب تربة خصبة كريمة. فلا تعز إلى الدين خطأ من حسن الأثر ما هو في الحقيقة نتيجة الغريزة الطيبة والخلق الشريف الفاضل الذي يعز على صاحبه أن برى الشخص المقصود بالإساءة يقاسي الألم والعذاب فيمنعه ذلك من إتيان الجريمة - فالزاجر إذن عن الجريمة هي الرحمة الغريزية الفطرية التي لا صلة لها بأن تعاليم الدين البتة. الفقيه - ولكن هذا الباعث الغريزي من الرحمة والمروءة لا يكون له تأثير في الجماعات حتى يمزج بزاجر من الدين يظل له بمثابة مؤيد ومعضد. على أن البواعث الدينية وحدها بلا أساس ولا معين من الغرائز الفاضلة قد تمنع من ارتكاب الجرائم. وما هذا بمستغرب في أمر الجماعات إذا ذكرنا أن طوائف المتعلمين المستنيرين ربما تأثروا في كثير من الأحايبن بالعوامل الدينية بل بأسخف الخرافات والترهات يسترشدون بها ويستهدون في كثير من شؤونهم طول أعمارهم - كأن يمتنعوا مثلاً من مباشرة الأعمال أيام الجمعة ويأبو الجلوس على المائدة ثلاثة عشر نفساً ويؤمنون بالعرافة والقيافة يتشاءمون بالبوارح. ويتفاءلون بالسوانح - وإذا كان هذا شأن المتعلمين المستنيرين فكيف بالجهال من الغوغاء والدهماء. وإنك يا صديقي لن تستطيع أن تتصور شدة ما نشأت عليه أذهان العامة من الضيق وعقولهم من الكثافة والبلادة فإنها وأيم الله مفعمة بالظلمات ولا سيما إذا كان ينبوع مادتها القلوب الخبيثة والنفوس الخسيسة. فأمثال هؤلاء وهم السواد الأعظم من البشر ينبغي أن يسيروا ويقادوا جهد الطاقة بالبواعث الخرافية حتى يرتقوا بفضل التأديب والتهذيب إلى مستوى إدراك ما وهو أقرب إلى الحقيقة وأبعد من الخرافة وحسبنا دليلاً على قوة سلطان الأديان. وبليغ أثره في النفوس والأذهان. ما يزوى عن الثقات من أن

لصاً طاب نفساً عن متاع نفيس غالي القيمة مما سرقه فرده إلى حيث كان قد سلبه وذلك بفضل تأثير قسيسه المقرر إذ افهمه أن نجاته من النار متوقفة على رد ذلك المسروق. ثم انظر إلى مسألة القسم وتحليف ومالسلطة الأديان من قوة الأثر والمفعول في هذا الصدد. وخبرني ما الذي يحمل الرجل من العوام والكثيرين من غير العوام على توخي الصدق في موقف التخليف - أهو لأن المحلف قد وضع نفسه في مصاف النبلاء المتروكين إلى طهارة ذممهم وصحة ضمائرهم الناظرين إلى شرف منزلتهم الأدبية وسمو مرتبنهم الاجتماعية - كما هي الحال في فرنسا حيث ينحصر القسم في قول المحلف. بشرفي أو كما هي الحالة عند بعض المذاهب في إنكلترا حيث يقتنع بقول الرجل نعم أو بلا أدنى قسم - أم هو لمحض اعتقاد المحلف أن اليمين الكاذبة معطية ومرداة ومدرجة إلى سقر وبئس المصير؟ وعلى أية حلا فالبواعث الدينية ليست سوى وسائل لا يقاظ الشعور الأخلاقي واستثارة الإحساس الأدبي. وأتن ترى الرجل رما أجاب إلى حلف القسم الكاذب بادئ ذي بدئ حتى إذا طلب إليه تنفي ذلك رفض فجأة - وبذلك يظفر الحق على الباطل وتفوز الفضيلة على الرذيلة - وما ذلك تأصثير الدين في نفسه. الفيلسوف - ومع ذلك فنحن لا نزل نبصر الجرأة على القسم الكاذب نزداد استفاضة وانتشاراً ونبصر نتيجة ذلك من هزيمة الحق واندحار الفضيلة بمرأى ومسمع من الشهود الوافقين على الحقيقة. فالواجب والحال هذه أنن لا يجعل اليمين في المحاكم إلا بمثابة الملجأ الأخير للقضاء وعلى هذا لا ينبغي إلا كثار منه ولا تصح الاستعانة به إلا في الضرورة القصوى وفي هذه الحالة الحرجة يجب أن يرفرف جلال الوقار على مقام التحليف ويكون ذلك بحضرة القسوس ورجال الدين والأليق أن لا يجري هذا العمل إل بين جدران كنيسة بجوار الحكمة. على أنك محق في اختيارك مسألة التحليف شاهداً على نفوذ الديانات العملي وتأثيرها الفعلي. وأني مع كل ما ذكرت وسردت لأشك في أن نفوذ الدين يمتد إلى آمد بعيد وراء مسألة التحليف. وأني أناشدك أن تصور لنفسك ماذا تكون الحال إذا أعلن على رؤوس الملا أن الحكومة قد أصدرت قراراً بإلغاء قانون العقوبات بحذافيره وأناشدك أيضاً لو أنه حدث ذلك أكنت تجرؤ على الذهاب وحدك من ههنا إلى دارك تحت حماية البواعث الدينية. ولكن لاشك هنالك

مطلقاً في أنه إذا أعلن على رؤوس الملا كافة بطلان الديانات وكذبها فانمحى من النفوس أثرها. ومن القلوب ذكرها. فإنا لا نفتأ بعد ذلك ننعم من العيش بمثل ما كنا به ننعم أيام عز الدين في سلطانه. وشباب الدين في عنفوانه. فنحيا بفضل حماية القوانين وحدها حياة لا تزيد فيها مخاوفنا ولا محاذرنا ولا تكثر فيها وسائل تحفظنا واحتراسنا وتقوانا من أذى المجرمين وشر المعتدين عما كانت عليه من قبل. على أني أذهب في رأيي إلى أبعد من ذلك فأقول أن الدين هو في الأحابين الكثيرة مفسدة للأخلاق. وبيان ذلك أن واجباتنا نحو الله تكون في مذهب الدين في الأحابين الكثيرة عكس واجباتنا نحو أخينا الإإنسان، وأن من السهل أن يكفر الإنسان عن إساءته للبشر بتضرعاته إلى الله. ومن ثم لا نزال نرى السواد الأعظم نم الخلق في كل زمان ومكان يجدون الصلوات والعبادات أسهل في التماس ثواب الآخرة واجتناب عقابها من حسن معاملة الناس وإتباع سبل الخير والإحسان حتى يصبح المذهب الشائع في كل دين إذ رضى الله وغفرانه ومثوبته وإحسانه، لتنال برسوخ العقيدة وعمق الإيمان وبإقامة الشعائر والمناسك والمراسم والمواسم بأكثر مما تنال بمكارم الخلال، ومحامد الفعال وبإتباع منهج الفضل القويم، وصراط الخير المستقيم. وإذا كانت إقامة الشعائر الدينية والمراسم والمناسك تدر على معشر القسوس ورجال الكنيسة بالخيرات. وتفيض عليهم بالغنائم والثمرات. كانت ولا شك أخصر طريق إلى الجنة وأمنع وقاية من النار. وها نحن نرى تضحية القرابين من صنوف الحيوان وتلاوة الأدعية والأوراد ونصب الصوامع والصلبان على جوانب السبل والطرقات تعد في آراء الناس من أعظم ما يتقرب به إلى الله لمحو الذنوب وتكفير السيئات حتى أشنع المآثم وأفظع الجرائم كما يتوسل أيضا إلى العفو والغفران بالتوبة والندامة وبإنابة والاستغفار وبالخضوع إلى أحكام القساوسة ورجال الكنيسة وبالاعتراف والحج إلى مقامات الأولياء ومزارات القديسين وبالهبات والعطايا والتبرعات للكنيسة وتسوسها. وتشييد إلهياً كل والأديرة والمعابد حتى أصبحت طائفة القسوس وكأنما لا وظيفة لها إلا الوساطة يبن المخلوق والخالق وجمل الرشوة من المذنبين إلى خزينة الآلهة. وإذا كان الأمر لا يصل إلى هذا الحد فقل لي جعلت فداك أين القساوسة الذين لا يرون الصلوات والأدعية وأناشيد الحمد والاستغفار وغير ذلك من ضروب الشعائر والمناسك كفارة للذنوب وعوضاً وبديلاً من مكارم الأخلاق ومن البر

والتقى والصلاح؟ انظر إلى قساوسة إنكلترا الوقحاء المتبجحين كيف سوّغوا لأنفسهم المطابقة بين يوم الأحد المسيحي ويوم السبت اليهودي وجعلوا هذ هو ذاك بعينه بالرغم مما قضاه القيصر قسطنطين من جعل الأحد ضداً للسبت، وكرّس الأول على الفرح والابتهاج واللهو والتلذذ إذا كان معنى الأحد هو يوم الشمس وتألقها بالنور والسرور. فكان من نتيجة تزوير القسوس وتموبههم هذا بأن حرموا على الناس أدنى اشتغال بالأمور الدنيوية من لذة أو منفعة كمباشرة أي صنف من الألعاب أو الملاهي الطيبة الحلال وتعاطي الغناء والعزف بالآلات والغزل والنسيج والحياكة وقراءة الكتب منزلين كل هذا منزلة الذنوب والخطايا واقفين يوم الأحد على التعبد والتسنك وقضاء الساعات الطوال في الكنسية واستماع إلى خطبة مملولة مسؤومة. وتريد سخافات غير معقولة ولا مفهومة. عد عن ذكر هذا وانظر رعاك الله إلى زمرة أرباب العبيد وتجار العبيد في الولايات الحرة بأمريكا (حقها أن تسمى ولايات العبيد) هل تراهم إلا من صفوة المتدينين ونخبة الأتقياء الصالحين من تبعة الكنيسة الإنكليزية وهم مع ذلك أبالسة في صور آدميين. وأجساد بشر على أنفس شياطين. ترى حياتهم سلسلة آثام، ومتوالية إجرام. ويبلغ من فرط تظاهرهم بصحة الدين. وتكلفهم لقوة العقيدة واليقين. أنهم يتنزهون عن تعاطي الأعمال في الآحاد. ويكرسونها على عبارة رب العباد. ويحسبون أنهم يخدعون الله بهذه الأباطيل ويدخلون الجنة بهذه الأكاذيب والأباطيل. إن من حمق الحمق وأسخف السخف أن يحسب الناس من أمثال هذه الأضاحي والقرابين والمواسم والشعائر والمراسم فيها كفارة عن مآثم الأديان وشنائعها وفظائعها كالاضطهادات والحروب والمذابح الدينية مما برأ الله أهل المدنيات القديمة عن ارتكاب مثله - كالحرب الصليبية - تلك المذبحة التي دامت نيفاً ومائتي عاماً وبرر فيها إزهاق الأرواح باسم الله ظلماً وجوراً. وكل ذلك من أجل الاستيلاء على قبر إنسان كان يوصي بالسلام والتآلف والوئام - وكجريمة طرد المسلمين واليهود من الأندلس وكالمذابح ومحاكم التفتيش وغيرها من المحاكم الملية وغزوات المسلمين الدموية الرهيبة في جميع أنحاء العالم وغزوات المسيحيين في أمريكا حيث استأصل الغزاة أهلها الوطنيين ولا سيما في جزيرة كوبيا فقد قال المؤرخ لا كازاز أن عدد من أفناه الأوروبيون في أمريكا بلغ اثني عشر مليوناً في

ظرف أربعين عاماً باسم الدين طبعاً ونشر الإنجيل ولأن كل ما خالف المسيحية كان يعد في آرائهم الفاسدة خارجاً عن دائرة الإنسانية فهو بالإعدام خليق. وبالإبادة حقيق، ولا أنكر أني قد شرت إلى هذا آنفاً. ولكن المقام ههنا يأبى إلا تكرار ما تقدم. ثم لا تنس ما ارتكب أهل الدين في أقدس بلاد الله أعنى الهند الإنسانية ومنيت البشرية أو على الأقل منبت النوع الذي منه تسللنا وإليه نعزي وننتسب وما كان من جناية أؤلئك المجرمين أهل الدين على ديانة الهنود أصل الديانات ومنبع العقائد بتدميرها كلها البديعة ومعابدها العجيبة وما حوته من روائع الدمى والتماثيل والصور. وأفظع تلك الجرائم ما؟؟؟؟ الملكان المسلمان مرمود وأورنزيب قاتل أخاه، وما ارتكبه بعد ذلك البرتغاليون تقليداً لفظائع هذين الملكين واقتداء بسوء آثارهما. ولا تنس أيضاً شعوب اليهود ذلك الشعب المصطفى المختار الذي تقول على الله أن أمرهم بسرقة الأوعية والأواني الذهبية من أصحابهم وآباء مثواهم المصريين وكان أقرضوهم إياها ثم فروا بما سرقوا وسلبوا الوادي المقدس طوى بطور سينا يقودهم زعيم العصابة موسى كما ينتزعوا تلك المسروقات من أيدي أربابها الشرعيين ظلماً وعدواناً وذلك أيضاً بأمر ربهم فيما يزعمون ويدعون. وما في قلوبهم إزاء كل ذلك من رحمة ولا رأفة يتلون الرجال ويذبحون النساء والأطفال وما أن لهم من ذنب سوى أنهم غير مختونين وغير مؤمنين برب موسى وهرون وكفى بهذا مبرراً لسومهم الخسف والعذاب. ونكبتهم بكل رذيلة ومصاب. ومن أجل هذا السبب عينه أنزل النبي يعقوب وشيعته بملك شالم المسمى هامور الكارثة العظيمة المخزية والنكبة الجسيمة الوارد حديثها في التوراة. ولا مبرر لهذه الإساءة سوى أن القوم لم يؤمنوا برب يعقوب. لا مشاحة في أن أسوأ سوءات أي دين ما هو إلا أن أهله يبررون لأنفسهم إلحاق أي أذى ونكبة بإتباع غيره من الأديان. ولعلى مبالغ إذا عزوت هذه الرذيلة لي جميع الديانات بلا استثناء والحقيقة أنها منصورة على الديانات التوحيدية أعني اليهودية بفرعيها النصرانية والإسلام فإنا ما سمعنا قط بمثل هذا عن الهنود والبوذيين بالرغم مما نعلم من قيام البراهمة بطرد البوذية من مهدها الأصلي بأقصى جنوب الهند وما كان بعد ذلك من اتنشارها في كافة آسيا ولكنا بالرغم من ذلك لم يدل إلينا التريخ بأخبار صحيحة الأسانيد قاطعة البراهين تقيد أن البراهمة تذرعوا إلى عملهم هذا بأي شيء من وسائل العنف والعسف من حروب أو مذابح

أو تنكيل أو تمثيل. ولهل هذا يرجع إلى ما يغشي تلك العصور الغابرة من ظلمات الخفاء وغياهب الإبهام بيد أن ما اشتهر به دين البراهمة من فرط التسامح واللين والدماثة الدالة على أن القوم كانوا أشفق وأبرّ بمخلوقات الله نم أن يتعمدوا إلحاق الضرر حتى بالنملة والبعوضة يؤكد لنا أن أهل تلك الملة لم يعولوا قط بسفك الدماء وتمزيق الأشلاء. وأنهم كانوا بلا شك أحقن الطوائف لدم العباد. وأزهدهم في الحرب والجلاد. وقد أورد المؤرخ الجليل سنبس هادري في كتابه البديع المعنون الرهبنة في الشرق فصلاً صافياً في مدح البوذيين ووصفهم بأقصى غاية اللين والتسامح واحتج بقوله هذا بأن تاريخ البوذية أقل التواريخ الدينية حوادث قتل وذبح وكوارث ظلم وضيم. والحقيقة هي كما قدمنا أن أقل الملل تسامحاً وأشدها عنفاً وقسوة هي الأديان التوحيدية. ولا بدع في ذلك فإن الإله المفرد يكون بطبيعته إلهاً غيوراً لا يسمح بوجود أدنى شريك ولا يقبل أي منافس ولا مزاحم. وعلى العكس من ذلك ديانات الشرك التي يتولى رئاسة الكون فيها آلهة عدة تكون بطبيعتها متسامحة متساهلة. فهم يأخذون بالمذهب القائل عش ودع غيرك يعيش. فهم يحتملون زملائهم المشاركيهم في سياسة الدين هم أربابه هذا التسامح يسرى منهم فيما بعد إلى أرباب الديانات الأخرى. حتى لتراهم يرحبون بآلهة الأديان المغايرة لدينهم يتلقونهم بأعظم البشر والاحتفال والحفاوة ولا يمنعوهم من التمتع بمثل مالهم من الحقوق والسلطات والامتيازات. وأصدق دليل على ذلك ما كان من أمة الرومان إذ رحبوا بآلهة اليونان والمصريين وغيرهم نم الآلهة الأجنبية. ومن ثم ترى أن الأديان التوحيدية هي وحدها التي سوّدت صفحات التاريخ بشنيع الفظائع من حروب التعصب والاضطهادات الملية ومحاكم التفتيش وما إلى ذلك من الشنائع كتحطيم الصور والتماثيل وإتلاف أصنام الآلهة وتخريب آلهياً كل الهندية والمعابد المصرية التي حيت بشرفاتها العالية طلعة الشمس ثلاثة آلاف عام. وكل ذلك السفك والسفح. والقتل والذبح. والتخريب والتحطيم. والتدمير والتهديم. لأن إلهاً غيوراً ظهر فقال لا إله غيري. حطموا الأوثان لا أوثان معي! الخ. الخ والخلاصة أنك محق في قولك أن العامة تحتاج إلى الدين تفسيراً للغز الحياة والموت والواجبات والفرائض، ولكن أري الدين لا يسد هذه الحاجة وإن أضراره على العموم أكثر نم فوائده. وقد رأينا أن منافعه من حيث ترقية الآداب مشكوك في صحتها. ولكن مضاره

ولا سيما ما ارتكب باسمه في سيبله من الفظائع الآنفة الذكر محققة مؤكدة. على أن لا أنكر منفعة الدين لأرباب العروش من الملوك والسلاطين والقياصرة فإن الدين قوام دولهم وعماد أرائكهم وروح سلطانهم. وذلك أنه لما كانت العقيدة السائدة في الممالك المطلقة والدول الاستبدادية أن العرش هو هبة الله أصبحت الصلة بين العرش والكنيسة متينة مؤكدة. ولذلك ترى الملك الشديد التعلق بعرشه يأبى إلا التظاهر لرعيته بمظهر الورع التقي المتدين. ولقد رأينا كتاب السياسة يوصون الملوك بالتعبد والتدين حتى الكاتب الشهير ماكيافيلي أوصى بمثل ذلك في الباب الثامن نم كتابه الأمير فحث الملوك على الصلاح والتقوى والإكثار نم التعبد، والله والناس يعلمون أنه كان أخبث خلق الله نية. وأفسدهم طوية. وأضعفهم ديناً وأمرضهم يقيناً. أضف إلى ذلك أن الديانات المنزلة تنزل من الفلسفة منزلة سلطة الملوك الإلهية الصدر من سلطة الأمة. فلا غرور إذا رأيت تناسباً وملائمة بين الشطرين الأوليين من الموازنة أعني بين الأديان وبين سلطة الملوك. الفقيه - لا تضرب على هذا الوتر يا صديقي واذكر أنك بتصريحك هذا إنما تزين الفتنة وتروج الفوضى وتحاول هدم الأصول والشرائع والنظم والقوانين بل هدم المدنية الإنسانية. الفيلسوف - أنت محق في هذا. لم تكن هذه مني إلا ضرباً من المغالطة والسفسطة - أو ما يميه معلم السيف - حيلة وخدعة. وإني وحقك لساحبها ولكن أرأيت كيف تفسد المجادلة على الرجل عدله وإنصافه وتتركه حائراً متعصباً خبيثاً. فلنكف الآن عن المناظرة والمنازعة. الفقيه - يسوءني والله أن أرى تعبي ومجهودي قد ضاع عليك عبثاً وإني لم أستطع مع كل ما بذلت وحاولت أن أغير في الدين في رأيك فلتعلم أنت أيضاً أنك لم تستطع أن تغير في الدين رأيي. الفيلسوف - لا أشك في ذلك ولا عجب، فلقد قال هو ديبراس من وافق على الشيء مضطراً، فما تحول عن رأيه فترا. ولكن لي بعد عزاء عما يبدو لي الآن من ضياع تعبي في المثل القائل إن متعاطي المناظرة كمتعاطي المياه المعدنية كلاهما لا يظهر فيه أثر ما تعاطاه إلا بعد حين

الفقيه - أرجو أن يكون هذا المثل عليك لا على منطبقاً الفيلسوف - قد يكون ذلك لو أني أستطيع هضم مثل معروف من الأمثال الإسبانيولية. الفقيه - وما هو هذا المثل؟ الفيلسوف - هو القائل إن وراء الصليب يكمن الشيطان الفقيه - حسبك يا صديقي ولا تجعل ختام حديثنا السخرية والتهكم. واعترف معي أن الدين شبه إله الموت عند البراهمة نم حيث أنه ذو وجهين وجه مشرق وآخر مظلم. وإن كلينا إنما ينظر إلى وجه دون الآخر. الفيلسوف - الحق معك يا صاحبي: - تمت هذه المحاورة - أصغر لتعظم كم تجمع واثب ... ثم استعز نعز بعد صغار وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم ... لما رأيت بني الإعدام شاكينا أهدى بعض الأمراء فرساً لشاعر فمات ليلة وصوله، فكتب إليه الشاعر يقول أن لا شيء أسرع من الفرس الذي أهديته إلى، فقد وصل من الدنيا إلى الآخرة في ليلة واحدة. هوى بعض الشعراء إحدى الغواني الحسان ومضى على هذا الحب المضمر دون أن يعلمها بذلك وإنما كان يذكر لها أنه يهوي حسناء صفتها كيت وكيت وينعتها بكل نعت جميل ووصف نبيل فسألته ذات يوم أن يريها محبوبته تلك التي يصف فأبى عليها ذلك فقالت فأرني صورتها إذن فقال أما صورتها فأرسلها إليك غد ثم أرسل إليها في الغد مرآة. . .

عالم الأدب

عالم الأدب دول العرب لأمير الشعراء أحمد شوقي بك لفتنا الأنظار في العدد الماضي إلى ذلك االفتح العظيم الذي أجاءه إلى عالم الأدب العربي أمير الشعراء أحمد شوقي بك بتلك الملحة التاريخية الخالدة الني وضعها وهو في أسبانيا وألم فيها بالدول الإسلامية العربية جمعاء ومن بينها الأندلس - وقنا ثمت أنا أخذنا من سعادته النبذة الخاصة بالدولة الفاطمية وأنه ناط بنا شكلها وشرحها ووعدنا القراء بنشرها في هذين العددين، بيد أن سعادته كان قد أعطانا نبدة أخرى قبل ذلك تتعلق بتلك الأحداث التي نشبت بين سيدنا علي وسيدنا معاوية رضي الله عنهما، وبالكلام على كل منهما وخصائصه منفرداً، وكنا بدأنا بشرحها قبل شرح الفاطمية ومن هنا نقدمها عليها في النشر وهذه النبذة العلوية المعاوية هي من بحر الرجز وسائر هذه الملحمة إنما هو من بحر الرجز ما عد المقصورة الفاطمية وموشحات في الأندلس، وقد التزم فيها كلها مالا يلزم - وهذا لزوم ما يلزم هو من المحسنات البديعية التي تجمل الكلام أن منظوماً وان منثوراً مسجعا - جاء في شرح التلخيص الذي وضعناه قديماً وطبع سنة 1904 ما يأتي. ان هذا التنوع من أشق هذه الصناعة وأبعدها مسلكاً وذلك لأن صاحبه يلزم ما يلزم وهو ان تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفاً واحداً وهو في الشعر أن تتساوى الحروف التي قبل روي الأبيات، ومن هذا النوع نثراً ماروي أن لقيط بن زرارة تزوج بنت قيس بنت خالد فحظيت عنده وحظى عندها ثم قتل فآمت بعده وتزوجت زوجاً غيره فكانت كثيراً ما تذكر لقيطاً فلامها زوجها على ذلك فقالت أنه خرج في يوم دجن وقد تطيب وشرب فطرد البقر فصرع منها ثم أتاني وبه نضح دم فضمني ضمة وشمني شمة فليتني مت ثمة فلم أر منظراً كان أحسن من لقيط. فقولها ضمني ضمة وشمني شمة فليتني مت ثمة من الكلام الحلو في باب اللزوم ولا كلفة عليه، وهكذا فليكن، ومن ذلك قول الحماسي ان التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدق - ها وأجلها حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وٌلها

وإذا وجدت لها وساوس ساوة ... شفيع الضمير إلى الفؤاد فسلها وهذا من اللطافة على ما يشهد لنفسه. وممن قصد من العرب قصيده كله على اللزوم كثير عزة وهي القصيدة التي أولها: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... فلوصيكما ثم حللا حيث حلت وهذه القصيدة تزيد على عشرين بيتاً وهي مع ذلك سهلة لينة تكاد تترقرق من لينها وسهولتها. وبعد فإن ما يقع من هذا النوع لمتقدم فهو غير مقصود منه ولذلك لا يرى عليه من أثر الكلفة شيء أما المتأخرون فقصدوا عمله وأكثروا منه حتى أن أبا العلاء المعري عمل من ذلك ديواناً كاملاً سماه ديوان اللزوم فأتى فيه بالجيد الذي يحمد والردىء الذي يذم - انتهى. أما لزوميات شوقي فهي كلها آيات فقد تنزهت عن شوائب الغموض، وخلصت من أكدار الحشو والتعقيد وهي بعد ذلك لا ترد على السمع فتصدر إلا عن استحسان - فكأنه التزم ما يلزم لا ما يلزم. . . وذلك عنوانه الشاعرية الحقة، والعبقرية الصادقة، وآية من آيات خصوبة الذهن وصفاء الروح والقريحة السمحة الحافلة، فضلاً عن غزارة المادة، وسعة الاطلاع والبسطة في العلم وامتلاك ناصيتي البيان، وهكذا فليكن الشعراء - وهكذا شوقي - ومن هنا كانت هذه الملحمة خليقة بأن تكتب على جبين الدهر، وأن يستظهرها الناشئون في جميع الأقطار العربية بعد أن يستظهروا كتاب الله. وهنا نطلب إلى كل قارئ أن يفتح ذهنه تفتيحاً حتى يفطن - مستعذباً جذلاً - بتلك الأسرار وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز التي ينطوي عليها شعر شوقي، والتي تطالع الذهن الثاقب من خلال كل بيت بل كل كلمة فتعبث باللب كما تعبث الشمول - قال حفظه الله تحت هذا العنوان: الخصمان يا فطِناً بسير الكبارِ ... مُفتتناً بغرر الأخبارِ وطالبَ الجوهر في التراجم ... مُلتمسَ التِبرِ من المناجم جئتك بالبرجاس والمريّخ ... خَصمَين بين يدي التاريخ فرنْتُ خيرها تقىَ وعلماً=بخيرها سياسة وحلما بل قرنْتُ بينهما أيدي الغِيْر ... وافترقا على التلافي في السير أبو الشهابين وهل يخفى القمر ... والثاقبُ الرأي اللعوب بالزُمر

أو قيمُ الدين ولا أحابي ... وقيم الدنيا من الصِحاب ان ذُكر الآباء جاآ القمر ... جَدّا تمناه العتيق وعمر تحدرا مُزْنَين من غمامِ ... ولاقيا الدِيمة في الاعمامِ قُربى على تفاوت المنسوب=كالمُومِ والشهد من اليَعسوب * * * أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أما الإمام فالأغرّ الهادي ... حامي عرين الحق والجهاد العمران يأخذان عنه ... والقمران نسختان منه أصل النبي المجتبى وفرعُهُ ... ودينه من بعده وشرعهُ وَصفحتاه مقبلاً ومدبراً ... وفي الوغي وحين يرقى المنبرا يدنو إلى ينبوعِه بيانا ... ويلتقي بحراهما أحيانا الحجرُ الأول في البناء ... وأقربُ الصحَب بلا استثناء وأوهدُ الناس وفي الدنيا يدُه ... وأخشع العالم وهو سيدهُ وجامع الآيات وهي شتّى ... وسُدّة القضاء باب الأفتا والسُّهدُ الآوِى إلى أشواقِه ... إذا الظلامُ مَدّ من رُواقِه بَحْرُ الهوى والقومُ رَكْبُ السفن ... كم من شِراع دون يا ليتَ شِعْري والأمورُ تخفى ... والفِكْرُ في هذا الطريق يحفَى ما ساَء هذا الناسَ من عليّ ... وحاد بالناصر والوليِّ وغَرَّ بالليث الذّئابَ العَاويهْ ... وسهَّل الغابَ على معاويهْ قيلَ دَمُ الشيخ الضعيفِ المسلم ... يَطْلُبُه اللهُ وكلُّ مُسلِم تركُ الإمام قاتلَ الإمامِ ... أخلَّ بالهيبة للزمام وقيلَ بلْ أدَلّ بالمكانَهْ ... ولو تَصوَّر الخشوعُ كأنهْ والزَّهوُ أحياناً من المعاني ... أن سال من معاطِف الشجعان وقيل في سياسة الطباع ... وفي المدارة قصيرُ الباع لو صانعَ الإمامُ أو تأنى ... مابلغ الشاميُّ ما تمنى

وقيلَ علمٌ مالَه انتهاءُ ... لم يَجْرِ فيه الرأيُ والدهاء في ثقةٍ بمن به لا يوثَقُ ... ولا يدوم عهدُه والمْوثِِق ونبذُ رأي الناصح المماحِض ... في قُحَم الأمر وفي المداحض وقيل أخفىَ للثلاثةِ الحسَدْ ... وكادت الجيفة تأكل الأسَد لا بل هو المنازِعُ التوَّاق ... طِلْبتُه الأعباء والأطواق سما إليها بعيون الفضل ... وحنّت الحسناء تحت العَضْلِ من كان في منزلة الرفيع ... يَدر مكان مِنْبر الشفيع وطالما استأخر غيرَ قاحِم ... ولاذ بالحياء لم يزاحم ياجبلا تأتي الجبال ما حمل ... ماذا رمت عليك ربة الجمل أثارُ عثمانَ الذي شجاها ... أم غصَّة لم يُنتزع شجاها

صور مضحكة

صور مضحكة الحلاقون للكاتب الهزلي الأمريكي الطائر الصيت مارك توين كل شيء في الوجود عرضة للتغيير والتبديل إلا الحلاقين وأساليب الحلاقين ومتعلقات الحلاقين. فإنها ثابتة لا تتحول. سرمدية لا تتغير ولا تتبدل. فإن ما يكابده الإنسان عند دخوله دكانة حلاق أول مرة هو عين ما يكابده كلما دخل أشباهها ونظائرها حتى يوافيه أجله. ذهبت للحلاقة اليوم كالعادة. فلما دنوت من دكان الحلاق بصرت برجل يدنو إليها من الجهة المقابلة، وهذا هو ما يزال يقع ويحدث. فأسرعت نحو الباب وأسرع الرجل وأردت أن أسبقه إليه فسبقني. وهذا أيضاً هو لا زال يقع ويحد. وكذلك دخلها الرجل قبلي بخطوة واحدة واني لا أطأ على عقبه ورأيته وعيني تدمع. وقلبي يبجع. يتبوأ كرسي الحلاقة الوحيد الخالي الواقف عليه أحذق حلاقي الدكان وأمهرهم. وهذا أيضاً هو لا يزال ويقع ويحدث. وكان في الدكان غير ذلك الحلاق الأمهر الأحذق صانعان آخران أحدهما لا بأس به واسميه هنا الحلاق نمرة (1) والثاني طائش اليدين. ثقيل الراحتين. ذو أصبع هوجاء. وانملة خرقاء. وهو فوق ذلك ثرثار مهذار فظ غليظ بارد سمج ثقيل واسميه هنا الحلاق نمرة (2) فقعدت عل أحد المقاعد الخالية وجعلت اتضرع إلى الله أن يورثني الكرسي القائم عليه خير هذين الحلاقين وأن يجنبني شرهما وادعوا على هذا الأخير في سري متمثلاً قول القائل فشركما لخيركما الفداء واكد أملي بلوغ المراد اني رأيت نمرة (1) أقرب إلى الفراغ من زميله المنحوس إذا كان قد شرع يمشط شعره محلوقه على حين أن زميله كان لم يفرغ بعد من مرسه خصل محلوقه ودلكها بالزيت. فلبثت أرقب السباق بينهما بمهجة قلقة ونفس مشفقة. فلما رأيت نمرة (2) المشؤوم الطلعة قد لحق بنمرة (1) وهم أن يسبقه صار اشفاقي لهفاً وفزعاً. ثم لما رأيت نمرة (1) قد وقف في عمله لإصلاح بعض شأنه تحول لهفي وفزعي كرباً وجذعاً. فلما استأنف نمرة (1) عمله ورأيت الزميلين ينتزع كلاهما الفوطة ويمسحان البودرة عن وجهي محلوقيهما وقد أصبحا في التعادل والتكافؤ كفرسي رهان. وقد استوت كفتا الميزان. بهرت واحتبست أنفاسي من شدة القلق والاشفاق.

فلما رأيت نمرة (1) قد وقف في هذه الأزمة الحرجة ليمر مشطه على حاجبي زبونه دفعتين علمت أنه خسر السباق فحينذاك زال الشك وبرح الحفاء. رجع اليقين مطامعي يأساكما ... رجع اليقين مطامع الملتمس فانطلقت إذ ذاك من الدكان هارباً من وقوعي في مخالب نمرة (2) ورأيت أن أجول جولة في الطريق ثم أرجع علّ الله يحدث من بعد ذلك أمرا وعسى أن يكون النحس قد أدبر والسعد قد أقبل وقلت إلا ان في كل حركة بركة. ودوام الحال من المحال. وكذلك جعلت اتعلل بهذا وبمثله من الحكم والأمثال. وقد آثرت الفرار من الدكان والعودة بعد فترة على أن اجبه الحلاق نمرة (2) وقد دعاني إلى كرسيه - بالرفض وقولي له أني منتظر زميله. فأنى وربك شديد الخجل مفرط الحياء لا أستطيع أن أخجل إنساناً ولو كان الحلاق نمرة (2). ولو كنت سأذوق على يديه الأمرين. ثم إني عدت بعد ربع ساعة فألقيت كراسي الحلاقة الثلاثة مشغولة جمعاء. ووجدت بالمكان أربعة رجال في الانتظار صامتين واجمين كأن على رؤسهم الطير تبدو عليهم إمارات القلق والضيق شأن كل من قضى عليه أن ينظر نوبته في دكان حلاق. فرأيت أن أزجي الوقت بإجالة النظر في دواليب المكان وما احتوته من أمتعة وآلات وبتلاوة ما على الجدران من الاعلانات عن كافة أنواع الأدوية والتراكيب والأدهنة والروائح والزيوت وما على الزجاجات من الأسماء الدهنية. وعلى القناني من السطور الزيتية، ثم انتقلت إلي الصور الرخيصة المعلقة على الجدران أنظر ما بها من تصاوير الحروب والمدافع والأساطيل ورجال السياسة والملوك والبرلمانات والسلاطين. ثم أخذت بعد ذلك أتعلل بغناء الكروان وثرثرة الببغاء اللذين لا تكاد تخلو منهما دكانة حلاق. ثم عمدت من بعد ذلك أتعلل بتلاوة ما بها من الأكاذيب والاختلافات. وبعد أن فنى صبري. وضاق الكون في بصري. سمعت منادياً ينادي باسمي فالتفت فإذا هو نمرة (2) فاستسلمت للأقدار، وأذعنت لحكمة المنتقم الجبار. وهذا هو لا يزال بقع ويحدث. ثم أخذت مجلسي تحت سلطانه، وسألته مبتهلاً متضرعاً أن يسرع إذ كان لدي من الحاجات ما يعجلني ويرهقني. فضاعت عليه تضرعاتي ضياعها على الحجر الأصم. وعلى الوثن والصنم. ثم أنه دفع رأسي يجمع كفه ووضع فوطة من الأمام. وبعد ذلك عاث بمخالبه في

شعري وقال انه يحتاج إلى شيء من القص فقلت له إني لا أحتاج إلى شيء من ذلك. فعاث فيه بمخالبه مرة ثانية ثم قال انه أطول مما يلائم ذوق العصر وان الواجب قصه - ولا سيما من الخلف حيث يعاب بقلة الاستواء والانتظام. ثم جعل يتأمل مؤخر رأسي بنظرو ازراء وازدراء وقال وهو يهز رأسه سخطاًُ من الذي قص لك الشعر آخر مرة؟ فقلت مسرعاً أنت الذي فعلت وكذلك أفحمته فخرس ولم يفه بكلمة. ثم انه شرع يقلب الرغوة ويتأمل به في المرآة. وجعل يقطع سير عمله من حين إلى آخر لينعم النظر إلى شخصه يدنو إلى المرآة فيتأمل ذقنه بدقة أو يعاين اثر بثرة. وبعد ذلك رغّى من وجهي وهم بأن يرغى الثانية وإذا بمضاربه من مضاربات الكلاب في فتركني وأسرع إلى نافذة الدكان حيث استمر واقفاً يتفرج على المضاربة وأدوارها إلى النهاية وخر ثلاث شلنات في رهان علي نتيجة مع زملائه فكانت خسارته أسر الأشياء لخاطري وأورحها لنفسي. ثم عاد إلى بعد الفرحة فأكمل الترغية وشرع يدلك صفحتي وجهي يعنف وقوة وبعد ذلك أخذ يشخذ موسى على مسن معلق وقد أبطأ وتوانى في العملية ما شاء إذ جعل يحاور زميله بشأن مرقص متنكر كان شهده ليلة الأمس في زي راعي غنم يحمل عوداً أخضر من النبات وقد بذ الاقران بحسن ورشاقة حركاته ثم بلغ من فرط سروره عند تعريض زميله بما كان بينه وبين الفتيات إذ ذاك من المغازلات والمداعبات وما كان منها من ابدائها الافتتان بمحاسنه وملاحات ما حمله على الاستزادة من الحديث واستطالة المحاورة بإظهاره من تعريضات زميليه والتأفف من تلميحاتهما وتصريحاتهما. ثم كان من هذه المحاورة أنه ألقى الموسى جانباً وأقبل على المرآة يستزيد من النظر إلى والتفرس في خلقته وتبريم شاربيه وإصلاح حاجبيه. وتمشيط لمته. . وتصفيف طرته. وتنضيد فوديه. وتجعيد سالفتيه. وهذا كله الأحكام ونهاية الدقة والنظام. ومن خلال ذلك كانت الرغوة تجف على ديباجتي أكل جلدتي. وأخيراً تناول الموسي وأخذ يحلق. وقد أقبلي بغرز أصابعه في وجهي ليشد ويمطه ويدفع رأسي ذات اليمين وذات الشمال حسبما يقتضيه أسلوب الحلاقة أثناء ذلك يتنخم ويتنخع فرحاً ومسروراً غير مكترث ولا حافل. وكان قد من موساه محراثاً ومن وجهي حقلاً وأقبل يشق بمحراثه في شفتيه. في خديه. فلم اكترث لذلك عظيم اكتراث ما دام يجر آلته الزراعية البقاع الصلبة الغليظة في وجهي. فلما انتهى إلى المواضع الرقيقة اللينة وأخذ

فيها ويمزق في أديمها عضضت على نواجذي من سوء سلوكه. وتحدر الدمع من عيني تحدر الدر من سلوكه. وبعد ذلك اتخذ من أنفي يداً أو مقبضاً مستعيناً بذلك على حلق الشفة العليا. فاستنتجت من ذلك أن الرجل قبل اشتغاله حلاقاً يزاول مهنة (عرقسوسي) أو (حملي) لكثرة ما اعتاد القبض على أيدي الأباريق والأواني. في هذه الآونة كنت أرجم الظنون فيما عسى أن يكون الضربة التالية وأين من وجهي سيكون موقعها ولكن الحلاق الحاذق سبق الظن بالواقع وأكد الشك باليقين إذ جرحني في طرف ذقني قبل أن يستقر تخميني على شيء دون آخر. وحينذاك أدرك خطأه فأقبل يشحذ الموسى. أبعدك الله وأخزاك يا شر الحلاقين. وعار المزيين. هلا فطنت إلى ذلك من قبل احداث الجراح. واتيانك جرائم السافك السفاح؟ ثم اني حاولت أيها القارئ الشقيق أن أصرفه عن إعادة الكرة معتذراً إليه بأني لا أحب التفريط وأن وجها (اووشا - في اصطلاح المزيين واحداً فيه الكفاية ولكنه أبى واستكبر وقال لا بد من إعطاء الصنعة حقها وأنه ما كان ليخاطر بسمعته في الكار. إجابة لرجاء واعتذار. وكان في جانب ذقني بثرة أخشى عليها مرّ السلاح فيبنما أنا في منتهى الحيرة والكرب والاشفاق إذا بالفارس الكرار. والبطل المغوار. قد استباح من ذقني تلك البقعة المحرمة. وأجال فيها حسامه القاطع بلا رأفة ولا مرحمة وهنا نبع الدم المحقون. وكان الذي خفت أن يكون. ثم انه نقع فوطته في زجاجة من الروم ثم ضرب بها وجهيي بلا رفق ولا أناة. كأنه ظن أنه قد رؤي أو سمع بإنسان أو حيوان غسل له وجهه هكذا ثم نشف وجهي بضربه اياه بالجزء اليابس من الفوطة كأنه ظن أنه قد رؤي أو سمع بإنسان أو حيوان نشف له وجهه هكذا. ولكن الحلاق قلما يشبه خلق الله في أي شيء. وبعد ذلك حشا الجرح (بالروم) بطرف فوطته ثم بالغراء المسحوق ثم بالروم ثم بالغراء المسحوق ولا شك أنه كان مستمراً في عمله هذا إلى يوم القيامة لولا معارضتي واحتجاجي. والحاحي ولجاجي. ثم أنه طلا وجهي بالبودرة ونصب صلبي وعدل رأسي وأسرع يرتع أنامله في شعري وهو أثناء ذلك ساهي الطرف شاخص البصر كالذاهل والمتذاهل. ثم اقترح أن يبيعني نوعاً من الدهان زعم أنه يطري الشعر ويلينه فخبرته أن لدي من هذا الدهان كمّا وافراً. فاقترح ضرباً من الزيت زعم أنه يصقل الشعر ويلمعه فأبيت.؟؟؟؟؟ يقرظ لي صنفاً جديداًُ من الغالية. قائلاً

أنه ذكي من نفح الطيب وأرج الحبيب.؟؟؟؟؟ أيضاً: فعرض علي مصيبة من (غسول أسنان) من اختراعه وإبداعه فلما أبيت؟؟؟؟ أن يتاجر معي في المقصات والسكاكين. فلما فشل في مشروعه الأخير استأنف العمل فرشني بالماء الممسك من فرعي إلى؟؟؟؟ ولم يدع فيّ ذرة ولا جزئياً. بالرغم من معارضتي ودفاعي ثم دهن رأسي وأقبل؟؟؟؟؟؟ ويدلكه بعنف وقسوة حتى تطاير منه شيء كثير انتزعه من جذوره اقتلاع أعاصير النبات والشجر ثم فرقه وثنى على الجبين تلك الخصلة السرمدية المعروفة. ثم؟؟؟؟؟ يمشط حاجبي النزر الخفيف بمنتهى البطء والكسل وجعل خلال ذلك بسرد قصة طوية عن بعض أجداده وأسلافه نمت واستيقظت أثناءها ولما انتبهت النومة الثالثة سمعت صفارة الظهر وعلمت أن القطار قد فاتني بخمس دقائق. ثم اجتذب الفوطة ونفضها على وجهي بخفة وأمر مشطه على حاجبي كرة أخرى وصاح؟؟؟؟ (الذي بعده). بعد هذا الحادث بساعتين أصيب الحلاق المذكور بسكتة قلبية أخمدت حسه.؟؟؟؟؟ رمسه - وقد أجلت السفر لا فوز بلذة الشماتة والانتقام وسأشيع بمعونة الله؟؟؟؟؟ غداً الساعة الثالة بعد الظهر. . . محمد السباعي

اليوجنيون

اليوجنيون والعلم الحديث الذي يريد خلق إنسانية جديدة يوجد بين رجالات العلم وأساطينه اليوم قوم يسمون اليوجنين؟؟؟؟ أن روح كل تحسين في العالم هو تحسين الروح، وأنه لما كان الناس محكوماً عليهم بالموت والفناء كانت درجة الأبوة العامل الأكبر في تأسيس بناء مستقبل الإنسانية تهذيب هي خير صناعات العالم وواجب عمل تؤديه الدنيا لحفظ؟؟؟؟ وأن كل طفل يثب إلى الدنيا من أحشاء الكون ينبغي أن توضع لتربيته الخطة ويرغب في مجيئه قبل خروجه وبحب قبل وثوبه، وإن واجبات الحكومة هي انتاج الكفاءة الإنسانية وإبادة الضعف والفسولة والعجز بين الناس، وإنه في سبيل تحقيق جميع هذه الأغراض التي من أجلها خلق العالم ينبغي أن تذلل جميع قوى الإنسان والطبيعة وجميع القوى المادية والروحانية على السواء. ومن بين هؤلاء العلماء ينهض صفوة جبابرة الأذهان أو أكبر فلاسفة العصر ومفكري العالم. وجميع أولئك الذين جاهدوا وفكروا وعملوا وكدوا وسعوا لأجلنا ونحن ورائهم وحفدتهم، فقد كان أفلاطون يوجينا ولم يكن أقل من غالتون في هذا العالم الجديد اليوم شاؤا بل لقد كان أكبر شعراء الإنسانية يوجنيين كذلك وكانوا جميعاً يدركون كلمات الكاتب المخلد ويثمان إذ يقول: أنتخبوا أناساً أقوياء ثم لا تهتموا بعد ذلك بالباقي وليس ثمت ريب في أن هذه الفكرة ليست طريقة بل هي الفكرة الكمالية الكبرى التي جعل يسعى في سبيل تحقيقها أنبل رجال الإنسانية الماضية ونسائها. وإنما اتخذت شكلاً حديثاً وراحت في صيغة جديدة. وأكبر خاصيتها اليوم انها أضحت علماً. وان كان رجال هذا العلم المنادون إليه إنما يودون ما كان يوده المصلحون من قبل أعني ظهور إنسانية قوية صحيحة. وأن يوجد في العالم رجال أبدع من رجال اليوم ونساء أصح وأنبل روحاً وأقوى جثماناً. وأن تختفي من العالم جميع مظاهر المرض والقبح والدمامة والشقاء والبؤس والشرور والمناقص. وأن نؤسس عالماً أفضل من هذا العالم ونبني إنسانية أمتن من هذه الإنسانية حتى ينبثق فجر العصر الذهبي الذي طالما تغنى شعراء الماضي به وتخيلوه وأرسلوا القصيد تلو القصيد في تصويره. على أن اليوجنيين يقولون أنه إذا كنا نريد حقاً أن ننفذ هذا المبدأ الجميل فلا ينبغي لنا أن

نقصر عملنا على ترداد هذه الكلمات العذبة والتلفظ بها والتنغم بحلاوة مخارجها وأنه لا يكفي لنا الصلاة والتضرع والابتهال والدموع والعبرات والإيمان والاستسلام والتمني والتعلل بل ينبغي أن يكون شعارنا العبادة هي الكد والدأب واكبر حاجة الإنسانية اليوم ومطلبها الإيمان العامل القوي الفعال، لا المستسلم القوام الصوام. وهذا واجب العصر الحاضر، وفريضة أبنائه، لأننا لسنا إلا أعواناً للطبيعة على عملها وشركاء في خلق خلقها. وكيف لا يكون هذا واجبنا ونحن ننشيء الجيل، وكان حتماً علينا أن نهذب نشأته ونقوي أصوله ومتونه. وليس تاريخ الإنسانية الماضية إلا اكبر دليل على امكان انقاذ هذه المبادئ السامية إذا نحن تذكرنا من أية وهدة وثبنا، ومن أي منشأ خرجنا. وفي تاريخ الماضي لنا ألف مرشد ودليل، وإذا كان الماضي يعلمنا بفتح بصائرنا ويهبنا مبادئ وطرائق فإنه يوحي إلينا أننا مدينون له بدين عظيم وأن لا سبيل إلى الوفاء بهذا الدين إلا إذا اختصصنا بالمستقبل، وإن كان غرضنا أن نبني جنساً أرقى من هذا الجنس - وأنه لعمل عظيم من بناء المدائن وإنشاء الحواضر - فليكن أساس ذلك البناء تعظيم الطبيعة نفسها ومبادئها القوية المتينة. وإذا كان يخيل للناس أن اليوجنية ليست إلا ديناً أو عقيدة فلا تزال كذلك علماً ولا بد للدين من عون العلم. ثم لا ينبغي أن لا ننسى أن هناك علوماً كثيرة لا تجد مرشداً لها إلا اليوجينة ولا تزال تستمد وحيها وأصولها ومقاصدها من تعاليم هؤلاء اليوجيين. وقد آن الأوان الذي يطلب فيه إلى هؤلاء العلماء أن يبسطوا الطرق التي نستطيع بها أن نخرج عقيدتهم هذه إلى حيز الفعل فقد تقبلت الإنسانية فكرتهم، وارتضت مبادئهم ولم تجد لهذه المبادئ الأولية هذه لها من جميع أبناء الإنسانية الحاضرة إلا التحييذ والقبول والإجماع. ولكن ليس المقصد هو قبول الفكرة وهي معلقة لا تنفيذ لها. فإن لكل إنسان أن يصيح اليوم. إذا كانت هي اليوجنية فنحن كلنا يوجنيون، كما قال السير ويليام هاركور إذا كانت هذه الاشتراكية فنحن جميعاً اشتراكيون ولكن الاشتراكيين جعلوا يردون على هذه الفكرة فيقولون أنها وإن كانت من بعض الوجوه صحيحة لا يزالون هو قوماً منفصلين وطبقة خاصة من الإنسانية. وليس ذلك لأن لهم غرضاً معيناً مخصوصاً لأننا جميعاً نبتغي السعادة كما يبتغيها الاشتراكيون. وإنما لأن لهم نظرية خاصة معينة في كيفية الوصول إلى

تحقيق هذه الأغراض. وعلى هذا النحو يقول اليوجنيون انه وإن كانت الإنسانية جميعها تود ما يودون وتبغي ما يبغون، لا يزالون طبقة خاصة لأن له نظرية خاصة في وجوه السعي إلى تحقيق هذه المبادئ السامية. ونحن الآن باسطون شيئاً من المبادئ العملية التي يقول بها علماء اليوجنية فنقول أننا إذا سلمنا جدلاً أن غرضنا هو تحسين الجنس الإنساني وتهذيبه فأول سؤال ينبغي أن نسأله هو: ما هب العوامل التي نجعل من الناس قوماً أصحاء وقوماً مرضى وأفراداً أقوياء الروح، وأفراد أضعافها أحقارها مهدميها، وأناساً أقزاماً قصاراً، وأناساً طوالاً مشذبين كباراً. وتجعل من الناس حمقى أغبياء، وألمعيين أذكياء، وقساة غلاظ الأكباد وحِداباً رقيقي العاطفة رحماء. والجواب سهل للغاية. وهو أن كل مزية في الإنسان، وسجية وخليقة ليست إلا نتاج عاملين كبيرين الطبيعة والتغذية وقد استمد السير فرنسيس غالتون البطل الأول الذي ظهر في ساحة هذا العلم الجديد هاتين اللفظتين من كلمة للشاعر شكسبير. فمما يدخل تحت كلمة الطبيعة الوارثة وما يتلقاه الإنسان عند نشوءه وتكوينه وإن لم يكن شبيهاً لما في الوالدين والآباء. وأما التغذية فتلك التي تشمل جميع وسائل الغذاء التي يتلقاها الطفل من بدء تكوينه وتأثير الوسط النفاتي والاجتماعي والجثماني. وكذلك نرى أن تحت هاتين اللفظتين تختفي جميع القوى التي تنشئنا والتي تنشىء كل مخلوق في هذه الحياة. ونحن ندرك أنه لا تقوم واحدة دون الأخرى. ولا عمل لعامل منهما دون عون صاحبه، فإذا لم تكن الطبيعة فلا أثر للتغذية. وحيث لا تكون التغذية تتهدم الطبيعة، ولا تكون شيئاً مذكوراً. فإذا سلمنا بهذا واعترفنا به فقد أدركنا المبادئ الأولية لهذا العلم. وكذلك نرى أن اليوجيين وإن كانوا ينادون الإنسانية إلى عقيدة جديدة لا يزالون ينشرون عقيدة قديمة. ويجب أن يعترفوا بفضل التغذية بجميع وجوهها، وليس غرضنا في الحياة إخراج خليات لقاح قوية وإنما أفراد أصحاء أقوياء وما كان طلبنا الخليات القوية إلا لأنها تنمو فتكون أفراداً طيبين. ولهذا كان واجبنا أن نعمل على تغذية هذه الخليات من المبدأ إلى النهاية. في كل دور من أدوار التكوين والنمو. وهذا يؤدي بنا إلى فكرة وجوب العناية بالأمومة. قبل حصولها ولكن كثيرين من هؤلاء العلماء يقفون إزاء هذه الفكرة معارضين محتجين ويعدون طلب العناية

بالطفل قبل ولادته وهو في دور الجنين اشتراكية استخفافاً وسخرية. ويسمون عنايتنا بالأطفال في مستشفيات الأطفال واللقطاء والتعويض عن إهمالنا قبل ولادة الطفل تصدقاً. والتصدق مادة غير موجودة في قوانين العلم الحديث. وهناك فكرة أخرى يعارض فيها اليوجييون. إذ يقولون أننا نجاهر بقولنا الناس جميعاً أحرار بالفطرة متساوون إنما نعلن حقيقة سياسية فقط. ولكنها من الناحية البيولوجية أي من الوجهة الحيوية: ليست إلا اكذوبة صريحة. وهم لا ينكرون أن هذه الحقيقة السياسة خليقة بالتحبيذ والقبول والاحترام. ولا ينبغي مقاومتها أو العمل على هدمها ولكن ينبغي أن لا تخلط بالحقيقة الحيوية وهي أن الناس لم يخلقوا أحراراً ولم يثبوا إلى العالم متساوين وإنما لا يزالون مختلفين وأن فريقاً منهم قد حكمت عليه الطبيعة بالعبودية والوقوف في الصفوف الخلفية من الإنسانية وفريقاً آخر خصته الطبيعة بالحرية والمكانة العليا فإذا كانت هذه الاختلافات بين الناس رجالاً ونساء تحور إلى قوة التغذية أو ضعفها فنحن نقول أن في ذلك إنكاراً لعمل الطبيعة واستخفافاً بقوتها ولكننا إذا ذهبنا إلى أن هذه الاختلافات ليست طارئة عارضة وإنما هي تمشي على قانون ثابت وتجري مع سنة مقررة وتعمّ الإنسانية كلها من أبله مجنون في الحياة إلى أعقل عاقل ومن الغبي إلى الذكي ومن المرض إلى الصحيح فإنما نعترف بأن لقوة الطبيعة العامل الأول في تكوين الناس وهذه الفكرة الأخيرة تنطبق على ما اختبره العلم في العهود الحديثة. وقد أنفذت الإنسانية المتحضرة في القرن الماضي أو نصفه الأخير شيئاً كثيراً من الإصلاح الاجتماعي. وقد تحسنت الحياة من بعض فروعها. ومن ناحية التربية على أن هذه اللفظة الأخيرة يجب أن تبقى كما هي الآن بين قوسين. حتى تدل على أنه لا يزال يوجد نوع منها أفضل من حالها اليوم وأجدى على الإنسانية. ولكننا على رغم الاصلاحات التي أدخلناها على الحياة لم نتناول بعد الموضوعات الخطيرة التي هي أحق بالإصلاح من سواها فقد عني أهل الغرب بوسائل الصحة فقط الظاهرة السطحية، ولكن العامل الآخر وهو عنصر الطبيعة لم يمسح لأحد بالإصلاح ولم تعمل الإنسانية بعد على تنظيم سيره وضبط قوانينه واحترامه نواميسه. فلا يزال قانون الوراثة مقفلاً لا يؤبه به: ونحن اليوم نخرج للإنسانية أطفالاً عجزة مرضى وندع الأمهات عرضة للأمراض والعلل: ثم لا يكون

منا إلا أن نحاول إصلاح ما أفسدنا بالاجتهاد في تحسين هؤلاء العجزة بإيجاد المستشفيات وتشييد الملاجئ ودور الشفاء. وإذا كان للطبيعة في خلق الناس وتكوينهم كل هذه الأهمية التي بسطناها. وإذا كانت الاختبارات التي ينشرها العلم في كل يوم ويؤيدها الذين يتوفرون على تربية الماشية والأنعام والسوام وتلقيح الخيول والأزهار والنباتات. فقد حق علينا أن نحشد جميع وسائل العلم لتربية الناس بعين الطريقة التي تحسن بها نوع خيولنا وماشيتنا. هذا هو واجب هؤلاء العلماء قهم يقولون أنه على الرغم من جميع المصاعب التي ستعترض انفاذ هذا الواجب - من جهل وجمود على المبادئ القديمة واستمساك بالأفكار البالية العتيقة يجب أن ينفذ هذا الواجب - وقد آن الأوان لانفاذه وسيتغلب الإنسان على جميع تلك المصاعب يوماً من الأيام. وستذهب سخريات الحمقى والمجانين والهزائين، وضحكات المتشائمين والساخرين - في طخية الظلام. وسيرى العالم أن تلك القوى التي رقت الإنسان من الحيوان ومن الدودة الحقيرة لا نزال مستسرة فيه كامنة في طبيعته، لأنها عمل الكون كله وقدره الذي لا حد لقدرته. لهذا السبب وحده يقول علماء اليوجنية بان لتنظيم فعل الطبيعة - المكان الأول - ولتنظيم عمل التغذية المكان الثاني. وأكبر سعي اليوجنيين مقصور على العنصر الأول. والمبدأ الأول هو انتخاب البذور القوية لأخراج أناس أقوياء. وإذا كان هناك انتخاب فمعنى ذلك أنه لا بد كذلك من رفض واطراح. فإذا كنا سنأخذ بانتخاب الأقوياء والصالحين فلا غنى عن اطراح الضعفاء والفاسدين. ومن هذا نقسم اليوجنية الطبيعية إلى يوجنية إيجابية، ويوجنية سلبية. فالغرض الأكبر من اليوجنية الأولى الايجابية هو تشجيع الأبوة الصالحة - والغاية من السلبية - منع الأبوة الضعيفة المتأدوة المريضة. وهناك فكرة أخرى، وهي أنه إذا كان ثمت عوامل قد تستطيع أن تجعل من الأفراد الأقوياء الأصحاء الصالحين أبوة فاسدة ضعيفة. فلا بد لليوجنيين من العمل على محاربتها ومقاومتها: وقد شاهد علماء الوراثة أن الرجل إذا فقد عضواً من أعضاء جثمانه. أو أصيب بفقد الباصرة أو تشوه وجهه من أثر الجدري لا يمنعه ذلك من الزواج. ولا يقتضي ذلك أن تكون منه إذا تزوج أبوة غير صالحة إذ لا ينتظر أن يخلف له خلف ناقص البدن. ولا يكون نسله فاقد العضو

الذي فقده من بدنه، ولا يثب أبناؤه إلى الحياة عمياً مشوهي الوجوه. وهناك أمثلة كثيرة نستطيع إيرادها للدلالة على أن كثيراً من الخسائر أو الأضرار الصحية التي تقع للآباء لا تؤثر في حالة نسلهم وذراريهم - على أن الذين درسوا قوانين الوارثة يدركون أن هناك عوامل تؤثر في صلاحية الأبوة. ولهذا ينبغي مقاومة هذه العوامل الضارة، ومن بينها الكحول والعقاقير وسائر تلك السموم. إذا أدركنا هذا كله أمكننا أن نقسم اليوجينة إلى الأقسام الآتية: اليوجنية الطبيعية 1 - إيجابية - تشجيع تحسين الأبوة بالزواج الصالح 2 - سلبية - منع الأبوة الفاسدة غير الصالحة 3 - منعية - مقاومة السموم الجنسية الضارة بوجينة التهذيب والتغذية 1 - بدنية. التغذية من المبدأ الأول إلى النهاية. بل من المهد إلى اللحد. 2 - نفسانية. التربية وما إليها 3 - اجتماعية وأخلاقية. في المنزل والمدرسة والأمة. نلك أصول هذا العلم. وهي واضحة بينة. لكن ستستعرض انفاذ هذه المبادئ حماية من العواطف الإنسانية والغرائز الآدمية والأحوال الاجتماعية. كالزهو والأثرة والأنانية والسياسة والعادات. واهم أولئك عامل الحب. فقد يهدم اليوجنيه ويقلبها رأساً على عقب. وسأعود إلى تفصيل جميع مبادئ هذا العلم الهام مذ العدد القادم إن شاء الله عباس الحافظ

فتاوى الأطباء في التقبيل

فتاوى الأطباء في التقبيل أنُقَبِل أم لا نُقَبِل؟ وضعت إحدى المجلات الغربية المشهورة هذا السؤال على بساط البحث واستفتت فيه صفوة الأطباء في الغرب فجاءت من نواحيهم جملة من الفتاوي الطبية الشائعة، وها نحن أولاء ناقولها لقراء البيان حتى يدركوا لذة التقبيل وآلامه وأخطاره. فتوى الطبيب روبرت بل نائب رئيس جمعية الأبحاث الدولية في السرطان لا مراء في أن التقبيل جائز مقبول إذا أريد منه أن يكون دليلاً على الحب. وكان الشخص المقبل وصاحبه الذي تطبع على وجنته القبلة يعرفان بعضهما البعض المعرفة الأكيدة ويعرف عنهما أنهما صحيحان سليمان من الأمراض، نقيان من العلل. أما التقبيل الذي يأتي عفو الخاطر ويرمي على خدود الناس بلا تمييز ولا احتراز ولا معرفة فلا بد من اجتنابه اجتناب السم الزعاف والوباء المجتاح. لأنه قد ينقل سما ليس في خطورته أقل من مركبات السموم. فهو وسيلة من وسائل العدوى، ولهذا كان واجب الأمهات والمرضعات أن لا يسمحن لأحد من الغرباء بتقبيل أطفالهن وتدليلهن، بل ينبغي لهن أن لا يأذن لأحد من الأصدقاء، وأعز الصواحب بأن يقبلن الأطفال إذا كانت ثمت خالجة من الشك في أفئتهم من صحة اولئك الصحاب والخلطاء وسلامتهم من الأمراض إذ لا ريب في أن التقبيل ينقل العدوى إلى الأطفال وإن كان الهدف إظهار الحب وإبداء ما تكنه العواطف من المودة والاعزاز للولد والصبيان المساكين. أما تقبيل القطط والسنانير والكلاب الصغيرة فالخطر كل الخطر حتى وإن لم يكن في ذلك شيء من الأذى. وقد تسلم هاتيكم الحيوانات منه إذ المعروف عنها أنها تحمل جراثيم المرض في فروها وشعرها وأوبارها. ونحن خلقاء أن لا ننسى أن تلك الديدان التي تعم جسوم تلك الحيوانات والقراض الذ يجري مكاسر جلودها وثنايا بشرتها لا تزال وسائط لنقل المرض وسريان العدوى. ولذلك كان من الواجب أن يحذر الأطفال المستهترون بملاطفة الكلاب والقطط من حملها في أحضانهم وتقبيل أفواهها ووجوهها. وإني أعضد الطبيب الفرنسي الذائع الذكر مسيو روم في آرائه المتعلقة بمضار التقبيل

وتقبيل الكلاب والقطط خاصة، ولثم الغرباء وجنات الأطفال والوليدات الصغيرات. * * * فتوى الطبيب روبرتسون ولَس على الرغم من أننا لا نستطيع اليوم أن نستأصل عادة تغلغات منذ أقدم عهود الإنسانية في أعماق الطبيعة الآدمية. وذاعت في كل بلاد الحضارة. نقول أنه يجب أن نجتنب التقبيل الطائش. واللثم النزق. الذي لا نضن به على أي فم، ولا نمسكه عن أي شفة وثغر، إذ لا ريب في أن الخطر الأكبر أن يقبل الإنسان مريضاً لا يزال تاريخه المرضي مشكوكاً فيه. وأشد الناس تعرضاً لهذا الخطر، واستهدافاً لهذه الآفة، الأطفال والصبيان الصغار والبنات القاصرات لأنهم يعدون حلية في الدار لا يستطيع أولئك الأشخاص الوثابة عواطفهم الذين لا يجلدون عن إمساك شعورهم، وضبط إرادتهم فيهرعون إلى تقبيل أي إنسان، أن يزجروا هذه الحاسة ويعينهم على ذلك عجز الاصبية عن المقاومة ورفض هذا الوابل الواكف من اللثمات. فهؤلاء الناس، بل أولئك الموزعون أمراض الدنيا على الناس. أولئك أعوان الجراثيم وحملتها ونقلة ألمراض وحفظتها. لا يترددون في تقبيل الكلاب والقطط والأطيار والكنار، ويجدون في ذلك لذة كبرى، وفرصة عظمى لا يجدونها في شيء آخر أبعث على الفرح والسرور في تقبيل كلب لاهث أو قطة كسلى. وقد يكون هؤلاء الناس أقوياء الجسوم في مأمن من العدوى. وحرز حريز من الجرائيم فلا يحلمون يوماً أنهم قد يروحون على الرغم من سلامتهم من فعل الجرائيم، أشد الوسائط في نقلها إلى الناس. بل قد يجرون على غيرهم العلة المعضال وق يسوقون إليهم المنون ويجلبون أشد الأخطار لأولئك المساكين الذين يظهرون لهم دلائل الحب بالتقبيل. فيودعون كل مكروبات الأمراض فوق خدودهم ووجناتهم. وليس ثمت بلد أدرك قانون الصحة من ناحية التقبيل وتبع تلك الرسوم والتعاليم الصحية. كبلاد الأمريكان. فقد درسوا قانون التقبيل الواجب أشد درس. وهناك يرون أن التحية التي يرد القاؤها من الشفاه يجب أن تكون في شكل طاهر نقي من الجراثيم. وقد اخترع أحد علمائهم برقعاً يسمى برقع التقبيل وهو أشبه بحاجز يوضع الشفتين والشفتين. حتى يكون العاشقان في مأمن من كل مرض وعدوى. وهذا الحاجز قد يستعمل عندما لا توجد شفاه

تقبل، وثغور تلثم، مضرباً صغيراً للعبةالتينس المنزلي. وهذه الأداة الجديدة عبارة عن شبكة مدهونة بمادة مطهرة تقتل الجراثيم قبل أن تصل من الفم إلى الفم. وما أعجب أن يرى الناس روميو وجولييت هذا الزمان واقفين وفم كل ممتد إلى صاحبه من وراء مصفى أشبه بمصفى الشاي. ولكن الأمريكان لا يزالون أمريكان في كل شيء. وعندهم ان قانون الصحة قبل قانون الحب. على أن العشاق في بلادنا هذه وفي جميع بلاد الله الأخرى سيستمرون على مص الشفاه ولثم الأفواه بالطريقة الطبيعية الفرحة. محتجين على تداخل الطرق العلمية والمواد الكيماوية في غرامهم وأكبر لذاذات حبهم. قانعين من جميع الأخطار بخطر واحد وهو ارتباطهم برابطة الزواج. * * * فتوى الطبيب هنري روبرتسن أستاذ التحاليل الكيماوية في جامعة لندن لاخفاء في اننا لو حرمنا التقبيل وجعلنا اللثم سنة ملغاة ومحظوراً لا يجوز ارتكابه رفعنا من قيمة القبلة وزدنا في حب الناس لها، وأولع بها العشاق واستهتر بها الناس عامة. وارتفعت قيمتها ألف مرة عما هي عليه اليوم. على أننا نقول آمنين النقد أن ليس في كل ألف قبلة قبلة واحدة تجد لها مبرراً بيولوجياً. على أن التقبيل بين المحبين أمر طبيعي جداً. ولذة محبوبه الحب كله. ثم يأتي بعد ذلك قبلة الأم طفلها. ولثمة الطفل وجنة أمه. وما بعد هذا من القبل يجب أن في عرف العقل ومبادئ الأخلاق أن يعد جريمة عظمى. وأما القبلات الباردة العادية التي تقع بين شفاه الممثلات ومن أفواه العمات والخالات والعجائز والقواعد من النساء والدردبيسات والخيزبونات. فمن الطيش والسخف والرذالة بحيث لا نستطيع أن نصف. إذ لا لذة فيها البتة ولا فرح ولا معنى. ثم لا يزال تقبيل الطفل الصغير على كره منه وضد إرادته جريمة يحل لها العقاب. أما القول بأن للتقبيل أضراراً صحية. ومحاولة منعه وحشد جملة من المعارضات الطبية لمقاومته فكلام في فارغ، فإنني رجل خبرت الطب دهري. ولي عهد طويل في هذه الصناعة. وقد مضي عليّ اليوم عشرون حولاً وأنا أرى في كل يوم مائة مريض في عيادتي - وهو معدل مضبوط لزواري م طلاب العافية - فلم أرى في حياتي حادثة مرض

كان السبب الأكبر فيها قبلة من الشفة، أو لثمة منة فم. ولكن بالطبع لا يجترئ أحد إلا الأبله العبيط على تقبيل شخص مريض بتلك الأمراض الخبيثة المعروفة. ولكن أمثال هذه الحوادث نادرة فلا تعبأ بتخويفات أؤلئك المخوفين الذين يريدوننا على الاعتقاد بأن التقبيل على وجه العموم خطر مخيف. وقد اخترعت أمريكا للتقبيل مضرباً شبكياً. وقد تفيد هذه الأداء الحديثة بعض الناس. ويمكن حملها في الجيب كالمنظار. لاستعمالها وقت اللزوم. عندما تعرض خدود للقبل. ويراد بالطبع لثمات على الوجنات. ولا أظن منظر المتحابين وهما يخالسان بعضهما البعض تلك القبل الجميلة من وراء هذا المصفي العجيب يخلو من الفكاهة والتسلية. وأنا شخصياً متأكد أنه إذا وقع التقبيل فقط بين المتحابين اللذين يجدان إليه روحاً ويفرحان به وينعمان. فلا ضرر البتة منه ولا اذاة. من الوجهة الطبية ولا من الوجهة الأخلاقية. اللهم إلا في أدمغة الفلاسفة الاجتماعيين الذين يتهرسون بالاصلاح والتهدذيب. * * * فتوى السير مالكولم موريس وهو الحجة الكبرى في محاولة استئصال أمراض السل والأمراض الجلدية. أول ما أقول يجب أن لا نفزع من التقبيل ونفرق. وينبغي أن لا نخوف الناس من ناحية عادة اتفقت عليها الإنسانية جمعاء. والأمر الثاني يجب تحذير الناس أخطار التقبيل الطائش المتسرع قبل الخبرة والائتلاف. أما القبلة المنزلية بين الأهل والأهل في الصباح عند الخروج من لمضاجع. وفي الليل عند الانزواء في الفراش. فلا ضرر منها البتة. ولا خوف على أهل الدار منها. إلا بالطبع حيث تقع علة البرد والانفلونزا لأحد من أفراد الأسرة. إذ يجب إيقاف ذاك التقبيل حتى تنقشع العلة. ولا يمكن أن يقال أن هناك ضرر من القبلة المنزلية الاعتيادية تلك اللمسة فوق الجبين أو الخد. أما القبلة المفعمة (المليانة) فوق الشفتين فتلك قبلة خطر ينبغي للإنسان اجتنابها إذا لم يكن مستوثقاً بسلامة الفم الذي ييريد أن يقبله من كل مرض. * * *

فتوى الطبيب س. و. صليبي (العالم اليوجني الطائر الصيت) أظهرا الاحصائيات ولا سيما في مستشفى اللقطاء بموسكو. أن لوفيات في الأطفال الذين تقوم أمهاتهم على حضانتهم وبأمر تربيتهم. بمعدل نصف الوفيات في الأطفال الذين يلقون رعاية من المرضعات. وقد شرح الأستاذ بيريتشارد في جلسة من جلسات مجمع الأبحاث الطبية في درجة المواليد سر هذه الحقيقة العلمية. فقال أن الطفل وهو لا يزال جنيناً يتلقى من أمه نصيباً من مقاومتها للجراثيم التي تجتمع في أنفها وفمها وحلقها ولهذا لا خطر على الطفل من عناق أمه وتقبيلها وتدليلها إياه وأنا أقول انه لا ينبغي كقاعدة عامة أن يقبل الطفل أحد غير أمه. فتوى اللورد دوسون (طبيب الملك جورج) القبلة هي فرصة من الفرص الكبرى في الحياة لا أراني متردداً في المجازفة والاجتراء على التقاطها مهما كلفني ذلك. هذه فتاوى الاطباء في القبل ولو نحن سألنا رأي أهل الحب فيها لهزأوا بالطب والأطباء. وسخروا من العلل والأدواء. وأثاروا حرباً شعواء على المجتمع لا ينتهي أمرها إلا بأن يكون التقبيل عاماً. يؤدى في الطرق. وتسمع وسوسته من كل ناحية. . . . . .

الشعر والمدينة

الشعر والمدينة للكاتب المؤرخ الكبير اللورد ما كولي إني أعتقد أن ارتقاء المدينة وتقدم الحضارة يتبعها في الغالب الأرجح تأخر الشعر وانحطاطه. فمع إعجابنا الحار الشديد بأعمال الخيال العظيمة التي أخرجتها العصور المظلمة فإن هذا الإعجاب لا يعظم ولا يزداد لأن هذه الأعمال ظهرت في عصور الظلام، بل على العكس من ذلك أرى أن أعظم دلائل العبقرية وأجلها هو نظم قصيدة كبيرة في عصر حضري متمدن. ولا أستطيع أن أفهم كيف أن أولئك الذين يؤمنون بهذا المبدأ الأدبي الصحيح وهو أن أحسن الشعر على العموم هو الشعر القديم يعجبون من تلك القاعدة التي ذكرناها كأنما هي أمر مستثنى. لا ريب أن وحدة الظاهرة دليل على وحدة السبب. وفي الواقع نرى النقدة العاديين يستدلون بتقدم العلوم البحثية على تقدم العلوم النقلية. ولكن تقدم الأولى يسير سيراً تدريجياً بطيئاً. فعصور تنقضي في جميع المعلومات والمواد وعصور أخرى تنقضي في تعيين تلك المواد وفصلها ومزجها. فإذا ما انتهى البحث إلى تكوين عمل معين لم نعدم أن نجد شيئاً نضيفه إليه أو نغيره فيه أو نطرحه منه. وكذلك يغنم كل جيل كنزاً عظيماً أهدته له العصور التي قبله، ثم يهديه إلى الأجيال المستقبلة بعده بعد أن يكون قد زاد أيضاً في ذخائره واعلاقه. وبذلك يكون أوائل المفكرين والباحثين غير متمتعين بتك الميزة التي يغنهما من بعدهم تلاميذهم وهم أقل مواهب وعظمة ذهن ويبرزون عليهم في معلوماتهم وأبحاثهم. إن كل فتاة قرأت كتاب المحاورات الاقتصادية الصغيرة تأليف مستر مارست تستطيع أن تعلم مونتاجي أو والبول دروساً عديدة في العلوم المالية. وأن أي إنسان ذكي الفهم يستطيع الآن في سنوات قليلة، إذا انكمش في دراسة الرياضيات بهمة، أن يحرز من المعلومات أكثر مما عرفه نيوتن العظيم بعد التأمل والدرس زمناً أكثر من نصف قرن. ولكن ليست الحال على شيء من ذلك في الموسيقى أو التصوير أو النقش، بل وأقل من ذاك في الشعر. إن التقدم في المدينة وتحسين مرافق الحياة قلما يمد تلك الفنون بموضوعات أفضل تصوغ منها معانيها. نعم قد يكون هذا التقدم سبباً في تحسين الأدوات التي تلزم الموسيقى أو النقاش أو المصور للقيام بأعماله الآلية فحسب، ولكن اللغة التي هي

أداة الشاعر إنما تصلح أحسن ما تصلح له وهي في حالتها من البداوة والفطرة. إن الأمم كالأفراد تحس ثم تفكر. إنها تبتدئ بالصور المعينة ومنها إلى الحدود العامة. ولذلك نرى الأمة الراقية المستنيرة ترى كلماتها فلسفية علمية بينما الأمة البعيدة من التمدين نرى كلماتها شعرية. وأن هذا التغيير في لغات الناس بعضه سبب وبعضه أثر لتغيير يقابله في طبيعة الأعمال الذهنية، ذلك التغيير الذي يستفيد منه العلم ويخسر الشعر. إن التعميم ضروري لتقدم العلوم ولكنه لازم لاغنى عنه لمبتكرات الخيال. وبقدر ما يزداد علم الناس وتفكيرهم يقل اهتمامهم بالنظر إلى الجزئيات ويعظم بالنسبة إلى الكليات. وبذلك يخرجون إلينا نظريات حسنة وأشعاراً رديئة. ويقدمون إلينا معاني مهمة بدل صور معينة وصفات شخصية للإنسان بدل الإنسان ذاته. قد يكونون أقدر على تحليل الطبائع البشرية من آبائهم وأجدادهم، ولكن التحليل ليس من عمل الشاعر، لأن عمله يقتصر على التصوير ولا شأن له بالتقسيم والتحليل. قد يكون الشاعر من أنصار المبدأ الأخلاقي كشافتسبوري، وقد يكون ممن يرجعون أعمال الإنسان كلها إلى حب المصلحة كما يقول بذلك هلفشياس، وقد لا يكون فكر في شيء من هذا اصلاً. وعلى العموم فإن رأيه في هذه الموضوعات كلها لن يكون له تأثير في شعره الحقيقي أكثر من تأثير المعلومات التي يحرزها المصور عن الغدد الدمعية أو عن الدورة الدموية في تصويره دموع نيوب أو تورد أورورا. ولو أن شاكسبير كتب كتاباً في الدوافع النفسية للإنسان لما كان ولا ريب كتاباً قيماً جليلاً، بل لما كان فيه من القوة والإثبات نصف ما في كتاب أساطير النحل. ولكن هل يستطيع مؤلفه ماندفيل أن يخلق أياجو؟ نعم إنه أحسن تحليل الطباع وردها إلى عناصرها ولكن هل يستطيع أن يحسن ضم تل العناصر بعضها إلى بعض بطريقة يخلق بها شخصاً حياً حقيقياً؟. .؟ ربما لم يكن هناك إنسان يستطيع أن يكون شاعراً، أو على الأقل يستمتع بالشعر ويطرب به. إن لم يكن في ذهنه شيء من النقص - إن صح أن نسمي نقصاً ما يورثنا أعظم اللذة والطرب. ولا نعني بالشعر كل ما هو مقصد، بل ولا كل قصيد حسن وبذلك يخرج من اعتبارنا كثير من القصائد التي قد تكون لأسباب أخرى جديرة بلإعجاب والثناء، ولكننا نعني بالشعر هنا تلك القدرة الغنية على استعمال الكلمات استعمالاً يجسمها في الذهن، أو

هو القدرة على أن يستعمل الإنسان الكلمات استعمال المصور للألوان وكذلك وصف الشعر أكبر شعرائنا في أبيات استحقت الإعجاب العام لقوتها وسلاسة تصويرها، وأكثر من ذلك لما فيها من الرأي الصائب السديد عن الفن الذي تفوق هو فيه: - كما أن الخيال يخلق الأشياء من عوالم المجهولات، فكذلك قلم الشاعر يصبها في قوالب الصور، ويعطي لصورة أخرجها شكلاً واسماً. وهذه ثمرة من ثمرات التهيج الظريف الذي وصف به الشاعر هو أيضاً تهيج ظريف ولا ريب ولكنه بعد يهيج. إن الحقيقة ضرورية في الشعر ولكنها حقيقة المجانين. ان النتائج صحيحة ولكن المقدمات خطأ. لقد كان ينبغي بعد كتابة القضايا الأولى أن يكون التعليلي صحيحاً غير متضارب ولا متعارض، ولكن الحقيقة هي أن هذه القضايا ذاتها بحاجة إلى تساهل شديد لتصديقها يكاد يصل إلى اختلال جزئي مؤقت في الذهن. لذلك كان الأطفال أكثر الناس خيالاً لأنهم يطلقون العنان لأنفسهم في قبول كل الأوهام والأباطيل، وكل صورة مرت بأذهانهم تؤثر فيهم تأثير الحقيقة الواقعة. إن ما من إنسان مهما بلغت عقليته بمتأثر من رواية هاملت أولمير بمقدار ما تتأثر فتاة صغيرة من حكاية القبعة الحمراء. فمع أنها تعلم أن شيئاً من ذلك لم يكن وأن الذئاب لا تتكلم وأنه لا يوجد ذئاب في انجلترا بالمرة - مع هذا كله فإنها تصدق وتبكي وترتعد فرقاً ولا تجسر على أن تدخل غرفة مظلمة مخافة أن ينشب الوحش أسنانه في عنقها!! وهذا مبلغ تأثير الخيال في العقول الجاهلة غير المستنيرة. ففي المجتمعات التي لم تزل على حالتها من الداوة والفطرة يكون رجالها أطفالاً صغاراً ذوي آراء أكثر أشد تنوعاً. وفي مثل هذه المجتمعات يمكننا أن نتوقع وجود العاطفة الشعرية في أسمى درجاتها. أما في المجتمعات المتمدنية المستنيرة فإننا نجد مواهب أعظم، وعلوماً وفلسفة أكثر، ووفراً من التقسيم الصحيح والتحليل الدقيق، والفصاحة والفكاهة، بل والقصيد البديع الكثير، ولكننا لا نجد إلا الشعر القليل. سيكون أهل هذا المجتمع أقدر على النقد والحكم والمقارنة ولكنهم أعجز عن الابتكار والخلق والإبداع. سيتكلمون عن الشعراء الأقدمين وسيشرحونهم وسيطربون بهم إلى حد معين، ولكنهم لن يستطيعوا أن يدركوا التأثير الذي كان يؤثره الشعر في نفوس آبائهم وأجدادهم من ألم وجذل وقوة إيمان. يقول

أفلاطون أن رابسودست اليوناني كان لا يقرأ شعر هومر إلا تشنج وصرع. وأن رجلاً من رجال الموهاك لتنزع السكين من جلد رأسه وهو لا يشعر ولا يتألم ما دام يغني أنشودة الموت وأن السلطة العظيمة التي كانت للشعراء الأقدمين في الفال وألمانيا على الجماهير التي تسمع إنشادهم لما تدعو إلى الدهشة وعدم التصديق في هذا العصر الحديث. هذه الإحساسات وأمثالها قلما تراها في الجماعات المتحضرة، وهيهات تراها بين أولئك الذين ينعمون بمرافق تلك الحضارة ومزايا هذا التمدين. ولكنها تدوم زمناً أطول بين القرى ومزارع الريف. إن الشعر يجسم الخيال للذهن كما يجسم المصباح السحري الأشباح أمام العين وكما أن المصباح السحري لا يخرج أحسن صورة إلا في غرفة مظلمة فكذلك الشعر لا تسمو درجته ولا يبلغ منزلته الحقيقية إلا في العصور المظلمة، فإن ضوء العلم إذا انتشر على صوره وضحت معالم الأشياء واستبانت ظلال اشك الاحتمالات، إذ ذاك تتلاشى تلك الألوان وتنطفئ تلك الملامح التي رسمتها يد الشاعر لأشباحه وخيالاته. لأننا لا نستطيع أن نظفر بتلك المزية العظيمة مزية الجمع بين الحقيقة والخيال، بين رؤية الواقع الواضح والاستمتاع اللذيذ بالتصورات. . . . وإن الذي يريد أن يكون شاعراً عظيماً في مجتمع متعلم متمدن عليه أن يصبح أولاً طفلاً صغيراً. ينبغي له أن ينفض رأسه نفضاً مما يحتشد فيه وأن يجهل كثيراً من العلوم التي تلقاها والتي ربما كانت إلى الآن سبب نبوغه وشهرته. إن ملكاته ومواهبه ستكون هي العقبات التي تعترض طريقه. وسوف تكون المصاعب التي يغالبها بمقدار مجاراته وتعلقه بمرافق المدينة التي تحيط به، كما أن اندماجه هذا في الحياة التي حوله سيكون بمقدار ما عليه ذهنه من قوة ونشاط وعساه بعد هذه التضحيات والمتاعب أن يقول شيئاً غير شبيه بالرجل الألثغ أو الطلل الحديث. فلقد رأينا في عصرنا هذا مواهب كبيرة ومجهودات عظيمة وتأملات طويلة تصرف جميعها في مكافحة روح العصر ثم ترجع - لا نقول بالفشل التام - ولكن بنجاح مشكوك فيه وشهرة خافتة ضئيلة. ط. ر.

شهداؤنا الاثنا عشر

شهداؤنا الاثنا عشر ألا في سبيل الله ذاك الدم الغالي ... وللمجد ما أبقى من المثل العالي وبعض المنايا همة من ورئها ... حياة لأقوام ودنيا لأجيال أعيني جودا بالدمع على دم ... كريم المصفى من شباب وآمال تتاهت به الأحداث من غربة النوى ... إلى حادث من غربة الدهر قتال جرى ارجوانياً كميتاً مشعشعاً ... بأبيض من غسل الملائك سلسال ولاذ بقضبان الحديد شهيده ... فعادت رفيقاً من عيون واظلال سلام عليه في الحياة وهامدا ... وفي العصر الخالي وفي العالم التالي خليلى قوماً في ربى الغرب واسقيا ... رياحين هام في التراب وأوصال من الناعمات الراويات من الصبا ... ذوت بين حل في البلاد وترحال نعاها لنا الناعي فمال على أب ... هلوع وأم (بالكنانة) مثقال طوى الغرب نحو الشرق يعدو سليكه ... بمضطرب في البر والبحر مرقال يسر إلى النفس الأسى غير هامس ... ويلقى على القلب الشجا غير قوال سرى فنعاهم للديار أهلة ... فمن هالة عطل ومن منزل خال سماء الحمي بالشاطئين وأرضه ... مناحة أقمار ومأنم أشبال وأدهام تدرى الريح أن قد أعادها ... بسافاً ولكن بحديد وأثقال يريك جياد السبق في الحضر كلما ... رمى بذراعيه وبالمرجل الغالي يقل من الفتيان أشبال غابة ... غداة على الأخطار ركاب أهوال ثنته العوادي دون (اودين) فانثنى ... بآخر من دهم المقادير ذيال قد اعتنقا تحت الدخان كما التقى ... كميان في داج من النقع منجال فسبحان من يرمي الحديد وبأسه ... على ناعم غض من الزهر منجال ومن يأخذ لسارين بالفجر ... طالعاً=طلوع المنايا من ثنيات آجال ومن يجعل السفار للناس همة ... إلى سفر ينوونه غير قفال فيا ناقليهم لو تركتم رفاتهم ... أقام يتيماً في وصاية لآل وبين غريباً لدي وكافور مضجع ... لنزاع أمصار على الحق نزال فهل عطفتم رنة الأهل والحمى ... وضجة أتراب عليهم وأمثال

لئن فات مصراً أن يموتوا بأرضها ... لقد ظفروا بالبعث من تربها الغالي وما شغلتهم عن هواها قيامة ... إذا عتل رهن المحبسين بأشغال حملتم من الغرب الشموس لمشرق ... تلقى شفاها مظلماً كاسف البال عواثر لم تبلغ صباها ولم تنل ... مداها ولم توصل ضحاها بآصال يطاف بهم نعشاً فنعشاً كأنهم ... مصاحف لم يعل المصلى علي التالي توابيت في الأعناق تترى زكية ... كتابوت موسى في مناكب أسراله ملففة في حلة شفقيه ... هلالية من راية النيل تمثال أظل جلال العلم والموت وفدها ... فلم تلق إلا في خشوع وإجلال تفارق داراً من غرور وباطل ... إلى منزل من جيرة الحق محلال فيا حلبة رقت على البحر حلية ... وهزت بها (حلوان) أعطاف مختال جرت بين أيماض العواصم بالضحى ... وبين ابتسام الثغر بالموكب الحالي كثيرة باغي السبق لم ير مثلها ... على عهد اسماعيل ذي الطول والنال لك الله هذا الخطب في الوهم لم يقع ... وتلك المنايا لم يكن على بال بلى كل ذي نفس أخو الموت وابنه ... وإن جر أذيال الحداثة والخال وليس عجيباً أن يموت أخو الصبا ... ولكن عجيب عيشة عيشة السالي وكل شباب أو مشيب رهينة ... بمعترض من حادث الدهر مغتال وما الشيب من خيل العلي فاركب الصبا ... إلى المجد تركب متن أقدر جوال يسن الشباب البأس والجود للفتى ... إذا الشيب سن البخل بالنفس والمال ويا نشأ النيل الكريم عزاءكم ... ولا تذكروا الأقدار إلا بإجمال فهذا هو الحق الذي لا يرده ... تأفف قال أو تلطف محتال عليكم لواء العلم فالفوز تحته ... وليس إذا الأعلام خانت بخذَّال إذا مال فاخلفوه بآخر ... وصول مساع ولا ملول ولا آل ولا يصلح الفتيان لا علم عندهم ... ولا يحرزون السبق أنصاف جهال وليس لهم زاد إذا ما تزودوا ... بياناً جزاف الكيل كالحشف البالي إذا جزع الفتيان من وقع حادث ... فمن لجليل الأمر أو معضل الحال

ولولا معان في الفدي لم تعانه ... نفوس الحواريين أو مهج الآل بهاتيك المصارع بينكم ... ترنم أبطال بأيام أبطال ألستم بني القوم الذين تكبروا ... على الضربات السبع في الأبد الخالي رددتم إلى فرعون جداً وربما ... رجعتم لعم في القبائل أو خال شوقي

رأيي في الزواج

رأيي في الزواج من أكبر معضلات الحياة التي لا يفتأ الناس يديرون فيها وجوه الرأي. ويتحدثون يها في الندى والسامر، والمجلس، والمسجد والسوق. مسألة الزواج. فهي اليوم مشغلة الإنسانية الحاضرة، وهي الموضوع المودة الذي لا يزال يحاول كل إنسان أن يصل إلى اختراع لون منه واكتشاف هيئة ظريفة له. ولا تنى الصحف تعادوه من الحين إلى الحين. ولا تزال الكتب تخرج عنه. وقد أدمجه الروائيون في قصصهم. واستخدمه فريق من السياسيين الاجتماعيين في التدليل على الاضطراب الاجتماعي الواقع اليوم في أكثر بلاد الحضارة. إن الوظيفة الطبيعية الأولى للزواج. والغرض الغريزي منه. هو بلا ريب الاحتفاظ بالنوع. وبقاء الجنس. وعمران الدنيا. ولكن الأدب العصري يتنازع والعلم الحديث عند هذه اليقظة من البحث. ومذ اليوم الذي افتتح فيه الروائي هنريك اييسن. بروايته الكوميدية بيت العروسة المناقشة في مسائل الزواج. والكتاب جارون في الكلام عنه. والروائيون عاقدون عليه القصص. ومنشئون الفصول والأبواب. وقد تضافر الجميع على أن للرجال والنساء الحق أن يقيسوا الزواج بمقدار ما يجلب لهم ارتباطهم به من الهناء واللذة. وقد ذهب اييسن إلى أن الزوجة التي ترى زوجها لا يستطيع أن يقدر عواطفها من ناحية اللذة - ويشبع رغبتها في الهناء ينبغي لها أن تغلق الباب في وجه زوجها وأطفالها. وتحرر من هذا القيد الثقيل. وتخرج من هذا الغل اللعين - وتلتمس لها عيشاً من وراء أية صناعة. وقد عمد روئي اسكندناوي آخر من كبار روائي الإنسانية الحاضرة في الدفاع عن الزوج من هذه الوجهة نفسها فجعل يقول أن الزواج يعطل رقي المزايا الرجولية في الرجل وأن المرأة تستعبده وتستأثر به وتضطره إلى كثير من التضحيات في سبيل لذتها وهنائها ولا يزال الروائي العظيم برناردتشو يقول هبذا الرأي. وينحو في البحث هذا النحو. وقد أبدى كل ذلك في روايته المشهورة (الإنسان والبرمان) وقد اعترف الشاعر رديارد كبلنغ بإيثاره العزبة على الزواج إذ قال في شبيته الأولى. يم كان حدثاً غفلاً لم ينضج بعد (أشد السفر سرعة وإيفاضاً، المسافر وحده، غير متخذ رفيقاً). فترى أيها القارئ أن امثال اييسن وسترندبرج وأولئك الطائفة التي تقول بهذه الآراء تراهم يمثلون الوجهة الأنانية من البحث. وقد لا يبعد أن يكون في ما يقولون نصيب ضئيل من الحق.

ونحن قد نظن أننا إذا استطعنا أن ننشئ في المجتمع الإنساني الحاضر طائفة كبيرة من وسائل التحصين ومقاومة قوى الطبيعة الخشنة. قد تمكننا من الفرار من قوانبن الحياة، فنحن نميل عند النظر إلى الزواج إلى اعتبار الواجب الأول في الزواج. والقصد الأكبر منه سعادة الزوجين وهناؤهما الشخصي. ونحن لا ننكر أن الزواج الإنساني في أبدع أدواره. مصدر لذة نقية عظيمة ممتعة. ولكن الهناء أنما يأتي بطريقة غير مباشرة ولا ينبغي أن يكون هو الغرض الأول المباشر. لإننا إذا عددنا سعادة الزوجين بين الناس المقياس الأكبر لنجاح الزواج فكأنما وضعنا المركبة أمام الجواد. لا الجواد أما المركبة. وكأنما قد أغفلنا الغرض. ولم نعتد إلا بالواسطة. وإذا أخذنا بهذا المبدأ. فثمت خطر كبير. وبلاء أعظم. وهو وقوفنا في منتصف الطريق الذي أرادتنا الطبيعة على أن نسير فيه حتى نبلغ نهايته. وما كانت السعادة في الزواج إلا أشبه شيء بسياج من أشجار الورد ومختلفات الأزاهر قد امتد على طريق الحياة. ليرسل أنفاس الشذى العطر ويثير الأرج الندى. فيخفف من وعثاء السفر وشقة الطريق. ولكن لا ينبغي أن نضل الطريق ونقف عند كل زهرة فنقتطفها. وندفع إلى كل وردة زهية ننتزعها من شجرها. وليست السعادة في الزواج كذلك إلا أشبه بالجزاء الطيب الذي يناله العامل الحاذق على واجب شاق يؤديه وعمل مستصعب ينفذه، ولكن في سبيل بقاء النوع ينبغي أن نحتمل الآلام والمتاعب والنفقة في سبيل إيجاد الذراري. وإن لم نصب هذا الجزاء الذي لقيه العامل الكادح. لأن السعادة ليست أمراً ضرورياً. ولا شأناً في الحياة لازماً. وقد أثبت ذلك كثيرات من الأمهات الرؤوفات. إذ ربين أطفالهن فأحسن تربيتهن. على حين كانت معيشتهن الزوجية سيئة أليمة. ولم يكن اييسن وسترندبرج وأشياعهما على شيء من حسن النية إذ وضعوا للزواج قيوداً وحدوداً. فإن تلك المبادئ الكلبية إنما تقوم على حب اللذة. والرغبة عن واجبات عن واجبات الزوج. ولكنها على الرغم من ذلك قد أعانتنا على أن نرى هذه لمسألة الاجتماعية الكبرى بنور اليقين. ونستوضح بها الشبهات. وإذا نحن نظرنا إلى الزواج في الإنسانية الحاضرة فلا يسعنا إلا الاعتراف بأن الزواج العصري مريض ضعيف لا نجاح منه ولاصلاح. فإن عدد الأنانيين من الشباب والمحبين أنفسهم من الفتية وأطفال الإنسانية الكبار الذين ينعمون بالعزوبة. ويرونها خيراً متاعاً من

الزواج. لا يزال آخذا في الازدياد. مربيا على عدد الذين يؤدون أكبر الواجبات الإنسانية المحتمة على الجنس في سبيل بقائه. فإن هؤلاء متناقصون في كل يوم. منزوون. آخذون في القلة والاضمحلال. هذه هي الحقيقة الواقعة في العالم المتحضر كله في السنين لأخيرة، فإن الرفاهية وتكاثر أنواع النعمة. وازدياد ألوان الترف. وحشد المصانع ألوفاً من ضروب البهجة واللذة، قد أفسد على الإنسانية عملها الأول. وبث في شباب العالم روح الأنانية اللئيمة القذرة الثوارة المستبدة. وجاء الكتاب الأدعياء. والشعراء الأخساء، ضعاف القلوب والأبصار فراحوا يعلمون الناس أن الزواج يحول بين الرجل والمرأة وبين تنمية شخصيتهما. وتهذيب قواهما السامية. وآخرون أشد من أولئك كلبية وأنانية يقولون أنه يحول بينهما وبين النجاح في الحياة. ولا يكون مآل ذلك إلا أن الفرد يصيب اللذة. ولا يصيب المجموع إلا الفناء والانقراض. والفتى الحدث يعلم انه مدين بوجوده في الحياة لآبائه وأجداده. ولكنه من الأنانية وحب ذاته بحيث لا يرد أن يحمل مصباح الحياة فيمشي به إلى الأجيال القادمة كما حمله آباؤه من قبل. ونحن قد رأينا من خلال صحائف التاريخ أن جملة من أكبر المدنيات التي ظهرت في العالم تهدمت ودالت دوائها وبادت. لأن العمل على بقاء النسل، والاحتفاظ بالجنس، ضعف في قلوب أهلها وغلبت عليه أميال أخرى. وقهرته رغبات ونزعات متباينة. ولم يقتل مدينة الإغريق. ويحطم حضارة الرومان. إلا قلة الزواج في أخريات أيامها. وولوع الناس من العاهل إلى أحقر رجل في الصفوف الرومانية، بجميع وسائل الحيوانية. واشباع الشهوات. وكثرة ألوان الرفاهية والترف. وهذه النكبة التي وقعت لتلك المدنيات القديمة تكاد تحف اليوم بحياة العالم المتحضر. ولا تزال الإنسانية سائرة في الطريق التي سارت فيها اليونان ورومة القديمة. فقد جن جنون الناس رجالاً ونساءاً اليوم بحب المال. والتهالك على كسبه. والتنعم بلذته. وإيجاد ألوف من وسائل الترف واللذاذات. حتى أصبح سواد شباب الإنسانية يؤثرون العيش في ظلال العروبة طوال حياتهم. ونرى كبار الشعراء والروائيين يمجدون الحب الذ يؤول الحب الزواج، وبتمجيدهم الزواج

من ناحية العاطفة إنما يتفقون المفكرين والعلماء الذين ينادون الناس إليه من ناحية الغريزة ويقاء النوع. لأن هؤلاء يرون أن الفرد يجب أن يخضع لمطلب المجموع. ولو درسنا الزواج من الناحية العلمية. لم نجده ضرراً للإنسانية أو أذى. وليس فيه ما يحول بين الفرد وتنمية قواه وذاتيته. وليس عائقاً دون النجاح في الحياة. لأن أوفا من المتزوجين استمدوا من الزواج ومطالب الأسرة والعناية بابنين. وتربية الأطفال قوة كبرى وكدحاً أعظم. وأنك لترى الذئب الوحيد أشد الوحوش شدة وحولا إذا عضه الجوع بنابه. ولكنك ترى كذلك الذئب ذا الجراء والصغار يطلب غذاء أشد منه وحشية إذا استنفره. وتلك حال الناس حذوك مثلاً بمثل. فهم أشد كدحاً وأدأب على العمل. وأجلد على العناء إذا كانوا يعملون لأنفسهم وأطفال لهم وزوجات في ذمتهم منهم إذا كانوا طليقين أعزاباً منفردين بذاتهم. ولم تقل الطبيعة بأنه لا بد لارتباط الجنسين، المرأة والرجل، والذكر والأنثى، من وجود مصدر لذة كبرى للأبوين بل أرادت أن تكون الغاية من إنشاء الذرية أسمى من ذك وأعظم. بل في كثير من طبقات الحيوانات الدنيا نرى الطبيعة تضحى لأب أو الأم في سبيل الطفل، ولبقاء النوع، فإن الحشرة المسماة دودة القز لا تلبث أن تموت إذ توشك أن تضع أفراخها، وتترك عند موتها غطاء جمها ليكون غلافاً واقياً لنسلها، ومن هذا ندرك أنه إذا كانت مصلحة النوع تتوقف على مصلحة الفرد من ناحيته، لا تزال مصلحة النوع تتطلب من الوجهة الأخرى بعض التضحية من الفرد، على أن النصيب الأكبر من المتاعب في عالم الحيوانات الدنيا لا يزال واقعاً على الصغار، وهذه تبيد في أغلب الأحيان ألوفاً ألوفاً، فإن الحوت قد ينتج أكثر من مليون بويضة ولكن لا يعيش من هذا المقدار العظيم إلا الألف أو أقل من ذلك قدراً، وقد أرادت الطبيعة أن يكون أكثر طبقات الحيوانات الدنيا أشد حناناً على صغارها من فريق كبير من أهل المدينة الذين يعتزون بأنهم أصابوا المكانة العليا على الحيوان، فإن عدد اللقطاء الذين يلقون على قوارع الطريق، من وراء الارتباط الأثيم، وإغواء العذارى العفل، وخديعة النساء المتزوجات، لا يزال معرة إنسانية كلها، ومن أقسى الحقائق التي اهتدى إليها الاحصائيون أن موالي الأطفال المزنمين غير الشرعيين أقل من الأقاليم الجاهلة التي جادت فيها الأمية، وفشى الجهل، وضعف مستوى الحضارة، عنها في البلاد المتناهية في المدينة، التي أدركت أوج التهذيب، فإن عدد أولئك المواليد في بلاد مثل

الروسيا وإيرلندة ومقاطعة بريتانيا لا يكاد يذكر بالنسبة لعددهم في البلاد المتحضرة المجاورة لهم، وإليك إحصائية عن نسبة المواليد المزنمين غي الشرعيين في كل ألف طفل يولد الدانمارك 101 السويد 113 النرويج 74 النمسا 141 ألمانيا 84 فرنسا 88 اسكوتلندة - ايقوسيا 64 انجلترة 40 ايرلنده 26 روسيا 27 من هذه الأرقام تدرك أن التعليم والتمدن والحضارة والرفاهية أسباب كبرى لتكاثر الزنا والارتباط الأثيم والولادة غير الشرعية. وإذا كنا الآن على أبواب انتقال جديد في الحياة وتطور اجتماعي طريف، فما أخلقنا بأن ننمي فكرة الزواج والاقبال عليه بين الشباب والرجال، وبين العذارى والفتيات لأننا تابعنا تيار المدينة، ورضينا بأمراضها تعمل في كياننا، وعللها تسري في مجموعنا، فلا يكون من ذلك إلا أنقع في نكبة اجتماعية أليمة، ولا نستطيع أن نستفيد شيئاً من هذه الحياة الجديدة التي نحن اليوم مقتحمون أبوابها، قاصدون إلى حيث نعيش أمة محترمة متينة البنيان. (ع. ح)

غراميات ديزرائيلى

غراميات ديزرائيلى بنيامين ديزرائيلى - ايرل لوف بيكونسفيلد حامل لواء الأدب والسياسة، ورئيس الوزارة الانكليزية والروائي الأعظم في أواخر القرن الماضي فصل من حوادثه الغرامية السرية من ماثور كلمات بنيامين ديزرائيلى قوله: أنى مدين في كل شيء للمرأة، وإلى تأثيرها فيّ وسلطانها علي يعزى كل ما أوتيت من الفخار والمجد والذكر وكل ما صادفت من النجاح والفوز. وإذا كنت لا أزال في هرمي أحمل قلباً فنيا. ووجداناً ضرماً ذكياً ولا أبرح تحت وقار الشيب وجلال الشيخوخة أقلب لسان شاعر متخيل، وعاشق منعزل. وأقول مع القائل: يا هند ما شابرفتى ... وإنما شاب الشعر فذلك أيضاً راجع إلى تأثير المرأة. في هذا الاقرار الصادر عن إمام البلاغة والسياسة تعليل شاف لما امتازت به شيخوخة البطل العظيم من حوادث الحب العجيبة، وروايات الغرام المدهشة الغربية. كان ديزرائيلى في كل أدوار حياته سريع الافتتان بجمال المرأ مفرط الولوع بملاجائها فكان لا ينفك من شغف بالنساء، وحنين إليهن وطرب إلى محادثتهن ومغازلتهن بل هيام في اثرهن، واقتناص وشواردهن. وكل ذلك كان بعلم من زوجته التي كانت تطيب نفساً عن ذلك وتتسع به صدراً. وكانت صنع الله لها وله أر قلباً واكرم شيمة من أن تكدر على زوجها العبقري صفوه في أمر ليس فيه عليها كبير شقوة ولا بلاء. ولا جرم فلقد كانت تنطوي على شيء من البطولة، فكانت لغرائب خصائص الأبطال أفهم من طبقة العاديات من النساء. ولشواذ نزعات العظماء أفطن وأخبر. وهي بما أوتيت من طبيعة البطولة مليئة أن تجل النابغة العبقري - زوجها - وتقدسه واهبة له تلك الهفوات (إن صح أن نسميها هفوات) التي هي أبداً من مستلزمات البطولة والعظمة - بل التي هي أس البطولة ومادتها وبها غذاؤها ونماؤها وعليها مدارها وقوامها. وكانت زوجة ديزرائيلى هذه أرملة أحد أحد زملائه السياسيين أورثها مالاً جماً، وعقاراً كثيراً فاقترن بها ديزرائيلى وهو ابن أربعة وثلاثين. وكان يقول لها ممازحاً إنما أغراه بزواجها مالها وثروتها.

ولكن اللادي بيكونسفيلد (زوجة ديزرائيلى) صرحت مرة في بعد أحاديثها لاتراب لها كلا والله ما كان اقتران بنيامين بي لطمع في ثروتي. وكيف، ولقد كان يبدي شوقه لي وغرامه في حياة زوجي الأول. لقد عاش ديزرائيلى وزوجته ثلاثة وثلاثين عاماً في صفاء ورخاء. وكان قد بلغ من فرط حبها إياه أن جعلت تدخر قصاصات شعره طول مدة حياتها الزوجية وكانت تقص شعره بيديها كل أسبوعين أو ثلاث. والرسالة الآنية وهي ما كتبه ديزرائيلى إلى زوجته أثناء تأليفه مأساته المشهورة الاوربوس تنم عما كان يجد لها في أعماق قلبه من شدة الغرام والوجد. وهاهي لقد أدمنت أمس الكتابة اسحّ بها سحاً، وأهضب بها هضبا. ولقد والله جعلت أصب في فصول قصتي الخيالية وجداناتي الشخصية، ومشاعري الذاتية. فجاءت وكأنها قطعة من حياتي الماضية، وشعبة من عيشتي الخالية. يوم أطارحك الغرام. وأجاذبك أسباب الهوى. فإذا نظرت في تلك الصحف وجدتها مرآة ماضيك وصدى ذكرياته. وإذا تلوتها تلوتها بمهجة واقدة، وأنفاس صاعدة، وبحشاً خافقة، ومقلة مغرورقة. وكيف وقد كنت أكتبها وشخصك مرتسم على صفحة جناني، واسمك يرفرف على أسلة لساني. ولا غرو فمن غيرك ملهمي - إذا تناولت البراعة - ومصدر وحيي وشيطاني. لم يكد يمضي على وفاة هذه الزوجة نصف عام حتى رأينا صاحب الرئاسة وداهية الحكام والساسة، يحرر الرسائل الغرامية لامرأتين كانتا في تلك الآونة جدتين لهما أولاد وأحفاد. وكان في ذلك الحين قد أربي على الثامنة والتسين، ولكن رسائله كان بها من حرارة الوجد وسعير الجوي ما أدهش معشوقتيه واستثار أقصى عجبهما. وكانتا أختين: اللادي شترفيلد والكونتيس سبلبنا اوف برادفورد. وكانت الأولى قد أنافت على السبعين ولكن التي شغف بها ديزرائيلى وهام، وراح فيها نهب الوساوس والأوهام هي اللادي برادفورد التي كانت متزوجة وقد ناهزت الخامسة والخمسين. وكقد كان من فرط وجده بها أنه بعث إليها بمائة وألف رسالة. وكان يبعث لها في سحابة نهار بالخمس والست من الرسائل على أيدي رسل مختارة كان يقول عنهم في كتبه إلى السيدة المذكورة وإن رسلي لعبيدك ورق بين يديك لا فرق بينهم وبين سيدهم صبك المنيم، وهم تحت أمرك واقفون ببابك من الشروق إلى الغروب.

ويدلك على فرط لوعته في الغرام. وشدة التهاب غلته في الهيام الرسالة الآنية وهي ما كتبه السياسي الداهية إلى اللادي برادفورد عقب تقلده منصب رئاسة الوزارة للمرة الثانية بثلاثة اسابيع، وكانت السيدة المذكورة قد أزمعت مغداة لندن مع أختها لمدة لا تتجاوز الاسبوعين فوجد لو شك هذا البين من شدة الكرب وفرط الجزع ما أجري براعة بالكلمة الآتية: أتعلمين يا فتنة العالم وزينة الدنيا إنك ما كنت قط أجمل ولا أملح منك مساء هذا اليوم. وأما لو استطعت وساعدني القدر لجلست إلى يوم القيامة ألتهم بعيني بدائع جمالك، وذني روائع مقالك. ولكن كان ينغص علي لذتي، ويكدر صفاء نعمتي علمي. إن هذا اللقاء إنما كان لوداع. وإن الفراق كان رهيناً بذلك الاجتماع حجبوها حتى بدت لفراق ... كان داء العاشق ودواء أضحك البين يوم وذاك أبكى ... كل ذي لوعة وسرّ ساء فجعلنا السلام فيه وداعاً ... وجعلنا الفراق فيه لقاء والظاهر أن اللادي برادفورد احتجت على طغيان صبابته، وأنكرت منه غلواء هيامه وسورته، حتى كتب إليها ديزرائيلى رداً على إنكارها واجتجاجها الرسالة الآتية: ما أحسب أني كنت في مكاشفتي إياك الهوى ومصارحتي ما شفني من الجوى بمتجاوز قدرى، ومعتد حدى وطورى. وكيف ولم أبغ منك قط أكثر من مجالسة الأصحاب. ومؤانسة الأحباب. ولا حاولت أزيد من الماس القائل: أتأذنون لصب في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر فإذا بلغت هذا كل غاية ما أريد. فلم أطمح إلى ما دونه ولم أقل هل من مزيد. فجنبيني يا قرة العين وعيدك بالحرمان. ولا تروعيني بنذر الصد والهجران، فما أراني أهلاً لذلك، ولا مستوجباً مساءتك وأذاك، وعلى كل فلن يكون مني بعد اليوم أدني ما يسخطك ويسؤوك. ثم مشى بالصلح بينهما وجاءته رسالة من معشوقته سلينا لادي برادفورد تنبئ عن العفو والرضا. فكتب إليها: قرأت كتابك فأبرأ علتي، وشفى غلتي وكان ألذ في نفسي وأندى ... على كبدي من الزهر الجنى وضمن صدره ما لم تضمن ... صدور الغانيات من الحلى

وأقاما حقبة من الدهر بين صلح وخصام، ونفار ووئام، وان شأنهما في الحب لعلى حد قول القائل: لا خير في الحب وقفا لا تحركه ... عوامل اليأس أو يرتاحه الطمع وقول الآخر: إذا لم يكن في الحب عتب ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب ومن أعجب العجائب له أنه بينما كانت أعباء السياسة تتراكم على كاهل السياسي الريب، وجو الحوادث مظلم مكفهر كنت تراه في هذا المأزق الصنك واليوم العصبصب يوالي الرسائل إلى اللادي برادفورد كأمثال الرسالة الآتية: لا أكذبك يا مولاتي أنه لا حياة لي إلى برؤيتك. ولا بقاء لي إلا بسماع صوتك ونغمتك. أو تلاوة كتابك ورسالتك. أحمد الله الذي مد في أجلي حتى نعمت بفجر الحب وضحاه، وبيكرته وممساه. وبسحره وأصيله. ومغداه ومقليه. ألا ان رؤيتي إياك في المجلس الحافل للذة متميزة عن سواها علي أن خلوتي بك ممتعة مغايرة لتلك لست على ممر الدهور أنسها. ولكلتيهما بعد مذهبها الخاص من الروح ومجراها كنور القمر وكالشمس في ضحاها. . . وأعجب ما في غراميات ديزرائيلى أنه لما يئس من رضا اللادي برادفورد خطب أختها الكبرى اللادي شترفيلد محتجاً لذلك بقوله سأعتنق إحداهما كزوجة لي وأعتنق الأخرى كشقيقة. ولكن اللادي شيستر فيلد أبت ذلك لاعتقادها أنها لم تكن تشغل من قلبه المكان الأعلى. أما رسائل السيدتين إلى ديزرائيلى وحقيقة شعورهما نحوه فهذا لم ينتشر تحقيقه وتثبيته. ولن يتيسر. وذلك لأن رسائلهما إليه أحرقت عقب وفاته طبقاً لمرادهما ورغبتهما الصريحة. على أن نعلم أن اللادي برادفورد كانت لا تغالي بشيء مغالاتها بفوتوغراف صغير لديزرائيلي كانت أهدته إليها الملكة فيكتوريا التي كانت يسمسه ديزرائيلي الحورية. ولم يفتر شغف الرجل بالنساء حتى في أخريات عمره بل بقي إلى ذلك الحين طلابا للغواني وحريصاً على مجالستهن حتى آل الآمر أخيراً إلى أنه ألف نادياً منة صويحباته

كان له اللذة الكبرى والنعمة العظمى. . . .

باب الزراعة

باب الزراعة حقائق في سقى القطن حينما كان الري الصيفي أكثر بالروافع (الآلات) وكان من لا روافع عندهم يسقون أقطانهم على روافع جيرانهم بأجر كان اكثر ما يكون ذلك مسانهة وعلى أن يسقى القطن منذ زراعة البكيرة إلى مجيئ الفيضان تسع ريات تعطى في المواعيد الآتية بالتقريب السقية الأولى في 20 فبراير وهي سقية الزراعة سقياً خفيفاً السقية الثانية في 20 مارس وهي سقية المحاياة سقيا أشفاقاً أي خفيفاً جداً السقية الثالثة في 15 إبريل سقيا خفيفاً السقية الرابعة في 10 مايو سقيا متوسطاً السقية الخامسة في أول يونيو يميل إلى الإشباع وفي اثناء هذه الريات الخمس يعزق خمس عزقات الأولى بعد الزراعة وقد تعزق الثانية أيضاً بعدها وقبل المحاكاة وكلاهما عزقا خفيفاً والثانية منهما نسمى (ردة) - ثم عزقة بعد المحاياة عزقة متوسطة ثم عزقة بعد السقية الثالثة ثم عزقة بعد السقية الرابعة وهي العزقة الأخيرة. السقية السادسة في 15 يونيو سقياً متوسطاً يميل إلى الإشباع السقية السابعة في اول يوليو سقياً اشباعاً السقية الثامنة في 15 يوليو سقيا اشباعا السقية التاسعة في أول أغسطس سقيا اشباعاً وقد تحرث خطوطه قبل السقية التاسعة حراثة تسمى تكتينا وفائدتها فتح التربة (بعد أن تكون بلطت من كثرة السقي) لقبول السقي الغزير. وبعد السقية التاسعة يكون جاء شهر مسرى والفيضان فيمكن السقي سجا بالراحة ولكن لأن القطن يكون حينئذٍ قد استوفى حياته الزهرية فيمنع عنه السقي إلى أن يحنى أول جنيه ثم يسقى بعدها سقية غزيزة بحيث يرصد الماء فوق التربة نحو 24 ساعة فيتلو ذلك تناثر ورق القطن وتخصيب لوزه وإسراع انضاجه. وكان البعض يسقيه أكثر من تسع سقيات بأن يقلل الفترة بين السقيات في شهري يونيو

ويوليو - بؤنه وابيب - سيما في الأخير منهما فيجعلها 10 أيام خصوصاً في الأرض العلو وبالأخص إذا كانت صفراء خفيفة. وكان أصحاب السواقي المعين يسقون أقطانهم سبما في الغيطان الصغيرة منذ نزول النقطة إلى قبيل الفيضان كل 8 أيام مرة ويتحرون اجراءها طرفي النهار وعامة الليل أي من بعد العصر فقبيل الضحى ويمتنعون عن سقيه أيام الحرارة الجافة وخصوصاً إذا كانت ظهرت عليه إمارات العطش لأن سقيه حينئذٍ يكون مفاجأة مضرة به فيتناثر وسواسه وزهره. والخلاصة أن القطن بدء نموه يجب أن يكون سقيه خفيفاً وفي فترات متباعدة ثم لعد تنشئته وترسيخ جذوره يزاد سقيه زيادة تتناسب مع زيادة نموه وزيادة حرارة الجو إلى أن تتم حياته الزهرية. والمعروف في العرف الزراعي أنه كلما كثر ري القطن في الصيف تطبيقاً للقواعد السابقة سيما في شهري بؤنه وابيب (يونيو ويوليو) كان ذلك أفعل في تكثير طرحه وتكبيره وتجويده وقد ألبدت التجارب الحديثة ذلك. وفي الجهات البحرية التي تصرف صرفاً جيداً قد لا يمنع السقي أوائل الفيضان سيما في الغيطان التي لم يكن استوفي نباتها حياته الزهرية استيفاء مناسباً لإعطائه محصولاً كافياً سواء كان ذلك من تأخير زرعه وأضعف تربته وفلاحته وإذن يلزم سقيه مرة او مرتين سقياً خفيفاً متقارباً وفي اوقات الطراوة بشرط أن لا تزيد المدة بين السقية السابقة واللاحقة عن 10 - 12 يوماً وكذلك يعمل للقطن في الجهات الجنوبية وما صاقيها إذا لم يكن استوفى حياته الزهرية تماماً كما يحصل في الغيطان المتأخرة زراعتها أو التي ظمئت في الصيف ويجب أن يكون هذا الري النيلي والتربة سخية من أثر الرية السابقة وأن يحصل في اوقات الطراوة أحمد الألفي

تفاريق

تفاريق تناسل اللؤلؤ هل للؤلؤ أطفال يتساءل الناس هل اللؤلؤ حيوان حي، وهل تأكل وتتوالد؟ - تلك هي الأسئلة التي كثيراً ما خطرت على أذهان كثيرين من الناس. ولكنهم لم يجدوا لها جواباً حتى نشر رجل من كبار رجال المغرب غرائب عدة عن طائفة اللالئ. كانت في حوزة زوجته. فأدرك البعض منها ما يسكن من حدة حيرتهم. أما الرجل فهو السير ارنست بيرس وهم من الحكام الذين ولوا على الهند وما جاورها. وقد أكد أن هذه اللالئ منذ استحوذ عليها لم تزدد فقط في الحجم بل ظلت كذلك تتناسل وتتوالد وتتكاثر. وقد قال في ذلك: عندما كنت حاكم يورينو عام 1891 خرجت يوماُ لركوب البحر. وإني لجالس في زورقي إذ دنت من الزوارق امرأة تحمل في يدها كيساً مفعماً باللؤلؤ تريد بيعه فنزلت لها عن ست جنيهات وابتعت اللالئ بها. وكانت تلك اللالئ صغيرة، لا تزيد كبراها حجماً عن راس الدبوس. فلم أعبأ باللالئ كثيراً يومذاك بل طرحتها في مكان ونسيت ما كان منها بتة ومضت خمسة اعوام فإذا بزوجتي قد وجدتها في مكانها المخبؤة فيه. ولشد ما كان عجبنا إذ رأيناها كبرت حجماً وتكاثرت عدداً!! قال السير ارنت برس - فأخذتها إلى رجل جوهري أسأله الخبر فلم يستطيع أن يحل هذا السر ويفك إغلاق هذا السر العجيب، فأعدتها إلى زوجتي فصنعت من بعضها حلياً وأبقيت البعض الاخر - كان الصائغ أخبرنا انها ليست بذات قيمة - وانصرمت عشرون عاماً. ومن العجب أن أصبحت بعد ذلك من لكثرة بحيث تكفي لصوغ عقد ذي مائتي لؤلؤة! وما بقي من تلك اللالئ كان من صغر الحجم بحيث لا يصلح لشيء من الحلي. فما كان منة زوجتي إلا أن أخذت تلك الصغار فوضعتها في كيس صغير. ووضعت معها قليلاً من حبات الأرز فلما مضت خمسة أعوام فتحنا الكيس فإذا بها قد زادت كذلك وكبرت ونمت. وأعجب من ذلك أن السير ببرس قد جمع اليوم من تلك اللالئ القليلة التي ابتاعها يومذاك

أكثر من أربعة آلاف لؤلؤة. . . . عجائب الطبيعة وحيرة الإنسان في حل أسرارها الطبيعة ملآي بالأسرار وهي تضع رموزاً يحار الإنسان في حلها. ولها ألف عجيبة وعجيبة يظل أمامها شارد اللب لا يدرك لها حكمة أو سبباً. أليس من عجائب الطبيعة أن نري الغربان وهي ترف فوق الأفنان. أو تستريح فوق السرحان. أو في الحقول. فتق الأرض والنبات - لا تزال تندب من صفوفها حارثاً يقف عن كثب ديدبانا يرقب أي خطر. فإذا رأى ثمت ما يخشى على الجمع منه نبه اخوانه إليه فطار السرب جميعاً. فكيف أدركت الغربان وجوب الحراسة وندب الديدبانات هذا ما نحار في إدراك كنهه. ولا يتنس ما يكون في الحدأة، فإنك إذ تطلق أول طلقة من قذيفتك ترى الحدآت أسرع ما يكن إلى الطير في الفضاء رعباً وهولاً. على أنها تصل إلى مكان بعيد في الهواء تدرك منه أن رصاصتك لا تصل إليها تقف حينئذٍ في مكانها ولا تبرحه! وإن استرسلنا نطلق الرصاصات تلو الرصاصات. . . . فكيف علمت تلك الطيور أنها في نجوة من الخطر ومأمن؟ ونحن نعلم أن الديك الرومي أشد مخلوقات الله نفساً مغرورة، وعطفاً تياها، ونفخة مزهوة. وهو طائر قوي متكبر جارح عداء، إن لم يجد شجاراً خلق شجاراً. وإن لم يقع له التنافر أبي إلا أن يكون متنافراً. على أنه أول طائر يجري إذا استحر القتال وحمى وطيس الشجار. فكيف إذا أتيحت له هذه الطبائع المتناقضة وكيف ركبت فيه الطبيعة تلك الخصال المتعارضة؟ هذا ما لا نستطيع أن نفهمه.

حول حفلات البيان

حول حفلات البيان التمثيل - وليس يدافع في ذلك اثنان - فن من فنون الآداب الرفيعة، بل هو القمة الباسقة التي انتهى إليها الأدب في هذه العصور، لأنه أعم الآداب شيوعاً وأقربها مثالاً وأخابها لنفوس الجماهير وأصدقها بعد ذلك أثراً، ومن هنا كان واجباً حتماً على كل من يستطيع إلى ذلك سبيلاً، أن يأخذ بناصره، وأن يسمو به نحو الكمال والغرض الأسمى الذي وضع لأجله. وان من يلقي نظرة على حالة التمثيل عندنا اليوم يرى أن التمثيل الجدي النافع قد اختنق اختناقاً وتضاءل ثم تضاءل حتى ذهبت به وبرجالاته روح العصر وكشكشيانه، وشردت أهليه في البلاد تشريداً، فكان ذلك مما حدانا - لتلك الصلة التي تواخي بين عمل البيان وبين التمثيل - على التفكير في انتقاء روايات تمثيلية يتساوق مع روح العصر، بديعة المنحنى بدعة نبيلة المغزى - أخاذ بالنفوس، طيبة الأثر في الأرواح - ثم اغرار الجمهور الذي تهافت على هاتيك الكشكشيات تهافتاً شديداً حتى استبدت به وملكت عليه أمره وأورثته هذا الفساد المقيت الذي نضج منه ضجيجاً - بالإقبال على مشاهدة هذه الراويات النافعة والاستفادة منها ومن المعاني السامية التي تنطوي عليها وتطلع النظارة من تضاعيفها، فنقلنا من الفرنسية إلى العربية رواية نبي الوطنية أو الرسول ثم راوية القناع الممزق، وكلاهما من الروايات الخالدة التي أصابت من الجميع أقصى غايات الاستحسان، ثم مثلنهما - الأول في دار التمثيل العربي بواسطة حمعية أنصار التمثيل تحت رئاسة حضرة صاحب المعالي أحمد حشمت باشا وزير المعارف الأسبق، والثانية في تياتروبرنتانيا بواسطة النجم الأبيض تحت رئاسة أمير الشعراء أحمد شوقي بك، وكل من وزيرنا الجليل وامير الشعراء قبل هذه الرئاسة عن طيبة خاطر واستحساناً منهما بهذا العمل وغيرة منهما بعد ذلك على البيان، وتقديراً للجهاد الأدبي الأكبر الذي جاهده ويجاهده صاحبه. فكان ذلك - وأقيمت هذه الحفلات على النحو الذي لم يسبق إليه، وتلاقى فيها الجمال بالجلال، وما يروع الخاصة بما يستوهي الكافة إذ بينما تشاهد تمثيلاً تراجيدياً آية في الروعة والسمو إذ يُنتقل بك إلى قطعة كوميدية مضحكة تروح عن النفس ثم إلى أنشودة موسيقية مبتكرة من أنبغ موسيقى الدهر، وهلم مما أصفق جميع من حضر هذه الحفلات على أنها تضطر الناس على اختلاف نزعاتهم وامبالهم إلى مشاهدتها اضطراراً.

وبعد فهذا ما نقصد إليه قبل كل شيء من حفلات البيان - نهوض بالفن وترغيب للناس في التمثيل الجدي النافع ومران للنوادي والجمعيات التي رصدت نفسها لأحياء الفنون الجميلة، ومساعدة لأرباب المراسح والممثلات ومن إليهم - كل إولئك هو الجنى الطيب والأثر الصالح الذي تثمره حفلات البيان. . . . . على أنا إذا كنا نبغي بعد ذلك ربحاً مادياً للبيان - وإن كنا يعلم الله لم نجن من وراء هذه الحفلات شيئاً مذكوراً إذ أن أجور المراسح والممثلات وأدوات التمثيل ونفقات الإعلانات وما إلى ذلك مما لا يستهان به - فمن الذي يعيينا أو ينتقصنا ويصغى أناءنا بذلك - وهل كان يعاب شكسبير وهو الشاعر المخلد عند تلك الأمة على انجازه بالتمثيل وهو القائل: - إننا نكتب ونكدح لنعيش - أظن لا يوجد من يعيينا على ذلك إلا أولئك الزعانف الذين أكلت صدورهم من الحقد. أولئكم الحيوانات الصخابة الجائعة التي تدعي أن بها نعرة صحفية والحقيقة بها نعرة معوية. . . والتي لا تطيب لها الحياة إلا بامتصاص الدماء الفاسدة ولا يحلو لها العيش إلا بتمرير عيش الناس والقدح في أعراضهم وإنما هي صرخات معدهم وصواعق بطونهم - تلكم الحشرات الخبيثة السامة التي أبت الأقدار إلا أن تغريها بكل شيء طيب نافع لسر من الأسرار التي عند الله علمها. ولكن لا. لا. لا عتب على الشرير. لا مبالاة بالضيل الحقير، لا اكتراث بالجائع الذي يدور مع الدينار، أينا دار، كعباد الشمس فيمدح من لا يستاهل المدح كما يُمدح الله ويهجو أهل الفضل كما يهجى شر خلق الله، قل كيف شئت أبهذا المخلوق الدنيء قل كيف شئت وأن تشأ ... وأبرق يميناً وأرعد شمالا نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقادذيره أن ينالا أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولقرائنا الكرام

مطبوعات جديدة

مطبوعات جديدة باحثة البادية لقب على فقيدة النهضة الفكرية الحديثة في مصر المرحومة ملك هانم كريمة فقيد اللغة والأدب المرحوم حفني ناصف بك وقرينه حضرة صاحب العزة السري المفضال عبد الستار الباسل بك، وصاحبة كتاب النسائيات. والموضوعات الاجتماعية المفتنة المنوعة التي كانت تنشر بإمضاء (باحثة البادية) في الجرائد اليومية والمجلات المصرية. وقد كتبنا في السنة السادسة لمناسبة انتقال الباحثة إلى جوار ربها نبذة صالحة أبنا فيها عن مكانة المرحومة من الأدب والتفكير المهذب المستنير. وعددنا وفاتها أكبر رزء اصاب (الكلتور) المصري. وكنا نود وقتذاك ان ينهض من بينا زعيم من زعماء الحركة الفكرية فيكتب عن باحثة البادية كتباً فياضاً يحلل فيه شخصية الباحثة وكفاءتها ومواهبها والمركز الأدبي الذي كانت تشغله بيننا. وها هو اليوم قد حقق الله آمالنا واكثر من آمالنا بظهور كتاب عن الباحثة يكاد يكون منقط النظير، ذلك هو كتاب (باحثة البادية) بقلم الآنسة (مي) الواقع في زهاء مائتي صفحة، المطبوع على ورق ناعم جبد أطيب طبع وأنقاه - أما الآنسة مي فهي الآنسة ماري زيادة كريمة الياس زيادة بك صاحب جريدة المحروسة التي توقع ما تكتبه عادة بتوقيع (مي). والآنسة لا تخفي على أحد من قراء العربية، وليس بهم حاجة فيما نرى إلى تعريفهم بها وبفضلها وأنها من النبوغ والألمعية والذكاء المتوقد والشخصية الممتازة وقوة الملاحظة والتفكير الحي المبتكر المتوثب بحيث لجميع الناطقين بالضاد أن يدلوا بها ويرفعوا رؤسهم عالية فخاراً بوجود مثلها بينهم، وتفاؤلاً بالخير العميم الذي سنناله من وراء وثبة الشرقيات - وآية ذلك ما نراه اليوم في هذا الكتاب الذي بين أيدينا - كتاب الآنسة مي عن باحثة البادية - وليتصور القارئ الكريم ماذا تكون قيمة ما تكتبه عن كاتبة كاتبة مثلها، هاتيك منزلتها. ونحن لو طاوعنا القلم واسترسلنا مع ما يجيش في الصدر نحو هذا الكتاب القيم لاستوعبنا صفحات عدة من صفحات البيان بيد أن نجتزئ بهذه الكلمة الصغيرة اليوم على أن نعود ونكتب كلمة كبيرة عن هذا الكتاب الكبير وكاتبته الكبيرة الآنسة مي في فرصة أخرى - والكتاب يباع في جميع المكاتب وثمنه 12 قرشاً صحيحا النشرة الاقتصادية المصرية

لا يوجد عندنا مع السف مجلات أسبوعية على نحو مجلات الغرب الأسبوعية وكأنا بالرجل الفاضل ألهام منصور صدقي بك وقد فطن إلى هذا الفراغ العظيم فأبت عليه همامته إلا أن يملأه بحق بتلك المجلة الاقتصادية الأدبية الأخلاقية المصورة التي لم يسبق إلى مثلها فيما نعلم، وفاجأنا بها مفاجأة بهرت الأنظار، وأصابت منا أقصى غايات الإعجاب والإكبار - مجلة كبيرة في حجم كبير تقع في نحو أربعين صفحة ويكتب فيها كتاب أفاضل كبار يقوم فيها بتصوير الصور الهزلية البديعة مصور مصري نابغة هو الاستاذ أهاب. وتنشر احصائيات اقتصادية لا بد من معرفتها والالمام بها، وكل أولئك لقاء قيمة لا تفي في ظننا بثمن الورق أبيض عاريا، الجديرة بالاستحسان كل الاستحسان ثم بالاقبال كل الاقبال. مؤلفان جليلان للكاتب النابغة الأشهر أمين ريحاني أهداهما إلينا حضرته من امريكا - وقد كتبهما باللغة الانكليزية، وهما كتاب عن أبي العلاء المعري ومختارات من لزومياته وكتاب عن البولشفية أتى فيه على أصل البولشفية وتاريخها وتطورها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم - والكتابان يطلبان من مجلة الفنون بنيويورك.

إلى قرائنا

إلى قرائنا نلفت نظر قرائنا الأفاضل إلى شيء طالما لفتناهم إليه بالقول والفعل. ذلك هو أن سنة البيان إنما هي عشرة أعداد لاغير، وإن البيان يستريح في شهري أغسطس وسبتمبر من كل عام. على هذه السّنة سار البيان منذ نشأته إلى اليوم، غير أنه كان بودنا أن نعوض على قرائنا من هذين العددين كتاباُ قيما يغني غناءهما، ولكن ما حيلتنا وأمر الورق وغير الورق من الغلاء، على ما يعرف القراء. وهذا وقد كان لدينا من الموضوعات التي أعدت لهذه السنة مواد مدخرة موفورة كان من حقها أن تنشر في الأعداد الماضية، لذلك اضطررنا لأن نؤثرها على المواد الأخرى الجديدة بنشرها في هذا العدد، ومن بين هذه الموضوعات الجديدة التي أرجأنا الشروع في نشرها تلك الرسائل التي ألمعت إليها صحفنا اليومية والتي عنونت بهذا العنوان سياحة في الآخرة أو صوت من الموتى وهذه الرسائل الغربية كتبها روح شهيد الوطنية المصرية المرحوم محمد فريد بك وقد استزار أحد كبار الروحانيين الأدباء اللذين عنوا في عصرنا هذا باستحضار الأرواح، وأصابوا في هذا الأمر الخطير أقصى غايات النجاح، هذا الروح الكريم فزاره زورات عدة في ليالي متتابعة، وكتب له هذه الرسائل التي وصف فيها سياحة له في الفردوس قابل فيها كثيراً من عظماء المشرق ورجالاته من أنبياء وعلماء وفلاسفة وأدباء وشعراء ممن ظهروا تحت أديم سمائه قديماًً وحديثاً، وجرى بينه وبينهم أحاديث شتى في موضوعات مختلفة هامة، فنظرة قراءنا الأفاضل إلى الأعداد القادمة. مزايا الترجمة الترجمة منبع من المنابع التي تندفق منها الوطنية الصادقة النقية لأنها ضرب شريف من أسمق ضروب التضحية وأسماها، وهي من أشد مسلزمات الأمم ومتطلباتها، ومن قوى حوائجها ومفتقداتها. ولعل الأمة في إبان نهضتها أحوج إلى الترجمة والنقل منها عند ازدهار النهضة ونضوجها، فإن الأمة لا تتحرك ولا تتقدم ما لم تضرب امواجَ حياتها رياح الأفكار القوية، فإنه كلما كان الفكر في امة أبعد مدى وأوسع دائرة كانت آمالها أبعد وطموحاتها أسمى وكان المثل الأعلى في نفوس أفرادها أجل وأفخم واكثر صفاء وتهذيباً فلا نقعد بهم العزيمة عن العمل لبلوغه ولا يأتلون سعياً وراء تحقيقه، والترجمة من أفضل

الوسائل وأمثل الطرق لتنوير العقول وتوسيع نطاق المعرفة ومن ذلك مشحذة للذهن ومثار للتفكير، ولقد كانت الأمم في العصور القديمة المنصرمة تغامر في معترك الحياة بالقوة البدنية ولكن الفكر الآن هو أمضى سلاح وأقوى مجن في التنازع على الحياء، وان النهضات الصادقة الحقة هي التي تستند على أساس متين راسخ من المبادئ الكبيرة والأفكار الخطيرة والمذاهب الحية المتوقدة، وقد آن الآن لنا أن نقذف من حالق بكل فكرة ميتة هامدة وكل مبدأ خامد هاجع حتى لا يعتاق سبيلنا ويعترض تيار تقدمنا ولقد سئمنا تلك الأفكار الفجة النيئة والآراء السقيمة البالية، وانه لما يحزننا ويحز في نفوسنا أن نعلم أننا كنا نعيش محفوفين بأفكار قديمة قد ترشفت منها الأيام قطرات الحياة وخرافات فارغة لبس فيها من متعة للخيال ولا مسلاة للذهن بينما بيرون يصدح بأناشيد الحرية فيهتز لها قلب أوروبا ويخفق، وجبتي يلقي حكمته في ويمار فيستقبلها العلم بلهف والتياع وترى بها الفوش الظماء والقلوب الصوادي وبينما العالم في بحر مزيد بتيارات الأفكار الجديدة وبركان مورا بالآمال المضطربة الحديثة، وان مما يهون علينا ذكرى تلك الحال المكمدة ان نرى الأمة الآن وقد أخذت تصوغ حياتها الفكرية على أوضاع مؤتقة جديدة وسنن طريفة حديثة تلمح من جنباتها دلائل الحياة ويطالعك من نواحيها آثار التماسك والقوة، وان روح السخط والمال والتذمر والنقمة بادية في نفوسنا متفشية في أقوالنا، وان في نفوسنا الرياح الثائرة الهوجاء والزوابع العاصفة الهزجة، ولكن ليس لهذا السخط والتذمر من كبير قيمة وعظيم شأن ما لم يكن دافعنا إلى النهوض بالأعمال الكبيرة وحافزنا إلى الاضطلاع بالأعمال الجسيمة وإلا كان دليلاً على ضعف نفوسنا وخور عزيمتنا، وان الملل ليشرف النفس ويعليها إذا أصلحت عواصفه وأمطاره ثرى النفس وهيأتها لزرع الجليل الصالح بعد اقتلاع الحقير الفاسد وابادته. واننا بالترجمة نتجاوز الحدود التي تفصلنا عن الطوائف الأخرى من الانسانية وتمزج حياتهم الفكرية بحياتنا، وان الفرد منا يقف في الحياة في خوف بين ماض ناء سحيق ومستقبل غامض مريب ولكنه إذا عرف أنه يفكر بذهن الانسانية جمعاء وبرمق السكون بلواحظها وإذ أحس ان قلبه ينبض بآمالها وان نفسه تهتز لمخاوفها سرى عنه ذلك ألم الوحشة وسكب على قلبه شآيبب العزاء ورد عليه الامن المفقود والسكون المسلوب وصار

يشعر بقوته وعظمته أمام قوة اللانهاية وعظمتها. ان الترجمة تزيد التيارات الفكرية قوة وتدفعاً وان العظمة لا تظهر مستكملة بصورتها مستوفية لشرائطها إلا حيث التيارات الفكرية القوية، والعظمة التي تظهر في غير ذلك تكون ناقصة بتراء، ولا تستسر العلاقة بين نهضة الشعوب وبين الدب القوي الحافل بالأفكار إلا على ذوي النظر الحسير والفكر الكليل فإن الأدب القوي يحرك الطبائع ويهز النفوس ويرسل نوره وحرارته في كل مناحي الحياة ووجوهها وان الأمة إذا ثملت برحيق فكرة كبيرة رأيت آثار تلك الفكرة متوثبة في كل نفس من نفوس أفرادها ظاهرة في أعماله مستجلية في أحاديثه وأقواه وإن كان يختلف مقدار فهم كل فرد لجوانب الفكرة المتعددة. إن كل فرد منا يرقد في أعماق نفسه تاريخ الإنسانية بأسرها، وتقيم في ذهنه كل فكرة أمّت الكون ولكنها تروح في النفس غامضة خفية، وكلما كانت النفس شاعرة بذلك مستيقظة له كانت تواقة إلى المطالعة نزاعة إلى البحث والتفكير وصارت ترى في كل دور من أدوار التاريخ صفحات من نفسها وترى في كل فكرة خيالاً للفكرة التي كانت تختلج بنفسها ومثل هذه النفس تنسى نفسها وتنكرها لتتعرف ما حولها في مختلف الأمكنة والأزمنة وهي لهذا الانكار والتناسي تلتقي بذاتها الكبرى ونسها العظمى وما يصدق على الفرد في تناسبه نفسه لعرفاتها يصدق على الأمة ولذا فإن الأمة عند يقظتها تكثر من النظر فيما حولها، ولعل هذا ما يدعو فريقاً منا للترجمة فإنها من وسائل النظر إلى ما حولنا، واننا بالترجمة نستثير في نفوسنا كل ألأحلام والآمال والافكار والخواطر التي واجهت الانسانية في رحلة حياتها وتخرج الدرر الكامنة في بحر النفوس وتطلق الانغام العذبة الشجية المحبوسة في الصدور وتهدم الاسوار والحواجز التي تمنع شخصيتنا من الاتساع وتجعل آمالنا ضيقة غير مترامية وعزائمنا محصورة وليست بعيدة نائية وتمنعنا من أن نعيش في الدائرة الشاملة لكل الدوائر والتي لا ينبغي لأمة كبيرة أن تعيش في غيرها - دائرة اللانهاية. . . . . .

اعترافات

اعترافات الشاعر الفرنسي الخالد الفرد دي موسيه الفصل العاشر فلما أبصرت وجه الشبه بين هذه المرأة وبين حبيبتي ثارت في ذهني المضطرب فكرة مخيفة شرعت أنفذها للتو واللحظة. في الدور الأول من رواية غرامنا كانت حبيبتي تزورني سراً من حين لآخر وكانت أوقات زيارتها هذه أعياداً تحل بغرفتي الصغيرة فكنت أنثر الأزاهير في جوانب الحجرة وأوقد نار المدفأة حتى تتأجج وتتوهج وأصنع طعاماً طيباً ثم أنصب الخوان. أنصب عليه الألوان. فأنها قطع البساتين وأفانين الرياحين. وزخرف البيت كما زخرفت ... روضة حزن جادها هاضب إذا ما بساط اللهو مد وقربت ... على عجل أنماطه ونمارقه وكم من برهة قضيتها جالساً على وسادتي تحت المرآة أمتع نظري الساعات الطوال برونق محياها الجميل وقلبي قلبها يتجاوبان بنجوى الغرام وأسرار الصبابة وأنظر إلى حجرتي الحقيرة وقد بدلتها تلك الساحرة الحسناء بنفثات سحرها المبين فأصارتها مقصورة من جنة رضوان وحولت تلك الغرفة التي طالما بللت جنباتها بدموع الجوي فردوسا مشرق الجو ضاحك الأرجاء، الا فأجمل بها وأحسن من غادة ورد الشباب قد قامت كالدمية الغالية النفسية الجمال بين المرتخص المذال من اسمال ثيابي ورثات كتبي وأسفاري وقديم أثاثي وأدواتي. وما كان أبهي سناها أشرق ضياها وسط ذلك الجو الموحش المظلم. وما كان أذكى سراجها الوهاج وأثقب نجمها الوقاد في دياجير ذلك الفقر المدلهم وحنادس ذلك البؤس الحالك! وأني والله منذ فقدت عشيقتي ما برحت هذه الذكريات تنتابني. وما فتئت هذه الهواجس تعتادني حتى سلبتني القرار نهاراً والمنام ليلاً وكأنما جدران غرفتي كانت تحدثني عنها بأوضح عبارة والات بيتي تنث عليَّ حديثها سراً وجهاراً. وكنت لا أطيق إلى هذه المناجاة اصغاء. وكذلك كلما دنوت من فراشي حدثني عنها فراشي ففررت منه إلى الشارع وكنت أرتاع لرؤية الفراش الا ساعة يشغلني عن الخوف البكاء فتحول دون مرآة دموعي.

وسرت بالفتاة الآنفة الذكر إلى غرفتي وسألتها أن تقعد ثمت وظهرها إلي وأن تنضر ثيابها عن شطرها الأعلى ثم نضددت متاع الغرفة من حولها وصففته كما كنت أصنع في حضرة حبيبتي ووضعت الوسائد والمضاجع بحيث كانت في ذات ليلة بعينها من ليالي وصالها قد تذكرتها إذ ذاك. والواقع أن المرء لا يزال يتذكر من بين خواطر مسراته الغابرة في حادثة بعينها قد غلبت على غيرها من الخواطر وضحت في عالم الذكرى على سائر ما يلوح به من المعالم - كمثل برهة أو ساعة قد تفوقت على كل ما عداها وسادت فكانت نموذجاً ومثالاً فهذه لعمرك لحظة يزفها إليك وسط القدر وسط ملايين اللحظات العديدة لا كمثلها لحظة فتهفت بك ملائكة السعادة. ابشر يا فتى وطوبى لك! لقد ألقت يد الحظ في جعبتك سهماً من النار وركبت في عجلتك ضلعاً من النضار. وبعد استيفاء الترتيب والتنضيد أشعاث بالمدفئة نارا طار لهبها واحتدم شواظها ثم قعدت فأطرقت وأرسلت عنان فكري في واد سحيق من الخواطر الحزينة والهواجس السوداء أو أغرقت احساسي في أعمق لجة من اليأس والقنوط وأقبلت على قلبي فأهويت إلي أوهد أعماقه وجعلت أتلمس ما هنالك فإذا بي لا أجد ثمت إلا الكمد القارح والألم المبرح والجرق الكاوية والحسرات المضاضة وإذا بصميم قلبي يتفتت ويتفرى. ثم أخذت أتغنى بأخفت صوت لحناً كانت حبيبتي لا تزال أيام وصالنا. أتغنى بهذا اللحن وأنصت إلى صدى شجاه في صحارى قلبي المقفر، ثم قلت لنفسي الحمد لله على ما قد صرت إليه اليوم. وربك أقضى سعادة الإنسان في هذه الدنيا! هذه الغرفة جنتي وهذه الفتاة ابنة الشوارع وطريدة الانسانية حوريتي! ولا جرم! أو ليست في منزلة حبيبتي ودرجتها قد صيغت على مثالها وطبعت على غرارها. وبما أصلحك الله تفضلها معشوقتي وبأي شيء تفوقها. هذا هو الذي يفضي إليه العاشق في النهاية من المرأة الذي يهوى. هذا هو الشمع الذي تنتهي إليه بعد أن تجرد قرص الخلية من العسل. هذه عكارة الكاس بعد أن ترشف رحيقها! هذه هي أقذاء القدح الذي تديره علك الآلهة بعد أن تشرب مابه من المن والسلوى! هذه جيفة الحب القذرة.

فلما سمعت الفتاة المسكينة غنائي شرعت تغني هي أيضاً. فاصفر وجهي وارتعدت فرائضي حين رأيت ذلك الصوت الخبيث الممقوت ينبعث من مخلوقه هي أشبه الناس بحبيبتي فكأنه كان عنواناً على ما كنت أحسه إذ ذاك واكابده وما كان ذاك الصوت المنبعث غليظاً أجش من حنجرة الفتاة إلا صوت الدعارة والفجور ذاته. وخيل إلي أن صوت حبيبتي قد آض كذلك الصوت منذ خانتني وحفرت ذمتي. وتذكرت البطل الروائي الخرافي (فوست) الذي حينما شرع يرقص مع الساحرة الجميلة ابصر فأرة حمراء تثب من حلقها. فناديتها صه لا ابالك ثم نهضت فدنوت منها فقعدت على فراشي مبتسماً ثم انطراحت بجانبها كأني تمثال نفسي ملقى على قبري: فناشدتكم الله يا أهل هذا الجيل! يا من تلهون بالمراقص والنلاعب ثم تذهبون إلى المضاجع فتمترون النوم من صفحات كفرية من كفريات فولتير أمام الملحدين أو هزلية من هزليا بول لويز كوريير - ناشدتكم الله يا أهل هذا الجيل يا من هذا بأدبهم وذاك ديدنهم - إذا وقع هذا الكتاب الخامل المغمور في أيديكم صدفة لا تسخروا منه ولا تهزؤا ولا تتهموني بأني أشتكي آفة موهومة ونكبة خيالية محتجين بأن العواطف من كواذب الاحساسات وأن آلام الحب أوهام وأحلام وأن التعقل والتروي خير ملكات النفس وأصح وظائفها وأنه لا حقائق في هذه الحياة إلا البورصة والبنك والاسهم ومائدة الطعام ومائدة القمار وصحة البدن وقوة العضلات والانانية والاستهانة باحساسات الغير وقلة المواساة واسترخاء المفاصل ليلاً على الفراش تحت لبشرة المضمخة بالملاب والعبير. * * * لما انتبهت في الصباح شعرت بوخز الضمير ولذعة الندم ورأيتني قد سقطت في عيني إلى الحضيض الأوهد من السفال والدناءة فوثبت من الفراش وأمرت الفتاة أن تلبس ثيابها وتترك البيت بأسرع ما يمكن، ثم اني لبثت ساكناً ساكتاً أتلفت حوالي بنظرات الساخط الآسف ثم استقرت نظراتي على ركن الغرفة المشتمل على مسدساتي وخناجري. وبينما كنت أحس نفسي كأنها فريسة في براثن اليأس الحازب والبث الكارب كانت الفتاة لا تزال باقية في الغرفة قد وقفت أمام المرآة وأخذ تصلح هيئتها وترجل شعرها وهي تبتسم ولبثت كذلك ربع ساعة كدت أثناءها أن أنسي كل ما جرى بيني وبينها حتى لكأنها لم تكن

وكأني لم أرها ولم ألقها، غير اني لم ألبث بعد تلك البرهة أن أحسست بها فزجرتها وأمرتها بالخروج بأشد لهجة واعتقها فتهيأت للانصراف في الحال وتأهبت ولوت اكرة الباب للذهاب بعد أن أومأت بقبلة. في هذه اللحظة دق الباب فنهضت مسرعاً وفتحت باب خزانة دولاب فخبأت فيها الفتاة ثم فتحت الباب فدخل صاحبي ديزينيه بصحبة فتيان من جيراني. كان ديزينيه مشرق الوجه متهلل الجبين فشرع يداعبني قائلاً إن وجهي يدل على طول السهاد والأرق ليلة أمس ولما لم أكن بحال من الانشراح تسهل علي احتمال أمازيحه سألته بالله أن يكف عني غرب لسانه. فلم يكترث لرجائي ولكنه أخذ بلجهة تهكمه المعهودة يشرح لي سبب مجيئه وهو ان حبيبتي لم تقتصر على عشيقين حتى عززتهما بثالث وأنها أساءت إلى خصمي بمثل ما أساءت إلي. وان هذا الخصم لما تبين الأمر ثارت ثائرته وأحدث هياجاً رنت له أنحاء باريز حتى أصبحت المسكينة بعد هذه الفضيحة مضطرة إلى مغادرة المدينة ما لم تكن قد أصرت على تعريض نفسها لفضيحة أعظم. كل هذه التصريحات لم تزدني إلا كآبة إذ كانت ترمي إلي اتهامي بالغفلة والغرور والحماقة. فلم انبسط لصديقي ديزينيه ولم أهش لحديثه ولم ازد على افاضته في النصح الا تجافياً وانقباضاً وتجهما وعبوسا. ولكنه لم يحفل بحالتي ولم يكترث وتمادى في إيلامي وإيجاعي إذ كان قد عاهد نفسه على أن يتولى علاج دائي ليشفيني من علة الحب. ورأى أن ما له علي من حرمة الإخاء والصداقة قد اكتسبته هذا الحق بلا مراء. ولم يكشف ديزينيه بتلك المعالجة القاسية المستديمة ولكنه حينما أبصر كربتي وخجلي طفق يضاعفهما جهد طاقته. ولكن شواهد الجزع تزايدت على صفحة وجهي بما زجره عن التمادي في قوارصه والوافحه حتى تبين خطأه فأمسك عن الخوض في هذا الحديث وكف عني قوارعه - وأخذ يلعب دوراً صامتاً ولكن هذا كان أسوأ لي وآذى. فأقبلت أوجه له بضعة أسئلة واني لا تمشي في الغرفة جيئة وذهاباً والله يعلم أن هذ القصص الذي أداه لي عن حبيبتي كان من أوجع ما جرح مسمعي وامضه ولكني كنت مولعاً بإعادته وترديده. ولقد حاولت جهدي أن أكسو ديباجة وجهي قناعاً من الانشراح

والطمأنينة ولكن عبثاً أحاول. وألحفت ديزينيه بالسؤال فإذا به قد عاد أخرس من صنم وتمثال. وأصمت من رسم محيل وطلل بال. فجعلت أجول في الغرفة وأهدر بالسؤال أثر السؤال. وأرغي وأزيد وهو صامت وادع رخى البال. وأفور كالتنور وهو أجمد من الثلج وأبرد من الزلال. وهنا يعجز لساني عن شرح ما كابدت إذ ذاك من الكرب والقلق. والوجد والحرد والحنق. وكيف وأيسر ما في الأمر أن أرى المرأة التي ملكتها زمامي قلبي. وأسلمتها مقاليد حبي. وأرعيتها بأرض الهوى. وأمطرتها وسمي مدامع الجوي والتي منذ فقدتها لم أذق نوماً. ولم أجد للحياة طعما. وما أراني إلا باكيا عليها ما بكي المزن بدموع الغمائم. وتفجعت لفقد الأليف ثاكلات الحمام - أن أرى المرأة التي هذه منزلتها قد صبحت من الملوثات الاعراض المجرحات الأديم بمقاريض الثلب والقدح في المجالس والأندية والمحافل، المعرضات لسخرية كل ساخر وتهزئ كل هازئ، لقد أحسست إذ ذلك كأن شيطاناً من المردة الا الأبالسة قد تناول من أعماق الجحيم مكواة من الذع شواظها ونحاسها فأقبل يبصم بها على عاتقي أشنع من العار وأبشع وصمة من الخزي والفضيحةّ!. وكلما ازددت تفكراً وتدبراً ازدادت الدنيا في وجهي ظلاماً. وكلما التفت إلى ديزينيه أبصرت على وجهه ابتسامة ثلجية ونظرة منكرة غير مألوفة. وأخيراًُ قال لي أسرك الحديث. إلا أن أطيب ما فيه خاتمته. لقد جرت تلك الحادثة يا صديقي اوكتاف في ليلة قمراء. . . فبينما الخصمان يتشاجران في غرفة المعشوقة ويهدد أحدهما الآخر بالذبح والقتل كان يتمشى بالشارع تحت النافذة شبح وكان يشبهك إلى حد أن اعتقد الجيران أنه أنت لا مراء، ولا محالة. فأجبته قائلاً: من قال ذاك من رغم أني كنت أطوف الشارع ومن ذا الذي بصرني هنالك؟ ٍ حبيبتك بالذات. انها لتقص ذلك الحديث على كل من أبدى رغبة في سماعه. . ونقصه بمثل ما نقصه نحن من الابتهاج والمرح والدعابة وتصرح بأنك لا تزال تهواها وإنك تقوم االيل الطويل على بابها ديدبانا، إلى غير ذلك من امثال هذه النكت والأمازيح على أنه حسبك من كل هذا أنها لا تزال تتحدث بمثل هذه الأقوال علانية على رؤوس الملأ. وليعرف القارئ اني ما كنت قط في وقت ما من الحاذقين في فن الكذب وتلفيق الأحاديث

فكنت كلما حاولت اخفاء الحقيقة خانني صوتي وخذلني وجهي فبدا على هذا وذاك آيات الاضطراب وإمارات الارتباك. ولكني جعلت مع ذلك احتفاظاً بكرامتي أحاول الانكار والجحود بتكلف الكذب والتمويه بيد أني ارتبكت أثناء ذلك واحمر وجهي بما كشف للحاضرين من حقيقة حالي وثم عن مكنون صدري. فعند ذلك ابتسم يزينيه. فقلت له احترس يا صديقي. احترس وخذ حذرك ولا تتعد حدودك! وطفقت أدور في الغرفة كالمجنون لا ادري ماذا أصنع. وكان بودي لو قدرت أن أضحك ولكن كان ذلك محالاً. وأخيراً قلت له، وكيف كان في استطاعتي أن أعرف تلك الحقيقة - كيف كان في طاقتي أن أعرف أن تلك الشقية -. وهنا عض ديزينيه على شفته كأنه يريد أن يقول لقد كنت تعلم ذلك حق اليقين. فأمسكت عن الكلام وجعلت من لحظة إلى أخرى ألفظ كلمة سخيفة مضحكة. وجعل دمي - وكان ما برح منذ نصف ساعة يفور في أوعيته ويغلي - ينبض في صدغي أشد نبض وآلمه. ثم أستأنفت الكلام فقلت: أجل يا ديزينيه. لقد كنت أجوب الشارع تحت نوافذ غرفتها باكياً منتحباً بعبراتي شرقا. وفي طوفان مدامعي غرقا. ومع ذلك كله فقد كانت المعركة بين النظيرين تجري في غرفة تلك الغادرة الخائنة. لا حول ولا قوة إلا بالله! أفي مثل تلك الليلة وطعنات غدرها في صميم قلبي لم تبرج غضة جديدة تفور بدم حياتي وتغلي وجراح مهجتي دامية وهامية. وكبدي على جمرات الجوى تنضجها نار الأسى الحامية أفي مثل تلك الليلة ومثل هاتيك الحال تتمادى الغادرة في سخرها مني واستهزائها بي لا يزعها وازع ولا يردعها رادع؟ أحقاً ديزينيه إن ما تذكره من هذا ألمر قد جرى وكان؟ ألا يجوز أن تكون في ما تحدثني به واهماً أو حالماً؟ أيمكن أن يكون ذلك حقاً أو محتملاً أو جائز؟ وكيف تدري؟ وهنا شرد لي وعزب حلمي وبلغ الحنق والحرد مني أقصاه فتهافت قاعداً على كرسي ويداي ترعشان. قال ديزينيه هون عليك يا صديقي فالخطب أيسر. إن حياة العزلة التي عشتها منذ شهرين قد أضرت بك كثيراً كما تشهد بذلك حالك. فأراك يا اوكتاف أحوج ما تكون إلى شيء من

اللهو والرياضة فزرنا تلك الليلة لتنازعنا العشاء واخرج غداً إلى بعض المنتزهات فتناول به غذاؤك. فكانت اللهجة التي برزت فيها هذه الألفاظ أوجع لي وآلم من كل ما نطق به ديزينيه إذا كنت تنم على معنى الرثاء والرحمة وأنه كان يعاملني كما لو كنت طفلاً. وكنت جالساً ناحية منهم بمعزل وقد نفر جاشي ووهي جلدي وانهارت دعائم ثباتي وعزمي فبذلت كل جهد في استرداد حلمي واستثابة رشدي فقلت في نفسي لقد نكبت بالخيانة من حبيبتي وبسوء النصيحة من صديقي إذ يشير علي أن أتداوى من دار يأسي بالفسق والفجور والدعارة على أني معرض بعد للوقوع في هاوية هذه المنكرات إذ كا لا عاصم لي منها سوى ما يغشاني من حزني الرهيب المقدس الطاهر! ولكن شر المصاب وأشد البلية أن هذه الدرع الوحيدة التي أتحصن بها من الوقوع في حبائل الفساد - هذا الحزن العميق المطهر الذي أراه أثراً مقدساً لما فقدته من نعمة الحب - أقدس نعم الحياة وأطهر لذات الدنيا. . . . هذا الحزن الرهيب المقدس - وقايتي من الانغماس قي بيئة منكرات العصر وعصمني من لتورط في حمأة مفاسد الجيل. هذا الحزن - هذه الوقاية - هذه العصمة والدرع والجنة - قد تحطمت في يدي وتصدعت تحت صدمة هذا النبأ الفظيع الذي سمعته الآن من تلك الغادرة التي لم يكفها أن تسخر من حبي حتى هزأت كذلك بحزني وبثي وضحكت من قنوطي وبأسي. لقد جعلت تهزأ بي وتسخر واني لواقف على اعتاب دارها أنتحب وأبكي! لقد جعلت ذكريات الماضي تنبعث من لجة ضميري فتطفو على يمه عندما فكرت في ذلك وخيل إلي أن خيالات الوصال أخذت تثور من مكامنها واحدة نلو أخرى وكأنها قد قامت تشرف على أعماق هاوية سحيقة موحشة سوداء حالكة ومن فوق هذه الهاوية كان يدوي صدى ضحكات صفراء ساخرة معناها هذا جزاؤك!. لو أن العالم أجمع هزأ بي وضحك مني ما باليت قط. ولكن الذي مضني وأرمضني وادمى فؤادي هو أن الساخر والهازئ كان تلك المرأة التي لم أهو غيرها ولم أعشق سواها - تلك المرأة وذلك الوجه وتأنك الشفتان اللتان امتزجتا بشفتي مليون مرة وذلك البدن وتلك الروح

- روح حياتي - ومن ثم كان بلائي ومصيبتي وشقائي. أجل. تلك محنتي ونكبتي - أن نبصق السخرية القاسية في وجه الحب المنكوب والحزن البائس. وكنت كلما انغمست في لجة أفكاري شعرت بازدياد غضبي على أني لا ادري هل يصح لي أن أسميه غضباً إذا كنت في الحقيقة لم أعرف ماذا أسمى ذلك القلق الذي كان معتريني إذ ذاك. على أني موقن اني كنت أجد دافعاً جنونياً إلى الثأر والانتقام. ولكن كيف السبيل إلى الانتقام من أمرأة. وعلم الله أني ما كنت أضن بأغلى ثمن أبذله في استحضار السلاح الكفيل لي بإيلامها وإيجاعها. ولكن أي السلاح كفيل بذلك. لقد كنت أعزل من كل سلاح حتى من مثل ذلك الذي حاربتني وطعنتني وبحده ادمت جراحي. وأعلت صباحي. وإني لمنغمس في عباب هذه الهواجس إذ لمحت خيالاً وراء ستارة باب الخزانة الزجاجي وكان ذلك شبح الفتاة قائمة تنتظر بحيث أودعتها وكنت قد نسيتها. فعند ذلك صحت مسروراً طرباً أنصت إلى ديزينيه لقد عشقت كما يعشق الأحمق والمجنون وجنيت على نفسي بحق كل هزء وسخرية ولكني سأريك اللحظة شيئاً يدلك على أني لست ذلك الأحمق الغبي الذي تخاله اني دفعت الباب الزجاجي بقدمي فاندفع وظهرت الفتاة جائمة بزاوية. قلت لديزينيه هلم يا ديزينيه سل الفتاة هل حقاً بت ساهراً تحت نافذة أية امرأة؟ تقول إنك ذاهب الليلة إلى وليمة لتناول العشاء وغدا خارج الأرياف للنزهة. فاعلم اني مصاحبك الليلة وغدا. فالبثوا معي حتى المساء ولا تفارقوني وسآتيكم بكل ما تبتغون من آلات الشراب والميسر وغير ذلك ثم لا تذهبون. لقد كنت أردت أن أجعل قلبي ضريحاً أدفن فيه رفات حبي ولكنني سأقبر حبي الميت ف ضريح آخر ولو آل بي إلى أن أحفر ذلك الضريح الآخر في قلبي. . . يا الله. . . . . يا الله. وهنا قعدت ودخل ضيوفي الخزانة وأحسست إذ ذاك كيف ينجم شعور الفرح أحياناً من إحساس الغضب المخفف. والحنق المكفف. وإني لقائل لكل من يعجب لما حدث منذ تلك الساعة من الانقلاب الهائل العظيم في سيرتي وتاريخ حياتي. أنلك لست بصيراً بخفايا

سريرة الإنسان وخبايا ضميره وانك لا تعرف أن المرء ربما لبث عشرين يتردد في أمره لا يجرأ أن يخطو خطوة حتى إذا ما أخطاها مضى قدماً في وجهتها مندفعاً بقوة السيل الجارف ثم لم يطق بعد ذلك رجوعاً. . . .

مختارات

مختارات من حديقة اببقور للكاتب الروائي الفرنسي الخالد أناتول فرانس القراءة والتمثيل لا أظن من الحتم اللازم الذي ليس عنه معدل أن انتظام سمط اثني عشر مائة شخص لسماع رواية يكوّن جماعة ملهمة بالحكمة التي لا يتسور عليها الخطأ ولا يمس أنحاءها النقص - بيد أن الجمهور - كما يبدو لي - يحمل معه إلى المرسح بساطة القلب واخلاص العقل وهذان يمنحان قيمة خاصة للمشاعر التي نعالجها هناك وكثيرون ممن لا يستطيعون أن يكوّنوا لأنفسهم فكرة أو يصدروا لها حكماً عما قرأوه؟ في وسعهم أن يذكروا ملخصاً حسناً دقيقاً لما عرض على نواظرهم في المسرح، وإنك قد تمر الكتاب مراً عند قراءته وقد تقرأه إذا شئت بإمعان وروية وترجع فيه الفكر وتقلب النظر وإن الكتاب يترك كل شيء للخيال ولذا فإن العقول المجدبة والأذهان العادية لا تجد إلا لذة ضعيفة فاترة قليلة الآثر في الكتب، والمرسح على خلاف ذلك فهو يضع كل شيء إزاء العين فهو غني بنفسه عن كل مساعدة وتعضيد من الخيال ولهذا السلبب لا يكلف بد ذووا العقول المفكرة والخواطر الخطارة المتأملة لأن هؤلاء يقدرون الفكرة ويزنون الموقف بما يمده في نفوسهم من آفاق التفكير وما يفسحه من أطراف التأمل وبقدر ما يثيره من أصداء الانغام التي تطن في عقولهم وتتجاوب في أذهانهم، وأما في المسرح فإن قوة خيالهم تظل معطلة مقيدة وهم يجدون فيه سرورا منفعلاً يؤثرون عليه سرور القراءة الفعال - وما هو الكتاب؟ أليس هو سلاسل متصلة من علامات صغيرة مطبوعة؟ أليس هو كذلك في الأصل والجوهر؟ وإنه على القارئ أن يجلب لنفسه الصور ويلتقيها ويتخير الألوان والاحساسات والعواطف التي تناسب هذه العلامات وسيتوقف عليه إن كان الكتاب فاتراً كليلاً أو بارعاً حاراً متوقداً بحرارة النوازع والوجدانات أو هامداً بارد كالثلج أو إذا فضلت أن أذكر ذلك في صورة أخرى - كل كلمة من كلمات الكتاب بنان مسحور يحرك في ألياف ذهننا ويهزها ويرعشها كما تهتز وتر المزهر وهو يثير النغم في تجويفه أرواحنا، وليست مادة الأمر وأكبر ما فيه متوقفة على مهارة الفني ومكانة من الاستاذية ومقدرته على استنزال الوحي فإن الصوت

الذي يوقظه يترتب على طبيعة الاوتار داخل نفوسنا وليس هذا شأن المسرح فإن هناك بدلاً من العلامات الصغيرة السوداء في الكتب ترى صوراً وأشباحاً حية وعوضاً عن الحروف الدقيقة المطبوعة التي تترك مجالاً واسعاً للحدس والتخمين ترى رجالاً ونساء لا تميد فوقهم ظلال الغموض ولا تحجبهم أستار اللبس والإبهام وترى كل شيء مقيداً في مكانه ثابتاً في موضعه. ولذا فإن ما يحدث في نفوس الحاضرين من التأثيرات يختلف ويتباين في دائرة محدودة ومجال ضيق تابع للاختلافات التي أركزها القدر في الطبيعة البشرية من ناحية مواجهة الأشياء والنظر إليه ولذا نشاهد دائماً دور التمثيل - إذا لم تتداخل فيه الخلافات السياسية أو الأدبية - كيف يؤسس بين الحاضرين تبادلاً في الشعور واشتراكاً في الاحساس صادقاً نقياً وإذا فكرنا أبعد من ذلك وتذكرنا أن فن التمثيل هو ألصق الفنون الأخرى بالحياة ينبغي لنا أن نفطن إلى أنه أقرب إلى الفهم والتقدير وينتج من ذلك أنه هو الوحيد من بين سائر الفنون الأكثر التئاماً بأرواح الجمهور، وثقتهم بآرائهم فيه أوفر من ثقتهم في غيره. إلى جيريال سياليز لا أستطيع أن أقول أن دنيانا هذه هي أردأ دنيا ممكنة، وأني لأعتقد اعتقاداً ل كفاء له بأن من أشد المداهنة والافراط في الملق المعيب أن نمنحها الأسبقية والتفوق على غيرها ولو كان هذا التفوق في الشر والخبث، وإن ما يمكننا، أن نتصوره عل الدنى الأخرى لقليل جداً والفلك الطبيعي لا يقدم إلينا معلومات دقيقة صحيحة وافية خاصة بأحوال الحياة حتى على سطح تلك السيارات الأقرب إلينا والأدنى منا، وكلنا نعلم أن الزهرة والمريخ فيهما مشابه كثيرة من الأرض وهذه المشابه نفسها ضمانة كافية وحجة بالغة لاعتقادنا أن الشر هنا كما هو في السموات العلى، وإن دنيانا هذه هي إحدى مقاطعات دولته العظيمة المترامية الأطراف المبسوطة الظل، وليس هناك من سبب يدعو إلى افتراض أن الحياة أجمل على سطح تلك العالم الضخام الكبيرة نظائر المشتري وزحل وأورانوس ونبتون التي تمرق في سكون في أقطار السماوات وتنزلق بهدوء في منحرقات الفضاء حيث الشمس قد أخذت تفقد قسماً من حرارتها وضوئها ومن يستطيع أن يخبرنا أي نوع من المخلوقات تسكن هذه العوالم المتلفعة في أبخرة كثيفة سريعة التحول. وإذا قضينا من ناحية المشابهة لا يمكننا إلا

أن نظن أن كل نظامنا الشمس شبيه بمذبح متسع بعد النواحي قاصي الأطراف تولد فيه الحياة الحيوانية لتشقى حتى يطيح بها الموت وليس هناك من عزاء ولا تأس في توهم أن النجوم الثوابت قد ترسل أضواءها إلى سيارات أسعد حالاً وأحسن شأناً من أرضنا فإن النجوم الثوابت قريبة الشبه لشمسنا من هذه الناحية وقد حلل العلم تلك الأشعة الضئيلة التي يكلفها نقلها إلينا السنين والأجيال وتحليل هذا الضوء يثبت أن المواد التي تحترق على سطوحها هي نفسها المواد المنتشرة المتماوجة حول الشمس التي لا تزال منذ خلق الإنسان وظهوره تبعث الحرارة في حياته الشقية المؤلمة السخيفة وأن تلك المشابهة كافية وحدها لتملأ جوانجي بالكره الممض الأليم للعالم. وأن التجانس في التركيب الكيماوي يقوي في نفسي فكرة أنه ليس هناك اختلاف في احوال الروح والجسد بالعوالم الأخرى الممتدة إلى مسافات لا يتصور أبعادها ولا نتوهم حدودها وأكبر ظني أن كل المخلوقات المفكرة في عالم سيريوس أو في غيره تحيا حياة وبؤس وشقاء كخلائق هذه الأرض ولكنكم قد تقولون أن كل ذلك لا يكون الكون! نعم إن عندي شبهة قوية في أنكم في جانب الصواب وأني أشعر أن هذه العوالم الضخام العظام الرائعات ليست شيئاً والحقيقة التي أخفيها اني واثق من انه إذا كان هناك شيء فإن ذلك الشيء محتجب عن أبصارنا خاف على عيوننا واني لأشعر بأننا نعيش محفوفين بمجرد خيالات وتصورات وإن نظرتنا للكون هي نتيجة الكابوس الذي يتخلل ذلك النوم الهادئ العميق نوم حياتنا وأن ذلك لأشد الضربات وأفتكها لأنه من الواضح أننا لا ندري شيئاً وان كل الأشياء تعمل على خداعنا وان الطبيعة لتتهافت بجهلنا وعجزنا تهافتاً قاسياً مراً. لذة المجهول أشد اللذاذات تأثيراً في أرواحنا واهتياجاً لأشواقنا لذة المبهم الخفي وأن الجمال الغير المغطى بالسجوف والأستار ليس جمالاً وان أشد ما نهواه هو المجهول وأن الوجود ليصبح غير محتمل إذا منعنا لذة الأوهام وروقة الأحلام وان خير جزاء وأحسن هدية تقدمها لنا الحياة هي اشعارها إيانا بشيء لا يدركه التعبير ليس جزاءاً منها وأن الحقيقي يساعدنا بقدر ما في رسم وتصوير ناحية من نواحي الخيالي وقد يطون هذا أكبر مزاياه وأسمى فوائده. الطفلة الصغيرة

هناك طفلة صغيرة عمرها تسع سنوات ا، اواثق من أنها أرجح عقلاً من كل الحكماء وقد قالت لي في التو واللحظة ان الإنسان يرى في الكتب ما لا يراه في الحقيقة لأنها جد بعيدة عن عنها أو لانها قد انفرط زمانها ومضى عهدها ولكن ما نراه في الكتب نراه رديئاً ممسوخاً أو محزناً مكمدا واني أظن أنه ينبغي للأطفال الابتعاد عن قراءة الكتب وانه يوجد في الدنيا آلاف الأشياء الصالحة للنظر والمشاهدة ولا نراها في الكتب مثل البحيرات والجبال والأنهار والمدن والحقول والبحر والسفن والسماء والنجوم. اني أشايعها على فكرها وأن لنا ساعة نعيشها فلماذا نتعب رؤوسنا ونذيبها من أجل أشياء كثيرة؟ ولماذا نحاول أن نعرف كل شيء ما دمنا نعلم أننا سوف لا نعلم شيئاً أننا نعيش في الكتب أككثر مما نعيش في الطبيعة وأننا لنشبه ذلك الأبله الذي استمر مسترسلاً في قراءة إحدى مؤلفات الإغريق وإزاء عينيه كان بركان فيزوف الثائر يواري خمسة مدن تحت رماده. الاستسلام ليس عندنا من شيء نعمله في هذه الدنيا سوى الاستسلام للظروف وان الطبائع الأنبل تعرف كيف تخلع على الاستسلام ذلك الاسم الجميل - الاقتناع - وأن الأرواح السامية تستسلم وتلقى مقادتها إلى الأيام رفرح مقدس وهي لا تزال تجاهد بين الشك المؤلم المكمد وبين الحزن الشامل الغالب وتحت السماء الخاوية المقفرة لتحفظ الفضائل القديمة السالفة نقية الصفحة مطهرة الأديم وهي تؤمن بأنها مرغمة على الإيمان وحب الإنسانية يملأ نفوسها حرارة وحمساً بل هي تفعل أكثر من ذلك. إنها تنقب باهتمام نقي طاهر عن تلك الفضيلة التي تضعها المسيحية في لذروة العليا والمستقر الاسمي لانها تستصحب الفضائل وتحل محلها فضيلة الأمل، فلنشعر نفوسنا حلاوة الأمل لا في انسانية فإن بكل مجهوداتها العظيمة ومساعيها الجسيمة لم تستط إخماد جذور الشر المشبوبة ونيرانه المتأججة، ولكن لنعقد الآمال وننيط الرجاء بالمخلوقات التي لا يمكن لعقولنا أن نتصورها والتي يوماً ما ستترقي من الإنسان كما ترقى الإنسان من الحيوانات الوضيعة ودعنا نحيّي باحترام وإجلال هذه المخلوقات الأسمى من الإنسان أهل الأزمنة المقبلة ولنجعل أملنا مرتكزاً على اللم العام وعلى العمل فإن قانونهما التحول والتبدل وان لنشعر بوقع ذلك الألم الواهب

للحياة في نفوسنا وأنه هو الحادي بالإنسانية في مسيرها إلى الكمال الإلهي الذي لا محيد عنه. الحزن الفلسفي لقد طالما عبر عن الحزن الفلسفي في كلمات محزنة المعنى، وكما أن المؤمنين السالكين الذين ترقوا إلى الدرجات العالية في الكمال الأخلاقي يذوقون مطارب الاستسلام ومباهج الزهد فكذلك العالم العارف يغريه كون كل ما حوله مظهراً فارغاً وادعاء باطلاً على أن يستقى من حياض ذلك الحزن الفلسفي وأن ينسى نفسه من ملذات اليأس الساكن الوديع، وهذا الحزن الصامت الجليل من مرة لا يرغب إبداله بكل عبث الحياة ولهوها وزينتها وبهائها ولا يود بيعه بكل الآمال الفارغة التي تستهوي جماعة الجهال وترضي فريق العامة، وإن المعترضين الذين يتناسون الجمال الفني لهذه الأفكار ويرون فيها سما للمجتمع وفناء للأمم قد يخفقون من حدة كرههم إذا علموا أن عقيدة الوهم العام وأن كل الأشياء في فيض وتتابع فلا قرار لها قد انتشرت واستفاض أمرها في العصر الذهبي للفلسفة اليونانية مع زيفون وانها كانت يسكن إليها ويطمئن لها في أكثر عصور الحضارة تهذيباً وتمدينا أصفى العقول وأهداها وأشدها إحساساً وتنبهاً أمثال ديموقريتس وابيقور وجاسندي. طيران الزمن الزمن وهو يطير يجرح أو يقتل أحمى وأحد عواطفنا وأرق وأحلى مشاعرنا وهو يسكت الإعجاب ويخرسه ويجرده من عنصريه الرئيسين وهما الدهشة والعجب وهو يهدم صروح الحب ويذهب بسخافاته اللذائذ وهو يهز قواعد اليقين ويميل برواسي الأمل ويعري كل نمو بريء من وروده واوراقه ويا ليته يترك لنا الشفقة فلا نرمي من الشيخوخة في سجن ضيق مسود الأرجاء شبيه بالقبر وان من طريق الرحمة أن أبقينا على رجولتنا ودعنا لا نتحول إلى أحجار مثل الذين حابوا الآلهة في لأساطير القديمة ولنشعر قلوبنا الرأفة بالضعيف ونأخذ من أحزانه بنصيب لا يقاسي الاضطهاد وبالمنعَّم المسعود لأنه مكتوب واهاً لمن يضحك ولنأخذ الجانب الصالح وهو أن نشارك المتألمين في آلامهم ولنقل من أطراف الشفاه وأطراف القلب لصرعى الدهر وضحاياه قول المسيحي الصالح لمريم دعيني أقاسمك الهموم دعيني

علي أدهم كم من مؤخر غاية قد أمكنت ... لغد وليس غد له بموات حتى إذا فاتت وفات طلابها ... ذهبت عليها نفسه حسرات تأتي المكاره حين تأتي جملة ... وأرى السرور يجبى في الفلتات خير أيام الفتى يوم نفع ... واصطناع الخير أبقى ما صنع ما ينال الخير وبالشر ولا ... يحصد الزراع إلا ما زرع خذ من الدنيا الذي درت به ... واسل عما بان منها وانقطع وأرض للناس بما ترضى به ... واتبع الحق فنعم المتبع وابغ ما استطعت عن الناس الغنى ... فمن احتاج إلى الناس جزع قد بلونا الناس في أخلاقهم ... فرأيناهم لذي المال تبع أبو العتاهية

دول العرب

دول العرب لأمير الشعراء أحمد شوقي بك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه تابع لما نشر في العددين السادس والسابع يا جلاً تأبى الجبالُ ما حمل ... ماذا رَمت عليك ربة الجمل أثار عثمان الذي شجاها ... أم غُصة لم يُنتزع شَجَاها قضيةٌ من دمه تبنيها ... هبت لها واستنفرت بنيها ذلك فتق لم يكن بالبال ... كيد النساء مُوهن الجبال وإن أم المؤمنين لأمرأة ... وإن تك الطاهرة المبرأة أخرجها من كِنها وسنها ... ما لم يُزل طول المدى من ضِغْنها وشر من عاداك من تقيه ... ومَلقى السلاح تنتقيه جهزها طلحة والزبير ... ثلاثة فيهم هدى وخير صاحبة الهدى وصاحباه ... فكيف يَمضون لما يا أباه ياليت شعري هل تعدوَّوا وبغَوا ... أم دمَذي النورينبالحق بغوا جاءت إلى العراق بالبنينا ... قاضين حق الأم محسنينا فانصدعت طائفتين البصرة ... فريق خِذلان وفريق نَصرة أو ذادت البيعة والذمام ... وقادة الفتنة والزمامِ وانتهك الحي دماء الحيّ ... من أجل ميْت غابر وحيّ وجاء في الأُسد أبو تواب ... على متون الضُمَّر العِراب يرجو لِصَدع المؤمنين رأياً ... وأمهم تدفعه وتأبى وعَجز الرأي وأعيا الحِلمُ ... وخُطبت بالمرهَفات السِلم من كل يوم سافك الدماء ... تعوذ منه الأرض بالسماء تجر ذات الطُهر فيه عسكراً ... وتَذْمُرالخيل وتغرى العسكرا ظل الخطام من يد إلى يد ... كالتاج للأصيد بعد الأصيد مستَلما توهى الغيوث دونه ... وبالدماء أنهراًً يَفدونه

حتى أراد الله إمساك الدم ... في كرم لسيفه المقدم وظفرت ألوية الإمام ... وألقت البصرة بالزمام فردت الأم إلى مقرها ... مبالَغاً في نقلها وبِرها وظللت مَن حل أرض الملحمة ... من الفريقين سماء المرحمه هلكي بكى البيت عليهم والحرم ... والموت دون العهد غاية الكرم * * * يا يوم صِفِّين بمن قضاكا ... هل أنصف الجمعان إذ خاضاكا فيك انتهى بالفتنة التراقي ... واصطدم الشآم بالعراق ونفِدت بقية من صخب ... تلقت الطعن بصدر رحب بنو الظُبىَ أُبوَةُ الاسنة ... آل الكتاب أولياء السنة لقد وفَى بدر لهم أهله ... وخنَهم مشيخةً اجله لو في بناء المجد ذلك الدم ... بل عمدوا لما بَنَوا فهدموا فيما مجالا قصر الاعنة ... ومد في اشتجارها الاسنة ترجرجت بالفئتين أرضُه ... وضاق عنهم طوله وعَرضه ووقع الانجاد بالانجاد ... وخر (عمار) من النجاد ما كان ضر نصراَء البيعة ... لو صبروا على الوغى سويعه بينا بنودهم هي العوالي ... والنصر حول البِيض والعوالي غادرهم بسحره معاوية ... كأنهم اعجاز نَخل خاوية ألقى القنا شرع المصاحفا ... ينشد بالله الخميس الزاحفا فلا تسل عن فشل العزائم ... ولم يزل طليعة الهزائم انقطع النَظم والانقياد ... وَحَمكت في الشُكُم الجياد وافتيت في الرأي على الأعيان ... وهدد الإمام بالعصيان ما كان في قبوله التحكيما ... على علو رأيه حكيما لا يُرفع المصحف كالدفوف ... والسلم لا تذكر في الصفوف وراية في الأشعريَ أعجب ... لله فيه فدَر محجب

أين أبو موسى وأينْ عَمْرو ... لا يستوي مجرِّب وغَمرُ أمن دها قيصر والمقوقسا ... كمن على مصحفه تقوسا قام فرد الرجلين ونزل ... وقام عمرو فأقر وعزل أبى عليا وارتضى معاوية ... ونقض المِنبرُ عَقد الزاويه * * * يا زيد كلِّ مُسرَج وملجم ... كيف علا غُرتك ابن ملجم أصاب قِرنا لا ترام شمسه ... أعيا على الاقران دهر ألمسه بالمرهف المسموم فيما قد ذكر ... وكل شيء قتل الماضي الذكر يا شؤمَ سيف قطع الصلاة ... واغتر ليث الغابة المِصلانا ولم يك ابن ملجم صُعلوكاً ... بل غالياً يقتحم الملوكا وضارياً في دمه العدوان ... لم يخل من امثاله أوان جبلة بين السباع والبشر ... يطوي الدم اضرابها إذا انتشر وقال قوم ذلك مسلم نقم ... حكومة القرآن فهو منتقم قولٌ غدا عند النهى مرفوضاً ... لو صَحْ راحَ العالَمون فُوضَى الرأي للأمة في الولاة ... وليس للغِضابِ والغُلاة وقتلكَ الإنسانَ غيلةً شَنِعْ ... ألجبن أن تَقْتُلَ منْ لا يمتنِعْ النَفس لله وَللنظامِ ... والدّمُ إِحدَى الحُرَمِ العِظامِ فكيف بالبغي على عليّ ... الراشد المقرّب الوليّ * * * مالك والناسَ أبا ترابٍ ... ليس الذئابُ لك بالاترابِ هم طردوا الكليم كل مَطْردٍ ... وأتعبوا عصاه بالتمرد وزُين العجل لهم لما ذهب ... وافتتنوا بالسامريّ والذهب وبأبن مريمٍ وشَموا ونموُّا ... واحتشدوا لصلبه وهموا وأخرجوا محمداً من ارضه ... وسرحت السنهم في عِرضه وغيبوا المسوىَ الفاروقما ... وخَيرَ شمسيَهم لهم شروقا

وذبحوا الشيخ على الفرقان ... حتى بكى الذكر بدمع قان وهبّ منهم لحقك اختلس ... وفجعوا لك الصلاة في الغلس وأشرقوا الحسين بالدماء ... مَلوّحاً بين عيون الماء قاسم سمو الزاهد الحواري ... في درجات القرب والجوار إن زال ملك الأرض عنك مِن ملَك ... يا طول ملك في السماء تم لك

كيف يحكم لينين روسيا

موضوعات صغيرة كيف يحكم لينين روسيا سأل كثيرون كيف يدير البولشفيك حكومة روسيا!! وقد أجاب المستر هادن جست أحد كتمة أسرار وفد العمال الانجليزي الذي ذهب إلى روسيا لتعهد أحوالها فقال: ال - 200000000 روسي تحكمهم أقلية عددها 600000 وهذه الأقلية تملي ارادتها على ال - 200000000 بواسطة حكومة نادرة المثال في تاريخ الثورة. تنتخب القرى المذكورة سوفيتات وبعبارة أخرة مجالس. ولهذه المجالس في دورها تنتخب مندوبيها المتعددين في مؤتمر السوفيت السنوي الذي يعين اللجنة التنفيذية التي يختار من وسط أعضائها سوفيت وكلاء الشعب المفوضين وبعبارة أخرى الوزراء. والحقيقة أن الذي يدير حركة الحكومة الروسية هو الحزب البولشفي الذي يضحى أعضاؤه في سبيله كل مرتخص وغال وهو أشبه بأخاء حربية تديره اللجنة المركزية لحزب الكومون المعتبر القوة الأصلية للبولشفية وهو الذي يدير الحركة بأسرها. وتتألف اللجنة المركزية من ثلاثين عضواً بينهم خمسة من الصحافيين واثنان من الثوريين ومحاميان وأربعة من العمال. وهذه الهيئة هي التي تقرر أعضاء سوفتيات (مجالس) القرى والمصانع وكذلك أعضاء المؤتمر السنوي وأعضاء اللجنة التنفيذية ووكلاء الشعب المفوضين (الوزراء) وجملة القول أن جميع هذه الهيئات هي مخلوقات اللجنة المركزية. وتؤلف الوزارة من ستة وزراء كل وزير منهم في الحقيقة قيصر وذلك لنفوذه الكبير وهم لينيين. وترونسكي. وسفرلدوف. وريكوف. وستالين. وتزبروبا. والوزارة الكاملة مؤلفة من خمسة عشر وزيراً ثلاثة محامين. وثلاثة أطباء. وصحافيين ومهندسين وثوريين وأستاذ. وارستوقراطي واحد. ورجل واحد من العمال. والوزراء الثوريون صميمون أصقلت عقولهم الفظائع التي كانت ترتكب في عهد النظام القيصري السالف. والبولشفيك لا يؤمنون أحياناً بالخطابة الحرة كذلك؟؟؟؟؟ في هذا أن الحكومة تصنع ما تراه في مصلحة الشعب فلا داعي إذن للمعارضة. وقد طاف المستر جست الانجليزي في الفلجا مع الوزير سفردلوف الذي يملك باخرة

خاصة تقل سيارة ويختاً شراعياً صغيراً. ولسفردلوف بجانب ذلك قطار خاص. وقد صرح الوزير سفردلوف اما المستر جست بأنه يعتقد اعتقاداً راسخاً في النظام القاسي بمعنى انه يبرر قتل الرجل السكران المعربد. وزار جست لينيين فوجده محوطاً بالجنود وقد تحادث معه فرآه شديداً في مسألة الخطابة الحرة. ومما قاله لينين لماذا تسمح الحكومة للشعب بانتقادها مع أنها ترى نفسها مستريحة الضمير من جهة المحافظة على مصالحه؟؟ إذا كانت الحكومة ستقتل كل من يشهر السلاح في وجهها فلماذا لا تقتل كل ذي رأي معارض لأن الآراء في نظري أمضى من الأسلحة؟؟ ولماذا تترك الشعب يذيع الآراء التي تدخل في سياسة الحكومة؟؟.

جميس رول

جميس رول أو دك وتنجتون القرن العشرين يؤمن كثيرون بالحظوظ ويغالي بعضهم فيقول أن مستقبل الإنسان مرتبط بحظه لا بجده واجتهاده. ونحن لا نوافق على هذا الرأي ونعتقد أن اجتهاد الإنسان وحسن تصرفه وحزمه هي الصفات التي تضمن له الوصول إلى المرتبة التي تطمح بها نفسه إليها. وحسنا إذا أردنا أن نضرب مثلاً لذلك أن نشير إلى تواريخ الأبطال الذين رقوا المراتب العالية بعد أن كانوا في الحضيض. ومنهم المستر جميس رول محافظ لندن الحالي الذي نسوق إلى القراء شيئاً من نرجمة حياته نقلاً عنه. يقول كثيرون إن الإنسان يصل إلى الدرجة التي تطمح نفسه إليها بحظه أكثر من اجتهاده ومثابرته. وأنا مع اعتقادي بالحظوظ لا أوافق هؤلاء فيما ذهبوا إليه بل أقول أن الجهد الذي يبذله الإنسان في سبيل الوصول إلى غايته هو أضمن طريق للنجاح وأحسن وسيلة للاحتفاظ بما ربحه. وأنا معتقد أنني ما كنت أتوصل إلى الدرجة التي أغبط نفسي عليها ألان وهي درجة محافظ لندن لولا اجتهادي ومثابرتي. رباني والدي وأنا صغير في إحدى مدارس القرى الصغيرة في مدرسة ايست برست نيوفوريك. وكان في ذلك العهد مزارعاً بسيطاً فلم أحصل من التعليم إلا على النذر اليسير. ثم خرجت من هذه المدرسة ودخلت مدرسة أخرى صغيرة فلم أستفد فائدة تذكر. ولم يبتدئ تعليمي الحقيقي إلا بعد أن غادرت المدرسة. ذهبت إلى لوندره في سن الرابعة عشرة ولم يخطر على بالي ذلك العهد أن أمتع نفسي برؤية مناظر شوارع لوندره كما كان يفعل سلفى دك وتنجتون بل كان فكري منصرفاً إلى الاستمرار في العمل بقدر ما وهبني الله من قوة وجلد وصبر على الشدائد. وقد فتح الله أمامي السبل فتوظفت في إحدى شركات التأمين براتب اسبوعي قدره ستة شلنات ومع أنني كنت أشعر بضجر وملل من هذه الوظيفة فقد عاهدت الله أن أذلل جميع العقبات التي كانت تعترضني في طريقي حتى أصل إلى القصد التي تطمح نفسي إليه وهو وظيفة وكيل لإحدى شركات التأمين. كنت أذهب إلى محل عملي في الساعة الخامسة والنصف صباحاً وأعود إلى بيتي في

الساعة الحادية عشرة أي قبل منتصف الليل بساعة. وقد واظبت على هذا أسابيع وسنين. . بيد أن آمالي لم تقف عند هذا الحد فقد كان يجول في خاطري أن أصبح رئيساً في يوم من الأيام ولكنني كنت أعلم أن الإنسان لا يصل إلى مثل هذا المركز إلا إذا كان حائزاً لدرجة كبرى من الكفاءة فسعيت ولم ألبث بعد ذلك قليلاً حتى وصلت إلى أمنيتي المنشودة. وإذا جيء إلي الآن بشاب يطلب إلى أن أدله على الخطة التي سيسير عليها في أمر مستقبله. سألته أن يجعل نصب عينه الغرض الذي يرمي إليه. فإذا قال لي أنه يتوق أن يكون مهندساً مثلاً قلت له أن هذا لا يكفي إذ هناك مهندسون مجيدون ومهندسون لا يفهمون شيئاً. والواجب فعله أن يفكر جيداً في نوع المركز الذي تصبو نفسه إليه فإذا استقر رأيه سار في سبيل الحصول عليه. وكم أسر الآن إذا تذكرت اليوم الذي دعيته فيه لأكون مديراً للشركة ولا شك في أنني ما وصلت إلى هذه الغاية إلا بعد أن صممت في بادئ الأمر على أن أكون أحسن وكيل للشركة ثم بعد ذلك أحسن رئيس لها. وقد كانت سياستي في كل ادوار حياتي أن أجعل نصب عيني الغرض الذي أرمي إليه فلا عجب إذا تحقق هذه السياسة.

متفرقات

متفرقات بعض طبائع الحيوان يعد الثعلب أجرأ حيوان على تخليص حياته من الموت والخروج من المآزق الحرجة. ومع أنع لا يعد من الحيوانات المتسلقة فقد تراه أحياناً مختبئاً بين أغصان شجرة من ألشجار على أثر مطاردة الصيادين له وضيق سبل الفرار أمامه. وإذا قبض الفخ على الثعلب حاول الخلاص فإذا لم يتمكن من ذلك عض قدمه وابتلعه رجاء التخلص من الفخ. وللأرانب طبيعة خاصة في الهروب من الفخ فإذا أحس الأرنب وقوع قدمه في الفخ جذب نفسه بشدة بحيث يترك القدم فيه وينجو هو بنفسه. أما الهرة فعلى خلاف ذلك فهي إذا وقعت في الفخ استسلمت لقضاء الله وظلت سجينة من غير أن تكلف نفسها عناء النجاة. من عامل إلى مليونير قال كثيرون أن أصل المستر جميس دليث ملك الألعاب والأشغال أنه كان فاعلاً. وهو معدود الآن من ضمن مليونيرات لوندن مع أن عمره لم يتجاوز الثانية والأربعين وهو أعضاء الفريق الذي اشترى معامل قطن المستر هوردكس كرودسن بمباخ 5 ملايين جنيه. وقد تفاوض المستر جميس في بيع ضيعة بدفورد كوفنت جاردن بمبلغ ثمانية ملايين من الجنيهات! ويقال أنه كسب00ر100 جنيه في سيزارويتس! الرجل في نظر النساء ذكر المستر ماكردي مراقب الطعام في انكلترا أنه استلم خطاباً من ناظرة مدرسة للبنات يحتوي على موضوع إنشاء كتبته إحدى التلميذات عن الرجل وقد جاء في هذا الموضوع النبذة الآتية: الرجل هو ما تتزوجه المرأة! وهو الذي يدخن ويتعاطى المسكرات ولا يذهب إلى الكنيسة على الإطلاق. نبوغ النساء فاقت المسز سسي كوبر جميع الرجال في مدرسة مستشفي كروس وكانت طالبة بها

وحازت المدالية الذهبية وهذه أول مرة حازت فيها امرأة هذه المدالية. وقد تخصصت لمسز سسي في فن الجراحة والطب الباطني. أقبح امرأة في العالم المسز بيفان أقبح امرأة في العالم بشهادة الجميع وهي تعجب من بقبح خلقها وتقول أنها مرد رزق لأسرتها، وقد اختبرت من بين كثيرات أجبن دعوة الإعلانات الت نشرت في الصحف عن اقبح امرأة في العالم. وعادت إلى لوندره أخيراً بعد أن عرضت في أمريكا ولها حكمة مأثورة تقولها في بعض الأحيان وهي أنني لم أكن أتوقع أن تصبح خلقتي الدميمة في يوم من الأيام مصدر سعادة!!. وكم أشعر بالغبة والسرور عندما أرى أني أصبحت مورد رزق لي ولأولادي الأربعة!. أم منجبة المسز هارمسورث من أعجب الأمهات الشهيرات في التاريخ البريطاني فقد تزوجت بشاب إيرلندي نشيط كان يحترف حرفة وكيل قضايا وقد قضي وهو في شرخ الشباب واثنان من أولادها وهما اللورد نور ثكليف واللورد روثرمور بلغا رتبة الأشراف قبل أن يبلغا سن الخمسين ولها ابن بارون آخر هو السير روبرت ليسترهارمسورث ورابع هو المستر هارمسورث المشهور في وزارة الخارجية الانجليزية فيالها من أم منجبة. الاضراب عن الطعام ليس في العالم الآن من يجهل المستر ماك سويني محافظ مينة كورك الذي استشهد أخيراً بعد أن امتنع عن الطعام مدة (74 يوما) والذي عده العالم نموذجاً من نماذج حب الوطن ومثلاً أعلا لصدق العزيمة وقوة الإرادة. ولما كان الشيء بالشيء يذكر نورد ههنا أن اول من اتخذ الإضراب عن الطعام مظراً للاحتجاج على السجن هو رجل ليقوس يدعى جون اسكوت عاش في القرن السادس عشر للميلاد. وقصة هذا الرجل أنه حكم عليه مرة بغرامة كبرى ولما نس من نفسه العجز عن السداد لا بكنيسة (هولي رود هاوس) حيث لبث زاهداً في المأكل والمشرب زهر ألربعين يوماً. فطار صيته حتى اتصل بالملك فتاق إلى أن يقف على حقيقة أمره فاحتبسه في غرفة وشدد

مراقبته ولم يدع لأحد سبيلاً للدخول عليه. وعد مضي اثنين وثلاثين يوماً اقتنع الملك وأطلق سراحه. دورة الزمن يالتصرفات الزمن وتقلباته! فإنه لا يني يضع رفيعاً ويرفع وضيعاً. ويقذف بمن يشاء إلا أعلى درجات العلا ويهوي بمن يشاء إلى أسفل دركات الهوان ولقد كانت الحرب العالمية الكبرى من أكبر الفرص التي جرى الدهر فيها بيده العسراء فعبث بحظوظ الناس وسخر من آمالهم وأحلامهم. وهل أدل على ذلك مما سمعناه عن قيصر الروسيا (النصف آلة) يعزل فيبقى ثم يقتل ويتسم ذروة عرشه بعض عامة شعبه. وهل أعجب مما نسمعه الآن من أن مئات من أمراء روسيا يمتهنون الآن في فرنسا حرفاً عدة؟ فمنهم سائق لعربة وخادم لحانة وها هو الكونت (بول اجناتيف) الذي قبل الحرب من أعوان القيصر وألصقهم به يبيع الآن اللبن في (جارشيه) وزوجه التي كانت أجمل امرأة في (بتروجراد) تقوم فتحلب البقر كل مطلع شمس. بينما يشتغل ابنه بالفلاحة في حي سان جرمان كما أن الكلونيل اسكورانوف أشهر فرسان روسيا وأعظمهم جرأة قد استعاض عن السيف المعول وهو الآن خبير زراعي هنالك. وأضحى الجنرال نيكولاجيفقائد الحملة الروسية في فرنسا يسوق سيارة نقل لاحدى شركات الجملة في باريس. . . .!!! آلة لصنع السكائر 000، 750، 4 سيكارة في اليوم اخترعت آلة لصنع السكائر هي الآن موضع إعجاب القوم في لندن. وهذه الآلة تستعمل الآن لصنع سكائر شركة القطة السوداء يوضع التبغ في وعاء مخروطي الشكل ثم يمر ما بين اسطوانتين يسقط من بينهما إلى يدين متحركتين تحمل الدخان المفرى (المفروم) كمية من ورق السكائر لا نهاية لها. وبمجرد الانزلاق في هذا الورق في الآله يطبع عليه اسم الشركة من الوجهين ثم ينتهي إلى مكان مستدير يلف فيه فيأخذ شكله المعروف. ولا يلبث المشاهد بعد ذلك حتى يرى السكائر تخرج من الآلة بسرعة لم تر عين مثلها إذ أنها تخرج 4 مليون سيكارة في اليوم. احساس الساعات

يقولون إن ساعات الجيب إذا كانت دقيقة الصنع مركزة على أحجار كريمة لأنها تتأثر بحالات حامليها النفسية فإذا ما عانى أحدهم انفعالات قوية اضطربت الساعة وقتئذٍ، بل ربما وقفت تماما. وللأحجار الكريمة أيضاً ميزة الاحساس فأحوالها تتغير تبعاً لأحوال أصحابها إلى حد أنه لو عكفت امرأة مثلاً على استعمال جواهرها أثناء اعتلالها ذهب عن الجواهر رواؤها وانطفأ لمعانها. . وقد لاحظ الكثيرون أن الأحجار عين القط وحجر النجوم مع الذكي المتوقد الذهن أكثر تألقاً واستطع نوراً منه مع الغبي البليد. لا تدع طفلك ينام على ظهره، فذلك مضربه وأصح أن ينام على جنبه الأيمن على رأسه على وسادة واطئة قليلاً ويداه أمام صدره. تميز العين بين 000، 30 لون وظل وصبغ 0000 كما أن الأذن - على حد قول العلماء - تميز بين 000، 11 نغمة مختلفة. لا يمكن الوصول إلى قمم الجبال العالية جداً لأن الهواء في هذه الأجواء يكون خفيف الضغط، قليل الاوكسجين (العنصر الحيوي في الهواء) ولهذا السبب لم يستطيع المستكشفون أن يتجاوزوا الثمانية آلاف متر من ارتفاع (افرست) - أعلا قمة في (الهملايا) والتي يبلغ ارتفاعها نحو 000، 10 مترأً أما ارتفاع أمثال هذه القمم الشامخة فتعرف بطرق علمية. اخترع التليسكوب المنظار ككثير من الاستكشافات العظيمة بطريق الصدفة ذلك أن أولاد أحد صناع الساعات كانوا يوماً يلعبون بالعدسات فرتبوها بكيفية خاصة فرأوا بوسطتها منارة بعيدة جداً كأنما هي على مقربة منهم. فأعلموا أباهم بذلك، فاهتم بالأمر ومازال يعمل حتى اخترع أول تلسكوب.

أحداث الشهر

أحداث الشهر النشيد الوطني المصري تألفت في هذا العام تحت رآسة حضرة صاحب المعالي الوزير العالم الشاب جعفر والي باشا لجنة رسمت نفسها بلجنة ترقية الأغاني القومية واقترحت على شعرائنا وضع نشيد وطني مصري نتناشده في مواطنه الملائمة على نحو الأناشيد التي للأمم الأخرى فقدم لها نحو من ستة وخمسين نشيداً وبعد فترة من الزمن اجتمعت اللجنة بدار الجامعة المصرية يوم الجمعة 19 نوفمبر سنة 1920 ومعها المحكمون في اختيار النشيد بعد أن وزعت على أعضائها هذه الأناشيد مطبوعة مغفلة من أسماء واضعيها ثم انتهت اللجنة في مناقشاتها إلى أن أكفاها كلها وأوفاها بالغرض وأجمعها للمزايا التي ينبغي أن تنسق لنشيد قومي مصري هو النشيد الذي نظمه حضرة صاحب السعادة أحمد شوقي بك فاختارته وقررت نشره وطرحه على أهل الفن لتلحينه وضبطه بالعلامات الموسيقية ليبقي لحركة هذه الأمة شعاراً، ويتخذ للحوادث الوطنية على وجه الزمان مساراً وقد اجتمع رأي اللجنة كذلك على أن ثاني الأناشيد هو النشيد الذي قدمه حضرة الشاعر الأديب محدم أفندي الهراوي الموظف بدار الكتب السلطانية، ويلي هذين النشيدين ثلاثة أناشيد تتبارى في ميدان الاجادة والاحسان وتسبق سائر ما عداها بشوط بعيد. هذا هو ما بلغتنا اللجنة إياه - وقبل أن تذيع اللجنة هذا البلاغ علمنا أن حضرة الأديب الكبير السيد مصطفى صادق الرافعي كان قد قدم فيمن قدم إلى اللجنة نشيداً له ثم استقل بنشيده ولم ينتظر رأي اللجنة وأذاعه بالطبع. ونحن هنا نثبت هذه النشيدين دون أن نتعرش لشيء من النقد والتجريح والموازنة أو لايذاء رأي خاص بنا إذ أن ذلك مما يوسع دائرة الخلف الذي أصبحنا نمقته المقت كله ولا نوده لامتنا المحبوبة في أي شأن من شؤنها ولكن الذي نستجيزه لأنفسنا هو كلمة على الأناشيد وكيف تشأت وترجمة بعض الأنشيد الأمم الأخرى مثل المرسببز وخلافه وموعدنا العدد القادم إن شاء الله. * * * النشيد الوطني المختار عمل سعادة أمير الشعراء أحمد بك شوقي

بني مصر مكانكمو تهيا ... فهيا مهدوا للملك هيا خذوا شمس النهار له حليا ... ألم تك تاج أولكم مليا * * * على الأخلاق خطوا الملك وبنوا ... فليس واءها للعز ركن أليس لكم بوادي النيل عدن ... وكوثرها الذي يجري شهبا لنا وطن بأنفسنا نفيه ... وبالدنيا العرسضة نفتديه إذا ما سيلت الأرواح فيه ... بذلناها كأن لم نمط شيا * * * لنا الهرم الذي صحب الزمانا ... ومن حدثانه أخذ الأمانا ونحن بنو السنا العالي نمانا ... أوائا علموا الأمم الرقيا * * * تطاول عهدهم عزاً وفخراً ... فلما آل للتاريخ ذخرا نشأنا نشأة في المجد أخرى ... جعلنا الحق مظهرنا العليا * * * جعلنا مصر ملة ذي الجلال ... ألفنا الصليب على الهلال وأقبلنا كصف من عوال ... يشد السمهري السمهريا * * * نروم لمصر عزاً لا يرام ... يرف على جوانبه السلام وينعم فيه جبران كرام ... فلن تجد التنزيل به شقيا * * * نقوم على البناية محسنينا ... ونعهد بالتمام إلى بنينا نقوم فداك مصر كما حيينا ... ويبقى وجهك المفدى حيا نشيد مصر القومي عمل محمد الهراوي دعت مصر فلبينا كراماً ... لنا مصر فلا ندع الزمان قياماً تحت رايتها قياما ... أمامكم العلى فامضوا أماما

* * * هناك المجد يدعوكم فهبوا ... وليس يروعكم في الجد خطب لعمر المجد ما في المجد صعب ... تردى الذل من يخشى الحماما * * * فنحن أولو المآثر في العصور ... وبين يدي أبو الهول الممصوز وفي الأهرام أو فوق الصخور ... ترى آثار أيدنا جساما * * * لنا مجد على الدنيا تعالي ... (بناه الله يوم بنى الجيالا) وسمناه برايتنا هلالا ... وننشرها على الدنيا سلاما * * * لنا التاريخ فياض المعاني ... لنا الأسرار معجزة البيان لنا علم الأوائل في الزمان ... لنا الأخلاق نرعاها ذماما * * * لنا ذكر مع الماضي مجيد ... لنا أمل يجد بنا بعيد كذلك مثلما سدنا نسود ... ونرفع فوق هام النجم هاما * * * فيا وادي الكنانة لن تزولا ... وفيك النيل يجري سلسبيلا يطوف بمائه عرضاً وطولا ... ويبسط فيضه عاماً فعاما * * * بساطك السندس، وثراك تبر ... وجوك مشرق، وشذاك عطر ونهرك كوثر، وبنوك غر ... أبوا في الله والوطن انقساما * * * فيا ابن النيل هز لواء مصرا ... وهيء في النجوم له مقرا وأطلع بالهلال عليه فجرا ... وعش في ظله العالي إماما

ما وراء الساحل المجهول

ما وراء الساحل المجهول الدليل القاطع هذا هو المقال الثاني للسركونان دويل الذي يعد اليوم في طليعة بلاد الغرب الذين يعنون بمسألة الحياة بعد الموت وهي المسألة التي أصبحت شغلاً شاغلاً للعلماء. قد عثرنا في آخر مؤلف من مؤلفات الاستاذ هيستون - أستاذ المنطق في جامعة كاليفورنيا سابقاً وأمام الحجة الثقة في علم الفلسفة النفسية في القارة الأمريكية الذي عليه المعتمد وإليه المرجع في كل ما ينجم من المسائل السيكولوجية من معضلاتها وملغزاتها - أعني تصنيفه المعنون الحياة يعد الموت على جملة لا يكاد يحتملها السامع أو تسيغها ألذن وهي: كل من لا يسلم بوجود الأرواح المجردة من الأجسام ويصدق بالبرهان على ذلك فهو إما جاهل أو مصاب بآفة الجبن الأدبي. هذا قول حق ولكن ما يتضمنه من همز ولمز قد يفل من حده ويخفف من وخزه ما يقوم للمنبوذ به من العذر الواضح في جهله بهذه الأسرار إذ أن الدليل القاطع على صحة هذه المسائل الروحانية لا يزال بعد جديداً حديث العهد وهو مطوي في تضاعيف مصنفات لم تنقل إلى الانكليزية فضلاً عن غلاء أثمانها وصعوبة الحصول عليها. ولا أنكر أن بين أيدينا ذلك المؤلف الفذ البديع تصنيف العلامة كروفورد وكتاب مباحث كروكر ولكن كليهما كان في حاجة إلى احراز المصادقة والتأييد والشرح ولتفسير من مباحث علماء القارة الأوربية لكي تظهر أسرار معانيه في أجلى مظهر. وبين يدي الآن كل هذه التصانيف وسأحاول في هذه المقالة أن أثبت لكل من لا يكابر في الحقيقة الساطعة أن هذه الاكتشافات الحديثة قد أصبحت اليوم لا موضع فيها للجدال والمشاحنة ولكن قد فصل فيها وتبين صدقها إلى نقطة معينة محدودة يصح أن تجعل أساساً متيناً لأبحاث المستقبل ولا نزاع في أن جميع المستكشفات الحديثة سواء أكانت من مبتدعات الطيران أو التلغراف اللاسلكي أو غيرهما من المبتكرات_كلها جدير أن بتضاءل قدره وتضمحل قيمته إزاء ذلك الاختراع الذي قد أبرز إلى عالم الحس نوعاً جديداً من المادوة محلى بخواص لم يسمع به قط ولم تخطر على بال ثم هو (أي هذا النوع الجديد من المادة) لعله كامن مخبوء في كيان كل واحد منا. وإنه لمن أدهش الغرائب وأعجب المناقضات أن الباحثين وراء الروح قد استكشفوا في سبيل أبحاثهم الروحانية من أسرار المادة ومن غرائب خواصها

ومدهشات قواها وتأثيراتها أثر مما وصل إليه الماديون أنفسهم. وجدير بنا أن نذكر مبدئياً أن تقدم المظاهر الروحانية لم يكن إلا تدريجياً وأن تمقص الأرواح في المادة (ظهورها على أشكال مادية) إنما هو أمر حديث العهد. ثم أنه أخذ يزداد ويتفشى في العقد السابع والثامن من القرن التاسع عشر إذ تطرقت إليه أساليب التزوير والتدليس والتمويه بسبب ضعف العالم إذ ذاك في علم الانتقاد والتمحيص فكانت ظلمات الجهل المخيمة حينذاك مما ساعد كثيراً على انتشار ذلك واستفاضته. بيد أن بقطع النظر عما كان يشوب نلك المسائل الروحانية من مظاهر الغش والتزوير لقد كان يوجد بينها ما هو حق صرح وصدق بين. ولقد أثبت العلماء الراسخون في ذلك الباب والثقاة الجهابذة أثناء مشاهداتهم العديدة لتلك المظاهر الروحانية أنه يوجد بعض أشخاص ممن يسمونهم الوسائط المجسمة (أي المستطيعة إبراز الأرواح في ثرب من المادة) قد امتازوا بخاصة أو موهبة مادية غريبة وهي أنهم يستطيعون أن ينفثوا من أبدانهم مادة غروية لزجة مخالفة في كنهها لكل ما قد عرف حتى الآن من جميع أشكال المادة وصورها من كونها يمكن تصلبها (أي صيروتها مادة صلبة) واستعمالها في أغراض مادية وهي مع ذلك يمكن استيرادها إلى داخل الجسم من حيث أتت دون أن تترك أدنى أثر البتة ولا على الثياب التي اخترقتها عند انبعاثها من الجسم. ولقد تمكن بعض البحاثين فعلاً من لمس هذه المادة فخبروا أنها مادة مرنة مطاطة وفيما يظهر حساسة كما لو كانت إفراز عضوياً من جسم الواسطة. ولقد استقل رجال العلم هذه الآراء بالهزء والسخرية طبعاً. ثم انبروا إلى دحضها ونقضها بالبراهين التشريحية وبالحجج الطبيعية العامة غير أن الأبحاث الحديثة العهد قد أثبتت كما سأبين ههنا أن الروحانيين المنقدمين كانوا في هذه المسألة وفي غيرها رواد الحق المبين وأنهم قد عثروا على أغرب وأعجب ما بدا في الكون من مظاهر المادة. وفي عام 1909قامت المدام اسكندربيسون_وهي سيدة فرنسية من المولعات بالعلوم الطبيعية - بدراسة هذه لظاهرة وجعلت واسطتها في ذلك امرأة تدعى حواء كانت قد أوتيت القدرة على تكوين هذه المادة التي سماها شارل ريشيه الفسيولوجي الفرنسي الشهير الابكتو بلازم وقد أيدها في هذه المباحث دكتور الماني لسمه شرنكتو تزنجإذ جمع مذكرات الجلسات فيما بعد فنشرها بالفرنسية في كتاب عليه اسم المدام بيسون بعنوان ظواهر

المادية والجملة الآتية من مقدمة الكتاب تدل دلالة بينة على فحوى الكتاب ومرماه. وهي لقد استطعنا مرات عديدة إذ نقدر أنه قد يخرج من جسم الواسطة بسبب عملية بيولوجية مجهولة مادة تكون في أول أمرها نصف سيالة وتتضمن بعض خصائص المواد الحية التي أهمها القدرة على التغير والحركة واتخاذ أشكال محدودة ثم أضاف إلى ذلك قوله وقد كان للإنسان أن يكذب هذه الحقائق لو لم تقم على صحتها الأدلة الدامغة مئات المرات أثناء التجارب الدقيقة تحت شروط مختلفة متنوعة محكمة مضبوطة فهل بعد ذلك مصداق على صحة دعاوى أولئك الروحانيين المتقدمين الذين لبثوا جيلين عرضة لاستهزاء العالم صابرين متجلدين لسهام ضحكهم وسخريتهم؟ وقد ختم شرنكتوتزنج مقدمته الجليلة بتشجيع زميلته واستنهاض همتها حيث قال: لا تنكلي ولا تنكصي عما قد نهجته لنفسك من تلك السبيل الوعرة المعتاصة المؤدية إلى فتح جديد في معترك الجهاد العلمي المفضية إلى مملكة مستحدثة في عالم العلوم بأن تجعلي سبيلاً عليك إلى تثبيط الحمقى المعاندين ومطاعن الجبناء المشاغبين ومغالطات المقسطين المكابرين ولكن امعني في منهاجك الذي افترعته وأوغلي في سبيلك الذي شققته ولا تزالي ذاكرة؟؟؟ العلامة فارادي حيث قال: لا يصح أن يقال عن شئ مهما بلغ من غرابته: هذا أغرب من أن يكون حقاً. أما طريقة إجراء هذه التجارب المدهشة فقد كانت كما يأتي: كانت تؤخذ كل الاحتياطات الممكنة ضد التزوير والتدليس. فكانت المدام بيسون تحفظ مفتاح غرفة الحفلة في جيبها وكانت حواء الواسطة تضطر إلى تبديل ثيابها بثياب أخرى حينما تكون، وجودة في هذه الغرفة ثم تعود إلى ثيابها الأصلية بعد خروجها منها. وكان يجري عليها الفحص الطبي على أيدي جماعة من مهرة ألأطباء. وبعد ذلك كان الضوء الذي بالغرفة يأخذ بالازدياد تدريجياً حتى يستكمل بها ستة مصابيح قوية حمراء والأحمر هو - كشأنه في الفوتوغرافيا_اللون الوحيد الصالح لتلك التجارب. وأهم ما في هذه الاحتياطات أنه كان يوجه إلى حواء المذكورة من جميع اتجاهات الغرفة عدة آلات مصورة (فوتوغرافيات) - وقد بلغ هذا العدد ثمانية في المرة الأخيرة فتسلط عليها بحيث أنها لا تغفل أدنى حركة من حركات الوسيطة حواء إلا سجلتها وقيدتها. وقد بلغ عدد ما تجمع من هذه الصور وظهر في الكتاب الآنف الذكر 200 فوتوغرافاً. وقد استمرت هذه

الحفلات المسلسلة أربعة اعوام وقد شهدها خلاف المدام بيسون والدكتور الألماني جملة من رجال العلم قد بينت أسماؤهم بالكتاب المذكور. أما نتائج هذه التجارب فهي فيما أرى لأهم وأشهر مما يؤثر على نتائج أي أبحاث أخرى فلقد شهدت الشهود وبينت الفوتوغرافيا أنه كان يترشح من عيني الواسطة (حواء) وفمها وأذنيها وجلدها هذه المادة الغروية الخارقة للعادة. وأن الفوتوغرافياا لمبينة لهذه الظواهر لبشعة كريهو منكرة شنيعة ولكتن البشاعة والكراهية والشناعة هي من الصفات التي يتجلى فيها لأعيينا الكيثر من عوارض الطبيعة وحوادثها وإنك إذا تأملت الصورة الفوتوغرافية الخاصة بهذه الأبحاث لرأيت هذه المادة الغروية اللزجة تتدلى من الذقن كنتف الثلج المتساقطة فتتقاطر فوق الجسم مكونة عليه شبه المبذلة أو بارزة من نوافذ الوجه وثقوبه (أعني الخياشيم والفم والعينين والاذنين) على هيئة كتل منتشرة مشوشة عديمة النظام والشكل. وهذه المادة إذا لمست أو سقط عليها لون من النور غير ملائم (غير الأحمر الآنف الذكر) تكمشت وتقبضت مرتدة إلى داخل الجسم من حيث أتت. وإذا قبض عليها وقرصت أرسل ذلك صيحة ألم وتوجع من الواسطة وهذه المادة تبرز من الثياب ثم تعود فتختفي دون أن تترك عليها أدنى أثر. وقد اقتطعت فلذة من المادة بأذن من الواسطة فذابت هذه الفلذة في الصندوق الذي وضعت به كما يذوب الثلج تاركة شيئاً من البلل والرطوبة وبضع خلايا كبيرة كالتي تنبعث عن الطفيليات الفطرية. ولا يغيبن عن الذهن أنه قد اتبع في هذه التجارب تلك الطريقة العادية ةهي وضع الوسيط في فرغ محصور محجوب بأستار وهذا ما يسمونه الخلوة فهنالك جلست الوسيطة على كرسي ولكن يديها كانت ابا بارزتين للعيان احتياطاً إضافياً من حدوث الغش والتمويه. والغرض من إيجاد هذه الخلوة هو أن تكون الاكتوبلازم يتوقف أولاً على نوع من تكاثف المادة شبيه بالبخار الثقيل. وكأني بالقارئيقول في نفسه ولكن ماذا عسى تكون علاقة كل هذه الاشياء بالأرواح؟ وما لتلك المظاهر الغريبة ونظرية الروحانيين؟ فلتعلم إذن أن كل ذلك مما يفوت الوهم والتصور ولا يدخل في نطاق المعقول ان هذه المادة الاكتوبلازم قد تتجمد وتخثر عند بعض الوسطاء بعد تكونها فتأخذ أشكالاً محدودة وصوراً معينة وهذه الأشكال هي أرجل

بشرية ووجوه بشرية ترى في أول الأمر منفصلة منعزلة ثم تلتم وتتحد فتسكتمل منها صور إنسانية. وأن كثيراً من الفوتوغرافات تمثل لنا هذه الأشباح الغريبة في أحجام أصغر من حجم الإنسان الحي كما يرى من الفوتوغرافات المأخوذة عن حواء الآنفة الذكر. وبعض هذه الوجوه المترائية تمثل صوراً ذهنية كانت تقوم في ذهن حواء وقت التجربة ثم تقمصت تلك المادة فتراءت بارزة عن ضمير نفسها للعيان في الهواء الجوي وقد وجد بعض الشبه بين تلك الأشباح المترائية وبين صور كانت حواء قد نظرتها من قبل وخزنتها في وعاء ذاكرتها. فمن ذلك شبح كان يشبه المسيو بوانكاريه عبوس الوجه متنمر مكفر. ومن هذه الأشباح شبح يمثل لفظة المرآة مكتوبة بحروف الطباعة فوق رأس الوسيطة وقد قال بعض النقاد أن هذا يدل على أن الوسيطة كانت قد أخذت في ذاكرتها إذ ذاك تلك الجريدة المسماة هكذا المرآة وإن كان أعياهم تعليل هذه المسألة وإبداء السبب الباعث لها على التفكير في جريدة المرآة ساعة استحضارها صورتي هذين السياسيين في ذاكرتها وأي علاقة بين الرجلين العظيمين وبين جريدة المرأة. أما الوسيطة نفسها فقد عللت هذا باحتمال أن القوات المتحركة ربما أوردت فكرة المرآة هذا لتدل على أن ما عرض إذ ذاك من صورتي الرجلين لم يكن طبق الأصل (أي صورتيهما الحقيقيتين) وكان كما يشاهد في المرآة منعكساً. ولعل القارئ لم ير حتى لآن علاقة ظاهرة بين هذا ونظرية استحضار الأرواح. فليعلم إذن أن حواء عندما تكون في أحسن حالاتها قد يتكون امامها شبح كامل. على أن هذا لا يكون إلا في الندرة ويصحبه عاددة تأثير في حالتها الصحية وهذا الشبح يمثل شخصاً ميتاً ثم ينفصل انفصالاً تاماً عن جسم الوسيطة. ثم يهبط على هذا الشبح شخصية تدعى أنها شخصية إنسان ميت أو لعلها في الحقيقة شخصية ذلك الميت فتتقمص الشبح المذكور فتهب فيه روح الحياة وتتنفس فيه فيتحرك ويتكلم ويعبر عن عواطف الروح المتقمصة فيه. ولقد جاء في خاتمة تقرير بيسون الآنف الذكر الكلمة الآتية: أنه منذ انعقاد هذه الجلسات وبعد ذلك قو شوهد أن الشبح يتراءى برمته ويبرز بحذافيره من الخلوة وينطلق لسانه بالكلام ولقد سار وتحرك حتى وصل إلى المدام بيسون فاعتنقها وطوق ذراعيها قربتها ثم قبلها. وقد سمع في المكان صورة القبلة. فهل رؤى قط مثل ذلك ختاماً لبحث علمي؟ إلا أن في

ذلك لعبرة لمن اعتبر ودليلاً قاطعاً على عجز العلماء المحققين والفحاص المدققين وضعف أحلامهم وانحسار أوهامهم على سر أعماق الطبيعة وإدراك أسرارها الخفية وبرهاناً ساطعاً على أنه قد يستحيل البتة على أمهر فلاسفة الماديين أن يهتدوا إلى تعليل أمثال هذه الحقائق الثابتة بما يطابق نظرياتهم المادية. وقوانينهم الفسيولوجية والكيماوية. وأن أقصى ما وصل إليه جهد العلماء في هذا السبيل وآخر ما اهتدوا إليه من تعليل هذه الحقيقة الثابتة هو ما قاله المستر جوزيف كراب في مباحثته العلنية التي جرت بيني وبينه حديثاً من أن المادة اللزجة المنبعثة من أجزاء جسم الوسيط المسماة الاوكتوبلازم ما هي إلا حالة من حالات رشحان المواد الغذائية غير المهضومة من نوافذ الجسم ومسامه! ولقد نسي - حفظه الله_أن وجه الوسيطة وجسدها وسائر أعضائها كانت في بعض التجارب تلف لفاً محكماً في زرد حصيف من الحديد جيد الحبك لا ينفذ منه الماء وقد كان الاكتوبلازم يمر منه وينفذ. فلو كانت هذه المادة هي من محتويات المعدة والامعاء الت يقيئها الجوف ويرشحها سوء الهضم فكيف كانت تستطيع النفاذ من هذا الحجاب الكثيف والغطاء المحكم الحصيف! هذه الحقائق قد أيدها وأكدها الدكتور شرنكتوتزنج الألماني بما أجراه من التجارب على وسيطة أخرى من نساء بولونيا ممن امتازوا لقوة نفث مادة الاكتوبلازم فإن هذا الدكتور لما اجرى تجاربه على الوسيطة البولاندية وصل إلى عين النتائج التي كان أفضى إليها عندما أجري تجاربه الأولى على الوسيطة حواء. وقد شهد تجاربه الثانية نفر عديد من فطاحل علماء الألمان المدققين قأقروا بصحتها وخلوها من أساليب التدليس والتمويه ولقد أمعن الدكتور شرنكتوتزنج - بفضل ما امتاز به أهل جلدته الألمان من فرط التحقيق - في اعماق الموضوع وتغلغل في صميم لبه إلى أبعد وأعمق مما أفضى إليه سلفه (أعني المدام بيسون) وذلك بقصه بضع شعرات من شعر الأشباح المكونة من مادة الاكتوبلازم فقارن بواسطة المكروسكوب بينها وبين شعر الوسيطة (وكانت الوسيطة هي حواء. وقد جرت هذه المقارنة في بعض التجارب التي جرت في فرنسا) ثم أثبت بعدة اختبارات كيمياوية أن هنالك خلافاً بينا بين عتيي الشعر وأن شعر الشبح لا يمكن أن يكون مصدره من شخص الوسيطة بل هو أجنبي غريب عنها وصادر من شيء غيرها. ثم أخذ قطعة من الاكتوبلازم فأحرقها في جهاز كيماوي فاحترقت مستحيلة إلى رماد ينبعث عنه رائحة كرائحة القرن

وأصيب أيضاً بين متخلفات الحريق الكيماوي مادة كلورور الصوديوم (الملح العادي أي ملح الطعام) وفوسفات الكلسيوم. وختم الدكتور اختباراته بأخذه سلسلة صور سيناموتوغرافية عن الاوكتوبلازم في حالة انصبابه من فم الوسيطة. وقد أورد في كتابه جانباً من هذه الصور السيناماتوغرافية. وجدير بالذكر أنه بينما كانت الوسيطة في غيبوبة أثناء هذه التجارب فإنها لم تكن فاقدة الشعور بل كان يرى عليها كأنما ق تقمصت فيها شخصية أخرى خلاف شخصيتها ويكن تفسير هذه الشخصية الثانية بأنها إحدى شخصياتها أو ذاتيتها المتعددة (لأن الإنسان يكون له عادة شخصيات أو ذاتيات متعددة) أو بأنها روح حقيقية خارجية أجنبية قد تقمصتها واستحوذت عليها. وقد كانت هذه الشخصية الجديدة المتلبسة بالوسيطة تتكلم عن الوسيطة وتتحدث في شؤونها بشيء من العنف والحدة إذ جعلت تخاطب المدام بيسون قائلة عن الوسيطة إنها تحتاج إلى شيء كثير من التمرين والرياضة والتعويد على النظام والضبط وإلى الحث والتحريض على الاهتمام بأداء أعمالها وواجباتها وفي كثير من الأحايين كانت هذه الشخصية الجديدة تبدي مزية الكشف (اعني الاطلاع على المغيبات) كدلالته على عيوبها واختلالات غامضة خفية في الآلات والأجهزة الكهربائية مما كان يخفي على أبصار الفنيين القائمين على تلك الآلات ويغيب عن أذهانهم ويدق على أبصارهم. وفي ذلك كان ينبعث من جسم الوسيطة سلسلة متوالية متصلة من التأرهات والأنات والاعتراضات والاحتجاجات كانت فيما يظهر منفصلة انفصالاً تاماً عن تلك الشخصية وعن عقليتها ولم تكن في حدذاتها سوى ضجة حيوانية محضة. ومما ساقه العالم الألماني في سرد ملاحظاته ما ذكره من أن الوسيطة حواء بدت في بعض تلك التجارب مغشاة من قدمها إلى رأسها بملاءة من مادة الاكتوبلازم ثم نهضت واقفة في مقعدها. ولهذه الظاهرة أهمية كبرى من حيث أن فيها بياناً وإيضاحاً لتلك الحالة التي يسميها الروحانيون تغير الشكل أو التمقص ويعنون بها أن الوسيطة تمثل دور الروح المستحضر إذ كانت تكتسي مادة الاكتوبلازم وتحاول تقليد شخصية الروح الوافدة. وقد روى تاريخ علم الأرواح عدة من امثال هذه الحالة كانت الوسائط فيها تمثل أدوار الأرواح كالوسيطة باستيان امام ولي العهد رودلف والمس كوك وسيطة كروكر والمدام اسبيرنس

وغيرها. وقد كان المتفرجون في جمع هذه الحالات يمدون أيديهم فيمسكون الوسيط ولكن المادة المكون منها تلك الثياب والأزياء المتنكرة كانت تتلاشي توا فتختفي ثم لا يوقف لها على أثر. ووما يؤيد هذه الأقوال ما ذكره الدكتور جيلي أعد علماء باريز بعد إجرائه عدة تجارب من هذا القبيل على حواء الآنفة الذكر واستدعاء جماعة من قادة العلماء لمشاهدة بعض هذه التجارب. قاللقد أجريت تجاربي على نحو ما أجراها أسلافي من أساطين هذا العلم فانتهيت إلى هذه النتيجة وهي أن تجاربهم كانت بريئة من أدنى أثر للغش لا ذرة عليها البتة لغبار الخديعة والتمويه. فلقد سلكت تلك الطرق القديمة بعينها فأفضت بي إلى عين تلك النتائج المأثورة حذو القذَّة بالقذة لا خلاف البتة سوى أن الخيالات كانت في تجاربي خيالات وجوه نسائية كانت تبدو في كثير من الأحايين مليحة جميلة وهي مع ذلك غريبة على عيني مجهولة عندي. وربما كانت هذه الوجوه صور أفكار مما يجول في ذهن حواء لأني لم أحصل قط في تجاربي على الروح الحية مستوفاة كاملة مطلقة. وخلاصة القول أن هذا الذي شاهدناه خلال هذه التجارب ما يهدم مذهب المادية هدماً تاماً ويمحو أثره محواً باتاً، لقد أصبحت المادية مع وضوح هذه الحقائق لا موضع لها في الحياة ولا مكان لها في العالم وهو بلا شك يريد بالمادية ههنا تلك المادية القديمة - (المذهب الذي ساد في العهد الفكتوري. عهد الملكة فكتوريا) - القائلة بأن الفكر إنما هو نتيجة المادة، فأما الشواهد الجديدة والأدلة الحديثة فتثبت عكس ذلك وهو أن المادة نتيجة الفكر. على؟؟؟ إذا شرعت تخوض في هذه المسألة قائلاً إذا صح أن المادة (أعني الكون) نتيجة الفكر فما هو هذا الفكر أو أي فكر هو أو فكر من هو؟ إذن لولجت باب الشكوك والريب ودخلت في معضلة مستعصية ومشكلة عويصة. والآن بعد ما أدركنا أنه قد يتأتى لإنسان أن يولد من ذات نفسه مادة نادرة غريبة تستطيع أن تتشكل بأشكال أجسام آدمية تحتلها أرواح لمدة من الزمن فدعنا نطبق هذه الحقيقة العجيبة المدهشة على ظواهر غريبة قد وقعت وأثبتت في الأجيال السالفة ولكنها لم تعلل إذ ذاك ولم تفهم أسبابها إلى أن ظهرت لتجارب الحديثة التي بيناها آنفاً. فمن بين تلك الظواهر أذكر ما كان في عام 1873 من امر العالم كروكس ووسيطته فلرو كوكس هذا

الكيماوي الشهير لبث ثلاثة أعوام يجري تجاربه على وسيطته الفتية الصغيرة التي جعلت نفسها تحت تصرفه المطلق وملكته عنانها ابتغاء التخلص من تهمة وجهت إليها. وقد أسفرت تجارب العلامة كروكر عن تبرئتها تماماً من التهمة. أما وصف هذه التجارب فهو أن كروكس كان يحبسها في الظلام في غرفته الصغيرة. فإذا مرت ساعة أو نحوها نفذ إلي الغرفة المجاورة امرأة مخالفة لها تمام المخالفة وهذه المرأة كانت تتحرك وتتكلم وتسمي نفسها كيتي كينج قائلة انها روح كانت تعيش في عهد الملك الأول شارل الثاني (ملك انكلترا فيما بين 1661 و 1685) وأنه قد سمح لها أن تهبط فتسكن لمدة قصيرة الجسم الذي قد تكون من المس كوك وفي خلال ذلك كانت المس كوك المذكورة يسمع صوتهاوفي بعض الأحايين يبصر شخصه في الغرفة المجاورة. وقد قيل عن هذه المسألة في إبان حصولها إنها لم تكن بطبيعة الحال إلا المس كول نفسها قد تنكرت في غير زيها وهيئها واكتست شكل عفريتة أو جنية أو روح (سمها كما شئت) ولكن أول ما يحتج به بطلان هذا التأويل هو أن يترك العلامة كروكس بين حكمين: أما انه مجنون أو كذاب متعمد للكذب إذ لا مشاحة من غير أن ينخدع بمث هذه الظواهر لا يكون إلا مجنوناً كما أن لا يكون كذاباً أشراً من يقول أن المرأة المنبعثة من الغرفة المجاورة المحبوس فيها الوسيطة كوك كانت أطول من المس كوك بأربع بوصات ونصف وكان شعرها ضارباً إلى السواد وقد قصت منه خصلة بالفعل (وكان شعر الوسيطة ذهبي اللون) أضف إلى ذلك أن سرعة النبض كانت مختلفة في الشخصين هذا وأن سيرة العلامة كروكس كانت نثبت تماماً أنه لم يكون بالمجنون ولا بالكذاب فإزاء كل هذا لا يسع المنصف المتعقل إلا الاعتقاد بأن هذه المعجزة التي يؤيدها أربعون فوتوغرافاً لا بد أن تكون حقاً لا ريب فيه ولكنها لا علاقة لها البتة بأية حقيقة من حقائق الكون. أما الآن فقد أخذ الأمر مظهراً آخر. فقد استطعنا بفضل الأبحاث الحديثة أن ندخل تلك الغرفة المظلمة ففنظر ما يحل بالوسيطة فلوري كوك فماذا نرى؟ نراها مستلقية على المتكأ (الكنبة) ترسل أنة عميقة من آن لآخر ومادة الاكتوبلازم الحيوية تنبعث من بدنها مكونة من سحابة من مادة لزجة وهذه السحابة لا تلبث أن تأخذ شكل جسم آدمي وهذا الجسم لا يلبث أن ينعزل من جسم الوسيطة وتنصرم بينهما سباب الصلة وأواصر الارتباط. وعندئذٍ

ترسل المرأة المسماة كيني كنج روحها في ذلك التكوين الذي لعله صورة من جسمها الأصلي يوم كانت على قيد الحياة ثم تسع على قدميها لتقضى ساعتها القصيرة على وجه الأرض متحدثة إلى العلامة كروكس ملاعبة أطفاله قاصة عليهم السير والأنياء عن العصر الغابر حتى تنتهي ساعتها فتخاطبهم قائلة لقد حان لي ان أنطلق إذ قد انهيت مأموريتي وبلغت رسالتي ثم تتلاشى. أما رسالتها فتلك كانت إبلاغ الناس مع البرهان الدامغ أن الروح قد تبقى بعد فناء الجسد أزماناً طوالاً. ولقد كانت هذه الرسالة تفلح لو أنها أيدت بالشجاعة الأدبية من القوم الذين شاهدوا المعجزة عياناً ولم يحل دون انتشارها غبارة وبلادة ومادية هذا العالم الصحافي العلمي الكيماوي البيولوجي الخ الخ. والآن بعد مضي الأيام العديدة قد بدأنا نفهم ببطء هذه الرسالة العظيمة. وهناك حلقة تجارب أخرى قام بها الدكتور كروفورمن علماء بلفاست بايرلندة وقد أجراها على وسيطته جوليجير وأبرزها في كتاب سماه (الظواهر النفسانية وتجارب في علم النفسانيات) أما الوسيطة المس (جوليجير) فهن كما يظهر من صورتها الفوتوغرافية سيدة فتية السن قويمة الأخلاق مستنيرة العقل على جانب عظيم من التهذيب والرقي سلالة أسرة كريمة من أهالي (بلفاست) لكنها فقيرة وقد اتخذ هذا ألأمر - أعني فقر أسرتها - جماعة المضادين لمذهب الروحانيات ذريعة إلى اتهامها بالغش والتدليس. ووما يؤسف له أن نرى أمثال هذه المطاعن توجه إلى سيدة كريمة نزيهة تبذل مجهودها وتهب نفسها لتجارب العلماء. مدفوعة إلى ذلك بأشرف الأغراض وأنبل الغايات إذ كان في أمثال هذه المطاعن ما ينفر أمثال هذه السيدة ممن قد أوتين تلك الموهبة النقية النادرة من التعرض لهذه التجارب وبذلك تقوم العقبات في سبيل هذه الأبحاث العظيمة. وأهم ما يستنتج من تجارب الدكتور كروفور هو أن الاكتوبلازم مادة يمكن استخدامها في أغراض شتى بفضل ما يمكن وراءها من القوى والمزايا. فقد رأينا في الأمثلة المتقدمة إمكان استخدامها في تكوين الأشكال من صورة الإنسان. أما في تجارب بلفاستفقد امكن استخدام هذا الاكتوبلازم بعينه في عمل قضبان أعمدان من القوة ذات ثقل ولكنها مع غير ذلك غير مادية (لا يمكن لمسها) وكانت هذه العمدان والقضبان تنبعث من جسم (من الأطراف غالباً) الفتاة الفاقدة الشعور ثم تحدث ضربات ولطمات أو تحرك أمتعة وأشياء

وقعة على مسافة منها. وكان يمكن استخدام مثل هذا العمود المكون من القوة في رفع الأثقال وذلك بتوصيله بآلة رافعة توضع تحت مائدة مثلاً فتكون نتيجة ذلك هي أن هذا العمود يسلط قوته على الآلة الرافعة المتصلة به فيرفع المائدة في الهواء وعند ذلك ينضاف ثقل المائدة إلى ثقل الوسيطة كما لو كانت الوسيطة المذكورة قد أحدثت عملية الرفع هذه بواسطة قضيب من الحديد متصل بجسمها ومستعمل كآلة رافعة. وقد أمكن أيضاً وضع قضيب القوة المذكور (المكون من مادة الاكتوبلازم) يضغط على المائدة فيلاحظ أن مقدار القوة التي يصرفها القضيب المذكور في احداث هذا الضغط يستمد من مقدار وزن الوسيطة فينقص بذلك وزنها بمقدار ثلاثين أو أربعين أو خمسين رطلا كما يشهد بذلك أن ميزان الثقل المركب في الكرسي الجالس عليه الوسيطة. وفي هذه الحالة تصبح الوسيطة مجرد بقية إذ يكون قد انسحب من مجموع مادتها مدقا الثلث أو اكثر ولأصبح منفصلاً منها خارجاً عن كيانها. وهذا المادي يظهر على الجسم بمظهر صفاء وتهذيب في جوهره وليس بمظهر خسارة محسوسة في مادته. وقد كنا نلاحظ إذ ذاك أن كل عمل كان يعمل في هذه الظروف الخارقة بقصد تعويق هذا الجزء المفصل الخارجي عن سرعة العودة إلى الجسم كان يحدث ألماً بدنياً للوسيطة. ومن التجارب التي أجراها الدكتور كروفور انه جاء بنسيج فصبغه بصبغة حمراء رطبة ثم نصبه أما جسم الوسيطة أثناء انبعاث مادة الاكتوبلازم. فلم يلبث أن رأى جدران الغرفة قد تلطخت ببقع من الحمرة المذكورة - دليل على أن عمود القوة المندفع قد كان من الصلابة بحيث استطاع ان يحمل معه أجزاء من تلك الصبغة. وفي هذا من قوة الاقناع ما لا يخفى على غير المتحيز. ولعل معترضنا يقول هذه الظاهرة لا تعدو كونها ظاهرة لقوة مادية غير مفهومة ولكنها ليست روحاً أو عقلاً منفصلاً عن أرواح أو عقول الحاضرين المشاهدين تلك التجارب على أن مثل هذا المعترض إذا طلع على كتاب الدكتور كروفور الآنف الذكر علم أن في كل دور من أدوار التجربة كانت ثمة روح أو عقل مهيمن يرشد وينصح ويشير ويقترح بواسطة إشارات وعلامات منظمة محكمة. ولكن روح من؟ وأي عقل؟ فأجابة على هذا السؤال قد قرر الدكتور (كروفور) في كتابه الآنف الذكر أنه مقتنع تماماً أن هذه الأرواح

المهيمنة هي أرواح آدميين مجردة من أجسامها. فناشدتك الله ايها القارئ هل بقي بعد ذلك مجال للتكذيب بصحة هذه البراهين الناصعة. وصدق هذه الحقائق الرائعة، ومن ذا الذي يطلع على هذه الآيات البينات آيات العلماء الأعلام والجهابذ المحققين (بيسون) و (شرنك نوتزنج) وجيلي و (كروكس) و (كروفور) ثم يرتاب في أننا واجدون في هذه الغيوم والضبابات المنسدلة حوالي (الساحل المجهول) كمكا وصفت آنفاً صخرة وا حدة من الحقيقة الناصعة قد برزت من الظلمات والدياجير في جو اليقين الواضح المشمس! ولا اكر بعد أن وراء هذه الحقيقة الضاحية يمتد أقليم الخفاء والابهام وتنفسح مجاهل الشكوك والأوهام. وتبقى على مدى العصور والأجيال مطمع استطلاع الرواد. ومطمح استكشاف الطلاب والقصاد.

محاوره بين الطبيعة وإحدى النفوس

محاوره بين الطبيعة وإحدى النفوس للشاعر الإيطالي الخالد ليوباردي الطبيعة: اذهبي الآن يا ابنتي المحبوبة إلى الحياة وكوني عظيمة بائسة النفس: ألم تقدري التعاسة والشقاء الطبيعة: لأني جعلت العظمة من نصيبك ولا يمكن أن تكوني عظيمة دون أن تكوني شقية، ومما يزيد الأمر تعقيداً أو إشكالاً أنه قد قضى عليك بأن تسكني جسماً بشرياً وكل البشر بالضرورة في الشقاء من ساعة يولدون. النفس: وبدلاً من أن يكون ذلك كذلك أما كان الأفضل في الرأي والأرجح في العقل أن تحتاطي وتهيئ لهم وسائل السعادة وأسباب الرفاهة وإذا كان ذلك من وراء قوتك فإنه كان يحمل بك أن تكفي عن وضعهم في الدنيا. الطبيعة: كلا الطريقين ليس في قدرتي لأني أنا نفسي عبدة الأقدار التي سيرت الأمور وأدارت الأحوال على خلاف ذلك ومهما كانت العلة في ذلك فإنه ليس في وسعك ولا في وسعي أن نسبر غورها ونستكشف دخائلها والآن وقد عرفت انك خلقت وقدر عليك أن تحتلي جسماً بشرياً فإنه ليس بي ولا بأي مخلوق آخر من راسخ القوة وصادق القدرة ما نستطيع أن نرد به عنك عوادي الشقاء وطوائح المحن وفوق ذلك فإنه بسبب نلك وسبقك وتبريزك سيكون نصيبك من الشقاء أكبر من نصيب غيرك. النفس: لحداثة مجيئي إلى الأرض فإن أمامي أشياء كثيرة لاحفظها ومن أجل ذلك لا أستطيع أن أفهمك الآن كل الفهم وكلن اخبريني هل الشرف الشقاء المتزايد هما واحد في المادة والعنصر وإذا لم تكونا كذلك أليس في وسعك أن تفرقي بينهما. الطبيعة: في أحوال أفنسان والحقيقة إلى حد خاص في سائر صنوف الحيوانات يمكننا أن نقول بأن هذين الشيئين - النبل والشقاء_هما في التجربة والواقع شيء واحد لأنه كلما سمت المواهب وحفلت القرائح وأرهفت الخواطر سهل إدراك أحوال الحياة وشوؤنها ووضح الشقاء المرتبط بالوجود وبذلك يضير ذلك الشقاء نفسه واضحاً مجسماً وفي الوقت نفسه فإن تلك الحدة في الإدراك تقضي إلى توسيع نطاق حب النفس ونزيد التوقان إلى ظل السعادة الرطيب ونواحيه المصقولة المخضلة ذلك التوقان الذي ينتهي باضرام الأسف

وإيقاظ الألم في نفوسنا لعجزنا عن إدراكها ولعدم تحملنا مثالب الحياة وشرورها التي لا تدفع ولا مرد لها وكل ذلك قد أركز من الأولية والبدء في تركيب الأشياء المخلوقة الأبدي الذي من فوق قوتي تعديله وتبديله. ط ، اكثر من ذلك فإن مضاء عقلك باقترانه إلى خيالك المتوثب يقلصان من ظل سلطتك على عواطفك، وأن الحيوانات الوضيعة إنما تستعمل مواهبها وقواتها إلى الوصول إلى الغايات التي تجعلها نصب عيونها ولكن الإنسان يترك ملكاته طليقة مرخية العنان وقوته العملية بقدر ما معطلة مشلولة بتأثير الفكر والخيال اللذين يحشدان على تفكيره الشكوك الكثيرة ويقيمان عقبات عدة في سبيل تنفيذ مقاصدهم وبلوغ مآربهم وإن أقلهم مقدرة في رنة الأفكار وتحليل الأغراض وأبعدهم من الانكاب على هذه العادة هم الأكثر مضاء في عزائمهم والأكثر توجهاً إلى أغراضهم ومطالبهم بينما الأفراد نظراؤك النازعون في التفكير في نفوسهم والذين قوتهم معرقلة موقوفة بسبب ضخامتها هم في الغالب عاجزون عن إدراك الغايات العملية مقصرون عن شأوها وهم هدف لتكسر العزم وتضعضعه سواء في الفكر أو في العمل وهذا من أبلغ أسباب فشلهم وخيبتهم. زد على ذلك أنه لسمو مداركك يسهل لديك أن تبزي رفقاءك في عمق المعرفة وفسحة الخطوة في العلم وأن تفهمي ما تجسر دونه افهامهم وتكل عن إدراكه أفكارهم ولكن على رغم كل ذلك فإنك ستجدين أنه من الصعب المستحيل عليك أن تخرجي إلى ميدان العمل أشياء كثيرة ضئيلة في المظهر قميئة في الصورة ولكنها أشد لوازم شؤون الحياة وفي الوقت نفسه ترين هذه الأشياء نفسها وقد أتقنتها بغير عناء وإجهاد قوم أقل منك في مراتب العقل والملكات إن لم يكن في أخلاقهم ما يبعث على الاحتقار ولازدراء وهذه العوائق والعثرات وأمثالها تحدق بالارواح الكبيرة وتول بينها وبين النجاح وجزاء هذه الأرواح على تحمل كل هذه النكبات والدروس القاسية هو الشهرة الواسعة والاشادة بالذكر وما تناله من لشرف لعظمتها وبقاء ذكرها مخلد الرونق دائم الريعان. النفس: ولكن من الذي يصوغ لي عقود الثناء ويكيل لي التمداح ويخلع على حلل الشرف الذي تتحدثين وهل كل ذلك سيأتي إلي من السماوات العلى أو منك أو ممن؟ الطبيعة: سيقوم بذلك البشر إذ لا أحد غيرهم يستطيعه.

النفس: ولكني اتوسل إليك أبتهل في أن تتبصري وتفكري معي وقد سنح بخاطري أنه من حيث أتى سأعجز عن القيام بأعمال لازمة لأحوال البشر وشؤونهم وهذه الأعمال نفسها يستطيع - كما تزعمين_أن ينهض بها أفقر الناس ذهناً وأضاء لهم عقلاً وأسخفهم فكراً فإن نتيجة ذلك هي أني بدلاً من أن تنظم لي الأماديح ويحاز على بالشرف والتبجيل أكون رديئة للذام والسباب والتجريح والطعن أو على الأقل يتجنبونني ويفرون مني كإنسان غير صالح للحياة بينهم. الطبيعة: لم أوت علم الغيوب وقراءة المستقبل بدقة مطلقة فليس في مقدروي أن أتنبأ بصدق بكل ما يمكن أن يجول في ظنون الناس ويطوف بخواطرهم من ناحيتك أثناء إقامتك في الأرض ولكن من طريق القياس على تجاربي الماضية يمكنني أن أحكم أنه من المتوقع والمحتمل أن نفوسهم ستغتلى بالحسد لكِ وتتلظي بالحقد عليك فإن ذلك نصيب النفوس النبيلة المنازع الشريفة الغايات أو يدرون صفاءك ويغيمون جوك بالسخرية والاستهزاء أو بالاطراح والاهمال وان الحظ نفسه سيتهضمك وتخونك الصدف فيما تخون. وعلى رغم كل ذلك فإنه بعد موتك - كما حدث لكاميونز أو كما حدث من أعوام قلائل لآخر يسمى ملتون - يثني عليك وينوه بذكرك ويحلق به إلى السماوات لا أقول من كل الناس وإنما من الفرق القليل الذي يملك هبة الفهم والقدرة على التمييز والحكم - وربما تجاليد الإنسان الذي كنت تسكنينه عى الأرض تنزل في قبره وتحفظ ملامح وجهه منقوشة على بعض المواد النفسية ليستعز بها الناس ويصف كثير من الكتاب حوادث حياته وتحفظ ذكراها حتى يصير لواء شهرته منشوراً في الآفاق وكل هذا محتمل الوقوع إلا إذا حيل بينك وبين إظهار مواهبك وإبداء أي برهان كاف على قيمتك بسبب لؤم القدر أو بسبب إفراط مواهبك في الاعتلاء والسمو كما حدث في حالات كثيرة أعرفها أنا والقدر. النفس: انى - يا أمي - وإن كنت عاطلة عن المعرفة مجردة من العلم لأعرف حق المعرفة أن أقوي رغبة قد رميت بذورها في نفسي بل الرغبة التي أبدأ بها شاعرة ولها منتبهة متيقظة هي الرغبة في السعادة واني وإن كنت أجاريك في أني قد أكون طامعة في المجد وصعب العلى جديرة بالطموح إلى احتبار المفاخر واقتناء المآثر سواء كان ذلك خيراً أو شراً فإنه من الثابت الذي لا يدفع والأكيد الذي لا ينقض أني لا أتطلع إلى ذلك ولا

أرغب فيه إذا كان لا يورثني السعادة أو على الأقل إذا يقذني إلى طريقها ويهديني سبيلها والآن طباقاً لما قلت فإن بوارع الصفات التي جدت على بها ونوادر المواهب التي منحتني إياها يجوز أن يكونا. . . . لأدراك الؤدد وبناء العلى ولكن من الواضح الجلي أنهما لا يسوقان إلى السعادة بل على عكس ذلك يقضيان إلى الشقاء وفوق كل ذلك فإنه يبدو لي أن تلك الصفات لا لتنليني الفخر إلا بعد موتي وإذ مت وطواني القبر فأي مغنم أصيبه من ذلك وأي هزة فرح تعروني من وراء ما تقدمه لي الأرض من المزايا والفوائد. وفي الختام فأنت نفسك تعترفين أن ذلك الخيال الموهوم من الفخر الذي يشترى بهذا الثمن الغالي من الشقاء والبأساء قد لا يتاح لي نواله أبدا ولو بعد الموت، وكون كل هذه الأشياء بهذا الوضع ومما ومما تبيتنه من معاريض كلامك أرى تفسي مضطرة إلى أن أعتقد أنك لا تضمرين لي الحب والولاء كما زعمت في مفتتح خطابك بل أنك في الحقيقة تحنين ضلوعك على مقتي وكرهي وإن كرهك لأشد وأبلغ من الكره الذي قد تضمره لي البشر والحظ أثناء إقامتي في الأرض وذلك لأنك لم تتريثي في أن تقدمي إلي هذه الهدية المشؤومةرمثل هذا النبل في الأخلاق الذي إنما نظرت عند إهدائه إلى مصلحتك الخاصة والذي قد أثبت أنه هو نفسه الحاجز المنبع القائم بيني وبين أعظم رغبات نفسي - الرغبة في السعادة. الطبيعة: يا طفلتي إن نفوس البشر مقدر عليها التعس والبؤس وذلك على الرغم من مني ولكني بين ذلك الشقاء الطامي الذي هو نصيب كل مخلوق ولا عاصم منه وبين كل المسرات الفانية الزائلة فإن المجد هو أشد ما يستهوي نفوسهم وهو أعظم الخيرات التي يمكن أن تغدق عليهم وأنه أحق شيء بمجهوداتهم ومساعيهم ولذلك قد حبوتك بكل الصفات التي في استطاعتي منحها لتجتني ثمار هذا المجد وتهتصري أغصان ذلك الفخر وليس ذلك لكرهي لك وإنما من رغبة طيبة صادقة صريحة غير مؤتشبة في منفعتك. النفس: حدثيني هل بين مخلوقاتك العديدة الوضيعة واحدة أقل مني حيوية واستعداد وقابلية للشعور. الطبيعة: هذا مؤكد وأن تلك السلسلة من الأحياء التي تبدأ بالنبات إلى ما فوقه لتوجد مخلوقات بقدر ما أقل من الإنسان إحساساً وحيوية فإني قد أفردت الإنسان بغزارة الحياة

ووفرة الشعور وذلك لأنه أكمل المخلوقات الأرضية. النفس: ومن ثم - إذا كنت تضمرين لي صادق الحب فدعيني أسكن في أقل المخلوقات كمالاً وإذا عجزت عن ذلك فجرديني من تلك المواهب القاتلة التي تخالينها تشرفني واجعليني جديرة بسكني أضأل البشر عقلاً وأشدهم رقدة احساس. الطبيعة: هذا في استطاعتي القيام به ومن حيث أنك تردين هبة الخلود التي قدرتها لك فأنا أميل إلى فعل ذلك معك. النفس: عوضاً عن ذلك الخلود اصنعي معي معروفاً واجعلي لك على يدا وارسلي لي الموت العاجل. الطبيعة: سأشاور القدر في ذلك. . . . .

وطنية الشعراء

وطنية الشعراء على ذكر وطنية الشاعر الألماني هايتي إذا صح أن الشعراء هم أحر خلق الله احساساً وأرق بني الدنيا وجدانا وأكبرهم قلوباً وأعذبهم نفوساً، وصح أن الوطنية هي أحر مشاعر الإنسان وأكبر منازع الفؤاد وأعظم عاطفة في الدنيا، ورأس كل المشاعر الاجتماعية في العالم. فقد صح على هذا القياس أن الشعراء هم أنبياء الوطنية ورسلها، وقادتها وزعماؤها. ولعل هذا ما وقع بعينه في تاريخ الشعر الإنساني من يوم مشى جدهم الأكبر. ذلك الحسير المكفوف متأبطا قيثارته، يغني الياذته في طرق أثينا، مسترزقاً طالب القوت من شعره، وعجيب إن كان الشعر في فم ذلك الزعيم الأول مادة للشحاذة، وبضاعة للتسول، ثم يكون بعده والعالم عالم ثلاث عروش وبناء أمم ومسقط ممالك ومكسب انتصارات، ومفقر أجواد وسروات. الوطنية بلا ريب حاسة متينة عميقة في الإنسان، والشعر عاطفة غريزية تتغلغل في طيات الجنان، والناس الذين يسخرون من الشعر ويقولون بأن الشعر لا لزوم له في العالم، وما دام الناس يستطيعون أن يمضوا سحابة يومهم ولا تثور فيهم نزعة إلى معرفة تسعيرة الشعر، ومادام الشعر لا أثر له في قوانين الانمان، وتعريفه المواد، ولوائح البلديات والمحافظات فما نفع الشعر وما جدوى الشعراء - هرلاء الناس الماديون الذين يريدون أن تكون الحياة كلها بالماكينات والكهرباء، إنما يستخفون بالحياة تفسها ويريدون لها الفساد والهدم، فلو أننا استطعنا أن نقتل الشعر ونمحوه من صفحة الدنيا ونضع العقوبات الصارمة للذين يحاولون طبع القديم منه، أو نشر جديد عليه إذن لقتلنا شيئاً كثيراً من القوة المحركة للحياة ولهدمها عناصر الفضيلة - واعتدينا على الوطنية فسلبناها أعز مصدر نستمد منه قوتها وعصارتها النامية. إذا صح هذا وجب أن يكون الشعراء جميعاً وطنيين، يجب أن تكون الوطنية فيهم مشتعلة، مستعرة محتدمة، وينبغي أن يكون نصف الديوان شعر الدنيا وطنياً، والنصف الآخر في تلك الشؤون هي التي مهوى نفوس الشعراء، ولكن وا أسفاه لا يزال الشعراء في مقدمة الوطنية فيهم مختلفين، وذلك على مقدار اختلاف أمزجتهم وسرعة تقلب أهوائهم، وحضور

خيالهم، على أنك وإن رأيت الشاعر الجزل الفحل منهم لم يضع في كل أجزاء ديوانه قصيدة واحدة عن وطنيته ولم يحشد في شعره من تلك الروح الحماسية المشتعلة التي تضرم الأفئدة، لا تزال ترى لديه أثراً زاهياً منها في إعلائه من شأن اللغة، ولغة الشعر هي أسمى أساليب اللغة، والعمل على تمجيد اللغة ورفع مستواها، والنهوض بها، وخلق أدب جديد لها، كل أولئك وطنية بينة ظاهرة وإن لم تحو بيتاً واحداً فيها. واكبر مظاهر الشاعر الصحيح الذي يتلقى الوحي من العاطفة، ولا يعمد إلى لأفاعيل والأعاريض يصب فيها كلاماً مرصوصاً تحس أن كل كلمة منها عند قراءتك إياها تكاد تثور وتخرج من الطابور الذي صفت فيه مع غير أخواتها بلا مناسبة ولا موافقة ولا لزوم - إن أكبر مظاهر ذلك الشاعر الحقيقي الاعتزاز بوطنه والافتخار بأرضه الزهو بأهله وممتلكاته، وكم من شعراء خرجوا من ديارهم من جراء عسف أو ظلم حاق بهم، أو طلباً للرزق في غير أراضيهم إذ ضاق عليهم وعز مطلبه في وسط أهلهم فلم يكن ذلك ليكرههم في البلاد، أو يثير الحقد في نفوسهم على وطنهم بل ظلوا يحبون وطنهم وإن لم يحسن إليهم حتى حتى رحلوا إلى مضاجع الآخرة. ساقني إلى هذا حديث الشاعر هايتي - الشاعر هنريخ هايني المتهكم السخار بالدنيا وما فيها - ذلك الشاعر الخفيف البديع الذي ظل حياته نهب أمراض أليمة وأحزان جمة حتى لقد قال يوماً عن نفسه، إذا قدر لي أن الفالج - تلك اليد الحدبدبة القابضة على صدري، سيخف يوماً، ويقل أثره، فلا ألبث أن أجد نشاطي القديم متحركاً مهتاجاً عائداً إلى بحرارته وقوته الذاهبة. نعم. أنا مريض إلى حد الموت ولكن روحي لم يصبها أذى قاتل فإنها لاتزا ل كالزهرة العطشى المطرقة برأسها الناحلة ولكنها لم تذبل بعد ولم تسقط عن أغصانها ولا تزال جذورها متينة في أرض الحق والحب، على أنه لم يكد يمضي شهر على ذلك حتى كتب الوصية الأولى من وصاياه الثلاث. وفيها ختم الوصية بوداع حار لأرضه وبلده الذي اختاره مقاماً له ومنزلاً فقال: وداعاً ألمانيا أراضي قومي ومهبط آبائي بلد الأسرار الغامضة والأحزان، بلد الغرائب والأشجان، لتهنأ أيها البلد ولتسعد، وداعاً أيها الشعب الفرنسي الكريم الذي طالما أحببت وإليه أخلصت، شكراً لكرمكم وضيافتكم وحسن مثواي بينكم. إن هذا الشاعر الذي يحب الإنسانية كلها ويرسل شعره في مهب الرياح كلها والذي مال

بعاطفته إلى فرنسا واتخذها وطناً ثانياً له لم يزل يخص وطنه الأول وأرض آبائه على البأساء والنعماء وحياة طويلة قطعها مبتثاً محزوناً بحب ظل في فؤاده فتياً قوياً لا يخفت ولا يموت. ولقد كتب في وصيته الأخيرة إن كل ما كان يرمي إليه في مختتم حياته لم يكن إلا سعياً متواصلاً في تحبيب الشعبين الألماني والفرنسي والمشي بينهما بالمودة والوئام وقد أقام في باريس زهاء خمس وعشرين سنة ووظفت عليه في السنوات الأخيرة من حياته وظيفة من الحكومة الافرنسية ومنح منها عطاء يتقاضاه عاماً فعاما فجر عليه قبوله ذلك العطاء نقداً حاداً أليماً من أعدائه وخصومه وكارهيه إذ رأوا الفرصة سائحة للتشهير به والأزراء عليه بالخروج عن حب ألمانيا بلده والتجنس بالجنسية الفرنسية ولو كان هيني شاعراً من أولئك الشعراء الذين رصدهم الشيطان رسلا لاقتناص الأموال والذين تسمع من خلال بيوتهم وقصيدهم وسوسة النقود التي يطلبونها من وراء شعرهم ولو كان هايني باع وطنه الذي أساء بثمن بخس ساومته فيه فرنسا، إذن لسكت على الإهانة ولم يستطع صراخاً في وجه تلك التهمة الأليمة بل لقد ثارت ثورته وجن جنونه إذ قرأ قول لأعدائه فكتب في الحال إلى صحيفة من صحف ألمانيا يقول: كلا، كلا. إن تلك الدريهمات التي تلقيتها من جيزو الوزير لم تكن ثمناً لوطنية بعتها وجنسية خلعتها ولم تكن ضريبة ولا صنيعة ولا رشوة بل إن ذلك المعاش لم يكن إلا على سبيل المعونة. لقد كانت - واسمحوا لي يا قوم أن أسميها باسمهاوان لا أخجل من ذكر حقيقتها - لقد كانت نفحة من تلك الصدقة العظيمة التي تتصدق بها فرنسا على الواغلين فيها. على المشرذين والمنفيين. على الطريدين من أرضهم. على الطريدين من أهلم المنبوذين منهم أولئك الين استهدفوا لعداء حكوماتهم بما نقدوها به وعابوها عليه وجاؤا إلى كنفها فاستظلوا بظلها واحتموا بها. إنني ما سألتهم تلك المعونة المالية إلا بعد ظهور تلك الأحكام القاسية في ألمانيا التي تريد أن تهدم امري وتسلمني إلى المتربة والعيش الضنك بمصادرة تواليفي الحاضرة بل مصادرة كل ما يخرج في المستقبل من قلمي وكل بنت حسناء بلدها فكري. بعد ظهور تلك الأوامر العنيفة التي أريد بها أن أجرد من كل شيء يلاحق ولا محاكمة ولا سماع دفاع.

وقد عاد فكتب بعد ذلك مقالاً مسهبا فيصحف المانيا عن هذه التهمة التي ألصقت به باطلاً، حوى ذلكم المقال دعابة مرة شأن دعابات هايني المتهكم المستهزيء بمظالم الدنيا ونحن نفتطف شذرة من ذلك المقال وقطعة تصور للقارئ. صورة الشاعر على حقيقته. قال هايني لدى اعتراف أريد أن أنزل عنه وذات صدر أريد أن أنفثها وإن كان الحزم يتطلب السكوت عليها وكتمان أمرها ولكن لقد قضى العهد الذي كان ينبغي فيه الحرص وقد أصبحت اليوم وبي رغبة شديدة في أن أؤكد للناس أنني لم أكن يوماً متجنساً بجنسية الفرنسيين ولم أكن في فرانسا فرنسياً وإن تجنسي لم يكن إلا محض وهم ألماني قام في أذهان نفر من أهل وطني ولا أدري أي عقل بليد خبيث مسف دنيء اخترع تلك الأكذوبة ومشى بتلك السخرية ولقد ادعي كثيرون من مواطني أنهم أقتفوا أثر هذه الاشاعة حتى أدركوا لها مصدراً حقيقياً لا غبار عليه من الباطل ويعنون بذبك تلك الأقوال التي امتلأت بها أنهار الصحف الالمانية وغرهم بي سكوتي فتبينوا حقاً ما ليس بالحق ولقد خدع كذلك كثيرون من أعدائي السياسيين وخصومي في الأدب في برلين وباريس فرموني بتلك التهمة مع الرامين وتجنوا علي مع المتجنين واعتقدوا أن أرتدائي ثوب الجنسية الفرنسية قد حماني من كيد الكائدين ورد عني دسيسة الدساسين على أنني أحمد لأعدائي هذا الجهل وأشكر لهم سوء الفهم فقد أنقذني ضعف بصائرهم من كثير من السوء وعصمني من الكدر ومن شر أولئك الفضوليين المتداخلين الحاشرين أنفسهم في أمر المادين أعينهم الواضعين أنوفهم في كل شأن لكي يحرموا الناس ما يكسبونه لأنفسهم فإن الغريب الذي لم يشتمل ببردة الجنسية الفرنسية في باريس لا يستطيع أن يظفر من أهلها برضي أو حب لا يجد رخصاً في النفقة ولا يصيب إلا غبنا في الشراء وظلماً في الثمن ولا يستطيع أن يعيش إلا إذا خرج عن المال الكثير فهو نهب مقسم بين الخداع والارهاق ولا يصيب كل أولئك إلا على يد الغرباء الذين ارتضوا أن ينزعوا وطنيتهم ويدخلوا في شملة الجنسية الفرنسية فأجمعت النية ذات يوم أن أضع إمضائي في ذيل تلك الصبغات وقاء من كل ذلك الشر ومنجاة من كل تلك المتعبة على أن تلك الصبغات لم تقيدني بأي قيد ولم تربطني إلى شيء وإنما ذللت لي عند الضرورة الظفر بالحق المدني كأي فرد فرنسي يسكن با ريس العظيمة على أنني طالما انزويت رعباً وانكارا من فعلة كتلك ومن قيد كهذا ولقد وضعتني تلك

الترددات التي قامت بصدري وذلك الاشمئزاز العميق في فؤادي من ترك جنسيتي الأولى في مركز حرج وموقف غريب هو السبب الأكبر في كل ما نالني من نصب وألم وحزن في مدى الأعوام التي قضيتها في باريس وقد أدى بي ذلك إلى الظفر بمكان في الحكومة كان مغلقاً في وجهي وقد كنت موضوع الغيرة في كثيرين من الفرنسيين أنفسهم لأنه لم يصب الماني قبلي في هذا البلد ما أصبت من حب الشعب في فرانسا في العالم الأدبي وفي المجتمع والاسمار والندى حيث جعل كثيرون من أهل الخطر والألقاب العظيمة والأسامي النبيلة يلتمسون التعرف بي التماسا وينشدون صداقتي نشدانا لا كما يرعي الأمير الاديب ولا كما يبتسم الخطير للصغير ولا لأكون تحت الرعاية ومتعهد شعر لأصحاب الدولة بل كرفقاء وحلفاء وأهل ود وصحب أعزاء. فالأمير الفارس القريب على العرش الذي قرأ شيئاً من كتبي في الأصل الألماني راح يظن أنه الموفور المسعد إذا أنا قبلت عليه ورغبت في الدخول في خدمة الحكومة وأن أنسى فما أنا بناس ذلك اللطف وتلك الرقة التي لقيتني بها ذات يوم في حديقة صديق خطير الشأن ذلكم الرجل العظيم واضع تاريخ الثورة الفرنسية ومؤرخ الامبراطورية البونابرتية. ذلك الرجل العظيم جيزو الذي كان في فرنسا يومذاك السلطان والكل في الكل. إذ أخذ بذراعي وجعل يماشيني وهو يلح علي الا ما نفضت له عن صدري وكاشفته بحاجتي. واعداً إياي أن ينليني ما أطلب. ويحقق ما أشتهي. إلا أن نغمات صوته. تلك النغمات المالقة، العذبة الكريمة لا تزال ترن في مسمعي، ولا أزل أتنفس عبير تلك الأزاهر التي كانت تحف بنا ونحن نتسابر متمشيين بين منافس البستان. لك الله تلك الأزاهر التي كنا نخطر أمامها. تلك المانوليا. الجميلة بأكمامها المتفتحة المرمرية اللون. التي ترسل أنفاسها العبقة المتأرجة في الأفق كأبهى وأفخم وأعز ما يكون قلب هذا الشاعر الألماني في أيام نعماه. نعم. لقد قلت حقاً ما عليه ظل باطل. لقد كانت تلك العزة المتشامخة الرافعة الرأس التي هي دأب الشاعر الألماني هي التي منعتني حتى من قبول الصبغة الظاهرية أن أكون فرنسياً. لقد كان ذلك وحياً كمالياً سماوياً لم أكن لي على الخلاص منه؟؟؟ وإذا قيست عاطفتي نحو وطني بما اصطلح الناس على تسميته الوطنية فلقد كنت مرتداً منشقا خارجيا. ولكن ذلك لم يمنعني أن أثور وأتألم وأتمرد من أي أمر ولو خفيا يراد منه يتم الطلاق بيني

وبين أمتي. هذا هو الاحساس العميق المتغلغل في نفوس الشعراء والمهذبين الذي لا تمحوه قوة الأرض. نعم قلما يتكلم الشعراء عن وطنيتهم وقلما يتغنون بحبهم أرضهم، ولكن الوطنية عميقة في حبات أفئدتهم. لقد كان زواجي بألمانيتي الجميلة. ألمانيتنا العزيزة. ذلك الملاك الحارس - وأسفاه - زواجاً غير رغد ولا سعيد. نعم إنني لا أذكر ليالي قمراء زاهرة نعمت فيها بأحضانها. يوم كانت تضمني إلى صدرها الرحيب. ذلك الصدر النقي. الطاهر. ولكن تلك الليالي الحلوة كانت معدودة. وكم أعقبتها أيام هي ظلمات بعضها فوق بعض فقصمنا عرى تلك الزيجة بالانفصال والفراق. ولكنه لم يكن إلا طلاقاً صورياً غير حقيقي. لأنني لم أفكر يوماً أن أفارق خادمي الأمين. نعم لطالما كنت أكره الناس في الارتداد. ولطالما كان المروق من الدين والخروج على العقيدة بغيضين إلى قلبي كريهين. وما كنت أرضى أن أهجر حتى ولا قطة ألمانية. بل ولا كلباً من كلاب بلدي العزيز وغن كان لايطاق. كلا. لم أفقد شرياناً واحداً من ألمانيتي. ولم ينزف من دمي عرق واحد من جنسيتي. كلا. لم أعرض نفسي لخيانة كتلك. إن التجنس بغير الجنسية الأولى أمر يليق بأناس غيري. قد يعقل أن يفعل ذلك محام سكير ملح على الشراب. ومغفل نحاسي الرأس والأنف يريد أن يصيب وظيفة ناظر مدرسة. أو معلم في كتاب. نعم هذا الرجل وأمثاله قد يبرأون من أممهم التي لا تعرف شيئاً عنهم ولم تسمع بهم ولن تسمع بذكرهم ولا يضيرها خروجهم، ولكن لا هذا يصدر عن شاعر أزجى إلى ألمانيا أجمل أشعارها وأبدع قصيدها الغنائي. بل انها لتروح لدي فكرة لعينة شنعاء. بل فكرة مجنونة تذهب باللب وتفقد الرشد. لو أنني قلت عن نفسي ها أنذ شاعر ألماني وفي الوقت نفسه فرنسي متجنس بجنسية الفرنسيس، بل ليخيل إلي لو أنني فعلت ذلك أني قد أصبحت أشبه بتلك المخلوقات الشنعاء ذات الرأسين التي يقدمونها في الأسواق والمعارض. أعيش برأس فرنسي وبالرأس الآخر أبدي عاطفتي ومشاعري في أوزان اللغة الألمانية. وا أسفاه - الشعر الفرنسي!؟ ما أبغضه على نفسي وما أشنأه لدي أنني قلما أستطيع هضم أشعر شعرائهم الذين لا رائحة لهم البتة. أنني كلما ذكرت الشعر الفرنسي الذي يسمى مجازاً شعراً غنائياً تبين لي جلال الشعر لالماني وروعة جماله واعتقدت إذ ذاك أنني جمعت منه لنفسي إكليل الغار. كلا. أنني أتنازل عن ورقة

واحدة من ذلك الاكليل. وصانع القبور الذي سينحت قبري عند ضجعتي الأخيرة لن يجد أحد من الناس مجترئاً على أن يمنعه من حفر هذه الكلمات على صفحة القبر هنا يرقد شاعر ألماني!. هذا صوت شاعر عميق العاطفة - شفاف الاحساس - يعبر عن مبلغ حبه بلاده على حين ابتأس فيها ولقى الشر من ناحيتها. وتشرد في الآفاق من سوء ما ناله على يدها فظل الحياة يفخر بوطنيته ويزهى بحمل اسم بلده لأن الشعراء الحقيقيين هم الذين يحملون لواء الوطنية في طليعة صفوف الأمم والشعوب. . .

الأميرة الصغيرة

الأميرة الصغيرة بقلم الكاتب الروائي ولاند برتوي عربها عباس حافظ قال ملك تيرانوفا - مملكة الأرض الجديدة في جنوب أمريكا - لفتاه وولي عهده: أي بني وددت لو أنك تركت فرق فروع شعرك وإرسالها تتدلى على أذنيك. فإن هذا لا يجمل بك وليست هذه زينة الأمراء وولاة العهد. فرد عليه الفتى بهزة من كنفيه وراح يقول: أما عن الاحتفاظ بزينة الإمارة وتجمل الأمراء فذلك أمر لا رغبة لي فيه وشأن ولا أحبه. فسقطت لفافة التبغ من يد الملك عجباً ودهشة ومضي يقول: يحزنني أن أرى أولياء العهد وفتية الإمارة وأبناء الملوك اليوم قد طلعوا مودة جديدة وهب التلون بلون الاشتراكية والظهور في أردية الاشتراكيين وأصبحوا يميلون إلى الفرار من الواجبات التي فرضتها عليهم منابتهم ووراثتهم وأعراقهم والبيوت التي منها نشأوا. فاحتد الفتى ايفولت وقال: ان واجب الأمير. . . . . فقاطعه الملك قائلاً: أن يكون بمظهر الإمارة كما أن واجب حمال الفحم أن يحمل فحماً. فأجاب الفتى خائفاً: أني لأود أن أكون حمال فحم من أكون أميراً وولي عهد الملك. فبتسم الملك وقال: اني لأذكر أنك حاولت أن تكون يوماً فحاماً عندما كنت تزور مقاطعة المناجم وقد نشرت تلك الحادثة في الصحف السيارة على أنني ووالدتك الملكة لم تكن تظن أنك لم تظهر أي براعة يومذاك في حمل الفحم كما برع فيه حمالوه. فتوردت وجنة الفتى خجلاً وقال: إنني أريد أن أقول أن الملوك والأمراء ليسوا إلا لعباً أشبه بلعب ألف صنف وليسوا أناساً من لحم ودم لأن حركاتهم وسكناتهم وغداوتهم وروحاتهم بالأمر والنظام. فهم لا يخطون إلا بقيد ولا يسيرون إلا والحراس حولهم حافون والعسكر حاشدون مزدحمون والكواكب قريبون محتاطون بل أنهم لا يستطيعون كذلك أن يعيشوا في المنازل التي يحبون أن يختاروا الدور التي يسكنون والصحب الذي يعاشرون. فلم ذلك؟ لم ذلك. قال الملك بكل رفق وأدب: انني منتظر منك أن تخبرني عن السبب.؟ فإذا أتممت الشرخ

أنبأتك بالسر وبسطت لك الباعث. فأجاب الفتى اسمع إلي يا أبتا - لنتكلم بصراحة تامة ولندع طريقة المعاجم في البحث ونترك جانباً شأن العلماء في المحاجة والجدل. إنني متألم متبر مملول. هذا كل شيء. فأجاب الملك - إذا كنت يا بني تتألم من اسلوبي الفلسفي في الحديث. وطرقيتي المدرسية في المناقشة فلنتحدث بلا تكليف ولنتكلم بلا تحشم شأن أهل القربى ولعلني خشِن الحديث غير مصقول الكلم. ولكني محاول جهدي أن ألين حديثاً وأنعم لهجة فما بك. نبئني ماذا يؤلمك. قال الفتى - إنني أكره هذه الفكرة العفنة والطريقة الصدئة السقيمة في الزيجات المرتبة المقررة والمقيدة، إني أراها سيئة شريرة. غير طبيعية. قال الملك مترفقاً في كلامه - نعم قد يلوح عليها ظاهراً أنها عقيمة صدئة_وهنا تمهل الملك وأمسك بلحيته مفكراً ثم عاد يقول - ولكنني أعلم انها ليست كذلك في حقيقتها ولبها - إنني محدثك حديثا لا أظن هذا الشعب الذي يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا مستطيعاً أن يعتقد صحته ويؤمن بحقيقته ذلك انني ما زلت حياتي كلها ولا أزال في حب شديد وأمك الملكة ولو أنني كنت رجلاً من عامة الناس لما وجدت ولا أظنني واجداً رفيقة غيرها تستطيع أن تجعل أيامي في الحياة هانئة رغيدة هذا حديث يجب أن لا يتعدى غيرنا نحن الاثنين فإنني رجل شيح ولا أحب أن أتراءى مضحكاً متخلعاً متظرفاً أمام الناس. فأجاب ولي العهد: هذا حظ جميل، ولكن لعل غيرك من الأمراء وأهل بيت الملك غير مصيبيه. ألا أسمع إلى يا أبي. ان مبدئي في الحب. . . . وإذ ذاك قاطعه الملك فقال: أن لا يكون مقيد بالمراتب والألقاب وأن يتنزل إلى العامة ويساوي بين الكبير والحقير. قال الفتى - ولم لا؟ فاجاب الملك الشيخ ليس ثمت خطأ أكبر من الذهاب إلى الحب لالذة فيه إلا حيث يكون ممنوعاً أو صعب الوصول إليه فإنك لو قلت ذلك فكأنك تريد أن تقول أن الإنسان لم يصل إلى قمة جبل مونت بلانكالجبل الأبيض لأنه صعد إليها بقطار النفق - ولم يبلغها سعياً على القدم.

فقال الفتى - ولقد لمعت عيناه كأنما تخيل حلماً معسولاً ذهبياً: إنني أريد أن أعيش عيشة طليقة حرة على هواي ومبتغاي. فأجاب الملك في رفق. أعرف ذلك. وهذا ما سيكون لك يا بني العزيز وأنت تعلم يا ايفولت أنني أحبك الحب كله. ولكنني أود لو أنك تركت فرق جدائلك بحيث تتدلى على أذنيك. فقال ولي العهد: إنك يا ابتا رجل خير حنون. ولكنني لا أعرف. . . . فرد عليه الملك قائلاً: كلنا لا نعرف في المبدأ ولكننا جميعاً نحن بني آدم ننهى بالمعرفة، والآن لنعد إلى أحاديث المملكة وشؤون السياسية. هل أعددت العدة لهذا المساء؟ فأطرق لفتى برأسه يأساً وتبرماً وأنشأ يقول: نعم فسأكون في المحطة في لباس الكولونيل وسأخطو في اللحظة المعينة فألثم يد الأميرة وهي تنزل من القطار. قال الملك: بديع للغاية. ولكن لا حاجة بك إلى التحدث معها حتى حفلة المساء فأجاب الفتى. يلوح لي إذن أنه سيكون زواجاً أخرس صامتاً وسأمشي بها إلى الهيكل كما تساق الشاة إلى المذبح. قال الملك. هذه هي آداب الأعراس الملوكية. ومع ذلك سنرى. . . . . وهنا ابتسم ومشى منصرفاً من الحجرة. هناك في حجرة الزهر وجد الملكة. قال الملك. ألم تعلمي يا عزيزتي الخبر - أن فتانا قد أصبح متمرداً. فنظرت إليه الملكة نظرة جزع وقالت - واها للفتى المسكين. ولكنها فتاة بارعة الجمال ولو لم تكن كذلك لما اخترته له عروساً. ولكن لا تنزعج ولا تتألم. قال الملك: يالك من زوجة كريمة. وهنا طوق خصرها بذراعه كما لو كان مثلك أو مثلي. وكان سلوك الأمير في المحطة بديعاً للغاية إذ خطا في اللحظة الواجبة فلثم يد الفتاة العروس ومشى بها إلى مركبة الإمارة وركب هو جواده وجعل يعدو به جانب المركبة وجعل الشعب في الطريق والجماهير الحاشدة على الأفاريز يهتفون ويلوحون بمناديلهم في الهواء. ولم يبق منهم أحد إلا وافق على أن هذه الزيجة ليست إلا زواج حب من النظرة الأولى. فلما بلغت المركبة بالعروس القصر. تلفت الملكة العروس وأخذتها إلى مائدة أعدت لتناول

الشاي لتحتسي العروس قدحاً قبل أن تخلع عنها أثوابها. أما الأمير ايفولت فما كاد يفرغ من توصيل الأميرة حتى صعد سلم القصر وانزوى في مخدعه وطح جسمه على فراشه وجعل يتململ ويتلوى - وقد برقت في عينيه لمعة ذكرى قديمة وراء أفق بعيد وراح يقول: لماذا لم أولد فتى من عامة الناس؟ لم لم أكن من السوقة والصعاليك؟. . . . . ولبث كذلك في سريره ثم نهض فصاح بغلام من غلمة القصر فجاء الغلام فخلع عنه نعليه وقال ماذا يرتدي صاحب السمو؟ قال الأمير - الثوب المزركش فابتسم الوصيف وقال - هذا هو الثوب الذي أعددته لسموكم من قبل فنظر الأمير في أنحاء الحجرة فأبصر الثوب يلمع في صندوقه فقال: أتراني أبدو جميلاً في هذا الثوب؟ قال الغلام: إنك لتبدو. . . . . ولكنه لم يستطع أن يتم قوله إذ ابتدره الأمير. إنني أريد جواباً أميناً صادقاً لا رياء فيه. . . . فتمهل الغلام ثم قال. . . . إنك في لباس تود لو أنك لم نشتمل به. . . . قال الأمير أصبت؟ * * * فلما انتهى المدعوون من العشاء، لبث الفتى يرتقب العروس، في حجرة أعدت لخلوتهما. وإذ ذاك أقبلت والدته تتقدم الأميرة. وهي تقول. . . لتسمرا هنا بعض السمر حتى يحين وقت الحفلة والمرقص ولمست آنذاك براحتها خد الفتى ووجنة الفتاة وفي ذلك معنى لا يدركه إلا الأمهات. وابتسمت وانطلقت تمشي إلى الحفل. فأمسى العروسان في خلوة نظر كل إلى صاحبه، فأطرقت هي حياء، ووضع هو يده على مكان فؤاده وبدأ الفتى الحديث فقال. . . . إنك أيتها الأميرة جئت كغريبة لتسودي كملكة في قلوبنا وقلوب. . . . . . فقاطعته العروس قائلة. . . أعرف ذلك. فقد قرأته في الصحف. . . إلا إذا كنت تريد أن تسترسل في مبادئك.

فأجاب الأمير شاكراً كلا لا أريد. قالت العروس. . . . ماذا ترى في زواجنا هذا. فأجاب الأمير يبعث الإنسان على السرور قالت العروس كلا إنني لست مسرورة وإذ ذاك أشرق وجه الأمير، وقال. أحقا فأجابت. وكيف به أسر، ألسنا في القرن العشرين ولم تكد تتم قولها حتى ارتفع صوت جرس البهو معلنا ابتداء الرقص ولما صدحت الموسيقى وأقبل الراقصون يريدون رقصاً قال الأمير لعروسه هلمي بنا فنحن مضطرون لفتح الرقص فوضعت يدها فوق ذراعه وانطلقا إلى قاعة الرقص قال الأمير للعروس. مالك مترددة فابتسمت قائلة، إن هذا أمر فوق الطاقة. فأجاب الفتى بتنهدة طويلة. ما أفسد كل هذه الرسوم. فأومأت العروس إيماءة الإيجاب وعاد وهو يقول. لماذا نكره على الرقص. ألسنا بني آدم لحماً ودماً، ولماذا يريد القوم منا أن نهتز وندور كلعب الأطفال. فنظرت إليه طويلاً. وقالت: إنني أشد الناس لهذا الرقص كرهاً فأجاب الأمير: اجل تكرهينه بلا ريب ليس كل هذا إلا أكذوبة ظاهرة أيكون في الدهر ليلة ألعن من هذا العشاء والاحتفاء. ثم آخر الأمر هذا ارقص الطائش المجنون؟ يالله. ما أجمله لو أنه كان على بساط سندسي في حقل بعيد عن هذه المدينة. وأرض خضراء في قرية من قرى الريف. وسط الفلاحين والقرويات أما هذا الرقص فما معناه عمرك الله. لا شيء مطلقاً. أكذوبة وحق السماء! أطرقت قائلة: هو ذلك. ب هو أقل من لا شيء إذا أردت الحق! قال الأمير: هذا ما أشعر به. ثم تمهل واستطرد يقول: إنك لم تحسني هذه الخطوة. إن ضربة الرجل يجب أن تكون مماثلة والموسيقى. فأجابت الأميرة: أخطأت لك الحق.

قال: الآن قد أجدت الخطوة. هذه هي المشية الامريكية كما يسمونها. وهنا وقفت الموسيقى عن الصياح. قال الأمير: الحمد لله. هيا بنا إذن إلى الحديقة. قالت العروس: أتحب أن نذهب؟ فأجاب الفتى: أظن ذلك فنحن مكرهون بحكم الرسميات على الذهاب. قالت الفتاة: إذن فدعنا نذهب. قال الأمير: إننا نستطيع هناك أن نخلو إلى حديث طويل. قالت العروس: إذن هلم بنا فلما بلغا الحديقة وجدا عندها رجلاً وسيدة من المدعوين، فلما شهدا العروسين انحنيا انحناءة بأدب، وانطلقا مبتعدين وهنا جلست العروس في مقعد طويل وراحت تقر عينيها عليه. وبدأت الأميرة بالحديث. قالت: بخت سيء. كم عمرك؟ قال - اثنان وعشرون قالت_وأنا في التاسعة عشر. قال_ونحن مكرهان على أن يزوج بعضنا بعضاً. سواء أردنا أم لم نرد. فنظرت إليه نظرة سريعة وقالت: إذن لا تريد أن تتزوج بي. فأجاب - أنني أريد أن أشرح لك أمري ولكن يلوح لي أنك مدركة الغرض نعم. لا أريد. قالت: هل تحب أحداً؟ قال: نعم. عشيقتي الحرية. قالت: متسائلة_الحرية فقط؟ فأطرق رأسه شأن التلميذ في المدرسة عندما يكره على الاعتراف بذنبه. قال: بل لقد أحببت منذ كنت في الربيع السادس عشر، فهل تحبين أن تسمعي قصة حبي. فأجابت نعم قال - اتفق أنني مرضت ذات يوم فنصح لي الأطباء بالنقلة إلى الريف أمضي فيه صيفاً كاملاً فسافرت أنا ومعلمي فقط ولم يكن في خدمتنا إلا خادمان وبضعة وصائف وساسة

خيل وطاهيان، وكانت سفرة غاية في البساطة، لا زهو فيها. ولا أبهة. ولا إمارة. فوقع لي إذ ذاك أول بوادر الحب. قالت الأميرة_وكبف كان ذلك. قال الأمير_نزلنا بضيعة بعيدة عن مدائن الحضارة. وكان هناك دجول يجري في الحديقة منسربا في منافسها متلألي. الصفحة. بالله لقد كان مصطافاً يانعم ذاك المصطاف. وكنت أتلقى الدرس في الصباح ساعة أو ساعتين ثم أقضي بقية النهار طائفاً الغابة متجولا في الأجمة تارة طالباً صيدا - وطوراً مطالعاً في كتاب على حافة النهي. وكان معلمي وهو رجل إنكليزي بل لعله اسكوتلندي يدعى مستر جرين لا يفارقني في تلك الطوفات، ولعل ذلك كان من تعليمات شديدة، تلقاها من الملك أبي وكان رجلاً أعمى أصم في انفاذ الأوامر. نعم لقد كان رجلً طيباً وكنت أحبه، ولكن كان يحدوني الشوق دائماً إلى أن أكون وحيداً منطلقاً إلى حيث أنطلق وحدي دون صحبته. فأطرقت الفتاة قائلة: أعرف ذلك فعاد الفتى إلى قصته فقال: ووجدت بعد مدة أنه ولوع بالاغفاء بعد الظهيرة فأردت أن أنتهز إغفائه فرصة للنزهة وحدي ولكنه جعل يتألم ويرغي ويزيد عند رجوعي على أنني لم ألبث أن جعلته يرى ذلك مني صابراً لا لائماً ولا عاتباً ففي ذات يوم أجمعت النية على نزهة بعيدة على مسافة أميال خمسة من الضيعة وكان الجو جميلاً والنسيم سجسجاً فلم أشعر بتعب المسير حتى بلغت جدولاً ذا خرير ونغم جميل فلما أشرفت على عدوته ألقيت ببصري فيما حولي من الأشجار وفارع السرح فوجدت هناك بين الدوح. . . . . فأكملت الأميرة قوله فقلت: فتاة: أليس كذلك. فأجاب. أجل. فتاة. فكيف عرفت ذلك، قالت العروس، لا بد أن يكون كذلك. ثم ماذا قال: وكانت جالسة القرفصاء. أمام ذلك الجدول تغسل ثوباً لها، تلقيه في الموج ثم ترفعه وكان الثوب الذي تغسله ولا ريب قميصها، لأنها كانت عارية الذراعين ليس على بدنها إلا غلالة رقيقة وحل عنقها شبيكة مما تلبسه القرويات، وكانت صغيرة الدن قليلة اللحم بالنسبة إلى سنها، وكانت في الربع الرابع عشر، ولها جدائل صفر كالذهب، مرسلة على ظهرها

مطلقة، أما وجهها، كلا. كلا. إنني غير مستطيع أن أصف تلك المحاسن، لقد كانت كلها جمالاً حياً حتى إنني لم أشعر كيف اجترأت فمسيت حتى جلست بجانبها فوق العشب - قالت: يالله، من أنت؟ قلت: أنا لست إنساناً مذكوراً، بل وجدتني بحاجة إلى إنسان أحادثه فجئت وجلست. قالت: ماذا أحدثك عنه؟ إنني أغسل ثوبي كما ترى. فاستأذنها في المكث بجانبها لأرقب كيف تغسل ثوبها فأذنت لي ولا أذكر فيم جعلنا نتكلم وإنما كل ما أذكر أنني علمت منها أن لها خالاً يحرث أرضاً قريبة وقد علاني الخجل عندما سألتني عن صناعتي ولم أجد ما أجيب غير أنني لا أعرف إلا الكتب وكانت في حياتها لا ترى للرجال ولا للفتيان عملاً إلا الكدح بأيدهم لاكتساب خبزهم. وهنا أشعل الأمير لفافة تبغ ورمى بعود الثقاب مشتعلاً على الأرض ومضى يقول: وكنت أرى انها على حق. وقالت الأميرة ثم ماذا قال: ثم علقت الثوب الأزرق فوق غصن شجرة ومكثنا ننتظر أن يجف على حرارة الشمس فسألتني على اسمي فأجبته: برنس: فضحكت للاسم فرأيت ثم أسنان صغيرة بيضاء كالعاج ولا اعلم كيف قلت لها أنني أحبها واضطررت إلى زيادة الشرح ولكنها لم تفهم. قالت الأميرة: وكيف شرحت ذلك قال الأمير بقبلة فراحت العروس تسأله. وعند ذلك فهمت أليس كذلك؟ قال أجل فقالت الأميرة: وماذا كان بعد ذلك؟ فعاد البرنس يقول: وقلت لها أنني غير تاركها وأمسكت بيدها وأمسكت براحتي حتى هجمت جيوش الظلام ولا أذكر الآن الكلمات التي دارت بيننا وإنما لا أزال أذكر أنني أنبأتها أنني سأرى خالها اليوم التالي وأطلب إليه عملاً في حقله وكنت أشعر إذ ذاك بسعادة لا توصف أما العقل فقد عاد في طي تلك السعادة ونمت تلك الليلة مختبئاً في مخزن التبن

في بيتها فلما هدأت الرجل فيدارهم تسللت في جنح الظلام فجاءت إلي ولبثنا ساعات نتهامس والفيران حولنا تجري هاربة وقد اجتمعت نيتنا على أن أكون زوجاً وتكون هي زوجتي فلما طلع الصبح جاءت تحمل لبناً وبيضاً وقبلتني ووقفت تنظر إلي ولكن لم نلبث أن سمعنا صوت خالها في فناء الدار ممتزجاً بصوت معلمي مسترجرين وكانت الأصوات حادة كأنما كانا في غضب ومناقشة حارة. وسمعت معلمي يقول لصاحبه وهو يحاوره لا بد أن يكون هنا لقد دلنا كلبه على هذا المكان. وفي الحال أبصرت بالكلب قد وثب فكان على مقربة منا وجعل ينبح نباحاً طويلاً وصاح المستر جرين لقد كنت واثقاً من ذلك وصعد يريد مكمنناً ولكن خال الفتاة كان أسبق إليه وهو يقول: إذا لم تصدقني فسنجد المكان خالياً. ولكنهما وجدانا مشتبكين متعانقين تحت ظل تعريشة في الركن. قال معلمي ببرود: ما شاء الله ودنا خالها مني فألقي يده على كتفي كأنها من حديد وقال أيها الكلب الصغير سأعلمك كيف تختبئ مع العذارى الساذجات ورفع عصاه يريد أن يهوي بها على رأسي. فصاح به مستر جرين مستوقفاً وألقى في ذاته بضع كلمات فتراجع فتراجع الرجل مذعوراً وقال: ماذا تقول: الأمير. . . وجعل يكررها وقد رفع قبعته عن رأسه وقال للفتاة وصوته يرعش رعباً ودهشة أيتها الحمقاء حيي التحية الملوكية. وإذ ذاك رأيت الفتاة ترفع مئزرها وفي عينيها نظرة ذهول كأنما لم تدرك شيئاً وأدت التحية. وقال المستر جرين تفضل يا صاحب السمو فمشيت في أثره وخرجنا من البيت. وهنا قالت الأميرة: ثم لم ترها بعد ذلك اليوم. قال الأمير بل إنني لأراها كلما أردت. ليس عليَّ الآن إلا أن أغلق عيني فأراها ولا ريب في أنها أصبحت الآن فتاة جميلة ولكن قدر علي أن لا أكون رجلاً. وهنا التفتت العروس وقد شعر بالدهشة من جرأته على قول ما قال. وراح مستطرداً يقول.

لم يعرف أحد هذه القصة إلا أنت فقط. ولم يفه معلمي بكلمة عنها. أنني متخيل إليًَّ أنه لم يكن ينبغي أن أخبرك بهذه القصة. فأجابت الأميرة. يلوح لي ذلك. إلا إذا. . . وأمسكت عن الكلام. فقال الأمير إلا ماذا؟ قالت: إلا إذا سمحت لي أن أخبرك بسري كذلك. . قال ايفولت - ليس أبدع من ذلك تكلمي. فبدأت الفتاة حديثها. فقالت - لقد كان أشجع رجل رأيته في حياتي. قال - عمن تتكلمين قالت عنه. . فأجاب. آه. لقد فهمت. ثم ماذا. قالت - رأيته لأول مرة وهو يروض جواداً من خيل أبي المعدَة للسباق لقد كان الجواد شكا شامسا جموحاً وقد وقف على ساقيه المؤخرتين وساقاه الأخريان في الهواء. وكانت عيناه حمراوين وأنفه قانياً. قال البرنس وكان قد عمي عنه الغرض. تمهلي لحظة عمن تتكلمين الآن. قالت الفتاة عن الحصان وقد علاه وامتطى صهوته وجعل يبتسم وقد وقفت أرقبه عند باب الاسطبل - وأنا في اشد الخوف ولبث القتال بين الجواد وبين الرجل مدة وكان هو المنتصر على الحيوان، إذ ترجل عنه وأمسك بعنانه ومشى به إلى سائس هناك فأسلمه زمامه. ثم دنا مني فقدمت يدي أصافحه ورحت أقول. إنني لا أعرف من أنت ولكني أراك أروع رجل رأيته في حياتي. . وهنا سألها الأمير. متى وقع هذا؟ فأجابت الأميرة منذ ثلاث سنين قال أيفولت - انهي الحديث. قالت - فابتسم وقال أتظنين ذلك يا آنسة. . . وسألته عما إذا كان يعرفني فهز رأسه نفياً فخلعت عليه جميع؟؟؟ وقلت له: أتخاف من ذلك قال لست أخاف شيئاً. قال الأمير مضطرباً مندهشاً - ومن هو ذلك الرجل؟ قالت الأميرة: سائس في الاسطبل. وأخطر رجل رأيته. ولعل اكبر ما أجللت منه إنه كان

لا يحفل أكنت مليكة أم صعلوكة متكففة. وإنما كان يبتسم ويطرق برأسه ولقد خلتني سأذهب إليه فأرمي بنفسي عند قدميه صاغرة مذعنة له. قال الأمير - كلا. لم أفعل. لقد كنت لا أزال تياهة العطف. بل كنت أريد أن يعترف بي. أردت أن أملكه وأهزمه. فقلت له أخشى أن تكون خائفاً مني. ورحت أنظر إلى عينيه فأخرج القش من فمه ونظر حوله كأنما أراد أن يستوثق مما حوله وقال: هل إذا قبلتك ترفضينيي. قلت لك أن تفعل، ولكن لا ينبغي أن يكون هنا. لنتواعد الليلة إلى الغابة في منتصف العاشرة. إذا كان لديك شيء من الشجاعة. فقال. إني فاعل ذلك. وانطلقت خافقة الفؤاد. قال الأمير: وهل توافيما إلى الموعد المضروب. قالت الأميرة - لقد حاولت ولكني لم أنجح. فقد تعقبتني سيدة من وصائف والدتي الملكة، وجاءت إلى حيث كنا واقفين، وهو يهم بتقبيل يدي وكذلك لم يقبلني الرجل الذي كنت أحب. ولن يستطيع ذلك. قال الأمير. وهل علم أحد بأمركما فاجابت - نعم. لقد علم أبي وكان أمراً شنيعاً. لقد طردوه. لقد طردوه قال الأمير: ولم تنظريه بعد ذلك اليوم؟ قالت الأميرة كلا. بل لقد علمت بعد ذلك أين يسكن ولكني لم أتمكن من لقائه: وها نحن غريبان يراد بنا أن نكون زوجين. أي ايفولت انه لا يشعر أحدنا نحو الآخر بعاطفة الحب: أليس كذلك. تكلم. قال الأمير. هذا ما أتبينه الآن. قالت - إنني لا أريد أن أكون ملكة وأنت لا تود أن تكون ملكاً فقال الأمير بحدة البتة فعادت تقول. وإنما نريد أن نكون ناساً عاديين كخلق الله قال. هذا ما نبغي. قالت_وماذا يمنعنا أن نكون كذلك

فنظر إليها متحيراً وقال. الحكومة والدولة. قالت الأميرة وقد أدنت مقعدها منه قليلاً. استمع إلي. . . . وراحت تصب في مسمعيه كلمات في همس ورفق. وجعل هو يطرق أولا برأسه علامة الشك ثم لم يلبث أن لمع ذلك البريق في عينيه. وما كادت تتم همسها حتى أخذ يدها متأثراً وقال. إنك لفتاة قوية الإرادة. شهمة جريئة. وإذ ذاك كان الملك مقبلاً نحوها. وأقبل الملك فجلس يقعد ومضى يقول. . . . أرى أن تتكلم كلمة او كلمتين في برنامج حفل الغد. فتردد الأمير ونظر إلى العروس ليسألها نجدته واسعافه على القول ثم عاد يقول إن الأميرة تشعر بالتعب. ونرى أن الأفضل أن نلغي حفلة الغد إذا كان ذلك ميسوراً. قال الملك. ونقصر همنا على مرقص الليلة. ليكن ذلك. فأجاب الأمير، أخشى أن يكون المرقص متعب لنا. إذ سنضطر إلى التسليم على ألفي إنسان وتخلق عند التحية لكل إنسان كلمة أو كلمتين تناسبان المقام. وإذ ذاك نهض فقدم ذراعه للملكة العروس. ورأى الشيخ ذلك منهما فقال في صوت رقيق يحدث نفسه. انه لفتى طيب جميل ولكن يميل إلى ترك فروع شعره متدلية على أذنيه. * * * في الساعة الرابعة من السحر. وقد هدأت الرجل في القصر. وقام أهلوه. كان الأمير أيفولت يمشي على أطراف أصابعه متسللاً في ردهة القصر حتى وقف باب الأميرة فلم يكد يمكث بالباب لحظة حتى فتح الباب وطلعت الفتاة من خدرها مشتملة بمعطف طويل وقد غطت رأسها بقبعة من الفرو وتقنعت بقناع كثيف فاشتبكت أيديهما في الظلام اشتباكة تأثر وعزيمة غريبة فمشيا حتى بلغا نافذة صغيرة تشرف على حديقة القصر والأرض منها تبعد بنحو أقدام قلائل. قال إيفولت إنها لمخاطرة كبيرة ولكننا إذا حاولنا الخروج من أبواب القصر اعترضنا الحراس والحفاظ ولا بد لهم من السؤال فنظرت الأميرة من النافذة وقالت اغمض عينيك إذا كنت تشعر بالاضطراب.

فلم تكد تمضي لحظة حتى وثب من النافذة. فإذا هو في أرض الحديقة واقفاً. قالت الأميرة. هل أثب؟ قال_نعم ووثبت. . . . . وجعلا يمشيان حتى بلغا سوراً غير متعال فقال الأمير: ليس لنا سبيل إلى الخروج إلا بالوثوب على هذا السور خمسة أقدام. قالت الأميرة. مستضحكة. ومن ذا الذي لا يلبث خمسة أقدام في سبيل الحرية!. قال الأمير إنك لمدهشة. قلت - هلم فقال هلمي ووثب وطفرت بعده فتلقاها إيفولت باليمين. والتقيا خارج السور وأحسا قلبيهما ينبضان أشد النبض. قال. لا تبعد السيارة عنا إلا مسافة دقيقتين! فانطلقا يعدوان حتى بلغا السيارة فطارت بهما في جنح الظلام قال الملك الشيخ لكاتم سره صبيحة اليوم التالي، أرجو أن تبلغ تهنئتي للأمير وتقول له أنني أريد أن أراه. فمضى كاتم السر ولكنه لم يلبث أن عاد وهو يقول. أي صاحب الجلالة إن الأمير غير موجود في القصر كله. فرفع الملك رأسه وقطب جبينه وقال. ادع لي وصيف الأمير ودعه ينتظر أمري لدى الباب. وإذ ذاك دق التليفون. وكان المتكلم الملكة فالتقط الملك السماعة في اللحظة التي خرج فيها كاتم السر من الحجرة. قالت الملكة في التليفون. لقد ذهبت الأميرة. يلوح لي أنها لا بد من أنها تركت الحجرة حوالي الساعة الرابعة فجراً وقد عثرت إحدى وصيفاتها على ساعة معصم ملقاة على

الأرض في الردهة محطمة وقد وقف عقرباها على الرابعة. قال الملك لا تنزعجي. سأكون لديك في الحال فوضع السماعة وفتح الباب وإذ ذاك دخل وصيف الأميرة فابتدره الملك قائلاً. أي الأثواب ارتدى لأمير في هذا الصباح؟ قال الرجل - لباس السيارات يا صاحب الجلالة فأمسك الملك بلحيته مفكراً ثم قال. أغلق أبواب حجرات الأمير. وصندوق هذا الحديث الذي جرى الآن. ولا تقل لأحد شيئاً. وأشاح عنه بوجهه فدق الجرس وفي الحال كان كاتم سره في حضرته. انشر في صحائف الملكة كلها خبراً مؤداه انه يخشى أن يكون الأمير وعروسه قد أصيبا بوعكة البرد وقد وصى طبيب القصر بأن يبقى العروسان في حجرتهما لا يخرجان منها حتى يتماثلا للعافية، قال كاتم السر، وماذا نصنع بالمرقص الذي سيقام يا صاحب الجلالة. قال الملك بلهجة العزيمة الصارمة سيقامن، وانطلق الملك يريد حجرة الملكة. قال: لقد هربا معاً. قالت الملكة - مبهوتة - ايقولت كذلك؟ قال: نعم - لقد ذهبا هما الاثنين. قالت. ولكن لماذا؟ فأجاب الملك - وقد سقط في مقعد متعباً - ومن أين لي أن أعلم؟ وظلت السيارة تعدو بالعروسين الهاربين حتى قطعت مائتي ميل. وإن ذاك لاحت لهما عن بعد قباب قرية ذات سوق ومتاجر. قال الأمير - بالطبع سنجد سيارة هناك للأجرة فهل تستطيعين سوق السيارات. قالت الأميرة. أي نعم. أستطيع أي شيء قال الأمير. ولكني أخشى أن يستوقفوك عند الحدود. فأجابت الفتاة. لمن أحاول اجتيازها. بل سأترك السيارة في وسط الغابة وأتسلل بين الدوح حتى أصل إلى الطريق العامة. فسألها الأمير. هل المكان بعيد. قالت الأميرة. كلا. . . . بل الاسطبلات في الناحية الأخرى من الغابة. فوقف الفتى حائراً لا يدري ماذا يقول على أنه ما؟؟؟؟؟ أن قال. ألا تشعرين بأي تردد.

قالت - كلا قال أتظنين أنه سيحسن لقاءك ويتلقك بأحسن من يتلقى حبيب حبيبا فأجابت وهي باسمة. أجل. إنه لرجل خطير إنه لآية الإبداع قال ليكن ذلك. ولعلي. موفض بالسيارة نحو سبعين ميلاً حتى أدرك المكان قالت الملكة - نعم. وأرجو أن تجدها كما تراها بعين الحلم والخيال الآن وتلقيها كعهدك آخر لقاء بها وأتمنى لك السعادة والهناء. فقال ايفولت. أتمنى ذلك وكان صوته أثر من نغمة الشك. وساد السكون بينهما برهة ومرا بالسيارة ينفذان في أرباض القرية. وأوقف الأمير المركبة بباب. . . . ورشة. . . . . الأوتومبيلات وصاح بالقوم. أريد سيارة! قال صاحب المصنع. للأجرة تريدها أم للشراء قال للأجرة فرد عليه الرجل قائلاً. ولكن ليس لدي سائق يسوقها فاجب الأمير. إن السيدة تجيد سوق السيارات قال الرجل. متردداً_نعم - ولكن فعاجله البرنس بالقول. لا حاجة إلا ولكن هذه أنني أبتاعها ابتياعاً إذ أردت قال الرجل. لا مانع لدي من بيعها ولكنها قديمة وأنا على أحسن حال. وذكر الثمن ودفع الأمير إليه به ثم قال_هي الآن على استعداد للسفر. قال الرجل وهو يعد الأوراق المالية بل ستكون كذلك في لحظات. ولم تكد تمضي لحظات قليلة حتى كانت السيارة واقفة على استعداد، وهنا مد الفتى يده إلى صاحبته. وقال. . . الآن. . . . وداعاً فمدت إليه يدها. قال مستطرداً حديثه. إنك أبدع فتاة لقيتها في حياتي. إنك لفتاة مدهشة. ولا أدري كيف تطاوعني نفسي أن أقول لك. وداعاًً. وداعاً ولكن من يدري لعلنا مجتمعان بعد الآن عندما تتزوجين به وأتزوج بها. فسنلتقي ونعيش جميعاً عيشة واحدة. فأجابت الأميرة. هو ذلك. هو ذلك. إذن فلا تدعنا نقول وداعاً حتى يقدر الله لنا اللقاء الثاني.

فعقب هو على كلامها فقال. عجل الله بذالك اللقاء ليباركك الرحمن. فقالت هي. وليباركك كذلك. فرفعها إلى السيارة بكل أدب واحترام ووقف يرقبها حتى اختفت السيارة بها عن الأنظار وإذ ذاك هز نفسه فرحاً معتزاً وقال لنفسه. الآن قد أصبحت حراً متخلصاً من قيود المجتمع. وفي لحظة عدت السيارة مطلقة للريح عجلاتها واختفى. * * * قال الملك يحادث زوجته الملكة. ما علينا إلا التعلل والصبر. قالت الملكة. ولكن لنفرض أنهما لن يعودوأ أصلاً. فأجاب الملك الشيخ. إن هناك يا عزيزتي مثلاً سائراً يقول لا تثقوا بالامراء ولكن شعاري وديدني يخالفان هذا المثلإذ أن من عادتي أن أثق بالأمراء ماعشت. ولهذا أقول لك ان الأمير ولا ريب راجع إلينا. ألا تحبين أن نخرج للنزهة. ونشرف على الشعب. قالت الملكة إذا أحببت. وانطلقا. * * * ونزل الأمير ايفولت عن السيارة وراح يمشي مخترقاً للغابة وترك الأمير الفتى السيارة وراح ينفذ في منفس الغابة وأحس أنه في اضطراب ذهني وقلق واختفت عن عينيه أشباح تلك الأحلام الجميلة التي كانت تتراءى له. ولم يعد يشعر بتلك اللذة الساحرة التي كان يتخيل أنه سيشعر بها إذا انطلق من قصر أبيه - ولم ير تلك الفتنة التي كان يظن أن ظفر بالحربة في طيات فؤاده. وكان قد مضت عليه ساعات لم يذق طعاماً. ولا غرو إذا لم يجد فيما حوله فرحة. ولم ير ابتهاجاً لأن المعدة الخالية لا تنبه في الجائع شيئاً من السرور إذا كان السرور حوله. وهناك رأى الحقول والاجم كما كان يتصورها في ذاكرته. وهناك كانت تجري من تحتها الجداول. . . . . متغنية أغانيها المائية. مترنمة للصخور التي تحف بعدوتها ولكن أين ذل ك الابتهاج الخفاق في قلب الشباب الغض الناضر الذي كان يسوقه عاري القدمين منذ سنين إلى ذلك الموضع. وأين ذاك الباعث الذي كان يثيره إلى

غشيان تلك العهود والروحات الحسناء الناعمة. وهناك من خلال طائفة من السرح المتطاول الافرع. رأى دخاناً متكاثفاً في الجو متصاعداً. تلك هي المزرعة. هناك تخيل بأنه سيراها بتلك الفروع الحمراء والعين الرانية. وجلال البساتين يحف بها ويكسو بدنها الغض اللدن الجميل. هنا تنفس طويلاً وانطلق يجد السير إلى الموضع فلما بلغه وجد عنده رجلاً جالساً لدى باب منزل هناك يدخن في قصبة طويلة له. وينظر فيما حول هـ نظرة فارغة مذهولة وهو في سكون تام. فتبينه الأمير فإذا هو خال الفتاة وإنما علته الستون وأثرت في معالم وجهه كرة الأعوام. فدنا من الأمير وحياه تحية القرويين وقال_انني ضللت الطريق وبي جوع شديد فهل لك أن تطعمني؟ فأخرج الرجل القصبة من فمه وأجاب. إذا دفعت ثمن ما تطعم. قال الفتى؟ هذا ما لا شك فيه. ومشى الرجل بالأمير فاخترقا فناء البيت حتى بلغا حجرة أشبه شيء بالمطبخ وترك الرجل الأمير وهو يقول. سأخبر ها أن تهيء لك الطعام. وانطلق من باب آخر مكث ألأمير يرتقب الطعام أمام مائدة مهشمة بالية وشعر ذاك أن يديه ترتجفان وقد جف ريقه وقد سرت في نفسه حاسة الانتظار والتلهف والخوف من أن يفسد عليه ذلك الحلم المعسول الذي كان يتخيله في صحوه ومنامه، فبعد مدة قصيرة حسبها أجيلاً وأدهاراً فتح الباب بدفعة صينية تحملها يد فتاة قروية الملامح وتقدمت فوصعت الصينية أمامه فوق المائدة وقالت هذا كل ما نستطيع أن نطعكمه، فسكت الأمير وتنفس طويلاً وراح يجيل فيها البصر. كان شعرها معقوصاً في غير نظام. مجدولا في غير نسق أو إبداع. مهملاً أشعث مغفلاً. وحاجبها مجعداً وقد بدت الغصون والمكاسر في جلدة خديها وصفحة وجهها. وكانت شفتاها. تلك الشفتان اللتان كان يتخيلها كآخر عهده بهما قطعة من الارجوا، ولهيباً. من لهب النيران. راحتا متدليتين متراخيتين في ذبول ودمامة. وعيناها. يالله لقد كانت عينين فعولين بالألباب فعل الخمر في النفس. أما الآن فقد ذهب عنهما ذلك الصفاء الذي كان أكبر

جمالها. وتولت نلك الطهارة التي كان تطل منهما. وكأنها لم تعرف ماذا تصنع بيديها ها فقد تركتهما بقذارتهما فوق بذلتها. قال الأمير. إنني لموفور الحظ إن وجدت هذا الكرم منكم. فاستضحكت ومشت تريد الباب فاستوقفها الفتى متوسلاً وهو يقول. ألا تتحملين المكث بجانبي ريثما أنتهي من الطعام. فأجابت. لا. لا أستطيع قال الفتى معيداً الرجاء. ولكن تلك منة كبرى تصنعينها لي. فنظرت إليه نظرة حادة وضحكت ضحكة بغاء وقالت. نعم إنها لمنة وصنيع كبير. ولم تشمئز نفس الفتى أشد مما اشمأزت من تلك النظرة المتكلفة. ومن علمها بحقيقته وتجاهلها له. وذلك المظهر الخداع الذي ظهرت به. فانحنى على الرغيف الذي أمامه وراح يقضم قطعة الجبن التي قدمت له وشاح بصره عنها. فلما رفعه بعد فترة رآها قد وقفت بجانب الحائط وهي تنظر إليه نظرات خبيثة ماكرة شهوانية. قال الأمير. إنك لتذكرينني بفتاة عرفتها منذ دهر بعيد فهل تحزرين من تكون تلك الفتاة. فلم تجب وأعاد الأمير السؤال. لقد كانت فتاة أحبها وأهيم بذلك الحب. فانطلقت الفتاة في نوبة من الضحكات العصبية وأطالت بوجهها وقالت - إنك لفظيع. . . . وفي تلك اللحظة. وما كادت هذه الكلمات تخرج من فم الفتاة حتى تولى الأمير اشمئزاز شديد فأخرج قطعاً فضية من النقود وطرحها على المائدة ورفع قبعته إلى رأسه وفر من البيت عاديا. وسمع وراءه صوت الشيخ يصيح به. . . أنت يا هذا هل دفعت ثمن ما طعمت!. فأجابه بايماءة الايجاب ومضى نافذاً في الحقول. ومضت ساعة وهو يمشي لا يلوي على شيء. ثم وقف تحت ظل سرحة عظيمة هناك مفكراً سارحاً في بيداء الفكر وما عنم أن قال لنفسه إذ ذاك. ولكن لا تزال لي ذلك حريتي، وكأنما سمع إذ ذاك كل ما حوله يصيح به صيحة هازئة ساخرة قائلة. كلا. كلا أين حريتك يا أبله.

فجلس ثمت وأخفى عينيه في راحتيه وراح يئن ويبكي ويقول لنفسه. . لقد طرحت كل شيء. لقد نبذت الواجب. ورميت الشرف. وبذلت كل شيء ضحية وفدى ولن أستطيع بعد ما أصبحت هزؤة وسخرية في أعين الشعب والأمة أن أحاول رجوعاً إلى القصر. وأخرج ساعة ونظر فيها فإذا الساعة الثالثة وعلم أنه يبعد عن العاصمة بمائتين وخمسين ميلاً وسيفتح المقصف والمرقص في الساعة التاسعة. ورأى أنه لو قطع أربعين من الأميال في الساعة - استطاع أن يكون على أبواب القصر في ذلك الميعاد، فلم تكد تجول في نفسه الخواطر حتى نهض واثباً من مجلسه. وعدا يجري بحمية هائلة إلى الوادي، ولكنه ما عتم أن فكر في ألأميرة فوقف في مكانه وتصور أنه قد يصل فلا يراها. وتقع إذ ذاك الفضيحة ولكن شعبه وواجبه نحو شعبه وأمته. وجعل يقول لنفسه أنهم على مر الزمن سينسون نبأ الأميرة التي هربت. وسيتزوج أميرة أخرى غيرها. ثم أبواه. أبواه. الملك الشيخ والملكة فصاح بنفسه. ما كان أحمقني وأضلني. كيف قبلت ذلك وكيف رضيت لها أيضاً أن تفعل ذلك. ووجد نفسه بعد هذا يجري مطلقاً للريح ساقيه. واثباً لجداول الصغيرة عادياً فوق مياهاهها الضاحكة. متخطياً الجذوع المحطمة - وفروع الشجر المتساقطة. أما الأميرة الفتاه فبلغت الاسطبلات وقد دقت الساعة واحدة وأرت عندها غلاماً يملأ وعاء من بئر هناك فنادته وسألته على رجلها المنشود فأجب الصبي أنه يعرف مكانه وانطلق يعدو ليناديه وفي الحال أقبل الرجل يمشي وراء الغلام فلما أشرف عليها تولاها شيء من الرعب إذ لاح الرجل في عينها كأنه مخيف الطلعة عن كثب وأشار الغلام بأنملته صوب الفتاة والتقط وعاءه ومضى منصرفاً وتقدم الرجل فإذا وجهه أحمر مجعد قذر. قالت الفتاة تخاطبه. آه. هاأنت قد جئت. . فرد الرجل قائلاً. . . هل من خدمة يا آنسة؟. فاجابت - ألا تعرفني. . . فهز رأسه وكشفت هي اللئام عن وجهها فنظر وحدق البصر للحال أجفل وتراجع. قالت. . ما رأيك الآن. فلعق شفتيه مضطرباً وقال متلعثماً ماذا تريدين يا صاحبة السمو.

فعجبت الفتاة وقالت. هل أخفتك. ولم الخوف. لقد قطعت كل هذه الشقة لكي. . . فقاطعها الرجل بقوله. حسبك يا مولاتي. لا تنبئيني بذلك أتوسل إليك. لا تنبئيني. لقد تكون منك دعاية وأمراً بسيطاً للغاية ولكنه عندي أمر عظيم وخطب كبير. . قالت الأميرة. بل هو عندي كذلك. أنني أجد ولا أمزح. فهز رأسه هزة أخرى وقال بسرعة. لقد كنت أحمق مغفلاً. لقد سلكت مسالك الحمقى الأغرار ولكني اعتبرت بالدرس الذي تعلمت فلا ينبغي للإنسان أن يتعالى إلى مصاف الذين هم فوق مرتبته. فنظرت إليه الأميرة مندهشة ومضى هو يقول. نعم. لقد اعتبرت يوم طردوني فكدحت في ذلك العهد ورأيت المرين في الغيش. . . . وقد كلفتني تلك الدقائق الثلاث من عمري أعواناً ثلاثة. ولا نفع الآن في ذلك ولا فائدة. فإن علي مسئولية كبرى اليوم. ولا علم لم جئت الآن وأي باعث ساقك إلي. فهلا أسديت إلي يا صاحبة السمو يا مولاتي الأميرة. أكبر الصنيع. بذهابك فإنني أخشى وأفرق من مقدمك. فصمتت الأميرة هنيهة ثم قالت وهي تعيد اللئام إلى وجهها. . . أي مسئولية تعني؟ قال الرجل. أجل مولاتي. إنني الآن رجل متزوج ثم. . . . . فوجمت الأميرة وانبرت تقول. أعرف ذلك ولكني لا أدري باعث اضطرابك. إنني إنما جئت لأهنك بالزواج. . . . وتولت عنه دون كلام وانطلقت. فلما ابتعدت راحت تبكي قائلة لنفسها. كان ينبغي أن لا يدعني أحضر. أين أذهب الآن. لا أستطيع العودة إلى القصر. أين الذهاب. أين الذهاب. أين الذهاب. وأنت أيها القارئ تعلم أن المشكلة التي تشغل ذهن الرجل منا ساعات طوالاً في سبيل حلها والتخلص منها لا تأخذ في ذهن المرأة أطول من دقائق قلائل ولحظات ولهذا لم تلبث الفتاة أن نفذت من العوسج فبلغت سيارتها التي تركنها على الطريق وفي لحظات كانت تنهب الأرض بها نهباً تريد العاصمة. * * * وما كادت تدق الرابعة حتى كان إيفولت قد أدرك القرية التي ودع عندها الأميرة وجعل الناس يفرون من طريق سيارته على اليمين وعلى الشمال عزين. والسيارة منطلقة تطوي

الطريق طياً. وقد جعل لفتى يقول لنفسه. الآن. ليبس شيء أمامي سأصل في الموعد المضروب للمرقص. ولكن هناك على مسافة غير بعيدة منه كانت الأميرة كذلك تسير بمركبتها بسرعة هائلة. وما عتمت الشمس أن اختفت وراء الجبال وعم الظلام الأرض فقالت الفتاة لنفسها. لا أستطيع نظراً في هذه الظلمة ولكن لم يبق علي إلا ستون ميلاً. وهي ليست بالمسافة الكبرى وينبغي أن لا أحدث بغيابي فضيحة ما. وانطلقت ولكن لم يلبث أن وقفت السيارة وقد تحطمت عجلاتها الأمامية فأرادت أن تعالج دفع السيارة فمضت العجلة حتى سقطت في حفرة صغيرة على جانب الطريق. فتولى الأميرة البأس وجلست في مقعد السيارة تبكي وتنتحب وحجبها الظلام بستارة واختفت دموعها في حلكته وللحال اخترق الجو صوت مهمهم أشبه شيء بصةت سيارة تعدو الأرض وجعل الصوت يزداد ويعلو فصرخت. . . . هذه سيارة!. . فنهضت من مجلسها ورفعت ذراعيها وقد دنت المركبة قليلاً وإذ ذاك تبينت السيارة فصاخت لنفسها هذا ايفولت. هذا ايفولت!. ولكن الأمير لم ير إلا لمحة من شبح الظلام وظل سيارة مرتطمة في الحفرة فانفلت سريعاً في الطريق وانطلق بآخر سرعة العجلة إذ كان يريد أن يبلغ القصر على جناح البرق. ولم يحتاج الأمر إلى الوقوف إلى إنقاذ هذا الراكب وسيارته المحطمة. فوقفت الأميرة وهي في أشد حالات البأس لا تدري ماذا تصنع. وإذ ذاك مر رجل على دراجة بخارية موتوسيكل وهو ينهب الأرض نهباً حتى كاد يصطدم بها ويدهمها وهي واقفة على الطريق مذهولة اللب، وكان اجتناب لاصطدام بها ليس في مكنته فأخذها في طريقه وجعلت تتحرج أمام الدراجة حتى استطاع أن يوقفها. ونزل الرجل وقد تولاه الجزع وقال للفتاة - وهو ينهضها من سقطها. . . . لم يكن ينبغي أن تقفي في وسط الطريق والظلام حالك. هل جرحت؟ ولكن الأميرة لم تحفل بألم العثرة إذ رأت وسيلة الخلاص قد تمهدت لها. وعاجلته بقولها. كلا. لم يصبني شيء. بل أريد أن أبلغ العاصمة. أنك ستأخذني إلى العاصمة فهز الرجل رأسه وقال. آسف يا آنسة. فإنني على رهان اليوم، وقد كدت أكسب مائة جنيه فإذا أخذتك فأنا ولا ريب خاسرها.

فقالت الأميرة وهي مصرة. ولكنك ستأخذني إليها. . يجب أن تفعل. يجب أن تفعل. قال الرجل ببرود. . لا أرى سبباً موجباً على ذلك فتلك صفقة طيبة وأنا رجل أعيش من أمثال هذه المراهنات. . فقالت الأميرة. أنا السبب الذي يوجب عليك ذلك. . . ألا تنظر إليّ لتعرف من أكون؟. وحسرت قناعها ووقفت أمام مصباح دراجتة فما كاد الرجل يبصر وجهها حتى تلعثم واضطرب وصاح. يا إله السموات. ولكن ماذا جاء بك إلى هذا المكان يا صاحبة السمو. قالت الفتاة. أعرف أنني كنت فيما ارتكبته حمقاء. . طائشة. لقدر أردت فراراً والآن أريد عوداً مسرعاً. وها أنت رجل مهذب وعليك أن تعينني على بلوغ العاصمة. قال الرجل. لست رجلاً مهذباً يا مولاتي. وإنما أنا صانع عادي لا أقل ولا أكثر ولكني فاعل ذلك دون سؤال. هلمي واصعدي ورائي. وواصلت الفتاة الملوكية مسيرها خلف الرجل ورديفة فوق العجلة وقد أمسكت بذراعيه وطوقت خصره بيديها. * * * وكانت قاعة الاستقبال في القصر في الموعد المضروب وخاصة بالاضياف والمدعوين وعلا القوم الدهشة إذ رأوا الأمير ايفولت يدخل القاعة وحده بلا عروسه. ولم تظهر على الملكة والملك علائم الدهشة إذ دنا فتاهما منهما وانحنى انحاءة الملوك للملوك ولكن الملك الشيخ همس له في أذنه - لقد قطعت المسافة بنجاح تام. ولكن أين الأميرة؟ فهز ايفولت رأسه وقال. إنها لن تعود. فنظر الملك إلى الملكة وألقت هي ببصرها إليه. قال إيفولت هل أنبئ المدعوين؟. قال الملك نعم. ولكن برفق. لنقل إن الأميرة لم يرق له المقام في أرضنا الجديدة. فأرسل الأمير نفساً صاعداً وبدأ خطبته فقال: سيداتي. سادتي! وللحل انفتح الباب وبدت الأميرة في ثوب أبيض فضفاض مزركش وهي تقول. هل تأخرت، وأردفت كلمتها المتواضعة الظريفة بابتسامة ملكت بها قلوب الحاضرين. . . . .

* * * ووجد الأمير نفسه في خلوة وعروسه بعد ساعات فهمس لها في أذنها. . . لن نعود إلى الفرار من بعضنا بعد اليوم. . . . .

الحاوى

الحاوى كل قارئ. ولا ريب يعرف الحلوى. ولطالما أعجبته أما به يوم كان طفلاً. ولطالما استوقفته الزحمة التي حوله وهو راجع من (الكتّاب) يجمل اللوح تحت ابطه وألهته الألعاب التي كان يشاهدها من الحلوى عند العودة إلى المنزل حتى أشفق أهله من غيابه. فأرسلوا في أثره المنادي ينادي يا عدوي. هذا ولا ريب أمر معلوم لأطفال الدنيا الكبار منهم والصغار وقد اخترنا هذا العنوان لباب من أبواب البيان يفتح على طائفة كبيرة من الفكاهات الفلسفية والمقالات المفرحة المبهجة والخواطر المليحة النادرة إذ تجتمع الحكمة والفكاهة في إطار واحد. وقد آثرنا أن نفتح هذا الباب بنشر المقالات عدة لكاتب من كبار كتاب الغرب يعد في الصفوف الأولى من الفلاسفة المضحكين. والكتاب المتهكمين. بما انما زعن الكتاب الآخرين، براعة أسلوب. ولطف منحى، وسعة روح، وتهكم حلو في حدود الحق. وهو الكاتب المشهور، المستر شسترتون. وهو من الكتاب المعاصرين ألحياء. ويعد من كتاب الطبقة الأولى. سر النجاح في عصرنا هذا ظهر نوع خاص من الكتب والمقالات أشهد حقاً لا حانثاً ولا كاذباً أنها أسخف ما اخرج الناس في الدنيا كلها. فهي أكثر غرابة من اغرب روايات الحب والفروسية وأثقل ظلاً من الكتب الدينية وفضلاً عن ذلك فإن روايات الحب والفروسية هي كتب تدور حول الحب والفروسية. والكتب الدينية هي عن الدين ولكن هذه الكتب التي أتكلم عنها هي عن لا شيء أو هي عما يسمونه النجاح ففي جميع رفوف المكاتب. وفي كل مجلة ترى أيها القارئ كتباً ومصنفات وأبحاثاً تبين للناس سبيل النجاح. وتبصرهم وترشدهم كيف ينجحون في الدنيا ويفوزون وهذه المصنفات والكتب وضعها كتاب ومؤلفون لم ينجحوا في أي شيء في الدنيا حتى ولا في كتابة الكتب. لأنه قبل كل شيء يجب أن تعرف أيها القارئ. أنه بالطبع لا يوجد بالعالم شيء كهذا يسمى النجاح أو إن شئت تعبيراً آخر فاعلم أن لا شيء في العالم إلا وهو ناجح. وأن تقول عن شيء أنه ناجح لا تزيد شيئاً عليه. فالناجح ناجح. والمليونير الناجح أي صاحب الملايين الناجح ناجح في

انه مليونير. والحمار الناجح ناجح في انه حمار. والإنسان الحي قد نجح في انه عائش والميت كان يكون ناجحاً لو أنه انتحر. إن هؤلاء الناس يريدون بكتبهم تلك أن يقولوا للإنسان العادي عن الطريقة التي يستطيع بها أن يبلغ النجاح في صناعته أو حرفته أو آماله أو أطماعه وكيف ينجح في العمارات والبناية إذا كان بناء أو (معمارياً) وفي السمسرة إذا كان سمساراً ويريدون بمؤلفاتهم هذه أن يشرحوا للصحافي (الترسو) و (الجيونالجي) الغلبان، كيف يصير في الصف الأول من أصحاب الصحف الكبرى. أو كيف يصبح عضواً في الجمعية التشريعية ويبينوا لليهودي الألماني كيف يصبر (من الأنكليز السكسون) وهذا بالحق مشروع لطيف، هذه شغلة تجارية جميلة. وأفتكر أن للناس الذين يشترون تلك الكتب إن كانت ثمت احد يبتاع كتباً مثل هذه حقاً أبيا - إن لم يكن حقاً قانونيا - في طلب فلوسهم واستراد أثمان تلك الكتب، إذ لا يجترئ مخلوق في الدنيا أن ينشر على الناس كتاباً في (الكهرباء) لم يحو شيئاً البتة عن الكهرباء، ولا يجسر إنسان على نشر مقال في علم النباتات يدل على أن الكاتب لا يعرف إذا كانت (الفجلة) تختفي في الأرض أو تظهر قبل الذيل على الأرض. ومع ذلك لا تزال دنيانا الحاضرة مخنوقة بالكتب الدائرة حول النجاح والناجحين. وهي لا تحتوي أية فكرة على الإطلاق ولا معنى لها ولا قيمة. ومما لا شك فيه أن لا توجد في كل صناعة شريفة كضرب الطوب أو كتابة الكتب إلا وسيلتان للنجاح، إما أن يؤدي صاحب الصنعة عملاً جيداً وإما أن يغش، وكلا الوسيلتين من السهولة والبساطة بحيث لا حاجة إلى شرح أو تفسير. فإذا كنت حاذقاً في الوثب العالي في الألعاب الرياضية فإما أن تثب أعلى من أي واثب آخر، إما أن تحال على الإدعاء بأنك وثبت كذلك. وإذا أردت النجاح في لعبة الويست - الميسر - فإما أن تكون من مهرة اللاعبين إما أن تغش الورق وتلعب بأوراق معلمة أو منقطة وأنا لا أنكر أنك قد تحتاج إلى كتاب ف يطرق الوثب والنط أو قد تحتاج إلى كتاب في النجاح كتلك الكتب التي تراها اليوم منثورة بالمئات في الكتبية وسوق الكتب، نعم قد تريد الوثب أو تطلب اللعب بالورق ولكنك لا تحتاج إلى قراءة صفحات عديدة لا تخرج منها إلا بأن بالوثب وثب والقفز قفز وأن الألعاب يكسبها الناجحون، على أنه لو أراد هؤلاء الكتاب أن يقولوا شيئاً ذا معنى في

موضوع الوثب والنجاح فيه. ينبغي للواثب أن يضع غرضاً معيناً معيناً نصب عينيه ويجب أن تكون رغبته موجهة بكليتها إلى الوثب أعلى من المبارين والمتسابقين جميعاً. ويجب أن لا يدع لأية عاطفة من عواطف الشقفة سبيلاً إلى منعه من بذل قصارى جهده بل لا يجب أن لا يبرح عن باله أن المباراة في الوثب هي مباراة. . . بحق وحقيق. وإن الضعفاء، كما قال دارون، يجب أن يتلهوا، على أعينهم فلو كان كاتباً منهم كتب هذه كلها أو بعضها لكان منه خير ولكانت منه فائدة لو قرئ على فتى يانع قبل أن يدخل في مسابقة الوثب العالي أو لو وضع هذا الكاتب واشباهه مؤلفاً في لعب الورق فأولى به أن يقول في تأليفه. . . لا بد في لعب الورق من الحذر في الوقوع في الخطر الشائع بين الإنسانيين والكماليين من اهل الدنيا والقائلين بحرية التجارة. وهو أن تسمح لمزاحمك وقرتك في المباراة بأن يكسب الرهان. بل ينبغي أن تضع كل همك في الفوز فإن أيام المذاهب الكمالية والتسامح والعواطف قد زالت ودالت ولتها. واننا نعيش في عصر العلم، وعصر العقل وإذا لم يكسب أحد القرنين السباق. فسيكسبه من غير كلام قرنه الآخر. كان كل هذا يكون صالحاً لو عمد إليه كتاب. . . النجاح. ولكنني اعترف بأنني إذا أحببت اللعب فإنني أفضل على كل هذا كتاباً صغيراًً يشرح لي قواعد اللعب وطرقه. وبعد القواعد والطرق لا أريد شيئاً. فإن الموضوع بقى بعد ذلك موضوع ذكاء أو موضوع غش، وعلي أنا أن ألجأ إلى الأول أو أختار الثاني. وقد وقعت في يدي يوماً مجلة من المجلات فوجدت مثالاً غريباً استشهد الآن به، إذ في المجلة مقال بعنوان الغريزة التي تجعل الناس أغنياء، وقد صار ذلك المقال بصورة ضخمة للورد روتشيلد، ونحن نعرف أن هناك وسائل عديدة. بين وسائل شريفة، ووسائل سافلة خادعة دنيئة، تجعل من الناس أغنياء وثراة. أما أن تكون هناك غريزة تجعل القوم أغنياء فلا نعرف فلا أعرف شيئاً عن ذلك إلا ما يسميه رجال الدين، رذيلة البخل والشح، وأنا أريد أن أختطف الشذرة الآتية من ذلك المقال الموضوع ل تفهيم الناس سبل النجاح في الحياة. . . إن اسم فندربلت (1) وكلمة ثراء لفظتان مترادفتان لمعنى واحد وهو الثراء الذي اكتسب بفضل المشاريع والأعمال الخطيرة. ولكن ذلك الرجل العظيم إنما أنشأ أول مرة نشأة

صغيرة. أعني ابن فلاح فقير فانتهى أمره بأن أصبح مليونير بل قل أكبر من مليونير بعشرين مرة وما ذلك إلا لأنه كان يملك غريزة تكثير المال وتنميته ولأنه كان ينتهز الفرص السوانح التي تعرض له - الرفص التي مهد لها استخدام الآلة البخارية في تسيير السفن على صدر الاوقيانوس. وبفضل كل أولئك استطاع أن يجمع ثروة كبرى. ولكن مما لا ريب فيه أننا لا نستطيع جميعاً أن نقتفي أثر ذلك الملك العظيم ملك السكة الحديد لأن الفرص التي وقعت له لا تقع لنا بحذافيرها. ولأن الظروف تغيرت، وإنما نستطيع على الرغم من كل هذا أن نتبع طرقه العامة بأن ننتهز الفرص التي تمهد لنا ونحتال بكل ما نستطيع على بلوغ الثراء. من كل هذه النعمة نستطيع الآن أن ندرك ما وراء كل هذه المقالات وأشباهها وتلك الكتب وإضرابها، فليس المقصود العمل والاجتهاد، والدأب والسعي وإنما هو جلال المال وغموض مسألة الثروة وجمعها وهذا المقال يدا دلالة واضحة على أن الكاتب لا يدري شيئاً قط عن الطريقة التي جمع بها فندربلت ماله وثراءه ولا عن الطريقة التي يجمع بها أي إنسان آخر المال. ولا أنكر أنه رسم خطة في هذه الأسطر ولكنها ليست الطريقة التي اتبعها فندربلت أصلاً. وإنما أراد من كل هذا أن يسجد للغز المال وجمعه وتنميته ووفرته، لأننا عند ما نعيد شيئاً من الأشياء لا نولع إلا بالناحية الغامضة الرهيبة منه فمثلاً عندما يعشق رجلاً امرأة لا يلذه منها ولا يروق في عينيه من خصالها إلا غرابة أطوارها وتدللها وطفولة عقلها، وكذلك الشاعر المتدين المؤمن الذي يحب دائماً أن يصور الخالق في صورة غامضة جد الغموض ولكن الكاتب الذي بسطنا كلامه ليس أمام إله أو خالق ولا هو متعشق امرأة وإنما الشيء الذي يعشقه ويعبده هو فندربلت فهو ينظر إلى نظر المؤمن إلى الله وهو لا يكتم سروره وفرحه بأن إلهه فندربلت يخفي عنه سراً له مكتوماً بل أن روحه لتمتلئ ابتهاجاً ولذة ومكراً وخبثاً أشبه بخبث القساوسة ومكرهم إذ يريد أن يكشف للناس اللئام عن هذا السر الذي لا يدري منه حرفاً. وقد انتقل الكاتب إلى الكلام عن الغريزة التي تجعل الناس أغنياء فقال: (في العصور الغابرة كانت هذه الغريزة مفهومة على حقيقتها وقد عبدها اليونان القدماء باختراع قصة الملك ميداس الذي كلما لمس شيئاً استحال في يده ذهباً وكثيرون أمثال ميداس في هذا

العصر والنجاح رائدهم في كل عمل لهم فهم لا يخيبون قط ولا يبوؤون بالفشل. ولكن لسوء الحظ قد خاب ميداس لأنه جاع ومات من الجوع لأن كل شيء لمسه استحال ذهباً وكلما أمسك قطعة من البسكويت أو السندوتش انقلبت ذهباً في يده!. . . نعم إن قصة ميداس هذه قصة خرافية فيها شيء من الحكمة ولكن لا يصح أن نطبقها على الأغنياء مثل فندربلت لأنه خاب ولم ينجح وطق من الجوع ثم لا تنسى أنه كان له أذنا حمار. وأنه أيضاً مثل بقية الأغنياء وسائر المثرين في العالم كان يجتهد في إخفائهما وكتم حقيقتهما عن الناس ولم يكن يعرف ذلك السر إلا حلاقه الذي أنزله منزلة الصديق ولكن هذا الحلاق الجنتلمان لم يقم بأدب الصداقة فأفشى السر. إنني أنظر باحترام وتوقير وإكبار إلى صورة اللورد روتشيلد وأقرأ باحترام وإكبار ما يكتب عن فعال المستر فندربلت. وأعرف أنني لا أستطيع أن أقلب كل شيء ألمسه ذهباً ولكننني اعلم أيضاً أنني لم أحاول ذلك قط لأنني أفضل مواد أخرى مثل الحشيش أو النبيذ الجيد. إنني أعلم أن هؤلاء الناس نجحوا في شيء من الأشياء وأنهم ملوك الأسواق، وكلنني مع ذلك أعرف أن هناك سراً دقيقاً في بيوت الأغنياء يحاولون دائماً أن يخفوه ولكنني لست حلاقهم حتى أكشف هذا السر!! وجمالة القول دعنا نتوقع أن نعيش لنري تلك الكتب الطائشة قد علاها التراب وغبر عليها النسيان والاحتقار والاطراح، فإنها لا تعلم الناس كيف ينجحون، وإنما تعلهم كيف يروحون رقعاء أنطاعا، وهي تنشر بين الناس شعراً شريراً يتغنى بالدينونة والماديات.

محاربة التدخين

محاربة التدخين وهل تنجح بالأمس صاح بالعالم صائح أن أبطلوا شرب الخمر وأكسروا اقداحها، وقامت جمعيات عدة أسمت نفسها جمعيات الاعتدال ومقاومة المسكرات. وخطت أمريكا الخطوة الأولى في هذا السبيل فمنعت شرب الخمور منعاً ينص عليه القانون. وطاردت الخمر مطاردة نخشى أن تكون رفعت من قيمة الخمر في نظر الذين حرموا كؤوسها. ومنعوا تعاطيها. إذ ألذ شيء للإنسان ما منع. واليوم أهاب بالإنسانية صوت آخر يحذر الإنسانية من خطر التدخين. ويوصي الدنيا بمقاطعة التبغ والتنباك والسيجار، إذ قام في أمريكا مؤتمر جديد. ليس على غرار عصبة الأمم. ولا مؤتمر فيننا. ولا أشباه تلك المؤتمرات السياسية التي تلعب بمستقبل الإنسانية. ولطالما لعبت به. ولكنه مؤتمر غريب في ذاته وفي مسماه. وهو ذلك الذي أسموه في الولايات المتحدة الأمريكية مؤتمر مقاومة الصالونات وإليه يرجع الفضل في مقاومة شرب المسكرات في تلك البلاد. وبعد أن أتم تلك الخدمة الجلى لصالح أمريكا انطلق يبحث عن شيء آخر يمنعه. فجاء دور للتدخين. فأعدت لحرية العدة. وأفرغت جميع مجهوداتها لمقاومته. وقد وجدت الطريق ممهدة لها منذ سنين. لأن موضوع إبطال التدخين لم يكن جديداً في أمريكا. لأن بدئ منذ سنوات عدة. وكان آخر ما كتب فيه رسالة صغيرة عنوانها النيكوتين بعد ذلك أي حال دون إبطال التبغ. أو المادة السامة التي يحتوي عليها التبغ. ونعني بها هذا النيكوتين اللعين. وقد ظهرت تلك الرسالة عام 1918. وقد قامت جمعية اليوم بنشره وتوزيعه على كافة الناس. وهي جمعية نسوية بالطبع لأن رائحة التبغ تؤلم النساء قبل كل إنسان أسمت نفسها جمعية الاتحاد على مقامة المسكرات والمنبهات. وليس هذا الكتيب وحده كل ما أخرجته تلك الجمعية من رسائل التحذير. بل لا تزال تخرج كتيباً ورسائل عدة. تشرح فيها للناس أن خطر التدخين ليس أهون على الدنيا من خطر الشراب وتبين لهم أن كثيرين من كبار أهل الدنيا وعظمائها وقوادها لم يكونوا مدخنين في حياتهم. وقد قصرت تلك الجمعية وأخوات لها أكبر همها على منع الفتيان والشبان والأحداث من الوقوع في عادة التدخين المضرة فقالت: إن البراهين العلمية على ضرر التبغ للشبان

والأحداث كثيرة لا يحصى لها عد. ولما كانت الأمهات لا تحب أن ترى أولادها وشبابها يدخنون. كان لا بد من أن تستمد المقاومة عون الأمهات. ولا ضرورة لنداخل التشريع في منع الشبان وغيرهم من التدخين. ولا حاجة إلى سن القوانين. ونص النصوص. وتحديد العقوبات. لإبطاله. بل ينبغي أن يقوم أمر إبطاله على احتفاظ الناس بأمر صحتهم وبصرهم بعواقب هذه العادات الضارة المؤذية. وقد قفت علي آثار تلك الجمعية جمعية أخرى وهي معهد إطالة العمر في أمريكا. وهذا المعهد يقوم بعمل خطير لتهذيب الحياة. وحفظ صحة الشعب الأمريكي. وطريقتها في المراسلة. والبريد. فهي تقدم للناس المستنصحين النصائح الغالية بطريق البريد في مقابل أجور زهيدة. وتقوم بفحص المرضى المستشفين. وتبعث التقارير الصحية للجمعيات والأندية ولأصحاب المتاجر ولحوانيت لحفظ عمالها ورجالها. وقد جعلت في هذه الأيام الأخيرة تنشر رسالات صغيرة تحت هذا العنواناحفظ صحتك ومن هذه الكتيبات كتاب جديد كتبت فيه مسألة التدخين وأظهرت مضاره ووجوده وأذاه. من الوجهتين الصحية والمادية وهي ترجع معظم الأمراض والمتاعب البدنية إلى علة التدخين وقد قالت في أحد كتبها. في مدي الستة الأشهر المنصرمة كتب الكتاب نحواً من ثلثمائة ألف سطر ظهرت في نحو أربعمائة كتاب في موضوع ضرر التدخين وتصوير الخطر الذي ينجم عنه فمن شاء أن يقتنع بصحة ذلك فليقرأ تلك الكتب وليعلم أن التدخين ويل عظيم لا يقل عن الويل الذي تعانيه الإنسانية من الخمور. على أن عدة ولايات من الجمهورية الأمريكية قد عمدت إلى سن القوانين التي تحرم التدخين تحريماً. ومن تلك لقوانين عدة نصوص على منع بيع التبغ للأشخاص الذين دون الثامنة عشر. ففي ولاية كانساس ينص القانون على ما يأتي يحظر بيع السجائر والسيجار أو تهريبها أو خزنه في مخزن عمومي يقصد التجارة. أو الإعلان عنها في المجلات أو نشر الإعلانات عنها في محطات السكة الحديد أو بيع المجلات التي تحوي إعلانات من هذا القبيل. ويحظر بيع أية مادة مدخنة للأشخاص الذين لا تتجاوز أعمارهم الحول الواحد والعشرين. وكذلك محظور على أصحاب المحلات التجارية أو على مصلحة السكة الحديد أو الترامواي أو غيرها من المصالح أن تبيع لعمالها الأحداث التدخين بأي شكل. ومن

يخالف هذه القواعد يعاقب بغرامة من 25 جنيهاً إلى مائة جنيه عن إحدى هذه المخالفات. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن في هذه الناحية الأخرى فوائد كبرى لثروة البلاد من التبغ والدخان. وإذا بطل التدخين نقصت ثروة البلاد بنسب ما كان يرد إليها من الضرائب وأشباهها. ثم ل ينبغي أن ننسى كذلك ولوع الكثيرين من الكييفة الذين لا يستطيع أي عقوبة في الدنيا. ولا أية قوانين صارمة. أن تغريهم بترك التدخين. فهل تنجح هذه الحرب التي أثيرت في وجه لفائف التبغ. هذا ما سيتمخض عنه المستقبل.

الانسانية المجنونة

الانسانية المجنونة وخصومة القضاء والطب عليها يعلم الناس أن القوانين الجنائية في العالم قد نصت على أن الفرد الذي اختل شعوره وارتكب جرماً يقع تحت طائلة القانون. لا ينبغي أن تلقي عليه أية عقوبة. بل ينبغي أن يدفع إلى عناية المستشفى. ويلقى في ذمة الأطباء لمعالجته. ذلك نص لا يقل دحضً في النظام الحاضر. ما دمنا نعلم أن القانون بالقائه العقوبة وتقرير القصاص لا يريد إلا إزالة أسباب الجرائم. وردع الناس عن ارتكاب الجنايات. ولكن موضوع رأي القضاة في المجانين ومبدأ القوانين الجنائية في معاملتهم قد أثاروا في هذه الأيام ضجة كبرى بين العلماء. وجدلاً وحواراً شديدين ولعل الناس يتساءلون ما السبب. ويقولون ما الباعث. ونحن ننشر لهم ملخصاً مما كتبه المستر بوين رولاندس تحت هذا العنوان قانون الجنايات والمجانين وأجاب فيه عن هذا السؤال. ومجمل الباعث هو اختلاف الآراء بين رجال القضاء وبين الأطباء وبين عامة الناس. وقد قال الكاتب من أين نشأ هذا الجدل. وجواب ذلك ما قاله احد المحامين الكبار وهو يقول القانون أن ليس في الدنيا أحد مجنون ويقول الطب. ليس في الدنيا أحد عاقل. ويقول الإنسان العادي أن خمسة وثلاثين في المائة على وجه التقريب من سكان أي بلد مجانين صرف. هذا كل ما في المسألة لأن الناس ك لهم في اعتبار القانون عقلاء. ولا يستطيع أحد أن يفلت من العقوبة إلا إذا ثبت أنه في الحقيقة ونفس الأمر مجنون من غير شك. ولكن الأطباء في رأيهم أن كل الناس مجنون. والعالم بأجمعه مجانين. وأن كل إنسان يريد أن يثبت أنه ليس على شاكلة من هذه الوجهة يجب أن يقنع الأطباء الأخصائيين في الأمراض العقلية. لا القضاة والمحلفين. ويقول الإنسان العادي، أو هو كما قال أحد الكتاب. الإنسان الذي في الشارع. إذ يرى جريمة وحشية ترتكب - أن الرجل الذي ارتكبها لا بد من أن يكون مجنوناً ذهب لبه. فبصرف النظر عن رأي الإنسان العادي. ينحصر الخلاف بين القضاة وبين الطب. إذ يقول الأطباء أن المجرم يجب أن يترك لمحكمة مؤلفة من بعض الخصائيين في الأمراض

العقلية. حتى تبت جنونه أو تقر سلامة عقله. ويؤيدون مطلبهم بقولهم أن درجة جنون أي شخص موضوع ينبغي أن يترك كلية للذين يصح لهم أن يدلوا برأيهم بفضل درسهم وعلمهم وهم يشكون من أن الطبيب الأخصائي في النظام الحاضر يعد كمية مهملة في محاكم الجنايات. فإذا نحن نظرنا إلى شكواهم فلا شك في أن شهادة الطبيب قد لا تحدث أي أثر في رأي القاضي أو المحلفين، وقد لا يقام لها بينهم وزن وليس ذلك لأن رأيه لا يقيد به. وإنما لأنه قد يدحض بشهادة أخصائي آخر. كما وقع أخيراً في المحكمة العليا إذ قال رجل من كبار الأخصائيين في لأمراض العقلية أن المجرم الذي طلبت شهادته عنه ضعيف العقل، ثم جاء أخصائي آخر لا يقل عنه شهرة فقال أن المجرم عاقل في تمام عقله. وإنما كل ما فيه أنه تحت تأثير نسائية شديدة فيه راسخة في تركيبه عواطفه ثم إذا نحن نظرنا إلى مطلبهم القائل بوجوب تقرير جنون المجرمين المشكوك في صحة عقولهم بمعرفة أخصائي أو أخصائيين عديدين، وجدنا أن الأخذ برأي طلب واحد مضر بمصالح العدل. وإذا تركنا جمعاً من الأطباء يدلون بآرائهم الفنية، ألفينا كثيراً من الاختلاف بين الآراء وبعضها البعض، ولا ينبغي أن نأخذ في العدل والقضاء بين الناس على طريقته القرعة والتصويت لأنه لا بد من القطع والجزم. ولكن إذا نحن فرضنا أننا وجدنا طبيبين قد اتفقا على رأي واحد، فهل نظن أن اتفاقهما يبنى على أسباب واحدة، وعلل متشابهة؟ وقلم يحدث ذلك، وأقرب حادثة لأثبات ذلك ما وقع في أحدى القضايا إذ قال أحد الأطباء عن الجاني أنه مجنون لأن طبيعته النفور من الناس ولأن له نظرات زجاجية ثم جاء طبيب آخر فقال بجنونه وإنما ذهب إلى أن جنونه ثبت من استغراقه زمناً طويلاً في لعبة البروج! من كل هذا الجدل والحوار يخشى أن يخسر الأطباء القضية ويكسبها القضاء بالطبع.

النشيد المصري الوطني

النشيد المصري الوطني الاستاذ السيد مصطفى صادق الرافعي أشهر من أن ينبه عليه أو يدل على مكانته في الأدب العربي وبخاصة في أسلوبه المنفرد الذي يكاد يكون صورة من نفسه. فهو في أخلاقه أسلوب وحده من أين جئته رأيته مندمجاً متماسكاً جزلاً إلى الجد والدقة في كل شيء يعالجه حتى ليسرف على نفسه من حيث يكتفي غيره بأيسر النصب والتعب ولذا فهو قلما يخرج عملاً من أعماله إلا ظهر كل ذلك فيه واضحاً صريحاً وجاء به على الغاية. وقد وفق توفيقاً تاماً في النشيد المصري الذي نحن بصدده والذي قدمه إلى لجنة الأغاني ثم استقل به وأذاعه وقدمته إلى الأمة جريدة الأخبار الغراء فكان له دوي بعيد وكتب عنه مالم يكتب عن كتب من الكتب ثم طبع على حدة في كراسة طارت نسخها ألوفاً ألوفاً ولم يكد يمضي على هذه الطبعة شهران حتى بدأت الطبعة الثانية التي ظهرت هذا الشهر. ولقد ظفر هذا النشيد فوق ذلك كله بعدة ملحنين تناولوه وأذاعوه ثم كان لحنه الأخير الذي يعد وحده توفيقاً نادراً - هذا اللحن الذي وضعه نابغة الموسيقى الشرقية الاستاذ منصور عوض رئيس الجنة الفنية لنادي الموسيقى الشرقي. وهذه الطبعة الذانية ذات فاتحة تتلوها كلمة ثم مقدمة الطبعة الأولى ثم مقالة لرصيفنا الأستاذ أمين الرافعي بك ثم النشيد ثم مقالة للأستاذ الأديب حافظ عامر المحامي ثم مقالة للأستاذ الفاضل محمد صادق عنبر ثم كلمة بعنوان خير لجنة الأغاني وهو فصل مسهب لذاع يجدر بالأديب أن يتأمله ويعطيه حقه من النظر ثم فصل آخر في نقد نشيد أمير الشعراء أحمد شوقي بك الذي اختارته اللجنة ونشرناه في العدد الماضي من البيان. وهذا النقد حاد جداً ولا يتسع المقام الآن لتفصيل الكلام في هذا النقد ولعلنا نفصله ونكتب رأينا في الأناشيد ظهرت ونخرج بذلك عما الترمناه مما لم يرض جانباً من القراء لا يزالون يتطلعون إلى غير ذلك منا غير أن الرافعي لم يترك لشوقي بك شيئاً من نشيده وكان يجمل به غير هذه الخطة ولعله كان يعدل بعد ذلك لولا لجنة ترقية الأغاني وسلوكها معه. وهذا هو نشيد الرافعي. * * * إلى العلا إلى العلا بني الوطن ... إلى العلا فتاة وفتي إلى العلا في كل جيل وزمن ... فلن يموت مجدنا كلا ولن

إلى الأمام للأمام للأمام ... يا مصر والهمة تدفع الهمام لمصرنا عهد لمصرنا ذمام ... لمصرنا على بني الدنيا المنن مصر العلوم والفنون من قدم ... أيام لم تثبت الدولة قدم أيام علم غيرنا دمع ودم ... وما سوي توحش العالم فن رسا أبو الهول ركبنا ... ربضة جبار على الأرض قبض فالهول كل الهول منه لو نبض ... فهم فاستعدي فزلزل الزمن إلى الأمام الخ بعزم مصر غالب الدهر الهرم ... وشمس مصر تضرم الذكاضرم ونبل مصر يملأ النفس كرم ... وخصب مصر ينبت الخلق الحسن والصبر في المصرى صبر وجلد ... خلت خصوم أرضه وهو خلد وما كمصر في البلاد من بلد ... ثراء للطاغي وللباغي كفن إلى الأمام الخ هيا اذن هيا اذن إلى العلا ... يا مصر لا نفسي ولا مالي ولا أهلي ولكن أنت أنت أولا ... وأنت أنت كل سري والعلن يا مصر كلنا لمجدك الفدا ... تقتلع الأنجم لو كانت عدى فلن نراعي يا بلادي أبداً ... لا عاش من يروحه عليك ضن ٍإلى الأمام الخ لا الضعف يوهي عزمنا ولا الضجر ... خلق من الحديد أو من الحجر هيهات ما الأطواد في قيد تجر ... فمن إذن يقيد الأحرار من حرية البلاد عزة الأمم ... إن لم تنلها أمة عاشت فدا النفوس حرة فدا الذمم ... فدا بلادي أنا روحاً وبدن إلى الأمام الخ إيماننا كنيسة ومسجداً ... دين اتحاد للبلاد وهدى وكل ما في العمر يوماً وغداً ... وكل ما نملك للمجد ثمن فلنحي في أعمالنا أجدادنا ... ولنحي في آمالنا أولادنا

ولنحي مصريين مهما اعتادنا=ولنحي مصريين وليحى الوطن * * * نوتة النشيد الوطني المصري هذه النوتة هي كما قلنا لحن شيخ الموسيقيين في مصر الأستاذ منصور عوض وقد لحن النشيد (مارشاً) على وزن موسيقى من أبدع الأوزان وأقواها وأدعاها للحماسة وربط لحنه بالنوتة الافرنجية وطبعت هذه النوتة على ورق فاخر وثمنها عشرون قرشاً وهي تطلب من مكتبة الهلال ومكتبة التأليف.

حوال دول العرب

حوال دول العرب لأمير الشعراء أحمد شوقي بك نشرت إحدى الجرائد الاسبوعية لشيخوخ متنطع سقسم الذوق ليس من الأدب ولا قلامة ظفر نقدا لما ذهبنا إليه في شرح هذا البيت يا زيدَ كل مسرَج وملجَم ... كيف علا غرتك ابن ملجم إذ قلنا ما ملخصه: زيد هـ زيد الخيل الصحابي الذي وفد على رسول الله في وفد طيء وسماه النبي زيد الخبر - وشاعرنا يخاطب عليا بذلك أي يا رجل الخيل أي يا أشجع الشجعان الح فجاء هذا الشيخوخ وأبي عليه ذهنه السقيم ألا تخطئا في ذلك وإلا أن يفهم أن زيد مصدر بمعنى زائد ومسرج وملجم. بكسر الراء والجيم بصيغة اسم الفاعل أي يا زائدا على كل مسرج وملجم الخ. . . مرحى مرحى. وحسن جداً يا مولانا. لقد عثرت بحماقتك عثرة أنت بها خليق فلليدين وللفم. أليس بين كل مسرج وملجم ساسة الخيل المبتذلون لخدمتها وهل هناك أبلغ من تفضيل الامام والابانة عن أناقته وتفوقه من أنه زاند على ساسة الخيل الذين يسرجونها ويلجمونها رحم الله من قال: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الطبع السقيم ما هكذا يا قوم يفهم الشعر! على أن شاعرنا العظيم أطال الله لنا حياته لا يزال بيننا حيا يرزق. وهو منا حيث يسهل الرجوع إليه في فهم أغراضه فعلام الخلاف على شيء بين ظهرانينا حاسمه؟ اللهم إلا إذا كان حاديكم على مثل هذا أحقاد تأكل الصدور. يمدها غباء مستو على العقول إن كانت ثمة عقول ونستغفر الله لنا ولكم. . . .

بسم الله الرحمن الرحيم وسلام على عباده الذين اصطفى (أما بعد) فهذا هو العدد الأول من السنة التاسعة لهذه المجلة التي عزم الله لنا أن نخرجها كل خمسة عشر يوماً في طراز إن شاء الله بديع نُرجَى أن يعجب قراءنا في جميع الأقطار على اختلاف نزعاتهم وأميالهم، إذ سنعنى العناية كلها - بعد موضوعات البيان - بالتصوير، غير مدخرين في ذلك وسعاً فلا إقصار بعون الله ولا تقصير. وخطة البيان هي خطته التي عرف بها وحافظ عليها منذ نشأته إلى اليوم - أن يكتب ويترجم كل ما هو مجد علينا راد في أي باب من أبواب العلم والأدب والتاريخ والأخلاق والاجتماع وما إلى ذلك من كل ما هو خارج عن دائرة السياسة والدين اللهم إلا من ناحيتهما العلمية السامية الجميلة. ولقد تضاعفت حاجتنا في هذه الآونة إلى الموضوعات القوية الفعالة ذات الأثر الصالح فينا بعد أن آضت صحفنا - واأسفاً على ذلك - سجلات سياسية بحتة فلا أثر فيها لعلم أو أدب حتى كادت بذلك تبغض الناس في العلم والأدب وكل ما من شأنه أن يسمو بأخلاقنا وأذهاننا وأرواحنا، إذ جعلت السياسة - قبحها الله - وكدها وشغلها فألهت الناس بها عن النظر في كل ما يرد عليهم ويجدي، فاللهم حوالينا ولا علينا.

مستقبل العالم

مستقبل العالم وهل تبطل الحرب من الدنيا تحت هذا العنوان وضع كاتب من كبار الكتاب الاشتراكيين وطلاب المثل الأعلى الساخطين على النظام الحاضر في العالم - وهو المستر ويلزـ المبحث الأول من عدة مباحث مسلسلة، وهو موضوع طالما كتب فيه الكتاب وتناوله العلماء والمفكرون بالتفكير والتحليل. ولكن المستر ويلز انتحى فيه منحى غريباً وبسطه بسطاً جميلاً بتلك الطريقة الشيقة التي ألفها قراؤه منه. ونحن ننشر هنا هذا البحث الأول. ثم نتبعه في الأعداد القادمة بالمباحث الأخرى التي تليه. نحن الآن أمام مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني هي أغرب ما قطعته الإنسانية. وأول ما شهده التاريخ في نوعه. فقد عدت على الدنيا طائفة من الويلات والأحداث الخطيرة فبددت هدوء الإنسانية التي ظلت أجيالاً تتطلب تقدماً مطرداً واجباً، تقدماً في سبيل إحراز قوى كبرى، وسعادة عامة كبرى. وتوسيع نطاق الحياة ورفاهيتها، قد أوقف تياره بعنف، وحيل بين الإنسانية وبينه بصرامة. وقد كشفت فاجعة الحرب اللثام عن وجود قوى مخربة هدامة اجتمعت فاختفت في أضعاف مجتمعنا الإنساني الذي بنم ظاهره على الرفاهية والسعادة. ولم يكن أحد منا يحلم بتلك القوى أو يظن أن الإنسانية بالغتها. وقد أظهرت الإنسانية عجزاً تاماً عن مقاومة تلك القوى الهادمة الناقضة لبنيان العالم، ولقد بدا لكثيرين من أهل الأذهان اليقظى، أن العامين الذين انصرما بعد عقد الهدنة، ووضع الحرب أوزارها، بما كان فيها من مجاعة وفقر، وفوضى واضطراب، في المغرب والمشرق، بل في أمريكا التي لم تسهم في الحرب بما أسهم فيه أهل الغرب. كانا شراً على المجتمع الإنساني من تلك الحرب نفسها التي سبقتهما. فالناس راحوا يتساءلون ترى ماذا يحدث للإنسانية. وما مصير العالم. وما مآل كل تلك الويلات. وهل كانت تلك الآمال الوثيقة؟ والأماني الوطيدة التي افتتحنا بها القرن العشرين إلا حلم حالم وخيال متخيل وهل دارت دائرة النعمة والتقدم فلا دورة لها إلا إلى الرجعة والنكوص، وإلى أين تحدو بنا هذه الضلات التي نحن فيها والتعثر الذي نحن نراه وتلك العداوة والبغضاء التي يحملها كل منا لصاحبه في العصر الحاضر وهل العالم مقبل على قرون عدة مفعمة بالفوضى والخراب. فلا يكون منها إلا كما انتهت الدولة

الرومانية الغربية في المغرب. ودولة الصين في المشرق. وإذا حم هذا ووقع. فهل تراه سيمتد فينال من العالم الجديد. ويبلغ أمريكا القوية أم لأمريكا من نظامها وكيانها ووحدتها ما يبقيها سائرة إلى الأمام إذا تحطم العالم القديم وانهار تلك هي الأسئلة الواسعة العويصة المشكلة. التي يجب على كل رجل منا أن يتساءلها ويحتال على الجواب عنها. فالناس يعدون أبطال الحرب عامة من الدنيا والتعفية على آثارها، ومحوها من تاريخ المستقبل، محور كل هذه المسائل، ولكن الحرب ليست شيئاً جديداً في العالم وقد حاولت الإنسانية طول تلك القرون الماضية أن تسير في سبيلها على الرغم من تكرار الحروب ورجوعها. بل السواد الأعظم من الدول والممالك ظل طول عهده وفي سبيل تطوره في حروب لا يخبو لها ضرام ولا يبرد وطيس، فلا أثرت تلك الحروب في كيانها، ولا أنقصت من هنائها ورغدها. على أن تلك الحروب الماضية لم تكن على شاكلة حروب اليوم وليست الحروب القديمة هي التي عدت على سير النمو الذي كان مطرداً منذ قرن ونصف. وليست الحروب القديمة المألوفة هي التي أوقفت التيار المندفع إلى الأمام بل هي هذه الحروب الجديدة بما دخل عليها من التغيير وما أوسع من جوانبها ومد في نطاقها من الوسائل المستحدثة والمخترعات المستطرفة، بل هو هذا التغيير بعينه، وهذا التوسع في الحرب بذاته، وليست الحرب في نفسها بخيلها ورجلها هو ما ينبغي لنا أن نأخذه بالتحليل والشرح والبحث. في عام 1914 عمدت دول المغرب إلى الحرب. كما عمدت إليها قبل ذلك في مناسبات ماضية. وظروف سابقة. للفصل في أمور خطيرة ثارت الثائرة عليها فيما بينهم. فلم يكد ناقوس الحرب يدق. وتنطلق القذيفة الأولى في الفضاء. حتى اندلع لسان الحرب بسرعة لم نشاهد مثلها من قبل، واندمج العالم كله فيها واشترك في نارها. فأحدثت الحرب شناعة. ووسائل مخيفة من وسائل التخريب والتدمير. لم نشهد نظائرها في الحروب المتقدمة. فهذا الاختلاف في طور الحرب هو لب البحث وجوهر الموضوع. وقد تبين أهل الأذهان المفكرة أن الحرب مهما وجدت لها من الشفائع في الماضي والمعاذير المبررة للالتجاء إليها عند احتدام الاختلاف بين الأمم والأمم. لم تعد الطريقة التي يصبح اتخاذها الآن في الخلافات الدولية. وكان من ذلك فكرة عصبة الأمم. وإنشاء محكمة عالية كبرى يرجع إليها

عند الخصومات الاجتماعية. والآن ما هي هذه التغييرات التي ألزمت الإنسانية بأن تفكر في ضرورة إبطال الحروب دفعة واحدة. فقد كانت الحرب قدماً قي جميع البيئات الإنسانية فكرة مهذبة بانية مقررة منظمة. وهذا ما لا يشك فيه إلا القليلون. والفضل في إصلاح السنن السياسية وتنظيم العلاقات الدولية راجع إلى الحرب. ومن الحرب وثب. وقد قام كيان كل أمة في العالم على أمرين وحيدين هما الدفاع والهجوم. كما قام التعاون في التجارة والصناعة على الاحتكار والضغط والإجبار. فإذا أجمعت الإنسانية الآن فجأة نيتها على إبطال الحرب - فستجد أن هذه النية ستؤدي إلى تنقيح القواعد والمبادئ الاجتماعية والسياسية في العالم كله. هذا هو المبحث الذي سنفرد له هذه الأبحاث التباع، ولب البحث في هذا السؤال. ماذا يكون حال العالم إذا انمحت الحرب من الدنيا كلها، وماذا يجب أن نصنع إذا هي نفيت ومنعت إلى الأبد من النشوب بين الناس والناس إذ يجب أن لا ننسى هذه الحقيقة وهي أن إبطال الحرب بتة ليس أمراً سهلاً ولا خطوة طبيعية ذلولاً. بل إن إبطال الحرب إذا نحن استطعنا أن نحققه وننفذه. سيكون رجعة وانقلاباً في الحياة الإنسانية العامة. ونقضاً لقوانين الطبيعة نفسها - قوانين تنازع البقاء. بل سيغير وجه الحياة بأجمعها. والتاريخ الإنساني كله. وسنحاول في هذه الأبحاث شرح العبء الذي سيلقى على عاتق العالم إذا ألغيت الحرب حقاً وأبطلت. وتفهيم الناس أن محاولة إبطال الحرب بتلك المحاكم والمجالس التي يسمونها عصبة الأمم ومؤتمر الشعوب وهلم. هو في ذاته أشبه بمحاولة إبطال الظمأ والجوع والموت من الدنيا بإصدار قانون من البرلمان وليس النجاح في الأمرين والتوفيق في المحاولتين إلا واحداً. دعنا أولاً نفحص التغيير الذي طرأ في شؤون الحياة الإنسانية فحول الحرب من طورها العادي وهو تنازع الجماعات الإنسانية على البقاء فأصارها شناعة وهولا ونذير الخراب للجنس الإنساني بأسره فنقول: إن هذا التغيير في جوهره لم يكن إلا تغييراُ في مقدار القوة المهيأة لأغراض الناس ومصالحهم ومقاصدهم. ولا سيما مقدار القوة المادية التي يستطيع الفرد الواحد أن يديرها فقد كانت القوة الإنسانية منذ قرنين فقط أحد أمرين فقط. قوة العامل: وقوة الحصان فضلاً عن مقدار معين من القوة المائية والقوة الهوائية. وقد ظهرت

البوادر الأولى لهذا التغيير الذي أدى إلى هذه الحرب منذ سبعة قرون. أي منذ اختراع البارود إذ استخدم المغول في القرن الثالث عشر للقتال الاكتشاف الذي اكتشفه أهل الصين. وهو البارود. فاستفادوا به فائدة حربية كبرى. إذ أغاروا على الممالك المعروفة إذ ذاك وفتحوا البلدان. ولم يلبث بارودهم أن طاحَ بالقصور وهدم الحصون. وهزأ بالقلاع والأسوار. وأبطل الفروسية. وبروز القرن للقرن. ووثوب المغوار على المغوار. وخرب أرض ما بين النهرين. وأفسد نظام ريها. على حين كانت تلك الأرض آهلة متحضرة قبل عهد الدنيا بهذا التاريخ المعروف، ولكن كعرفة ذلك العصر بعلم المعادن وصهرها وما يجري مجرى ذلك كانت محدودة ضيقة المضطرب فلم يتجاوز حجم ما اخترع يومذاك من المدافع والبنادق ومدى مرمى القذائف حداً محدوداًّ، ولكن لم يكد يقبل القرن التاسع عشر حتى اتسع نطاق المخترعات من جراء نمو العلوم الكمية والمخترعات الحديدية وإنما بدأ اتساع نطاق القوة الإنسانية في القرن الثامن عشر باستخدام الفحم والبخار ففاضت المخترعات فيضها. وألقت في أيدي الناس مقادير عظمى من القوة والنشاط لم يبلغ نهايته حتى اليوم ونحن لسنا بحاجة إلى تكرار القصة من أولها فذلك أمر معلوم للناس قاطبة. كيف أن التلغراف والراديوجرام جعلا كل حادثة خطيرة تسير سير البرق فتبلغ كل ذهن من أذهان الدنيا في لحظة واحدة. وكيف كانت الأسفار تستغرق الأشهر فراحت لا تأخذ من المسافر أياماً وهلم وهلم مما تعرفونه ولا حاجة على التغني بذكره أو بسط تأثيره في فنون الحرب وإنما ما نقصد إليه هو أن الجماعات الإنسانية قبل عصر المخترعات طالما تناحرت وتناجزت وتلاكمت أشبه بشجار الصبيان في (الكتّاب) أو المدرسة الابتدائية في دائرة قوتهم النسبية وقد آذت كل أمة صاحبتها ولكنها لم يعدم بعضها البعض كلية ولهذا يصح لنا أن نعد تلك الحروب القديمة مقوية صالحة مروضة مهذبة. ولكن دخل هذه المدرسة الابتدائية العلم فدفع في أيدي هؤلاء الأطفال السكاكين والمواسى مسمومة الأطراف والسنان والقنابل والمفرقعات والسوائل والغازات الخانقة اللعينة. فانقلب شجار هؤلاء الأطفال في الحال فكان منه ويل وشناعة أي ويل وأية شناعة. وما لبث صحن الكتاب أن تغطى بأكداس الجثث ورميم الأشلاء وقد يكون تداخل (عريف) الكتاب حائلاً بين الأطفال وهذا الشجار المقيت. ولكن الإنسانية واأسفاً ليس لها عريف إلا حكمتها الفقيرة

المسكينة. والمشكلة الكبرى التي تشغل أذهان الإنسانية في العصر الحاضر هي هل تستطيع هذه الحكمة المسكينة أن تحدث أثراً فعالاً وتداخلاً متيناً يمنع هذه الحروب الموحشة المخيفة. بيد أن هذه الأسلحة المميتة المهلكة لا تزال تنمو وتزداد ولقد اطردت زيادتها من سنة 1914 إلى أوائل سنة 1918 إذ حيل بينها وبين الاندفاع والتكاثر - من أثر النقص في المواد والفتور في النشاط، ومنذ عقد الهدنة والعلم الحربي لا يزال يدأب على النمو والازدياد. ولقد أكد لنا علماء الحرب أن الحرب القادمة - إن هي وقعت - ستكون أثر من تلك الدابرة سرعة واتساعاً في نطاق التدمير والحصد. إذ لم تعد الجيوش بعد اليوم تتقدم على طرق دروب بل ستنتشر في مركبات كبرى تحرث الأرض التي تجري فوقها حرثاً. وتقلب أديمها قلباً. وستكون القذيفة ترمى من قباب السماء كافية لحصد مدينة بأسرها على مسافة ألف ميل وراء خط النار وسينسف ما على ظهر البحر من سفائن وعمائر ولن يكون ثمة تمييز بين المحاربين وغير المحاربين من العجزة والشيوخ والأطفال والنساء. فسيحصدون حصداً. لأن الكل مستهلك طعاماً. والطعام أبقى للقوي وأجدي عليه. والحرب حرب. وديدنها الهول والنكر. ويجب أن يضرب المحارب بكل ما استطاع من قوة. ولكن يكون انتصار المنتصر إلا فوز الرجل المتعب المنهوك القوي المضمحل المحتضر على الرجل الميت الخامد الأنفاس. ولقد قيل وذهب الرأي إلى أن لا حرب كحربنا الماضية (1914 - 1918) واقعة إلا بعد ردح طويل من الدهر. من جراء ما هزت تلك من كيان المجتمع. ولكن ليس في هذا الرأي ما نفرح له وبه نبتهج. لأن معناه أن ما دامت الإنسانية ضعيفة مريضة فقيرة فلا حرب ولا قتال فإذا نقهت وأبلت عادت إلى الحرب وآضت إلى القتال. بأهول مما بدت الأولى وأشنع. بفضل ما اخترعت الإنسانية منذ ذلك العهد واستحدثت. وأنه ما دامت الانقسامات والاختلافات باقية فلا بد من رجعة الحرب رجعة شنيعة رهيبة. تهدم البناء من قواعده إذن ليس هناك حل لهذه المشكلة. وشفاء من هذه الآفة إلا أمراً واحداً. وهو إعادة بناء المجتمع الإنساني على نظام وطريقة وطراز يكره الناس في الحرب كراهية التحريم. فقد أصبح العالم مجموعة واحدة متصلة بعضها ببعض كالحلقة المفرغة وقد تستطيع الإنسانية أن

تعيش على هذه الوتيرة بمرور الزمن. وقد ينجح الناس كجنس بشري مجتمع في الرغبة عن الحرب والزهد فيها والحيد عن الصراع والقتال. وللسعي في الوصول إلى تعاون جامع شامل وتسامح متبادل وقد تستطيع أن تترك محاولتها القديمة على أن تعيش في ممالك منفصلة وتأخذ في كل طرح كراهياتها القديمة وأضغانها الأولى والعيش تحت ظل قانون واحد وسلام واحد. فلا يكون من ذلك إلا أن هذه القوى العظيمة التي كانت معاول في أيديها للهدم والتخريب تعود فتستخدم في وجوه صالحة ترد السعادة على بني الدنيا في صورة لم تصل إليها من قبل. ولكن هذا الجنس الإنساني قدير على الشروع في هذا السعي الذي سيكون في ذاته انقلاباً للمشاعر الغريزية والتقاليد الاجتماعية التي رسخت في فؤاده إلى اليوم وهل نتوسم خيراً في حياتنا الحاضرة السياسية والعقلية، وإلى أي حد نعمل أنا وأنت أيها القارئ مثلاً للوصول إلى هذه الغاية. بل هل نحن واعوها في الأذهان جاعلوها نصب الأعين. وهل الناس الذين حولنا كذلك، أم لسنا أنا وأنت والجميع مندفعين في نفس التيار كما كنا قبل عام 1914، فّإذا لم يقم منا قائم، ولم يسع ساع. ولم يبد اجتهاد، فسيؤدي بنا ذلك التيار إلى الحرب فالجوع والفقر ونقص في الأموال والثمرات وينتهي أمرنا إما بالانقراض التام أو بانحطاط لا تتصوره الأذهان. (انتظروا المبحث الثاني)

روح الشعب الانكليزي

روح الشعب الانكليزي في هذا العصر منذ بدء هذا العام تولي رئاسة مجلة المجلات الانجليزية التي أسهها ذلكم الكاتب الغريب المعروف بأبحاثه النفسانية وعجائب الوحي الروحاني والذي استشهد غريقاً في سفينة التايتنك، وليام ت ستيد. كاتب آخر من سادة الصحفيين الانكليز وكبرائهم وهو السير فيليب جيبس. فدخل على المجلة بدخوله مظاهر التحسين والإبداع. وأقبل الكتاب الأعلام في الشعب الانكليزي على المجلة يسهمون في تحريرها ويخصونها بمقالات خطيرة وقد صدر العدد الأخير من المجلة بمقال لرئيس التحرير بهذا العنوان الذي وضعناه في رأس هذا البحث فآثرنا نقله للقراء لما فيه من الحقائق الغريبة والمعاني السامية. كل ما أقصده ببحثي هذا الكلام على الشعب الانكليزي عامة. لا عن الاسكوتلنديين فحسب أو أهل الغال (ويلس) فحسب. والسؤال الذي أريد أن أجيب عليه وأتحيل على حله واستكناه حقائقه هو سؤال ليس بالسهل ولا بالذلول. وأعني به هذا (ماذا بقي لنا من خلقنا الانكليزي القديم المتأصل فينا وروح شعبنا ومزاجه وغرائزه القوية، بعد ما أفنت الحرب الكبرى أبدع رجولتنا، وقتلت أعز شبيبتنا، وطاحت بأنضر فتيتنا، ولا سيما في هذا العصر الذي أصبح نظام المجتمع الإنساني فيه مهدداً بالأخطار يريد أن ينقض، لا شك عندي البتة في أنه لو سقطت انجلترة إلى هوة الفوضى أو لو تداعى بنيانها الاجتماعي فجأة. فلا يكون من ذلك إلا أن تجفل أوروبا بأجمعها من أثر هذه الصدمة وتتزعزع أركان العالم كله ويرتج صرحه. بل لا يكون من ذلك إلا الضربة القاضية على جميع الآمال والأماني الكبرى في شفاء الإنسانية من جراحات هذه الحرب الأخيرة وتأسيس مجتمع سامي عام يشتمل الأمم كلها ويمشي إلى مدينة منتظمة متخلصة من هذه المقاذر التي تلوث المدينة الحاضرة وذلك لأن انجلترة ما فتئت منذ أبعد العصور ساحلاً آمناً في وسط زوابع التاريخ وعواصفه. وعاملاً من العوامل المؤثرة في نظام العالم وقوته. ولئن كان أكثر أمم العالم ينظرون إلينا بعين الكراهية ويبغضوننا البغض كله فلا يزالون ينظرون إلى انجلترة نظرهم إلى صخرة مكينة ثابتة. وهم يتهموننا - ويتهموننا بحق - بأن ترنمنا بالمبادئ العالمية التي نخفي بها في غالب الأحايين أطماعنا ونياتنا ومقاصدنا الذاتية ينطوي على

شيء كثير من النفاق والرياء. وهم يروننا - وما أظنهم مخطئين - بالغباوة المدهشة. والحماقة والجهل الفاضح الذي لا سبب له إلا موقعنا الجغرافي وانفصالنا بمكاننا من هذه الجزيرة عن بقية القارة الأوروبية. ولكنهم على رغم هذه التهم كلها لم يستطيعوا يوماً أن يخفوا اعتقادهم في حكمتنا الغريزية وسداد رأينا الذي أعاننا على أن نسير دفة سفينتنا وسطاً بين التطرف في القول والعمل وأن نوازن بين الحرية والنظام ونلائم بين الأمانة والسياسة. ولا زالت طرق المعاملة الانجليزية ومظاهر الشجاعة الانجليزية واللياقة الانجليزية والأخلاق الصخرية في المتانة الحكومية الانجليزية ذات تأثير عميق في الحياة الأوروبية وهي إلى الآن الدعامة التي يعتمد عليها القوم في أوروبا في إنقاذ العالم من الخراب والاضطراب اللذين أرسلتهما الحرب في الدنيا جمعاء. فما هي الروح السارية اليوم في الشعب الانجليزية وهل ماتت فينا فضيلتنا القديمة. وهل زال عنا خلقنا المعروف قدماً. وهل قدر لنا أن تكون الأمراض والجراح التي أحدثتها الحرب لنا عاملة على أضغاننا وزوال متانة خلقنا وهل نحن من جراء الويلات التي أعقبت الحرب وخمود الحمية وهذا الفساد والظلم النازلين بالعالم ومخالفة الفقر المتوقع المنتظر، والمرض العام والسآمة المتفشية في نفوس الجماعات، فاقدون تلك الحكمة الغريزية التي امتزنا بها كشعب بين الشعوب على رغم الحماقات والسخافات التي نرتكبها والجهل الفاضح الذي نعاب به. وما هو ذلك العامل النفساني الذي يسري الآن في روح الأمة الانجليزية. هذه هي الأسئلة التي يتساءلها أكثر الناس في هذا العصر إذ تهتاج نفوسهم من أثر شكوك وريب كثيرة، ومخاوف مقلقة. إذ لا يمكننا أن نتجاهل ما نرى من مظاهر الوحشية التي نرتكبها والشراهية التي نبدو بها وهذه النزوات والسورات النفسانية التي تتجلى فينا، والأميال الهدامة المخربة التي يجنح إليها كثيرون من أفراد هذه الأمة من كبيرهم إلى أحقر حقير فيهم. ثم يلوح لنا أيضاً أننا مقبلون على أزمة اقتصادية يريد فيها أصحاب رؤوس الأموال أن ينجوا بأنفسهم على حساب العمال والعاطلين، ويود العمال أن ينقذوا أنفسهم، مستيئسين من شرة الحاجة وآلام الفاقة، بإسقاط أصحاب رؤوس الأموال ودك حصونهم دكاً.

وإنني لا أنكر أنني كلما مررت بشوارع لندن يخيل إليّ أن هذه الجماهير التي تتكون منها الأمة الانجليزية لم تتعلم شيئاً من هذا الدرس الأليم الذي لقنته الحرب أهل الدنيا، وأن هذه الجموع العظيمة لا تحفل البتة بهذه العلة الفاشية في أوروبا وتريد أن تمس أرضنا وتنزل بسوحنا، فلا شاغل لهم إلا همامات أنفسهم ومطالب عيشهم وأطماعهم وشهواتهم وملاذهم أنهم صاروا من الانحطاط الذهني والخلقي بحيث لا أثر في نفوسهم البتة من هذه المعرة التي تلصق بنا من المأساة القائمة اليوم في إيرلندة، ولا من احتضار أمة كبيرة كالنمسا ولا من الحالة السوأى التي وصلت إليها جنودنا الذين سرحناهم بعد الحرب، ولا من هذا الفالج الذي أصاب متاجر العالم وأسواقها الاقتصادية، ولا من هذه المبادئ السامية التي بدأت تبذر بذورها في العالم كعصبة الأمم، ولا شيء من هذا أصلاً. إن الإنسان ليشهد اليوم أن أشد ما يجتذب نفوس هذه الأمة رواية تافهة أو حادثة مقتل، أو طلاق، وهي أكثر اهتماماً بأمثال هذه السفاسف من قصة أمم بأكملها تنتابها المجاعات أو نبأ نذير يهدد حريتها ويذهب بشرفها ولا تقل أنانية الأغنياء وأصحاب الأموال عن غباوة الطبقات العامة والفقيرة وضيق عقولهم، وإني لأشهد جموعاً عظيمة تموج كلجج البحر دافعة إلي مشاهدة لعَب الكرة، فيأخذني العجب ولا أدري هل ذهب عن هؤلاء الجموع صوابهم وتولت عنهم حكمتهم، وأرى أن هؤلاء الحمقى هم نتاج مدينة لا تستحق الإنقاذ، وإني لأجد الشباب - وهم آمال العالم - مسرعين جماعات حاشدة إلى قاعات الرقص، ودور السينما، للفرجة على روايات كاذبة لا تصور الحياة على حقيقة واحدة من حقائقها، روايات خالية من الخيال الرائع، غير محتوية شيء من السمو وبراعة التصوير، فيخيل إلي كما يخيل للكثيرين في ساعات اليأس أن روح انجلترة قد ماتت وأننا قد فسدنا وضعفنا وحمقنا وصرنا إلى البلاهة والطيش، وأننا لا نجد منا زعماء يتصدون للقيادة، لأننا لا نرى جماهير تتبع الزعيم أو تمشي في أثر الصائح. ليس لدينا مثل أعلى لأن الصدق زال من قلوب أفراد هذه الأمة. إن انجلترة قد انحطت وتدهورت وانتهت إلى الحقارة والعبث ونحن بعد أن أنهكنا أنفسنا في هذه الحرب التي سقط في ميدانها أعز رجالنا وأفضل شبابنا منحدرون الآن في طريق السقوط حيث يزول من أيدينا ما كان من قبل لنا وطوع بناننا.

ولكن دعونا لا ننكر بل نعترف صراحة بأن هذا الحلم المظلم الذي يعتم أرائي هذه كما يسوّد أفكار كثيرين منا يريدون أن يروا قومنا ناهضين على وقدة حمية جديدة بعد متعبة هذه الحرب، لا يزال رأياً ظالماً لا حقيقة فيه، وإن الشعب أعقل مما يلوح في الجماعات. وإنهم لا يخدعون بما يقدم لهم لأجل خديعتهم وإنهم أقوى وأصح أرواحاً من الذين يتصدون لقيادتهم والترأس عليهم. نعم ولا نكذب إذا نحن قلنا أنهم يؤثرون قراءة رواية تبسط حوادث القتل أو تصور شنائع الطلاق على قراءة الأبحاث العامة التي تبسط أمام أعينهم الحالة الدولية السيئة وتصور لهم مشكلات الحياة وأمهات مسائلها، ولكنهم إنما يفعلون ذلك لأنهم أكثر انشغالاً بحوادثهم الشخصية ومشاكل حياتهم الخاصة عن التفكير في المسائل العامة المطلقة البعيدة عن مواقع حسهم ومما لا شك فيه أنهم لا يزالون (جزائريين) معتزلين لا هم لهم إلا مصالحهم الشخصية، على الرغم من هذه الحرب التي التحمت فيها القارة الأوروبية كلها وأنهم لا ينظرون إلى أبعد من مطالب العيش وحاجيات الحياة وملاذها التي تجري في وسطهم. نعم إن الازدحام على رؤية لعب الكرة، أو مشاهدة أسراب من النساء في رواية هزلية أو قراءة شذرات من الكلام الفارغ وسقط المتاع الذي تمتلئ به الصحائف المصورة لا توحي إلى الإنسان شيئاً من الذكاء أو الحكمة التي وصفتها بالحكمة الغريزية. وإنه ليلوح لي أن وبع الجماهير وطبقات العامة بلعب الكرة الذي اتخذوه اليوم صنعة وحرفة تحترف، لا يزال ضرباً من الجنون والحماقة الكبرى، ولكنا إذا نظرنا إلى هذا الولوع دون تحيز لرأينا أن هذا الضرب من الرياضة البدنية هو أقرب سبيل للعمال والعامة إلى التمتع بشيء من هذه الرياضة، وهي تقوي أبدانهم وفي الوقت عينه ترد عليهم عقولهم صحيحة سليمة قوية منعشة، على ما فيها من عدم المبالاة بمستقبل الحياة وبشؤونها وإن الشباب لعلى حق إذا هم لم يبالوا بالمستقبل لأنهم يطلبون من الحياة مراحاً ويبتغون أبدع ما فيها من ملهاة وترويح. ولا يزال كثيرون منا يفكرون ويتلمسون بلوغ الحقائق، ولا تزال في أعماق نفوسهم عواطف ومشاعر وأمثلة عليا. ولئن كان يلوح لنا في أغلب الأحيان أن الحرب لم يبق لها أثر في نفسية الشعب الانكليزي ولم تترك شيئاً، فالناس كما كانوا، يغضبون لما يفقدون، ويقنعون بما يعانون، ولا يحفلون بالمخاطر تقف في طريقهم، وتعترض سبيلهم، ولا

يغضبون إذ يحاولون الانتقام من زعمائهم الذين وهموا وغلطوا شنع الأغلاط. ولا يجن جنونهم ولا يثورون طلباً لتجديد الحياة وتغيير أنظمتها الحاضرة، ولكنك إذا تحدثت إلى جمع من الجنود الذين سرحوا بعد الحرب، والعمال الذين أسهموا في ميادينها، وجدت لهم آراء وخواطر لا يمكن أن تكون وليدة عقول فارغة وأدمغة مجوفة سخيفة فإنهم لم ينسوا بعد شنائع الحرب، وهم يتطلعون إلى حياة جديدة غير هذه التي جلبت هذه الحرب المجنونة المعتوهة وإنك لتلمح منهم اشمئزازاً واستنكاراً للحرب ورغبة في إبطالها والحذر من وقوع مثلها ثانية لهم أو لأولادهم. وعلى ذلك ترى روح المزاح والمجون والاستهتار آخذة بنفوسهم، مانعة لهم من التحمس لشيء من الإصلاح بتة، أو الغضب من شيء أو التمرد عليه، والشعب الانكليزي ينزوي من طلب الأمثلة الخيالية والمبادئ الاجتماعية الكمالية. وهم أعداء كل شيء متطرف، شراً كان أم خيراً، وهذا ما يجعلهم غير مكترثين بما يقع في إيرلندة، إذ يقولون لأنفسهم: ما لنا ولهؤلاء الناس. لأنهم لا يفهمون ولا يحبون أن يفهموا هذا الولوع الجنوني الذي أخذ بلب الايرلنديين وراء الاستقلال وحكم أنفسهم بأنفسهم ولا يدركون هذا الأسلوب الجديد في الاستشهاد الذي اخترعه ماكس ويني المحافظ. ولا يعرفون هذا الطراز السن فيني في القتال والنضال، إذ يبدو كل هذا في أعينهم عملاً هستيرياً مهووساً غير لائق. على أن الأخلاق الانجليزية القديمة أكثر ما تتجلى في الريف فسكان الريف على الرغم من جهلهم بالشؤون الخطابية والفنون الكلامية، ورغم بطء تفكيرهم وضيق بصائرهم، وحسر نظرهم إلى الحقائق، لا يزالون مستمسكين بالأخلاق القديمة، ولا تزال حكمة الشعب الانكليزي التالدة متأصلة في نفوسهم، وبفضل المؤثرات التي تبدو فيها قوانين الوراثة لا تكاد ترى عليهم شيئاً من الانحراف عن أسلافهم الانكليز الأولين. ولئن كان قد استشهد في هذه الحرب شبان كثيرون، فقد رجع منها مجموعة طيبة كذلك لم تمت، وهؤلاء اليوم بيننا، وهؤلاء لم يفقدوا سجيتهم وخالقهم المتين، وإني لا أعتقد أن غرائز الشعب الانكليزي لم تطلق بتة من آدابها الأولى وإن قلب انجلترة على رغم ما ينتابه من المرض والضعف والتسمم لا يزال قوياً رفيقاً وإن الجماهير الانجليزية أفضل

من زعمائها، وإن الشعب بمجموعه أرقى من قادته.

العادة

العادة بحث فلسفي سيكولوجي أخلاقي بديع للكاتب الفيلسوف العظيم البروفسور جيمس مما يؤثر عن القائد العظيم الدوق أوف ولنجتون أنه صاح يوماً وقد جاء ذكر العادة وقوة سلطانها فقال (أوكل ما يقوله الناس عن العادة أنها طبع ثان؟ كلا لعمرك إنها الطبع مضاعفاً إلى عشرة أمثاله!) وإن أولى الناس بأن يتخذ قوله حجة في مثل هذا الموضوع من كان أخبر الناس به وأشدهم مزاولة له ومعالجة أعني الجندي الذي حصر مجرى حياته وحياة جنوده داخل قيود حرجة من العادات وحواجز شديدة من أقسى القواعد والنظامات فاتضح له من ذلك أن تأثير العادة لا يزال بالإنسان حتى يبدل شخصيته تبديلاً ويخلقه خلقاً جديداً فيما يتعلق بمعظم طبيعته وأخلاقه. وقد ذكر البروفسور هسكل على سبيل الفكاهة وإن كان ذلك من الجائز المحتمل (إن ماجنا بصر بجندي مستودع ذاهباً بطعامه إلى مأواه فصاح به بغتةحازدور! فأرخى الرجل ذراعيه تواً وسقطت منه الشريحة والثريدة في بالوعة الطريق. وعلة ذلك أن عادة التمرينات العسكرية قد كانت تسلطت عليه إلى درجة أصبحت معها قد اندمجت في جهازه العصبي وصارت قطعة من كيانه). وكثيراً ما شوهد في ميادين القتال أن الجياد وحدها عارية من فرسانها كانت تجتمع على نداء البوق وتجول جولاتها المعتادة من تلقاء ذاتها بلا مدبر ولا مصرف، وهذه الحيوانات المنزلية تراها كأنها آلات ومكنات مضبوطة الأجهزة مطردة السير والنظام تقوم من لحظة إلى أخرى بأداء ما قد علمتها من الأعمال والحركات ولا يبدو عليها البتة أنه من المحتمل أن تشذ يوماً عن هذا المنهج أو تنحرف عن هذه الخطة. ومما يؤثر عن أهل السجون أن كثيراً منهم ممن يغادرون السجن بعد قضاء أعوام عدة ربما تمنوا العودة إليه بعد الخلاص فطرقوا بابه ثانياً وبهم من الحنين إليه ما بالآيب إلى وطنه بعد طول الهجرة والفراق. ويحكى أن نمراً انكسر قفصه أثناء حادثة من حوادث القطارات فأفلت من القفص ولكنه ما لبث أن أصابته حيرة ودهشة من هذا الوسط الجديد الذي أفضى إليه بعد طول المقام في قفصه واعتياده العيشة بين قضبانه ثم بلغ من شدة ارتباكه وحيرته ان انقلب عائداً من تلقاء

ذاته إلى القفص فأخذ فيه مجثمه كعادته ودأبه. فالعادة هي الشكيمة التي تكبح جماح المجتمع الإنساني إذا همّ أن يعدو أطواره ويتجاوز حدوده. وهي التي تبقي كل امرئ في دائرته وقيوده. وتحمي أبناء النعمة والسعادة من ذوي الثروة واليسار من أن يثور بهم ويطغى عليهم حسادهم من الفقراء والوضعاء. وهي العادة ليس غيرها يمنع أوعر سبل الحياة وأصعب مسالك العيش وأمقتها وأخبثها وأفظعها من أن يهجرها أهلوها الذين خلقوا لها وخلقت لهم. فهي التي تهون على العدّان القيام في ظلمات المناجم والغواص في زمهرير العباب والنوتى في ثورة العواصف والفلاح في حقله المنقطع الفريد يقاسي لذعات الفقر خلال أشهر الثلوج. والعادة هي التي تحمينا من غزوات أهل الصحاري والمناطق المتجمدة. وهي تمنع الطبقات الاجتماعية المختلفة أن يختلط بعضها ببعض. وأنت إذا تأملت أرباب الحرف والصناعات المختلفة وجدت أن أحد هؤلاء متى بلغ الخامسة والعشرين من عمره أي بعد قضاء بضعة أعوام قليلة في حرفته لم يلبث أن تنطبع صحيفة شخصيته بطابع هذه الحرفة وترتسم عليها بل على سحنته وشمائله وصوته ولهجته سمات حرفيته وأماراتها ومميزاتها وخصائصها من أفكار وعقائد وآراء ومذاهب وأميال ومحاب ومكاره ثم لا يستطيع الرجل أن يتخلص من هذه إلا إذا استطاع وجهه أن يتخذ سحنة أخرى أو بشرته أن تتبدل صبغة جديدة. إذا كانت المدة ما بين عشرين وثلاثين من العمر هي مدة تكوّن العادات الذهنية والفنية أي الحرفية (الخاصة بالحرفة التي يحترفها الإنسان) فإن المدة التي دون العشرين هي مدة تكون العادات الشخصية مثل كيفية نطق الألفاظ وحركات الإشارة والإيماء وأساليب المواجهة والخطاب وهلم جرا. ومن ثم ترى أن الرجل إذا تعلم لغة أجنبية بعد العشرين من عمره استحال عليه أن يبرئ لسانه فيها من اللكنة وكذلك الصبي الذي نشأ في بيئة سافلة ثم ارتفع بإحدى فلتات الحظ إلى مستوى طبقة عالية فعاشر أهلها من ذوي الفضل والعرفان أعواماً طوالاً - يتعذر عليه أن ينقي منطقه ويبرئ لفظه من تلك الخنة وما يجري مجراها من معايب النطق مما كان قد اكتسبه أثناء طفولته وشبيبته. وكذلك شأن هذا الإنسان فيما يتعلق بملابسه وأزيائه - فمهما غص جيبه بالدرهم والدينار كان من المتعذر عليه أن يحاكي في نظام الزي والهندام أهل الطبقة العالية العريقين فيها. فإن تجار الأنسجة

والملابس وباعة الحلي والزخارف ليتهافتون على مثل هذا الدخيل بشتى سلعهم وفنون بضائعهم ولكنه لا يوفق في اختياره ولا يعرف ماذا يأخذ وماذا يدع. ولا يزال يتسلط عليه ويتحكم فيه سلطان ناموس الطبقة السافلة التي لم يفارقها إلا بعد أن تكونت حسب قوانينها وأصولها عاداته الشخصية ومنها عادة الملبس وقلما يقوم لهذا الناموس الأولي أو يقوى عليه قانون الطبيعة العالية التي اندس فيها على كبر. ثم يقضي أيامه تعجباً من كيفية اهتداء أقرانه الجدد من ذوي الأحساب والأنساب إلى حسن اختيار الملابس ويرى أن توفقهم إلى إيجاد هذه الأزياء فوق أجسادهم واستطاعتهم أن يجدوا هذه الألوان المختلفة والأشكال المتنوعة من مهاب الريح الأربع وتأليفها وفقاً لهذا النظام العجيب على أكتافهم وصدورهم - يرى هذا عجيبة العجائب ومعجزة المعجزات والسر الذي لا يناله الفهم ولا يدركه الوهم. فرأس الحكمة إذن وأساس الصواب والسداد هو أن نجعل جهازنا العصبي حليفنا لا عدونا ولنا لا علينا. أعني أن ندخر من صالح العادات أكبر رأس مال نتمتع بقية عمرنا بأرباحه في هينة ودعة. وابتغاء هذه الغاية يلزمنا أن نبادر في باكورة الصبا باستشعار أكثر ما يستطاع من نافع الخصال والخلال استشعاراً يجعل إتيانها كلما دعت الحال أمراً محتماً يجري من تلقاء ذاته كحركات الجسم الاضطرارية - وفي الوقت ذاته يلزمنا اتقاء سيء الخصال وضارها كما يتقى الوباء وكلما كثر عدد العادات التافهة والأعمال الحقيرة الاعتيادية التي نكلف الجهاز العصبي بتأديتها عفواً من تلقاء ذاته دون استشارة أذهاننا - كاشتراء غذائنا أو ذهابنا للحلاق أو مساح الأحذية أو خروجنا لنزهة العصر أو ابتياعنا شخشيخة لطفلنا إلى غير ذلك من الصغائر والحقائر من تفاصيل الحياة اليومية وجزيئاتها. اتسع بذلك لعقولنا مجال التفكير والتأمل في هام الشؤون وعظيم المسائل مما هو أليق به وأشبه. وما إن رأيت قط إنساناً هو أحمق وأغبى وأسخف وأحقر من الذي لم يتخذ لنفسه عادة سوى عدم العادة - الذي لا يزال يتوقف ويتردد كلما همّ بشأن له ولو كان من أدنى شؤونه كإشعاله (سيجارة) أو شربه كأساً أو ذهابه إلى المرقد ليلاً أو قيامه منه صباحاً أو شروعه في أي عمل من أضأل اليوميات المعتادة. هذا الرجل مرزوء في حياته منكوب في عمره فإن نصف أوقاته يضيع سدى بين التردد والتوقف والتحير وإبرام العزم وعقد النية

على إتيان أعمال هي من الدقة والضؤولة وصغر القيمة كان الواجب أن تكون مندمجة في حركات أعصابه الاضطرارية تحصل من تلقاء ذاتها فلا يكاد يحسها أو يشعر بجريانها. فإذا كان بين قرائي الذين يتلون الآن هذا المقال إنسان مصاب بمثل هذه العلة فليبدأ لتوه ولحظته بمعالجتها ولمس الخلاص منها. جاء في رسالة (العادات الأخلاقية) للبروفيسور (بين) بضع نصائح عملية عظيمة الفائدة أخص منها اثنتين بالذكر وهما (1) عند استشعارك عادة جديدة أو تخليك عن عادة قديمة اجتهد أن يكون ابتداؤك مشفوعاً بأقوى وأمضى ما يستطاع من الدوافع. وذلك بأن تهيئ حواليك من الظروف وترشح من الأسباب وتخلق من الأحوال كل ما هو جدير أن يستحث العزيمة ويستثير الهمة أجل يا فتي! ولتضع نفسك عنوة في تلك الظروف التي تعرف أنها مليئة أن تحدوا بك إلى الخطة الجديدة وتحملك عليها. كأن تجدد عقوداً ومعاهدات منافية للقديمة وكأن تشهد الأمة والجمهور على نفسك علناً. وقصارى القول يجب عليك أن تؤيد عزيمتك بكل مل تستطيعه من وسائل التنفيذ والإمضاء. وأعلم أن هذا يعير فاتحة عزمك من المضاء والنفاذ والقوة ما هو خليق أن يجتاح ما لابد أن يعرض لك في طريقك من دواعي الشهوات فيؤجل ساعة انتكاصك وانتكاسك وكل برهة تأجيل لتلك الساعة المشؤومة تبعد احتمال وقوعها وتقل من فرص عودتها. أما النصيحة الثانية فهي. لا تسمح بأي شذوذ عن عادتك الجديدة حتى تتأكد أنها قد تأصلت في حياتك الجديدة ورسخت. فإنك إن فعلت ذلك فإن مثلك كمثل رجل قد تناول خيطاً طويلاً وأخذ يطويه على هيئة كرة فكلما أفلتت الكرة من يده فسقطت انحل بالسقطة الواحدة من الخيط ما لا يتأتى طيه ثانياً إلا بخمسين لفة أو أكثر. والحقيقة أن مواصلة التمرين وإدامة التدريب هي خير وسيلة لحمل الجهاز العصبي على أداء حركاته بضبط ودقة دون أدنى شذوذ أو إخلال. وبلا أقل تقصير أو إهمال. لا يستطيع امرؤ أن يبدأ بإصلاح أمره أو تعديل خطته حتى يكون قد بدأ أولاً بإرغام نفسه على ركوب المسلك الوعر المستقيم وعرف كيف يروض نفسه على المضاء فيه مندفعاً منصلتاً مشمراًّ منجرداً غير ناظر حواليه لا يمنة ولا يسرة أما الذي لا يزال يجدد لنفسه كل يوم عزماً فمثله كمثل من يريد أن يطفر من فوق حفرة فهو كلما أوفى على حافتها وقف

ثم ارتد وتراجع كيما يتحفز للوثوب من جديد - ذلك شأنه ودأبه لا هو بواثب فماض ولا هو بمقلع فمريح نفسه. والواقع أنه ليس بغير العزمة الثاقبة والهمة الماضية والصرامة النافذة التي لا يعوقها عائق ولا تقف في سبيلها عقبة يستطيع المرء أن يحشد لنفسه من القوى الأخلاقية ما يحرز به النضر الباهر والفتح المبين في معترك الحق والباطل أحسن الوسائل وأضمنها لتكوين مثل هذه العزيمة الماضية والإرادة النافذة المؤدية إلى هذه الغاية البعيدة والأمنية السعيدة - هي المثابرة والمواظبة على أداء العمل باطراد واستمرار وبلا انقطاع ولا شذوذ. وثمة وصية ثالثة نردف بها الوصيتين السابقتين وهي: انتهز أول فرصة سانحة لإمضاء ما قد أبرمته من العزم لتنفيذ ما يوحي به ضميرك في سبيل اتباع ما قد اخترته لنفسك من العادة الجديدة. واعلم أن الساعة التي يكون فيها للنوايا والعزائم الجديدة التأثير الأقوى في الذهن ليست هي ساعة تكوينها وعقدها ولكن ساعة تحركها وجيشانها وتبجسها عن قوة محركة فعالة. إن سنوح الفرصة العملية لهو القاعدة الوحيدة التي عليها ترتكز الإرادة الأخلاقية في تأييد نفسها ومضاعفة قواها وفي النهضة والسمو إلى أعلى. أما من حرم سنوح هذه الفرصة العملية فقد حرم القاعدة التي يرتكز عليها ويعتمد فمثل هذا لا يصنع أكثر من الكلام واللفظ والدعاوى والوعود ولا يتخطى مجال الأقوال إلى مجال الأفعال. إنه مهما امتلأ وعاؤك من الحكم والأمثال والمواعظ والوصايا ومهما حسنت نواياك واشتد ميلك للهدي والصلاح فاعلم أنك لست بمصلح من خلقك ولا مهذب من نفسك مثقال ذرة ما لم تنتهز سانح الفرص وتنتفع بها في إبراز نيتك من حيز الفكر والشعور إلى حيز العمل. فأما مجرد النوايا والأميال والعزائم فهذه لعمرك خدع الشيطان عن الهدى وحداة الغاوين إلى النار وقد قيل في الأمثال (ألا إن بالنوايا الحسنة مجردة يمهد السبيل إلى جهنم). قال (ستوارت ميل) الخلق هو الإرادة التامة التكوين والإرادة هي مجموعة أميال تدفع المرء إلى العمل لدى جميع مقتضيات الحياة وضرورياتها بأسلوب محدد ومضاء وشدة وثبات، على أن الميل إلى العمل إنما يكون انغراسه في طبائعنا وتأصله في غرائزنا ورسوخه في أعصابنا على قدر تكرار حصول الأعمال وقلة العوائق دونه (وبالتالي) على

قدر اعتياد الذهن وتمرنه على تلك الأعمال. لتعلمن أنك إذا تركت جذوة عزمك تخمد أو جمرة شعورك الحي الشريف تنطفئ فتهمد قبل أن تنتج طيب ثمراتها الفعلية فذاك وأبيك شر من إضاعة الفرصة إذ يبلغ من سوء أثر ذلك في نفسك أنه يمنع عزماتك ونواياك المستقبلة من الاندفاع في مجراها الطبيعي إلى غاية الإنتاج الحسن والإثمار الطيب. ولست أعرف في أصناف الناس من هو شر وأخبث من الرجل الخيالي الخائر العزيمة الذي يظهر الرحمة والرثاء لبني الإنسانية والأسى والأسف لمصائبهم وشدة الغبة في إصلاح شأنهم ولا يتعدى ذلك منه مجرد الأمل والأمنية ولا يتخطى مجرد الكلام والهتاف أو العويل والبكاء - تراه دائماً أبداً في بحر من الأحزان والأشجان والحرق والأشواك والحسرات واللهفات يتخبط في لجه ويتقلب في موجه ثم لا تجده بعد ذلك يحرك إصبعاً في سبيل أدنى عمل يدل على الهمة والنخوة والرجولة فإذا أردت مثلاً على هذا الصنف من المخلوقات فلن تجد أصدق من الكاتب الأشهر جان جاك روسو فإنه بينما كان يشعل ببلاغته أفئدة الأمهات في فرنسا ويستعمل سحر بيانه في إغراءهن بإتباع سنن الطبيعة ونواميسها في تربية أطفالهن إذ هو يبعث بأطفاله وأفلاذ كبده إلى ملاجئ اللقطاء لتتولى تربيتهم على أننا كلنا ذلك الرجل أي كلنا (روسو) حينما ترانا نتحرق لهفاً ونتأجج ولوعاً وشغفاً ونتلهب غيرة وحمية وتحمساً لمذهب من المذاهب أو مبدأ من المبادئ ولكننا في الوقت ذاته نناقض أنفسنا بإنكار حقيقة واقعية تدخل في حدود هذا المبدأ وتعد إحدى جزيئات ذلك المبدأ الكلي: كأن ننادي بمذهب الاشتراكية ولا نخرج زكاة أموالنا أو ننادي بمبدأ العدالة ونأكل حقوق الجار وأموال اليتامى وهلم جرا - ونحتج لأنفسنا عن عملنا هذا بأن هذا الشيء الذي نؤاخذ عليه ليس في شيء من المذهب الذي ننادي به بل هو شيء آخر البتة إذ هو شيء ناقص مشوه ملوث بينما المذهب هو شيء كامل طاهر نقي وقد يكون في دعواه هذه شيء من الحق ولكنه إذا أنعم النظر وتأمل الأمر بلا تحيز ولا غرض وجد أن هذه المسألة الجزئية بالرغم من تلوثها وتشوهها باحتكاكها بالشؤون اليومية العادية الحقيرة الخسيسة لا تزال هي جزأ من ذلك المذهب العام السامي المقدس فالويل كله للرجل القصير النظر المظلم البصيرة الذي لا يستطيع أن يعرف الحق ويميز الصواب إلا وهو في صورته المعنوية وشكله البحت المجرد - فإذا ما بدا له متنكراً في هيئة الشؤون العادية ممزوجاً

بشوائب ما يجاوره أو يخالطه مما عداه من الأشياء أنكره وجهله! وقد ظهر أن الإفراط في قراءة القصص ومشاهدة التمثيل مدعاة إلى تفشي هذه الرذيلة في طبقات الأمم، فإذا طلبت دليلاً على ذلك فانظر إلى السيدة الروسية في مركبتها الفخمة تجرها الجياد الضخمة وهي تتلو بعض الروايات التراجيدية ودموعها على الصفحات تنحدر حزناً على شخص بائس من أشخاص الرواية وقد غاب عنها أنه أبأس من ذلك البائس وأسوأ حالاً ذلك السائق المسكين الجالس خارج زجاج المركبة معرضاً لغوائل الجو وجوائحه وسياط الزمهرير تمزق جلده وكلب الشتاء يكاد يسلب روحه. بل إن الإفراط في استماع الموسيقى إذا لم يكن لأغراض فنية وعلى سبيل الرياضة الذهنية بل كان لمجرد الاسترسال في الشهوة الحسية كان جديراً أن يحدث فتوراً وخوراً في القوة الأخلاقية لأن الألحان تبث في فؤاد السامع من الإحساسات والانفعالات والعواطف ما لا يستطيع أن يخرجه من حيز الشعور إلى حيز الفعل فيبرزه في صورة أعمال جليلة ومآثر نبيلة ومن ثم ينشأ في المرء ذلك الخلق الممقوت الجامع بين اهتياج الشعور وجيشان القلب بالعواطف الكريمة وبين الخور والفتور والعجز وسقوط الهمة - فترى أمامك قلباً يتأجج غيرة وحمية ويدين مغلولتين عن الخير والبر وأماني وآمالاً تسمو إلى السماء وتقاعداً وتبلداً وتثاقلاً تهبط وترسب إلى الحضيض. فالعلاج الوحيد لذلك هو أن الواجب على المفرط في سماع الموسيقى أن لا يدع قلبه يمتلئ بعاطفة أو انفعال إلا إذا كان قد عزم على إبراز هذا الشعور بعد قليل في صورة فعلة كريمة أو مأثرة حميدة - ولو لم تكن إلا الشيء القليل الضئيل، كإهداء الكلمة الطيبة أو اللفظة اللينة لأحد الأقارب أو الأباعد أو كإيثار أحد الجلساء بمجلس ألين وأوثر، أو وقاية بعض الزملاء من الحر أو المطر بمظلتك وهلم جرا. هذا وأمثاله من تافه الفعال وضئيلها هو ما يجب عليك أن تصنعه تعبيراً عن شعورك وإبرازاً لإحساسك وضناً بالعاطفة الشريفة أن تذهب سدى وتفني بخاراً ولا عار عليك في ضؤولة مثل هذه الفعال وتفاهتها إذ لم تستطع غيرها ولم تسنح لك الفرصة بما هو أجل منها وأعظم. وكما أننا إذا تركنا إحساساتنا وعواطفنا تتبخر دون أن نطلقها من مكامنها على هيئة أعمال فاضلة فإنها تعتاد هذا التبخر ويصبح لها ديدناً ودأباً فكذلك إذا نحن أحجمنا عن بذل

المجهود ضعفت فينا قوة بذل المجهود واضمحلت وماتت ومن ثم نسوق لك الحكمة الآتية قاعدة مطردة وركناً من أركان الأدب وهي: أحي في نفسك ملكة (بذل المجهود) وجدد نشاطها برياضة نفسك على ذلك بما تيسر من أعمال الخير والمروءة تأتيه على سبيل التمرين ليس إلا أو بعبارة أخرى ألزم نفسك خطة الزهد أو خطة البطولة في صغائر الأشياء غير الضرورية أعني اصنع كل يوم فعلة أو اثنتين وإن لم يكن ثمت باعث على ذلك سوى عدم ضرورتها يكن ذلك رياضة لنفسك على أعمال المروءة وتدريباً لها على مواقف الجلد والصبر والبطولة حتى إذا وقع المكروه وأزفت الآزفة وجدتك جلداً متيناً راسخ القدم رابط الجأش ثاقب العزم وثاب الهمة. فمثل هذه الرياضة والتمرين على الصبر والزهد والخشونة تعد بمثابة الضمانة التي يدفعها المرء لشركات التأمين على المال والحياة. فإن الضريبة المدفوعة لذلك قد لا تعود بالفائدة العاجلة وربما ينقضي العمر ولا تعود بعاجلة ولا آجلة. ولكنة إذا وقع البلاء وشبت النار فعلاً في دارك كان فيما دفعته من تلك الضريبة النجاة من النار والفرار من الدمار. وكذلك الرجل الذي ما برح يروض نفسه كل يوم على الجد والنشاط والهعمة والزهد والقشف في صغائر الأمور ودقائق الشؤون. فإنه إذا أزفت الآزفة وعصفت العاصفة وعاد كل شيء حوله يموج ويضطرب ويميد ويتزلزل رأيته تحت هذه المحن الطائرة والخطوب الثائرة كالبرج المشيد والطود الشامخ. هنالك تتجلى عنه الغماء. وتنجاب الأواء والعزاء. وتنكشف الظلمة الطخياء. أثبت ما يكون وأرسى. وأصلب ما يكون وأقسى. بينما غيره منت الضغنة العجزة الرعاعيد يتبددون هباء. ويذهبون جفاء. إلا أن جهنم التي يتوعد بها العصاة في الآخرة ليست شراء من جهنم التي نشعلها لأنفسنا في الحياة الدنيا بصوغ أخلاقنا وتصويرها على صورة كاذبة وصبها في قالب مشوه. فلو أن الصبي أدرك أن لن يكون في مستقبل عمره سوى مجموعة أو حزمة من العادات تسعى على قدم وساق إذن لزاد عنايته بسلوكه وسيرته وهو في دور التكوين إذ عوده رطب الملامس غض المكاسر يلين تحت الثقاف المقوم ويطاول أنامل الطابع المهذب. والواقع أن المرء خالق نفسه وواهب حظه وممهد سبيله ونهجه وحائك لنفسه ثوب العيشة مسعوداً أو منحوساً حوكاً باقياً على الدهر لا طاقة للمقادير بنقضه ولا حلة فما من حركة خير أو شر

يأتيها إلا تاركة بجوهر نفسه أثراً لا يزول ما بقي فيه عرق ينبض. لقد جاء في قصة الروائي (جيفرسون) أن السكير (فانوينكيل) يعتذر لنفسه عن كل خطيئة يأتيها بقوله (هذه المرة لا تحسب). سبحان الله! ما هكذا تكون التوبة والأنابة. فهبك أيها المغرور أنك لا تحسب هذه المرة وهب الملك القدوس الغفور الرحيم قد وهبك زلتك وأقال عثرتك فلم يحسب أيضاً هذه المرة فهل ذلك بحائل دون حسابها وتسجيلها؟ كلا! فإن في خلايا أعصابك وأنسجتها ستحسبها عليك الذرات بالعمليات الكيمياوية وستعدها وتحصبها وتسجلها وتخزلها لتقوم ضدك وتتألب عليك متى عاودتك أسباب الغواية والإغراء ثانياً. فما من شيء تأتيه إلا تسجله عليك وتغرزه فيك يد لا ماجى الدهر لأثرها. فعليك من نفسك عين يقظة لا تنام ولا تغفل، ورقيب عتيد يحصي عليك ويسجل. على أن لهذا التسجيل ناحية نفع كما له ناحية ضرر فكما أن تكرار الدفع المتعددة من السكر يؤول بنا إلى رذيلة الإدمان فكذلك تكرار المبرات يرفعنا إلى منزلة الأتقياء الأبرار ومواصلة ساعات الدرس والكد والتمرين تسمو بنا إلى مرتبة المهرة الحذاق الراسخي القدم في العلوم والمعارف والفنون. فلا يشغلن الفتيان بالهم ولا يتعبن أنفسهم تفكيراً فيما عساهم بالغين من درجات العلم ومراتب الحذق والنبوغ في صناعاتهم وفنونهم أياًَ كانت فإن الشاب الذي ينفق كل ساعات دراسته في الكد والاجتهاد مليء بأن يثق بحسن النتيجة وبلوغ الغاية. فاعمل ما عليك ودع النتيجة وشأنها فستعمل أيضاً ما عليها إذ تنتبه يوماً ما من منامك فتجدك معدوداً ضمن الفحول والنوابغ والفطاحل مهما كانت صناعتك وحرفتك. واعلم أن ملكة التمييز والبصيرة والحنكة والخبرة لا تبرح تنمو فيك وتتكون وسط كل ما تعاني وتعالج من تفاصيل الصناعة وجزيئاتها وتافهاتها وحقائرها حتى تنضج لك هذه الملكة وتستتم وتصبح لك ملكاً ثابتاً (أبقى على الزمن الباقي من الزمن). غموض الحق حين تذب عنه ... يقلل ناصر الخصم الحق تجل عن الدقيق عقول قوم ... فتحكم للمجل عن المدق إذا غمر المال البخيل وجدته ... يزيد به يبساً وأن ظن يرطب وليس عجيباً ذاك منه فإنه ... إذا غمر الماء الحجارة تصلب إذا طرف من حبلك انحل عقده ... تداعت وشيكاً بانتقاض مرائره

فلا تغفلن أمراً وهي منه جانبه ... فيتبعه في الوهي لا شك سائره

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الثانية من المرية إلى قرطبة (تابع) وبعد أن أقمنا في الورية ثلاثة أيام بلياليها تحمنا منها في ركب فخم نبيل موف على الغاية، في الأبهة والروعة والجلال، قاصدين إلى قرطبة حضرة هذه البلاد، وكان في طليعة الركب أمير البحر عبد الحمن بن رماحس، إذ أمره الحكم بن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وولي عهده كما أسلفنا أن يتلقانا في وفد من وجوه الأندلسيين ويجيء معنا إلى قرطبة مبالغة من الأمير حفظه الله في الاحتفاء بنا وبأبي علي القالي البغدادي وبأبي عبد الله الصقلي الفيلسوف الذي وصل إلى المرية قبل انفصالنا عنها، وكان في المركب من الأندلسيين الرمادي الشاعر وأبو بكر بن القوطبة وأبو بكر الزبيدي وكثير من أدباء الأندلس وأعيانها. وقد بهرنا وسحر أعيننا وملك علينا ألبابنا ما رأيناه في طريقنا من استبحار العمران في هذا القطر الأندلسي، فقد كنا نمر في اليوم الواحد بثلاث مدن وأربع، وفي حيثما سرنا نرى الحوانيت - في الأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة. وكنا نتعثر تعثراً بالجداول والأنهار، تحفها البساتين وصنوف الزرع والنجوم والأشجار، حتى لظننا أنه ليس في هذه البلاد صحراء مقفرة أو أرض غامرة. يا أهل أندلس لله دركم ... ماء وظل وأنهار وأشجار ما جنة الخالد إلا في دياركم ... ولو تخيرت هذا كنت أختار أما القرى والمعاقل والحصون فإنها لا تحصى كثرة، وقراها جميلة لتأنق أهلها في أوضاعها وتبييضها لئلا تنبو العين عنها. لاحت قراها بين خضرة أيكها ... كالدربين زبرجد مكنون بي عبد اأبي عبد الله أ وأكثر مدنها مسور من أجل الاستعداد للعدو، وفي مدنها لذلك ما يبقى في محاربة العدو ما يربى على عشرين سنة، لامتناع معاقلها ودربة أهلها على الحرب.

وكنا في طريقنا نتذاكر الأدب ونتناشد الأشعار ونخوض في ضروب من الحديث لا علينا إذا نحن أوردنا شيئاً منها في هذه الرسالة، فمن ذلك أن أبا علي قال من كلمة له (لما مررت بالقيروان - وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد كأن منازلهم من العلم محاصة ومقايسة فقلت أن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم، فسأحتاج إلى ترجمان في هذه الأوطان، ولكن لما جئت إلى هنا قضيت عجباً من أهل هذا الأفق الأندلسي في ذكائهم) ومن ثم كنا نراه يتغطى عن الأندلسيين عند المباحثة والمناظرة ويقول لهم (إن علمي علم رواية وليس علم دراية فخذوا عني ما نقلت فلم آل لكم إن صححت) ثم فرط منه قول ذهب فيه إلى تفضيل شعراء المشرق على شعراء المغرب فانتدب له أحد الأدباء ممن كانوا في هذا الركب وقال إن أهل الأندلس أشعر الناس فيما كنزه الله تعالى في بلادهم وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكؤوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن - أما إذا هب نسيم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجع بم وزير وصفق للماء خرير، أورقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاع ثغر نهر، أو ترقرق بطل جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح وبات مع من يهواه كالماء والروح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون. الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصر ينفي الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، واطلعت شبه النجوم أسنة وأجرت شبه الشفق دماء، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة، فقال أبو علي: (نعم وفي الحق ما تقول بيد أن شعراء المشرق فضلاً أن شعرهم أصفى ديباجة، وأكثر ماء وطلاوة، وأسد مسلكاً وأوضح منهجاً، وأشكل في مبناه بالشعر القديم حتى لا يكاد يشذ عنه قيد شعرة، وفضلاً أنه في الأعم الأغلب رصين متماسك جزل قوي غير مهلهل النسج، تراهم مع ذلك ذهبوا به كل مذهب من القول، وافتنوا في مناحيه أيما افتتان، وغاصوا على المعاني

غوصاً حتى بلغوا في ذلك المبالغ، ووصلوا إلى الغاية التي لا وراءها، وإني لا أظن أن لعلي بن العباس الرومي أو بشار بن برد أو أبي نواس أشباهاً ونظائر في هذه البلاد، على أني مع ذلك لست أنكر على الأندلسيين ذكاءهم وتوقدهم وأنهم - كما رأيت وكما وصفوا إلى - (عرب في العزة والأنفة وعلو الهمة وفصاحة اللسان وإباء الضيم والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع والاستخذاء - هنديون في فرط عنايتهم بالعلوم ورغبتهم فيها وضبطهم لها - بغداديون في نظافتهم وظرفهم ورقة أخلاقهم وذكائهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم ونفوذ خواطرهم - يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر - صينيون في إتقان الصنائع العملية وأحكام المهن الصورية - تركيون في معاناة الحروب والحذق بالفروسية والبصر بالطعن والضرب) كبرت حول دياركم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها ... وقالوا بأني في الثناء مقصر وهنا انبعث أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وقال ما تلخيصه، الذي أراه أن شعراء كل قطر من الأقطار أو جيل من الأجيال لابد من أن يتأثروا بالمحيط الذي يحيط بهم، وأن يصطبغ شعرهم بصبغة ما يرون ويحسون من حولهم، فالشاعر الجاهلي أو المبتدي في الجاهلية والإسلام الذي لا تقع عينه إلا على صحراء مقفرة، أو سماء ماطرة، أو وحش كاسر أو غزال نافر، لم ير ريفاً، ولم تغذه رقة الحضر، ولم يشبع من طعام، قد خالط الغيلان، وأنس بالجان، وأوى القفر واليرابيع والظباء، فإنه حري أن لا يقول إلا في جنس ما هو بسبيله من وصف البيد والمها والظبي والظليم والناقة والجمل وما إلى ذلك، في قول مؤنق مشرق واضح الطريقة لا تعمل فيه ولا كلفة، يوائم أمزجتهم وطبائعهم، ويلائم المحيط الذي فيه عاشوا والجو الذي فيه درجوا والفطرة الأولى التي فطروا عليها، والسذاجة التي هي من خاص صفاتهم، وقد يكون لهم مع ذلك الحكمة البارعة والكلمة الرائعة والمثل السائر والموعظة الحسنة، مما يبهر أعرق المتحضرين ويصيب منهم أقصى غايات الإعجاب والإكبار، ولكنه الوحي والإلهام الذي تلهمه الفطرة القوية النقية البريئة، ويؤتى الطبيعة الكريمة ما يؤتى سهوا رهوا، وليس هو بنتاج العقل المسموع ولا بثمار الملكات المكتسبة.

(وبعد) فأما المولدون وهم الذين تصح المفاضلة بينهم وبين شعراء المفرب لأنهم جميعاً تحضروا وعاشوا في رونق النعيم واعتركوا بالدنيا واعتركت بهم فالرأي عندي أن يقال إن الشعر لفظ ومعنى وأما اللفظ فإن شعراء المشرق لأن أكثرهم جاروا الأعراب وأهل البادية ولقنوا اللغة منهم والتصقوا بهم ونشؤوا في أحضانهم وغذوا بلبانهم ترى لهم الألفاظ المتخيرة، والديباجة الكريمة والطبع المتمكن والسبك الجيد وكل كلام له ماء ورونق، وترى شعرهم رصيناً متسقاً على استواء واحد لا يتدافع من جهاته ولا يتعارض من جوانبه ولا يجمع ولا يشتط ولا يأتيه الضعف والهلهلة والاسترخاء من أية ناحية من نواحيه. وأما المعنى فإن فحولة وشعراء المشرق الذين افتنوا في المعاني فتناناً وغاصوا عليها وأمعنوا حتى ظفروا بكل معنى عجيب يعمر الصدر ويزكي الروح ويشع في دنى العقل فتنجاب له ظلمته وتنير نواحيه وتنفتح مغالقه مثل بشار بن برد وأبى نواس وابن الرومي وهذه الطبقة فهم إنما بلغوا هذه الدرجة لأنهم من الموالي أبناء تلك الأمم الحمراء الذين امترسوا بالحضارة قبل العرب امتراساً وعالجوها وعالجتهم وداوروا صنوفها من الصناعات والعلوم وما إليها وصرفوا فيها أعنة الفكر وافتدحوا لها زناد الرأي وهلم حتى أن ذلك على كر الغداة ومر العشي عقولهم، وشحذ أذهانهم وأذكى أرواحهم وأكسبهم ملكات عبقرية عجيبة، فورث ذلك منهم أبناءهم وانحدر مع دمائهم وكان منهم هذا النبوغ الذي نرى آثاره في الإسلام. وما كاد أبو عبد الله يتم قولته تلك حتى صاح أبو بكر بن القوطية وقال أشيخنا شعوبى؟ فقال أبو عبد الله إني وإن كنت لا أرى لعربي فضلاً على عجمي إلا بالتقوى وإن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم، فمن كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها، ومن ثم يقول الله جل شأنه إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ويقول رسول الله في خطبة الوداع، أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى - فإني مع هذا أقول ما قاله ابن المقفع - وقد سأل جماعة من أشراف العرب - أي الأمم أعقل فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا لعله أراد أصله من فارس فقالوا فارس، فقال

ليسوا بذلك، إنهم ملكوا كثيراً من الأرض ووجدوا عظيماً من الملك وغلبوا على كثير من الخلق ولبث فيهم عقد الأمر فما استنبطوا شيئاً بعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم، قالوا فالروم. قال: أصحاب صنعة. قالوا فالصين. قال: أصحاب طرفة. قالوا الهند. قال: أصحاب فلسفة. قالوا السودان. قال: شر خلق الله. قالوا الخزر. قال: بقر سائمة. قالوا فقل. قال العرب. فضحكوا - قال أما إني ما أردت موافقتكم ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلن يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثلها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وادم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم نفوسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم. حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر، على الخير فيهم ولهم فقال إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم حسر، ودفع الحق باللسان أكبت للجنان. بيد أن العرب لم يكن لهم بادئ ذي بدء دراية بالحرف والصناعات وبالعلوم وتعلمها الذي هو في عداد الصناعات وذلك لمكانهم من البداوة ورسوخ أقدامهم فيها ومن ثم كانت الشريعة الإسلامية - إذ كان القوم أكثرهم أميين - تتناقل في صدورهم - وجرى الأمر على ذلك أزمان الصحابة والتابعين - فلما بعد النقل من دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الإسلامية ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع، وهو معلوم أن الصنائع من منتحل الحضر والعرب أبعد الناس عنها والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي فكان صاحب صناعة النحو سيباويه ثم الفارسي من بعده ثم الزجاج وكلهم عجم في أنسابهم وكذا حملة الحديث وعلماء أصول الفقه وعلماء الكلام والمفسرون وأكثر فقهاء الأمصار مثل الحسن بن أبي الحسن ومحمد من سيرين فقيهي البصرة وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار فقهاء مكة وزيد بن أسلم ومحمد

ابن المنكدر ونافع بن أبي نجيح فقهاء المدينة وربيعة الرأي وابن أبي الزناد فقهاء قباء وطاوس وابن منبه فقيهي اليمن وعطاء بن عبد الله فقيه خراسان ومكحول فقيه الشام والحكم ابن عتيبة وعمار بن أبي سليمان فقيهي الكوفة وهلم، وبالجملة لم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس، وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فقد شغلتهم الرئاسة في الدولة وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه فإنهم أهل الدولة وحاميتها وأولو سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم بما صار من جملة الصنائع، والرؤساء أبداً يستنكفون من الصنائع والمهن وما يجر إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين - فكان امتراس العجم من القديم القديم في الحضارة وما تستتبعه من العلوم والصنائع سبباً في كيسهم وفطنتهم ونماء عقولهم ورجحان أحلامهم وميران ملكاتهم على الاستنباط والتخريج والتماس الحيل وتوليد المعاني ومن ثم كان شعر الموالي منمازاً عن شعر العرب الأقحاح باستفتاح إغلاق المعاني الدقيقة العبقريات والافتتان فيها وتلوينها بكل لون، وهاك شعر بشار وأبي نواس ومروان بن أبي حفصة وابن الرومي ومن إليهم من الشعراء الموالي، ترى الشاهد الصدق لما أقول، وعرب الأندلس منذ فتحهم هذه البلاد إلى وقتنا هذا لا تزل نزعتهم عربية في كل شيء حتى في شعرهم إلا ما أكسبتهم إياه طبيعة بلادهم وخصوبتها فمن ثم كان فرق ما بين شعرهم وشعر المشارقة في الجملة. . وبعد أن أتم أبو عبد الله كلامه أفضى بنا الحديث إلى ذكر الغزال الشاعر الأندلسي الظريف - وملحه ونوادره، وهذا الغزال كما أخبرنا ابن القوطية، هو يحيى بن حكم البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله وقد كان في الثالثة من بني بكر بن وائل وكان حكيماً شاعراً عرافاً وكان آية في الظرف وخفة الروح، وجهه الأمير عبد الله ابن الحكم المرواني إلى ملك الروم فأعجبه حديثه وخف على قلبه وطلب منه أن ينادمه فتأبى ذلك واعتذر عنه بتحريم الخمر، وكان يوماً جالساً معه وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها وهي كالشمس الطالعة حسناً فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها وجعل الملك يحدثه وهو لاه عن حديثه، فأنكر ذلك عليه وأمر الترجمان بسؤاله، فقال له عرفه أني قد بهرني

من حسن الملكة ما قطعني عن حديثه فإني لم أر قط مثلها وأخذ في وصفها والتعجب من جمالها وأنها شوقته إلى الحور العين فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده وسرت الملكة بقوله، وأمر الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان وتجشم المكروه فيه مع خلوه من الفائدة فقال للترجمان عرفها أن فيه أكبر فائدة وذلك أن الغصن إذا زبر قوي واشتد وغلظ وما دام لا يفعل به ذلك فإنه يبقى رقيقاً ضعيفاً فضحكت واستظرفته، ومن نوادره أنه أرسل مرة سفيراً إلى بلاد المجوس (أسوج ونروج) وقد قارب الخمسين وقد وخطه الشيب ولكنه كان مجتمع الأشد، فسألته زوجة الملك يوماً عن سنه فقال مداعباً لها، عشرون، فقالت وما هذا الشيب، فقال وما تنكرين من هذا ألم تري قط مهراً ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله فقال في ذلك - واسم الملكة تود - كلفت يا قلبي هوى متعباً ... غالبت منه الضيغم الأغلبا إني تعلقت مجوسية ... تأبى لشمس الحسن أن تغربا أقصى بلاد الله في حيث لا ... يلفى إليه ذاهب مذهبا يا تود ورد الشباب الذي ... تطلع من أزرارها الكوكبا يا بأبي الشخص الذي لا أرى ... أحلى على قلبي ولا أعذبا إن قلت يوماًص إن عيني رأت ... مشبهه لم أعد أن أكذبا قلت أرى فوديه قد نورا ... دعابة توجب أن أدعبا قلت له ماباله أنه ... قد ينتج المهر كذا أشهبا فاستضحكت عجاباً ولي لها ... وإنما قلت لكي تعجبا ولما فهمها الترجمان شعر الغزال ضحكت وأمرته بالخضاب فغدا عليها وقد اختضب وقال: بكرت تحسن لي سواد خضابي ... فكأن ذاك أعادني لشبابي ما الشيب عندي والخضاب لواصف ... إلا كشمس جالت بضبابي تخفى قليلاً ثم يقشعها الصبا ... وطلاوة الأخلاق والآداب

البولشفية

البولشفية (هل عرفت حقيقة البولشفية؟) لعل الجواب على ذلك لا يكون ميسوراً. إن نظاماً يتهمه أعداؤه بكل ألوان التهم، ويعيش ثلاث سنوات وصحافة العالم كلها تكتب عنه كتابات متناقضة متضاربة، نقول إن نظاماً هذا شأنه أن ينطوي على حقائق أكبر مما يقدر للصحف وكتابها أن ينشروا للناس. إننا نعيش في عصر مضطرب مجنون. وآية ذلك تلك الصرخة العنيفة التي انطلقت ضد البولشفية، وذلك الصوت الذي تألب ضدها، يقذفها بإنكار التهم وأقذرها. إنها نظام إباحي يجعل المرأة شركة عامة!! ولسنا هنا بسبيل الدفاع عن البولشفية أو نقدها. فهذا أمر لا نتصدى له في هذه المجلة. ولكنا نسوق للقراء شيئاً مما يقال عن أكبر نظام علمي اجتماعي والكلام هنا منقول عن أدق المصادر وأوثقها. والكاتب هو المستر بريسفرد كاتب انجليزي قدير محترم في بلاده زار روسيا وتجول فيها واختلط بأهلها ووقف على أنظمتها فهو يكتب عن خبرة وتدقيق. وقد كتب ما نحن ناقلوه في مجلة (الكونتمبري رفيو) التي يعرف قراء الانجليزية أنها من أكبر المجلات وأوثقها. قال الكاتب: لقد شهد العالم أنظمة وحكومات تستمد قوتها من قوة العصبية أو الثروة أو الجنس أو التعليم أو المقدرة الشخصية. وفي روسيا اليوم أحزاب تستطيع أن تبز البولشفيك في بعض هذه المزايا أو فيها جميعاً ولكن البولشفيك يحتفظون بميزتين خاصتين بهم هما: التدريب والنظام. القدرة على العمل وفرط الإيمان بمذهبهم وشجاعتهم إلى حد التهوس. وتاريخ هذا الحزب ينتهي إلى زمن الحكومة القيصرية وهذا تعليل ما هم متصفون به من قسوة التدريب وحب النظام. فلقد كانوا وهم محكومون بالحكومة المطلقة يعدون حياتهم مؤامرة مستمرة، فتعلموا التدقيق والحذر وكتمان السر والطاعة المطلقة، وتعلموا أن يقاتلوا الجاسوسية بجاسوسية أشد منها، وهكذا جعلتهم المحنة صنفاً خاصاً، فراحوا يكرهون الترف والدعة، ويكرهون الشراب واللهو وتعلموا أن يعملوا ويطيعوا وأن يعيشوا في حالة حذر مستمر ومن هنا كانوا أقدر من أعدائهم الذين ما انفكوا أهل لهو وخمول. والحزب البولشفيكي لا يربى على أكثر من 600 ألف رجل وامرأة. فهو أقل الأحزاب

الروسيى عدداً. ولعل في ذلك ما يبعث الدهشة ويثير الاستغراب إذ كيف تستطيع أقلية كهذه أن تحكم امبراطورية تنيف على 120 مليوناً من الناس. وتعليل ذلك أن البولشفيك يعملون على أن يحتفظوا بمكانتهم بين الأحزاب بأن يكونوا أقلية. وهم أزهد الناس في الكثرة، ومن أصعب الصعوبات أن يقبل الروسي في عداد هذا الحزب ولاا بد له إذا أراد ذلك من أن يكون رجلاً معروفاً قادراً على أن يأتي بكثيرين يشهدون له شهادة طيبة فإذا استطاع طان عليه أن يؤدي امتحاناً علمياً في مبادئ البولشفيك فإذا نجح عد (طالباً) فقط وعليه أن يبرهن على مقدرة وأهلية حتى يعد (عضواً). والبولشفيك أقرب إلى أن يكونوا نظاماً دينياً منهم إلى حزب سياسي كسائر الأحزاب التي نعرفها في أوروبا. وللخلق المقام الأول عندهم. فطالب الانضمام إليهم موطن نفسه لا محالة على امتحانات شديدة قاسية. فلا بد له من أن يكون شديد المواظبة على الاجتماعات الحزبية وأن لا يهمل قط في أعماله وأن يطيع رؤساءه طاعة مطلقة. فإذا قبل عضواً كانت الرقابة على سلوكه أشد واقسى فإن الميسر وشرب الخمر والإهمال والفتور والتمرد جرائم يحاكم عليها بالموت وهم يكرهون الرقص ويمقتون التدخين وأكبر جرم في نظامهم الأدبي هو طالب الربح المادي. والأسباب التي يتجعلهم أقلية صغيرة واضحة. ذلك أن الثورة التي أقاموها لا تزال تقاتل لتعيش فهم أقلية مختارة تعيش للفكرة والمبدأ. فإذا هزم جزء من الجيش الروسي يؤتى بالآليات البولشفية لتقذف في أحر القتال وأشده وإذا أبطا المعمل في مقدار ما ينتجه من العمل فلا بد من إرسال طائفة من العمال البولشفيك إليه. فإذا انتقضت قرية أو ثارت عليهم يؤتى بعضو أو اثنين من الحزب ليعيشا فيها. وإنهم يحيون حياة جهاد مستمر وهم مصدر القوة والنشاط في كل روسيا فإذا انتقصت غيرتهم للعمل أو تهاونوا أو أهملوا فإن نظامهم لا محالة مقضي عليه بالخذلان؟ ولكن هل نجحوا؟ وإلى أي حد بلغ نجاحهم؟ لقد ألقيت على واحد منهم هذا السؤال! فأجاب: نحن البولشفيك نؤدي الواجب ولا ننتظر الفائدة. إننا نعيش لحياة الحزب. فحياتنا رهينة القيادة العليا للحزب، وإن أحدنا ليتلقى الأمر فينطلق ويترك وراءه أولاده وزوجه ولعله لا يعود إليهم قط. والأعمال التي تلقى إلينا تنفذ

بدون بحث فقد تكون تنظيماً أو حرباً أو نشر دعوة. وأهونها جميعاً القتال في الجيش وإننا لنعد أنفسنا في راحة وبطالة إذا تلقينا الأوامر بالانضمام إلى الجيش. إننا نخضع لأنظمة من السلوك والآداب رفيعة لا يحتملها غيرنا. يدلك على هذا أن الضابط البولشفي يعاقب بالقتل إذا أمسك في شراب ويقتل الموظف البولشفي إذا سرق أو تقبل رشوة. أما غير البولشفي فيعاقب بالسجن على هذه الجرائم نفسها، فليس ثمة ما يبعث الناس إلى الانضمام إلينا إلا شعور سام بالفكرة التي ندين بها.) ونقاد البولشفيين وأقسى خصومهم يقرفونهم عادة بأنهم يستبيحون لأنفسهم من الترف والنعمة ما لا يتوفر لخصومهم. والتهمة باطلة بطلاناً تاماًًَ ولقد أتيح لي أن أراقب البولشفيين عن كثب واختلطت بهم (في مؤتمر الصلح في منسك) فرأيت أكبر موظفيهم يعيشون عيشة أبسط عمالهم ومسترزقيهم. ومقر الوزارة في قصر الكرملين في موسكو لم تكن قبلاً إلا بيوت ضباط حرس القصر. والحق في هذه التهمة - إذا كان لا بد من تقرير الحق - هو أن الموظف البلشفي أو غير البلشفي يتمتع بشيء من الراحة والميزة في أسفاره إذا كان موفداً في عمل رسمي للحكومة. وإن الذين يعملون في أعمال خطيرة كرجال الجيش والتعليم وصناع الذخائر يعطون من المؤن أكثر مما يعطى غيرهم وهذه الميزة متمتع بها البولشفي وغير البولشفي وهي مطلوبة للضرورة الباعثة عليها إذا أريد جعل الكفاءات الفنية موفورة الكرامة. ويذاع مما يؤاخذ به البولشفيين أيضاً أن توزيع الطعام والملبس تراعى فيه المحسوبية والتحزب ومصداقاً لهذا أقول انه اكتشفت في الأقاليم حادثة من هذا النوع ولكن مما يقال دفاعاً عن البولشفيين أن مفتشيهم هم الذين فضحوا الجريمة وأبرزوها للتحقيق مما يدل على أنهم يكرهون مثل هذه الجرائم ولا يشجعونها والرشوة والمحاباة داآن معروفان في روسيا وقد تكون هناك جرائم أكبر مما اكتشف الآن السبيل إلى إذاعتها قط ولكن الحق يقضي إنصافاً للنظام البلشفي أن نقول أنهم يعاقبون المجرم المتهم بالرشة أو المحسوبية بالموت وهم من صرامة العقاب يزيدون الجرائم ولا يقللونها ذلك أن الناس يكرهون أن يدل بعضهم على بعض ويقودوهم للموت. وتأليف هذا الحزب مثير للدهشة باعث على العجب. ذلك أن حزب الشباب. وأنا أسوق

هنا إحصاء كنموذج لذلك. والإحصاء مأخوذ عن سنة 1919 في بلدة سامارا - من سن 16 إلى 18 عدد الأعضاء 67 من سن 19 إلى 30 عدد الأعضاء 1353 من سن 31 إلى 40 عدد الأعضاء 607 فوق الأربعين عدد الأعضاء 205 وعدد الرجال 1912 والنساء 247. والمهن كما يأتي: - صناع يدويون 1293 عضواً كتبة وموظفون 498 عضواً فلاحون 156 عضواً أطباء ومعلمون 154 عضواً ومثال آخر يدل على أن الشباب هو الذي يمد هذا الحزب بالنصيب الأوفر من القوة والنفوذ هو ما يدل عليه الإحصاء في جامعة سفرلدوف في موسكو وهي جامعة خاصة بتدريب رجال البولشفية على النظام والإدارة. وعدد طلا بها نيف وألف شاب وشابة هم صفوة الطبقة العاملة وأحسن مفكريها يدرسون العلوم السياسية كما يفسرها البلشفيك وكما تتساوى مع أنظمتهم. ومدة الدرس ستة أشهر. يأخذون فيها دروساً في الاقتصاد السياسي وتاريخ الحضارة وتاريخ روسيا وتاريخ المذاهب الاشتراكية كما ارتآها كارل ماركس الزعيم الأكبر. وبعد الستة أشهر ينقطع الطلاب لدرس أساليب الإدارة والنظام في الوزارة التي يستخدمونها (الزراعة أو التعليم أو الطعام الخ) ويجمعون فيها بين الدرس والعمل. ولما كانت الستة أشهر غير كافية لتخريج أخصائيين أكفاء فقد جعلوها سنتين وهذه الجامعة واحدة من عدد عظيم مثلها قائم في سائر أنحاء روسيا. وطلاب الخدمة المدنية يقترعون لهذا التدريب العلمي بواسطة المجالس السوفيتية والنقابات والجمعيات البلشفية. وهم في الجملة يمثلون 25 شعباً من شعوب روسيا حتى الآسيوية منها ولكن للروس الأصليين الأغلبية إذ يبلغون 73 في المائة من المجموع ويأتي بعدهم اليهود ولهم سبعة ونصف في المائة فقط. والحزب البلشفي ينتقي رجاله اليوم من الشباب - رجالاً ونساء - الذين شهدوا الثورة

وعاشوا في ظل حكومتها. ولهم هيئات منظمة يسمونها (الحزب الكوموبي الفتي) يضم 400 عضو وهو يكاد يتساوى مع الحزب الأصيل في قوته ونظامه. زارني أربعة فتيان من هذا الحزب في إقليم فلدمير وهم متحمسون غلاة في عقيدتهم لهم جرأة وإقدام نادران. جاؤوا إلي يسألونني أسئلة عن حزب العمال الانجليزي ويصفون نظام حزبهم. وقد علمت منهم أن إقليمهم يضم 9000 عضو ثلثهم فتيات وهم ينشرون فكرتهم بواسطة الخطابة والاجتماعات. مثال ذلك أنهم يعقدون اجتماعات عامة يحضرها أنصارهم وغير أنصارهم ثم يثيرون مسألة خلافية كفكرة كارل ماركس مثلاً ويتركون للخطباء الدفاع عن آرائهم ومن هنا يذيعون عن المبادئ الاشتراكية دعوة ناجحة. ولهم في التربية والتعليم غايات محدودة واضحة المعالم ولقد قيل لي رداً على سؤال مني عن هذه الغايات هذا القول: إننا نذهب إلى خلق نفسية جديدة في الشبان ونعدهم أعداداً خاصة للعمل الاجتماعي نريد أن نجعل الذين تمتعوا بحظ من التعليم العالي أن يؤدوا بعض هذه النعمة في شكل عمل اجتماعي منظم لا أن يكتفوا بأداء عمل حكومي تافه. وقد علمت منهم أنهم يبذلون مساعدتهم في ملاجئ الأيتام ومدارس الأطفال وينظمون عمال المعامل الكبرى لزيادة المزارع وهكذا مع الزراع لزيادة المعامل. وأسوق هنا بعض ما يعمله الشباب منقولاً عن جريدة الحزب الأسبوعية. أقام الحزب في قرية معملاً للصابون يوزعونه مجاناً على الفلاحين توخياً للنظافة بينهم. وفي قرية أخرى أقاموا محلاً لإصلاح الأحذية القديمة مساعدة لعائلات الجنود المحاربين. وفي أخرى نظموا طوائف من السكان لمحاربة الأمراض الوافدة. وفي أخرى أحصوا الأميين من السكان الذين تزيد سنهم عن الست عشرة سنة وافتتحوا مدرسته لتعليمهم. وفي إقليم خزان افتتحوا 35 مكتبة ضمت بين أعضائها 1500 مسلم منهم 250 مسلمة. وفي بلدة أخرى جمعوا الحديد القديم البالي ودقوه محاريث للفلاحين. وفي بلدة سوزدال (قرب فلدمير) وبخوا سكرتير الحزب لارتياده المراقص الليلية. وفي التركستان جمعوا إحسانات لإعانة الأطفال في موسكو وبترغراد. قال الكاتب بعد كلام عن (اللجنة الخاصة) وهي التي لا تحاكي خصوم البلشفية: (وأنا ولا

شك معط فكرة غير صحيحة عن البلشفيين إذ قلت أنهم يستخدمون القوة وحدها لتأييد نظامهم. والحق يدعوني أن أقول أنهم لا يستندون على القوة إنهم يأخذون أقرب طريق لتحقيق سياستهم وهذا مثال من ذلك. كانت الأكاديمية العلمية في بترغراد قد قررت قبل شبوب الثورة الأولى العدول عن طريقة الكتابة بالحرف الروسي القديم (البيان: يكتب الروس لغتهم بحروف تختلف عن الحروف اللاتينية وهي أقرب إلى اللغة الأرمنية منها إلى اللغة اللاتينية) فلما حلت حكومة كرنسكي محل الحكومة القيصرية نشرت أمراً عالياً لتنفيذ توصيات الأكاديمية ولكن شيئاً من ذلك لم يقع وظلت المطابع تستخدم الحروف القديمة. فلما جاء البلشفيون عمدوا إلى وسيلة عملية ناجحة ذلك أنهم أرسلوا رجال الجيش إلى المطابع كافة ليرفعوا الحروف القديمة ويحلوا الجديدة محلها وهكذا نجحت الفكرة الإصلاحية بواسطة القوة. إن البلشفيين رجال عمل ونشاط. وعملهم لا يستند على القوة وحدها لإنجاحه بل لعله لا توجد في العالم حكومة تفوق البلشفيين في استخدام الإقناع ونشر الدعوة وبث التعليم. البندقية دائماً معدة في أيديهم ولكنهم لا يعمدون إلى استخدامها إلا إذا فشلت المطبعة ولهم في نشر دعوتهم طرق منوعة. فهم يكثرون الإعلانات الملونة التي تلصق على الجدران ففي كل طارئ من طوارئ السياسة العامة يتلقى الناس درساً في الاقتصاد أو الجغرافيا عن طريق الإعلانات فإذا حرم الناس السكر أو الزيت فإن الحكومة تعمد إلى تبيان الأسباب التي أدت إلى ذلك مثال ذلك أنهم ينشرون خريطة للبلاد الروسية ويلونون كل جزء منها بلون لإظهار ميزته من الوجهة الاقتصادية فالمقاطعات التي تنتج السكر بلون والتي تصنع الزيت بلون آخر وهلم جرا. فالرجل العامي لأول مرة في تاريخ روسيا بدأ يعرف شيئاً عن حدود بلاده بعد أن كان لا يدري أكثر من حدود قريته. وهذه الطريقة نفسها طريقة نشر الخرائط الملونة متبعة في إظهار مقدار ما أصلح من الخطوط الحديدية وما خرب منها وبها يذيعون أخبار انتصارات الجيش أو الثورات الداخلية، وهكذا جعلوا للعامل فكرة عن نفسه أدخلوا إليه روح الاعتداد بعمله. فمن الإعلانات الملونة التي رأيتها إعلان منها يدل على مقدار الحرية التي تتمتع بها المرأة في ظل الثورة ونقد الأمثال الروسية القديمة عن المرأة وآخر ينطوي على تهكم مر على

خصوم الثورة وهم أصحاب المال والارستقراطيون وكهنة الدين. وفي كل بلدة أو محطة غرفة للمطالعة تقوم فوق جدرانها هذه الإعلانات المصورة وفيها تجد الكراسات التي تنشر فكرة خاصة عن موضوع خاص ولهم أيضاً قطر السكك الحديدية المعدة لنشر الدعوة - وعددها ستة - وهي مسلحة بكل وسيلة للإعلان والنشر. ففي كل قطار تياترو وسينماتوغراف ومطبعة وجوقة موسيقية وهكذا يزخرف البلشفيون الحياة ويبعثون فيها لذة وفتنة. وهم يجمعون بين استخدام القوة واستخدام الإقناع والجدل. مثال ذلك الطريقة التي يتبعونها في جمع الغلال من الفلاحين وهي التي يأخونها بديلاً من الضرائب. وقد صور تولستوي وسائل الإرهاب والجلد التي كانت تتبعها الحكومة القيصرية في جمع الضرائب أما البلشفيون فيتبعون وسائل أخرى، ذلك أنهم نظموا شرطة خصيصين لجمع الغلال وهؤلاء لا يتقاضون ما للحكومة قبل أن يعقدوا اجتماعات عامة للفلاحين ينبري فيها الخطباء للتأثير على السامعين بالكلام عن حاجة المدن وبؤس أهلها فإذا انتهوا من البلاغة وإقامة الحجة خلع الشرطة أرديتهم وأخذوا المناجل وانحنوا على الأرض للحصد والجمع، وهكذا يجمعون إلى قوة البيان قوة البندقية. وقد صرفت في فلدمير وقتاً استمعت فيه خطباء البلشفيين وهم معروفون بلقب (الدعاة) (ولعل ألطفهم وأفتنهم النساء) وعمل هؤلاء الدعاة شاق فإنه ليس ما يستهان به إقناع القرويات الروسيات بنظريات البلشفية وحملهن على تسليم أولادهن إلى المدارس التي أقاموها ولهم في هذا السبيل وسائل ممتعة جميلة، ذلك أنهم ينظمون حفلات (بساتين الأطفال) ويدعون الأمهات إليها فتأتي الأمهات ويبتهجن بهذا النوع من التعليم ويطلبن إلا كثار منه. ولعل أكبر الصعوبات في سبيل البلشفية هي مسألة الدين، والبلشفيون أهل تسامح ولكنهم معادون لرجال الدين عداء قاسياً لأن الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا أشد العالم كله تأخراً وأكثرها تشبثاً بالخرافات السخيفة والبلشفيون معدودون عند الكبار وأهل الجيل الماضي كغرة ملحدين ولكنهم ليتخذون من انحطاط رجال الدين وسيلة للاستظهار عليهم والظفر بهم فالخرافات التي يروجها القساوسة هي التي يستخدمها البلشفيون وسيلة لنقد الكنيسة،

فالروس يعتقدون إن صلاة الكهنة تجلب لهم المطر إذا أجدبت أرضهم وقد وقع مثل هذا الجدب وهم يتخذون عقيدة الناس في أهل التقوى والصلاح الذين تكثر مزاراتهم والمقامات التي يقدسها العامة وسيلة لهدم هذا التقديس. فالروس يعتقد أن جثة القديس محفوظة في الجدث حتى يوم البعث وإن البلى لا يجد إليها سبيلاً. وقد فتح البلشفيون قبور أهل التقوى فإذا هم عظام نخرة وأكوام تراب. هذا وأمثاله مما يفعل فعله في هدم الكنيسة وتقويض دعائمها. وأهل الكنيسة مبغوضون لتلك الحياة التي يحيونها والناس لا يعدونهم إلا عمال جمارك على حدود هذه الدنيا والدنيا الأخرى. وهذا ما يجعل للدعوة التي يبثها أعداؤهم (البولشفيك) قوة ونفوذاً.

سعد زغلول

بطل مصر العظيم سعد زغلول لعل قراءنا لا يزالون على ذكر مما كتبه البيان باستفاضة أوائل سنة 1914 عن بطلنا العظيم، ورسول هذه الأمة القوي المتين الأمين - سعد زغلول - لمناسبة اختياره وكيلاً عن الأمة في الجمعية التشريعية - وكأنا بما كتبنا إذ ذاك كنا نتنبأ بما سيكون من سعد، ونقرأ بظهر الغيب تلك الآيات التي خبأها القدر مسطورة في صحيفة بطل مصر - وإن كل من عرف سعد قبل اليوم وخالطه كما خالطناه، وكان ثاقب البصر نافذ البصيرة نيرها، لا بد متنبئ نبوءتنا، قاض بأن سيكون لسعد هذا الشأن أو مثل هذا الشأن. وهكذا نبأنا التاريخ بأن عظماء الدنيا وأبطال العالم من أنبياء ومصلحي أديان وفاتحين ومحرري أوطان ومن إليهم قد عرفهم وتنبأ بما سيكون منهم - قبل أن يكون - كثير ممن رآهم. واليوم - وقد تحققت نبوءتنا وأصبحنا نرى البطولة تغدو وتروح بين ظهرانينا ونري حتماً لزاماً علينا أن ننبه الغافلين إلى هذه البطولة الخالدة وإلى وجوب تقديسها وحبها واحترامها والاغتباط بها والتملي بجمالها وجلالها، إذ يعد جحودها أو عدم تقديرها سبة العصر ووصمة الجيل وعنوان الكفر والإلحاد وفساد القلوب وخبث الأرواح وموت الضمائر - نعيد الكرة ونأخذ في الكلام على البطولة وخصائصها ومزاياها وآثارها الصالحة في العالم، وإنها كلها الآن بحمد الله ماثلة بمصر، في شخص سعد. وإننا نفتتح الكلام في ذلك بكلمات لصاحب هذه المجلة حول بطولة سعد هي بنت الساعة وعفو الخاطر، خرجت من القلب عسى أن تقع في قلب من له قلب، ثم نردفها بمقالين وضعا خصيصاً للبيان في هذا الشأن، أحدهما تام في هذا العدد للكاتب علي أدهم والآخر طوال مسلسل ننشر بعضه على أن ننشر باقيه في الأعداد القادمة - للكاتب محمد السباعي. (1) كل خصائص البطولة من الرجولة الحقة القوية المتينة، ولا صراحة التامة الخالصة النقية، والإخلاص الحار العميق والإيمان القوي الراسخ والصدق، واليقين والثقة بالنفس والمضاء والجرأة والإقدام وقوة العارضة ونصوع الحجة، ووضوح المحجة. كل أولئك موفور في بطل مصر العظيم سعد زغلول باشا، فهو بلا شك بطل من أبطال الدنيا وعظماء العالم

الذين ترسلهم السماء إلى هذه الأرض في الوقت المناسب. ومن الحين إلى الحين رحمة للعالمين. لا يعرف البطل ولا يقدره حق قدره ولا يحبه ويحترمه ويؤمن به ويشد أزره ويهتدي بهديه وينقاد إليه إلا كل من كان فيه عنصر البطولة،. فكل من يفطن إلى بطولة سعد فيقدسه ويؤمن به إيماناً تاماً مطلقاً لا شوب فيه ولا حد له، فذلك لأنه هو الآخر رجل بطل صادق مخلص طيب العنصر كريم المنبت كبير القلب عظيم الروح إلهي النزعة وقد ما قيل (إنما يعرف الفضل من الناس ذووه) وكل من لا يؤمن بسعد كبطل من إبطال الدنيا فلا يستشعر حبه واحترامه وتقديسه والتفاني فيه والاستماتة في ذلك إلى حد التهوس والجنون فهو إما رجل جبان مروع منخوب القلب، أو رجل حقود حسود رانا على قلبه القوة الغضبية، وهوت بها إلى ما هو دون مستوى الإنسانية العالية، أو رجل خاوي النفس فاتر الروح بليد القلب، أو رجل ماكر خبيث ملحد ناضب معينت الإيمان فلا قلب ولا صدق ولا إخلاص، وبالتالي لا خير فيه لنفسه ولا لأهله ولا لدينه ولا لوطنه. من أكبر خصائص البطل أن يكون أشياعه ومريدوه من ذويي الأرواح الطاهرة النقية البريئة أو القلوب الحارة المتأججة المضطرمة، ومن ثم نرى أول من يؤمن به وببطولته هم أولئك الذين لم تلوث فطرهم، ولم تدنس من اللؤم أعراضهم، من الشباب والنساء والأطفال والعامة والمصطفين الأخيار من الخاصة. وترى أشد الناس عداوة له ومناوأة، أو المتثاقلين في أمر الإيمان به، هم أولئك الذين يعبر عنهم في هذا العصر الغريب بأرباب المصالح أو المعتدلين أو المفكرين، لأن هؤلاء لأنهم ماديون أرباب غايات دنيوية عاجلة، أو لأنهم فاتروا الأرواح خائروا النفوس ومتبلدوا القلوب، أو لأنهم لؤماء ماكرون، يظنون أن البطولة تقف عثرة في سبيل غاياتهم، أو هي حجة قائمة على بلادتهم وفتور أرواحهم، أو هي إعلان عن ضآلتهم وحقارة نفوسهم. ليس انفضاض الناس من حول البطل مما يعيبه أو يتنقصه أو يصح اتخاذه سبيلاً لغمره أو غمط بطولته - وفي الحق، أن ذلك من أحمق الحمق، لأن انفضاض الناس من حول البطل إنما هو على العكس آية على انحطاط الجيل، إذ تنوء البطولة بأهله ولا يطيقون لها احتمالاً فيدركهم الإعياء والكلال ولا يستطيعون مضياً في سبيل البطولة فيتراجعون

متخاذلين. وهذ1انابليون العظيم أنبأنا التاريخ أن أشياعه ومريديه لما دب إليهم الضعف والوهن صاحوا قائلين ما معناه (كفى نابليون - لقد شبعنا نابليونية). ليس منت مستلزمات البطولة أن يحالفها النجاح فيما تنهض به وترمي إليه من الغايات والمقاصد. وكل ما على البطل أن يسعى إلى الخير جهده وليس عليه كما يقولون أن يساعده الدهر، وهل أزرى ببطولة نابليون أن انهزمت جيوشه في واقعة واترلو؟ ألم يبق نابليون بعد ذلك هو نابليون؟ يعيب البطال في نظر الحمقى أن يغيروا ويبدلوا في أنظارهم، وأن ينقضوا اليوم ما أقروا بالأمس، وأن لا يستقروا على حال من القلق، بينما هم يبررون أفاعيل الساسة وتلونهم بكل لون ولبوسهم لكل حال لبوسها بأنها السياسة. وأن السياسة تكذب وأمثال ذلك - أو ليس الأنبياء المرسلون أنفسهم كانوا يعمدون الحين بعد الحين إلى نسخ ما اشترعوا من الأحكام، واستبدال بعض ببعض مراعاة للظروف وتبدل الأحوال كانوا يعمدون إلى ذلك ويعمدون إليه كثيراً وما عليهم به إلا السفهاء من الناس. من المعروف لدى كل من تتبع حركة الإصلاحات الفكرية أو الانقلابات الاجتماعية أن رجال الدين دائماً أعداء لهذه الحركات وأعداء لزعمائها والقائمين بها. لأن رجال الدين في الأعم الأغلب جامدون يأبون إلا بقاء القديم على قدمه. فهم يخشون أن يكون من وراء هذه الحركات قضاء على نفوذهم الديني وما يجر إليه هذا النفوذ من المصالح والنافع وإذا كنا نرى من بينهم من يخرج على هذه القاعدة فإنما يكون ذلك لأسباب راجحة غلابة، كأن تكون هناك روح حارة وثابة، أو مصلحة آجلة، ترجح بالمصلحة العاجلة، أو تشبع بالروح الدينية البريئة الصحيحة، أو المبادئ القويمة السامية الصريحة. جرت سنة الله في خلقه أن الناس لا يرون العظماء والأبطال بالغين الحقيقة فيقدرونهم حق قدرهم ويقدسونهم التقديس الواجب ويتعلقون بهم التعلق التام إلا إذا حيل بينهم وبين الأبطال بأي حائل كان: وتكرم أوصال الفتى بعد موته، وعلى ذلك فكلما كانوا لاصقين بهم قريبين منهم رأوهم أقل مما هم عليه، وفترت قوة الإيمان بهم وضعف إجلالهم في نفوسهم، والأبطال في ذلك كالشمس لا تستطيع العين المجردة أن تجتليها اجتلاء صحيحاً تاماً أتم ما تكون ساطعة مشعة متلألئة، أما إذا كان هناك حائل كثيف من غيم أو منظار أمكن العين إذ

ذاك أن ترى الشمس أدنى ما تكون إلى سنخ نفسها، ورحم الله من قال: والنجم تستصغر الأبصار صورته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر كنت كلما سمعت أو قرأت لأحدهم أمثال هذه الكلمات. نحن إنما نجل سعد لأنه رمز أمانينا - لسنا عباد أشخاص وهلم جرا - يعروني لذلك امتعاض أليم، لأني لا أدري لماذا لا نجل سعد لذات سعد؟ وأي ضير علينا في ذلك؟ بل على العكس كل الضرر والسوء في عدم تقديس الأبطال لتلك البطولة التي هي ضرب من النبوة، والتي اختص الله بها هؤلاء الأبطال. ولكنها روح الإلحاد السائدة في هذا الجيل الكافر، والروح الارستقراطية المنكوسة الآخذة بنفوس الشرقيين، والتي هي سر ما نرى من معاني التخاذل والخلاف والشقاق - أقول أنه كان يعروني لذلك امتعاض شديد لم أجد له متنفساً إلا عندما قرأت كلمة الأستاذ وليم مكرم عبيد التي ألقاها في حفلة الموظفين التي أقاموها لإكرام بطلنا العظيم وقال فيها ما معناه على ما أذكر: إنا إنما نكرم سعد لا لأنه رمز أمانينا القومية كما يقولون بل لتلك الشخصية البارزة المتفوقة التي خص بها سعد: عندما قرأت هذه الكلمة ونظيراتها من بعدها سرّى عني وروّح، وأكبرت هذا الفاضل كل الإكبار، وقلت هكذا فلتحلل البطولة، وهكذا فليجل البطل البطل ولا جرم إن كان وليم مكرم عبيد نابغة من نوابغ مصر وبطلاً من أبطالها وذا عقل كبير وقلب أكبر ومثلاً أعلى يؤتى به، وجديراً أن يجعل حبه واحترامه لذلك شعاراً لنا ودثاراً. . تحيا مصر - ويحيا بطلنا العظيم - ويحيا كل من يحبه ويجله ويقدسه. . . (2) التاريخ هو هو قصيدة الحياة الطويلة المطربة المشجية، وإلياذتها الحماسية المسلية وسفر أناشيدها المؤثرات، وتراتيلها المبكيات، وهو الرواية التمثيلية الكبيرة التي افتن في خلق أشخاصها فن السماء المبدع الفائق الذي يرسل لنا من وقت لآخر شخصيات من صنع الحقيقة أوفر بطولة وأعمق حكمة من كل مبتكرات الخيال وتلفيقات الأوهام ترتسم، في طبائعهم القوية الصافية ظلال تلك القوة الرهوبة الجانب المسيطرة على الكون - ويحيى هؤلاء الأبطال لتمثيل أدوار متعاقبة مختلفة الصورة متحدة المغزى فوق مسرح الحياة الكبير المخيف ذلك المسرح المشيد من الزمان والمكان والممتد بين الأزل العتيق والأبد

السحيق، والذي تنيره مصابيح النجوم السرمدية وتشرق من سقوفه أضواء الشمس الخالدة. وأجل ما في التاريخ نهضاته فإن كل نهضة مهما كانت الفكرة التي قامت عليها ومهما كان نصيبها من الحق والجمال جديرة بالنظر وأعمال الروية لما يظهر فيها من نفائس النفس وكنوز الروح، فإن من شأن النهضات أنها ترفع الأستار عن حياة الشعب الداخلية فتظهر خصائصه ومزاياه في شكل أخاذ ورونق خلاب. وإذا كان من أجل ما في التاريخ نهضاته وكانت كل نهضة أدبية كانت أو سياسية أو دينية تنما. برجل كبير يسمها بميسمه ويكون منها بمثابة محور الدوران فإنه يصح لنا أن نستخلص من ذلك أن العظماء هم عصارة التاريخ ولبابه وسره وجوهره، ومن يقلب الصحف المطوية في بطون التواريخ لا يمكنه مهما كان منكراً لعقيدة البطولة هادماً لمذهب الشخصيات التاريخية أن ينكر ما لهؤلاء الأفذاذ النوادر من خطارة الشأن في إقامة موازين الحضارات وتأثيل مجد الشعوب، وهم أشبه بالآلات الرافعة توجدهم الطبيعة عندما يسئمها سير التطور التدريجي لأحداث الطفرة فلا عجب إن هي حبتهم بتلك القوة العادية اللازمة لتلك الفعلة الكبيرة - وليس العامل الفرد في خلق أمثال هؤلاء الأفراد الظروف والوسط فإن رجالاً مثلهم لا ترفعهم الظروف وإنما هم الذين يرفعونها ولا يخلع عليهم الزمن أبراد المجد وإنما بهم تكتسي الأزمان جمالاً قشيباً وجلالاً مهيباً والوسط هو الذي يستمد من صادق وحيهم ويستنير يثواقب آرائهم ويستند على مواضي عزماتهم ويستقي من ينابيع قواتهم الروحية والأخلاقية، ومن الغبن والتوهين من أمر تلك الشخصيات الكبيرة أن نعتقد أنها من صنع الظروف وأنها جاءت محمولة على تيار النهضة. وإنما سبب بطولة البطل ترتد إلى أسباب وراثية بعيدة الأعراق من فوق منال المفكر الاجتماعي لأن بارقات أفكاره لا تنير في غياهبها المتكاثفة ونافذات نظراته لا تتغلغل إلى أغوارها المتقاصية والبطل يحمل في دمه جرثومة عظمته وبين جوانحه سر بطولته وإنما فضيلة الظروف هي في أنها تجلو الحياة الداخلية وتهيئ له الفرص وتعد له المعدات وتفسح له المجالات والعظيم أشبه بالزهرة تستتم نموها وتتفتح كمائمها ويتفاوح أرجها إذا هي أصابت جواً صالحاً تتغذى منه عناصرها الكريمة. من أولئك الرجال الذين تزخر في عروقهم دماء البطولة والذين يرسلهم القدر مزودين

بالقوة الخفية، ومن تلك الشخصيات الغلابة الجاذبة التي تطالبك في كل وقت أن تفكر فيها وتقتادك نحوها - سعد زغلول بطل مصر في نهضتها الأخيرة والذي في وجوده بيننا معنى سام يملأ نفوسنا ثقة ويقيناً فإن الأرض التي تنبت الدوحة الباسقة - الوطن الذي ينجب مثل سعد جدير أن يحمل ثراه أدواحاً فارعات نظائر سعد - وظهور بطل كسعد يدل على سلامة عضوية الأمة وقوتها صلبها لأن الأمم الواهنة الدارجة إلى الاضمحلال يندر فيها ظهور العظماء والقوة المكتنة في سعد دليل قوة الأمة وعنوان حيويتها وهذا مما يغمر نفوسنا بنور الأمل الوضاء، إن الرجل الكبير لا يبتكر أفكار عصره ولا يبتدع مبادئه ولا يخلق أمانيه ومنازعه، لأنها كلها مجموعة عضوية مكونة لذهنية الشعب، وهي أكبر وأكثر تعقيداً من أن يوجدها فرد ولكن العظيم ينفخ فيها كلها روحاً من أنفاسه فتتحول الفكرة إلى إحساس دافق والمبدأ إلى عاطفة مستفيضة ويجعل للأمل المتردد الحائر والنزوع القلق الثائر وجهة يتخيلها وتنصب إليها متزاخر تياراتهما وهذا يزيدهما قوة وتدفقاً. وإنه من جانب سعد هبت تلك النسمة المتأرجة التي أحيت القلوب وشدت العزائم، وفي معبد فؤاده الكبير كانت تجول الأفكار البركانية الحارة حتى أصابت من الظروف مخرجاً. وسعد هو ذلك الكاهن الإلهي الذي أوقد النار المقدسة بين أضالعنا وهو الذي جدد أمامنا نواظرنا صوراً شتى من أفاعيل الأبطال، وهو الذي نقل الشعب من التفكير في سفاسف الأمور ومحاقرها إلى التفكير في الغايات العامة الكبيرة ومطالب الحياة السامية النبيلة والعظيم هو الناطق عن الذات العامة لشعبه والناشر لمطوى خوالجه، فآلاف النفوس الصامتة تجد من سعد أصدق معبر عن أمانيها ومطالبها وأفصح ناطق عن آلامها وشكواها وآلاف من الأبطال الراقدين في ظلمة الدهر يتاح لهم منه مجدد لبطولتهم باعث لمجدهم الملحود، وليس العظيم هو أكبر الناس عقلاً فحسب بل هو أسماهم مقصداً وأشرفهم غاية وأقدرهم على التحليق في الأجواء العالية. والعقل أشبه بالضوء ليست له غاية أخلاقية ولكن الإخلاص هو الذي يجعل للعقل الكبير قيمة ولذا فإن عظمة سعد قائمة على صخر مرضم لا تؤثر فيه معاول الهادمين لأن أساسها العقل الكبير والإخلاص العميق، وما دامت نوادر صفاته باقية لا يعتريها التبديل فعبثاً يحاول الأفاكون النيل منها، وليس يكربنا إن غابت وجوه عظمته عن الأغمار الأغبياء من كل خاو النفس فاتر الروح ولئن كانوا يقومون عليه

صلابته ويجيلون الألسنة في تشدده ومتانته فإن هذا لمما يزيدنا يقيناً ببطولته، فما كانت الصلابة يوماً مما لا يوصف به زعماء الأحزاب العظماء، ولئن كان قد انفض من حوله كل موصوم الوطنية متهم المأرب فإن هذا مما يزيد عرش ملكه استقراراً في القلوب ويجمع حوله العناصر القوية المخلصة خالية من الأخلاط والشوائب، ولئن تخونه الأتباع ونال منهم الكلالة والإعيار ورأوا أن الطريق طويل والغاية بعيدة فإنه سيمضي وحده، فهو من نفسه الكبيرة في جيش لهام وجمع ضخم، ومن تأبيه وعزته في معقل أشب متعاسر، وقديماً كان البطل أشد الناس إقداماً على المكروه واقتحاماً للمخاطر بل هو الذي يتقدم وحيداً إلى الهاوية التي تكمن فيها أهول المخاوف لإنقاذ وطنه. إن تلك الوفود التي تتسايل من حواضر القطر ومدنه وقراه وكفوره هي دليل حياة مشرقة ستنجلي عنها أحلك الحوادث ولا يصغر من شأنها إلا من كان يود لبلاده الخراب والاستعباد الأبدي، ويوجد فارق كبير بين الإيحاء الطبيعي للبطل إلى أذهان الشعب الذي تنطبع على قلوب أفراده صور منازع البطل وأمانيه فيلقي إليه المقادة طائعاً مختاراً مقراً بنبله وفضله، وبين إرغام الشعب على قبول فكرة خاصة - ذلك الإرغام الذي يجيء من جانب الحكومات، ولئن كان الأول من أجمل مظاهر تقديس الشعوب لرجالها العاملين المخلصين فإن المظهر الثاني مما يبعث على الحزن والقلق لأنه يشل قوة الشعب ذلك الشلل الذي يسمونه تداهياً بالنظام ويسبب الجمود الذي يخلع عليه اسم الحكمة ويدعو إلى التفريط في الحقوق المقدسة الذي يعرف بالاعتدال وهو ينضب موارد التفكير الحر ويطعن الأمة في صميم رجولتها وأنفتها وإن وراء عواطف الجماهير السريعة التأثر والانفعال عقلاً أعمق من عقل ذوي الفتور والنظرة المقرورة، ومن يتعمق في تفهم نفسية الجماهير يمكنه أن يصل إلى المعنى الجدي الكامن وراء لجاجهم وانفعالاتهم، ومن الخطأ أن نقيس حركات التاريخ بمقياس العقل المدرك ونهمل جانب الخوالج والخياليات وتأثيرها في أرواح الجماهير، وأسمى مزية لرجال التاريخ هي استجاشتهم للعزائم وإثارتهم لرواقد الإحساسات ولذا كان تأثر روسو أوسع مدى وأرمى أطرافاً من تأثير فولتير وإن في قولهم أن صوت الجماهير من صوت الله لمعنى مستدقاً أعمق من أن يدركه الزارون بالجماهير والدين يجهلون أن مشاعر الجماهير الصافية البريئة من الغايات أسمى من كل منطق

خسيس مسف، وما دام لا يمكن لكل إنسان أن يكون ذا رأي خاص ومذهب مبتكر وعقيدة مختلقة، ومادام هناك رجل كبير العقل مخلص جاد وآخر كاذب مستخف فإن المساواة مفقودة، وليس هناك من عار في أن يقودنا أكبرنا روحاً وأخلصنا سعياً، وإذا أصبح لكل إنسان من نفسه دليل وقائد فإن هذا مما يرخي أواصر أي مجتمع مهما كانت قوية متماسكة ويسوقه إلى أشنع حالات الفوضى. وأليست الحياة معركة أبدية كبيرة ونحن كلنا جنود نحارب بقولب ملؤها الحزن أو بقلوب مفعمة بالبشر وإن كنا نجهل الغاية البعيدة لهذا التقاتل والتلاحم، فلماذا لا نسلم قيادتنا إلى أكفأ قوادنا وأوفرهم إخلاصاً ونسير تحت لوائه الخفاق؟ قال شاعر خالد (إننا نحيا بالحب والإعجاب والاحترام) وأمامنا الآن عظمة خالية من الشوائب ستتبدد السحب المحتشدة في جونا المتردي بالغيوم فتظهر في نصوعها وجلائها. فلنثبت للعالم أننا خلقاء بالحياة الجليلة بحبنا وإعجابنا واحترامنا لتلك العظمة. عظمة سعد زغلول. (3) مما يؤثر عن الذين لاقوا كبار المصلحين وأرباب المذاهب الجديدة وزعماء الثورات الفكرية والانقلابات الاجتماعية أمثال نابليون بونابرت وميرابو والسيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وأمثالهم من الزعماء والقادة أن المنصتين إلى أحد هؤلاء العظماء كانوا يحسون أن وراء ألفاظه معنى خفياً هو أروع وأجمل من أعظم ما ينطق به من الصواب والحكمة، وخلف إشاراته وكلماته قوة كامنة وسراً عجيباً لا يعرف كنهه وماهيته ولكنه يحس أثره ومفعوله، فهو في ذلك ضرب من الكهرباء والمغناطيسية وكذلك لما ألف النابغة كارليل (تاريخ الثورة الفرنسية) الذي شهد العالم أنه أدق وأبرع ما أخرج للناس في وصف ذلك العهد فتناول سيرة (ميرابو) فصورها للناس صورة حية تتفزز تكاد تلمس باليد وتوشك أن تثب من الصحيفة فتمشي على وجه الأرض إنساناً حياً ناطقاً - صاح النقاد صيحة واحدة (أين هذا من ميرابو الحقيق!) لقد عجز كارليل - وما هو إلا بشر - عن تصوير ذلك المعنى الخفي - ذلك السر العجيب - تلك الفكرة الكامنة - تلك المغناطيسية والكهرباء - التي يصح لنا الآن أن نسميها (الشخصية).

هذه الشخصية التي هي قوة مستكنة كامنة تؤثر في قلوب من حولها تأثيراً مباشراً بلا واسطة بمجرد وجودها - هذه القوة المتعذرة الوصف والتكييف والتي يمكن تقريبها إلى الإفهام بأنها أشبه شيء بروح أو طيف يكمن في فؤاد البطل يوحي إليه ويلهمه ويحثه ويدفعه ويجعله غنياً بنفسه عن المؤازر والمعاون ويتركه وكأنه قبيلة في فرد وأمة في شخص - هذه القوة الهائلة والنار المقدسة التي نزلت من السماء على أفئدة أعاظم الأبطال ممن ذكرنا آنفاً فرفعتهم بقوة لهيبها إلى مقام القديسين والملائكة - هي أيضاً مما أراد الله أن يمتاز به زعيم الأمة المصرية وبطل النهضة العصرية سعد زغلول. إن صاحب مثل هذه الشخصية ينال انتصاراته بغريزة تفوقه وسبقه وبفضل تغلبه وسيطرته وليس بحد الحسام ولا بقذائف المدفع بل السر في في انتصاره هو أن مجرد ظهوره على مسرح الدنيا يبدل صورة الأحوال ويقلب نظام الأمور والمسائل. لقد جاء في أساطير اليونان أنه لما سئلت (ايولي) كيف عرفت يا ايولي أن هرقلاً اله أجابت (لأني عندما وقع عليه بصري انشرح صدري واطمأن قلبي. وهذا ما لم أحسه حينما أبصرت (ثيسيوس) ولذلك طلبت أن أراه يصارع الأبطال في حومة الوغى أو على الأقل يركض أفراسه في المضمار، أما هرقل فلم ينتظر فرصة الصراع والجلاد ليثبت تفوقه وغلبته كلا. ولكنه نال الظفر والنصر سواء أكان واقفاً أم سائراً أم قاعداً أم على أية حال غير ذلك). هذه الشخصية هي قوة طبيعية كالحرارة والضوء. فإذا هي عملت فإنما الطبيعة بأكملها معها تعمل وتشترك وإياها، تساعد وتساند. وإذا كان الرجل الاعتيادي الضعيف يكون دائماً مفكك الصلة بالعالم الذي يعيش فيه فإن البطل القوي صاحب هذه الشخصية يرى كأنه يحيا بنفس الروح التي تحيا بها الكائنات وينبض فؤاده على نبضات قلب العالم وكأنك تبصر فيه أحد القوانين والنواميس التي تضبط مسرى النجوم والأفلاك وحركة المد والجزر. ولست أرى في مسألة تأثيرنا وخضوعنا لشخصية هذا الإنسان دون غيره إلا أمراً بسيطاً جداً لا يختلف عن نظرية الجاذبية التي تشمل العوالم والأكوان جميعاً - أعني انجذاب الأصغر إلى الأكبر. بيد أن مقياس الصغر والكبر والضؤولة والعظمة في الإنسان هو مقدار ما فيه من عنصر الصدق والحق. فالرجل الطاهر النقي المفعم بروح الحق والنزاهة

والإخلاص والإيمان يتسلط على من هم أحط منه وأدنى فيخضع أرواحهم بما هو أشبه بالتنويم المغناطيسي إذ تخشع أمامه هذه الأرواح وتطأطئ وتفقد قوة الدفاع إلا ما كان منها ينطوي على قسط من العظمة غير زهيد فهذا ينهض بجاذبية الشخصية العظيمة نحوها ويسمو إليها. وهذا هو ناموس الطبيعة العام فإن الأرواح العليا إذا عجزت عن أن ترفع إلى مقامها الأرواح السفلى شلت حركتها وخدرتها وأخمدت قواها كما يصنع الإنسان بالحيوانات السفلى. وكم رأينا من شخصية عظيمة كان لنا في قوة نفوذها وسلطانها مصداق ما لم نزل نسمع من حكايات السحر والسحرة. ولا غرو فإنك لا تبصر صاحب الشخصية الكبيرة كأنما يتدفق من عينيه تلقاء من حوله تيار نفوذ وسلطان - سيل من الضياء الثاقب يسري إلى الجماعة فيفشي فيهم مبادئه وأفكاره ويصبغ جميع الأحوال والحوادث بصبغة روحه وذهنه. ولما سئل مرة أحد الساسة (بأية حيلة استطعت أن تستميل خصمك وتحمله على ما قد أردت؟) أجاب (لم أستعمل حيلة سوى تأثير الذهن الأقوى على الأضعف) أوليس في طاقة يوليوس قيصر مكبلاً بالأغلال والسلاسل أن يتملص منها فينقلها إلى السجان؟ إن البطل ينفث روحه في كل من حوله وكل ما هو واقع في متناوله من الحوادث والأحوال هو كالمطر الغزير يحيي موات الأرض وكالعين النرة تترك الصحراء بستاناً. وإن روحه المتدفقة الفياضة تنفسح حتى تشمل أوطانه من أقصاها إلى أقصاها وتحدق بها إحداق السوار بالمعصم فتصبح هذه الأوطان له كأساس تقوم عليه شخصيته الهائلة وكميدان تجول فيه فيالق عزيمته وكتائب نفوذه وهمته. هذا البطل إذا صادف ظهوره أوقات التطورات الاجتماعية والانقلابات السياسية كان له الأثر الأقوى في تعجيلها والإسراع بها إلى النضج والتكون فظهوره في هذا الوقت الحرج هو كتوافر الدفء المنعش والجو الموافق الملائم واصطلاح هذا وذاك على إنضاج الغرس وإزكائه وإيصاله إلى أقصى غاية الإنتاج والإثمار - فهذا الجو الملائم هو الواسطة الوحيدة لتحقيق هذا الغرض، ولن يقوم مقامه ولن يؤدي وظيفته كل ما يخترع الزارعون من وسائل الإنتاج الصناعية. لقد جاء بطل النهضة الحالية - سعد زغلول - في عهد تطور وانقلاب ما زالت الأسباب

الطبيعية والعوامل الكونية ترشح له وتهيئ وتمهد حتى بلغ الدرجة التي كان عليها ساعة ظهر ذلك البطل العظيم وبرز من مكمنه إلى ميدان العمل ولم يك بعد قبل بلغ تمام اختماره ونضجه. فلما برز ذلك البطل بجلال شخصيته الكبرى وروح بطولته العظمى أرسل شعاعاً من نوره المقدس على تلك القوى البطيئة المتلكئة فإذا هي احتدمت وتوقدت - وسلط على تلك العناصر المصطدمة المتنافرة شعبة من روح ذلك النظام والوحدة الذي يملأ كيانه فإذا هي قد تآلفت وانتظمت وعادت قوة هائلة عظيمة جديرة أن تنفض عن أعطافها غبار الكسل والتبلد وتقوم في الحق قومتها وتثور في وجه البغي والعدوان والعتو والطغيان. فلا غرو إن قلنا أن سعد زغلول هو - على هذا الاعتبار - صاحب هذه الحركة ومؤسس هذه النهضة بما أنه هو القادح لهيبها من زناد الحوادث والمستثير ثروة تبرها من مناجم المقادير والمرسل جنينها من بطون الليالي ولولاه ما قامت النهضة حين قامت، وهب أن لديك أكواماً مكدسة من الحطب فهل تراها تشتعل من تلقاء ذاتها؟ كلا ولو بقيت مليون عام. فأما إذا أرسل الله عليها شرارة من ملكوته في صورة بطل عظيم كسعد فغنها لا محالة مشتعلة فمتأججة حتى يستطير لهبها ويستفيض سناها ويسمو إلى عنان السماء شعاعها ويطبق على الأرجاء نورها. فالرجل العظيم شهاب يسقط من السماء. والناس في انتظاره كالحطب في انتظار الشعلة فما هو إلا أن يسقط عليهم من السماء حتى يلتهبوا ويضطرموا. إن العظيم شهاب يستضاء به ... وصارم من سيوف الله مسلول وكذلك الصدق والإخلاص والإيمان هو أكبر قوة في العالم وهو مبعث الحياة ومنبع الرفعة وما زال للأمة رقي في درج الفضل وتعاريج إلى ذرى المجد ما دام مذهبها اليقين ومبدؤها الإيمان. الرجل العظيم ضروري لنهضة الأمة من الضعة إلى المجد ولخروجها من الظلمات إلى النور ومن العبودية إلى الحرية. فالأمة لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بمعونة البطل الذي يسد مسده كما أسلفنا أية واسطة أخرى من محاسن الصدف والظروف أو المزايا الجغرافية والمناخية والجوية، نضرب لك مثلاً على ذلك جزيرتي (ساردينيا) و (كورسيكا) بالبحر الأبيض المتوسط - فقد آثرتهما الطبيعة بأحسن المواقع الجغرافية وأغزر منابع الثروة المعدنية والزراعية وقد لبثتا برغم ذلك مجهولتين مهملتين على مدى الحقب مسافة ثلاثين

قرناً من تاريخ أوروبا. هاتان الجزيرتان لهما عادات ولا قوانين، ولهجات شتى ولا لغة، وروايات حروب وغارات ولا تاريخ، واحتياجات وثروة ولا تجارة، وأخشاب وموانئ ولا أساطيل، وأساطير ولا شعر. وثارات وأوتار ولا قضاء، وجمال مناظر ولا تصوير، وأغاريد بلابل ولا موسيقى. هاتان الجزيرتان تقعان في بؤرة مدنيات الشعوب الأوروبية بأكرم بقعة وأحقها دون غيرها بأحسن الرقي المادي والعقلي والتجاري والسياسي، وهما بالرغم من ذلك قد نامتا أطول نومة فوق معزف التاريخ الموسيقي الرنان، فإلى ماذا ينسب ذلك السبات التاريخي؟ يقول العلماء سببه عدم الاستقلال والرسوف في قيد العبودية إذ ما برحتا تابعتين لبعض الدول الأوروبية. أنا لا أعارض في ذلك ولا أناقش. ولكني أقول لماذا بقينا في الرق والعبودية؟ لماذا لم تنالا الاستقلال وتظفرا بالحرية. وأجيب على الفور، ذلك لأنه لم يظهر بهما ذلك البطل العظيم الهائل الشخصية المملوء نجدة وهمة وإيماناً وإخلاصاً - القادر على إشعال قلوب مواطنيه بلهيب الوطنية والغيرة والحمية والطموح إلى الاستقلال والتعطش إلى الحرية. ما أظن أهالي (ساردينيا) و (كورسيكا) قد خلقوا من طينة أخبث وأردأ مما خلق منه سائر الشعوب الأوروبية، أو أنهم الأم عنصراً من تلك الشعوب أو أخس جوهراً - ولكن أجود كومة من الحطب لا يمكن أن تشتعل - كما قلت - من تلقاء ذاتها. بل لابد أن تسلط عليها ثقاباً أو شعلة، ولا مشاحة في أن الطبيعة قد ضنت على هاتين الجزيرتين طول هذه الحق المديدة بالشعل الوطنية اللازمة لها الأساسية لنهضتها وقيامها. إن البطل يكون له من قوة التفكير ونفاذ البصيرة ما يسبر به أغوار الأحوال الاجتماعية والسياسية في وطنه حتى يمس موضع الحاجة ويلمس مكان الألم ويدرك من الشؤون والمسائل ما قد اختمر ونضج وأصبحت تتمخض عنه أحشاء العصر فيرى أن هذا وحده - لا سواه - هو لباب الحق بالنسبة لجيله وهو أمس حاجات أمته وشعبه، فليس غير البطل الذي يبعثه الله لشعبه يستطيع أن ينفذ ببصره إلى هذه الحقيقة الكامنة المخبوءة الآخذة في دور النشوء والتكون في ضمير الغيب وفي طي المستقبل العاجل - ليس غير البطل يستطيع أن يتبين هذه الخطوة الضرورية التي تهم بها الأمة ويتحفز لها الشعب ويشمر. هذه في نظر البطل هي مسألة المسائل وحقيقة الحقائق، هذه هي همه الوحيد وغايته

وغرضه وبغيته، وفي سبيلها يبذل أقصى جهده ومن أجلها يطلق دنياه ويهجر شهواته وينسى نفسه وينكر ذاته. فواجب على الجماهير إذن أن يعرفوا في بطل النهضة أمام العصر وقائد الجيل النافذ البصيرة الصادق النبوة، وإن قوله الصدق واعتقاده الحق ومنهاجه الرشد وسيرته الصلاح وسراطه الهدى. وسخف من بعض الأفراد وحماقة وغباء وعماية أن يحملوا بطل النهضة على اتباع آراء الغير ممن يخالفونه ويعارضونه وما كان البطل قط ليتنزل إلى ذلك، وما كان له ومعه عقله وحزمه أن يحيد عن الحق إلى الباطل وعن الهداية إلى الضلال، وما كان للشمس أن تشرق من المغرب ولا للسيل أن يتدفق من أسفل إلى أعلى ولا للقمر أن يعطل طوافه حول الأرض ولا للعذب الفرات أن يملح ولا للملح الأجاج أن يعذب ولا للذهب أن يحور رساساً ولا للسكر أن يصير ملحاً وقد قلنا أن بطل النهضة هو في كيانه وجوهره وفي حركته وسيره كبعض نواميس الكون وقوانين الطبيعة لا يغير نهجه ولا ينكب عن سراطه إلا بعد أن يفسد الكون ويتبدد نظام العالم وتنشق السموات والأرض وتخر الجبال هدا. فالبطل نبي العصر يأمر فيطاع ويسير فيتبع وخليق بالشعب أن يؤمه إذ كان يبصر فيه علم وطنيته ورمز حريته وإذ كان في صورته وشخصه تتمثل تلك النزعة الجديدة التي نبعت في نفوس الشعب عامة وتتجسد تلك الروح الناشئة التي نجمت في ضمائر الأمة كافة - فهم إذا انجذبوا إليه فإلى أرواحهم ينجذبون، وإذا لبوا نداءه فنداء أرواحهم يلبون، ووحي قلوبهم يجيبون وإذا آمنوا به فبحقيقة النفس البشرية وبسر الروح الإنسانية يؤمنون، وإذا عرفوه فالحق والله يعرفون. هذه النزعة الجديدة - هذه الروح الناشئة - روح العصر تتقمص البطل فتستولي عليه وتستحوذ على لبه وشعوره وكيانه فيظل وليس فيه إلا هي فكأنه مطية لها شاءت أن تمتطيها إلى غايتها المقصودة، وكأنه سفينة لها اتخذتها مركباً تمخر بها عباب الحوادث جريئة على الأنواء والعواصف جلدة على الأهوال والمصائب صبوراً على اصطدام العناصر وثورة الزوابع - تندفع بها في بحر ثائر من الخلاف والشقاق والعناد والخصام. والنزاع والصدام. تعاني البلاء وتقاسي المحنة والشقاء. حتى تصل إلى ساحل الأمن والسلام والفوز والظفر. بسم الله مجراها ومرساها - هذه سفينة الأمل تسير بنا في موج كالجبال قد حفتها عواصف

الخلاف وزوابع الفتنة وكمنت لها تحت جبين المياه الطلق الوضاح صخور الغدر والخيانة ورمال المكر والدهاء وداهمتها شياطين الكفر والجحود تساورها من بين يديها ومن خلفها ولكن لا بأس عليها ولا ضير والله وليها وحارسها والمبدأ دقلها والإخلاص شراعها ولهيب الوطنية الصادقة مرجلها وقوة الإيمان والغيرة والعزم والحمية ريحها وأربعة عشر مليوناً من الأيدي الجادة الكادة مجاذيفها وشعب مخلص النية صادق العزم ركبانها - ستسير بقوة الحق إلى ساحل الحرية والفوز والنجاة وهنالك تطمئن نواها. وتستقر عصاها. (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوا آمنين.) عقدنا النية على أن نخصص في البيان صفحات عدة لنشر صور مختلفة لبلدان وأقطار واختراعات وملوك وعظماء ونوابغ وما إلى ذلك لمناسبات تبدو لنا وليس من الضروري أن يكون هناك كلام أو مقال يتعلق بالصورة لأن الصور كأنها عمل قائم بنفسه. وهنا نشرح الأسباب التي حدت بنا على نشر بعض صور هذا العدد. السير طالب النقيب باشا جاء في الأنباء البرقية أن السيد طالب النقيب عظيم العراق والذي كان رئيس حكومة هاتيك البلاد، وقف في وجه الانكليز وهددهم بإهاجة العراقيين عليهم أن هم لم ينزلوا على ما يريدون، فكان ذلك سبباً في إبعاد السيد طالب عن البلاد. ولسنا ندري هل أطلق سراحه أم لا يزال في منفاه. . أما السيد طالب النقيب فهو من رجالات الشرق العظام وأكبر زعماء العراق ومن سلالة بيت النبوة، وعريق في المجد والسؤدد، وقد أقام في مصر نحواً من ثلاث سنين أيام الحرب العالمية الكبرى. وكان من حسن حظنا أن تعرفنا بالسيد وخالطناه وأنسنا به وأنس بنا ومال إلى عشرتنا ميلاً صادقاً ينم عن طيب عنصره ونبل إحساسه وسمة أخلاقه. فأصبنا منه رجلاً عظيماً كبير الروح كبير القلب عظيم الإباء والشمم وكان عضواً في مجلس المبعوثان ويحسن عدة لغات من التركية الفارسية والفرنسية والألمانية والانكليزية، وهو جريء مقدام صريح قوي والحق لا يخشى في سبيله شيء ولعلنا نعود إلى الكلام عليه بأوفى من هذا في فرصة

أخرى. محمود بك نصير جميل جداً أن يكون أعيان البلاد من المتعلمين المهذبين المستنيرين، وأجمل من ذلك أن يظفر الإنسان من بينهم برجل عالم فاضل واسع الاطلاع لا يلهيه ماله وبنوه ونعيم هذي الدنيا عن النظر في شؤون قومه ومشاركة مفكريها في تلمس النافع لها الناهض بها إلى مستوى الكمال مثل صديقنا محمود بك نصير أحد أعيان المنصورة وعضو المجلس البلدي فيها والذي عرفناه أخيراً بعد أن عرفنا آثاره الطيبة قديماً والذي أصبنا منه مؤخراً فاضلاً واسع مدى الاطلاع له مشاركة في كثير من العلوم، عاملاً مخلصاً غيوراً على دينه ووطنه وقد أهدى إلينا مقالات له تناول فيها وصف تلك البلدان والأقطان التي تقطنها الشعوب التركية التترية المسلمة ووصف أهلها وزعمائها في هذا العصر وسننشر هذه المقالات في الأعداد القادمة تحت باب العالم الإسلامي الذي سنعنى بها العناية كلها. إبراهيم بك الزهيري نشرت الجرائد أخيراً أن إبراهيم بك الزهيري أحد أعيان الدقهلية أوقف150 فداناً للإنفاق منها على مستشفى ومدرسة. وإبراهيم بك الزهيري الذي نعرفه حق المعرفة من أعياننا الذين تفخر بهم مصر فقد عرفنا منه رجلاً ذكياً ألمعياً مهذباً مستنيراً صادقاً مخلصاً أريحياً يجمع إلى ذلك الجد والنشاط كأنه الحركة الدائمة، هذا إلى استقامته التي لم نر لها نظيراً بين نظائره أكثر الله من أمثاله النافعين من أعيان البلاد.

الصورة المشؤومة

الصورة المشؤومة للروائي الروسي الأشهر نيقولايف جوجول (الفصل الأول) ما ازدحم المتفرجون قط على شيء ازدحامهم أمام دكان الصور الصغير بشارع (تشو كينيو دفور) بمدينة (بتروغراد) إذ الواقع أن هذه الدكانة الصغيرة كانت تتضمن أعجب خليط منوع من نوادر الصور المختلفة، وكان معظم هذه الصور من الرسومات الزيتية مطلية بصقال قاتم تحفها إطارات ملوثة قذرة عتيقة وكان من بينها المناظر الشتوية بأشجارها المثلجة البيضاء، والأصائل الذهبية والمغارب الشفقية القرمزية كأنها الحرائق المشتعلة. وصورة تاجر هولندي نفاج منتفخ هو أشبه بالديك الرومي منه بالآدمي. وعدة من صور الضباط والجنرالات يعرفون بسيماهم وأنوفهم المقوسة وقلانسهم المثلثة. قليل جداً من يتقدم لاشتراء هذه الصور ولكن ما أكثر النظارة والمتفرجين. فمن خادم بطيء متلبد يتثاءب أمام تلك الصور وقد بردت في يده صحون الطعام قد جاء بها من المطبخ يحملها إلى مكتب سيده الذي قضى الله أن لا يأكلها إلا مثلجة. ومن بين المتفرجين أيضاً الجندي الملتف في عباءته وبائع الأمتعة القديمة يعرض للمبيع مديتين ودلالة تحمل عيبة أنسجة، وكان كل يظهر سروره بتلك الصور وإعجابه حسب أسلوبه الخاص، فالجندي يلمسها بيده وبائع القديم يتأملها بجد واهتمام والغلمان الخدام وصبيان المصانع يتضاحكون ويتعابثون وكبار الخدام يجعلونها ملهاة ومضيعة لأوقاتهم بالتثاؤب أمامها. والدلالات يقفن حيالها بالغريزة ليلتقطن ما يدور بين الجماعة من الأحاديث ويتسقطن الأخبار والأسرار - وتلك غريزة فطرية. في فاتحة عهد قصتنا هذه كان الفتى المصور شاركتوف قد وقف بدافع نفساني قهري أمام تلك الدكانة أثناء مروره. وكانت عباءته القديمة وثيابه البسيطة الحقيرة تدل على شدة عكوفه على الفن وانهماكه فيه وتفانيه في إتقانه وصرفه البتة عن التفكير في شأن نفسه والعناية بأمرها من ملبس ومطعم ومنعم. وقف هذا الشاب المصور هنيهة أمام الدكانة الصغيرة وأمتع نفسه بضحكة خفية على تلك الفظائع المتنكرة في هيئة صور. أطرق الفتى ملياً يفكر في تلك الصور ويسائل نفسه من عسى يشتري أمثال هذه الحثالة

والنفاية. إن أرباب هذه القاذورات لم يبلغوا درجة غلام قد أخذ بشدو من الفن وألم بطرف من الصناعة. ما هذه والله إلا مظاهر جهل وضعف وغباوة تغتصب لنفسها في متاحف الفن ومعارض الصناعة مكاناً مدلساً مكذوباً وأحق بها وأولى أن تدرج في جملة مصنوعات الورش وحاصلات الآلات والمكينات. وكذلك لبث واقفاً حيال الصور الرديئة برهة تحولت أفكاره أثناءها إلى أمور أخرى. وفي خلال ذلك كان صاحب الدكان قائماً إلى جانبه يستحثه بكل أساليب الإغراء على اشتراء صورة، يذكر له الأسعار دون أن يكون قد عرف ما أعجب الفتى وما لم يعجبه. وكان الرجل أشيب ضاوياً ضئيل الجرم، فمما قال للفتى (ها يا سيدي إني أقنع بعشرة دراهم في هؤلاء الفلاحين وهذا المنظر القروي الجميل، لله هذا الرسم ما أبدع وما أروع! انظر إلى بهجته وبهائه. وإلى بريقه ولألأته. ورونقه ومائه. إنه ليثير الإعجاب ويفتن الألباب. يستطير الألباب كالقبس المش ... عل لا تستقر فيه العيون لقد جاءنا الساعة من الورشة ولا يزال طلاؤه رطباً ولما يجف دهانه. وهاك منظراً شتوياً بديعاً - فلا يفتك هذا المنظر البديع ولا تحرم طريف محاسنه. هذا بخمسة عشر درهماً. وهذه قليلة وأبيك في الإطار وحده! ما أبدع هذا المنظر الشتوي!) وهنا أمسك التاجر الصورة وهزها هزة كأنما يحاول أن يجلو ما ضمنته من طرائف وعجائب. وفضائل ومناقب. (تفضل يا سيدي بإصدار أمرك في حزم هذه الصور وإرسالها إلى دارك. أين تسكن يا سيدي. يا غلام هات لفافة من الخيط.) فقال الفتى المصور - وقد ثاب إلى نفسه بعد شرود عقله وعزوب ذهنه (على رسلك يا هذا على رسلك) لقد أبصر صاحب الدكان قد هم فعلاً أن يحزم بعض الصور فرأى أن يرده عن قصده. على أنه كان يخامره شيء من الخجل لعدم اشترائه شيئاً ما من الرجل بعد طول وقوفه على دكانته. فالتفت إلى الشيخ وقال له: (انظر ههنا. سأبحث في هذه الصور المبعثرة لعلي أجد بينها شيئاً) ثم انحنى فوق كومة مكدسة من الصور على أديم الأرض وقد علاها الغبار ونال منها البلى، وكان من بينها طائفة من صور أشخاص من ذوي البيوتات العتيقة ربما تكون ذرياتهم قد فنيت من الدنيا وبادت وكانت تلك الصور بحالة

سيئة من القدم والبلى والرثاثة فكانت من سقط المتاع ونفاية السلع. ولكن الشاب المصور مضى في بحثه قائلاً في نفسه لعلي عاثر على شيء من النفائس المهملة والطرائف المنبوذة، وكان قد سمع حكايات جمة عن أناس أصابوا أنفس بدائع الفن وأثمن تحف الصناعة بين الحثالات والنفايات الملقاة بزوايا الإهمال في أمثال تلك الحوانيت العتيقة. فلما رأى صاحب الحانوت منه ذلك تركه في بحثه وعاود موقفه بباب الدكان ينادي المارة بأمثال قوله (هلم إلي أيها الأخوان فهنا أحس الصور. تعالوا أيها الإخوان ادخلوا. هذه صور جديدة قد وردت الساعة من أربابها.) بهذا الكلام وأمثاله جعل الرجل يصيح بملء فيه وبلا أدنى فائدة أو ثمرة وبعد أن كل من الصياح ومل أقبل على جار له أمامه دلال فأخذ يحادثه طويلاً. ثم تذكر أخيراً ذلك الفتى الذي قد تركه داخل حانوته يبحث ويفتش فانتقل إليه وأقبل عليه فقال (أي صاحبي، هل وقع اختيارك على شيء؟) ولكنه وجد الفتى المصور واقفاً لا حراك به أمام صورة في إطار كبير فاخر لكنه قديم بال قد أكل عليه الدهر وشرب. هذه الصورة كانت تمثل شيخاً هرماً نحيف الوجه أسمر اللون بارز الوجنتين والظاهر أن الصورة كانت قد أخذت في لحظة اضطراب تشنجي وكان هذا الشخص يلبس ثوباً شرقياً فضفاضاً. وبالرغم من قذارة الصورة انطماس بعض أجزائها أدرك الفتى شارتكوف في ثناياها وتضاعيفها شواهد من براعة رسام قدير ومصور صناع لما تمكن من تنظيفها وتنقية الوجه من الأقذار والأفذاء. وكانت الصورة غير تامة ولكن براعة الفن فيها كانت رائعة مدهشة وأدهش ما في الصورة العينان، إذ كان يخيل إلى الناظر كأن جميع ما ضمنته ريشة المصور من قوة وإبداع قد سلط على العينين لا غير. فكانتا تطلان من الصورة ذاهبتين بالتوازن الفني فيها لفرط حياتهما وتوقدهما. ولما ذهب بالصورة إلى باب الدكان حيث الضوء أشد وأوفر ازداد إشراق العينين حدة وثقوباً فأثرتا في جمهور المتفرجين الساذج البسيط شبه تأثيرهما بالشاب المصور الفني العليم بأسرار الصناعة فصاحت امرأة كانت واقفة وراءه (إنه ليحملق. إنه ليحملق) وأجفلت نافرة فأحس شارتكوف إحساساً أليماً لم يفهم له معنى ولا علة ووضع الصورة على الأرض. قال التاجر (أتريد الصورة؟)

فأجاب المصور (كم ثمنها؟) قال التاجر (علام التساوم والتقاول في شيء زهيد تافه كهذا. أعطني سبعين قرشاً.) قال المصور (كلا) قال التاجر (إذاً فكم تدفع؟) قال المصور وقد هم بالانصراف (عشرين قرشاً) قال التاجر (ما أبخس هذا الثمن. إن الإطار وحده ليساوي أكثر من ذلك. شاور عقلك وجئني غداً. تمهل يا سيدي. ارجع. التفت إلي. زدني عشرة قروش. بل خذها! هات العشرين قرشاً. الواقع أنك أول زبون اليوم، وهذا والله استفتاحي. ولولا ذلك لما طلبت نفساً عنها بهذا الثمن البخس) على هذه الصورة الفجائية غير المنتظرة أصبح شارتكوف رب تلك الصورة العتيقة فقال في نفسه (فيما اشترائي هذه الصورة وأي خير لي فيها. ولكن لات حين مناص ولابد من الرضوخ للقدر.) ثم أخرج من جيبه قطعة ذات عشرين فأعطاها التاجر وتأبط الصورة ومضى بها إلى بيته. وفي أثناء مسيره تذكر أن قطعة النقود التي أسلمها إلى التاجر كانت آخر ما يملك فأطرق حزيناً واجماً. وكان ضوء الغروب الأرجواني لا يزال يتريث في الأفق ويتلوم. والمنازل المتجهة شطر المغرب ما برحت تتألق ذراها بنضار الشفق الأحمر يتوهج على شرفاتها ويتموج. وكان ضوء القمر الأزرق الرطيب يزداد أثناء ذلك لمعة وبريقاً وكان يتساقط على الأرض إذ ذاك طوائف وأفواج من ظلال رقيقة نصف شفافة وبدأ المصور ينظر إلى السماء المتوهجة بنور شفاف وقال (لله ما ألطف وما أشف وما أرق وما أدق (يريد منظر السماء) وما أعظم هذه البلية (يريد الصورة التي اشتراها)). ثم ثبت الصورة تحت إبطه وكانت لا تزال تزل عن موضعها وتفلت، وأسرع إلى داره. دخل غرفته ومنها إلى متحفه ومصنعه (أي محل تصويره وصوره) وكانت ملأى بآثار الفن وأدواته ومواده ومصنوعاته فنضا عنه عباءته ووضع الصورة بين لوحتين صغيرتين وألقى بنفسه على مقعد ضيق، وبعد أن مد رجليه وتمطى نادى خادمه أن يأتيه بالنور. فدخل غلام صغير في رداء أزرق اسمه نيكيتا وكان يؤدي عنده وظيفة خادم ومحضر ألوان (يطحن الألوان ليصيرها مسحوقة) ونموذجاً (أي يجلس أمام سيده المصور ليأخذ عنه

صور شتى طبقاً لمختلف الأوضاع والهيئات والأشكال التي يتخذها لهذا الغرض) - هذا الصبي كان يقضي كل أوقاته في الشوارع أثناء غياب سيده. قال نيكيتا لسيده (ليس عندنا شمع) قال المصور (عجباً عجباً! لا شمع مطلقاً؟) قال (ولا كان عندنا ليلة أمس ولا أول من أمس) فتذكر الرسام حقيقة ذلك وأطرق واجماً. قال نيكيتا (لقد جاء هنا رجل) قال المصور (نعم لقد جاء يطلب ديناً) قال نيكيتا (لم يكن وحده) قال المصور (من كان يصحبه؟) قال الخادم (أحسبه أحد ضباط البوليس أو نحو ذلك) قال المصور (ولكن لماذا ضابط بوليس؟) قال الغلام (لا أدري ماذا ولكنه يقول أنك لم تدفع أجرة المنزل) قال المصور (وماذا يتوقع من ذلك؟) قال الصبي (لا أدري ماذا يحدث بعد هذا ولكن الرجل قال إذا كان لن يدفع الأجرة فليبرح الدار. وقد قالا أنهما عائدان غداً) قال شارتكوف من غير اكتراث (إذاً فليجيئوا) ثم نكس هامته واستولى عليه الهم والكآبة). كان الفتى شارتكوف مصوراً مطبوعاً قد وهبه الله سر العبقرية وكانت مصنوعاته تدل على أنه سيكون له شأن عظيم في عالم التصوير وأن ريشته ستجود يوماً ما بالعجائب والغرائب إذ كان في مصنوعاته شواهد على دقة الملاحظة والتفكير والميل الشديد إلى زيادة الاقتراب من الطبيعة في كل ما يصنع وكان في الغالب إذا تناول الريشة نسي الدنيا بما فيها حتى نفسه، وأكب على عمله من الصباح إلى المساء إذ ينتزع نفسه منها بكرهه وبرغمه كأنما ينتزعها من حلم لذيذ وكان كثيراً ما يسؤه ويؤلمه أن يرى أدعياء الفن من الجهلة الضعاف يفلحون في غش الجمهور وخديعته فيروجون من بضاعتهم كاسداً ومن عملهم زوراً مزيفاً وينالون الشهرة والمجد وتامتا بلا أدنى فضل وميزة ولا قدرة. على ـن

مثل هذه الخواطر لم تكن لتعرض له أثناء اشتغاله بعمله إذ يكون في غيبوبة عن العالم بأسره حتى يذهل عن طعامه وشرابه ولكن إذا كربه العسر وبرج به البؤس فاعوزه من الدريهمات حتى ما يشتري الصبغ والأوان وألح عليه صاحب البيت يطالبه بالأجرة عشرين مرة في اليوم - حينئذ كانت ذكرى محظوظي الرسامين تعاود قلبه الملوع المكلوم. وتنتاب خياله المجوع المنهوم وحينئذ كانت تعرض له عوارض اليأس وتخطر على باله خواطر النكوص والنكول فيحدث نفسه بالقعود عب اقتحام ذلك المسلك الوعر المؤدي إلى أوج العلاء الفني وذروة الكمال الصناعي ثم بالإسفاف والتسفل إلى مداق المسالك ومخابث الطرئق مجاراة للفريق الأعظم من مزاولي مهنة التصوير - أولئك الأدعياء الأغبياء الذين لا هم لهم إلا كسب المال بتبضيع الفن إلى الصناعة. في تلك اللحظة كان الفتى شارتكوف في مثل هذه الحالة النفسانية المخيفة. قال في نفسه (يقولون صبراً صبراً. ما أسهل هذه الكلمة على لسان قائلها! ولكن أليس للصبر نهاية. ماذا يفعل البائس المسكين إذا عيل صبره ووهي جلده. صبراً صبراً سامحهم الله، أينبلني الصبر مهما طال اجرة الدار وثمن اللحم والخضار ودين الزيات والعطار. ثم لا أرى حولي من يهبني أو يقرضني، وإذا حاولت ان ابيع هذه الصور نتيجة كدي وثمرة قريحتي فمن ذا الذي يحفل بها أو يفهم أسرارها وهي منافية لذوق الجيل السقيم السخيف وما أراني أعطي في جميعها أكثر من عشرين قرشاً على أني ما أحسب ان في القوم من يفكر قط في اشترائها ومن ذا الذي يشتري مصنوعات شخص خامل الذكر مغمور مجهول ومن ذا الذي يحفل بالقطع المدرسية العتيقة والرسوم الأثرية والموضوعات الفنية الجافة غير المألوفة. من ذا الذي يهمه أن يشتري صورة تمثل غرفتي القذرة الحقيرة البائسة أو صورة خادمي الملعون نيكيتا أو صورة (امرأة عارية) وإن كانت في الحقيقة أجود صنعاً من كل ما يخرجه أدعياء الصناعة الغشاشون من ذوي الشهرة والفعة في هذا العصر الكاذب الجاهل، لماذا أسوم نفسي كل هذا الكد والنصب وأجشمها المصاعب والمشاق احتفاظاً بقواعد الفن وتأييداً لأركانه فأذوق في سبيل ذلك الجوع والعطش وأعاني البلاء والكرب على حين يمكنني أن أنال المال والصيط والرغد والرفاهية من أرقب طريق وبأيسر مجهود كسائر أرباب الحرفة من ذوي التساهل والاستخفاف)

ما كاد الفتى يصل إلى هذه النقطة من نجواه حتى أحس رعدة فجائية أرعشت أوصاله فانتقع لونه وسبب ذلك أنه أبصر أمامه وجهاً مشنجاً ملتوياً يحدق إليه بعينين مخيفتين، وكما أنما قد كتب على الشفتين أمر تهديدي ينذر الناظرين بالصمت والسكوت فانذعر الفتى وهم أن يصيح بغلامه نيكيتا استغاثة به. ولكنه ما لبث أن هدأ روعه وضحك حينما تبين أن هذا الشبح المخوف لم يكن إلا تلك الصورة التي اشتراها اليوم وقد نسي ما كان من أمرها. لقد سقط عليها ضياء القمر المستفيض في الغرفة فأعارها شبه حياة وروح غريبة. هنا قام الفتى إلى الصورة فشرع يبحثها بحثاً دقيقاً فتناول إسفنجة فبلها ثم أمرها فوق الصورة مراراً عدة حتى أزال عنها جميع ما كان قد تراكم فوقها من طبقات الغبار والقذى ثم علقها على الحائط أمامه واخذ إعجابه يزداد من دقة الصناعة وإتقانها. وكان الوجه قد استفاض بفضل المسح والتنظيف حياة جديدة وبرقت له العينان حتى أرعدت فرائسه وأحفزت أحشائه فارتد نافراً وصاح (إنها والله لتنظر إلي بعينين آدميتين) وهنا تذكر بغتة حكاية كان قد سمعها قديماً من أستاذه عن صورة مشهورة من ريشة المصور الأعظم (ليوناردو دافنشي) بذل فيها ذلك العبقري الأجل جهده ونفث عليها آيات سحرية أعواماً عدة وراى بعد كل ذلك أنها لم تكمل وإن جعل أساتذة الفن من بعده يعدونها أكبر ثمرات إبداعه. وأكمل ما في تلك الصورة عيناها اللتان راعتا وأدهشتا جميع معاصريه وخلفهم. وذلك أن أدق وأخفى العروق فيهما استطاع العبقري العظيم أن يبرزه على اللوحة. بيد أن الصورة التي اشتراها شارتكوف كان شأنها أعجب من صورة ذلك العبقري وأغرب. وذلك أن الأمر لم يكن مسألة صناعة أو فن بل لقد فات حدود الفن وخرج من دائرة الصناعة بما أفسد نظام الفن في الصورة. لقد كان يخيل إلى كل من رآها أن تينك العينين قد قصتا بمقص من وجه إنسان حي ثم دستا في الصورة. فالناظر إليهما لا يجد تلك اللذة العظيمة التي تستحوذ على المشاعر لدى رؤية ملحة فنية مهما بلغ من هول موضوعها ورعبه ومن عظم مخافته وروعته - بل كان الألم المحض هو ما يعتري الناظر إلى هاتين العينين إذ كان إنما ينظر إلى حقيقة لا خيال وإلى الحياة المؤلمة الرهيبة لا إلى توليدة من تواليد الوهم والصناعة. والحياة في ذاتها (في مشاهدها الرهيبة كمثل هاتين العينين) لا تؤثر إلا إرعاباً وإزعاجاً. ولكن تمثيلها بوسائل الفنون المختلفة - كالشعر

والتصوير والموسيقى والتشخيص المرسحي - هو الذي يولد من الألم لذة ومن الرعب إمتاعاً. لذلك نقول أن الألم المحض والذعر البحت كان إحساس الفتى شارتكوف تلك الصورة العجيبة. ودنا ثانياً من الصورة ليتأمل تينك العينين المدهشتين فرأى مع الفزع الشديد أنهما تحلقان إليه. ما هذا والله رسم رسام ولا تصوير عن الطبيعة ولا تقليد للحياة بل الحياة بعينها - الحياة العجيبة التي قد تشرق في وجه ميت نشر من لحده. فأحس الفتى بنوع من الرعب أعجزه عن الجلوس وحده في الغرفة. فتحول عن الصورة وانتبذ ناحية منها وجعل يروض نفسه على عدم النظر إليها ولكن عينه استمرت من تلقاء ذاتها وعلى الرغم منه تنظر من طرف خفي إلى الصورة. وأخيراً ألصقه الرعب بموضعه وقيده عن السير في أنحاء الغرفة. وأحس كأن شخصاً ما سيطلع عليه من ورائه فجعل يتلفت حواليه وخلفه فزعاً مذعوراً. لم يكن شارتكوف جباناً ولا رعديداً ولكنه كان حساس الأعصاب والمخيلة ولم يستطع في تلك الليلة أن يفسر لنفسه ما اعتراه من الرعب والفزع ولا أن يتبين علته ومصدرها ثم إنه ذهب إلى ركن من الغرفة فجلس فيه ولكن خيل إليه بعد ذلك أن شخصاً ما كان يطل عليه من فوق كتفه وينظر في وجهه وكان نيكيتا خادمه نائماً في الغرفة المجاورة يغط في نومه، فلم يكن في تشخيره العالي ما يطرد مخاوف سيده أو يطمئن قلبه. وأخيراً نهض الفتى من مجلسه فسار منكس الرأس مغضي الطرف نحو سريره فدخل الكلة واستلقى على الفراش وأبصر من فروج الكلة فضاء الغرفة مستنيراً بضياء القمر والصورة معلقة على الحائط. فرأى العينين لا تزالان مصوبتين نحوه بنظرة أجد وأمضى وأرعب وكأنهما قد أصرتا على إدامة النظر نحوه وأبتا أن ترنوا إلا إليه. فلما كربه ذلك وغصه وضيق خناقه قام من فراشه وتناول ملاءة ثم تقدم إلى الصورة فغطاها من رأسها إلى قدمها. ولما فعل هذا عاد إلى سريره فاستلقى على الفراش وقد سرى عنه نوعاً ما ونفس من كربه فأخذ يفكر في عيشة أهل الفن والصناعة البائسة المنكودة وفيما يقاسون من العوز والفاقة وفي منهج حياتهم الوعر الصخري الشائك المملوء بالآفات والمكاره وإنه لفي ذلك إذ حانت منه التفاتة من خلال الستارة نحو الصورة فرأى ضوء القمر قد ضاعف بياض الملاءة

الملقاة عليها. وخيل إليه أن العينين المخيفتين تتوقدان وقد شفت عنهما الملاءة فثبت نظره في تلك البقعة فزعاً مذعوراً كأنما يحاول أن يقنع نفسه أن هذا وهم كذب ولكنه ما لبث أن رأى الملاءة قد زالت والصورة قد سفرت وأنها تحدق إليه تحديقاً كما لو كانت تريد أن تنفذ ألحاظها إلى صميم قلبه. عند ذلك مشى قلبه في صدره وارتعدت فرائصه وأخذ يتأمل هذا المنظر قلقاً جزوعاً. وإذ الشيخ الهرم قد تحرك ثم اعتمد بذراعيه على قائمتي الإطار (إطار الصورة) فأنهض نفسه بيدي ومد قدميه ووثب من الصورة وترك الإطار خالياً فارغاً. وسمع الفتى وقع قدمين في الغرفة وصدى خطوات تدنو منه وتقترب فاشتد خفقان قلبه وجعل يتوقع من لحظة إلى أخرى - وقد انقطعت من الرعب أنفاسه - أن الشيخ الهرم سيطل عليه بعينيه الشنعاوين من خلف ستارة فراشه. ويا للبلاء - لقد حدث ذلك فعلاً وأطل عليه الشيخ الهرم من خلف الستارة بعينيه الشنعاوين. فحاول شارتكوف أن يصرخ ولكن خانته حنجرته ولم يجد صوته. ثم حاول أن يتحرك فأبت ذلك مفاصله. فلبث فاغراً فاه مبهورة أنفاسه ينظر إلى الشيخ الطويل المزمل في ثوب شرقي سابغ فضفاض ينتظر ما عسى أن يكون منه بعد ذلك. فقعد الرجل على أرض الغرفة وأخرج شيئاً من طيات ثوبه الفضفاض - فإذا هو كيس - وشرع الشيخ الهرم يحله ثم أمسكه من طرفه ورجه فتساقطت منه أكداس مكدسة من النقود دوى لها صلصل على أرض الغرفة وكان كل كدس منها ملفوفاً في قرطاس أزرق مكتوباً عليه 1000 ليرة ثم إن الشيخ المسن أخرج يده المعروقة الصفراء من كمه الواسع وشرع يفض القراطيس الملفوفة وهنالك أشرق الذهب الإبريز وتلألأ. وبالرغم من شدة ما كان يعرو الفتى المصور من الرعب والفزع توجه بكل قلبه إلى ذلك المنظر الفتان وحصر جميع مشاعره ومداركه في منظر الذهب الوهاج منحدراً من تلك الأصابع المهزولة رناناً على بلاط الغرفة مردوداً بأنامل الشيخ إلى قراطيسه. وأبصر الفتى أحد هذه القراطيس الملفوفة قد تدحرجت حتى وقف عند قائمة سريره بقرب وسادته. فانقض عليها كالعقاب فأنشب فيها مخالبه وأخذ ينظر خائفاً حذراً نحو الشيخ الهرم لينظر هل فطن إليه. ولكن الشيخ كان عن ذلك مشغولاً. فجعل يجمع قراطيسه فيعيدها إلى كيسه ثم خرج من الكلة دون أن ينظر إلى الفتى فوثب قلب المصور طرباً لما سمع وقع خطوات الشيخ

متراجعاً في الغرفة فشد قبضته على قرطاس الذهب وأوصاله ترتعد ارتعاداً ثم سمع خطوات الشيخ تدنو منه ثانياً. فقال في نفسه لعله قد فطن إلى القرطاس المفقود. ويا للبلاء لقد أطل الشيخ برأسه ثانياً من وراء الستارة على الفتى فشد يده على قرطاس الذهب بكل ما فيه من قوة مستيئساً مستميتاً ثم حاول أن ينهض من مضجعه ثم صرخ صرخة شديدة - واستيقظ. لقد ألفى جسده يتفضج عرقاً وقلبه يضرب ضرباناً وصدره مكتظاً وأنفاسه مبهورة وكأنه يعاني سكرة الموت (أكان ذلك حلماً؟) كذا ساءل نفسه وأمسك رأسه بيديه ثم بدا له أن حقيقة ذلك الشيخ الفظيعة لم تك من قبيل الأحلام والرؤى. وفي أثناء استيقاظه أبصر الشيخ يخطو داخل الإطار (إطار الصورة) وأبصر كذلك ذيل ثوبه الشرقي يخفق ويرفرف وأحس أن يده (يد نفسه) كانت تقبض آنفاً على شيء ثقيل. ثم أدرك فجأة أنه ليس راقداً في فراشه بل واقفاً أمام الصورة فحار في ذلك وجعل يسائل نفسه كيف انتقل من فراشه وماذا أوقفه أمام الصورة فلم يدر البتة كيف كان ذلك وأعجب من ذلك أنه وجد الصورة مكشوفة قد زال عنها غطاؤها. فوقف مبهوتاً مسلوب الحركة ينظر إليها وإذا العينان الحيتان الآدميتان تحدقان إليه لا تتحولان عنه البتة، فتفضج جبينه عراقاً بارداً وهم أن يتحرك ولكنه أحس قدميه قد ساختا في الأرض فرسختا. وقام بذهنه أن ذلك ليس بحلم. ثم أبصر وجه الشيخ يتحرك وأنه يمط شفتيه نحوه كأنه يهم أن يلتهمه. فارتد إلى الوراء مجفلاً وصاح صيحة منكرة - واستيقظ. أكان ذلك حلماً! لقد جعل الفتى يعبث بيده ويتلمس، وقلبه من شدة الخفقان يكاد يثب من بين أضلاعه. الحقيقة أنه كان راقداً في الفراش بنفس الموضع الذي أغفت فيه عينيه. وكانت الستارة مسدلة أمامه ونور القمر مستفيضاً في الغرفة. وكانت الصورة بادية من فروج الستارة مغطاة بالملاءة على نحو ما كان غطاها. وهكذا اتضح له أن هذا كان حلماً أيضاً. غير أنه بالرغو من ذلك ما زالت يده المقبوضة تحس كأنها كانت تنطوي على شيء. وكان خفقان قلبه شديداً عنيفاً. بل مرعباً مخيفاً. وكان على أحشائه عبئاً فادحاً لا يطاق. فصوب بصره نحو الفرجة التي في الستارة وأخذ يحدق في الملاءة الملقاة فوق الصورة. ويا الله! ويا للعجب! ماذا يبصر أنه ليبصر الملاءة ترتفع وتنحسر كأن يدين ترفعانها من ورائها

تحاولان طرحها فصاح مذعوراً (يا الله! ما هذا!) وصلب فوق صدره - ثم استيقظ. فهل كان ذلك أيضاً حلماً؟ هنا وثب الفتى من فراشه وقد كاد يجن جنونه ولبث حائراً لا يدري ما أصابه، أوطأة كابوس أم نوبة حمى أو طيف من الجن حقيقة؟ وهنا حاول الفتى أن يسكن جهد الطاقة ثائرة ذهنه ويكفكف بعض الشيء تدفع الدم المنهمر في عروقه الضارب بأقصى شدة في كل نابضة من جوارحه. فعمد إلى النافذة ففتحها فهبت عليه نسمات السحر البليلة فأبردت عظامه وأطفأت ضرامه وأنعشته ورفهت عنه. وكان ضوء القمر منبثاً على سطوح المنازل وجدرانها بالرغم مما كان يتطارد في ساحة السماء من قطع الغمام. وكان السكون سائداً. ومن آن لآن كان يقرع المسامع صرير عجلة سائرة. فأطل الفتى من النافذة ملياً. وكانت تباشير الصباح قد أخذت تبدو على الأفق وأخيراً هومت رأسه للنعاس فأغلق النافذة وعاد إلى سريره فتهالك على الفراش نضواً طليحاً وما لبث أن غط في نومه غطيطاً. . استيقظ متأخراً وهو يشعر بأليم ما يحسه وقد أوشك أن يختنق بغاز الاستصباح وكان في رأسه دوار شديد. كانت الغرفة قليلة الضياء وقد فشت في الهواء رطوبة خبيثة نفذت من فروج النوافذ فأحس الفتى بكآبة انقباش وجلس على مقعده الرث الممزق لا يدري ماذا يصنع. وأخيراً تذكر كل ما تراءى له في الحلم. ولما أخذ يتذكر ذلك تمثل الحلم لعين خياله وبدا في صورة الحقيقة المؤكدة حتى بدأ يشك في كونه حلماً وجعل يسائل نفسه لا يحتمل أن يكون الذي رآه هو طائف جن لا ريب في صحته ولا مراء. وهنا قام إلى الصورة فأماط عنها الغطاء وتأمل الصورة الشنعاء في ضوء النهار. لقد وجد العينين في غاية الروعة والاندهاش لفرط توقدهما الخارق للعادة ولكنه لم يجد فيهما شيئاً مزعجاً مرعباً بوجه خاص وإن كان لم يبرح بذهنه أثر إحساس أليم مما قاساه بالأمس. وكان بعد ذلك كله لا يستطيع إقناع نفسه أنه كان حلماً محضاً. بل جعل يشعر في أعماق ضميره أن هذه الرؤية كانت تنطوي على شعبة هائلة من الحقيقة وكأنما كان يلمح في لحظ الشيخ وفي مخايل وجهه آية ناطقة بأنه قد طرقه وصحبه ليلة الأمس. كما أن يده لا تزال تشعر بذلك الثقل الذي حوته كما لو أن شخصاً ما قد انتزعه من قبضتها منذ لحظة وخيل إليه أنه لو كان ضاعف قبضته على

قرطاس الذهب لما أفلت من يده ولبقي بها حتى بعد انتباهه من هجعته. قال في نفسه وهو يزفر زفرة المجهود (لا حول ولا قوة إلا بالله، أما لو كان لي بعض هذا المال!) وهنا تمثلت القراطيس لعين خياله منقوشاً عليها تلك الجملة الخلابة (1000 ليرة) تنصب من كيسه الضخم الممتلئ. ثم انفتحت القراطيس وبرق الذهب ثم احتجب عن عين خياله ثانياً ولبث جامد الحركة ملجم الفم شاخص البصر يحدق في الفراغ كأنما قد عجز عن انتزاع نفسه من ذلك الحجر الساحر - مثله في ذلك كمثل الطفل الجالس أمام طبق من الحلوى يرنو إليه صب القلب سائل اللعاب وسواه يلتهمه مفزعاً. وأخيراً دق الباب فثاب الفتى إلى رشده ثم دخل رب الدار بصحبة ضابط البوليس. صاح رب الدار للضابط يخاطبه (انظر يا سيدي بنفسك. هذا الرجل لا يدفع أجرة مسكنه. لا يدفع الأجرة) قال شارتكوف: (كيف أدفعها ولا مال عندي؟ أمهلني رويداً أوفك حقك. . .) قال رب البيت حنقاً مغضباً وهز سلسلة مفاتيحه بشدة (لقد عيل صبري. لا أستطيع بعد ذلك صبراً، اسمع يا فتى، هذا ليس بملجأ ولا بمستشفى. ادفع أجرتك وإلا فارحل) قال ضابط البوليس (أجل. ما دمت قد استأجرت هذا المكان فلابد لك من دفع أجرته) وصحب هذا القول بهز رأسه وإمرار يده على أزرار بذلته الرسمية) قال الفتى (من أين أدفع. وأي شيء عندي أدفع. هذا هو المشكل. إني لا أملك الساعة درهماً واحداً) قال الضابط (ادفع من ثمرة أعمالك. دع المسيو إيفان إيفانوفيتش يقبض حقه صوراً من صنع يدك - هذا إن قبل) قال صاحب المنزل: (أنا لا أقبل ذلك يا سيدي - كلا لا أقبض صوراً. وأي صور هذه. لقد كان يصح أن آخذ صوراً لو كان لها قيمة. ولكن هذه حثالات لا قيمة لها. انظر هناك تجد صورة القرد الخبيث - خادمه نيكيتا. هل خطر قط ببال إنسان أن مصوراً يبلغ من حماقته وجنونه أن يصور مثل هذا العفريت بثيابه الممزقة ووجه الملوث، لهفي على هراوة أهوي بها على أم رأسه فأفلق دماغه. تباً لهذا الصبي، لقد خلع أبواب البيت وحطم زجاجه)

في خلال ذلك كان الفتى المصور يصغي إلى هذه الشتائم على مضض. وكان الضابط يتأمل الصور المعلقة على الجدران فضرب يده على إحداها - صورة امرأة عارية - هذا حسن! ولكن ما هذا الشواد الكثيف تحت الأنف؟ هل كانت السيدة تتنشق؟) قال شارتكوف بغلظة وجفاء (ليس هذا نشوقاً ولكنه ظل من ضروريات الفن) قال الضابط (كان الأولى أن تضعه في موضع آخر غير هذا. إنه ليس بجميل تحت الأنف) ثم إنه التفت إلى صورة الشيخ الهرم فقال (صورة من هذه؟ إنها والله لمزعجة. أحقاً كان هذا الإنسان فظيعاً إلى هذا الحد؟ عجباً له! إنه لينظر إلى فعلاً، ما هذه البلية؟ عمن أخذت هذه الصورة) أجاب الفتى (هذه الصورة ـ) ولكنه لم يكمل الجملة، ذلك أنه سمع انصداع والظاهر أن الضابط كان قد ضغط بيديه الثقيلتين على إطار الصورة ضغطاً شديداً فتصدع فانفلق من جانبه وسقط منه لوح صغير وهوى معه إلى الأرض قرطاس أزرق كان لوقعه صليل على أرض الغرفة ولمح شارتكوف على القرطاس هذه الجملة مكتوبة (1000 ليرة) فانقض كمن أصابته جنة على القرطاس فاختطفه وشد عليه قبضته شدة الغرق على عود من الخشب ورسبت يده لثقل ما حملت. سمع الضابط صليل نقود ولكنه لم ير شيئاً لفرط سرعة شارتكوف إلى التقاطها فقال (أولم أسمع صوت نقود ههنا؟) فأجاب شارتكوف (مالك وللأصوات التي تسمع في غرفتي، أي شيء لك في ذلك؟) قال الضابط (هذا من شأني لأني أريد أن تدفع لهذا الرجل أجرة داره. هذا من شأني لأني أراك ذا مال ثم تأبى أن تؤدي إلى الرجل حقه) قال شارتكوف (سأؤديه إليه اليوم) قال الضابط (ولم لم تدفع ما عليك من قبل فتريح صاحب الملك والحكومة؟) قال الفتى (لأني لم أك أود أن ألمس هذا المبلغ، سأوفيه حقة هذا المساء ثم أترك الدار غداً. فما كان لمثلي أن يعامل مثل هذا الإنسان) قال الضابط متلفتاً إلى صاحب الملك (اسمع يا مسيو إيفان إيفانوفيتش، سيدفع لك الأجرة، فإذا لم تبلغ رضاك من كل وجهة فالجأ إلي - ثم اعذرني بعد ذلك يا حضرة المصور عن

كل ما أصنعه معك.) قال هذا وتناول قبعته فلبسها وخرج إلى الردهة يتبعه صاحب الدار مطرقاً يتفكر. ولما تأكد شارتكوف أنهما قد برحا المنزل سري عنه وتنفس مستريحاً ولقد قال في نفسه (الحمد لله لقد ذهبا، لا أراني الله وجهيهما!) ثم نادى نيكيتا فأرسله في حاجة إقصاء له عن الدار ليخلو له الجو في تلك الساعة. وأغلق الباب وراءه وعاد إلى غرفته فتناول القرطاس الملفوف بكف راجفة وإجشاء واجفة وعقل شارد ولب عازب وبدأ ينشر مطويه. ولما فتحه ألفى به مقداراً عظيماً من قطع ذهبية براقة وهاجة تتألق كأنها ألاهيب نيران مؤججة وهنا طار عقلة وضاع رشده من فرط الحبور والجذل وجلس إلى الكثيب الذهبي وساءل نفسه أليس هذا أيضاً حلماً. لقد كان في القرطاس ألف ليرة ذهباً وهاجاً مثلما شاهد في الرؤيا، وجعل يقلبها في يديه وينظر إليها ملياً. وهنا ثار من أعماق مخيلته كل ما كان قد سمعه من حكايات الكنوز المدفونة والخزانات ذات الأدراج السرية التي كان يتركها الآباء المتبصرون إلى أحفادهم المبذرين لاعتقادهم ما سوف يكون من إسرافهم وتضييعهم. فجعل يناجي نفسه بمثل هذه الأقوال (ما أظن لا أن أحد الأجداد قد ادخر هبة لبعض أحفاده في إطار إحدى الصور العائلية) وكذلك ازدحم في ذهنه أعجب التصورات وأغرب التخيلات فخطر في باله أن هذه الصورة المدهشة يحتمل أن يكون لها علاقة سرية بحظه ومصيره. وأن وجودها مرتبط بوجوده وأن عثوره عليها وإحرازه إياها يحتمل أن يكون مما جرت به الأقدار وسجل في لوح الفضاء. وهنا تناول الإطار ليمتحنه دهشاً متعجباً. فألفى في أحد جانبيه تجويفة قد أخفيت عن الإبصار أدق إخفاء وألطفه بواسطة لوح صغير، فلو لم يتصدع هذا اللوح من ضغط تلك اليد الثقيلة - يد الضابط السابق الذكر - لجاز أن تبقى النقود الذهبية مخبوءة بذلك المكمن الخفي آخر الأبد، ثم امتحن الصورة أيضاً فعاوده العجب والدهشة من إتقانها ومن دقة صنع العينين. وكان قد زال عنهما - بعد حادثة القرطاس - ما كان لهما من موقع الرهبة والرعب في قلبه. ولكنه مع ذلك كلما نظر إليهما أحس في نفسه شيئاً من الضيق والغم. ثم قال في نفسه يخاطب الصورة (سواء أكنت جدي أم جد سواي لأصوننك بأنفس الزجاج

ولأحوطنك بأغلى إطار ذهبي) ثم وضع يده على الصرة الذهبية وكاد قلبه يطير خفقاناً من شدة الفرح. ثم قال وهو ينظر إلى المال (ماذا أصنع بهذا؟ هذا المال يهبني الغنى ويضمن لي الاستقلال مدة عشرين سنة على الأقل. الآن يمكنني أن أحبس نفسي في غرفتي فأستمر في عملي. فعندي ما أشتري به الألوان والأدوات والطعام واللباس والمسكن فأكون في مأمن من شر كل مزعج ومكدر ومنغص. فإذا سلكت هذه الطريقة، طريقة الانقطاع إلى الفن لبلوغ أقصى ما أستطيع من البراعة والنبوغ فيه منكباً عن سبيل الإتجار به والارتزاق منه وما في ذلك من دواعي الاستخفاف بأصوله وقواعده مما لا يؤدي إلا إلى الجهل بأسراره والتخلف فيه عن النابغين النابهين والإسفاف إلى مساقط الأغبياء الضعفاء - إذا سلكت طريقة الجد والاجتهاد والإجادة والإتقان والإخلاص والتفاني والتضحية فلن يمضي علي خمسة أعوام حتى أبلغ في الصناعة مكاناً محموداً ومقاماً محسوداً.

سعد زغلول

بطل مصر العظيم سعد زغلول وكذلك لبثنا أجيالاً كأكوام الحطب المكدسة الجامدة الهادمة الميتة ننتظر تلك الشعلة المستعرة بلهيب العبقرية المقدسة، نرتقب نزولها من السماء لتوقظ غفلتنا وتنبه رقدتنا - وها هي قد نزلت أخيراً وقد اشتعل بشواظها الجانب الأعظم من أكداس الحطب الهامدة - فما بال فئة تتذمر وتتسخط؟ وما لها تتعتب وتتغضب؟ وتنتقد وتتعقب؟ وما هذا العمى او التعامي؟ وما هذه الحماقة أو التحامق؟ وما هذا الجحود والنكران وما هذه الصدور الحرجة والأعطان الضيقة؟ وما لقومي يريدون أن ينظروا إلى البطولة نظرتهم إلى الشخصيات اليومية العادية ويستعملون في قياسها وسبر أغوارها تلك المقاييس والميابير الت ييختبرون بها الذهنيات المألوفة الشائعة والنفسيات المعروفة المنتشرة. وكان حقاً عليهم أن يعرفوا أن البطولة لا تقاس مقاييسها العادية بل لا تقاس البتة لأنها أعظم من ذلك وأهول بل لأنها لا تحد ولا تحصر. وما زال البطل العظيم إذا ظهر في شعب أو أمة كان موضع الدهشة والحيرة، فيهابه أقوم ويذعر منه آخرون ويبغضه جماعة ويراه البعض شراً وآفة والبعض آية وعيد وتهديد ويراه الجميع لغزاً وأحجية وقد قال هيجل في هذا المعنى. (الرجل العيم يجثم الدنيا مشقة القيام بشرحه وتفسيره لأنه لغز من أصعب الألغاز) وبعد هذا كله وبعد حكمة هيجيل البالغة يأيى حماقة المتعاقلين المتحذلقين إلا أنت يحملوا شخصية البطل العظيم إلى معملهم العلمي فيضعونها على المشرحة ثم يشرحوها كما تشرح الجثث وبعد ذلك يحللون موادها تحليلاً كيماوياً ويزنون عناصرها وزناً كيماوياً ويقدمون غليك بعد ذلك حساباً كيماوياً عن نتيجة تجربتهم والجرام والملليجرام. مرحى مرحى؟ ما هكذا يا سادة تقاس العظمة ولا هكذا توزن العبقرية ولا قال أحد ما أن أعاظم الأبطال يقاسون بالمسطرة والبرجل ويوزنون بالمثقال والدرهم - البطولة شيء عظيم هائل، لا يستطيع امرؤ أن يتلقاه إلا بالهيبة والاحترام والخشوعه والإجلال، والبطولة سر رهيب كالحياة ذاتها ترغم كل إنسان على مخافتها والخضوع لها، ولا يجرؤ على انتقادها إلا المعتوه والأبله والمغرور والسفيه والأحمق، ومن أصر على تخنتطها وانتقادها فلن يجد مكاناً أصلح لذلك من مستشفى المجاذيب. وما نقوله لناقد الحياة نقوله أيضاً لناقد البطولة.

قل للذي يأخذ على الرجل العظيم عناده واستبداده وخشونته وغلظته وقسوته ما بالك لا تذم في نظام الكائنات البركان والإعصار والصاعقة والزلزال والعاصفة والطوفان - فكما أن هذه من عناصر المون اللمتتمة له وهي لازمة له لزوم أضدادها مما تراه أنت من حسنات ومنافع - وكلاهما سواء في الفضل لتساويهما في اللزوم - فكذلك مل تراه أنت رذائل في البطل وآفات هو لازم لكيانه وقوامه لزوم فضائله وحسناته إذ من النقيضين معاً وليس من واحد دون الثاني تتكون البطولة. وماذا أدل على صدق هذا القول مما لا يزال يشهد به التاريخ من اتخاذ الطبيعة وسائل القسوة والغلظة لبلوغ ما تريده من غايات الصلاح والخير وأوضح مثال على ذلك الثورة الفرنسية التي بالرغم من أنها كانت سلسلة فظائع وشنائع فقد كانت هبة الأمم الوسنى من رقاد كاد يخنقها أثناء كابوس الظلم والاستعباد وصيحة الشعوب ثارت من هجعة شبيهة بالموت فبدأت تشعر بأن هذه الحياة الدنيا ليست بأكذوبة ولا أبطولة، وأن عالم الله ليس بمكينة تساس بالمكر والدهاء. قال كارليل (إنا لنرحب بالثورة الفرنسية ترحاب الغريق بالصخرة العبوس - فهي على عبوسها ووحشتها وإفقارها معاذ من الهلاك وعصمة من التلف. وهل كانت الثورة الفرنسية إلا وحياً حقاً من الله ورسالة صادقة وإن راعت القلوب وأزعجت الخواطر - أجل - بالثورة الفرنسية انتهى التصنع والزور والغش والخداع والباطل الأجوف الفارغ - انتهى شر كبير وفساد عظيم. فالثورة الفرنسية ثمرة حرة من ثمار هذا العالم وهي حق وإن كان حقاً متلفعاً في شواظ جهنم، - بيد أنها على كل حال حق لا باطل - وهي رسالة الله إلى الأرض صدع بها صوت من الرعد القاصف أو دوت بها نفخة اسرافيل في الصور. انظر بعد ذلك غلى ما قاله نابليون بونابرت ممثل الديمقراطية وزعيم الشعب وبطل الحرية (إنما أدركت غايتي وبلغت مرادي بقوة النفوذ) ثم انظر إلى نظريته في النفوذ. ماذا قال في ذلك (لا أعرف لا قوتين لتحريك الرجال: الرغبة والرهبة. أما الحب فهذا سفه وحماقة وبله وجنون. وأما الصداقة فهذا اسم بلا مسمى. هذا وإني شخصياً لا أحب إنساناً بل لا أحب أخوتي. ولعلي أميل قليلاً إلى يوسف أخي بحكم العادة ولأنه ليس مني وقد أحب (ديروك) ولكن لماذا؟ لأني معجب بصرامة حده. ومرارة جده: وفي اعتقادي انه ما ذرف قط من عينه دمعة. هذا وإني واثق أنه ليس في الدنيا من يحبني أو يخلص لي - فما دامت أي

دولة والسلطان فليس أكثر ممن يدعون مودتي تزلفاً وملقاً. فإن ركدت ريحي انفضوا من حولي. ألا فلتدعن الرأفة والرقة واللين للنساء أما الرجال فلا بد لهم من الصلابة والقسوة والصرامة إذا تعرضوا للحرب أو السياسة. فكيف بعد هذا كله يعينون على بطل النهضة المصرية صلابة خلقه وصرامة طبعه؟ ومتى كانت الملاينة والمحاسنة والملاطفة والمجاملة والتسامح والتساهل والاعتدال من شيمة أبطال الجهاد ومحرري الشعوب من ربقة الاستعباد وفرسان ميادين السياسة المغامسين حومة الطعان الجلاد. البطل لا يسأل عما يفعل فإن أساس بطولته وقوامها وسرها هو ذلك الاعتزاز بالنفس والاستبداد بالرأي الذي به يدوس على كافة الاعتبارات والتقاليد اندفاعاً وراء غرضه وبغيته - مبتذلاً في سبيل ذلك الأمن والراحة والسلامة، لا ترده عقبة ولا يثنيه مانع - ولكنه يسير إلى غايته على عزفات موسيقى روحه الجياشة الصداحة ولو ثارت حوله الزوابع وطارت العواصف وزمجرت القواصف وأوشك الكون أن يتحطم ويتهدم. ولذلك قد يكون في البطولة أحياناً ما ينافي اللياقة ويخالف الآداب ويعارض الحكمة والفلسفة ولكن البطولة لا تعبأ بالياقو ولا تحفل بالآداب ولا تأبه للفلسفة. لأنها قبل كل شيء متكبرة مختالة تياهة جبارة. وعلى الغم من كل هذا فالواجب علينا جميعاً إكبارها وإجلالها وذلك لأنها محفوفة من جلال العظمة والروعة بما يجب أن يغض من أبصارنا وينكس من رؤوسنا أمامها، وما زال في كل عمل من أعمال البطل ما يملأ صدورنا هيبة ويقعدنا عن تعقبه واقتفاء أثره وانتقاده وبحثه. ففعلة البطل هي فعلة الله يأتيها على يد البطل وما كان لبشر ما مهما ظن نفسه عظيماً أن ينالها بذم أو انتقاص أو نقد - وليس في صنع الإله لعبيده مغمز أو مطعن. والبطل متى اندفع بقوة الله وبإلهامه ووحيه إلى إيتان فعلته لم يبال بصحة ولا حياة ولا أخطار ولا بذم ولا تأنيب ولا بعداوة ولا ببغضاء ولا بوعيد ولا تهديد ولا تراه موقناً أن إرادته أعلى واجل وأشرف وأفضل من جميع من يتبرى ومن سوف ينبري له من أهل المعارضة والمناوأة. البطولة هي انقياد وإذعان لدافع باطني في ضمير فرد من الأفراد فليس إذن يتأتى أنم تظهر حكمة هذا الدافع وصوابه لسائر الناس مثلما تظهر لهذا الفرد إذ كان كل امرئ أنفذ

بصراً وأبعد نظراً في منهاجه المختص به دون غيره. فإذا سخط أقوام على البطل فإنما هو سخط مؤقت لا يلبث أن يزول متى انجابت سحب الشك والريبة عن أعمال البطل فتجلت حقائقها مشرقة بلجاء. ناصعة بيضاء. وحينئذ يعلم الناس أن فعلة البطل كانت مجردة من الأغراض والأهواء بريئة من كل أثر للشهوة والأنانية بل هادمة للشهوة والأنانية مملوءة بالإيثار والتضحية. ولكن في ذلك لذتها وهو سبيل نجاحها. الاعتزاز بالنفس والاستبداد بالرأي عنصر البطولة وجوهرها. والاعتماد على النفس هو شيمة النفس الثائرة على الأكاذيب والأباطيل. المتمردة على الظلم والطغيان وشيمتها القدرة على احتمال كل ما في طاقة الظلم والطغيان أن يرسله عليها من ضروب عذابه ومصابه. وشيمتها أيضاً ترفعها عن الاهتمام بالصغائر والحقائر واحتقارها احتقار الناس إياها. وشيمتها المثابرة والثبات والجرأة والإقدام وصبر لا ينفذ وجلد لا يهن وشيمتها الاستهزاء بغرور الحياة وحقارة الدنيا وما زالت تجد في اهتمام الناس بصيانة الصحة والمال وشدة المحافظة على الأرواح وعلى مصادر الللذات والأفراح أوسع مجال للضحك والتهكم والسخرية. ولكن حساد البطل من ذوي الحقد والضغينة ينكرون هذه الحقيقة الظاهرة إذ يعزون كل أعمال البطل إلى حاجة في النفس وهوى في الفؤاد وباعث شخصي ربما كان دنساً خبيثاً. ومن ثم يحكمون على البطل باللؤم والفجور والخسة. أمثال هؤلاء السخفاء الأغبياء ممن أكل الحقد قلوبهم ونحب الحسد أفئدتهم لا يرون في أبطال العالم الذين هم بناة المجد والعلاء ومشيدو المدينة والحضارة وأعلام التاريخ المؤلفة منهم سلسلته الذهبية إلا أشراراً فجاراً بغاة طغاة لا فضل لهم ولا خير فيهم وإنهم لم يخدموا سوى أغراضهم الذاتية وأهوائهم الشخصية ولم يبلغوا ما بلغوا إلا بالكذب والغدر وبالظلم والجريمة. والواقع أن هؤلاء الأفاكين لم يسلم من ألسنتهم بطل ما حتى ولا أساطين العالم وقادته وأعلامه - فلقد قالوا عن الاسكندر الأكبر أنه مصاب بجنون الغزو والفتح لأنه دوخ بلاد اليونان وفتح آسيا - وزعموا أن الولوع بالشهرة كان باعثه الوحيد بدليل أن أعماله أدت إلى الشهرة ومثل هذا قاله أولئك السخفاء في يوليوس قيصر وهانيبال والسفاح وتيمورلنك وصلاح الدين وشارل مان ونابليون فأثبتوا بحججهم الواهية السخيفة أن أثمة العالم أشرار فجار مجرمون

فينتج ضمناً من هذا أنهم هم (أعني أولئك السخفاء) أفضل وأشرف من أثمة العالم وقادته لبراءتهم من تلك الجرائم ولنقاوة قلوبهم من تلك الأهواء اللئيمة والشهوات الأثيمة - والدليل على ذلك أنهم لم يغزوا آسيا كالاسكندر ولم يسقطوا روما كهانيبال ولم بدوخوا أوروبا كنابليون. ولكنهم يعيشون ويتركون غيرهم يعيش وينعمون بالحياة ويتركون غيرهم ينعم. ومن حماقة أولئك السخفاء أنهم إذا حاولوا انتقاد البطل كانت عنايتهم بتأمل الجانب العبقري وخلال البطولة أقل من عنايتهم بتأمل الخصال الشخصية التافهة العادية التي يشارك البطل فيها جميع خلق الله بل حيواناته. وما دام البطل لابد له من أن يأكل ويشرب وينام ويعبس ويبتسم ويضحك ويبكي ويواصل ويقاطع ويحب ويكره وتتعاقب على مزاجه الأهواء والعواطف والنزعات المختلفة التي منها تتكون الطبيعة البشرية وبدونها يكون المخلوق إما ملكاً أو شيطاناً - أقول ما دام البطل شأنه في هذا شأن سائر الخلائق فيجد الناقد السخيف في صفحة عرضه ألف مأخذ ومطعن ومن ثم قيل أن المرء لا يكون البتة بطلاً في عين خادمه لأن الخادم لا يكاد يبصر مولاه إلا في الحالات الاعتيادية التي يشبه فيها سائر الناس ويشبه فيها الخادم ذاته ولكن لا عار على السيد في ذلك فما سببه أن السيد ليس ببطل بل الخادم ليس إلا خادماً. وما دام رجال التاريخ يتولى نقدهم أولئك الخدام الانتقاديون فسيخرجون من سوق النقد بأخسر الصفقات وتشييل كفتهم في الميزان أو يبوؤون بالخزي والعار ويهبطون إلى أدنى من مستوى أولئك النقاد أنفسهم. فلا ينسى القارئ أن ثرسيثس الوارد ذكره في إلياذة هوميروس كان مولعاً بسب الملوك وشتم الأمراء - لم يكن مقصوراً على ذلك العهد الخرافي القديم بل موجوداً في كل عصر لم يخلو منه جيل من الأجيال ولكنه - مع الأسف الشديد - لا يلقى في كل جيل ما لقيه أيام هوميروس من عقوبة الضرب بالعصا والسياط على أن آفة حسده وحقده هي الشوكة الدامية التي كتب عليه أن يحملها في جلده. والجمرة الحامية التي قيض له أن يدفنها في كبده. وحسبه بعد ذلك غيظاً وكمداً أن آراءه السديدة وانتقاداته الوجيهة ستذهب بعد كل مجهوداته العظيمة هباء منثوراً.

العلاقة بين الفرد والمجموع

العلاقة بين الفرد والمجموع وأثرها في النهضات الاجتماعية (التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموع - إلى أي حد يجب أن يرتبط الفرد بالمجموع - النظرية الصحيحة - استقلال الفرد الألماني - الفرد شعب وحده - الانكليزي في زمن الحرب - الأثرة غريزة والةاجب فضيلة - الفرق بين أمة بأفرادها وأمة بتعدادها) يظهر أن مسألة التوفيق بين مصلحة الفرد وسعادة المجموع والعلاقات التي بينهما أصبحت من المسائل الدقيقة التي قلما يعثر الإنسان فيها على الوجع الصحيح ويظهر أن الرأي القائل بان الفرد يجب أن يكون للمجموع رأي فائل كنظيره القائل بأن على الفرد أن يعمل ولا شك في أن النتيجة سعادة المجموع، فالحقيقة أن استقلال عن المجموع أو المجموع عن الفرد يؤدي إلى تصادم كثير بينهما. إن اندماج الفرد اندماجاً كلياً في كتلة المجموع خطر عظيم كما ان استقلال الفرد إلى حد كبير خطر أيضاً عظيم. ينبغي أن يكون هناك قصد واعتدال. فإن الامة التي يندمج أفرادها في المجموع تصبح أمة مجموع لا وجود للأفراد فيها ولا أمارة عليها إلا تعدادها. وتصبح شخصية الفرد على حدة ضعيفة لا تثبت ولا تقاوم. والمجموع ليس مستعداً في كل لحظة أن يلبي استصراخ الفرد إزاء كل مأزق أو مشكلة يجب أن يكون الفرد قوياً في ذاته إلى الحد الذي يجود فيه على قوة المجموع كما أن المجموع يجب أن يكون قوياً في ذاته إلى الحد الذي لا يطفئ معه شخصية الفرد. ولعل أبلغ ما عرفنا من ذلك اجتهاد الألمان في أن يكون كل فرد في ذاته شعباً وحده فيهيئون له من تربيته وتعليمه وسائل تمده يقول في مستقبل أيامه (أنا الأمة). وكثيرون يعتقدون خطأ هذه النظرية ويظنونها منافية لارتباط الفرد بالمجموع، على أن التأمل القليل يثبت فساد هذا الظن. إن الأمة التي يعتبر أفرادها كل منهم نفسه أمة قائمة بذاتها لا شك في أنها الأمة السعيدة القوية، لأن كل فرد فيها يعد نفسه لحياة عاملة مجدة ويؤدي جميع واجباته الاجتماعية وهو يعتقد أنه الوحيد المكلف بأدائها والمتمتع بنتائجها. فلو أنه لم يبق غيره لظل كيان الأمة قائماً. هذا مع الاحتفاظ بأمة الفرد غيره أعني مع الاحتفاظ بالأمة كلها المكمونة من أمم أولئك الأفراد. وأخيراً تلتقي في مثل هذا الفرد الصفات العامة للمجموع

من قوة وغنى وعزة نفس وشجاعة قلب وحب للبلاد وغيرة على الوطن. ويظهر أثر ذلك المبدأ جلياً في أوقات الأزمات الحرجة التي يحتاج فيها المجموع إلى قرار سريع حاسم. فبينما ترى الأمة التي لا تمثل إلا مجموعاُ أشبه شيء بقطعان الغنم دهشة ذاهلة مترددة في أمرها يتربص كل فرد فيها عمل أخيه ويلقي عليه تبعة التقصير والتأخير، إذا بالأمة الاخرى قد اشتمل كل منهم درعه ولأمته ينادي (بيدي لا بيد عمرو). لقد خرج كل فرد انكليزي من بيته في الحرب الكبرى يبحث عن عمل له. فغني يدفع الاموال وقوي يجر المدفع وعامل يشتغل في المصنع وامرأة تخدم في المستشفى. وحق كل منهم أن يقول: لقد كسبت الحرب بساعدي!؟ من هذا كله يمكننا أن ندرك السر العظيم في متانة البناء الذي يقام على هذه القاعدة قاعدة استقلال الأفراد إلى الحد الذي لا يعبثون فيه بالحقوق العامة أو الصلات المدنية التي تربطها بالمجتمع نفسه ويقتضيها تمتعهم ببقائه. إن الفرد الوطني الغيور إنسان على كل حال لا يمكنه أن يتنازل بالمرة عن استقلاله الشخصي أو يفطن دائماً إلى سبيل الحق والواجب. وعلى ذلك فإذا ما اعتقد أنه وحده الأمة فكأنه اعتبر مرافق الأمة ومصالحها مقومات لمرافقه الشخصية ومصالحه. ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا نجاحه وثباته وإخلاصه لاننا إذا قلنا أنه ذو غيرة على وطنه وشديد الحب والإعجاب بأمته فإنما نعني في الحقيقة من طرف آخر أنه شديد الحب والإعجاب بنفسه غيور على شخصه وما يتعلق بشخصه من المصالح والأعمال. وإن سعيه فس سبيل ترقية نفسه ونجاح أعماله ليكون أثبت وأقوى إذا ما اعتبر أنه يؤديه إلى نفسه بصفته أمة وحده لا بصفته يهدي إلى المجتمع مصلحة أو يضحي له بمنفعة. إن فكرة الإهداء إلى المجتمع فكرة خطرة تسوق إلى الاضمحلال، وإن العزاء الذي تسمعه من أفراد كثيرين بأنه يعمل هذا لنفع المجتمع دون نفعه لعزاء مخيف يجب أن لا يشكر عليه صاحبه، لأنه يكون عمل الكليل البليد الذي يلمح الفشل في طيات الافق البعيد. والذي لا يبالي أن يبادر إلى ترك العمل واثقاً أن حبوطه فيه لا يسوق عليه اللوم ما دامت كانت وجهته وجهة النفع العام. ليكن كل فرد في امته شعباً بمفرده ولا أريد بهذا أن يحارب وحدات الشعوب الأخرى من بقية الأفراد. بل إن الشخص الذي يحارب بقية الأفراد في مثا هذه الامة أو يعبث

بأواصرها المدنية يكون فشله وهلاكه محققاً سريعاً لأن كل فرد من الآخرين سوف يتاقدم دون انتظار نجدة من المجموع ليقوم بالواجب الذي يعتقد أنه موكل به من بقية الأمة بصفته شعباً بمفرده يدفع عن نفسه عوادي الزمن. وعلى النقيض من ذلك ترى حالاً غريبة في الأمة التي وصفناها بأنها أمة بتعدادها. فالذين قد يعملون فيها على تفيل مصالحهم على مصالح المجموع ليسوا قليلين. والغالب أن الذين قد يعملون بهؤلاء ليسوا كثيرين وإذ كانوا لا يعدون أنفسهم أمة مستقلة داخل أمة المجموع فإنهم سوف يحجمون عن أداء ذلك الواجب. وإذا بدرت منهم همة وحمية فلا يتجاوز ذلك أن يستصرخوا المجموع وينادوا فيه وينبهوه إلى وجود تلك الجراثيم منتظرين حتى يصحو المجموع كله ويتحد على مقاومتها ودرئها. وتلك طريقة إن نجحت أحياناً فإنها تحتاج إلى زمن طويل. والغالب أنها تموت في الطريق كما تموت أصوات السفينة الغرقى وهي تستنجد بالشاطئ. (2) (استقلال الأمة نتيجة كلية لاستقلال الفرد - مثال للأمة المستقلة المستعبدة - خلاق الفرد محور استقلال المجموع - استقلال المجتمع وسط طسابي - الاتحادج لاتحاد مصيره للزوال) وعلى القاعدة السابقة ينبغي أن يشاد أيضاً الاستقلال القومي. ليكن كل فرد مستقلاً أولاً وعند ذلك يتكون المجموع المستقل. أما إذا كان المجموع مستقلاً وليست عند الأفراد روح الاستقلال ولانزعته فلا شك في أن مثل هذا الاستقلال لا يعتمد عليه كثيراً. إن الفرد الانكليزي مثلاً يفخر بأنه مستقل أولاً بصفة كونه فرداً. ويشعر أن استقلال المجتمع نتيجة كلية لاستقلاله الجزئي. ويعلم أيضاً ان ذلك الجزء من الاستقلال الذي يقوم به إذا قصر فيه أو أهمله وةاتبعه في ذلك غيره فسوف يعدم في الحال استقلال المجموع. وهذا غير الفكرةالتي لا يعتقد فيها الأفراد أن استقلالهم عنصر حيوي من عناصر استقلال المجموع. بل هم يعتبرون استقلال المجموع أمراً لا دخل له في استقلالهم الشخصي، وأن الواحد منهم غير مؤثر بشكل حاسم في أمر الاستقلال غاب عنهم أنه ربما وجد المجموع المستقل بينما الأفراد غير مستقلين. فصعف الخلاق والاتكال والاعتماد على الغير وخوفه والخضوع له. كل هذه قد تفقد الأفراد استقلالهم على حين يظهر للناظر أن المجموع مستقل

- والخطر الأكبر أن نكتفي باستقلال المجموع مستخفين بمسألة استقلال الأفراد - بل بالله أية أمة تستطيع أن تتصورها مستقلة إذا كنت ترى كل فرد من أفرادها يرتعد أمام الأجنبي، وغذا كانت نفوس أهلها على وجه عام نفوساً ذليلة وأخلاقاً ضعيفة وهي في الواقع فانية في غيرها من الأمم أو مسوقة وراء أمة متعلقة بأذيالها. ليست المسألة مسألة التخوم والحدود ووجود الجيوش. بل غن هذا الايتعباد الخفي الظاهر في الأفراد المختفي في المجموع لأشد نكاية وأعظم وبالاً. إذ أن كل فرد يحمل على عاتقه نير العبودية ولا يستنطيع أن يشكو لأنه يعلم ويرى أن المجموع مستقل. لا أعد الأمة التي تفني شخصيتها أو قوميتها في أمة أخرى أو في أمم متعددة أمة ذات استقلال وإن كانت من الوجهة الفعلية غير محكومة أو خاضعة لغيرها وهذه النظرية بسيطة وتظهر واضحة جلية في الأمة التي تنال استقلالها السياسي بتوفيق الظروف أو الحظوظ فإنك بينما تراها مستقلة سياسياً إذ تراها تظل سنوات عديدة خاضعة في الواقع لغيرها متأثرة بحكم أجنبي عنها. إلى أن يتعلم كل فرد من أفرادها معنى الاستقلال ويشربه روحه. عند ذلك ينقلب الاستقلال السياسي إلى استقلال حق صحيح لأنه ناشئ عن استقلال كل فرد. نحن لا نطلب الاستقلال السياسي فقط. ولكن نطلب الاستقلال الأخلاقي. نطلب التحرير من القيود والأثقال التي تحملها أعناقنا لا أرضنا. إن اليوم الذي تتحرر فيه النفوس هو اليوم الذي تتحرر فيه الأرض. وإن يوم شعور كل فرد بأنه مستقل وأخذه نفسه بهذا المبدأ لهو اليوم الذي تتحقق فيه حريتنا لأن الأمة التي يرفض كل فرد من أفرادها أي نوع من أنواع العبودية والخضوع لا تلبث أن تتحرر وتستقل. إن مبدأ استقلال كل فرد استقلالاً ذاتياً يؤدي إلى شيء آخر. إذا كان كل فرد مستقلاً فإنه يرى من التمتع بذلك والاستفادة ما يحمله على صون ذلك الاستقلال. وإن تجمع هذه الوحدات على صون استقلالها هو صون لاستقلال المجتمع الذي هو عائد عليهم ومتمم لاسشتقلالهم على النقيض من الآخرين الذين إذا سألتهم لماذا تريدون استقلال المجموع؟ أجابوك لأنه مفيد للمجموعوأخذوا بيسطون ويشرحون ما تتمتع به الأمة المستقلة! ولكن هل يتمتع في الوقت نفسه الأفراد؟ ولنوضح ما تقدم نقول بعبارة أخرى أن الفرد المستقل يدافع عن استقلاله لأنه يعود إليه

عن طريق المجموع لأنه يتمتع به بعد أن يكون قد حفظ استقلال المجموع. أي أن هناك ثلاث خطوات تبتدئ وتنتهي بنفسه ويتوسط بينها المجموعز على النقيض من الآخرين الذين يدافعون عن استقلال المجتمع ليتمتعوا بذلك الاستقلال أفراداً. أرى أن هناك خطوتين إحداهما المجموع. وهذا خطأ، ففي الحالة الأولى لا يتخذون من المجموع غرضاً ولا غاية. وفي الحالة الثانية يتخذونه كل الغرض والغاية. إن الذي يبدأ بالفاع عن استقلال المجموعليجني وهو فرد ثمرة ذلك الاستقلاليعكس القضية ويدبر عن الغاية لانه قد تمر السنون الطوال قبل أنيءشعر بذهاب استقلال المجموع الذي يكون قد مضى عليه دهر وهو ينحدر نحو الهاوية. فإذ أفاق كل فرد أخيراً وجد من الثيود المثقلة لكاهل المجموع ما يحمله على التراخي واليأس، وليس أصعب ولا أشق من أن تجمع الأفراد للمدافعة عن المجموع إذ قد لا يشعرون بالحطر في وقت واحد وإذا شعروا فمنهم الغبي والبليد. أما إذا كانت المسألة مسألة الفرد المستقل فإنه إذا أشعر بأقل حركة للتعدي عليه أو إذا راى سلكاً شائكاً ينصب أمامه فسيقدم في الحال دون تريث لرفع ذلك الحائل من طريقه معتمداً على نفسه واستقلاله الشخصي، معتقداً أن رفع ذلك الحائل فرض واجب عليه إذا أراد أن يحفظ استقلاله. فهلا تلمح في طي هذا العمل الوسط الحسابي لاستقلال المجموع؟ إن كل فرد يرفع قطعة من السلك الذي يوضع أمام بيته هو في الحقيقة يهد حلقة من حلقات الاستعباد التي تريد أن تحدق بالمدينة. ولكنه يفعل ذلك من غير انتظار المجموع ومن غير أن يتسرب إليه أنه يفعلى ذلك كواجب للمجموع عليه بل واجب على نفسه لنفسه. إن القيد الذي يعتقد أنه رفعه عن نفسه قد رفعه في الواقع عن جاره أيضاً. وإلا فلو ترك السلك يحدق بالجميع لكان ضرره هو وجاره على السواء. هذه هي خلاصة الفكرة التي أرى فيها المجموع يختفي إزاء فكرة الفرد إلى الحد الذي لا يجور فيه على قوة المجموع. لأنك مهما صفيت الخلق الإنسانهي ومهما رقيته وهذبته فلن تستطيع أن تنزع منه حب نفسه وتفضيلها وأثرته. كما أن الاتحاد مهما طال عليه الزمن في ظل التعليم والرقي مصيره إلى الانهيار والتدابر إذا كان قائماً على فكرة الاتحاد فقط. إنك لا يمكنك أن تحفظ أمة متحدة على مر الزمن بفكرة أن هذا الاتحاد يحفظ المجموع وينفع كيان الأمة. إن صروف الدهر تغير كل شيء. ولكن إذا اعتقد كل إنسان أن لاتحاد

مطلوب منه لا ليحفظ به قومه وعشيرته وصحبه ولكن ليحفظه هو نفسه قبل كل شيء، فلا شك ان شعوره ذلك يجعله أكثر رعياً له وإبقاء عليه. (3) (الاتحاد المأزوم والاتحاد المركز - الثورة الفرنسية - هياجها وخمودها - اتحاد المجموع غير طبيعي ولا دائم - شبه استثناء لذلك - شواهد من الحركة المصريو - انتهاء الحركة ليس معناه انتهاء العمل - تطور العالم في مدة الحرب - نهضة أبناء الفراعنة جديرة بتاريخهم ومدنيتهم) كثيراً مكا تصادف المجموع حوادث وظروف تضمهى إلى بعضه وتوحده توحيداً تبهرك قوته وثباته، ولكنه إذا اجتاز هذه الأزمة التي قام من أجلها أو تنحت من طرقه بأي شكل من الأشكال، فمن الصعب أن يستمر على هذا الاتحاد الوطيد والاتجاه إلىجهة واحدة، ولا يلبث أن ينحل إلى مجتمع هادئ عامل، ولا أريد بهذا أنه يكون مجتمعاً متفرقاً متدابراً، ولكنه يعود إلى حالته الطبيعية وتتغلب عليه فطرة الأفراد الإنسانية التي هبة واحدة لنصرة المجموع فإذا انقضت مهمتها فلا يجوز عقلاً أن تطلب منها أن تظل دائماً على حالتها من التيقظ والانضمام والوحدة، لأن ذلك يستدعي مجهودات خاصة تقوم بها حركة استثنائية متجهة بالجميع وجهة واحدة، وهي شغلهم الشاغل طول ليلهم ونهارهم وهي عماد تفكيرهم وأحاديثهم، ثم لا تلبث أن تخمد هذه الجذوة، ولا سيما إذا كان اتقاد هذا المجموع ناتجاً عن مصادمة طارئة أو أزمة مفاجئة أو حادثة مثيرة أو غير ذلك مما لم يسبقه التفكير والروية والبحث ولم يهمد له بالتدبر والتامل ومبادلة الآراء وتوطيد المبدأ وتأسيس الخطط وغير ذلك. وكثيراُ ما شاهدنا أن قومة المجموع قومة واحدة إذا اتنهت فمن النادر أن تستفزه إلى مثلها ظروف أخرى - ولو كانت أشد وأفظع من التي قام لاجلها أول مرة. وهذه الثورة الفرنسية الكبرى مثلاً قامت نتيجة لهياج النفوس من سوء الحكومة والإدارة - قامت دفعة واحدة وهي تظن أنها ستقلب أنظمة العالم وتنال السعادة التي ترجوها. ثم سكنت فما كان منها؟ أعقبها حكم من أحكام الإرهاب والفأئع والمنكرات وحكومة لم تكن الحكومات السابقة بجانبها شيئاً في الاستبداد والظلم والقوة والغشوم. ومع ذلك لم يستطع هذا الشعب المتشبع

بروح الثورة المنطلق من كل القيود النظامية أن يجتمع مرة أخرى وبثل عرش الإرهاب والظلم الجديد لولا أن تادركه رجل عظيم. نضرب هذا المثل لنقول أن للمجموع قومة واحدة يهدم بها السد الذي يقوم في وجهه ثم ينثني إلى المعامل والمزارع، ويندر أن يعود إلى المصادمة والكفاح إلا في حالة واحدة سنشرحها بعد ذلك. وذلك لأن إنضمام المجموع واندفاعه نحو أمر ما هو بمثابة هياج فكري وثوران نفسي شامل، ولا يمكن أن تطلب من المجتمع أن يظل على حالة من التهيج وثورة الأعصاب وغليان الدم وحمية القلب والفكر واتجاه الروح والنفس لأن هذه الفترات في حياة الأمم هي بمثابة السهر في حياة الفرد ولن تستطيع أن تطلب من الأمة أن تظل ساهرة أرقة متهيجة الأعصاب إلى حد غير محدود. إن النفوس تتوق دائما آبداً إلى السلام والراحة والهدوء. وإن فترة ذلك الصحو أو السهر لا تستمر طويلا بل لا بد من العود إلى الحالة الطبيعية. قلنا أن ثورة المجموع هيهات أن تتلوها ثورة أخرى مهما حاق بالمجموع بعد ذلك من ظروف أشد واستثنينا حالة واحدة، وحتى في هذه الحالة لا تشتعل الثورة كما كانت ولكن تنحل إلى ثورة سلمية وقد تكون غير عامة ولا شاملة لكل الطبقات وإنما يقوم بها أفراد عديدون من ذوي التأثير والنفوذ فلا يلبثون أن ينالوا ما تريده الأمة. هذه الحالة الواحدة تكون عندما يسبق الانقلاب الذي تحدثه الأمة المتمدينة زمن طويل من التفكير والتمهيد وإنعام النظر، حتى إذا ما قامت الحركة كانت منظمة متينة ثابتة وصارت الأمة إلى بغيتها أو الإصلاح الذي تنشده سيراً ثابتاً قد يكون بطيئاً ولكنه لا يقف ولا يرتد. تتقدم كالجبل الراسخ متكاتفة متعاونة متفاهمة مشتركة في العواطف والآمال غير مندفعة اندفاعاً أعمى أو مستسلمة لكل قائد. فمثل هذه الحركة القائمة على ذلك الأساس المتين لا تنعدم قوت المجموع منها إذا هدأ أمرها، بل إنه لمن السهل العثور على ذلك المجموع وإيجاد تلك القوة في أي وقت تقع حوادث أو تجد ظروف. نخرج من هذا إلى شيئ آخر، ونلقي نظرة إلى أنفسنا. انتهت الثورة القومية وكان لا بدلها أن تنتهي. وقد شاهدنا جميعاً مع الفوز الذي أصبناه مناحي كثيرة من الضعف الأخلاقي في حياتنا الاجتماعية. وأمثلة عديدة على انحطاط النفوس وسوء الطباع.

لم يكن الانحطاط الأخلاقي الذي لاحظناهجديداً في حياتنا المصرية، ولكن ننتهز فرصة هذا الانتباه الشامل لكل الطبقات وفرصةهذا الصحو الذي عم جميع النفوس لنفهم الناس أن الحركة انتهت، وأن ليس المقصود هو الحركة ثم نعود فننام. إن ماعملناه ليس إلا تمهيداً بسيطاً للغرض الذي نسعى إليه. إن الغرض الأكبر ما يزال أمامنا. ولنفهم الشعب وطبقات العامة التي ظنت أنها انتهت من مهمتها وانصرفت إلى حالتها الطبيعية إنها لم تقم بعد بشيئ وإن المهمة الكبرى لم تأت بعد وإن على عاتقها واجباً هو أعظم من كل ما قامت به. نريد أن ننزع من الأفكار أن هذه الحركة كانت لنا غاية: كلا: لم تكن الحركة لنا غاية وإنما كانت وسيلة بسيطة. كانت أداة من أدوات العمل نحو الغاية الكبرى. لا ننكر أن الأمة المصرية كانت متأخرة كل التأخر (ولو من باب المقارنة فقط) في جميع فروع العمل والمدنية. وكان التقدم الذي طرأ على أمم العالم وشعوبه في هذه الخمس سنوات والانقلاب الذي أحدثته الحرب في أفكار الجماعات عظيماً جداً. لقد استيقظتالأفكار وانتبهة الأذهان وابتدأت تتجه وجهات جديدة وتفكر أفكار جديدة ونحن غافلون. لقد تطورة العلوم وتغيرت نظريات الشعوب وأنتجت هذه الحرب حرباً فكرية هائلة كانت تدور رحاها ونحن غافلون وقد عم ذلك العالم كله وابتدأ كل من الفكر والعمل الإنساني يسير في طريق جديدة ونحن هنا في معزل عن كل أمر. حتى هبت هذه الحركة. لا شك في أن هذه الحركة أعظم ما عرف في تاريخ مصر. وإنها فاتحة عهد جديد وأننا قطعنا شوطاً بعيداًَ واستيقظنا من جمودنا الذي خيم عيلنا هذه السنوات ووثبنا وثبة أدركنا بها كثيراً مما فاتنا. نعم استيقظت الأمة بعد أن كان من المستحيل لأمة حية أن تظل نائمة وضجة العالم وصلت إلى الأفلاك ولكن وثبنا نحو المستقبل وثبة جديرة بمجد ماضينا وتاريخنا وقطعنا شوطاً بعيداً نحو العالم المتقدم أمامنا وكذلك كانت هذه الحركة ضرورية لإثارة هذه اليقظة وكان الاستيقاظ الهادئ الرفيق فشلاً تاماً يغري بالنوم مرة أخرى، نعم كان من الضروري القيام بهذه الحركة لنثب هذه الوثبة وندرك بعض ما فاتنا. (4)

بالثورات - حاجتنا إلى التفكير - حاجة العامة المنارة >>. لننظر نظرة إلى الكلام الذي مضى. لفد هب المجموع دفعة واحدة إلى غاية واحدة. هب على أثر نوم طويل فلم يكن بين أفرادخ سابقة ارتباط وتفاهم واتحاد ولم يكن هناك أساس من التفكير والبحث والنظر ولكننا انطلقنا جميعاً متكاتفين إلى غاية واحدة قمنا لها وأدركناها. وانتهت الحركة. وهنا الخطر الأكبر في أن نعود إلى الحالة التي كنا فيها بعودة الأحوال الطبيعية إلى مجاريها. لأنه لم يكن ثمة رابطة من التفكير أو مبدأ نجتمع حوله أو منارة نهتدي بها. هذه وإن لم نعد إلى ما كنا فيه فإننا نعود مجموعاً مفككاً يصعب ربطه وتوجيهه كما حصل ذلك أي إنه يصعب أن تجمع الأمة على السير في طريق واحد وتوحيدها وربطها كما تم لنا ذلك. لأن هذه اول تجربة لنا ولأنها كانت على إثر نوم عميق. نعم كانت الدفعة عظيمة لان الجمهور كان عظيماً ولكن الذي نخشى منه أن جذور هنا الجمود لم تصتأصل وإنها ربما تلتف شيئاً فشيئاً حولنا ثانية فتعود النفوس إلى الانحلال والتراخي. لقد كنا كالجبار الذي نام نومة طويلة فلما افاق قام إلى الحائط فضربه بيديه فتهدمت فهو بعد ذلك بين حالين أما أن يعود إلى النوم لتسكين تلك الأعصاب التي تنبهة فجأة وقامت بذلك العمل الهائل. وأما أن يأخذ في تمرين ساقيه وذراعيه ورياضتها حتى يعود إلى سابق قوته ونشاطه. ونحن إذا اعتقدنا ان عملنا انتهى وأن بلغنا غايتنا وان الأمة استيقظت وأصبحت في خير حال فأننا لا بد سائرون إلى النوم والتخدير وأما إذا لم نعتقد أن هذه الحركة انتهت وإنها لم تكن إلا بثابة مقدمة لليقظة وإنه يتحتم علينا بعد ذلك أن نأخذ انفسنا بالرياضة والمران وأن ننظر إلى عيوبنا الاجتماعية لنصلحها وأن نعالج ما ظهر لنا من المساوئ الأخلاقية والنفسية وأن نتظافر ونجتمع ونعين لنا مبدأ نجري عليه ووجهة نسلكها وغاية يسعى كل إنسان منا اليها. نعم يتحتم علينا أن نتدارك أنفسنا ونجتمع لنتباحث ونفكر في أمرنا ولا نفرح باتحاد المجموع الذي أمامنا فإنه وقتي أن لم يأخذ كل إنسان نفسه بمبدأ يجري عليه وإن لم توحد العواطف والأفكار والأعمال. إن اتحاد المجموع غير دائم ولا ثابت ما لم يبن على أساس من تفكير الأفراد وإيمانهم. وإذا نظرت إلى حقيقة حالنا وجدتنا نطلب كلنا طلباً واحداً، ولكن ذلك نتيجة تلك الحركة،

وهذا الشعب الكبير يردد ألفاظاً ويتبع أفراداً. بل إن المتعلمين منا والزعماء لا يعملون عملاً ولا يفكرون تفكيراً. لا يكفي أن نقتنع بطلب وأن نجمع عليه وأن نبيت ليلنا ونهارنا نفكر فيه ونتحدث به. يجب أن نعمل جميعاً لتحقيقه. كل من الناحية التي يخدم بها نفسه ووطنه. انتهت الثورة القومية فيجب أن تعقبها ثورة فكرية لتظل الروح واحدة والنفوس مرتبطة والحمية موجودة. لقد نلنا بالأولى انتباه الأمة واتحادها فيجب أن نقوم بالثانية لإصلاح عيوبنا الإجتماعية والأخلاقية. ولا أقول أن نبدأ بإصلاح المجتمع. كلا. ابدأ بإصلاح نفسك. انظر إلى العيوب التي تشملك واعمل على إبادتها. اتبع لك مبدأ لا تحيد عنه. فإنك إن فعلت ذلك فسوف تتطهر الأمة من عيوبها الإجتماعية وليست عيوب الأمة إلا عيوبك أنت. لا تناد بكثرة الإقتراحات والمشروعات. ابتدأ بإصلاح نفسك يتم كل مشروع وكل إصلاح. إعمل وحدك ولا تنتظرغيرك وبث هذه الفكرة لكل إنسان وأنشرها في كل مكان. إن الأمة تريد أن ترتقي ورقي الأمة هو السبيل الحق المحتم لبلوغ كل شيئ والأمة لا ترتقي بالثورات لأن الثورات ليست أعمال كل ساعة ولأنها إنما تحدث في ساعات الإنتقال فقط. تحدث عندما تنتقل الأمة من طور إلى طور. وإنما رقي الأمة يكون بالتفكير. وقد قلنا أن أمتنا محتاجة الآن عقب حركتها إلى ثورة فكرية ولم نقل إلى مجرد تفكير. لأن الحقيقة المحزنة أن الأمة المصرية طالما فكرت كثيراً. وهناك شيئ آخر وهو أنه لا ينفعنا الآن في بركان هذه الحوادث والحركات غير الثورات الفكرية. نريد أن ننتهز الفرصة ونحدث انقلاباً في الأفكار نستطيع بعده أن نفكر التفكير الهادئ المطمئن دون أن نخشى التقهقر والفشل. نريد أن نحدث تطوراً في الأفكار نقيمه على أساسات وطيدة من الإخلاص والإيمان وو عرفان الواجب والتمسك بالمبدأ إلى النهاية وعند ذلك يجري التيار الفكري في مجراه الطبيعي. نريد أن نهز الأفكار هزة قوية تتجه على أثرها إلى غرض واحد كما توجهت بحركتها الإجتماعية إلى غرض واحد. نريد أن يكون بين أفكارنا وعواطفنا ذلك الاتحاد والتحمس اللذان رأيناهما في حركتنا. نريد أن تكون ثورة في الرأس والأذهان لا تصيبها طلقات البنادق ولا يضيرها وجود الجنود في الأقسام. هي

حركة دائبة كالفوران الذي في قاع البحر. حركة عملية سلمية لا تنالها أقسى الأحكام العرفية. نريد أن تتجه الأمة جميعها إلى وجهة واحدة واصلاح كل عيب يبدو لها ولا ضير عليها في أن يكون اصلاحه بطيئاً وتدريجياً ولكن الضير كل الضير أن ننتبه إليه ولا نشرع في اصلاحه. ولكن لابد للوصول إلى ذلك من تجمع الأمة كلمتها وتوحد مطالبها إلى الغاية التي يضعها كل فرد نصب عينيه. لأن الشعب يحتاج دائماً إلى منارة. فلنجتمع ولنبين للشعب هذه المنارة ولنقل له هذه هي فتوجه إليها ولا يمكن أن ننال ذلك بالتفكير العادي المألوف لأنه مرت بنا أوقات كثيرة وظروف عديدة التجأنا فيها إلى مثل هذا التفكير فلم نلبث إلا قليلاً إنما نريد التفكير الذي ينتج العمل. فإذا ما تهيأت النفوس وأعدت جميع الأذهان وتشبعت كل العقول بمبادئ هذه الثورة الفكرية وكان الإيمان واحداً وعميقاً ومخلصاً في نفس كل فرد. في هذه الحالة يكون الإنتقال إلى أي مطلب من مطالب الحياة سهلاً ميسوراً ويكون بلا صدام واحتكاك كبير. نعم إذا نبت الإيمان التفكيري في نفوس الشعب فإنه يكون من السهل الإنتقال إلى أي تطور اجتماعي دون أي تضحية أو مقابلة قوة. بل لا يمكن لأعظم القوى في مثل هذه الحالة أن تعارض هذا التيار الفكري العام الذي يكتسح كل ما في طريقه. إذن فالواجب علينا أن نحدد أعمالنا وأن نضع لنا غاية نسعى إليها وأن نربط جميع أفراد الأمة برباط من صلة تفكيرية تؤم بنا جميعاً إلى غاية واحدة وأن يقوم كل فرد منا بأعماله على مقتضى هذا المنهاج من التفكير المتبادل.

أفكار بليدة

أفكار بليدة لمفكر بليد في أوقات بليدة للكاتب الفكاهي البديع جروم. ك. جروم ضيق الصدر لا بأس على امرئ من الكآبة والأسى بل ربما وجد الأنسان شفاء غلته وبرئ علته في الاسترسال في الحزن والاستسلام إلى الشجى، وقد ما قال الشاعر: وان شفائي عبرة مهراقة وقال الآخر: لعل انسجام الدمع يعقب فرجة وطالما لذني وطاب لي أن أهجر عمداً مجالس الطرب ومحافل الأُنس وأنتبذ المكان المنعزل القصى لأخلو إلى أحزاني وأشجاني أستجيها من مكامن الخيال أو استثيرها من مدافن الذكرى طرباً إلى ذلك مرتاحاً. فأما ضيق الصدر - ذلك الذي يعتري الإنسان فجاة بلا سبب ظاهرة ولا علة مفهومة - فذلك هو الداء العياء والبلاء الأعظم. بيد إنه الداء يسلم منه أحد ولا يفلت منه إنسان. وأعجب ما فيه أنك لا تعلم أصله ولا فصله ولا سببه ولا مصدره، فأنت خليق أن تصاب به عقب استيلائك على ميراث هائل أو عقب فقدانك (علبة سجائرك) في القهوة أو نسيانك (شمسيتك) في القطار وتأثير هذا الداء (أعني ضيق الصدر) فيك شديد فتاك أشبه شئ بمجموعة تأثيرات أوجاع الضرس والمغص والصداع - إذ تصير قلقاً مهتاجاً فظاً مع الأجانب خطراً على الصحب والأقارب شرساً شكساً صخوباً غضوباً - بلاء على نفسك وعلى كل من حولك. وأنت ما دمت واقعاً تحت تأثيره فلا قبل لك بمحاولة أي عمل أو تفكير في أي شيئ، وإن أحسست أثناء ذلك بضرورة القيام بعمل ما لا تدري ما هو ولكن تشعر بضرورته وإذ كنت بناءً على هذا لا تستطيع أن تظل ساكناً ساكتاً فإنك لا تلبث أن تلبس قلنسوتك وتأخذ عصاك فتبرح المزل للفسحة. ولكنك لا تكاد تسير بضع خطوات حتى تندم على ما كان من خروجك وتعود إلى غرفتك. وهناك تحاول تفريج همك بالقراءة فتنظر في (شاكسبير)

فإذا هو غث تافه فاتر. ثم تنتقل إلى (دكنز) فإذا هو سخيف بارد. ثم إلى (ثكرى) فإذا جاف عقيم ثم إلى (كارليل) فأذا أعقم الجميع وأجفهم وأسخفهم وهنا ترمي عرض الحائط بالكتاب وتنبذ المؤلف بأشنع الألقاب. وبعد ذلك تحول تيار غضبك على القطة فتطاردها في أنحاء الغرفة حتى تخرجها وتغلق الباب خلفها. وهنا تفكر في أن تكتب (جواباتك، فتأخذ القلم والقرطاس ولكنك بعد كتابتك لفظة (عزيزتي ها قد تناولت القلم لأبثك ما عندي) ترى أنه ليس عندك شيئ فيرتج عليك ولا يفتح الله عليك بكلمة وبعد استمرارك على هذه الحالة السيئة ربع ساعة أو أكثر تلقي القرطاس في الدرج وتقذف القلم على المكتب وتنهض من مكانك عازماً على المضي لزيارة أصدقائك الأسة الفلانية وفبما أنت تلبس حذاءك يخطر ببالك أن الأسرة الذكورة قوم أغبياء سخفاء وإنهم لا يصنعون طعاماً البتة وإنهم يكلفونك حمل وليدهم وإرقاص طفلهم فتسب القوم سباً وتلعنهم لعناً وتنقض ما كنت اعتزمته من الذهاب إليهم. وهنا يكون قد استفحل بك الداء وبلغت الروح التراقي فتدفن وجهك في يديك وتتمنى لو جاءك الأجل فصعدت إلى جوار ربك. وحينئذ يثور في خاطرك ذكر الموت فتصور لنفسك منظر مماتك وأنت على سرير المنية تعاني سكرة الموت وتجود بأنفاسك الأخيرة والأهل والأقارب والإخوان حولك وقوف على رأسك تسيل مهجهم عبرات وتذهب نفوسهم حسرات. وأنت تبارك فيهم وعليهم ولا سيما الفتيان والفتيات والصبيان والصبيات. وتعلل نفسك عن مصابك بأنهم سيعرفون قيمتك بعد ذهابك. إذ يتبين لهن خطورة نكبتهم وجسامة خسارتهم. وهنا يحلو لك أن تقارن بين ما تتوهم أن يكون من شدة احترامهم لك بعد موتك وشدة احتقارهم لك أثناء حياتك. هذه الخواطر وأمثالها تهوّن عليك وتنفس عنك ولكن لمدة قصيرة جداً. إذ لا تلبث أن تتهم نفسك بالحمق والسفه وبالبلاهة والعته إذ يخطر ببالك أو يخيل إليك أن أي إنسان كائناً من كان يحفل بك أو يكترث لك أو يهتم لأيما يعرض لك ويجري عليك من خيرٍ أو شرٍّ أو ربح أو خسارة. ومن ذا الذي يا مغرور ويت أحمق ويا أبله ويا غبي يعنى بك مثقال ذرة أو يبالي ما يصيبك سواء قصم ظهرك أو حشّ وسطك أو قطع رأسك واخمدت أنفاسك أو بعج بطنك أو حلق ذقنك أو رفع لك تمثال أو مشنقة أو أقيم عرسك أو شيعت

جنازتك الحقيقة أن الناس ما عرفوا قط قدرك ولا حاولوا أن يعرفوا ذلك ولا همّهم وهنا تستعرض ماضي حياتك فيتبين لك بلا أدنى ريبة أنك مازلت منذ خرجت إلى هذا العالم الملعون مهضوماً مظلوماً مغتصب الحقوق مبلياً بالإساءة والعقوق. وما هي إلا برهة تقضيها في مثل هذه الهواجس الأليمة حتى تثور شياطين الغضب في دماغك فتقوم قيامتك على أهل السماء والأرض ولا سيما على نفسك فتهم أن تقذف نفسك من النافذة ولكن النافذة مغلقة. وأخيراً تحين ساعة النوم وتلك هي التي تنجيك من خطر الانتحار. قتنضو ثيابك وتبعثرها في جميع أنحاء الغرفة وتطفئ المصباح وتثب إلى الفراش كالهارب من طوفان أو بركان. وهنالك تقضي ساعتين أو نحوهما بالتقلب والتململ منوعاً هذه الحركة الدائمة بقذفك الغطاء برجليك ثم قيامك على الفور لإعادته مكانه. وأخيراً تغشاك هجمة مؤرقة مضطربة منغصة بالأحلام الكريهة. هذا ما يصيبنا نحن معشر العزاب. أما المتزوجون فغير هذا حالهم وخلاف هذا شأنهم ودأبهم - انظر هؤلاء يسطون على زوجاتهم ويتسخطون على طعامهم ويصولون على أولادهم وهذا كله يحدث في البيت هرجاً ومرجاً وصخباً ولجباً وفي ذلك وحده تخفيف ما بهم وتنفيس كربهم. ولا بدع فإن المشاحنات هي الدواء الوحيد لداء (ضيق الصدر) وهي المسلاة والملهاة والمتعة الوحيدة التي يستطيع صاحب هذا الداء أن يجد فيها مستراحه ومستلذه. بيد إن ضيق الصدر هذا قلما ينتابه إلا مساء، إذ في أثناء ضوء الشمس والعالم يتدفق تياره جياشاً بالحياة شدّ ما يصعب علينا أن نقف لنسترسل في زفراتنا وعبراتنا وفي شكوانا ونجوانا. ولا عجب فإن جلجلة مكينة الحياة العملية جديرة أن تغمر همسات شياطين الهموم المسوسة في آذاننا. فنحن في أثناء النهار نكون عرضة لأن نغضب ونثور ولكن لا يكون (لضيق الصدر) على نحو ما وصفنا آنفاً - سبيل علينا - كما أننا نكون أيضاً بمنجاة من لوعة الحزن والآسى ورقة الشجن والشجى. ومن ثم ترانا إذا غاظنا شيئ أثناء النهار رفعنا أصواتنا بالسب وأيدينا بالضرب. فإذا أصابتنا السيئة ليلاً في الساعة العاشرة مثلاً عالجناها بقراءة الشعر المحزن والمأساة أو بالجلوس في الضلام والأمل في حقارة الدنيا وبؤس العيش وغرور الحياة.

هنا ننتقل إلى موضوع الاسترسال في الأسى والخلوة إلى الذكريات الحزينة فنقول أن هذا الإحساس الذي بنا أن نسميه رقة القلب من الحزن أو ذوبان النفس من الشجى أو على سبيل الإختصار (حنين الشجى) لا يكون مصحوباً بالكرب والألم الحقيقي الإيجابي فإن الكرب الواقع والألم الحاصل فعلاً يكون عادة أشد عذاباً من أن يترك مجالاً لمثل هذه العاطفة اللينة الرقيقة أعني (حنين الشجى) ومصداق ذلك أنك إذا عرضت على عينك صورة حادث آليم أمكنك أن تجيل بصرك في أنحاء الصورة طويلاً وتتأمل أوصافها مالياً وتبكي عليها بزفرة الحنين وآنة الذكرة ودمعة العاطفة الرقيقة الذائبة وهذا ما لا تستطيع أن تصنعه إذا علاض على عينك الحادث الآليم بالذات إذ تنفر منه أشد النفور وتهرب منه هرباً والواقع إن الألم الفعلي وحنين العاطفة لا تجمعهما قط جامعة، وكربة الحزن الحقيقي لا يمكن أن يصحبها لذة الاسترستل في أحزان الذاكرة الخيالية وليس من شأننا أن نلعب بالنيران ولا بالصارم والسنان. ولا أن نعتنق الذئاب والسباع والآفاعي طوعاً وإختياراً. فإذا رأيت الرجل يلذه أن يسترسل في الذكرة الأليمة ويصونها في وعاء ذاكرته ويتعهدها بالري والسقيا كي لا تزال غضة ندية خضراء فأيقن أنه قد زالت عنها خاصة الألم وقد أصبحت غير جارحة له ولا قادحة ولا فادحة ولا لائعة ولا لاذعة ولا فاجعة ولا موجعة. ومهما تكن قد آلمته ومضته في أول أمرها فلقد عادت اليوم وهي له مصدر لذة وفي ذكراها غبطة ومتعة. وكأي من سيدة كريمة ما أن تزال على مدى الأيام تذرف الدموع على مخلفات ثياب طفلها المفقودتخزن ما بقي من آثارها العزيزة في وعاء مضمخ بالمسك والعبير وتتنفس الصعداء إذ تذكر تلك الأعضاء الغضة اللطيفة التي كانت تزين تلك الثياب - وكأي من غادة حسناء تخبأ كل ليلة في ثنايا وسادتها خصلة جعدة كانت حين ما تتهدل على جبين أبلج قد لثمته شفاه الأموج لما لحدت له أيدي العواصف في سواء اليم قبراً، فمثل هذه السيدة ومثل هذه الغادة كلتاهما خليقة حين تقرأ ما ذكرت آنفاً من لذة الأحزان ومتعة الأشجان أن تتهمني بالقسوة والجفاء وبالفظاظة وغلظة الشعور وبالكذب والبهتان ولكني أعتقد مع ذلك أن أمثال هؤلاء إذا سألن أنفسهن هل يجدن غصة ومضضاً في تماديهن في حزنهن وادمانهن ذكرى مصابهن فلن يرين بداً من الإجابة على هذا السؤال بلفظة (كلا) ولا بدع فإن للدموع عند بعض الناس حلاوة

الضحك وقد قيل في الأمثال أن الإنكليزي الأصلي إذا باشر لذته باشرها بهيئة الحزن وأن المرأة الإنكليزية تزداد في ذلك غلواً فهي تستمد لذتها من الحزن ذاته. أنا لا أتهكم ولا أسخر. وما كنت لأسخر قط من أي شيئ يرقق القلوب في هذه الدنيا الجافية القاسية. ونحن معشر الرجال مع ما بنا من قسوة فؤاد وغلظة أكباد ما كان لنا أن نريد النساء على أن يكن مثلنا قسوة وشدة، كلا أيها النساء فلتكن أبداً رقيقات لينات ولتكن ندى الحياة وطلها المرطب ويبسها المطفئ حرارتها ولتكن عسل الحياة المحلي خبزها اليابس الخشن. هذا وإن البكاء للنساء يشبه الضحك للرجال وعاطفة الحزن فيهن كعاطفة الهزل فينا! ومن يدرينا أنا أحسن منهن مذهباً في ذلك وأفضل سبيلاً. ومن ذا يقول أن الضحك ويحدثه من إمالة الأعناق وشق الأشداق وتعويج الأبدان وإغماض الأجفان - ادل على السرور النقب والفرح المهذب من رقة الأسى وما من رأس مطرق وجيد منكس وبصر شاخص وطرف ساه وجفن مغرورق ينظر من فجأة الزمن القاتمة الأعماق غلى شبح الماضي المتضائل. وإذا رأيت المرء يسايره الاحزن جنباً لجنب ويصافحه يداً بيد فاعلمن أن الحزن قد عاد سهلاً خفيفاً هيناً ليناً حتى أصبح يطاق ويحتمل بل أصبح تستلذ صحبته وتستحلى خلطته وأصبحت الملوحة قد زالت عن دموعه فآضت عذبة والشوكة قد نزعت من زهرته فلا ضير على المستروح أن يدنيها من أنفه ووجنة الحزن الأسيلة الصقيلة قد سلت منها الابرة الجارحة حتى أمكننا أن نلصقها بوجناتنا ونلمس شفتها بشفاهنا. ونحن إذا استطعنا أن ننظر بعين الذكرى إلى الفاجعة الأليمة التي رزخنا مرة تحت فادح عبئها وأغمي علينا لشدة جهدها وبلائها - إذا استطعنا أن نعيد إليها كرة الطرف بناظر الذكرى ثم لم تثر في قلوبنا ثتئرة اللوعة والحرقة واليأس والقنوط فاعمن أن يد الزمان الآسية وكفه المداوية قد لا شك مست مكان الطعنة الحمراء فضمدت جرحها ودملت قرحها. هذا الحزن اللذيذ والشجن العذب أكثر ما يكون انبعاثه في النفس ساعة الغروب التي وصفها الشاعر ورد ذورث بقوله: هاتيك ساعة رقة وصبابة ... وتخشع لله واستعبار ووصفتها الروائية (جورج اليوت) بقولها (شجى الأصائل الصيفية) وما أصدق

الوصفين. وما أعجب كل ما فاض من هذين القلمين وأين الذي لم يشعر بفتنة هذه الأصائل الحزينة المتوانية. وسحر تلك المغارب المكتئبة المتباطية. حينئذ يظل الكون في قبضة الآسى وفي أسر الشجى، ولا غرور فألهة الآسى تتبوأ في دولة الغروب عرشها وعروس الشجى تتخذ من قصر الشفق خدرها وهناك تلقانا وتستقبلنا. ولدى بابها الشفقي تأخذ بأيدينا وتسايرنا خلال عوالمها الخيالية. فأما شخصها وشبحها فلا نراه ولكن يخيل إلينا أنّا نسمع تصفيق أجنحتها بل إن طيفها ليغشانا حتى في أرجاء المدينة الجياشة باللجب والضوضاء إذ نحس روحنا حزينة ترفرف في كل طرقاتها الجافة المستطيلة ونبصر النهر المظلم الأمواج ينساب كخيال الروح الشريدة كأنما يحمل سراً خفياً تحت أمواجه الكثيفة وفي خلوات الريف الساكنة حينما تتساقط ظلال المساء على الأشجار والأعشاب فتضائل من أشخاصها وتغض من أشباحها وتسمع أجنحة الخفاش وصوت القنبرة حينئذ يزداد سحر المنظر الحزين رسوباً في قلوبنا ونفاذاً إلى ضمائرنا إذ يخيل إلينا أنّا قائمون حول فراش ميت وإنّا نسمع في حفيف الدوح حشرجة النهار المحتضر حينئذ ترى الحزن العميق مخيماً والسلام الشامل مستفيضاً وفي صفاء هذا الهدوء تتضائل هموم العيش وأكدار الحياة اليومية وتضمحل إذ يبدو لنا أن هناك أشياء أخرى جديرة بالسعي والجهاد خلاف الخبز واللحم بل خلاف العناق واللثم - وأعني بهذه الأشياء أسرار محاسن الطبيعة وما تستثيره من أسرار محاسن الروح. في هذه الساعة الرائعة الجميلة ينثال علينا من الخواطر ما نسمع وحيه ولا نكاد ننطق به فترانا ونحن قائمون في سكينة المساء تحت قبة الفلك المضمحلة الضياء. نشعر أننا أجل وأعظم من عيشتنا الحقيرة وحياتنا التافهة الضئيلة وإذا تراءت لك الدنيا حينذاك حولها سجوف العشى المرسلة وسدول السدفة مسبلة. علمت أنها ليست بذلك المصنع القذر الذي تعهد ولكنها الهيكل الفخم الجليل يؤدي فيه الإنسان مناسك عبادته وتلمس يداه أحياناً في زواياه المعتمة يد الإله الأعظم جل شأنه. إذا ما كساك الله سربال صحة ... ولم يخل من قوت يحل ويعذب فلا تعبطن المترفين فإنهم ... على حسب ما يكسوهم الدهر يسلب أبت نفسي الهلال لزرء نفسي ... كفى شجواً لنفسي زرء نفسي

أتهلع وحشةٌ لفراق ألف ... وقد وطنتها لحلول رمس

كتاب الصور

كتاب الصور للكاتب الأمريكي الأشهر واشنجتون ارفنج (وهو مجموعة مقالات وروايات أدبية وأخلاقية ممتعة) حديث المؤلف عن نفسه ما زلت مولعاً بمشاهدة المناظر الجديدة، وملاحظة الطباع والأخلاق الغريبة ولما كنت طفلاً صغيراً بدأت سياحتي ورحلاتي الاستكشافية في أنحاء بلدتي ومسقط رأسي، إذ كنت أهيم على وجهي في أنحائها فأضل الطريق وأتيه في جهات منها مجهولة لي غير معروفة ولا مألوفة، وكان في عملي هذا ىأفجع المصاب والذعر لوالدي وأجزل الربح والفائدة لمنادي البلدة، ولم شببت وترعرعت أفسحت لنفسي مجال النظر والتأمل فجعلت أقضي العشيات والأصائل من أيام العطلة بالتجوال في ضواحي الريف المجاورة حتى درست جميع الأماكن المشهورة في عالمي التاريخ والخرافة، فلم تخف عليّ بقعة جرت فيها حادثة قتل أو سرقة أو ظهر بها عفريت وكذلك زرت جميع القرى المجاورة وضاعفت ذخيرة معلوماتي بملاحظة عاداتها وتقاليدها ومحادثة حكمائها وعظمائها. بل لقد طوحت بي يد السفر في بعض أيام الصيف الطوال إلى قمة أقصى تل حتى إذا تسنمت تلك الذروة أبعدت مرمى البصر أسرح الطرف في بقاع مجهولة وأناجي النفس حائراً دهشاً (ما أعظم هذا العالم الذي أسكنه!). هذه النزعة الطوافية والشهوة التجوالية نمت معي وازدادت على كر السنين فأصبحت أشد ما أكون ولوعاً وشغفاً بكتب الرحلات وأسفار الاسفار ألتهم محتوياتها التهاماً وقد أهملت دروس المدرسة كل الاهمال. وكم كنت أدور وأطوف حول رصيف الميناء في أوقات الصحو والصفاء أرنو - ساجي الطرف شاخص البصر - إلى السفن الراحلة الميممة أقاصي البلدان. وكم كان لي إلتفاتة لهفى مولهة في أثر المراكب الذاهبة أصوب إلى شرعها المتضائلة المضمحلة الحاظ الواجد المشتاق وأقذف بنفسي على أجنحة الوهم والخيال إلى أقصى أطراف المعمورة!. ولقد كان بعد ذلك في ادماني القراءة والتفكير ما كبح من جماح هذه الشهوة ووقفها عند حد معقول ولكنه جعلها مع ذلك أشد مضاء وتصميماً فزرت عدة من نواحي بلادي. ولو

أني ممن وقفت رغبتهم عند مجرد التلذذ بالمناظر الطبيعية الحسناء لكان لي فيما حوته بلادي من تلك المناظر مندوحة عن التطلع إلى أية بلاد أخرى، ولا غرور فإن الطبيعة لم تكن في بلد ما أسخى يداً ببديع المناظر وروائع المشاهد منها في أوطاني العزيزة. وناهيك ببحيراتها العظيمة كأنها مجارٍ من ذوب اللجين وجبالها الرافلة في وشي ألوانها الزاهية الشفافة ووديانها المفعمة نعمةً وخصباً وشلالاتها القاصفة في خلوات قيفارها. وسهولها المترامية الأطراف مواجةً بدوائب أغراسها الغامرة المتكاثفة وأنهارها العريضة العميقة منحدرةً في صمتها العميق إلى المحيط، وآجامها الوعرة المسلك غير المذللة ولا المطروقة مختالةً من نباتها الوحف الأثيث في مثل الوشى اليمانى. والديباج الخسرواني. رافلة في أقشب حلة وطيلسان. مزدانة بأجمل الحلي والتيجان. وسمائها الوهاجة بصقال السحب الصيفية ورونقها المعجب الفتان. وبنور الشمس المتبلج الأضحيان، ولا يزال الأمريكي غنياً بناظر بلاده عما سواها لا حاجة به إلى أن يلتمس في غير أوطانه جمال الطبيعة وجلالها: ولكن ميزة آوروبا هي في اشتمالها على كنوز القصص والشعر والرواية فهنالك بدائع التصور ومحاسن آداب الطبقات العالية المهذبة وعجيب خصائص العادات القديمة والمحلية. فأوطاني ملأى بما يبشر بالمستقبل الحسن وآوروبا ملأى بذخائر العصور الخالية وودائع الدهور الغابرة فأطلالها البالية ورسومها العثية تحكي قصة الأزمان الماضية وكل حجر دائر إنما هو سجل أخبار. وصحيفة آثار. وشاهد عبرة وتذكار، ودليل موعظة وإنذار. ولذا تاقت نفسي إلى غشيان مشهد المآثر الجليلة والمساعي النبيلة. والمناقب الغراء والآلاء البيضاء والمفاخر المشهورة. والمكارم المشكورة. والمحامد المأثورة. وحن قلبي إلى أن أقفو آثار شبح الماضي واتتبع أصداء صوت القدم. لفد أحببت أن أجوس خلال القصور الخربة والرسوم التبة. واعتبر بسقوط الأبراج النشيدة. والقلاع الحصينة الموصدة. فاتجرد بذلك برهة عن الأحوال العادية الحالية وانطلق مخلوع العذار جامخ العنان في أودية الغابر الخيالية وشعاب الماضي المبهمة. وكنت فوق ذلك مشغوفاً بأن أبصر أعاظم رجال الدنيا. لا أنكر أن لدينا عظمائنا بالقارة الأمريكية ولا بلدة إلا قد أوتيت نصيبها من العظماء. ولقد خالطهم حيناً ما فبهرتني

أنوارهم وكسفتني شموسهم وأحرقتني لفحات شهبهم. إذ ليس أمحق للرجل الصغير من ظل العظمة الذي يسقط عليه من شخصية الرجل العظيم فيكاد يمحوه محواً، ولكني على الرغم من ذلك شغفت بأن أرى عظماء آوروبا إذ كنت قرأت في بعض مؤلافات الفلاسفة أن جميع الحيوانات ينحط نوعها وتفسد طبائعها في أمريكا وفي جملتها الإنسان، ينتج من ذلك أن العظيم الآوروبي يكون أسمى من العظيم الأمريكي بمقدار سمو جبل ألبى على ربوة من ربى هدسون ومصداق ذلك ما نراه من العظمة والأبهة النسبية لكثير من السياح الإنكليز بيننا بعد انحطاط مكانتهم وصغر أقدارهم في بلادهم الأصلية. لذلك قلت في نفسي لأزورن هذه القارة الآوربية معرض العجائب والغرائب فأُبصر ذلك الجنس القوي العظيمالذي أنا أحد ذريته الضعيفة المنحطة. وكان من حسن حظي أو منم سوء حظي أن قضيت وطرى وحاجتي من ذلك التجوال والطواف. فلقد طوفت في آفاق شتى وشاهدت كثيراً من مناظر الحياة المتنقلة وصورها التحركة، ولا أقول أني درست هذه المناظر دراسة فيلسوف ولكن مثلي وإياها كمثل عاشق المناظر الغريبة إذ يتلوم على معارض الصور المختلفة بحوانيت المصورين ينتقل من واحد إلى آخر فتارة تستهويه صورة غادة حسناء وتارة مقابح صورة شوهاء، وآناً محاسن منظر طبيعي، وكما من عادة السياح اليوم أن يحملوا ريشة التصوير أثناء رحلاتهم فيعودون إلى أوطانهم مملوءة حقائبهم بالصور والرسومات فلقد عزمت أن أصنع بضع صور اتحف بها صحبى وخلاني، بيد أني اذا أملت ما قد أعددت لهذا الغرض من الخطرات والمذكرات ساءني وأحزنني أن تكون أميالي وأهوائي العابثة قد صرفتني عما يعمد إليه السائح الرشيد من شريف المقاصد والأغراض حينما يريد أن يؤلف كتاباً. وإني لأخشى أن يبوء كتابي من الخيبة والخسران بمثل ما يبوء به تصوير المصور الذي يسيح في القارة الأوربية فلا تحدوه أمياله الشاذة وأهواؤه الشاردة إلا إلى تصوير الأركان الخفية والزوايا المستترة والأماكن الغامضة، فمصوره يجيئ بناء على ذلك غاصاً بالأكواخ والمناظر الخلوية والدمن والأطلال المجهولة الخفية ولكنه خلو من صورة كنيسة القديس بطرس أو تياترو الكولوسيوم أو شلال (ترنى) أو خليج نابلي ولا يرى به واحدة من نهر ثلجي أو بركان.

ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل مقالة السوء إلى أهله ... أسرع من منحدر سائل لم أجد كثرة الأخلاء إلا ... تعب النفس في قضاء الحقوق فاصرف الناس عن كثير من الن ... اس فما كل من ترى صديق ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه

رواية تاجر البندقية فينسيا

رواية تاجر البندقية فينسيا تأليف وليم شاكسبير أشخاص الرواية دوق البندقية برنس مراكش: من خطاب بورشيا برنس آرجون: من خطاب بورشيا أنتونيو: تاجر من تجار البندقية باسانيو: صديقه وأحد خطاب (بورشيا) سالانيو: من أصدقاء أنتونيو وباسانيو سالارينو: من أصدقاء أنتونيو وباسانيو جراشيانو: من أصدقاء أنتونيو وباسانيو ساليريو: من أصدقاء أنتونيو وباسانيو لورنزو: عاشق (ياسيكا) بورشيا: وارثة غنية شيلوك: يهودي غني نيريسا: وصيفتها تيوبال: يهودي صديق شيلوك ياسيكا: إبنة شيلوك لانسيلو جوبو: مضحك وخادم شيلوك جوبو الكبير: والد لانسيلو ليوناردو: خادم باسانيو بالساذار: خادم لبورشيا ستيفانو: خادم لبورشيا وجهاء البندقية: قضاة المحكمة، سجان، خدام بورشيا، خدام وأتباع الفصل الأول المنظر الأول - فينسيا. شارع (يدخل أنتونيو وسالارينو وسالانيو) انتونيو - حقاً يا خليليّ لا أدري ما هذا الكمد الذي يمضني ويكربني. ولا أعرف له من

سبب ولا علة. ولا أدري كيف صادفته وكيف لقيته، وإني عثرت به وأصبته. كما لا أدري مما تألف وتكون، ولا من أي شىء نشأ وتولد. ولقد شرد الحزن من لبي وأضاع من صوابي حتى أصبحت لا أكاد أتعرف نفسي وأتبين حقيقة حالي وأمري إلا بالتعب الشديد والجهد الجهيد. سالارينو - إن ذهنك على لج البحر يطفو به الموج ويرسب. ويموج به العياب ويتقلب. هناك سفنك الضخمة ذات الشراع الفخمة تختال على الماء كالسراة والاعيان. ونتيه كذوى اليسار من التجار على غوارب الطوفان. وتبدو لروعة جمالها ولبهة جلالها وكأنها أعلاق آليم ونفائسة. وأعراس البحر وعرائسه، فهى تعلوه المراكب الصغيرة وتشرف على السفن الحقيرة التى تنحني لها تجلة وتركع لها إكبارا بينما سفائنك الجسام تمر بها مر السحاب طيارة بأجنحتها المنسوجة. سالانيو - لامراء يا سيدي - والله لو كنت خاطرت في التحلر بمثل ثروتك لهف قلبي على أجنحة آمالي في اثر أموالي تلهفا وحنينا، ولطارت عواطف نفسي ترفرف على صدر المحيط حول سفائني المشحونة - اذن لما برحت اقتلع الاعشاب انصبها بمخترق الرياح لأعرف من أين مهبها - وانظر في المصورات الجغرافية استقري مواقع الثغور والمواني والمراسي. ولكل شيئ خشيت من ناحيته العطب على بضاعتي كان بلا شك جديرا ان يثير حزني ويبعث لوعتي وشجني. سالارينو - أنا والله لو أصبحت بمثل حالك لرحت حليف القلق والرعب أليف الخوف والذعر خليقا أن أفزع وأرتاع لكل ما يشبه ثورة البحار وزخرة التيار. فتنفسي في حسائي لتبريد سخونته حري أن يصيبني برغدة النافض كلما ذكرت عظم ما تحدثه الأعاصير في البحر من الشر والبلاء. وكلما رأيت الساعة الرملية تجري بمقدار. ذكرت الرواسب الرملية في لج البحار. وخيل إلي أن سفينتي المثرية قد نشبت في الرمال وقد طامنت دقلها وطأطأت من أشرافه حتى انخفض عن جانبيها وهوى ليلثم مصرعه. وكلما ذهبت إلى الكنيسة فرأيت بنائها الفخم المشيد ذكرت الصخور الوعرة الخطرة وأوجست خيفة أن تحطم سفينتي الهشة الملامس، الغضة المكاسر، الضعيفة الأسر الواهية القوة، إن هي مستها وأشفقت والله على بضاعتي الثمينة من التوابل أن تذروها كف النكباء. على بساط

الماء. وعلى حرائري النفيسة أن توشح بها أيدي العواصف. اعطاف الأمواج القواصف. فبينا انا الغني الموسور إذا بي الفقير المعسر وبيننا تراني رب القناطير. ثم لا يعرضلي الحزن والأسى؟ فلا تعدون الحقيقة ولا تخطئن وجه الصواب، وذرني من المزاعم الباطلة فأنا أعلم يقينا أنه لا علة لاكتئاب انتونيو سوى تفكيره في أمر تجارته. انتونيو: كلا يا خليلي. فأني والمحمد لله ليست بضائعي وقفا على سفينة واحدة ولا مقصورة على مكان واحد وليس مدار ثروتي على تجرة هذاالعام ولا قوام مالي ونظام حالي رهنا بصفقة هذا الموسم. ولذلك لا يأتني الحزن من ناحية تجارتي البتة سالارينو - فلعلك إذن عاشق انتونيو ـويحك! سالارينو ـو لا عاشق؟ فلنقل إذن أنت حزين لأنك لست فرحا. وقد كان من السهل عليك أيضاً لو أنك طفقت تضحك وتثب وتقول أنك فرح لأنك لست حزينا. أما والاله جانوس ذي الهامتين لقد أبدعت الطبيعة في تصوير هذا العالم وأغربت فجاءت بخلق عجيب مدهش، فمن أناس لا يزالون يضيقون أعينهم ضحكا تنظر إليك أحداقهم من خلال أجفانهم المزرورة ولا ينفكون يضحكون حتى لرؤية زمار حماقة وسخفا، كما يضحك الببغاء من كل شئ وأي شيئ. ومن أناس في طباعهم مرارة وفي أخلاقهم حموضة وحرافة لا يبدون النواجذ ابتساما لسماع الملحة النادرة والفكاهة الغريبة ولو أقسمنستور شيخ الوقار والجد أنها مضحكة. سالانيو - ها هو ذا باسانيو قريبك الا مجد وهاك جراشيانو ولورنزو. فسلام عليك، سندعك الآن إلى من هو أمتع منا أنسا وأعذب حديثا وألذ مجلسا سالارينو - لقد كان بودي أن أبقى معك حتى أدخل عليك السرور والفرح لو لم يسبقني إلى ذلك من هم أعز وأكرم. أنتونيو - انك لتنزل من نفسي بأخص مكانة وأكرم منزلة ولكن الذي أراه أن دواعي عملك تدعوك إلى الانصراف وقد رأيت الفرصة سنحت فلم تشأ أن تضيعها. يدخل باساني وولورنزو وجراشيانو. سالارينو - أسعد الله صباحكم يا سادتي.

باسانيو - أيها السيدان متى نضحك وننعم بحسن المؤانسة والمجالسة. خبراني متى. لقد أصبحتما لبعد العهد بكما كأنكما غريبان. أفلا بد من هذا؟ سالارينو - سنجعل أوقات فراغنا تحت تصرفك. ينصرف سالارينو وسالانيو. لورنزو - سيدي باسانيو أما ولقد لقيت انتونيو فسندعك الآن. ولكن لا تنسى موعد لقائنا وقت الغداء باسانيو - سأوافيكما هنالك. جراشيانو - مالي أراك سيئ الحال. كاسف البال. انك لتعظم من أمر الدنيا حقيرا. وتجسم من شأنها صغيرا. إلا أن من بذل في طلب الدنيا الشيء الكثير من راحته وطمأنينته قلقا واهتماما كان جديرا أن يفقد طيب العيش فيبوء بالخيبة والخسران. لشد ما تغيرت يا سيدي. انتونيو - لا أرى في الدنيا أكثر من قيمتها. وخلاف كنهها وماهيتها. يا جراشيانو - لا أرى سوى ملعب يمثل عليه كل فرد دورا ودوري هنالك جدي خطير. جراشيانو - دعني ألعب دور الهزل والمجون - أنفق عمرك في اللهو، واقض باللعب أيامك وأركض أفراس الصبا في ميادين الباطل حتى تبلغ مدى الهرم على سوابق المزاح وحتى تشيب شواتك وتقوس قناتك وتتخذ كدنتك وتتجمد أسرتك في الضحك والطرب. ولخير لي أن تستعر حميا الشراب في هامتي من أن تخمد الزفرات القتالة جمرة الحياة في مهجتي. ومالي أرى الرجل الذي يغلى في جوفه ماء الشباب يقرر رزينا ثقيلا ويطرق واجما لا حراك به كأنه تمثال جده صيغ من جبس. أوكأنه صنم قدّ من صخرة جلس. ينام إذا استيقظ ويضني نفسه كمداً حتى تأخذه الصفراء من فرط شجنه. أي انتونيو - أنى أحبك وان حبي هو الذي يتكلم فاعلم إن هنالك صنفا من الناس يكسون وجوههم نقابا من الجد والوقار ثابتا لا يتحول كالطحلب الذي يعلو صدر الماء الآسن فأولئك يلزمون الصمت والرزانة تصنعا ورياء ليخدعوا الناس عن حقيقة أمرهم ويوهموهم أنهم على جانب عظيم من العقل والحجا والدهاء والأناة والحلم والوقار كمن يحاول أن يقول للناس (ها أنا ذا كم البصير الحكيم علام الغيوب. المطلع على سرائر القلوب. فإذا نطقت فالألسنة كلها مفحمة.

وإذا خطبت فالأفواه من هيبة وإعظام ملجمة. أجل يا انتونيو إني أعرف من الناس من اشتهروا العقل والحكمة لغير سبب سوى التزامهم الصمت في المجالس. وفي اعتقادي أنهم لو تكلموا لأصموا الآذان بسخافة أقوالهم حتى يضطر سامعوهم إلى رميهم بالسفه والحماقة. وسأحادثك في هذا الشأن مرة أخرى. ولكن حذار أن تتلمس هذه الشهرة الباطلة - شهرة الحكمة والحجى - بتلك الوسيلة الكاذبة - وسيلة الصمت والإطراق فإنها شر واسطة إلى شر غاية وأخس شرك ينصب لأخس صيد هلم بنا يا لورنزو وسلام عليكم إلى حين. وسأكمل نصيحتي بعد الغداء. لورنزو - فلندعك إذن إلى ما بعد الغداء. لأكونن أحد هؤلاء العقلاء البكم، ولا غرو فإن جراشيانو لا يدعني أنطق البتة. جراشيانو - لازمني عامين منذ اليوم فإنك تصبح لطول صمتك لا تكاد تعرف صوت لسانك. أنتونيو - سلام عليك. سأروض نفسي مذ الآن على الإفاضة في الكلام. جراشيانو - شكرا لك فالصمت لا يحمد إلا في لسان ثور قديد. (ينصرف جراشيانو ولورنزو) أنتونيو - ناشدتك الله هل تجدن لهذا الكلام معنى؟ باسانيو - إن جراشيانو أكثر أهل فينيسيا لغوا وهراء وهذرا فكلامه كحبتين من القمح مخبوءتين في مكيالين من نخالة تبحث عنهما طوال اليوم حتى تصيبهما فإذا أصبتهما وجدتهما لا تستحقان بحثك وتنقيبك. أنتونيو - دعنا من هذا ونبئني من تلك السيدة التي عزمت أن ترحل إليها سرا في أمر وعدتني شرحه وبيانه. باسانيو - لا يخفى عليك يا أنتونيو أني طالما أسرفت في النفقة تحيفا من ثروتي لأكتسي من أبهة الترف ومظاهر النعمة ما تقعد بي رقة حالي عن التمادي فيه والاستمرار عليه، وما أنا اليوم بآسف أن تلجئني الضرورة إلى أن أحذف من عيشة التبذير التي أعيشها كل هذه الفضول والحواشي. إنما همي الوحيد هو التماس أشرف وسيلة للتخلص مما ورطني فيه السرف والتبذير من ديوني الفادحة. وإنك يا أنتونيو ما زلت أجود الناس علي بالحب

والوداد. وبالطارف من المال والثلاد. وكفى بحبك إياي باعثا لي على أن أسر إليك كل ما قد دبرته من الحيل والوسائل ابتغاء الخلاص مما قد ركبني من الدين. أنتونيو - ناشدتك الله يا صديقي باسانيو إلا ما خبرتني بتلك الحيل والوسائل ولعمري لئن كانت تنزل من الشرف والنزاهة بمثل منزلتك التي لا تزال تحلها لأجعان خزائني وشخصي وآخر ما أملك وأدخر وقفا على أدنى حاجتك وأيسر بغيتك. باسانيو - لقد كنت أيام التلمذة إذا أخطأ مني سهم أتبعته بنظيره قوة ونفاذا في وجه السهم الأول مبالغا في تسديده لأصيب به ما أخطأ الأول. وكذلك كنت بأخطار السهمين أرمي الهدفين وأصمي الغرضين وأحرز الصيد ين. ولقد ضربت لك هذا المثل من بين حوادث طفولتي لأن ما يتبعه من المقال هومحض حماقة طفولية وسخافة صبيانية. فأنا مدين لك بالجم الكثير وإني لشدة خرقي وفرط جهالتي وسفهي قد أضعت كل ما أقرضتنيه. ولكن إذا قضت مشيئتك الآن أن تصوب سهما ثانيا حيث كنت صوبت الأول فأنا الضمين لك بحسن حيطتي وعنايتي أن أصيبك الغرضين وأنيلك الوطرين أو أرد لك قرضك الأخير موفورا صحيحا وأبقى شاكرا لك صنيعك الأول. أنتونيو - ما بالك وأنت تعرف فرط حبي وإخلاصي تتحايل كل هذا التحايل وتسلك كل هذه المسالك الملتوية المتعرجة في سبيل طلبك إلى ما تريده مني فأنت بارتيابك في سرعة إسعافي إياك وظني أني استطيع أن أدخر عنك أقصى طاقتي ومجهودي تلحق بي من الظلم والإساءة أضعاف ما كنت تنالني به لو أنك بددت كل ثروتي، فمرني ماذا أفعل يكن ذلك علي حتما مقضيا. نبئني بما عندك. باسانيو - إن في بلدة (بلمون) سيدة غنية ذات ميراث عظيم وهي جميلة وفوق الجميلة لما ازدانت به من حلية الأدب والعقل. وتاج الكمال والفضل. وربما خالستني ألحاظها برسائل حب صامتة. وكتب أشواق خافتة. واسمها (بورشيا) ولا أراها تقل درجة عن بورشيا ابنة (كاتو) وزوجة (بروتاس) وما أمرها بخاف على أهل المشرق والمغرب، فالخطاب من مشاهير العظماء يأتونها من مهاب الرياح الأربع وغدائرها الذهبية تتهدل على سالفتيها (كالجزة الذهبية) مما صير بلدها (بلمون) في منزلة (كولكوس) الأثرية، وأغرى بالتزلف إليها والتماس ودها الأبطال المغاوير أمثال (أيسون) في غابر الأساطير، فلوكان لي من

المال يا صديقي أنتونيو ما يمكنني من مناظرتهم ومنافستهم لوثقت بالنجاح والظفر - هكذا يحدثني قلبي وينبئني ضميري. أنتونيو - أنت تعرف أن أموالي كلها في البحار فلا أملك اليوم من النقد ولا من المتاع ما يمكنني من اقتراض المال. فامض لتوك وساعتك فانظر ماذا تستطيع أن تصل إليه بفضل ما لي من ثقة في مدينة فينسيا فلا تستنفذن أقصى هذه الثقة في اقتراض ما أزودك به إلى بلمون لزيارة الحسناء بورشيا. فاذهب الآن فابحث عن مظنة المال ومكانه فلن أتردد البتة في إحرازه لك سواء بواسطة مركزي ومكانتي أم بفضل حرمتي وكرامتي. ينصرفان - لا يستخفن الفتى بعدوه ... أبدا وإن كان العدو ضئيلا إن القذى يؤذي العيون قليله ... ولرب ما جرح البعوض الفيلا إذا ازدرى ساقط كريم ... فلا يطولن ضيق صدره فأكثر الناس منذ كانوا ... ما قدروا الله حق قدره

اللورد كرزون

اللورد كرزون للمستر جاردنر مدير (الديلي نيوز) كلمات في وصف رجالات الانكليز وتصويرهم تصويرا دقيقا بريئا من أبدع ما وصف الواصفون ونحن هنا ننتقل لقرائنا ما كتبه على اللورد كرزون وزير خارجية انكلترا - قال الكاتب. كان يمكن أن يكون اللورد كرزون من عظماء الرجال لو أنه استطاع أن ينسى أحيانا قليلة اللورد كرزون! أن الصحة لا تشعر بنفسها. ولا يلتفت الإنسان إلى جسمه إلا إذا أحس بالمرض. وكذلك الذهن القوي السليم ينسى نفسه. ولكن اللورد كرزون لم يتذوق قط هذه الصحة. بل هو يعيش في بيت من مرايا. وأين ما تلفت أو تنقل وجد أمامه خياله الوضاح البراق. أفما كانت أكسفورد إلا مشرقا لطلعة سحرية واحدة. وما كان البرلمان إلا مسرحا للمثل واحد لا يجارى. وما كانت الهند إلا ملعبا لأرستقراطي باذخ المقام عظيم الأبهة جليل الخطر. يقول المستر تشسترتون في إحدى حكمه الظريفة أنه يجب على الإنسان أن يكون قادرا على الضحك من نفسه والسخرية بها والتسلي بسخافاته. ولا ريب أن هذا معيار بديع لقوة الذهن. فلا ينبغي أن يرى الإنسان نفسه بطلا ولكن رجلا عاديا ذا فضائل غريبة تحمل على الإعجاب وحماقات أغرب تحمل على الضحك والاستهزاء. ولكن اللورد كرزون لم يضحك من نفسه قط ولكنه دائم الإعجاب بها. ومن هذه الناحية الجافة من الرجل الخالية من النقد والسخرية بالعيوب صدرت جميع الغلطات التي تخللت حياته. وكذلك كانت قيصريته المزهوة هذه سببا في جميع غلطاته وهو حاكم الهند فهي السبب في تلك المجازفة في سهول التبت بلا داع ولا نتيجة سوى حب الظهور والإعلان عن النفس وإسالة الدماء البريئة المسالمة وإرهاق الفلاح الهندي المسكين بالضرائب الجديدة. وهي السبب في تقسيم البنغال على النحو الذي حدث والذي أشعل في الهند ناراً لن تخبو. لقد كانت سياسة التحدي غلتي اتبعها هناك هي موقد الحركة الوطنية. فاللورد كرزون هو خالق (الهند الجديدة) وما يؤثر عن غلطاته الشنيعة في الهند أنه ذهب يوماً ليلقي خطاباً على طلبة جامعة كنكتا. أي على خلاصة الشبيبة الهندية المتعلمة الراقية. فلم يمنعه ذلك من أن يقول أن الصدق فضيلة الأمم الغربية وأما الشرقيون فكذابون متملقون! وارتجت الهند لهذه الإهانة. وكادت

تسوء العاقبة أولا أن هنديا قوى الذاكرة اقتطف قطعة من كتاب للورد كرزون عنوانه (مسائل الشرق الأقصى) ونشرها بجانب الخطبة المهينة. وهذه هي القطعة التي يحدث فيها اللورد عن نفسه. (قبل أن أتشرف بالمثول بين يدي جلالة ملك كوريا أوصيت بأتن لا أذكر له عمري الحقيقي وهو ثلاثة وثلاثون فقط لأن ذلك يؤدي إلى عدم احترامي عنده. فلماذا ذهبت وسألني أول ما سألني أول ما سأل كعادة الشرقيين كم عمرك؟ أجبته بلا تردد: أربعون. فدهش وأجابني: ولكن يظهر عليك أنك أصغر من ذلك: فأجبته: لأنه قد مضى على شهر وأنا أتمتع بالسياحة في هواء مملكتكم البديعة!! وما كادت الهند تقرأ هذا حتى اهتزت ضحكاً وكادت تنسى الإهانة في سبيل الفكاهة!

دي فاليرا والمفاوضات الإرلندية

دي فاليرا والمفاوضات الإرلندية تدور الآن بين المستر لويد جورج ورئيس الجمهورية الايرلندية مستر دي فاليرا أكبر مفاوضات في تاريخ الإمبراطورية البريطانية بعد أن وقع كلا الفريقين عقد الهدنة فسافر الضباط الانجليز بالإجازة من أرلندا وكف جيش الجمهورية وأعوان الشن فين عن مهاجمة الوحدات الانجليزية وقد اشتغلت الجرائد الانجليزية بل وجرائد العالم اجمع بالكتابة في هذه المفاوضات وما ينتظر منها وقد رأينا أن ننشر صورة الزعيم الإرلندي بعد أن سبق أن نشرنا في أعداد البيان الماضية كلمات كثيرة عن الحركة الإرلندية وحزب الشن فين ونحن وإن كنا لا نجاري معظم الجرائد الإنجليزية في تفاؤلها بنتيجة المفاوضات إلا أنه لا يسعنا إلا الإعجاب بحسن سياسة الإنجليز الذين قدموا الآن أيديهم لمصافحة (سفاكي الدماء) الذين طالما صرح رئيس الوزراء ومعه الشعب البريطاني أنه لن يضع يده في أيديهم. ومما قالته مجلة النيشن أخيراً أنه ما دام الجنرال سمطس قد وضع يده في المحراث فهولن يتركه إلا إذا تعذر الاتفاق تعذراً تاماً من جانب الإرلنديين أو ظهر سوء النية من جانب الإنجليز. والمعروف الآن أن المستر لويد جورج أصبح يعتقد بضرورة السلم بل أنه لشديد الحماسة في الوصول إليه. أما مسيو دي فاليرا فيصفونه بالدقة وحسن التصرف. ومما يمتاز به من الصفات النادرة في أخلاق الزعماء. الشجاعة والأمانة، ويقول المطلعون على المفاوضات أنه يديرها بحنكة وتعقب ويشعر بثقل المسؤولية في الفشل. يقول النظام الذهب لئيم، لأن الشيء ينجذب إلى شكله، والذهب عند اللثام أكثر منه عند الكرام. ومن كلامهم: المسيء لا يظن بالناس الأسوأ لأنه يراهم بعين طبعه: ز في هذا المعنى يقول المتنبي إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم ومن كلامهم: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير ومنه: استصلاح العدو أحزم من استهلاكه لأن استهلاكه ربما هيج أعظم من العداوة التي تستريح منها. ومنه: من طباع الملوك إنكارهم القبيح من غيرهم واحتماله إياه من أنفسهم. ومنه: لا تثق بمودة الملوك فإنهم يوحشونك من أنفسهم آنس ما كنت منهم. ومنه: انحطاط ألف من العلية أحمد عاقبة من ارتفاع واحد من السفلة. ومنه: من عمل ما يجب لقي ما يكره. . .

أمير كتسنه في ضيافة لندن

أمير كتسنه في ضيافة لندن يقيم الآن في إحدى فنادق لندن أمير إفريقي مسلم من نيجيريا ومعه زوجتاه وأولاده وخدمه، ويقال أنه سيمر بمصر قريبا قاصدا إلى مكة المكرمة. وقد كان لزيارة هذا الأمير وقع غريب في لندن لمحافظته على عادات بلاده واحتجاب زوجتيه في غرف الفندق وسذاجة وصفه وحاشيته وللأشياء التي يرونها. وقد تقاطر ألوف لمشاهدة هذا الأمير وحاشيته وكتبت عنه الجرائد الإنجليزية كثيرا فرأينا أن تقتطف شيئاً من أقوالها ولاسيما لما يتوقع من زيارته لنا ولصلته الإفريقية بنا. (مما يؤثران الأمير وحاشيته يرون لندن شديدة البرد (في يوليه) حتى اضطر بعضهم أن يشتري معاطف صوف. وقد راقهم مناخ منشستر، ولاحظ الأمير أن النهار هناك طويل بهيج. ومما أدهشه شرطة الشوارع في منشستر قال (إن إيقاف حركة شارع بأجمعه بإشارة من يدي شرطي أمر مدهش خارق، ولا شك أن شرطيكم له أربعة عيون) وقد شملهم الخوف جميعا عندما زاروا مخازن كروسلى للسيارات وتكلم أحد أولاد الأمير مع أبيه من غرفة أخرى بواسطة جهاز مخصوص. ولم يفهم بعض رجال الحاشية كيف أن السيارات تمر ببعضها وهي مسرعة في السير دون أن تصطدم! ولم تشترك زوجتا الأمير معه في نزهاته وزياراته بل احتجبتا في غرف الفندق ولم يكن يراهما أحد سوى الأمير. وقد احتالت محررة في الديلي إكسبريس حتى تمكنت من مقابلتهما فقالت: دخلت فوجدت زوجتي الأمير منكمشتين في ركن بعيد في غرفة واسعة وقد وقفت أمامهما خادمة سمينة ضخمة الجسم قوية العضلات تكاد تحجبهما بجسمها عن الأنظار. وقد ظهر القلق والارتباك على زوجتي الأمير من هذه الزيارة الطارئة غير المألوفة لها. فأخذتا تنكمشان وتقتربان من بعضهما والخادمة ترمقني بعينين سوداوين براقتين. وكانت الأميرة معينة - أصغر الزوجين وأحبهما إلى الأمير - جالسة على أرض الغرفة متشحة بعباءة زرقاء كثيفة وعلى رأسها عمامة مختلفة الألوان. وعند اقترابي منها التصقت أكثر من قبل بزوجة الأمير الثانية ملكة، وكانت تلبس مثل ثيابها وجالسة على مقعد بشكل يدل تماما على أنها لم تتعود الجلوس عليه من قبل! ولما عرفتهما بنفسي وسب بزيارتي هزت الخادمة أقراطها وحليها وأوسعت لي الطريق إلى رؤية وديعتيها. وكانت معينة في الثانية والعشرين من عمرها ذات وجه أسمر مستدير وعينين سوداوين كبيرتين وهي من أجمل بنات القبيلة. أما ملكة فكانت تبلغ السادسة

والعشرين وفي عينيها الساجيتين الناعستين أحلام. وقد لفتتها قبعتي الحمراء وحقيبتي. ولكنهما على ما قالا يفضلان عمامتيهما ويعدان أزياءنا غريبة غبر متسقة. وهما يقضيان نهارهما منكمشتين في ركن الغرفة ولا عمل لهما سوى الحديث عن القبيلة. ويصليان الأوقات الخمسة. ولما سألتهما عما إذا كانا يعملان عملا آخر أجابتني معينة أنهما يجدان غاية السرور في تأمل وجهيهما في المرآة ووضع الخطوط والكحل. وقد حدثتني ملكة عن الفرق العظيم بين أثاث الفندق الفخم وبين أكواخهما. وكيف أنها فزعت مرة من ضوضاء الحركة في الشارع إذ نظرت خلال الشباك. وكان دهشهما عظيما عند حضورهما التمثيل في إحدى المقصورات!

شيء عن الوهابيين

شيء عن الوهابيين كتبت جريدة الإجبشيان ميل ما يأتي: ذكر المستر تشرشل أخيرا في مجلس العموم أنهم يدفعون إعانة قدرها 60000 جنيه إلى قبيلة عربية قوية هي قبيلة الوهابيين وذلك خوفا من أن تهاجم الأمير فيصل أوغيره من العرب المحالفين. وكتبت أيضاً تقول: إن بعض العارفين بالوهابين لا يرى أن مبلغ 60000 جنيه كثير في سبيل اكتساب صداقة مثل هؤلاء القوم المشهرين بالعنف والصرامة ومما يروى عن تأديب هؤلاء الوهابيين لزوجاتهم أنهم يضعونهن في غرائر يحكمون ربطها يضربونهن ضربا مبرحا أليما أليما، ويتزوج كل وهابي ثلاث نسوة ويحق له أن يقتل كل من تخطو منهن خطوة واحدة خارج عتبة الدار. ويعد الوهابيون جريمة لبس الثياب الغالية أو الأحجار الكريمة أو المعادن النفيسة. لأنهم يعدون هذا إسرافا وخروجا عن التقى. أما عقاب من يدخن سيجارة واحدة فالقتل. وإذا خرج أحد الوهابيين من قريته وصادف أو رأى في طريقه غرباء وجب عليه عند رجوعه أن يغتسل ويغير ثيابه قبل أن قريته أو بيته. والوهابيون قوم متصفون بالرجولة والصرامة بقدر ما هم عليه من الشجاعة وحب القتال.

اعتصاب غلمان القهاوى في اليوجوسلاف

اعتصاب غلمان القهاوى في اليوجوسلاف من ظريف الحوادث التي وقعنا على أنباءها في الصحف والمجلات. نبأ ذلك الإعتصاب الذي حدث في مدينة زغرب من مدائن ولاية (اليوجوسلافيا) التي استقلت بعد هذه الحرب وهو اعتصاب (الجرسونات) وغلمان الحانات عن العمل. رافضين الرجوع إلى أماكنهم في القهوات ومشارب الحانات إلا إذا أجابهم أصحابها إلى مطالبهم. وذلك أن الجرسونات في تلك المحال لا تتقاضى أجوراً البتة. بل ترتكن على ما تتناوله من الزبائن والمترددين عليها من (البخشيش) كما هي العادة في كثير من مدائن الغرب كباريس وغيرها. وقد ظلوا مصرين على مطالبهم. لا يزحزحهم عنها شيء. حتى نالوا بغيتهم. واتفق أصحاب الحانات على إعطائهم أجوراً طيبة. وقدروا للغلام أو الخادم الواحد أربعة آلاف كرونة (في الشهر) وذلك مقابل إلغاء النفحات أو (أعطية الجمهور) ويرتقب أصحاب الحانات أن يسدوا هذه النفقات ويستعيضوها مما يزيدوه على أثمان المشروبات والمرطبات التي ينعم بها الزبائن. والفضل في انتصار الجرسونات على سادات القهوات يرجع إلى حيلة خبيثة احتالها أصدقاء الجرسونات وأشياعهم من الاشتراكيين، إذ يجتمعون فرقا عظيمة، ويحتشدون حشدا كبيرا ويؤمون القهوات فيشغلون أكثر مقاعد المكان ويشعلن لفائفهم ويضحكون ويمزحون وينادونا على صاحب المحل، فيطلبون أقداحا من الماء القراح فقط وهؤلاء الجموع تتألف من الفتيان والأحداث الذين يقبلون على كل عمل فرح يتخلله الطيش والمزاح وقد وجدوا في هذه الطريقة نوعاً من اللهو، ومزجة من الأمازيج التي تروقهم ولكن فيهم رؤساء لا يريدون بها لهوا. ولا يقصدون مزاحا. وإنما يريدون أن يحاربوا بهذه الوسيلة أصحاب المحال الجشعين أهل الأطماع الدنيئة. ومنهم كثيرون يقفون فوق المقاعد ويخطبون في فضل الاشتراكية ورذيلة الامتلاك وجشع أصحاب رؤوس الأموال. والجمهور لا يفزع من هذه الحوادث بل يرى فيها لهوا له لا بأس عليه منه. ولكن تصور غضب أصحاب الحانات وسخطهم وآلامهم من هذه الآفة التي أفسدت عليهم أرباحهم. وقد انتهى الأمر بهم إلى أن سلموا للجرسونات. فعاد الجرسونات إلى أعمالهم راضين فرحين بالنصر والفوز. .

الصور المشؤومة

الصور المشؤومة للروائي الروسي نيقولايف جوجول كذلك ناجى نفسه في خلوته وعقله رائده وسديد رأيه حاديه وقائده. ولكن صاح من أعماق نفسه صوتا آخر أشد وأعلى - هو صوت الشباب الملتهب، ولا عجب إذا قلنا أن نار شبابه المحتدم وسنه الصغير التي لم تتجاوز اثنتين وعشرين أوحيتا إليه وحيا آخر مخالفا لما أوحى به عقله وحكمته، وسلكتا طريقة مغايرة من البرهان والحجة. أجل فقد أصبح الآن يملك مفتاح ألف باب من اللذة كانت قبل ساعة مغلقة كلها في وجهه. لقد أصبح بمتناول كفه ألف ملحة وتحفة وألف مطربة ومنعمة وألف ملهاة ومسلاة، كان قبل الآن يتطلع إليها لهفا وتتساقط عليها نفسه حسرة وكمدا ويحن إليها شوقا. ويذوب تمنيا وتوقا. لقد أوتي قوة هائلة وسلطانا عظيما. وكلما تذكر هذا خفق قلبه طربا! أي لذة ومتاع في لبس حلة قشيبة من آخر طراز! أي لذة ومتاع في إشباع نهمته من أطيب المطاعم وري غلته من أرطب المشارب بعد طول الجوع والعطش أي لذة ومتاع في استئجار منزل أنيق وفي الذهاب إلى المسارح والمراقص والمغاني وسائر المطارب والملاهي. أي لذة في غشيان دكان الحلواني والفكهاني والكنفاني والزلباني وهلم جرا - وهنا اختطف الفتى قرطاسه الذهبي ووثب إلى الشارع. وكان أول ما ذهب إلى الخياط فاكتسى جديدا من رأسه إلى قدمه وشرع يتأمل نفسه كما يفعل الطفل ثم مشى مختالا في برذيه نظارا في عطفيه. وبعد ذلك ذهب إلى العطار فاشترى طيبا ومسكا وغالية. ثم مضى إلى الدلال فاستأجر منزلا بديعا مونقا مزدانا بالمرايا والنوافذ البلورية والأسقف المنقوشة بأعجب النقش والغرف المفروشة بأحسن الفرش - دون مساومة بالأجرة ولا مشادة ولا منازعة. ثم اشترى للتو واللحظة (نظارة أوبرا) بأغلى ثمن واشترى مائة (بمباغ) من كل شكل ولون ثم مضى إلى المزين فرجل له شعره ثم كواه ولواه. ثم استأجر مركبة فركبها وأمر السائق أن يجري به في شوارع المدينة بلا قصد ولا غاية كما يشاء ويهوى قائلا له لما سأله (أين يصد سيدي؟) (على كيفك) وبعد ذلك دخل دكان (فطاطر) فأكل هائلا. ثم دخل مطعما فرنسيا كان يسمع عنه أيام فقره روايات أشبه بالخرافات اليونانية القديمة وإشاعات غامضة مبهمة كالتي تروى عن بلاط إمبراطور

الصين. فهناك تناول غداءه متبوئا أشرف منزلة في مكان ناثرا نظرات العظمة والكبرياء على كل من حوله ملتفتا إلى المرآة من حين لآخر يصلح فيها من هيئته وينضد من طرته وسوالفه. وهنالك شرب زجاجة من (الشمبانيا) - تلك التي يسمع عنها بالرواية فقط ولما خالطت رأسه الخندريس خرج من المكان ثملا يترنح مملوءا جذلا ومرحا. فسار في أنحاء المدينة مختالا يتبختر يصوب (نظارته) إلى كل من صادفه. وفي أثناء مسيره لقي أستاذه القديم فتعامى عنه زوايا وجهه وراغ منه فرارا حتى لقد حار الأستاذ في ذلك وبهت دهشة وجمد في مكانه برهة طويلة وقد ارتسمت على وجهه أمارة التعجب وعلامة الاستفهام. وفي تلك الليلة ذاتها نقل إلى مسكنه الجديد كلما لديه من الأثاث ة الأمتعة والآلات والأدوات والصور والنقوش والألواح والريش والألوان. فصفى أحاسن ما عنده من الصور في مواضع ظاهرة بارزة ونبذ الأردأ الأخس في زوايا المكان ومخابئه وشرع يجول في أنحاء غرفه المؤنقة الجميلة جيئة وذهابا وإقبالا وإدبارا. دائم التأمل في المرايا. لقد ثارت في نفسه شهوة الظهور والإشهار وتوقدت فيه غلة إلى الصيت والذكر والفخار وطنت في أذنه صيحات تقول هذا شارتكوف! ألم تبصروا شارتكوف؟ هل يوجد في العالم من لم يسمع بصيت شارتكوف؟ ما أبرع شارتكوف! ما أسرع شارتكوف ما أروع شارتكوف أي مصور يبلغ عشر معشار شارتكوف) لقد جعل - وهذه الصيحات المفرحة تدوي في أذنيه - يجول أنحاء غرفه الجديدة بأقصى حالة من ذهول الفرح. وفي اليوم التالي أخذ خمس ليرات ومضى إلى دار جريدة سيارة فقابل صاحبها وسأله الإعلان عنه فاحتفى به الصحفي أشد احتفاء وخاطبه (سيدي الأستاذ الأجل الأعظم!) واستفهم عن اسمه ومولده ومسكنه. وفي غد ذلك اليوم ظهر الإعلان الآتي عن المصور شارتكوف تحت إعلان عن (أجود صنف من زيوت لوكا والشمع الإسكندراني (والعسل النحل) وهذا نص الإعلان.

العبقري العظيم شارتكوف

العبقري العظيم شارتكوف (نزف إلى عشاق الفن من علية القوم وصفوة المهذبين وأحسن البشر وذلك هوظهور نابغة عظيم في فن التصوير كلنا يعرف أن بيننا وجوها حسانا فتانة ولكن لي بيننا من المصورين من هوكفيل بفضل عبقريته ونبوغه أن يخلد جمال هذه الوجوه على ألواح التصوير ليمتع بها أحفادنا وذريتنا على مدى الأزمان كما نتمتع بها نحن الآن. ولقد شاء الله أن يجبر هذا الفقر ويسد هذه الحاجة فأرسل إلينا مصورا نابغة قد اكتملت فيه مزايا المصور البارع وصفاته فلتفرح اليوم كل غانية مليحة ولينعم بالها ولينشرح صدرها ولتأمن على محاسنها من الزوال وعلى ملاحاتها من الفناء ولتعلم أنه يوجد اليوم من هوقادر على نقلها إلى اللوحة بحذافيرها وجملتها غير مشوهة ولا مبتورة ولا منقوصة ولا مسلوبا منها أدنى ذرة من حسن وحلاوتها - بل ستبدوعلى اللوحة رافلة في أبهج حلل ملاحتها وبهجتها فتانة الشكل مأنوسة الظرف معشوقة الدل خلابة الأنس رشيقة القد وثابة كاليعسوب بين أزاهر الربيع. وكذلك رب الأسرة يستطيع بفضل هذا النابغة أن يرى نفسه محفوفا بأسرته وأولاده. فيا أيها الناس على اختلاف درجاتكم وطبقاتكم وحرفكم ومهنكم اهرعوا جميعا كيفما وأينما كنتم إلى أمير الصناعة وسلطان الفن! اهرعوا إلى (متحفه البديع بشارع. . . عطفة. . . نمرة. .) تجدوا هنالك من ثمرة ريشته ما يزري بنفائس الفحلين (تيتان) و (فانديك) ولا يقل عن بدائع الساحرين (روفائيل) و (ليونارد) و (أفنسي) فوالله لقد أصبحنا لا ندري أي محاسن الأستاذ شارتكوف أحق بإعجابنا وأولى! دقة الصنع والمطابقة للأصل أوبهاء الرونق ووضاءة الطلاوة والمائية وإشراق الديباج أوبهجة الصبغة وحسن التلوين. رعاك الله أيها النابغة وحرسك وحماك. لقد ربحت صفقتك وفاز سهمك وقد هبت ريحك وثقب نجمك. فليعش شارتكوف!) ولما قرأ المصور ذلك المقال في الجريدة امتلأ طربا وانتفخ زهوا وعجبا وبرقت أسرته. وأشرقت صفحته. لقد ذكره على صفحات الجرائد السيارة وهذا أمر جديد عليه. لقد تلا تلك الأسطر مرارا وتكرارا وأمتع ما في الأمر مقارنته بفحول الصناعة: (تيتان وفانديك وليونارد ودافنسي وروفائيل) فلقد هز ذلك من عطفه وزاد من تيهه وصلفه فانبرى يجوب أرجاء الغرفة جذلان مرحا فآنا يجلس على كرسي وآن يثب من مقعده فيدور كالنشوان في

أكناف المكان وآنا ينطرح على أريكة وآنا على وسادة - وأثناء هذا كله يدبر في نفسه كيف يستقبل الزوار ويعامل الزبائن ذكورا وإناثا. ثم عمد إلى لوح التصوير وتناول الريشة فجر بها جرة سريعة على اللوح ليمرن يده على الخفة والرشاقة. في غد ذلك اليوم دق عليه الباب. فأسرع إلى فتحه. ودخلت سيدة تصحبها فتاة في الثامنة عشر من العمر وهي ابنتها يتبعهما خادم في زي خدام الأمراء وقالت السيدة (أنت المصور شارتكوف؟) فانحنى الفتى إجابة قالت السيدة (لقد كتب عنك شيء كثير في الجرائد اليومية ويزعمون أن صورك هي الغاية القصوى في الصناعة وبأسمى درجة الكمال) ثم رفعت نظارتها إلى عينيها وأسرعت كرة الطرف في جدران المكان ولم يكن عليها البتة فقالت (ولكن أين الصور؟) قال المصور بلهجة المرتبك المتحير (الصور آتية في الطريق لأني انتقلت بالأمس إلى هذا المكان. ولم أتمكن بعد من نقل جميع أمتعتي) فصوبت السيدة نحونظارتها لما لم تجد شيئا سواه تحدق إليه وقالت (أظنك كنت في إيطاليا مهد الفن وكعبة الصناعة؟) قال المصور (كلا لم أذهب إلى هنالك ولكني عازم على الذهاب يوما ما. هاك كرسيا يا سيدتي فتفضلي بالجلوس لأني أخالك متعبة) قالت السيدة (شكرا لك! لست بمتعبة فلقد جلست طويلا بالمركبة ها هوتصويرك! لقد أبصرته أخيرا وهنا أسرعت السيدة إلى الحائط المقابل وصوبت نظارتها إلى صوره ورسومه ومناظره ونقوشه وكانت كلها قائمة على أرض الغرفة مسندة إلى الجدار (يا الله ما أعجب وما أغرب وما أفتن وما أخلب! هلمي إلى هنا يا ليزا. تعالي يا ليزا. انظري هذا رسم غرف على طريقة المصور القديم الخالد الذكر (تينيرز). انظري يا ليزا. انظري؟ ألا ترين كيف أجاد المصور تمثيل الرثاثة والبلى والقدم وهيئة التشوش والاضطراب والتناثر والتبعثر - وكيف أتقن تصوير الغبار. انظري إلى الغبار يا ليزة. ما هذه الإجادة والإحسان! ثم انظري ها هنا - هذه صورة امرأة تغسل وجهها ما أحلى وجهها وانظري هنا أيضا. هذه صورة

غلام صغير خادم في كساء أزرق. وهكذا أنت لا تقتصر على تصوير الأشخاص الذين يطلبون إليك تصويرهم بل تتناول كل شيء وتذهب في مناحي الصناعة كل مذهب حسب ما يوحي به خاطرك ويلهمك شيطانك - هذه والله هي العبقرية الصادقة) قال الفتى ما هذه وحقك إلا حثالة من سقط المتاع لا قيمة لها ولا خير فيها وإنما جل ما فيها إنها تمرينات وتجارب) قالت السيدة خبرني عن رأيك في مصوري هذا العصر. أليس الحق أنه لا يوجد بينهم أمثال الفحول الأقدمين والنوابغ الغابرين أمثال تيتان وليونارد ودافنسي) أجل أنت لا ترى في أعمال العصريين ما امتاز به القدماء من قوة اللون ومن ذلك - ذلك الشيء المسمى - قبح الله هذه اللغة الروسية الجافة اليابسة الفقيرة لغة الهمج المتوحشين أنا لا أستطيع أن أعبر عن خواطري بهذه اللغة البربرية) الحقيقة إن السيدة كان أكثر كلامها بالفرنسية شأن غيرها من أفراد الطبقة الارستقراطية وكانت من عشاق التصوير المولعين بالفن قد طافت بنظاراتها جميع أنحاء إيطاليا وزارت جميع ما بها من متاحف الصور - واستأنفت الحديث فقالت ولكن خبرني عن المسيونول المصور العصري الشهير ما رأيك فيه وما حكمك عليه؟ لله دره! ما أدق صناعته وما أعظم براعته! أظن أن وجوه صوره أملأ بالمعاني حتى من وجوه المصور الكبير (تيتان) ألا تعرف المسيونول؟) قال شارتكوف ومن هونول؟) قالت السيدة (المسيونول لله هوأي نابغة عظيم! لقد صور ابنتي هذه إذ كان سنها اثنى عشر عاما. لا بد لك من أن تزورنا في دارنا وأنت يا ليزا إذا شرفنا الأستاذ فلا تنسي أن تطلعيه على محفظة صورك. وبعد فلتعرف يا سيدي أن مجيئنا هنا الآن هومن أجل أن تشرع في أخذ صورتها للتوواللحظة) قال الفتى (وإني لعلى تمام الاستعداد) ثم أقام منصة كان قد هيأ بها لوحة من قبل ذلك استعدادا لمثل هذه الطوارئ وتناول صحن الألوان وأثبت بصره في وجه الفتاة الجميلة. ولوكان شارتكوف ثاقب النظر صادق الفراسة عليما بحركات النفس البشرية ونزعات الروح الآدمية لقرأ في صفحة ذلك الوجه أمارات افتتان وشغف طفولي بالمراقص والملاهي وأمارات ملل وسآمة من الاشتغال المضجر الكريه بعدة فنون قد فرضتها عليها

أمها ابتغاء تهذيبها وترقية مداركها ولكن شارتكوف لم ير أدنى شيء من هذا كله. بل كل ما رآه هوذلك الوجه الحلوالجميل الذي هوأجذب الأشياء لريشته. وهنا عرته الفرح وهزت الطرب لسنوح هذه الفرصة المعينة على إظهار ما قد كمن من أسرار الحذق والمهارة في ريشته التي لم يتح لها حتى الساعة من الوجوه إلا كل خشن غليظ مقبوح السحنة فرأى بعين خياله ما توه ما سوف تحويه الصورة التي يهم برسمها من محاسن الإتقان والإبداع. وقالت السيدة (إني أريدها أن ترسم في ثوب ساذج بسيط وبين الظلال الخضر مثل الرياض والخمائل وعلى مسافة منها قطيع من الأنعام حتى لا يرى أنها ممن يغشين حفلات المراقص والمآدب. فإني أعلم يقينا أن مراقصنا ومآدبنا تقتل الملكات الذهنية وتميت كل أثر باق من أثار الإحساس الرقيق والشعور الحي فوا حزنا وولهفا على ما باد واندثر من عيشة التبسط وحياة السذاجة!) يا للأسف لقد كان وجه السيدة ووجه ابنتها ينمان عن إدمانهما غشيان المراقص والمآدب إلى حد أنهما أصبحتا تشبهان تمثالين من الشمع. شرع شارتكوف في العم فأجلس الفتاة الجلسة المطابقة لأصول الفن ثم تدبر مليا حتى أوضح لنفسه الفكرة الأساسية وحددها وأخذ يهز فرشته ويحركها في الهواء يجدد بذلك النقط الجوهرية في ذهنه. وبعد ذلك ابتدأ فأتم رسم الهيكل في ساعة. ولم اطمئن إلى ذلك وسر به شرع في التصوير. وحين إذ افتتن بالعمل افتتانا وسحر به سحرا حتى نسي كل شيء - نسي وجود السيدتين ذاتهما - إلى حد أنه صار يبدومنه تلك الخصائص الصناعية التي لا يحب رجال الفن أن يطلع عليها الناس كتلك الحركات الجثمانية وتلك الأصوات الغريبة وتلك الهمهمة والغمغمة والطنين والصفير الذي يأتيه الفنيون حالة أنهما كهم في العمل بكلياتهم وجزئياتهم. بل لقد نسي مركزه إلى حد أنه أمسك رأس الفتاة الارستقراطية فرفعها بيديه وكانت قد نكست من التعب: قالت السيدة (حسبنا اليوم هذا) قال المصور ناسيا نفسه (كلا. بل نستمر برهة أخرى) قالت السيدة مخرجة من جيبها ساعة ذهبية صغيرة (كلا لقد آن أن تقف. ليزا! الساعة الثالثة! لقد تأخرنا كثيرا) قال شارتكوف بسذاجة وسلامة نية وبلهجة الطفل المتضرع المتذلل: دقيقة دقيقة - فقط لحظة لحظة أخرى)

ولكن السيدة لم تكن ميالة هذه المرة إلى الإذعان لرغباته الفنية. على أنها وعدته إطالة المكث المرة التالية. قال الفتى في نفسه (هذا شيء يغيظني جدا لقد بدأ العمل أن يستقيم وينتظم وبدأت أن أشعر بحلاوته ولذته) وهنا أحس بكمد وحرقة وتذكر أنه لما كان يعيش عيشته الفقيرة بمحله القديم لم يكن ثمة من يقطع عليه سلة عمله ولذته أو يقفه من شغله. ألم يكن صبيه نيكيتا يجلس كالصنم لا يتحرك ولوبقي ألف عام لقد كان يسمح لك أن تستمر في تصويره كما تشاء وتهوى بل لقد كان يغط في نومه على الهيئة التي تجلسه عليها. وهكذا طرح الفتى الفرشة وصحن الألوان على مقعد وهوساخط متبرم. ووقف أمام الصورة حنقاً مغتاظاً. ولكن استمرار السيدة واقفة في الغرفة أيقظته من غفلته فاعتذر لها عن شرود ذهنه ثم شيعا إلى الباب وعند انصرافها وابنتها دعته إلى تناول الغداء في دارها الأسبوع التالي، فانقلب إلى غرفته فرحا مستبشراً. لقد فتنته السيدة الارسطوقراطية وابنتها إذ كان لم يزل حتى تلك الساعة يخال أمثالها من أهل هذه الطبقات أبعد منالا من الكواكب وإن الله لم يخلقهن إلا لامتطاء فاخر المركبات يشرفن منها على الصعاليك أمثاله إشرافه الكبر والخيلاء. والآن قد شاهد بعينيه إحدى العجائب بل المعجزات إذ تدلت إليه من ذلك الفلك الأعلى بعض تلك الكواكب وهبطت عليه من ذلك الملكوت الأسمى بعض تلك الملائكة فسلمتا عليه وكلمتاه وها هويرسم صورة إحداهما وقد دعتاه للغداء في قصرها الفاخر الارسطقراطي. لقد تملكه نوعا غريب من السرور وراح من فرط الطرب نشوان يترنح ولقد وكأن نفسه بأكلة شهية فوق العادة في ذلك اليوم وبجلسة في دار التمثيل ونزهة في مركبة لا داعي لها مطلقا. وفي اليم التالي عادت السيدة الارسطوقراطية بابنتها فأجلسهما ثم نشر اللوحة بمهارة وشرع يرسم. وكان صحوالهواء وإشراق الجومما أعانه وساعده على إتقان عمله. فرأى في جلسته المليحة من عديد المحاسن ما لوأثبته في اللوحة لأكسب الصورة أنفس قيمة. ورأى أنه إذا نقل إلى اللوحة بغاية الدقة كلما عرضته الطبيعة على عينيه الآن من مظاهر الحسن والملاحة إذن لأخرج للناس ملحة بديعة وحسنة رائعة وآية ومعجزة عند ذلك وثب قلبه طربا إذ رأى أنه قد شرع يبرز على اللوحة من كامل المحاسن ما قد خفي على الأبصار

ودق عن الأنظار. استحوذ العمل على جميع مشاعره ومداركه وجعل يبصر صورة الفتاة تتكون على اللوحة ويرى محاسن وجهها البديع وبشرتها الصافية الشفافة تنموتحت ريشته. ولم يفته أدنى لمحة أوظل مما اشتملت عليه صورة الفتاة حتى ولوصفرة خفيفة كانت تشوب بياضها ولا زرقة شفافة تحت الجفنين ولما هم أن يثبت على اللوحة خالا أسود كان على جبين الفتاة صاحت الأم قائلة (مهلا مهلا! لماذا ترسم هذا؟ لا حاجة بنا والله إلى ذلك. ثم خبرني عن هذه الصفرة ما أغراك بإظهارها في الصورة؟ وما هذه الزرقة تحت الجفن؟ وأي ثمرة فيها وما الفائدة منها؟ وهنا شرع المصور يبين للسيدة أن هذا تقتضيه أصول الصناعة وأن ما تستهجنه الآن من هذه الهنات الصفراء والزرقاء ستحمده فيما بعد عند كمال الرسم إذ تراه ضروريا لإظهار محاسن الصورة وأبراز ما تطوى عليه من معني الرقة والحلاوة ولكن السيدة عارضته وناقضته وكذبت أقواله. وقالت بئس والله ما حاولت أن تكدر به صفاء الصورة من هناتك الصفراء والزرقاء لقد شوهت حسنها وأذهبت رونقها. إن غرك ما رأيت اليوم على محيا ابنتي من آثار السهر والتعب فحسبت هذه الصفرة خلقة وما علمت أنه طارئ لا يلبث أن يزول فتنجاب سحابته عن أبهى لون وأصفى بشرة، ثم أمرته أن يسرع إلى محوما أثبتت يداه من تلك الجريمة. فبدأ والحزن ملء قلبه أن يمحوذلك فسرت السيدة بذلك واستمر شارتكوف في التصوير على الطريقة المتبعة العادية الخالية من روعة الإبداع والإتقان والتخيل والافتتان المجردة من كل أثر للحذق واللوزعية والبراعة والعبقرية. فسرت السيدة بذلك. بنقطة طول ما استغرقت من الزمن. فقالت له لقد بلغها سريع اليد وأنه ربما أكمل الصورة في جلستين فكيف أنفق فيها كل هذا الوقت. ولم ينتهي منها بعد فوجم الفتى حائرا لا يدري كيف يجيبها على هذا الاعتراض ثم نهضت السيدتان وهمتا بالانصراف وألقى المصور فرشته جانبا وشيعهما إلى الباب ولبث بعد ذهابهما كئيبا مغتما ينظر إلى الصورة بمقلة ملؤها الأسف برهة طويلة. نقول أدمن المصور كرة الطرف إلى تلك الصورة ثم تمثل لعين خياله ما كان أثبته أولا في الصورة ثم محاه من تلك الملامح الجميلة والمخايل الأنيقة والشمائل الرقيقة والمعاني

الدقيقة وتلك الألوان اللطيفة والظلال الخفيفة. ولما أن شغلت ذهنه واستغرقت لبه هذه الخيالات نحى الصورة جانبا وأحضر مكانها صورة ثرية تمثل الآلهة سايكي وكان قد رسمها من قبل رسما تحضيريا أوليا. وكانت صورة وجه مليح حسن التلوين ذي ملامح منتظمة دقيقة ولكنها باردة لم تستضيء بنور الحياة. فشرع الفتى يكسو ذلك الوجه بهجة الحياة ويبعث في صفحتيه شعاع رونقها بإعارته إياه ما كان يموج في ذهنه من أشباح تلك البدائع والمحاسن والروائع والمحاسن والملاحات التي كانت أخذتها عينه من وجه الفتاة الارسطوقراطية وجمعتها ألحاظه من حديقة جمالها الناضر. وخميلة حسنها الزاهر. فلم يبقى من تلك الملامح والمخايل والمعاني والشمايل والألوان والظلال إلا ما أخذ يظهر في تلك الصورة الجديدة (صورة سايكي الأثرية) في أبهى منظر وأجمل مظهر. كذلك دبت الروح في (سايكي) فبدأت تحيى. وأخذت أفكار المصور تتقمص صورة ظاهرة. وانتقل وجه الفتاة الأرسطوقراطية إلى (سايكي) وبقي في الصورة مع ذلك الآلهة مما جعل للصورة معنى فذا وفتنة خاصة. وانهمك شارتكوف في عمله ولبث أياما عدة مستغرق الجهد في إتقانه فلما عادت السيدتان إليه فاجأتاه عاكفاً عليه منهمكا فيه فلم يتمكن من إزاحة الصورة وإخفائها. ولما أبصرتا الصورة هللتا وكبرتا وصاحتا دهشة وعجبا. وصفقتا بأيديهن إعجابا وطربا. وقالت الأم (ليزة انظري! ما أقرب الشبه! يا للروعة ويا للجلال! لقد والله أحسنت إذ أبزتها في حالة يونانية! هذا والله غاية الإحسان والإبداع!) فحار المصور في أمره ولم يدر كيف يصحح خطأ السيدتين ويزيل غرورهما فقال وهومطرق الرأس خجلا (هذه يا سيدتي ليست صورة ابنتك بل صورة (سايكي) فقالت السيدة وقد فتنتها الصورة ابنتي قي هيئة (سايكي) حسن بديع والله آية في الإجادة والإتقان!) ثم تهلل وجهها وأشرق وجه الفتاة أيضاً وأشرق واسترسلت الأم قائلة (لا تنكري يا ليزة أن هيئة (سايكي) أحب الهيئات إليك أن ترسمي فيها وحلية (سايكي) أحب الحليات إليك أن تظهر صورتك يها ما أصوب هذا الرأي وما أصح هذه الفكرة! ثم ما أبدع الرسم وما أروعه! ولكإنه والله من ريشة (كوريجيو) ذاته. وما شأنه عندي أنه ليس من صنعة (تيتان) أو (فانديك) فأنا وإن كنت قرأت عنك في

الصحف وسمعت بك في المحافل لم أك أحسب أنك قد بلغت في الفن هذه الغاية ولن أدعك والله حتى تصورني أيضا). والظاهر أن الشيخة العجوز مالت إلى أن ترسم أيضاً في هيئة (سايكي) أوشبه ذلك). فقال المصور في نفسه (ماذا أصنع معهما؟ إذا كانتا تأبيان إلا تأويل الصورة على هذا المعنى وقد أصرتا على ذلك إصرارا فلأجعلن الأمر كما تساءان) ثم قال بصوت مسموع (تفضلي بالجلوس يا سيدتي الصغيرة كيما أصلح من الرسم ههنا وههنا). قالت السيدة (ويحي! إني أخشى أن تصنع الآن كما صنعت من قبل. حذار من تحسيناتك وتهذيباتك!). ولكن المصور أدرك أن السيدة تشير إلى مسألة الصفرة فطمأن قلبها من هذه الناحية وأكد لها أن كل ما يريده هومضاعفة ما في العينين من بريق ولألاء ومن فتنة وحلاوة، والحقيقة أن الفتى كان خجلاً مما قد أضطر إليه من الاعتراف بأن صورة (سايكي) هي صورة الفتاة فأراد أن يقرب الشبه بينها وبين الفتة قدر الإمكان لئلا يتهمه أحد بالتملق المجرد من الخجل المملوء بالوقاحة وقلة الحياء. فأعمل ريشته في اللوحة وبعد برهة بدأت ملامح الفتاة المصغرة تزداد وضوحاً في الصورة. وصاحت الأم وقد دب الرعب إلى فؤادها وخشيت أن يشتد الشبه جداً (حسبك وكفى!) فأمسك المصور مضطراً. وأخذت الأم الصورة. وأجزلت له الجزاء فأوسعته جنيهات وابتسامات وضحكات ومصافحات وتقريضات وتملقات وهلم جرا. أحدثت الصورة ضجة في المدينة. وجعلت السيدة تعرضها على معارفها وجاراتها وزوارها فكان الجميع يفتنون بها ويعجبون بقدرة المصور الذي مع احتفاظه بالشبه ضاعف جمال الأصل. وهذه الملاحظة الأخيرة كانت مدفوعة بباعث من الحسد. وتكاثرت عقب ذلك الأشغال على شارتكوف وتراكمت وازدحمت. وكأن أهل المدينة كلهم قد أحبوا أن يرسمهم هذا المصور النابغة فكان لا يغبه الزائرون ولا يبرحون يقرعون بابه. وبما عد هذا نافعا من بعض الوجوه إذ كان يمنحه فرصة الإطلاع على عدد جم من وجوه شتى. ولكنهم كانوا جميعا - ويا للأسف - أناسا صعاب المراس إذ لم يعدوأن كانوا إما

رجلا مشغولا مستعجلا أوسيدا أرسطوقراطيا من أهل اللهووالترف والبطالة وهذا أكثر الناس شغلا وأشدهم عجلا وأقلهم لذلك صبرا. فكان الجميع بلسان واحد يطلبون أن تكون الصورة جيدة سريعة الإنجاز فرأي شارتكوف أنه من المستحيل عليه إنجاز أعماله وأنه لا بد من الاعتياض عن الإجادة والإتقان والإبداع والإحسان بالخفة والعجلة وذلك بأخذ الملامح الإجمالية وقلة بذل العناية وإضاعة المجهودات في التفاصيل الجزئية والدقائق الفنية. أضف إلى ذلك ما ضايقه وأعياه من كثرت مطالب الزبائن ومختلف شروطهم فأما السيدات فكنا يحتمن عليه أن يتجلى الذكاء والفضيلة في صورهن. وأن تمحى كل الحروف والزوايا فتجعل مواضعها مستديرة، وأن تسوى الغضون وتملس الخشونات بل تزال البتة، وخلاصة القول أن تجعل وجوههن من فرط الجمال والحسن بحيث يبهت لها كل راء عجبا. ويستهام بها كل ناظر حبا. وكن إذا جلسن أمامه للتصوير تكلفن من النظرات وتصنعن من الهيئات وكسون وجوههن من غرائب المعاني وأعاجيب الآيات ما ملأه دهشة وعجبا. فواحدة تتكلف إظهار الحزن والكآبة وأخرى تتصنع إبداء الإطراق والتفكير وثالثة تحاول تصغير فمها مهما كلفها ذلك فهي تبالغ في ضمه وجمعه حتى يبدوأخيرا في حجم رأس الدبوس. وهن بالرغم من ذلك يكلفنه الاحتفاظ بالشبه والتزام سنن الطبيعية. ولم يكن الرجال أحسن خطة من النساء ولا أفضل سيرة. إذ كان أحدهم يطلب أن يعار وجهه جلال القياصرة. وشمم الجبابرة. وآخر يريد أن تعار عينيه نظرة الفلاسفة أولحظة الأساقفة. واقترح عليه مرة ضابط من فرقة الحرس الملوكي أن يجعل عينيه في الصورة أريكة لإله الحرب (المريخ) أوعرينة لأسد الوغى (أخيل) وجاء مرة قاض بالمحاكم فسأله أن يرقم آية العدل على جبينه وأن يضع يده في الصورة فوق كتاب مكتوب على غلافه بالقلم العريض (العدل أساس الملك). هذه الطلبات العاجلة والاشتراطات الصعبة كانت في أول الأمر تربك المصور وتلقيه في أضيق ورطة وحيرة ولكنه بعد شيء من الدربة والمران عرف كيف يعالجها ويحتال لها حتى صار لا يحفل بها ولا يعبأ. فإذا التقى برجل من عشاق الشهرة الحربية لم يكن أسهل عليه من أن يشعل في عينيه بركانا. ويصبغ شفتيه دما أرجوانا. وإذا عبر بامرئ من

عشاق العبقرية الشعرية. لم يتردد في أن يكسوأعطافه شمائل بيرونية وإذا صادف من السيدات من يطمحن إلى مشابهة نموذجات الحسن (اسبازيا) و (كورين) و (أندين) أجابهن إلى ذلك على الفور فلقى في الصورة من خزانة خياله مقدارا وافرا من الملاحات مم لا بأس فيه ولا ضير منه ويغتفر من أجله ما قد يقترفه من إفساد الشبه. وكذلك أصبح شارتكوف مصور (الطبقات العليا) منغمسا في حومة النعيم والترف. يحضر الولائم والمآدب ويتأنق في اللباس وينادي علنا بأن المصور لا تنبغي له حياة العزلة والخلوة بل يجب عليه أن يخالط الطبقة الأرسطوقراطية احتفاظا بكرامة حرفته فليس له أن يحط من شأن الصناعة بالحط من شأن نفسه كأن يظهر أمام الناس في الهيئة البذة والثياب الرثة أويكون خشن الجانب وعر الناحية فضا غليظ الطبع. هذا ولقد حف منزله بمظاهر الأبهة والفخامة فاتخذ الغلمان والحجاب واتخذ تلاميذ من أبناء علية القوم وجعل يغير ثيابه ويبدل زيه عشر مرات في اليوم ويكوي ضفائره ويلوي غدائره ويجمل شخصه بكل صنوف الحلي والزينة ليعجب النساء ويبهرهن. وخلاصة القول أنه قد أصبح من المستحيل على كل إنسان أن يتبين فيه ذلك المصور المتواضع الخشوع الذي كان يعمل ويكد خاملا مغمورا في حجرته الحقيرة بشارع (أوستروف). والآن أصبح ينتقد الفن وأهله ويصدر أحكامه عليهم فكان يصرح أن الأساتذة الأقدمين كانت حظوظهم أكثر من أقداركم. وأنهم نالوا من الشهرة فوق قيمتهم وأخطارهم. وأن رفائيل نفسه لم يجد التلوين في جميع صوره. وأن تصاويره لم تنل شهرتها العظيمة إلا من طريق النقل والرواية وأن ميخائيل أنجلوكان نفاجا فخورا إذ كان خلوا من الرقة والحلاوة. وأن من أراد البهجة والرونق ودقة الشكل والتلوين فليطلبها في تصاوير العصريين أهل الجبل الحاضر. وفي هذا أشارة وتلميح بالبداهة إلى نفسه. وكان يقول أيضاً في موضوع السرعة - التي أصبح هومن طليعة المبرزين فيها - ما أكثر عجبي من المصور الذي يكد نفسه ويجهدها ويحملها في التصوير عنتا ونصبا وينفق الجم الكثير من مجهوده وزمنه. مثل هذا وربك لا يكون إلا دعيا ضعيفا. عاجزا متخلفة سخيفا. وما هومن الفن في شيء ولا أراه قد أوتي أدنى شيء من العبقرية. وأين هوـ لادردره من العبقرية. تلك والله حليفة السرعة قرينة الجرأة والعجلة. العبقرية تتدفق تدفقا وتندفع اندفاعا. هاك صورة من صنعي

أكملتها في يومين وهذا لوجه أتممته في بضع ساعات وهذا في ساعة أونحوها. وليس الفن في مذهبي إضافة نقطة إلى نقطة وجمع خط إلى خط. ليس هذا بفن المصورين ولكنها (مهنة المبيضين والنقاشين) على هذا النحوكان يخطب في زواره ووافدوا داره. وكان هؤلاء يعجبون بسرعة يده وجرأتها ويصيحون (يا للحذق ويا للبراعة؟ هكذا هكذا النبوغ هكذا فلتكن العبقرية! انظروا كيف يتحدث؟ انظروا كيف من فمه تفيض الحكمة وكيف في عينه يتألق بريق الذكاء والألمعية. حقا إنا لنبصر في وجهه معنى غريبا خارقا). لقد سر المصور أن يسمع عن نفسه أمثال هذا الكلم. وكان إذا نشرت الجرائد عنه تقريظا أبدى فرحة الصغار. بالطبل والمزمار. وإن كان هونفسه الذي اشترى ذلك التقريظ بالدرهم والدينار. وكان يقص من أوراق تلك الجرائد القطعة المسطرة بتقاريظه فيحملها في جيبه أينما حل وارتحل فيحتال لعرضها على أبصار خلاته وأخدانه كما لوكان ذلك قد جاء صدفة واتفاقا. وازدادت شهرة شارتكوف وتكاثرت عليه الطلبات والأعمال فاشتد ملله من تشابهها وتمثله وكان قد كاد يحفظ أشكالها عن ظهر قلبه. فكان يرسم الآن زبائنه بلا أدنى جهد ولا مشقة فيضع على اللوحة الخطوط والتعاريج الأولية ويلقي بها إلى تلاميذه ليكملوها. وكان ما يعرض عليه الآن من وجوه موظفي الحكومة والضباط ورجال السياسة ليس فيها مجالا فسيحا لريشته فنالها الوهن والعجز وكلال الحد وفقدت الحذق والمهارة والبراعة وأصبحت عاجزة عن تصوير الأشكال الرائعة وإبراز العواطف الشديدة والشهوات العنيفة وكذلك فقد لذة تصوير المناظر التمثيلية وعلاقاتها الفنية الرائعة. ولم يبق أمامه سوى الملابس الرسمية والأزياء العسكرية التي تنطفئ إزاءها جذوة الفن في صدر المصور وتبريد حرارته ويفر الخيال منها فرارا. وكذلك انعدمت منها كل مزية فنية من صوره حتى مزاياه الخاصة الشخصية وإن بقي لتلك الصور رواجها وشهرتها لدى أهل المدينة جميعا اللهم ما عدا ذوي الخبرة والدراية فهؤلاء كانوا إذا عرضت عليهم أحدث مصنوعات شارتكوف هزوا أكتافهم تسخطا واشمئزازا أما من كان قد عرف المصور في عهد صباه فهذا كان يحار في أمره ويعجب أين ذهبت تلك العبقرية التي كانت تبدوشواهدها وتظهر مخايلها في عنفوان شبابه وأول

أمره وكيف يتفق أن يطفأ لهيب العبقرية في الرجل عندما يبلغ أشده وتستتم فحولته. ولكن شارتكوف السادر في غوايته، الممعن في ضلالته الثمل من خمرة زهوه وخيلائه المخال في بردة كبره وغلوائه كان في غفلة عن الحق الأبلج الصراح أصم عن كل عايب وقداح فبلغ في غروره سن الكهولة والحكمة والنهي والوقار وأصبح شديد الكدنة حاظي البضع شحيما لحيما، وكان لا يزال يقرأ في الجرائد نابغتنا العظيم أندريه شارتكوف فخر بلادنا وبديع زماننا أندريه شارتكوف وأصبح يعرض عليه المناصب العالية في جامعات الحكومة وتندل عليه الدعوات لرئاسة الامتحانات واللجان وأخذ في هذا الدور ينادي بعكس آرائه الأولى في قدماء المصورين فبدل أن كان يمتقص منهم جعل الآن يزكيهم ويقرظهم لا عن تمام اقتناع وعقيدة بل ليحط بذلك من أقدار الناشئين من مصوري العصر ويغض من أبصارهم ويكسر من شوكاتهم امتقاصا منهم وازدراء بهم. وأخيرا دنت حياته من السن التي يضمحل فيها كل بواعث الهمة والمضاء والحدة والتي فيها يضعف سلطان الحسن على الفؤاد فلا تشمل فتنه حميا الشباب ضراما ولا يؤجج سحره فتوة الصبا صبوة وغراما. والتي تصبح فيه بقايا الشهوات الخامدة لا تتأثر بشيء ولا تتحرك لشيء سوى موسيقى الذهب الرنان ورخيم جرسه الفتان. ولما كانت الشهرة لا يمكن أن تكون مصدر لذة وسرور الذي نغتصبها اغتصابا ويستلبها استلابا بلا حق ولا جدارة لذلك اتجهت عواطف الرجل وأمياله إلى المال فأصبح الذهب بغيته وشهوته وأمنيته ومقصوده ومعبوده ومصدر آماله وآلامه وأفراحه وأتراحه فتكاثرت بدرات النقود وصرر البنكنوت في خزائنه، وأصبح كجميع من يبتليهم الله بتلك النعمة الفظيعة مجردا من كل إحساس وعاطفة إلا حب الذهب ولكن في هذه النقطة من تاريخه وسيرته حدث حادث كدر صفاء عيشته وقلب نظام حياته. في ذات يوم وجد شارتكوف على مائدة رقعة من (المجمع التصويري) يسأله فيها المجمع باعتباره عضوا فاضلا من أعضائه أن يحضر ليبدي رأيه بشأن صورة أرسلها من إيطالية مصور روسي يقطن تلك البلاد إتقانا للفن واستيفاء لقواعده وأصوله. وهذا المصور قد كان أحد زملاء شارتكوف في عهد الحداثة والصبا ومازال مولعا بالفن منذ نعومة أظفاره وقد انقطع إليه طول عمره ووهب في سبيله النفس والنفيس واحتمل من أجله هجرة الأوطان.

وفرقة الأهل والإخوان وأسرع إلى مدينة روما - تلك التي يثب فؤاد عاشق الفن طربا لدى ذكر اسمها.

الحكومة كهادمة للأخلاق

الحكومة كهادمة للأخلاق من مبحث للكاتب الألماني الدكتور ماكس نوردوا لخصه للبيان الكاتب علي أدهم مئات المرات جعلت الضجة التي يقيمها الألمان حول الألقاب والرتب مقصدا للهزأ والزراية. وإن ما صب عليا من السخرية في منثور القول ومنظومه ليملأ مكتبة بحذافيرها. والأمر مع ذلك لم يفرغ منه ولم تجف عيون البحث فيه بل أنه من بعض الوجوه لم يلمس ولم يتعرض له. من ذلك أنه لم يعلق مقدار كاف من الخطورة على ذلك الخطر الداهم الذي يتربص للترقي من جراء التغالي في قيمة الرتب والمناصب والنظر إليها كأمثلة عليا هي مرقى همة الفرد ومسمى آماله في حياته العامة والخاصة. اذهب إلى أي مجتمع في ألمانية وأدر الطرف فيما حولك تبصر مفتشين ومساعديهم ووكلاء ومستشارين من كل الطبقات والأوساط من الموظف الصغير المتواضع لله لا يزهوولا يتكبر. إلى الرئيس الكبير الموفور الجلال والهيبة. وعبثا تحاول أن تعثر بين هؤلاء برجل بريء من التصنع يرضى أن يقنع باسمه حتى إذا ذهبت حاملا مصباح دياجونيز على آخر طرز من المصابيح الكهربائية. فإذا قدم إليك رجل وذكر لك أن هذا مستشار كذا فإنك قمين أن تعرف من ذلك كل ما تريد معرفته عنه. ولست في حاجة إلى كد الذهن لتعرف شخصيته وإنك في غنى عن توسم وجهه وملاحظة اسمه لأن هذه كلها أشياء ثانوية تافهة وإنما مركز الأهمية هووظيفة الاستشارية فهذه هي التي تملي عليك التعريف التام للشخص ويمكنك أن تقف من لقبه على نفسيته وما تعلمه وما يحبه وما يجتويه وكيف وأين يقضي أيامه ولياليه وكيف يفكر في مختلف الموضوعات من مسألة التجارة الحرة إلى مسألة خلود النفس. وفي أحوال كثيرة يمكنك أن تعرف المرتب الذي يتقاضاه وإنه ليستولي عليك شعور فخم جليل من الثقة والتثبت في حضرة شخص ملقب كهذا إذ لا يوجد أستار تحجب عنك سره ولا غيمة من الشكوك تظل رأيك فيه فحقيقته سافرة للنظر لا تترك لك براحا للبحث والتظني. وإني لأعجب بعد ذلك من أنه لماذا يترك لهؤلاء السادة حملت الألقاب أسماء إن الاسم في تلك الحالة لا يزال يشعر النفس بشخصية رواءه بينما إن أكبر انتصار فاز به هؤلاء السادة

الأمجاد هوفقدان الشخصية وفناؤها وإنما الرتبة والمركز واللقب في نظرهم هوالصميم الخالص والصريح والمهذب. والرجل والشخصية هما الملحق والحاجة الزائدة. ألا يحسن بتر الاسم كله والاكتفاء بالدلالة على كل حامل لقب بنمرة الصفحة والسطر في سجلات الحكومة أوفي قائمة الجيش التي تندرج فيها وإذا كان غير لائق ولا مناسب فدعنا نمنح كل حامل لقب اسما سهل الحفظ ويكون هذا السم وقفا على كل من يشغل منصبا خاصا ويقترن هذا الاسم في آن واحد باللقب وبذلك يصير الشخص مغموساً كل الانغماس في لجة اللقب والرتبة ولقد كان النبلاء في فرنسا في القرن الثامن عشر يعرفون كيف يعيشون كان عندهم اسم لكل خادم يطلق على كل شاب ينخرط في سلك خدمتهم فمثلا الخادم الخصوصي كان يسمى جينس (الشبوبية) وسائق المركبة كان يدعى (فيكتور) وكان كل خادم يتسلم اسمه والكسوة الخصوصية من سابقه ويسلمه لمن يجيء بعده. فكان السادة لا يتكلفون إتعاب الذاكرة في قاعة الخدم. ولقد كنا نستهين بذلك ونهمله لوأن هذا السرور الخالي من الحكمة الذي تستشعره هذه الفئة في ألقابها ومراكزها والتي تعطي كساويها شأنا أكبر من شأن شخصياتها كان مقصورا عليها ولكن هذا الشعور نفسه سائد في كل أطراف الأمة متحكم حتى في الأشخاص ألبعيدي الاتصال بالحاكم الألماني حتى في عاداته الخصوصية يجتهد في اكتساب بعض التقرب والزلفى من الحاكم ويسعى وراء نيل الأوسمة التي تدل على أنه من ذلك الفريق المنتخب ولا يثق بوجود نفسه إلا إذ تفضلت الحكومة فجادت عليه بلقب وبدون ذلك المميز لا يستطيع أن يشعر بنفسه كرجل كامل فكل عمل يزاوله هوفي اعتباره أس للقب والمصير الطبيعي لصدره هوأن يتقلد وساما وهكذا هؤلاء الذين ولدوا أحرارا مستقلين عوضا عن الاعتماد عن النفس والاعتداد بالشخصية يتنازلون عن استقلالهم ويضربون بحريتهم عرض الحائط ليشتروا باستقلالهم الكثير ثمنا من الرتب والنياشين؟. لما انتشر نظام الإقطاعيات كان على الرجال الأحرار أن يضعوا ممتلكاتهم تحت تصرف الأشراف وأن يستردوها منهم ثانية في شكل التزام كهبة وسخاء والآن يعيد ذلك نفسه بدون قسر ولا إرغام ولقد كانت شعوب الأزمنة السابقة الأبية لا تفعله إلا بعد مقاومة عنيفة. وتيمي تلك المرقاة - التي درجاتها أدوار الحياة الحكومية - في روسيا (بانتشين) وعلى كل

روسي أن يقف على درجة من درجاتها إذا أراد أن يكون له شأن في الدنيا والتشين على أي حال لم يبقى نظاما خاصا بروسيا فقد تخطاها إلى غيرها. فقد نصبت تلك المرقاة في ألمانيا ورأى العالم إذ ذاك منظرا عجبا - رأى أرقى أمم الحضارة وأقوى شعب على سطح الغبراء يمضي حياته كضفدع الأشجار في تسلق جدي رزين لدرجة تلك المرقاة وأصبح نموالفرد لا من الداخل للخارج كما يحدث في الجسم العضوي الممتلئ بالحياة ولكن بإضافة خارجية كما في الأحجار الجامدة العديمة الحركة والحكومة هي التي تزيد بعض القراريط الجديدة للطول الطبيعي للفرد وهي لا تزيد هذا الطول من ناحية رفع المستوى الأخلاقي وإنما تزيده من ناحية اللقب بتمديده ومطه وكلما فقدت الشخصية صفة اكتسب اللقب نعتاً وكلما ازداد الطبع انتكاسا والفطرة تلويثا أخذت الأوسمة تزداد في الصدر تألقاً ولمعاناً. وويل لمن يحاول أن يستجر نفسه ويفر بها من تلك العبودية التي يقاد إليها بالرغبة فإن هذا يعتبر كالذئب بين الكلاب أولا اعتبار له على الإطلاق ويحكى في الخرافات عن عش عصفور من يحمله يصبح خافيا على الأنظار وتأثير اللقب يناقض تأثير هذا العش فإن الشخص لا يصير مرموقا بالأبصار إلا إذا حمل لقبا وما دام لا يحمله فهومهمل وخيال لا يحس به في المجتمع وفي حال كهذه ترى الرجل الذي لخضوعه لقانون النموالداخلي قد نما إلى فردية بارزة ينبغي أن تقدر وتوزن بمعيار خاص بها ولا تفهم أصوليتها ويدرك سر جمالها إلا وهي طليقة من تلك الزيادات الخارجية المصطنعة التي من شأنها طمس معالمها وتشويه منظرها - رجل كذلك يختفي وراء كومة تلك الألاعيب الكركوزية حملة الكساوي والرتب والنياشين والتي تشغل المناصب الكبرى في دور الحكومة. جاء في بعض النوادر أن طفلا قال أنه لم يعلم إن كان الأطفال الذين رآهم يستحمون صبية أوبناتاً لأن ملابسهم لم تكن عليهم وأرى أن المجتمعات تنظر بنظرة ذلك الطفل وتفكر تفكيره فهي لا تعرف الرجل إلا إذا ظهر لها في كسوته التامة مع الألقاب والرتب وهذه الفكرة ترغم كل إنسان له رغبة في أن يرتفع شأنه بين مواطنيه على أن يهجر طريقه الطبيعي للنموويلتحق بتلك الجماعة التي تزحف إلى الأمام بخطوات بليدة متوانية في ذلك الدرب الذي مهدته لها الحكومة وأحاطته بالحرس من شماله ويمينه وهذا يدخل في رأس الفرد أن حياته الأصلية التي منحتها له الطبيعة لا تعد شيء وإنه لكي ينال وجوده الحقيقي

ينبغي له أن يولد مرة ثانية على يد الحكومة. أي تقهقر معيب محزن إلى مرحلة من مراحل التقدم قد جاوزتها البشرية من أزمان تصرمت وآماد بعيدة؟ أي تناقض لكل الأفكار الأساسية وكل القوات المؤثرة العاملة في أزماننا الحديثة؟. كلما كان المجموع العضوي أكثر حضارة وتمدينا كان أكثر أصولية وأعم اختلافا وتنوعا وأخذ الشعب بنصيب محدود من الفرد وكل المجتمعات خاضعة لهذا القانون وفي العصور القديمة والعصور الوسطى كان المجتمع ملتئما التئاما كليا راسخا وكان ينظر إلى الفرد كوحدة من ذلك الكل فلم يكن إذ ذاك مجال للفرد تمتد فيه شخصيته ليكون أصوليا بل كان لزاما عليه أن يصب نفسه في قوالب ذلك المجتمع ويصوغها على أوضاعه ومن لم تكن تضمه الجماعة إلى هيئتها كان يعد ضالا شاردا لا يتفيأ ظلال القانون وحمايته وهذه المرتبة من مراتب التقدم البشري تشبه الجذر الكثير السيقان قد نبتت فيه الأفراد المختلفة معا فهم ينمون نموا ناقصا في دائرة محدودة ولكن في الأيام الحديثة جاوزنا ذلك فليس ثمة من تكوين مرجاني وكل فرد منا له وجود قائم بنفسه وإن كان هناك أعمال متوقفة على التساند والتعاضد. ورابطة المسئولية التي تنظمنا كلنا في عقد واحد تترك لنا فسحة رحيبة من الاستقلال وهذه الفردية هي نتاج الأزمنة الحديثة وهي التي تضحي الآن برغبة من أخل إحياء ذلك الطراز القديم من الهيئة الاجتماعية التي يعد الفرد فيها خلية لا قيمة لها ولا تأثير. إن المعنى الفكري لكلمة حكومة يشملنا جميعا ولكن المعنى العملي لها يشمل الفريق الذي بيده مقاليد الحكم أوفئة قليلة مخصوصة أوفرد واحد فإذا أكبرنا اعتبار الحكومة وأحللناها فوق كل شيء فإن هذا معناه الرغبة في إرضاء فريق خاص أوفئة قليلة أوشخص واحد وطريق ذلك أن يهمل الإنسان أعمق دخائله وأصفى سرائره وأن يعدل ميوله ورغباته وينشأ من ذلك أن فريق المتهذبين يصبح أشبه بالنظام الجزويتي الذي قدم أعضاؤه العقل ذبيحة للتضحية وتنازلوا عن التفكير بأدمغتهم فإذا سئل أحدهم رأيه في مبحث ما فإنه لا يدري ما يقوله فورا بل لا معدل له عن العودة إلى استماع آراء غيره وكثيرون يتركون حقهم ويضعون كل أفكارهم وأعمالهم تحت وصاية استبدادية لا يلبثون أن يفقدوا الشعور

بضغطها. وقد يعترض عليّ بأن الأمور لا تنتظم إلا بهذه الطريقة وأني ذهبت في موضع آخر إلى أن الجماهير عاجزة عن التفكير المبتكر المستقل وإن هذا إنما يأتي من الأقلية الشاذة وينتقل بطريق الإيحاء الطبيعي من الأقلية الصغيرة إلى الأكثرية الكبرى ولكنه يوجد فرق ضخم بين الأفراد أوالفئة التي تلج أفكارها إلى رؤوس الجماهير من طريق الإيحاء الطبيعي وبين ترسيخ الحكومة للأفكار في أذهان الشعب بكل إجبار وقسر إذ في الحالة الأولى لا ينجم أي إخلال بالقوة العضوية ولا يقع تحت تأثير العقل الأسمى إلا فريق من الناس لا يستطيعون إلى التفكير سبيلا ولا يملكون أداته بينما في الحالة الثانية تهن قوة العقول الكبيرة الجديرة بالابتكار وتشل قوتها. وللحكومة مصلحة في إدامة تلك الحالة ولذا فهي تبطل وتخمد كل معارضة من الرأي العام وتضع مملكة كبيرة واسعة تحت أقدام وزير وزملائه يصرف عنان الأمور كيف يشاء وتدخل على الشعب إن كل معارضة لساسة الحكومة تنافي أخلاق الشرف والنزاهة. وليس في تلك الحال مفسدة للأخلاق فحسب بل هي ضارة بالمستقبل ولقد قرأت فيما قرأت عن ميشيل انجيلوأنه بعد أن أمضى اثنين وعشرين شهرا في نقش سقف كنيسة سيستين اعتادت عيناه النظر إلى فوق حتى صار عاجزا عن النظر باستقامة أمامه أوإلى الشمال أوإلى اليمين كما يعمل الإنسان بلا مشقة بل كان يمسك بالكتابة التي يريد قرأتها ويرفعها فوق عينيه وهذا ما يصيب أولئك الذين ألفوا الحول إلى رؤوس الحكومات فهم يفقدون حرية النظر واستقلال الفكر ولا يستطيعون النظر بسهولة إلى الأخطار التي تحتشد عليهم من النواحي الجانبية والأطراف وهم لا يكترثون لبلادهم وليس غرضهم نفعها وإنما جل غرضهم ومطاف أملهم هوأن يتنازل أحد من بيدهم القوة من شاهق عليائه إلى مصافحتهم باليد أوأن يظفروا منه بابتسامة. ولقد يقولون فيما يهرفون به عن صلاح تلك الأحوال إنها مليئة بحصر قوة الشعب وضم منتشره وجمع متناثر قوته عند مواجهة الشدائد ولكن هذا مغالطة لأن قوة الهيئة المتجمعة تتوقف على قوة منة الأفراد ونشاطها وهي منفصلة فإذا كانت مدخولة واهية فإن أي مقدار من النظام والتوجيه لغرض واحد لا يخلق لها قوة وإنك لتستطيع أن تدرب ألف شاة وتلقنها

النظام ولكن مهما حاولت فلن يصبح في وسعها الثبات أمام أسد واحد ولا في مقدورها أن توحي إليه بالخوف. وفي الأوقات التي يستتب فيها السلم لا يشعر الناس بخطر تلك الحالة ولا يعلمون بالهاوية التي ينساقون إليها وقد يكون من حسن الحظ أن يتاح لهم حاكم متين العقل مستنيره يجري وراء أمثلة عليا ويقوم بأعمال جسام وفي تلك الحال تسير الأمور في نظام ويفوز ذوالأمل والطموح المشرئب ويظهر للناس أن حصر السلطة في يد ذلك الحاكم مثمر عائد باليمن والإسعاد ولكن العبقريين لا يخلدون وليس كل عصر يتمخض عنهم وأعظم الأمم وأكملها لا يمكن أن تثق وتطمئن إلى أنه سيكون في كل حين على رأس حكومتهم أحد نوادر الفلك وغرائب الطبيعة وماذا يكون من الأمر إذا أزري بهم الحظ وأصبح مصيرهم مرتهنا بيد جماعة من أشباه العامة أو ذوي العقول الضيقة والأحلام الطائشة أوالأنانيين عباد المصالح الذاتية والمآرب المدخولة والمتسلفين المتدلين إلى هوة الفجور والرذيلة؟ سيبقى الشعب آخذا بزمام عاداته القديمة مرتسما لأمر الحكومة تاركا لها حق التفكير والرأي متخشعا لهيئة آرائها واثقا بها كأنها منزل الوحي ناظرا إلى فريق الحكام كأنهم شموس طلعت من مشرق الرئاسة وبدور منيرة التاحت في آفاق الوظائف فهيهات أن ترقى إليهم العيوب والنقائص وتقابل الحكومة ذلك بتقريب كل من شغفه حبها وملأ جأشه إجلالها فبات يصفق لها في كل عمل ويسبح بحمدها في كل وقت وهي تلجم فم كل من يستطيل عليها بالمعارضة ويقتحم على سدتها بالنقد وهكذا بين أعمال حكومة راضية عن نفسها فرحة بقوتها وبين طاعة عمياء متغابية من ناحية المكتهفين بركنها تطرق ليلا بدون ارتفاع أي صوت بالتحذير والإنذار أفدح النكبات وأسوأ الخطوب ويظهر إذ ذاك بوضوح الشر المستطير والبلاء المستفحل الناجم من الإفراط والمغالاة في عبادة الحكام ويكون الناس قد نسوا طريق التفكير في المصلحة العامة والتفتيش في أفهامهم وخوالجهم عن النافع لهم ولكثرة تفكيرهم في الحكومة يخلطون بينها وبين الوطن والأمة ويؤثرون العمل تحت إشراف الغير في تنظر المكافأة على أكبار النفس والقناعة بالإخلاص لها وترد منهم تلك الداهية الطارقة على قوم غير متأهبين ولا مسلحين وسيحل بالشعب البوار ما لم يكن في أعماقه عوامل صحيحة نقية لم تلحقها أرجاس الرتب والنياشين وهذه القوة هي سنلد

الشعب في أشد ساعات الخطر وهي التي تصلح أخطاء حكومة حمقاء سخيفة وتعفي على ذنوب الفريق المنتخب المصفق لها. . .

مساوئ العقاب

مساوئ العقاب في مصر (إن السجن لم ينشأ لعذاب المجرمين ولكن لإصلاح حالهم) كليمانس الحادي عشر تعرف العلم الحديث أسباب الإجرام وبحث العوامل التي تدعوإليه، وهي على الإجمال عاملان. فطري يرجع إلى مزاج المجرم وأعصابه وخلقه وتأثير الوراثة فيه وتكوين عقليته المختلة أوالصحيحة، وعامل آخر اجتماعي كالعامل الطبيعي في طقس البلاد وجوها وفي تأثير البيئة على الأخلاق وفي الحالة الاقتصادية والاجتماعية للبلد. ولا يزيد في مقالتنا هذه أن تبحث في كل هذه العوامل ونطبقها على مصر، فإن ذلك لم يكن من غرضنا عند كتابة المقال، ولكن اطراد الجرائم في السنوات الأخيرة دعانا إلى البحث عن العلة الحقيقية التي أوجبت ذلك وإرجاعها إلى مصادرها في مساوئ العقوبات الحالية وفساد أنظمة السجون مما لا يلائم الغرض المقصود من توقيع العقاب على المجرمين. وبعبارة أخرى نريد أن نعرف ونحن في القرن العشرين إلى أي حد بلغت بيننا تلك الكلمة الخالدة التي نطق بها البابا كليمانس الحادي عشر منذ ثلاثة قرون واتخذها عنوانا لمقالتنا. نريد أن نبحث في الأغراض التي يرمي إليها المجتمع من وضع العقاب ومعرفة خير الوسائل التي تلائم هذه الأغراض وترد الجرم إلى الإصلاح والهداية. ليس الغرض ان نقبض على الجناة ونعاقبهم، إنما نرومه لهو أعلى وأسمى من ذلك! إننا لا نريد أن تمتلئ السجون بالمجرمين وأن تقوم الحاجة إلى بناء سجن بعد سجن كما حدث في المنصورة أخيراً، ولكن نروم علاج الحالة الحاضرة وتلمس الدواء لهذا الداء الوبيل. مضى الزمن الذي كان المجتمع يثأر فيه من المجرمين لا لشيء سوى جرائمهم، ومضى الزمن الذي كانوا ينظرون فيه إلى المجرم كأنه جرثومة يجب أن تستأصل ووباء فتاك يجب أن يضرب حواليه الحصار، وأصبح ينظر إلى المجرم كأنه طفل صغير جدير بالشفقة والعناية. لقد عرف العلم الحديث أن أهل للرعاية والشفقة وأنه ليس إلا آلة تسيرها عوامل مختلفة نحوالإجرام. إن ظروفه هي التي تدفعه إلى ارتكاب الجرائم، إنها أعصابه ووراثته والمجتمع الذي نشأ فيه وليس تفكيره وإرادته. ومن قرأ رواية الجريمة والعقاب

لكبير روائي الروس (دستوفسكي) أمكنه أن يرى شواهد ذلك. يقول الأستاذ بروكنر (إن ذلك الاندفاع الميكانيكي نحوالجريمة ليس إلا كالذي يقترب من آلة متحركة فيشتبك طرف ثيابه بعجلاتها فتجذبه إليها وتطحنه بين أسنانها). فلنباعد ما استطعنا بينه وبين تلك الآلة المشئومة! عرف العلم الحديث كل هذا وعرف أن المجرم مريض ينبغي أن يطبب بالعقاقير والأدوية وأن يعطف عليه كما يعطف على المرضى والمصابين، وأن يدخل المستشفيات بدل السجون، وأن تخدمه (أخوات الرحمة) بدل أن يقرعه صوت السجان ويساق سوق البهائم إلى العمل في الجبال والمناجم والسكك الحديدية ولكن للتشريع خشونة غلبت فضيلة العلم وأصبحت الشجون دوراً موبوءة تعدى السليم وتزيد الخبيث شراً، وتخرج إلينا في كل عام عدداً من المعتوهين واليائسين والمرضى. لم يجدوا في السجن رحمة فيئسوا ولم يلق إصلاحا فضلوا. إن نظرية السجون أصبحت ثابتة الخطأ في القرن العشرين ظاهرة العجز عن أن تداوي داء الإجرام في النفوس. إن العلم الحديث عرف أن شفاء المجرم ليس في سجنه في غرفة ضيقة وتكبيله بالسلاسل والقيود ولكن في تحريره من قيود نفسه المريضة وإطلاقه من سجن أعصابه المنهوكة. إننا نريد أن نطهر النفوس ونكبح من النزعات ولن نصل إلى ذلك مهما شددنا في قانون العقوبات واستنبطنا في السجن من أنواع العذاب. وقد أخطأ أحد قضاة الإنجليز إذ يقول (أن معتادي الإجرام يجب معاقبتهم بالسجن الطويل أوالأشغال الشاقة حرصاً على مصلحة الجمهور وليس من قبيل التشفي والانتقام وإن ذلك ضروري والعدل يقضي به). وهل هناك شيء أكثر تشفيا وانتقاما من القضاء على شخص بعزلة مؤبدة؟ وهل من مصلحة الجمهور أن يفقد أفراده على هذا الشكل؟ وهل هذا هوتطبيق العدل الذي وصل إليه العلم بتقريره أن اعتياد الإجرام ليس غريزة طبيعية في نفس المجرم ولكن نزعة مكتسبة كان للمجتمع يد في تكوينها لديه؟ وأخيرا أليس اعتياد الإجرام هوإخفاق المجتمع في إصلاح المجرم أول مرة؟ ألا أن فكرة الزجر بتشديد العقاب والصرامة في معاملة المسجونين ليس لها من أثر في منع الناس من ارتكاب الجرائم. وأن الذين يقولون إن القانون مانع من الإجرام وإن رؤية السجون شامخة أمام أعيننا تنتظر عن ارتكاب

الجرائم - إن الذين يقولون مثل هذا القول يخطئون الحكم وينظرون إلى الجانب الأضعف في الإنسان. القوانين موجودة من عهد الرومان وأنواع العقوبات تكثر وتتعدد في القوانين الحديثة وكلها على شدتها وصرامتها لم تستأصل شرة الإجرام بل لم تعمل على تحقيقها وإقلالها وها نحن أولاء نرى الجرائم في كل عام في ازدياد وكأنها والمدينة صنوان كلتهما في اطراد. أن فكرة الردع العام لا تمنع الإجرام بقدر ما تحفظ الناس من تكرر وقوعه، وبين الأمرين بعيد. ما كان القانون في دور من أدواره طبيبا يداوي علة الإجرام ولكنه كان دائما جلاداً يوقع الجزاء! إن الناس لا يحملون في جيوبهم كتاب العقوبات لينظروا بين السرقة بالإكراه والسرقة العادية فيختاروا أهونها عقابا. بل ما كان الناس ليتأثروا بأمثلة المجرمين ليس إلا عملية بسيطة يراد منها إضعاف عددهم في الخارج! وكذلك تدور عجلة الإجرام في مجراها كما تدور عجلة التناسل البشري، ففريق داخل جدران السجن وفريق آخر خارجه! نروم إصلاح المجرم بعقابه فنحكم على القاتل بالإعدام! نفقد شخصين بدل شخص واحد! أما الذين يقوون أن ذلك رادع لغيره من ارتكاب الجرائم فلا أستطيع أن أفهم الفرق بين الردع بالتهديد به. إن الردع العام لا يقوم به عقاب شديد بقدر ما يقوم به تشريع عادل، وإن الذين يمتنعون عن ارتكاب الجرائم لا يمتنعون لأنهم رأوا توقيع العقاب على غيرهم ولكن لأن القانون يهددهم بتوقيعه عليهم. إن جميع العقوبات في مصر لا ترمي إلا إلى غرض واحد وهوالانتفاع من ذلك القطيع البشري الذي يدخل السجن (دور الإصلاح) في كل عام. فهملا يفرقون في السجن بين الضعفاء والأقوياء ولا بين المرضى والأصحاء ولا بين الكهول والشبان ولكنهم يرومون أن يشتغل الجميع أشغالا مختلفة تعود فائدتها على السجن وأربابه دون أجر ولا غذاء صالح: المجرمون هم الذين يغسلون غرف السجن ونوافذه وأبوابه، وهم الذين يصنعون طعامهم وثيابهم، وهم الذين يرصفون الطرق ويقطعون الصخور من الجبال. فإن لم يجدوا لهم عملا أمروهم بنقل تراب من مكان إلى آخر أوإدارة طاحونة فارغة أوملئ حوض ثم تفريغه! وكذلك يشتغل هؤلاء الرجال المنكودوا الحظ عشر ساعات في كل يوم كما تشتغل الدواب، ثم يعودون إلى غرفهم في آخر النهار فينامون على (برش) صغيرة فوق البلاط

الصقيع! ولا أستطيع أن أفهم العلاقة بين العقاب وبين إهداء الأمة في كل عام عددا من أبنائها مسلولين ومرضى من جراء هذه المعيشة في السجون. أليس غريبا أن نروم إصلاح المجرم فنعامل السجين السياسي كما نعامل المجرم العادي، ولا نفرق بين أرباب السوابق في الإجرام أوبين حديثي العهد به، ونجمع في سجن واحد بين شرار المجرمين وبين من ساقتهم إلى الجريمة ظروف طارئة أونزوة عارضة أوأعصاب مختلة. إن الذين يشكون من ازدياد الجرائم وتمادي المجرمين لا يجب عليهم أن يطلبوا إصلاح ذلك في قانون العقوبات ولكن في النظام السيئ لتنفيذ تلك العقوبات. وما دام في السجن سوط (وزنزانة) وقيود وسلاسل فلن يصلوا إلى قلب المجرم فينتزعوا منه حمئة الإجرام، ولن تتهذب روحه ولوقضى في السجن ألف عام! سيقول قوم لقد غإلى في القول وأين هوذلك النظام المنشود الذي سيجعل المجرمين ملائكة أخيار؟! وأقول لهم إنه نظام بسيط، إنه لن يجعل المجرمين ملائكة أخيار ولكنه سيمنع هذه التجربة التي نراها كل يوم بأعيننا في الشوارع. أطفال صغار يساقون إلى دور الشرطة لأنهم متسولون أولأنهم متشردون، فإذا كبروا وكبرت معهم جرائمهم نسي القانون والناس من المجرم الحقيقي، وقالوا كما يقول ذلك القاضي الإنجليزي الذي أشرنا إليه (إن معتادي الإجرام يجب معاقبتهم بالسجن أوالأشغال الشاقة) إن أولئك المعتادي الإجرام ليسوا إلا أولئك الأربعة الصبية الذين عثر بهم قسم محرم بك في الإسكندرية ومكثوا أياما والحكومة في حيرة من أمرهم لا تجد عائلا يؤويهم ولا كريم يعولهم ولا قاضيا يأمر بمعاقبتهم بالسجن الطويل أوالأشغال الشاقة!. إذا صح أن المجرم مريض قابل للشفاء وأن ليس هناك مجرم بالطبع لا ينجح معه العلاج، وإذا صح أن الإنسانية تتألم لهؤلاء البؤساء وتبغي أن تطبق عليهم حكمة كليمانس الحادي عشر، فما معنى أن نرى السجون شامخة أمامنا وهي دور عذاب، ونرى الحبس الانفرادي باقيا وهواقرب طريق إلى الجنون، ونرى طعام أهل السجن تعافه حتى الوحوش. لا نظام غير (الإصلاحيات) يمحوعن الإنسانية عار هذه الوصمة في القرن العشرين. ينبغي أن تستبدل السجون والحبوس بإصلاحيات زراعية أوصناعية يدخلها الزجال والأحداث والنساء على السواء. ينبغي أن يكون الغرض من معاقبة المجرم ليس الانتفاع

بمدته في السجن ولكن إصلاحه وتهذيبه وتعليمه حرفة أومهنة ما يحترفها بعد خروجه. وليس في مصر ما يمكن أن يقال أنه يشبه بهذا النظام سوى إصلاحية الأحداث في الجيزة. أما إصلاحية الرجال في الدلتا فلا تختلف في شيء عن سجون الأشغال الشاقة. بقي علينا أن ننظر الآن في الأثر غير المباشر الذي ينتجه سوء النظام الحالي للعقاب، دع الحالة التي يخرج عليها السجين بعد سجنه فهي أدعى إلى الإشفاق مما كان فيه. وانظر إلى الجريمة التي يرتكبها العقاب بحرمان أطفال صغار من عائلهم أوترك زوجة ضعيفة بلا ولي ولا ناصر. فيتخبط الجميع في الفاقة والبؤس والشقاء وينحدرون إلى الجريمة. وكذلك تدور عجلة الإجرام في مجراها كما تدور عجلة التناسل البشري. ففريق داخل جدران السجون وفريق آخر لاحقه. وقد سمعنا أخيرا أن القاضي الإنكليزي هوريدج أدخل عقوبة جديدة إلى بلاده وهي عقوبة الجلد بالسياط - سيقول قوم عقوبة من عقوبات القرون الوسطى. ولكنا نسائلهم أين هي العقوبة التي لا ترجع بالمدينة مئات السنين إلى الوراء؟ أليست عقوبة الضرب للأحداث أردع وأفضل من أن يدخلوا السجن فتسوء أخلاقهم؟ وأخيرا نقول كلمة صغيرة عن العقوبات المالية. لم لا يفتح باب الغرامة على مصراعيه لمعاقبة المجرمين الذين حسنت نياتهم أوبعدت نفوسهم عن معاودة الشر والأذى. إن الحرمان من بعض المال كثر أوقل عقاب رادع كاف ووقاية في الوقت نفسه تحفظ للمجتمع أفراده منه ارتكبوا فعلتهم عن خطأ أوبجهالة وليست نفوسهم متأثرة بعامل من عوامل الإجرام. هذه هي عقوبة التغريم التي لووضعت بجانب كل عقاب لأعنت الناس عن أن تقول (الرحمة فوق القانون)

خرج الحجاج يوماً متصيداً بالمدينة فوقف على إعرابي يرعى إبلا له فقال له يا إعرابي كيف رأيت سيرة أميركم الحجاج، فقال له الإعرابي غشوم ظلوم وأغشم فبينما هوكذلك إذا أحاطت به الخيل فأومأ الحجاج إلى الإعرابي فأخذ وحمل فلما صار معه قال من هذا: قالوا له الحجاج. فحرك دابته حتى صار بالقرب منه. ثم ناداه يا حجاج قال: ما تشاء يا إعرابي. قال السر الذي بيني وبينك أحب أن يكون مكتوما. ونظر إعرابي إلى رجل سمين فقال أرى عليك قطيفة من نسج أضراسك:

اكتساب الاحترام

اكتساب الاحترام في القهوات والفنادق مقال فكيه بديع لكاتب نقادة هزلي كبير من بين الملذات الإنسانية التي نتطلع إليها نحن جميعا ونعمل على اجتنائها، هذا الاحترام الذي نراه في عيون الناس ونشهده مكيلا لنا مغدقا علينا. والناس واهمون في قولهم أن الاحترام مزية مقصودة على السروات والمثرين، وحق من حقوق الأغنياء، غير منازعين فيه أومعارضين وإني لأعرف رجلا مسكيناً فقيراً اضطر إلى تزوير صك (شيك) وتعريض نفسه إلى عذاب السجن وغيابة المحابس، كل ذلك لكي يظهر لصاحب الفندق الذي نزل به أنه غني وأنه يستحق الاحترام. ولقد كان هذا المسكين مخطئاً خطأ كثيرين منا نحن الفقراء. لأن الأغنياء كذلك مشتركون معنا أيضاً في هذا الشأن، وليس في العالم ثروة مهما كانت طائلة تستطيع أن تكتسب احترام الغلمان والجرسونات وأصحاب البارات وخدم الفنادق ومساحي الأحذية، وإنما قد نشهد من هؤلاء العامة احتراماً كاذبا لا أثر له في الحقيقة. ولكن هناك وسائل يستطيع الإنسان أن (يبلف) بها غلمان القهاوي ويكسب احترامهم وإجلالهم شأنه، وهي لا تحتاج إلى نفقة كثيرة، ولا تتطلب مالا طائلا. فالطريقة الأولى منها هي أنك إذا بلغت القهوة أوالفندق فسر توا إلى القاعة الكبرى أوالردهة الواسعة وانطلق في الحال في الكلام عن مسابقات الخيل، وأندية البليارد، ومجامع الألعاب الراقية. وحذار أن تتكلم بتواضع أوهيبة كما يفعل الكثيرون ولكن ليكن كلامك بصوت جهوري متطاول قوي كأنك من النقاة فيما تحدث الناس حولك، وعليك أن تقوكلمتك وتصر عليها كأنما أصدرت بها قانونا لا حول عنه ولا مرد. واخرج عن طورك واغضب وقم حانقا من مكانك وعد إليه، إذا عرضك أحدهم فيما قلت أوتصدى لك من أراد مناقشتك في رأيك. ورب معترض يقول لك إذا كنت تجهل هذه الفنون فلن تفلح حيلتك في كسب الاحترام من الغلمان والخدم في الحان الذي أنت فيه ولكن هذا الاعتراض قائم على السخف والبلاهة والخطأ، إذ هل تتصور أن الناس الجلوس حولك قد أصابوا منها أكثر من علمك. وإذا صح

أنهم كذلك فهل تظن أنهم عارفون بجهلك بها. بل يجب ألا يبرح من بالك أنهم قرؤوا أقل منك، وعرفوا أقل من معرفتك، وإن الجرأة في هذا السبيل كفيلة بأن توجد لك حجرة في أكبر فنادق العالم، ومكانا متعاليا في أفخم قهوة في المدينة. وإني لأذكر ذات يوم أن دخل رجل علينا ونحن جلوس في أحد الفنادق الكبرى، رجل أكبر ظني أنه من الصحفيين، وقد تبينت ذلك لأول وهلة، رجل لا يدري كيف يسوق الجاموسة، أويقود البقرة من حبلها بله الخيل والجياد الصافنات، رجل من الاشتراكيين لم يخرج إلى أرباض المدينة يوما إلا على (البسكليت) ولكنه إذا كان دوننا في كثير فقد كان أعظم منا وأكبر وأجل في شيء واحد وهوحذقه فن اكتساب الاحترام في القهوات والفنادق، لأنه جلس في مقعده وما كاد يشرب شرابه حتى انطلق يحدثنا عن قصة قنص له يوم طارد ثعلبا ماكراً خبيثاً. وهي حادثة لم تحصل مطلقا ولم تكتب له في اللوح المحفوظ البتة، وكنا خمسة عشر رجلا في الحجرة ولم يكن فينا رجل من الغنى بحيث يقدر على قنص كهذا. ولذلك ما عتم حديثه أن نفذ فيهم نفوذ السهم إلى الهدف، وأخذ بجماع قلوبهم على ما في قصته من أكاذيب ومفارقات تدل على جهله بفنون الصيد. ولكن القوم هم أجهل منه به لم يدركوا من هذا شيئا، بل عدوه إلها وحاولوا أن يوقفوا تيار حديثه ولكنه أبى إلا الإفاضة في أكاذيب ألعن من الأولى، فلم ينصرف إلا والناس محترموه وخدم الفندق ينظرون إليه نظرة الإعظام والإكبار. ولك أن تغير المنظر وتبدل الفن بفن آخر إذا اختلجت بفؤادك خالجة شك في صلاحية ما ادعيت من الفنون ولكن اجتنب الخوض في فن صيد السمك، فإن ذلك في خطر لا يفيدك فتيلا إدعاؤه، لأن كل إنسان يعرف صيد الأسماك حتى الفقراء المساكين، ثم هناك خطر آخر وهوأنك لم تلم بأسماء أنواع الأسماك التي تسبح في البحار. فقد تدعي أنك اصطدت (قرموطا) عظيما من نهر (التايمز) مع أنه لا يوجد في نهر التايمز قرموطا واحد. والطريقة الثانية في اكتساب الاحترام من غلمان الفنادق إذا كنت رجلا صموتاً قليل الكلام بطبعك وسجيتك، هي أن تعمد قبل الذهاب إلى النوم في حجرتك إلى كتابة عدة رسائل وغلف (مظاريف) تسمها بعنوانات طائفة من الوزراء وأعضاء الأسرة المالكة وأمراء الأمة وكبار الجواهرجية وعظماء السروات وأرباب الأموال وتضع كل تلك الغلف فوق المائدة

في حجرتك، ولا تظن أنك واجد عناء في هذه المهمة، فحسبك أن تكتب ظروف الخطابات. وأما عما تضعه في داخلها فلا أسهل عليك من جمع الإعلانات التي تجدها ملقاة على الموائد في القهاوي والحانات ووضع كل إعلان منها في غلاف من تلك الغلف التي عنونتها بأسماء الطبقات العالية، فإذا أصبح الصباح جمعت الظروف كلها وطلبت الخادم فسألته عن مكان مكتب البريد ولكن لا حاجة بك إلى إرسالها حقيقة إلى البريد ورميها في صندوقه لأن غرضك قد تحقق. وقد وقف الخادم يرقب هذه العنوانات وهوفي أشد الذهول استعظاما لشأنك. ولا تخشى من هذه الناحية على قائمة الحساب ولا تخف ارتفاع الأثمان. بعد أن تم لك ما أردت من الهيبة والاحترام. وهناك طريقة ثالثة وهي الالتجاء إلى التليفون والانتفاع بهذا المخترع الحديث. أطلب من (الكومبانية) أية نمرة تجدها في قائمة المشتركين تدل على اسم عظيم، وتخير أكبر رأس في البلد فاطلبه في التليفون دون خشية شيء، فإن القانون لا يمنع ذلك ولا يحظره فإذا أعطيت النمرة واتصل الطريق بالقصر الذي أردت أن الوسيلة لتحقيق غايتك من (بلف) الخدم الوقوف حولك، وصاحب الحان الجالس على منصته يرتقب الطالع والداخل، والمتكلم والصامت، إذن فاسأل مخاطبك في الجهة الأخرى هل القصر هوخاصة الأمير الفلاني. بعد أن تكون قد تخيرت اسما أجمد من الاسم الذي طلبته، ولا شك في أن الخادم سيجيب سلبا. ولكن مقامك في القهوة أوالفندق أصبح بذلك محفوظا معظما مبجلا. الرابعة في مجموعة الطرق هي أنك إذا نزلت بفندق للمكث أياما معدودة، فمر الخدم دائما قبل ذهابك إلى مضجعك بأن يوقظوك في بكرة الصبح التالي، ولا تستيقظ إذ ذاك إلا في الضحى العالية ولعلك تسألني عن السبب الذي جعل لهذه كل هذا التأثير الذي نشاهده فأنا أعترف لك بجهلي ذلك السبب ولكن أظن أن السبب هوالجمع بين النشاط الذي تظهره بالتفكير في اليقظة أومحاولتها. وبين الترف الذي تبديه بالتأخير في الخروج من السرير. والنشاط والترف هما الصفتان اللتان تظفر من الأصاغر والعامة والسوقة بأشد الإعجاب إذا شهدوهما في الطبقة الحاكمة التي تدعي أنك من أهلها. ثم لا تنسى التأثير الذي يحدث في نفوس الخدم من طلبك الشيء ثم الرجوع إلى محوه وإلغائه. والطريق الخامسة هي أن تكون قوياً عظيما في نفسك. خلقت للرئاسة والزعامة والقيادة.

وأن تكون من موجدي هذه الدنيا وبناة حضارتها، وأن تكون ذا إرادة صارمة عنيفة عانية، وأن تنير في نفوس الذين حولك بفضل قوتك وقوة شخصيتك إحساسا يكرهم على الطاعة. ويريدهم على الامتثال ولكن لا أعرف الوسيلة لتحقيق ذلك، فإن علمه عند الله وهووجى خصه الخالق بالقليلين.

أنواع الجمال والزينة

أنواع الجمال والزينة لدى النساء في مختلف الشعوب من عادة النساء في اليابان أن يطلين أسنانهن بطبقة من الذهب. بينما تراهن في جزر الهند الشرقية يصبغن بالحمرة. وفي بلاد (جوزورات) لا تعد الثغور جميلة إلا بإطفاء لألأتها بشبه المداد. وإخفاء لآلئها في مثل ثوب الحداد. وفي جرينلندة يصبغ النساء وجوههن بزرقة وصفرة. والمرأة المسكوفية مهما بلغ من زهاء لونها وبهاء رونقها لا تعد نفسها لا تعد نفسها جميلة إلا إذا كاثفت على وجهها طبقات الدهان. والصينيات لا تسترح قلوبهن حتى تصير أقدامهن من فرط الصغر والدقة في حجم ظلف العنزة. ولكي يتم لهن هذا تراهن يقضين عصر الطفولة والحداثة في أنكى تباريح العذاب والألم. وقد ما كان أهل فارس يرون الأنف الأفتى من أمارات الإمارة والرياسة والوسائل الحرية أن يطلب بها الملك والإمامة فكان إذا تنازع التاج أميران من بيت المملكة حكم لصاحب الأنف الأفتى على قرنه ونظيره. والأمهات في بعض البلدان يشدخن آناف أطفالهن تحسينا للخلقة. وفي بلاد أخرى يكبسن رؤوسهم بين لوحين من الخشب لتصير مربعة بدل الاستدارة والفرس العصريون يمقتون الشعر الأحمر أشد المقت وعلى ضد من ذلك الأتراك فأنهم مولعون بحمرة الشعر إلى الغاية القصوى ومن عادة (الهوتنتوت) (صنف من الزنوج) إن العاشق إذا أراد أن يتحف معشوقته بالحلة القشيبة لم يهدها خزاً ولا ديباجا ولا عطرا ولا زهرا ولكن كرشا وأمعاء من المسمط حارة يتصاعد بخارها لتختال المليحة السوداء منها في أعجب حلة وأطرب حلية. وفي الصين تشتهى العيون الصغيرة المدورة. ولا تزال الصبيات هنالك ينتفن الحواجب لكي تدق وتستطيل. ونساء الأتراك يغمسن فرشة ذهبية في صيبغة مستحضرة من مادة سوداء فيمررنها على حواجبهن فتكون أثناء النهار واضحة جلية ولكنها تصير بالليل مشرقة وضاءة وهن أيضاً يخضبن الأظافر بصبغة وردية. ومن شرائط الجمال في الزنجية أن تكون صغيرة العينين غليظة الشفتين فطساء الأنف حالكة السواد. ولما عرضت على الإمبراطور مونوموتابا (أحد ملوك الزنج) غادة أوربية من نساء العالمين واقترح عليه أن

يتخذها بدلا من محظيته السوداء رفض وأبى. ونحن لا نرى ضرورة تزيين الأنف بحلية ولكن نساء (بيرو) يرين غير ذلك فهن يعلقن في أرنبة الأنف حلقة صغيرة ثقيلة تكون ثخانتها على قدر لقب الزوج وحسب رتبته ومقامه. وعادة خرم الأنف شائعة في كثير من الشعوب والقبائل. أما ما يعلق في ثقب الأنف من الحلي فضروب شتى، كالبلور الأخضر والذهب وكرائم الحجارة. وربما علق فيه عدد كثير من الحلقات الذهبية. ولعل هذا يقوم عقبة في سبيل التنخم والتمخط والواقع أن نساء الهنود الحمر (بأمريكا) لا يعملون البتة هذه العملية النافعة المفيدة، أما قناع الرأس النسائي فهذا قد يبالغ فيه لدى بعض الشعوب إلى درجة خارقة. فالحسناء الصينية تحمل على رأسها تمثال طائر مصوغ من النحاس أوالذهب حسب مقام صاحبته. وأجنحة هذا الطائر المنشورة تنسدل فوق مقدم القناع وتستر الصدغين. أما ذيل الطائر فسابغ ضاف منتشر الخصل منتفش الريش. وأما منقار الطائر فذلك يغطي قصبة الأنف من الحسناء. هذا وجيد الطائر منوط إلى جسده بلولب لكي يكون أسرع اهتزازا وأكثر خفقانا واضطرابا لدى أدنى حركة.

بؤس العلماء

بؤس العلماء قلما ترى الحظ يتنزل لأن يكون أليف العلم وحليف العبقرية. وإن خلاف العلماء والأدباء ليجدون ألف مسلك وسبيل إلى بحبوحة الحظ، وليس لنوابغ الأدب إلا سبيل واحد وهذا يؤدي إلى الشقاء والبؤس. ولوأننا أنشأنا ملجأ للعبقرية مثلما نصنع للضعاف والعجزة لكان أحق ما يكتب على بابه (ملجأ ذوي الداء العضال الذي لا شفاء منه ولا دواء له - داء الأدب والعلم) ولا عار على النبوغ أن تنشأ له ملاجئ ولا سبة. فإنه إذا عجزت الشهرة والصيت عن إنقاذ العبقري من القحط كان من واجب البر والإحسان أن يفعل ذلك. ثم لا تعد هذه الصدقة يدا في عنق البائس العبقري ولا دينا على كاهل ولكنها فريضة لازمة نؤديها في شخصه إلى العبقرية ذاتها. وإن لمن شر البلية أن نبصر حتى في هذه العصور المستنيرة أناسا قد نبذت أشخاصهم في زوايا الإهمال والنسيان بينما ذكرهم قد ملأ الآفاق. ثم هلكوا بعد ذلك جوعا بينما مصنفاتهم تدر على باعة الكتب بواسع الأرزاق. وأحاديث أبطال الأدب الحديث في هذا الصدد جمة بقدر ما هي محزنة. لقد باع العلامة زيلاندر مذكراته الثمينة عن (كاسيوس) بأكله. ومن مأثور قوله (لقد كنت أؤلف وأنا في الثامنة عشرة ابتغاء المجد وها أنا ذا أكتب في الخامسة والثلاثين ابتغاء القوت). وقد روي عن (سرفانتيس) نابغة إسبانيا وعبقريها المخلد أنه افتقر حتى لم يجد قوت يومه. وروي عن (كاموينز) نابغة البرتغال الأعظم وباقعة دهره المفرد العلم أنه أعوزه القوت فهلك حرمانا في بعض مستشفيات (ليشبونة) وقد شهد مصرعه الرهيب رجل قسيس فسجل هذه الذكرى الأليمة على هامش نسخة من ديوان ذلك النابغة الشاعر محفوظة للآن في مكتبة لندن وها هي: من أكبر دواعي الأسف أن ينال مثل هذا العبقري الأجل هذا الجزاء الأسوأ. لقد رأيته يجود بروحه في بعض مستشفيات ليشبونة وليس يملك ذراعين من كفن يستر جثته. ألا فليتعظ بهذا كل مغرور غافل يقطع دهره وينفق عمره ويفني بصره ويهدم بناء جسده. ويذيب شحمة كبده. بالكد والنصب في الدرس والبحث والمذاكرة) وماذا فعل البرتغاليون بشاعرهم بعد أن قتلوه جوعا وأعدموه بؤسا! وهبوه لقب (عظيم) ومنحوه نعت (عبقري).

نكر أيضاً الشاعر (فونديل) شاكسبير هولندة فهذا بعد أن ألف طائفة من أبدع الروايات عاش في أسوء حال من الفقر حتى بلغ أقصى العمر وأقصى الضر معا ونال غاية الهرم وغاية العدم في قرن، ولما مات في التسعين من عمره حمل نعشه أربعة عشر شاعر لهم فاقته وأملاقه. ولبس لهم فحولته وأفلافه. والشاعر الأعظم (تاسو) الروماني ألح عليه العسر والعوز حتى اضطره إلى اقتراض (ريال) يعيش به أسبوعا. وقد أومأ إلى ذلك في أبيات رقيقة له يخاطب بها هرته حيث يستغيث بها (يستعينها على الظلام ويستعيرها شعاعا من ضوء ناظرتيها. ووميضا من برق لاحظتيها. ليجوب من الحلك صفيق جلبابه. ويمزق سدول الليل عن سطور كتابه. ولا بدع فقد صفر من الشمع جرابه. وأقفر من الزيت شهابه.) والكاردينال (بنتيفوجليو) الطائر الصيت فخر إيطاليا وحلية تاج الأدب رزخ في شيخوخته تحت أفدح أعباء الأعسار. حسير لبانات طليح هموم وأكدار نضوأسفار. في حزون من الجدب وأوعار. وكان قد باع داره لقضاء دينه فلما مات لم يترك من تراث سوى شهرته وصيته. والنابغة قوجيلاس أسلس كتاب الفرنس بيانا وأرقهم انسجاما قضى ثلاثين حجة من عمره في ترجمة المؤلف الجليل (كوينتاس كيورتياس) ثم مات لا يملك سوى مسودات سفره القيم، ولما أحس دنوالأجل باع جثته للمشرحة لقضاء دينه بعد وفاته. وقد كان الملك لويز الرابع عشر يشرف الشاعرين (راسين) و (بوالو) بمقابلة خاصة مرة في كل شهر. ففي ذات مرة سأل الملك قائلا (ماذا من الأنباء في عالم الأدب؟) فأجاب راسين أنه رأى اليوم منظرا محزنا وذلك أن الشاعر كورنيل يلفظ آخر أنفاسه وليس في بيته حسوة مرق يبرد بها عظامه البالية) فأطرق الملك مليا وفكر طويلا ثم بعث إلى الشاعر المحتضر بمبلغ من المال. والنابغة العظيم (برشاس) الذي عاش في عهد جيمس الاول ملك الإنكليز قضى عمره في السياحات والأسفار. ودراسة الكتب والأسفار - كل ذلك ليؤلف كتابه المعنون (علاقات العالم) فلما أبرزه للناس كان جزاءه على ذلك أن زج في أعماق السجون بناء على طلب طابع كتابه الذي دعى عليه دينا فادحا من جراء طبع الكتاب مع أن هذا الكتاب هوذلك

الذي كان الملك جيمس يعكف على صفحاته مستغرق اللب في ثنايا سطوره فكان من بين الكتب والمصنفات وسلوته ومرتع نظره. ومسرح خاطره. وفي عهد شارل الثاني ملك الإنكليز رفع العالم التحرير (المركيز أوف ورستر) التماسا إلى البرلمان يطلب فيه المعونة على طبع مخترعاته بقضاء ما قد احتمله من الديون في سبيل مباحثه وتجاربه وتحقيقاته. فلم يصادف هذا الطلب من البرلمان اهتماما ولا التفاتا فضاع معظم هذه الاختراعات المفيدة ومن بينها (التلغراف والآلة البخارية) - (هذان اكتشفا مرة أخرى بعد ذلك واستطاع المكتشفان أن ينشرا اختراعيهما على الملأ). والشاعر سبنسر معاصر شكسبير ونظيره قضى أيامه في الضيق والبؤس. ولما عطفت عليه الملكة اليصابات وأرادت أن تهبه مائة دينار حال دون ذلك اللورد بيرلي وكان يعتقد أن أحقر كاتب في ديوانه أعلى قدرا وأغلى قيمة من الشاعر سبنسر وأحق منه بتلك المنحة.

ولى يوسف بن عمر صاحب العراق أعرابيا على عمل له فأصاب عليه خيانة فعزله فلما قدم عليه قال له يا عدوالله أكلت مال الله قال الإعرابي فمال من آكل إذا لم آكل مال الله - لقد راودت إبليس أن يعطيني فلسا واحدا فما فعل فضحك منه وخلى سبيله.

رواية تاجر البندقية فينسيا

رواية تاجر البندقية فينسيا تأليف وليم شاكسبير (المنظر الثاني) بلدة بلمون: غرفة في قصر بورشيا تدخل بورشيا ووصيفتها نيريسا بورشيا - يمين الله نيريسا أن شخصي النحيل الضئيل. قد سئم هذا العالم الجسيم الجليل. نيريسا - هذا يكون يا سيدتي الحسناء لوكانت أحزانك وأتراحك من الكثرة بقدر مسراتك وأفراحك. على أنه من اكتظ شبعا وامتلأ بطنه أصابه من الجهد والعذاب ما يصيب الطاوي سغبا، الهالك جوعا. والسرف في الترف أوخم عاقبة من القحط في الشظف. وخير الامور الوسط. وما زال الإفراط مجلبة للهرم والمشيب قبل الأوان. كما أن الكفاف والقصد كفيل بفسحة الأعمار في صحة الأبدان. بورشيا - كلام صحيح. في منطق فصيح. نيريسا - حبذا لو يتبع إذ خبر الكلام متبوعه. بورشيا - لو سهل العمل على الناس سهولة العلم مما يحسن عمله لأصبحت الديور كنائس وأكواخ الفقر قصورا للعظماء. وما أفضل القسيس الذي يفعل ما يقول ولأهون على والله أن أعلم عشرين نفسا من أكون بعض أولئك العشرين المتبعين نصحي. ونحن ربما وجدنا العقل يسن القوانين لقرع الأنفس وقمع الشهوات ولكن المزاج الحار والطبع الملتهب سرعان ما يخرق سياج القوانين الصادرة عن الروية الهادئة ة الأناة الباردة. والشباب هوذلك الأرنب السريع يزوغ من شرك الحكمة العرجاء ويفلت من أحبولة النصح الضالع الحسر. ولكن هذا التفلسف لا يمهد لي السبيل إلى اختيار زوج لي. فيا ويلي كيف أذكر لفظة (اختيار) وما إلى الاختيار من سبيل. فأنا لا أملك اختيار من أحب ولا رفض من أكره كذلك قضى الله أن تخضع إرادة ابنة في الأحياء لا إرادة أب في الأموات أليس من البلية يا نيريسا أن أغلب على أمري فلا أطيق اختيارا ولا رفضا. نيريسا - لقد كان أبوك مدة حياته براً تقيا، وما زال الأبرار إذا جاء أجلهم ينزل عليهم الوحي الصادق ولذلك أعتقد أن القرعة التي ابتدعها أبوك في تلك الصناديق الثلاثة: الذهبي والفضي والرصاصي. وقضى بأن من اختار الصندوق الذي عناه هووقصده فإنما

يختارك أنت - هذه القرعة لا يصيبها إلا من يحبك ويكون أهلا لحبك. ولكن خبريني عن درجة ميلك إلى أولئك الأمراء الذين أتوك يخبطونك. بورشيا - سميهم لي أصفهم لك واحدا إثر واحد واجعلي وصفي مقياسا لميلي. نيريسا: نبدأ بالأمير النابوليتاني. بورشيا: هذا حصان لا شك لأنه لا يصنع شيئا سوى التحدث عن حصانه وترينه يعد ضمن مفاخره ومناقبه قدرته على حذوحوافره بنفسه. نيريسا: ويجيء من بعد هذا الكونت الألماني أمير (البلاتينات). بورشيا: - هذا ليس عنده سوى تقطيب جبينه وتعبيس وجهه كمن يحاول أن يقول (إذا كنت لا تريدينني فدعيني منك واطلبي غبري فأنا لا أحفل ولا أبالي وستعلمين إذا أبينيني ورفضتني أيانا أخسر صفقة وأخيب سهما) وترينه يسمع الملح والفكاهات ولا يبتسم. وأخشى أن يصير في شيخوخته (الفيلسوف الباكي) إذ كان في حداثته وصباه شديد العبوس مفرط الوقار والرزانة فلأن أزوج من رأس ميت في فمه عظم أهون علي وأحب إلي من تزويجي أحد هذين، كفاني الله شرهما). نيريسا - وما قولك في اللورد الفرنسي المسيولي بون؟ بورشيا - لقد خلقه الله فاحسبيه إنسانا: أنا أعلم والله أن الهزأ والسخرية خطيئة. ولكني مضطرة إليها في وصف ذلك الفرنسي. إنه أشد ثرثرة من النابوليتاني عن حصانه وأشد عبوسا أحيانا من الكونت الألماني. فهوكل إنسان ولا إنسان: فإذا غرد طير انبرى يرقص، وإنه والله ليطاعن ظله ويجالد خياله. فإن تزوجته فقد تزوجت عشرين بعلا. فإدا احتقرني بعد الزواج فما له عندي سوى الصفح عنه وذلك لأنه إذا أحبني جن بحبي فأعياني جزاؤه. نيريسا - وما قولك في (فالكونبردج) البارون الصغير الإنكليزي؟ بورشيا - لا أقول فيه شيئا لأنه لا يفهمني ولا أفهمه. فهولا يعر اللاتينية ولا الفرنسية ولا الإيطالية. وإنك لا تكذبين إذا أقسمت في دار القضاء أن مبلغ معلوماتي في الإنكليزية لا تساوي فلسا. بيد أن الفتى آية في الجمال. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يحادث تمثال أخرس. ثم ما أغرب ثيابه فما أظن إلا أنه اشترى رداءه من إيطالي وسراويله من فرنسا وقلنسوته من ألماني وسلوكه من كل بقعة.

نيريسا - وما رأيك في جاره اللورد الأسكوتلندي؟ بورشيا - رجل كريم الجوار. لقد أقرضه البارون الإنكليزي لكمة على أذنه فلم يسرع إلى رد قرضه بل أقسم أن يفعل ذلك متى استطاع. ولقد ضمنه الفرنسي فيما أعلم وختم على ضمانته. نيريسا - وما رأيك في الألماني الصغير ابن أخي الدوق أوف ساكسونيا. بورشيا - مرذول جدا في الغداة وهوصاح. وأرذل خلق الله في العشى وهوسكران. وهوفي أحسن حالاته يكون دون الإنسان وفي شر حالاته يكون فوق البهيم فإذا وقع من الأمر أسوأه فأصاب سهمه الهدف فلأبذلن جهدي في الخلاص من هذا الرجل. نيريسا - أرأيت إذا تعرض إلى الاختيار فساقه الحظ إلى اختيار الصندوق الصادق أفكنت ممتنعة من تنفيذ إرادة أبيك برفضك الفتى. بورشيا - إذن فاتقاء للتي هي أسوء أرجوك أن تضعي على الصندوق الكاذب قدحا كبيرا من خمر الرين. فإنه إذا اتفق أن كان الشيطان داخل جوف الرجل إذ ذاك مع وجود هذا الباعث المحرض خارجه فلا بد أن يختاره، فأنا أحتمل كل شيء يا نيريسا إلا التزوج من إسفنج. نيريسا - لا تخاف يا سيدتي الوقوع في حوزة أي واحد من هؤلاء فلقد أعلموني مقاصدهم وهوعودتهم إلى أوطانهم وانصرافهم عن خطبتك إلا إذا وجدوا إليك سبيلا خلاف ما نهجه أبوك من طريقة الصناديق الثلاثة بورشيا - لوعمرت عمر (سيبيلا) لانقطعت عن الأزواج طول حياتي حتى أموت عذراء بتولا مثل (ديانا) اللهم إلا إذا أحرزت بالطريقة التي سنها أبي. ولقد يسرني والله ما أبدى أولئك الخطاب من الحزم والحكمة في انصرافهم عني فعسى الله يرزقهم سلامة الأوبة إلى ديارهم. نيريسا - ألا تذكرين يا سيدتي فتى فينسيا شجاعا أديبا صاحب سيف ويراع جاءنا ههنا في عهد أبيك صحبة المركيز مونفيرات. بورشيا - نعم نعم. هذا باسانيوـ أظن أنه كان يدعى هكذا. نيريسا - حقا يا سيدتي. إن عيني البلهاء ما رأت قط في جميع من وقعت عليه نظرتها

الحمقاء. إنسانا هوأحق بغانية حسناء من باسانيوهذا. بورشيا - إني أذكره جيدا وأذكر أنه أهل لثنائك وإطرائك. يدخل خادم ما خطبك وماذا لديك من الأنباء؟ الخادم - إن الأربعة الأجانب يلتمسون لقائك ليستأذنوا في الانصراف. وها قد أتى رسول من ضيف خامس أعني أن أمير مراكش يقول أن مولاه قادم الليلة. بورشيا - لوكان هذا الخامس يستحق من فرط حفاوتي وترحيبي مثل ما استحق الأربعة الآخرون من وشك توديعي وتشييعي إذن لفرحت بقدومه وفي مذهبي إنه لوكان له شيمة قديس تحت سحنة إبليس لكان أولى لي به أن يكون معرفي (اعترف على يديه) من أن يكون زوجي. هلمي بنا يا نيريسا. امض أمامنا يا هذا. لا نكاد نغلق الباب وراء خاطب مردود. حتى يقرعه علينا خاطب جديد. (تنصرفان)

البطولة ثمرة المحنة

البطولة ثمرة المحنة إن الهموم والأشجان إذا وقعت على القلب الرقيق وكانت على فرط شدتها محتملة مطاقة بعثت من أعماق الضمير أفكاراً نبيلة وعواطف شريفة ما كانت قط منبعثة لولم تستثرها من مكامن النفس تلك الأشجان والهموم. والواقع أن المحن والكوارث هي بواعث الخير في نفوسنا. وكما أن البلاء إذا ألح على المسجون في ظلمات سجنه أوجدت فيه القدرة على إبداع المصنوعات الدقيقة والتحف العجيبة بالآلة الكليلة والأداة العاجزة واليد الخرقاء ومكنته من إتيان معجزات الفعال ومشاق الأعمال واقتحام مصاعب الأخطار والأهوال كاختراق الجدران وفل السلاسل والقضبان. بكف مغلولة. وآلة مفلولة. فكذلك ترى المصيبة إذا تسلطت على نفس الحر فتحت في لبه أبواب الحيلة وأحيت فضيلة الصبر والجلد وأرهفت حد الذكاء والفطنة في ضمير ما كانت تجيش فيه هذه الواهب لولا ضغط البلاء ووطأة المصيبة. والناس إذا رأوا ظهور هذه المحامد والفضائل من إنسان لم تعهد فيه من قبل ذلك ظنوا أن صدمة الفاجعة وسورة الحزن قد غيرت طباعه وبدلت صفاته كما تبدل نار الكيمياء من طبيعة الأجسام. ولكن الحقيقة هي أن أحاث الدهر حسنة كانت أم سيئة لا تغير الخصال ولا تبدل الخلال وإنما تثيرها من مكامنها. وتنبشها من مدافنها. في أعماق الروح وخبايا الضمير. وتفسح لها المجال وتخلي لها السبيل. وكما أن ضمير الإنسان يشتمل على ألف فكرة مجهولة لديه لم يعرف مواطنها من نفسه ولم يهتد إلى موضعها من لبه. فإذا ما تناول القلم للتحرير تفجرت هذه الأفكار الخفية والخواطر المستترة على أسلة قلمه وتبجست من لسان يراعه فتحدرت على جوانب طرسه سيلا يدفق. ولجأ يفهق. فكذلك قلب المرء هوسر مضمر وصندوق مقفل لا يعرف صاحبه كنهه ولا مكنوناته حتى تبرزه الحوادث وتفض أغلاله الشدائد والكوارث ومن ذا الذي لم ينتبه يوما من منامه فيجد نفسه مندفعا فجأة بعامل خير أوسر في خطة انتقام أوغرام أوغير ذلك - على أن هذه النهضات والثبات وإن تكن فجائية في الظاهر فهي في الحقيقة غير فجائية بل هي ثمرات غرس قد بذرت بذوره في قرارة النفس منذ حين وبقيت ثمت كامنة مستترة راسية مستقرة غير مشعور بها ولا مفطون لها فلما توافرت له الأسباب وتهيأت الدواعي وحانت فرصة الظهور برزت وظهرت سنة الطبيعة التي لا تبدل ولا تحول.

وإعجابا للإنسان لا يعرف فضله من نقصه ولا كيسه من حمقه ولا حذقه من خرقه ولا قوته من ضعفه إلا بعد أن تكشف له أحداث الدهر عن سر ذلك. ولئن وجدت بعض الناس يطرق خجلا وخزيا إذ يذكر بعض سالفات معايبه وسيئاته فاعلم أن سجل مستقبله ربما كان منطويا على مناقب وفضائل سوف يبيض لها فخارا ويترنح لها عطفه زهوا وتيها.

الناس عباد ما عشقوا

الناس عباد ما عشقوا المرء إذا هام قلبه بشيء لم يزده العذل إلا هياما ولا اللوم والتفنيد إلا صبابة وغراما. فإذا أحب امرأة أعرض عن مقالة الغير فيها وأبى إلا إصغاء لوحي ضميره وإملاء فكره. ومالي ولاستماع ما يقوله صاحبي عن معشوقتي فليس هوالهائم الولهان إنما الهائم الولهان قلبي. أنا الذي أقدر قيمة ما هويت وأحببت وأنا الذي أحدد ثمنه ومهره. ولقد يكون عديم القيمة في نظرك وهومع ذلك يرجح عندي بالعالم أجمع. فلوكنت أملك تاج الأكاسرة والقياصرة وخزائن قارون وحازت يدي ما حوت من اللؤلؤ صهاريج عمان ومن الماس والياقوت مناجم الهند وسيلان لجدت بها جميعا لأظفر بنظرة من معشوقتي. فإذا قلت أني غر أحمق فماذا تقول في الملك الذي يدفع نصف ولاية من ولايات ملكه ثمنا لبلورة صغيرة في حجم بيضة اليمامة يسميها الناس (ماسة) وماذا تقول في السري الشريف إذ يتجشم الأهوال العظام ويستهدف للموت الزؤام. ويضحي شطر حياته وجل راحته من أجل إحرازه شريطا أزرق يسميه الناس (وساما) وماذا تقول للتاجر الهولندي الذي زعموا أنه دفع عشرة آلاف من الجنيهات في زهرة من أزهار الزنبق. هؤلاء لا شك أسفه أحلاما. وأخيب سهاما. كل له غرض يسعى لإدراكه فراغب في العلم وطالب للشهرة ومولع بالتزيين والتجمل والتأنق افتتانا للناس يحسن بزته وجمال حليته وطامح إلى التفوق في بعض الفنون والصناعات واكتساب خالد الذكر لإخراجه للملأ أثرا خالدا من بدائع الشعر أوالتصوير أوغير ذلك ولا أكثر ولا أقل من هؤلاء عاشق الجنس اللطيف الذي قد جعل همه من الحياة الحصول على امرأة قد هويها فانحصرت في شخصها أمانيه ومآربه. فيا أيهذا المعيري بإضاعة أوقاتي ومجهوداتي في سبيل امرأة تفخر عليَّ بأنك من أساطين السياسة وأهل البلاط وذوي الحظوة والقربة عند أولي الأمر وذوي الحل والعقد. ألست أحمق مني وأغبى وأفسد رأيا وأسخف ذهنا. ألا تزال مثلي معني الجسم والقلب متيم الروح واللب استهام وراء أمنية لا تفضل أمنيتي وابتغاء بغية ليست أرجح قيمة من بغيتي لقب أجوف طنان كالطبلة يخال شيئاً وما هوبشيء. فتجاوز لي عن حماقتي أتجاوز لك عن حماقتك. قل لي بربك كم تعاني من غضاضة التملق وكم تقاسي من مرارة التزلف والتقرب. وكم من ليلة هرقت فيها كأس الكرى. ورضاب اللمى. وهجرت فيها ريق

العنقود. وبريق مصقول منضود. وكل هذا تفرغا لتحرير مقال سياسي تحوك لحمته من الكذب والتلفيق وتنسج رقعته من المداهنة والتمليق ثم تغشيه زبرجدا من التمويه والتزويق. وكم من ساعة تقفها على قدميك العليلة الواهنة انتظار ولي نعمتك وبأي خشوع وتذلل وخنوع تركع تحت قدميه إذ ترفع إليه كتابا أورسالة - هذا على شدة إنفتك وإبائك. وعزتك وكبريائك. وإنك أعز جانبا وأحمى أنفا من أن تركع لأحد كائن من كان حتى ولوللمولى جل شأنه. حقا يا سيدي لئن كانت بغيت ومنيتي (أعني المرأة) هي خدعة وألعوبة لا تستحق الكد والعناء فليست بأفضل منها ولا أنفس بغيتك ومنيتك - اللقب الفارغ الأجوف. بيد أني على كل حال أعلم أن بغيتي لا تقل عن بغيتك زورا وغرورا فكلتاهما أبطولة وأضلولة. فلا تعب على غوايتي ما دمت أتغاضى عن غوايتك. وأولى بنا وأليق أن يضحك كلانا من نفسه ومن صاحبه ثم من غرور نفسه وغرور صاحبه سواء بسواء.

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس (الرسالة الثانية) من المرية إلى قرطبة تابع ومن شعر الغزال الهين اللين الذي يرتفع له حجاب السمع، ويوطأ له مهاد الطبع كما يقولون قوله. قالت أحبك قلت كاذبة ... غر بذا من ليس ينتقد هذا كلام لست أقبله ... الشيخ ليس يحبه أحد سيان قولك ذا وقولك أن ... الريح نعقدها فتنعقد أوأن تقولي النار باردة ... أوأن تقولي الماء يتقد وقوله: لا ومن أعمل المطايا إليه ... كلُّ من يرتجى إليه نصيبا وما أرى ها هنا من الناس إلا ... ثعلبا يطلب الدجاجة وذيبا أوشبيها بالقط ألقى بعين ... يه إلى فارة يريد الوثوبا وحدثنا أبوبكر بن القوطية قال كان عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء يفد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها فمرت بهم يوما قصيدته التي أولها. لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم ... إذا المرء لم يعدم تقي الله والكرم حتى مر بهم قوله: تجاف عن الدنيا فما لمعجز ... ولا عاجز إلا الذي خط بالقلم وكان الغزال إذ ذاك في الحلقة وكان حدثا نظاما متأدبا متوقد القريحة فقال: أيها الشيخ وما الذي يصنع مفعل مع فاعل فقال كيف تقول فقال كنت أقول فليس لعاجز ولا حازم فقال له عباس والله يا بني لقد طلبها عمك فما وجدها. (تمت هذه الرسالة الثانية) الرسالة الثالثة مقامي في قرطبة

(كتبت هذه الرسالة في قرطبة سنة ست وأربعين وثلاثمائة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بدار كتب سيدي الحكم بن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين حفظه الله وأعز به العلم والدين) (وسأستوعب لك في هذه الرسالة جميع ما رأيت وشاهدت وسمعت وأخذته عيني ولقفته أذني مدى الأيام التي قضيتها ي حضرة بلاد الأندلس منذ قدومي إليها سنة خمس وأربعين وثلاثمائة إلى اليوم الذي وضعت فيه هذه الرسالة من سنة ست وأربعين وثلاثمائة الموافقة سنة سبع وخمسين وتسعمائة من ميلاد السيد المسيح صلوات الله عليه) قدومي إلى قرطبة كان وصولنا إلى قرطبة في ذلك الموكب الفخم النبيل الذي قام بنا من المرية وفيه أبوعلي القالي البغدادي وأبوعبد الله الصقلي الفيلسوف وأمير البحر الأكبر عبد الرحمن بن رماحس الذي أمره - كان - سيدي الحكم بأن يتلقانا في المرية ويجيء معنا إلى قرطبة في جماعة من أعيان الأندلس وأدبائها وقوادها - عصر يوم الخميس السادس والعشرين من رمضان فكانت الليلة ليلة القدر، ومن ثم حثثنا السير، ودخلنا قرطبة من بابها القبلي مما يلي ضفة نهر الوادي الكبير، وقصدنا تواً إلى أحد قصور الإمارة، وهوالقصر الذي أمر سيدي ولي العهد بإعداده لنا، فنزلنا به وألقينا عصا التسيار وما كدنا نضع أمتعتنا حتى شخصنا إلى الجامع الأعظم - جامع قرطبة. ليلة القدر في جامع قرطبة قصدنا إلى الجامع الأعظم منشرحي الصدر، لحضور ليلة القدر. والجامع قدس الله بقعته ومكانه، وثبت أساسه وأركانه، قد كسي ببردة الإزدهاء، وحل في معرض البهاء، كأن شرفاته فلول من سنان، أوأشر من أسنان، وكأنما ضربت على سمائه كلل، أوخلعت على أرجائه حلل، وكأن الشمس خلفت فيه ضيائها، ونسجت على أقطاره أفياءها، فترى نهارا قد أحدق به ليل، كما أحدق بربوة سيل، ليل دامس، ونهار شامس، وللذبال تألق كنضنضة الحيات، أوإشارة السبابات في التحيات، قد أترعت من السليط كؤوسها، ووصلت بمحاجم الحديد رؤوسها، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة، أوكالثعابين العائمة، عصبت بها أتفاح من الصفر، كاللقاح الصفر، بولغ في صقلها وجلائها، حتى بهرت بحسنها ولألائها، كأنها جليت باللهب وأشربت ماء الذهب، إذ سمتها طولا رأيت منها سبائك عسجد، أوقلائد

زبرجد، وإن أتيتها عرضا رأيت منها أفلاكا ولكنها غير دائرة، ونجوما ولكنها ليست بسائرة، تتعلق تعلق القرط من الذفرى، وتبسط شعاعها بسط الأديم حين يفرى. والشمع قد رفعت على المنار رفع البنود، وعرضت عليها عرض الجنود، ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هدايا ضيائها الشقي والسعيد، وقد قوبل منها مبيض بمحمر، وعورض مخضر بمصفر، تضحك ببكائها وتبكي بضحكها: وتهلك بحياتها وتحيا بهلكها، والطيب تفغم أفواحه، وتتنسم أرواحه، وقتام الألنجوج والند، يسترجع من روح الحياة ما ند، وكلما تصاعد وهومحاصر، أطال من العمر ما كان تقاصر، في صفوف مجامر، ككعوب مقامر، وظهور القباب مؤللة، وبطونها مهللة، كأنها تيجان، رصع فيها ياقوت ومرجان قد قوس محرابها أحكم تقويس، ووشم بمثل ريش الطواويس، حتى كأنه بالمجرة مقرطق، وبقوس قزح ممنطق، وكأن اللازورد حول وشومه، وبين رسومه، نتف من قوادم الحمام، أوكسف من ظلال الغمام، والناس أخياف في دواعيهم، وأوزاعهم في أغراضهم ومراميهم، بين ركع وسجد، وأيقاظ وهجد، ومزدحم على الرقاب يتخطاها، ومقتحم على الظهور يتمطاها، كأنهم برد خلال قطر، أوحروف في عرض سطر، حتى إذا قرعت أسمائهم روعة التسليم، تبادلوا بالتكليم، وتجاذبوا بالأثواب، وتساقوا بالأكواب، وكأنهم حضور طال عليهم غياب. أوسفر أتيح لهم إياب. وصفيك مع إخوان صدق، تنسكب العلوم بينهم انسكاب الودق، في مكان كور العصفور، استغفر الله أوككناس اليعفور، كأن إقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين، وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين، حتى صار عقدنا لا يحل، وحدنا لا يفل، بحيث تسمع سور التنزيل كيف تتلى وتتطلع سور التفصيل كيف تجلى، والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر ويعمدون إلى قرع العمد بالدرر، فإذا سمع بها الصبيان قد طبقت الخافقين وسرت نحوهم سرى القي، توهموا أنها إلى أعظامهم واصلة، وفي أتحافهم حاصلة، ففروا بين الأساطين، كما تفر من النجوم الشياطين كأنما ضربهم أبوجهم بعصاه، أوحصيهم عين بن صاف بحصاه، فأكرم بها من مساع تسوق إلى جنة الخلد. وتهون في السعي إليها الطوارف والتلد، تعظيما لشعائر لله، وتنبيها لكل ساه ولاه، حكمة تشهد لله تعإلى بالربوبية، وطاعة تذل بها كل نفس أبية، فلم أرى أدام الله سبحانه عزك منظرا منها أبهى، ولا مخبر أشهى. . .

اللورد نورثكليف

اللورد نورثكليف لوسئل أي قارئ هل تعرف شخصا يدعى الفرد هارمسورث لأجاب بالنفي القاطع، ولكن ما أشد دهشته إذ يعلم أن هارمسورث هذا الذي جهله هواللورد تورثكليف الذي يعرفهحق المعرفة أكبر صحفي في العالم وصاحب التيمس وأكثر من نصف الجرائد والمجلات الإنجليزية التي تتداولها الأيدي. وبالإجمال هونابليون الصحافة وأكثر رجل له نفوذ في العالم. ولعل القراء أشوق ما يكون إلى التساءل كيف تم له هذا وأي رجل هو؟ ولقد أجاب على هذين السؤالين كاتب قدير وصحفي كبير هومستر جاردنر مدير جريدة (الديلي نيوز) الذي اشتهر بوصف مشهوري الرجال والكتابة عنهم ولا شك أن أقواله ستعطى نصيبا أكبر من الثقة والاعتبار بصفته صحفيا يكتب عن زميل له ولا سيما وأنه يروي عن نفسه أنه ربما كان الصحفي الوحيد الذي لم يعرف اللورد تورثكليف ولم يقع تحت نفوذه ولم يكتب له قط بل ولا رآه إلا في رواق مجلس اللوردات. فليس هناك من التعصب أوالمحاباة ما يحمله على التغالي في القول. وسيرى الراء من وصف المستر جاردنر أن الصحافة الإنجليزية الراقية لا تقترف كثيرا في أساليبها وأغراضها عن صحافتنا المصرية! قال: أن اللورد تورثكليف هومثال (رجل الشوارع) فليست له نفسية محجبة بالأسرار نود الكشف عنها ولا عقلية عميقة المدى نرغب في الوصول إليها. بل هورجل عادي بسيط واضح، لا يفهم شيئا غير النجاح المادي ولا مقياس لديه يقيس به الحياة غير هذا. لقد كان نابليون يسأل عن النجاح لنفسه فقط ولكنه يعجب به لدى الآخرين. وهذا هوالشيء الوحيد الذي يفهمه والذي يقدر به الأشخاص. وإنك لتنال التفاهة في اللحظة التي تنجح فيها. ذهب مرة إلى جلاسجوليحضر اجتماعا عقده مستر تشامبرلين ليدافع فيه عن خطة الحكومة إزاء الضرائب، فما كاد يرى عظمة الإجتماع وحماسة الجماهير البالغة حتى أيقن أن النجاح هنا وأنه سيبقى وحيدا مع الفشل. فعمد إلى تغير خطته في ليلة واحدة. وقد كانت جرائده من قبل تنعي على هذه الضرائب وتكتب قي ذمها والسخر بها. لقد حدث شيء لا يتوقعه فوثب من فوق السور في الحاللأنه يعتقد كما يعتقد المستر بيجلو (أن العناية الإلهية الرحيمة قد خلقتنا على هذا الشكل الأجوف لنستطيع أن نبتلع مبادئنا). والمبدأ الوحيد الذي يحتفظ به ولا يبتلعه هوالوقوف بجانب الفريق الغالب دائما.

واعتياده هذا على سرعة تقرير الأمور دون مراعاة لمبدأ أواحتفاظ برأي هوسر نجاحه، فليس له مبدأ أخلاقي أوفكري يقف عقبة في سبيله ولا علة تتغلب عليه، ولا نظرية يخضع لها، ولا رأي في الحياة يذود عنه. ولا هم له إلا أن يسأل ببساطة (أي شيء أربح؟) ثم يقذف بنفسه في تلك الجهة. كان اللورد تورثكليف يزيد شعلة الحرب التهابا في جنوب إفريقيا، ولم يفعل ذلك عن شعور حقيقي بالكراهة للبوير. لأنه كما أظن ليس من الذين يحملون في صدورهم ضغناء أوعداوة، لأن العداوة تفيد التعلق بمبدأ في الحياة وتدل على خلق ثابت صحيح. ولوأن البوير فازوا في الحرب لخشيت أن يكتب لهم جواب تهنئة! ولكن الرأي العام كان إذ ذاك تغلي مراجله حماسة وكرها. ز كانت خطته الصحفية أن يقدم إلى الجمهور الطعام الذي يرغب فيه. فإذا كان يرغب في الحرب فإن واجبه يقضي عليه بتصويره الأعداء في أبشع الصور وأشنعها. وإذا كان يتوق إلى التحمس أمده به. فإن كانت حماسة الجماهير تتطلب سحق فرنسا فإنه يصبح أشد المناوئين لها ويكتب في سنة 1899 قائلا (إذا كان الفرنسيون لا يقلعون عن أهانتهم فإن مستعمراتهم تؤخذ منهم وتعطى لألمانيا وإيطاليا. إن الفرنسيين قد أقنعوا جون بول (الإنكليز) لأنهم أعدائه الألداء. لقد ترددت إنجلترا كثيرا في الاختيار بين فرنسا وإنجلترا. إننا نحترم دائما الأخلاق الألمانية ولكن بدأنا نشعر باحتقار فرنسا، لا شيء يقوم مقام اتفاق ودي بين إنجلترا وبين أقرب جاراتها إليها) فإذا تغير تيار الرأي العام وابتدأ يسيء الظن بنوايا ألمانيا كان هوأول من يلقي الحطب في النار قائلا سنة 1903 (نعم نحن نكره الألمانيين ونكرههم من أعماق قلوبنا. إن أعمالهم قد بغضتهم إلى أوروبا كلها. إني لا أسمح لأي إنسان أن يخط اليوم حرفا في جريدتي يمس به فرنسا كما أني لا أحب أن يكتب أحد سطراً واحداً يرضي به ألمانيا) فهويحذف من قاموسه تلك الكلمة الخرقاء (الثبات على الخطة). ويغاير يومه أمسه غير خائف من النقد والتقريع. إنه يعلم أن الجماهير تنسى كل شيء ولا يطلب إلا التأثير الحاضر والغذاء اليومي. فهولا يعتبر نفسه في الحقيقة إلا مورداً لبضاعة عامة. فإذا تغير ذوق الجمهور كان أسرع الناس إلى التغيير معه. والحقيقة أن اللورد نورثكليف معدود من ذوي العقول الوضيعة الضئيلة. فليست آراءه ذات قيمة كبيرة وهولذلك لا يحجم عن

استبدالها بآراء غيره بشرط أن تكون هذه آراء الأغلبية. ففي سنة 1904 كان يؤيد حزب التقدم إذ كان النصر في جانبه ولما تحقق سقوطه في سنة 1907 أخذ يملأ جرائده بالمطاعن والحكايات الخيالية في سوء أعماله. وليس كل هذا لأنه اختلف معهم - لأن الاختلاف على شيء يدل على التمسك بمبدأ أوعقيدة - ولكنه يتبع الجماهير. هذه الفكرة التجارية المحضة عن الصحافة هي فكرة اللورد نورثكليف التي أهداها لعصره. لقد كانت الصحافة مهنة فأصبحت تجارة. لقد كان لها غرض أخلاقي فأصبحت بين يديه ولا غرض أخلاقي لها أكثر من الغرض الذي ترمي إليه صناعة الصابون، لقد كانوا يقولون قديما عن الجرائد أنها مرشدة الرأي العام. أول واجباتها أن تنقل الأخبار دون تحيز شخصي أوعمومي. وثانيها أن تدافع عن خطة سياسية تعتقد أنها في مصلحة الأمة والدولة. تحترم الحقائق وتعتقد أن هناك قانونا أخلاقيا جامعا تخضع له الأشياء. ولكن اللورد نورثكليف غير كل هذا. لقد بدأ عهده بالصحافة وهوخال من المبادئ والعقائد. كانت الصحافة قديما تخاطب عقول الرأي العام المسؤول فأصبح هويخاطب أهواء غير المسؤولين. كانت الجرائد تمد الناس بالأخبار فأصبح هويمدها بالحماسيات والمشوقات، كانت الجرائد قديما تكتب ما تمليه الآراء المعقولة فأصبح هويكتب ما تمليه العواطف المنفعلة. لقد قلت أن اللورد نورثكليف هورجل الشوارع وأعني بذلك أن عقله لا يرقى عما يتطلبه تيار الجماهير. فترى في كل أعماله طابع العقل العادي بدرجة غير عادية، ومظهر الخلومن الأفكار والجري وراء كل تافه والإعجاب بكل ضجة جوفاء والنفور من كل شيء قوي نافع سليم في الحياة.

أحدث مدهشات التلغراف اللاسلكي

أحدث مدهشات التلغراف اللاسلكي من ذا الذي لا يدهش حينما يسمع أنه أصبح من الممكن استعمال التلغراف اللاسلكي في الطباعة؟! ومن ذا الذي لا يأخذ منه العجب كلما مأخذ وقت ما يصل إليه أنه غدا لجهاز (مركوني) قدرة على تكوين السحب وإنزال المطر؟! وأنه صار من الميسور أن تؤخذ به الصور الفوتوغرافية، وتنقل به الأصوات بل وترسل بواسطة أنغام فرقة موسيقية برمتها من مكان إلى أخر، مهما عظم بعده وترامت مسافته؟!. حقا إن ذلك لمن أعجب العجب، وقد يخيل لكثير أن هذه أخبار تسرد لمجرد التفكه والتسلية. وإنها أشياء لا يقبلها العقل ولا تقرها الحقيقة. . ولكن الفنيين يؤمنون بها ولا يرون فيها مستحيلا، علما منهم بأنه لا حد لما يحدثه وسيحدثه التلغراف اللاسلكي من المدهشات والعجائب. أما استخدام التلغراف اللاسلكي في الطباعة فيعزى فضله إلى (المستر ف. ج كريد) الذي اخترع آلة يمكن بواسطتها أن يكتب المرء - بكيفية خاصة طبعا الرسالة التي يود إبراقها. فتلقى عند محطة الاستلام مطبوعة بحروف المعتادة. ذلك إلى السرعة الفائقة في الكتابة فقد استطاعوا الآن أن يتراسلوا بسرعة. أعجوبة تكون الأمطار هذه حقيقة، هي أعجوبة من أعاجيب الاختراع ومدهشة من مدهشات الاستنباط والابتكار. . . . كانت فكرة تكون الأمطار الشغل الشاغل لخبير من الخبراء بأسرار اللاسلكية في أستراليا اسمه (المستر بالسيلي) وبعد درس طويل وبحث دقيق وتجارب عديدة أعلن أخيرا أنه تمكن من إنزال المطر في وقت كانت في السماء صافية تمام الصفاء. . . وقد أجرى المستر بالسيلي هذا تجربة استعمل فيها أجهزته الخاصة. وما هي إلا ست ساعات تمضي على ابتداء العمل حتى ترى السحاب أخذ يتكون شيئا فشيئا ثم يتساقط بعد ذلك مطراً. أما التصوير اللاسلكي. فأول من استنبطه عالم من كيار العلماء الالمان يدعى (بيلين) ولما كانت الألعاب الأولمبية، ذهب فشاهدها ثم أرسل صورها بجهاز له من مدينة إنثورب إلى باريس. والصور الفوتوغرافية ترسل كذلك بواسطة التلغراف المعتاد. وللمستر (بيلين) جهاز لذلك

الغرض أيضا. وسيستعمل للقريب العاجل في المسائل القضائية. فإذا فر منه مثلا أحد المتهمين أوالمحكوم عليهم أمكن إرسال (بصمة) إصبعه إلى جميع الأنحاء التي يظن أنمه لجأ إليها. وبذلك يسهل القبض عليه. إرشاد السفن في الضباب وكذلك أصبح التلغراف اللاسلكي يستخدم في إرشاد البواخر في عرض البحار، وإن (المحطة الكبرى) الموجودة الآن في (برج إيفل تلعب الآن دورا هاما في ذلك اصدد. فهي ترسل إشارات خاصة يتسنى للربان بواسطتها أن يضبط (الكرونومتر) الذي أمامه إلى درجة عظيمة من الدقة وضبط (الكرونومتر) هومن الأهمية في تسيير البواخر إلى حد أنه إذا فسد يقع الربان في حيرة وارتباك. وإذا تكاثف الضباب، وضلت في ظلامه سفينة من السفن أمكنها أيضاً أن تعرف مكانها بالتحقيق وذلك بمواصلات لاسلكية بينها وبين محطات أنشئت خاصة لتعين اتجاهات السفن ويوجد الآن منها كثير على شواطئ انجلتره وغيرها من الممالك. ومن ناحية نقل الأصوات وإبراق الأنغام فحسبنا أن نعرف أن الحفلات اللاسلكية أضحت من الأشياء مألوفة في كثير من الممالك الراقية!! حقا كل هذا عجيب غريب وإن الإنسان ليسأل نفسه (وماذا بعد ذلك؟) ولكن المستقبل وحده الكفيل بالإجابة.

قانون الحب

قانون الحب حب الوطن هذا بحث جديد نقتطفه من كتاب ممتع شعري النزعة رائع الأسلوب. هوكتاب (قانون الحب) وضعه كاتب من مشهوري كتاب فرنسا المعاصرين. وهومسيوجافير، قصر الجزء الخامس منه على (حب الوطن) وأفاض في هذا الموضوع وتناول الوطنية من جميع نواحيها. فخرج كتابه سفرا جديدا في موضوع لم يسبق لكاتب أن جمع شتاته بين جلدتي كتاب. الوطن - هوتلك الشخصية الإنسانية السامية الثابتة المستكملة التي أرسلتها القوة الإلهية لتكون رادعا للنزعة الأنانية مطهرة لمساويها. ذهابة بدناآتها. إن الفرد منا مدين بكل شيء للبان أمه. والإنسان الاجتماعي مدين بكل ما ملك لسلطان وطنه. وليس البون الذي يفصل بين الهمجي وبين المتحضر إلا دليلا بيناً على فضل أمنا الأولى - وطننا المقدس - على كل فرد منا. فكل ما لدينا من الخيرات المادية والاجتماعية والخلقية والذهنية إنما استمددناه من سلسلة مستطيلة من حقب الحياة الاجتماعية، من تلك الأجيال التي كدت وناضلت وتألمت وانتصرت، لتخلف لنا أثرا أهليا وتنفي عن سلالتها والأجيال المنحدرة بعدها ذلك التخبط الذي عانته هي وأحست آلامه. بل إن حريتنا ليست إلا نسيجا من آلام الملايين من المخلوقات التي ناضلت لتحبونا به قويا متينا كاملا. بل إن الدعة التي ننعم اليوم بها لم تقم إلا على أكداس من أولئك الشهداء الذين سالت دمائهم في سبيل الظفر بها لأجلنا. وإن فنوننا وعلومنا وخيرنا ليست إلا ثمار تلك المتاعب ونتاج تلك المجهودات التي بذلها أولئك الأسلاف العاملون الذين يضطجعون اليوم في مساكن الآخرة. أولئك الذين ارتضوا الموت معذبين متألمين في سبيل إسعادنا بثمرات أعمالهم. فأي رجل من الحمق والبلاهة بحيث يجرؤ أن يقول أنه غير مدين بفضل ما لوطنه. إن أمنا الأولى تتخلى عن العناية بنا منذ اليوم الذي يوحي فيه إلينا شعورنا بالحياة أننا قد صرنا أقوياء، وأن أسرتنا لتكف عن عوننا منذ اليوم الذي نبح فيه قادرين على أن نخلق نحن أسرة مثلها. وننشئ عشيرة على غرارها: ولكن ليس في العالم كله رجل متحضر يستطيع في أي مرحلة من مراحل العمر أن يجد غناء عن وطنه.

إن روح الوطن لتنفذ في جميع هذه العناصر التي تحوطنا والتي نعيش عليها فالأرض التي تطؤها نعالنا ليست إلا دقيق عظام الموتى. والهواء الذي ننشقه يحمل إلى شواطئ أرواحنا عبق فيض الوطن. بل إن شمس وطننا وسرحاته وأوديته وجباله وأنهاره وسهوله ليست إلا دروسا ومعاهد وابتسامات ومباهج لا نجدها في أفق غير أفقنا وأرض سوى أرضنا. إن تلك المناظر التي نجلوبها أعيننا واللغة التي تصب في أسماعنا والمشاعر التي نستسر في نفوسنا. كل أولئك هو (الوطن) الذي بذل نفسه لنا ويوحي إلينا أننا لا نستطيع بذرة واحدة من ذرات أرواحنا أن نستكفي عن حنانه ونستغني عن عاطفته وعناقاته الجميلة الناعمة. ليس في العالم شعب لم يرجف ولم يثب إحساسه على ذكر كلمة (الوطن) ولم.

سعد زغلول

بطل مصر العظيم سعد زغلول إنما ألهم الناس أن يعينوا هذا البطل نائبا عنهم لأن الله سبحانه وتعإلى كان قبل ذلك قد اجتباه واختاره وعينه ناصرا ومؤيدا لحقيقة من الحقائق الكبرى وتاجرا مروجا لها عن تمام اعتقاد لها في أعماق نفسه بحيث يتجلى لأشد معارضيه وألد خصومه إنهم إنما يطاولون الطود الشامخ الباذخ ويساجلون التيار الدافق الزاخر وأنهم وإياه. كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل أجل يتجلى لأهل المراء والمعاندة أن أمامهم صخرة تتفتت عليها بددا وترفض دونها هباء هجمات القحة وحملات الاعتداء من أحزاب المروق والفسوق، فلا جرم أن تصبح هذه الصخرة الصلدة محل ثقتنا واعتمادنا، وأن يكون بذروة هذا الجبل الأشم اللائم بذؤابته أشعة كوكب الحرية مناط أمانينا وآمالنا، وأن تكون ثقتنا به بعد ذلك عمياء فلا يسأل عما يفعل إذا كانت روحه خلاصة أرواحنا ونفسه صورة مؤلفة من مجموع نفوسنا، وكان هوذاته الوطن الذي يمثله وهوعنوان آرائنا ومبادئنا ونزعاتنا وعواطفنا يمثلها في صفحته الناصعة النقية أبين تمثيل وأصدقه وأبرأه من شوائب الأغراض والغايات وغبار التهم والشكوك والشبهات. فلا يعد عجيبا أن يجعله الشعب مقياس شعوره والمرآة التي يستبين في صفحتها صورة المثل الأعلى من الهمة والواجب فيتخذها القدوة يصلح من نفسه احتذاء لمثالها وطبعا على غرارها ليشبهها ويحكيها. وهنيئا لهذا الشعب الذي اختار من ذلك البطل رجلا جزلا شديدا. صلبا جليدا. وليس كبعض الناس خيالا أجوف وشبحا فارغا تنفذ فيه اليد ولا تراه العين. إن من أبين الأدلة على بطولة سعد استغناءه بنفسه واستقلاله بذاته. وتلك شيمة الرجولة وآية البطولة. إن سعدا لهوالكنز الثمين والذخر العتيد والغنى الواسع والثراء العريض حتى لقد يستحيل على الذهن أن يتصوره بحالة ضعف أووهن أوعجز أوخور أواستكانة أواستخذاء أوذلة أومسكنة أواحتياج إلى معونة ناصر أومساعدة عضد مؤازر أوافتقار إلى أنس أنيس. أومسامرة جليس. ومحال أن يتمثل للوهم وكأنه وحيد أومستوحش أوفقير أومعسر أوشقي بائس. أوقانط يائس. أوحزين مغموم. أومطرق مهموم. بل إن الذهن

البشري لا يستطيع أن يتخيله فخما ضخما جليلا جبارا متكبرا عزيز الجانب حمي الأنف متحفزا طماحا مستعليا على الأقران غلابا للخصوم مفراحا ممراحا جذلان مستبشرا طروبا. طلق الجبين تخاله كوكبا مشبوبا ثم تراه فوق ذلك كله راسي الأساس راسخ القواعد موطد الأركان ثابت الدعائم لا تزعزعه الكوارب الكوارث، ولا تزلزل منه مفظعات الخطوط والحوادث. وأي قوة في الأرض تستطيع أن تهز من ذلك الرجل العظيم وقد تشبع بأقدس فكرة وجاش قلبه بأكبر أمنية، بل أي غطرسة من جبابرة الأرض تستطيع أن تكف من غربه أوتفل من حده بعد ما تمطر منه في حلبة الجهاد أعتق جواد سباح. وحلق منه في سماء النهضة الشماء أجرأ نسر طماح. وماذا تبتغي فئة المعارضة والمعاندة وطائفة الهزيمة والخذلان والذل والعار - ماذا تبتغي الفئة الضالة الآثمة من رفع أصواتهم بسخف القول وهذيانه. أيحسبون أن صرير الجنادب سيبلغ مسامع من قد استحوذت على مشاعره نشوة ملائكية من رحيق الحرية المقدس، لقد ارتفع البطل العظيم فوق منال تلك الأصوات الخبيثة منذ تناول الكأس الإلهية المصنوعة من ندى أجنحة الملائكة فانتهج في مراقي العلياء ذلك المنهج الذي سلكه من قبله محرروالشعوب ومخلصوالأمم وبات ينتعل الفرقدين ويطأ بأخمصيه المجرة والسهى. لا غروأن يصبح سعد بعدما أفعم صدره بفكرة الاستقلال الملتهبة ولعبت برأسه سورة الكأس المقدسة ورنحت نشوتها أعطافه قد اقتحم كل عقبة واستسهل كل صعوبة في سبيل الحرية. فمضى يعسف النجاء كما زل ... ل من المنجنيق مردى رجام أوكما انقض كوكب أوكما ط ... ارت من البرق شقة في غمام واضعا نصب عينيه الغرض الأشرف الأسمى يدوس بنعليه كلما يعترضه في سبيله المجيد من كيد أودسيسة أوتخويف أوتهديد بل لا يبالي نفيا ولا حرمانا ولا تجريدا ولا سجنا ولا جوعا ولا ظمأ ولا عريا ولا جميع آلات التعذيب والتمثيل مما هوشر مساوئ عهود الإرهاب والعصور المظلمة - كل ذلك جدير أن يتلقاه سعد ساكن الجأش منشرح الصدر باسم الثغر لأن روحه العالية الكبيرة تأبى إلا أن تستخف بهذه العقوبات إزاء غرضها

الشريف الأنبل فتنعدم في نظرها هذه الآفات كما تنهزم جحافل الظلماء أمام أسنة الأشعة المشرقة بل ما أجدر روحه العظيمة أن تستلذ آلام تلك الفظائع في سبيل الواجب المقدس ومازال أبطال الحرية من أقدم الأزمان إذا نزل أحدهم من بطن أمه أخذ أخصر طريق إلى موقف مناوأة الظلمة الجبابرة الطغاة ثم أخذ أقصر طريق من هذا الموقف إلى المشنقة أوالمقصلة أوسيف الجلاد ثم تراه يتهافت على الموت كأنه ألذ متعة النفس وأشهى أمنية الروح، ولا بدع أن يفرح الأبطال بالموت إذا وجدوا الحياة شرا من الموت. أبوأن يذوقوا العيش والذم واقع ... عليه فماتوا ميتة لم تذم دعاها الردى بعد الردى فتتابع ... تتابع منبت الفريد المنظم ومن كانت هذه درجته من البطولة كان حريا أن لا يقشعر جلده الرقيق من أفظع آلات التعذيب وأن لا تروعه النار المحرقة، واللجة المغرقة. والعقدة المزهقة ولا السيف المشهور. والكفن المنشور. واللحد المحفور. وقد روي عن القس المتورع (أنتوني بارسونر) من أفراد الملة البيوريتانية الإنكليزية أنه لما قدمه جبابرة الكاثوليك للنيران فدنا منه لهيبا تناول قشا من بين يديه فوضعه على رأسه ليكون أسرع لسريان النار ثم قال (هذه قلنسوة الله). وكذلك ترى إن أس البطولة هوالثبات على المبدأ وما رأينا ولا سمعنا بمن بذ سعدا في هذه الفضيلة. لقد رأينا من كان حوله يتلونون كل ساعة لونا ويتشكلون كل برهة شكلا تأثرا بالأهواء والمطامع وحرصا على إرضاء بعض الأفراد أومتابعة الجماهير. والحرص على إرضاء الأفراد ومتابعة الجماهير مناف للبطولة بل هوعكس البطولة ونقيضها إذ هوالخور والضعف المبين بينما البطولة هي القوة العظمى. هذا ومتابعتك الغيرة دليل على فرط حاجتك إلى تأييدهم إياك ومساندتهم لك عطفهم عليك. واحتياجك إلى مثل هذا من الغير دليل على ضعفك وعجزك عن القيام على قاعدتك وأساسك. والرجل العظيم متى اقتنع بصحة رأيه وصلاح فكرته نفذها بلا أدنى اهتمام بآراء الغير بل نفذها على اعتبار أنه هووحده الحي العائش على ظهر المعمور وإن كل من حوله من أناس ليسوا سوى أحلام وأوهام. فإن شئت أن تكون رجلا وتكتب في سجل البطولة فنفذ فكرتك وامض عزمتك والزم مذهبك واثبت على مبدئك وإذا حمل ذلك الناس على الضجيج من حولك استنكارا لك

واغتياظا منك فزدهم غيظا وكربا باستمرارك على خطتك وتماديك في منهاجك. وهنأ نفسك أعظم التهنئة على أنك أتيت شيئا عجابا وأمرا مستغربا مخالفا للمتبع والمألوف خارقا للعادة لأنك قد ارتفعت بهذا عن مستوى جيلك السخيف البليد المغفل الأعمى المرين على بصره المطبوع على قلبه الراسف في أغلال المذاهب السخيفة الغبية. وقيود المبادئ القديمة الرجعية. ولقد روي أن فتى جاء مرة شيخه يستنصحه في أمر قد هم به ولكنه يخشى عاقبته فقال له الشيخ نصيحتي إليك يا بني أن تفعل أبدا كل ما تخشاه وتخاف عاقبته. وكذلك يتضح أن البطل لا يتزعزع ولا يتزحزح ولا يستمال ولا يستدرج ولا يرشى ولا يباع ولا يشترى. أجل إن الروح العظيمة لا تبيع استقلالها وعظمتها وشرفها فهي لا يهمها طعام هنيء. ولا شراب شهي. ولا لباس بهي. ولا مهاد وطي. ولا وثار طري. إذ كان سر العظمة ولبابها هوفي الافتنلع بأن الفضيلة حسبها والمجد غايتها. ما سرها اللؤم والغضارة في العي ... ش بديلا بالمجد والقشف وقد ما عرف عن العظمة أن الفقر حليتها والزهد تاجها. وأنها ما سرتها قط المكاسب والمغانم. ولا ساءتها الخسائر والمغارم. ولست بمفراح إذ الدهر سرني ... ولا جزع من صرفه المتقلب كلا بلوت فلا النعماء تبصرني ... ولا تخشعت من لأوائه جزعا ونحن لا نزال نرى البطولة تستحي أن تباشر اللذات الجثمانية والشهوات المادية حتى لتود لوتجردت من حواسها وتخلصت من بدنها. فهي من باب أولى حرية أن تحتقر مظاهر التنعم والترف. والبذخ والسرف. وهل رأيت أوسمعت قط ببطل يعنى بقيافته وهندامه، أوبحليته ووسامه. أويعلق أدنى أهمية على ألوان خوانه. أوألوان ردائه وطيلسانه. أويكاد يختنق غما إذا أتاه طباخه بالمسلوقة بدل القلية. أويهم أن ينتحر هما إذا حرم علاوة أودرجة في الميزانية. أويجعل همه من الدنيا محظية أو (أبعدية)، أو (بسكويتا)، أو (بنكنوتا) أوشهادة رئيس كذوب. أوابتسامة مومس خلوب. كلا ما كان ذلك قط من شيمة الأبطال ولا من شيمة سعد وحاشى لسعد وهو البطل العظيم أن يسف لأمثال هذه الحقائر مثلما يسف إليها أقوام تحككوا فيه كذبا وبهتانا، وانضموا إليه زورا وعدوانا فحسبوا وهم الأصفار النوكى. والأحراض الهلكي. إنهم بفضل ما انعكس عليهم من سنا نوره الوضاء

سيخدعون الناس عن حقائقهم فيوهمونهم أنهم المشرقون الييرون - وأنهم للمضلمون المعتمون. أجل إنا لا ننسى ما قد تسفل إليه أولئك الأصفار من حقائر الأغراض يوم كانوا مع سعد اثقالا على عنقه وأعباء على عاتقه وأغلالا وآفات ومصائب وهم يوهمون الناس أنهم أنصاره وأعوانه. وإخوانه وخلانه. ولكن البطل سعدا لا يحفل بأولئك الأصفار فإنهم كالأصفار عن شمال كميته الإيجابية لا قيمة لهم معه ولا يحدثون في مقداره الهائل العديم الحد زيادة ولا نقصانا وإن كنت شخصيا أميل إلى الاعتقاد بأنه بعد انفصالهم عنه قد صار أعظم وأكبر. وأصبحت كميته أوفر وأكثر. ومن كان يحسب أن خبائث أولئك الغادرين وسخائف غيرهم من الخونة المارقين وعواء سواهم من الحمقى المأفونين تثير غضبة سعد أوتكدر صفاءه فلينفينا هذا الوهم من خاطره وليعلمن أن بطولة سعد تأبى عليه أن يقابل هذه الحماقات والسخافات وهذه النذالة والسفالة إلا بمنتهى الاستخفاف والهزء والضحك. وقد ما كان الضحك والميل إلى المزاح والمعابثة من أروع سجايا البطولة. ومازالت صحف التاريخ تعرض عليك الأبطال في ساعة الروع وأزمة الهول والبلاء أشرح ما يكونون صدرا. وأرخى بالا وأبسم ثغرا. والأدلة التاريخية على ذلك أكثر من أن تحصى. نورد لك من بينها موقف سقراط ساعة إعدامه وأمازيح سير توماس مور وهوعلى المشنقة. وقول حلحلة الفزاري وسعيد بن أبان الفزاري. فإن عهد الملك بن مروان لما أحضرهما ليقيد منهما قال لحلحلة (صبرا) فقال حلحلة أي والله. أصبر من ذي ضاغط عركرك ... ألقى بواني صدره للمبرك ثم التفت للجلاد (وكان صاحب الثار) فقال له أحد الضرب فإني والله ضربت أباك ضرب أسلحته فعددت النجوم في سلحته. ثم نظر عبد الملك إلى سعيد بن أبان فقال له (صبرا سعيد) فقال إي والله. اصبر من عود بجنبيه الجلب ... قد أثر البطان فيه والحقب ونذكر أيضاً من هذا القبيل قول وكيع بن أبي الأسود فإنه لما يأس منه خرج الطبيب من عنده فقال لابنه محمد إنه لا يصلى الظهر فقال له أبوه ما قال المعلوج فقال وعد أنك تبرأ فقال وكيع أسألك بحقي عليك إلا ما خبرتني بالحقيقة. فقال ذكر أنك لا تصلى الظهر قال

ويلي على ابن الخبيثة والله لوكانت في شدقي للكتها إلى العصر. ومن هذا الباب أيضاً ما جاء في مأساة (السياحة البحرية) للشاعرين الجليلين الإنكليزيين (بومون) و (فلتشر) على لسان (جوليتا) والقبطان البطل وزمرته الشجعان. جوليتا: ويحكم أيهم المتمردون. أما علمتم أن في استطاعتنا إعدامكم؟ القبطان: بلى. وأنت أما علمت أن في استطاعتنا أن ننعدم ونهزأ بك ونحتقرك. هذه - وأبيك - أجوبة محكمة. صادرة عن أفئدة مضرمة. وكلمات مأثورة نقطة فائضة من أرواح كبيرة. قد أصبحت لفرط عظمتها تستهين بالعروش والتيجان. والسطوة والسلطان. وتلهو بالمحن العظام. والكرب الجسام. وتلعب والخطب مشمر من ثيابه. وتضحك والموت كاشر عن نابه. وقد ما كان الضحك زهرة الفطرة السليمة. واللعب ثمرة الشيمة القويمة. ولا بدع فأجسم حوادث الدهر وكوارث الزمن أحقر في عين البطل وأضأل من تثير خاطره وتكدر صفو باله. فالحق عنده والواجب أن تكون الحياة كلها عيدا وعرسا وأن تصدر منه أعماله الكبار. وكأنها النغم الرخيم منبعثا عن الأوتار. أو كأغاريد البلابل والقمارى. حتى ولو كانت هذه الأعمال هي تقويض دولة الأشرار. وثل عروش الجبروت والفجار. وتطهير أديم الأرض مما قد لوثه من خبائث الطغاة. وإنقاذ العالم مما قد جثم على متنفسه وشد خناقه من جرائم الظلمة والعتاة. ونحن ما زلنا نرى العظيم في كل زمان أومكان ينبذ النواميس المتبعة والتقاليد المألوفة ظهريا منتهج سبيل غريزته. ممثلا دوره المجهول عليه بفطرته. أصم عن العازلين معرضا عن المعارضين جاعلا تحت قدمه ودبر أذنه صيحة الساخطين. وصرخة الناقمين. فلو استطعت أن تجمع في مخيلتك أبطال العالم وعظماء الدهر منذ بدأ الخليقة فتستشف ثمت حقائقهم وأكناههم إذن لبدوا لعين بصيرتك كأنهم صبية يلعبون وغلمة يمرحون ويعبثون. وإن بدوا لأعين الجماهير متلفعين أردية الجد والتوقير. متسربلين حلل الأبهة والنفوذ والتدبير. قد تصادف في كل مليون إنسان واحدا تستبيك منه شيم أحلى من المدام. وأشجى من الأنغام. وأشهى من المنى والأحلام. وتستصبيك منه شمائل. أرق من الأصباء والشمائل: في أريحية كما اهتز الجسم. ولوذعية مثلما ائتج الضرام فإذا بحثت عن سر هذا التفوق والنبوغ ألفيته الشذوذ عن مألوف العادات. ومحترم السخافات. وما يعظمه الجمهور من

مشروع الأضاليل. ومقدس الأكاذيب والأباطيل. وكذلك شيمة البطل العظيم سعد وهذه شمائله وتلك أخلاقه وهوذلك الفذ الأوحد الفريد النادر المثال المنقطع القرين الذي لا ترى في الملايين نده ونظيره ولا يجود لك كل جيل بمثله. وهواللغز الدقيق لا تدرك منه الأفكار إلا القشور والكوكب النائي القصي لا تنظر الأبصار منه غير النور، وسائره محجوب مغيب عن الأفهام والأوهام مختبأ في ثنايا عظمته المهيبة. وغضون بطولته الوعرة الرهيبة. ومتى البطل للجماهير مفهوما. وللجماعات مدركا معلوما. ومع خضوع أوروبا لنابليون وانقيادهم لأدنى لفظة من لسانه وإشارة من بنانه هل كانت تدرك حقيقة سره. أم استطاعت أن تحل لغزا وتكشف مكنون أمره؟ وهل استطاع الناس أن يفهموا قيصر وهانيبال وتيمورلينك وكولومبس ولوثر وغاليلوإلا بعد أن نفض لهم التاريخ من كل جعبته. ومحض حقيقته. وكذلك شأن سعد بطلنا العظيم. فقل للناقد المدقق. والمتنطع المتحذلق، الذي يحاول قح وغفل وغرورا أن يضع البطل الرهيب تحت مجهر نقد الأعمى. ألا فلتلقين مقياسك ولتطرحن نبراسك ولتكسرن معيارك. ولتحطمن مخبارك ولتخسأن هيبة ولتطرقن رهبة. ثم لتنكصن على عقبيك ولتنجون بنفسك الضئيلة ولا تحاولن مرة أخرى أن تتعرض للطوفان فتغرق. وللبركان فتحرق. وابغ لك يل صاحبي بدل ذلك حلة أنيقة. أوزوجة رشيقة. وابذل جهدك بعد ذاك في نيل وظيفة عالية ودرجة سامية وماهية تشفي الغليل. وتهبك الفيتون والأتوموبيل. واتخذ يا قرة العين قصرا وإيوانا. وجنة وبستانا. وأمتعة وأثاثا. ثم خلف كما تشتهي ذكورا وإناثا. واقض يا منية القلب أيامك الهنية بين البيت والديوان. والقهوة والحلواني. واشتم مرؤوسك وارتعش أمام رؤسائك وجمل هندامك. ورنح قوامك. وسمن أردافك. ونجد لحافك. واضحك واطرب وارقص والعب وحب واكره وغش واخدع ونافق وداهن وحاسن وخاشن. واسلك سبيلك الوضيعة الخسيسة الدنسة القذرة التربة الوحلة الملتوية العوجاء. الخبيثة النكراء، وبعد ذلك مت كما تحب وتهوى وتغسل بماء الورد وتكفن بالحرير واذهب إلى دار الآخرة في أفخم موكب بين صراخ الأحباب ولطم الكواعب الأتراب ونشيد أولاد الكتاب واندفن كما تتمنى في قبر من المرمر المسنون، تحت أفياء النخل والزيتون، وكذلك تفز بالسعادة والنعيم في حياتك ومماتك ويرحمك الله. ولكن لا تتعرض إلى الأبطال ولا تطأ حرم العظماء من

الرجال ولا تلج على الليث عريسته. ولا تستفز الأفعوان من أطراقته. وتمثل قول القائل. حداك إلى الحين حتى استثرتني ... عليك وإني في عريني لمخدر وإياك ومناوأت الجلة الكبار. فإنها مشوار كثير العثار. ولقد رامها من هوأجل منك وأعظم ومن لا تصلح أن تصلح حذائه. وتمسح ردائه. فباء بالخذلان وعاد بالخسران. وكان مثله - وهوالأريب الداهية - كمثل الفراش ساور المصباح. فاحترق منه الجناح. ثم التهمته النيران فكأنه ما كان.

قانون الحب

قانون الحب حب الوطن تابع يره دينا ويعده عقيدة تعتنق. ولقد شهدنا ما فعله في عهد الثورة الفرنسية أولئك الفتيان الشباب في سبيل شرف الوطنية المقدسة إذ كانوا هم هياكلها ومعابدها وذبائحها وضحاياها. وكما أن مجموعة العواطف والفرائض التي تربطنا بأصل الحياة وعنصرها الأول قد اصطلحنا على تسميتها (الدين. . .) كذلك أسمينا مجموعة العواطف والمشاعر والواجبات التي ندين بها لوطننا (الوطنية!) فالوطنية - أودين الوطن - هذه العقيدة الطبيعية العميقة في حبة القلب الإنساني قد بلغت من الرهبة والقوة بحيث لا نستطيع أن نطلق عليها اسم (الفضيلة) لأن الفضيلة إنما تعيش على محض اختيار الإنسانية وما هي إلا انتصار هذه الحرية في الاختيار على ما يعترض سبيلها من العقبات والموانع وليس أدل على غريزية هذه الحاسة من أنها قد تغلغلت في طبيعتنا حتى لتتراءى كأنها جزء من كيانها. وإحساس مطلق غير متكلف. لا نتعب فيه عاطفتنا. ولا نحمل على إحساسنا لخلقه. إن الشجرة الفارعة لتوغل بكل قوى جذورها وعصارة جذعها في بطن الأرض التي تحملها وتمد أعناقها نحو السماء التي تساقط عليها خبأها وتسقيها بمائها والطائر يعاود غيره ولا مخطأ العش الذي أظل. وكذلك الإنسان مولع بالأرض التي فتح عينيه الوليدتين أول أمره عليها. مؤثرها على أرض الدنيا ونحن قد رأينا الشعر يرسل ألوانا. وينفث آلاما. ويثير أشجانا. ليصور لنا يصور لنا أحزان الإنسان إذ ينفى عن وطنه وحنينه إلى أرضه. ومن كل ذلك نرى أن الوطنية حاسة نقية غير مفتعلة وغريزة لا فضيلة ووثبة مادية. وليست مجهودا أدبيا. على أن كثيرين من الناس أرادوا أن يطفئوا نور هذه الحاسة بحاسة أخرى عارضوها بها فقد عرف فولتير الوطنية فقال (إن حب الإنسان لوطنه ليس إلا كراهية أوطان الآخرين!). وقد حمل طغيان هذه الغريزة والتمادي فيها إلى حد التطرف طائفة الكتاب على أن يروها على غير حقيقتها فد صور الوطنية الكاتب (أوكتاف ميربو) فقال (في هذا العصر الفلسفي

الذي نعيش فيه لا تبعث لدي فكرة الوطن لا صورة شنعاء من القسوة والوحشية والجبروت وتثير في ذاكرتي صور الكراهية والقتل والدماء، إن الوطنية عاطفة جميلة الصورة. ولكنها لا تزال بعد عاطفة مجرمة مجنونة، إذ يتراءى لي الرجل الوطني متوحشا مريش الرأس متمنطقا بسلسلة من الجماجم الآدمية. وقد يرى الناس فيه البطل العظيم ولكنه في الحقيقة ليس إلا قاتلا سفاك دماء!). ولكن تصوير العاطفة الوطنية وما يصدر عنها من الفعال الجسام بهذه الصورة الهزلية المعيبة إنما هو الخلط بين الحب - وهو الموحي بكل ما هو جميل في الحياة الباعث على التضحية والإيثار - وبين عاطفة الغيرة المجنونة التي لا فرق بينها وبين أشنع ما جاء في سجلات الجرائم وما كان الكاتب الذي ينطلق في مجموعة خرقاء من أمثال هذا الكلام. وينبعث وراء هذا التصوير المذعور إلا رجلا مصروعا متشنجا خبيثا. ونحن لا ننكر أن الوطنية لا تلبث أن تروح ظالمة ناقصة شوهاء شريرة طاغية إذا هي قامت يوما على أساس أنانية أهلية تعلم أصحابها كراهية الأجانب عنها. ونحن نعلم أن حب الذات لدى الفرد لا ينأى يصبح شرا وإحساسا مرذولا إذا هو اتخذ يوما مظهر الأنانية الباغية فاعتدى على حقوق الأفراد الآخرين. وكذلك الحب الغريزي الذي يحسه كل رجل منا بوطنه لا يلبث أن ينقلب إلى حاسة وحشية ثائرة وخطرا مستفحلا إذا هو امتزج بلون من ألوان الأثرة الاجتماعية. ولهذا ينبغي أن تتخلص الوطنية من هذه النوعات وتسير على وحي عقل منتظم وإرادة راجحة مطلقة وتحمي نفسها من أن تكون خارجة عن حدودها ضيقة السرب هوجاء. وقد أصبحت كل أمة اليوم جزءا لا ينفصل عن كيان الإنسانية العامة بما اشتبك في العالم من المصالح التجارية والعلاقات الاجتماعية. والروابط السياسية ونحن نشاهد في كل فرع من فروع الحياة ارتباطا دقيقا بين الأمم والأمم. فأي تقدم وقع لأمة منها ولم يحدث أثره السريع في الأمة المجاورة لها. وأي مخترع استحدثه عالم من العلماء ولم يدع وينطلق طائفا الأمم كلها، وما مصيرنا ومصير سوانا إذا امتنعت الممالك البعيدة عن إمدادنا بالمواد الأولى التي نحتاج إليها في صناعاتنا وماذا يكون مآل السواد الأعظم من الشعوب إذا حمت الممالك مخترعاتها ومبتكرات أذهان أهلها عن جاراتها؟. ولو أن كل أمة احتكرت آدابها ونتاج عقولها وقصرتها على نفسها. فما كان العالم كله

مدركا يوما نبأ ستيفنسن ونيوتن وجنر وفولتون وشكسبير ودانتي وميشال أنجلو وروفائيل وبيتهوفن وشوبان وفاجنر وأضرابهم أهل العبقريات التي أرسلت روح الوحي الإلهي في أنحاء الإنسانية جمعاء. ولو كان ذلك أيضاً لحرمت الشعوب الأخرى من الانتفاع بآداب شعرائنا ومنتجات علمائنا وخطبائنا وأهل الفنون فينا. ولقد الرئيس روزفلت يوما تدعي طائفة من الكتاب والمصلحين أن الوطنية ستصير على مدى الأجيال القادمة فضيلة عتيقة بالية ملغاة عقيمة الجدوى أشبه (بالفردية) في الزواج ولو أن الإنسان الحاضر الذي يحب الممالك الأخرى مثلما يحب وطنه ليس إلا عضوا شريرا في المجتمع مؤذيا خبيثا لا يقل في شره وأذاه عن الرجل الذي يحب نساء الأزواج الآخرين بجانب امرأته. إن حب الوطن فضيلة أساسية كحب عائلة - والأمة الصالحة هي التي تشبعت بالفكرة الأهلية وأدركت حقوقها كأمة ين أمم الأرض وتبينت واجباتها المفروضة عليها قبالة أفرادها النافعين. دون أن يحول ذلك بينها وبين استشعار الاحترام، لحقوق الأمم الأخرى والرغبة في تخفيف ويلات الشعب الضعيفة والأمم المعانية المتألمة الأسوانة المحزونة). على أنه خليق بعد كل هذا بتلك القلوب العظيمة التي تريد أن تعانق أهل الدنيا جميعا وتثب إلى أحضانهم وتحبهم كما تحب بلادها أن تذكر تلك الكلمة الحلوة التي فاه يوما بها رجلا من المستهزئين بحب أوطانهم (ما أسهل أن تصبح الشعوب جميعا رفاق وأخوة. ولكن أخي الأول هو. . . ابن وطني!. . . ثم تلك الكلمة الفاتنة التي قالها الشاعر فرانسوا كوبيه صاحب رواية. في سبيل التاج فأحاط بكل ما نريد التدليل عليه إذ راح يقول لجمع من الناس اسمحوا يا سادة لرجل أشيب متهدم السن أن يؤثر وطنه على العالم أجمع. غير راغب له شرا. 0أو مضمرا سوءا. وتفضلوا علي فاسألوا أول وليد تلتقون به في الشارع هل يحب أنه أكثر من حبه للأمهات اللائي يسكن في جوارهم أم أقل حبا!) ألا أن الوطن لينهض في الصف الأول وتعلو كفته. ولقد وقف يوما جيزو الوزير الأول في قاعة مجلس الشيوخ خطيبا يحيي المحالفة الإنكليزية الفرنسية يومذاك فختم خطبته الطويلة العريض بهذه الكلمات (لو لم أولد فرنسيا أن أكون إنجليزيا) فانبرى إذ ذاك من وسط المجلس الماركيز دي بريزيه فقاطعه صائحا ولكني أقول (لو لم أولد فرنسيا لوددت أن أكون

فرنسيا) فابتسم الوزير لهذه المقاطعة الحلوة واشترك مع المجلس في التصفيق لها والهتاف. فإذا تقرر ذلك وجب أن يكون حب الوطن قوة دافعة تبعث في النفس شعورا قويا خصيبا يولد المجهود والعمل والتضحية. وأنت تعلم أن الحب هو لب كل خير في هذه الأرض أو باعث كل شر وهو مخرج البطولة. أو محدث الفعال السقيمة النكراء ونحن إذا قصرنا الحب في حدود الجمود وشللنا أعضاؤه. وأرسلنا زمهرير النقرس يبرد سوقه فقد بددنا جوهره. وأزهقنا روحه. لأن طبيعة الحب النشاط والحركة والوثب والعدو. ولهذا كانت الوطنية خليقة بأن تكون وجدانا فعالا نشيطا خفيف الحركة منطلقة ركضا لا هوادة ولا فتور.

أفكار بليدة

أفكار بليدة لمفكر بليد في أوقات بليدة للكاتب الهزلي الأشهر جيروم ك. جيروم الذاكرة إني لأذكر أيام الربيع وقد ... رق النسيم وراق الماء وانسجما لقد نسيت الأبيات الباقية. وكل ما أذكره هو هذا المطلع من تلك القصيدة القديمة التي كانت أول محفوظاتي - كما أذكر أني كوفئت عليها بأربع بنسات أخذتها (نقوطا) من أفراد الأسرة والضيوف يوم العيد. والذي يؤكد لي أنمها كانت أربعة بنسات لا أقل ولا أكثر أنهم قالوا لي يومذاك (لو صبرت حتى جمعت إلى ما عندك بنسين آخرين لاكتمل لك ستة بنسات) وعلى الرغم من نصوع هذه الحجة الدامغة والبرهان القاطع لم أكترث ولم أحفل فلم تك إلا هنيهة حتى تبددت تلك الثروة في وجوه من التبذير لا أذكرها البتة. وتلك حال ذاكراتي. أجل تلك حال ذاكرتي وكل ذاكرة بشرية. فقبح الله الذاكرة من ملكة وقبح سوء أثرها ولؤم صنيعها. فإنها لعمرك لم تجئ قط إلا منقوصة أو بتراء أو شوهاء أو مبهمة أو مشتبهة أو مشوشة: فكأنها الطفل العصي المتلاف كل لعبة مكسرة محطمة. ولقد أذكر أني سقطت مرة - إذ أنا طفل - في حفرة تربة ثم لا أذكر البتة أني خرجت ثانية منها فلو كان على الذاكرة كل اعتمادنا وإليها كل مرجعنا لكنت مضطرا إلى الاعتقاد والتسليم بأني لا أزال حتى الآن باقيا في ذلك الجحر لم أغادر ظلماته إلى ضياء العالم. لعمرك ما الحياة الدنيا إذا رجعنا كرة الطرف في ماضيها سوى رسوم بالية. وأطلال عافية. وخرائب على عروشها خاوية. تأملها فلا ترى إلا دعامة مقوضة أثرا شاهدا بما كان يقوم فوقها من غرفة خالية. وشرفة عالية أو مصراع نافذة - دليلا ناطقا بما كان ثمة من خدر غانية. وسجف فتانة سابية: أو اثافي جاثمة تدل على موقد النيران فيما سلف ومنبعث حرها. ومنبت شررها. وفوق هذا تنبت الأعشاب خضراء صافية وتضفو ظلال النسيان زرقاء ضافية. لمن دمن تنزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم

تجافي البلى عنهن حتى كأنما ... لبسن على الأقوام ثوب نعيم والحقيقة أن كل متا يملأ الماضي من الأشياء والحوادث يبدو بهيجا في ناظر الوهم يفضل ما يكتنفه من ضباب القدم فيستر شينه. ويبدي زينه. فيا رعى الله الزمان دافن السيئات. وناشر الحسنات. ونافي الأتراح. وآسي الجراح. ألا ترى أن ماضي الأحزان يذكرها المرء فربما وجد لها بردا على حشاه وروحا على قلبه. فنحن إذا ذكرنا أيام الطفولة والحداثة تمثلت في ضمائرنا وكلها لهو ولعب. وقصف وطرب. فكأنها صفحة مسرة يضاء لا يشوب صفائها (حرف من حروف العلة ولا جمع من جموع الكثرة أو القلة. ولا قاعدة ملعونة من قواعد الإعراب ولا عروض قافية بأوتاد وأسباب.) بل كل ما نذكره هو النعيم غير المشوب. وراحة الضمائر وصفاء القلوب. وألذ ما نذكره ساعات الغرام. وعبثها بالنهي والأحلام. فيا عجب كيف لا يثوب إلى أذهاننا من ذلك العهد الغرامي سوى أرباحه ومغانمه. وقد سقط عن ذاكرتنا كل خسائره ومغارمه. فنسينا أو تناسينا الليلة الساهرة. والدمعة الهامرة. واللوعة الكاوية. والزفرة الحامية. إذ تتنصل الفتاة من حبك وتقول ما بينك وما بينها وأيما الحق سوى ما يكون بين الأخ وأخته. كأنك يا خليلي في حاجة إلى المزيد من الأخوة دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... ما لا يصنع الأخوان أجل إن الجانب النير والوجه المشرق هو الذي نراه حينما نستعرض صورة الماضي لا الجانب الأسود ولا الوجه المظلم. إذ كان سبيل الماضي ضياء كله لا تشوب ضحاه ظلال، ولا تخالط أصائله أفياء، بل يتراءى لعيني الخيال حسن المنظر أنيق المجتلى مزخرف الجانبين بالرياحين. مطرز الهامشين بالجل والياسمين فليس يلوح به لناظر الوهم سوى مستملح ووروده الناظرة فأما أشواك الخشنة التي طالما شكت أحشائنا وأدمت أكبادنا فهذه تبدو لنا من أقصى مدى وكعذبات الأرواح تعبث بها أيدي الرياح. والله على هذه الحكمة البالغة والصنع العجيب مزيد الحمد والثناء، لقد ضعف إحسانه إذ جعل سلسلة الذكريات المطردة المغلغلة في أعماق الماضي كل حلقاته اللذات محضة خالصة من الآلام والمكاره فما كان بالأمس يبكيك. فهو اليوم يضحكك ويلهيك. وتراه اليوم مشجاة ومأساة. ستراه غدا

تفكهة ومسلاة. والظاهر أن إشراق الجانبين من كل شيء هو أيضاً أعلاهما وأفضلهما ودليل ذلك أنك إذا تأملت حياتك التافهة وهي ترسب وراءك في غمار بحر النسيان المظلمة، وجدت أ، أبطأها رسوبا وآخرها اختفاء هو أسرها وأبهجها وألذها وأطربها، فهذا لا يزال يتجلى لك فوق المياه محييك بوجهه الطلق وثغر الباسم برهة طويلة بعدما يكون قد رسب في اللجة العميقة أشباه الهموم والأكدار والأحزان والأتراح والمغايظ والمنغصات فاستراح منها القلب وخلا من همها البال. ولعل هذا الضياء الوضاح والسنا اللماحرسلت روح الوحي الإلهي في أنحاء الإ منمكةوموةز مكنوكطوزوزمكنوكنمىبليةاتاىعهاغعاتىتن الذي يضاحكنا من ثنايا الماضي هو الذي يولع الشيوخ بالإكثار من إطراء العصر الغابر والعهد الخالي يوم كانوا شبابا وفتيانا وتفضيله على الأوقات الحاضرة. ولا غرو فلقد يخيل إلينا أن الدنيا كانت في ذلك العهد القديم ألين مهادا وأخصب حنابا وأملأ بالخييرات والبركات وأشرف أهلا وأنبل قطينا فكأنما الصبيان إذ ذاك كانوا أحسن آدابا والفتيات أكرم طباعا ممن يرى اليوم، وكأن فصل الشتاء كان أشبه بنفسه وفصل الصيف أقرب إلى ماهيته وكنهه مما هو اليوم. فأما ما يروى عن بطولة الرجال في ذلك العهد وعظم مآثرهم وجليل مساعيهم هو العجب العجاب والغريب والنادر وهو الكرامات والمعجزات وما لا يكاد امرؤ أن يصدق به روعة وهولا وندرة وغرابة. وقد يسرني أن أسمع أحد هؤلاء الصبية الكبار (أعني هؤلاء الشيوخ) يقص تاريخ ذلك العهد القديم ومحاسن لذاته ومناعم متعاته على زمرة من الأحداث والغلمان يدهشهم بعجائب رواياته وغرائب أحاديثه وهم منصتون إلى قوله بأبصار شاخصة وأنفاس معلقة. فليس بمستبعد عليه أن يحدثهم أن الشمس كانت في ذلك الزمان أبهى ضياء. وأبهر لألاء. وكان لهلال بدرا والأنهار تسيل أريا جنيا. والجداول تجري رحيقا شهيا. والأصيل يفيض على جوانب الأفق ذهبا نضارا. والقمر ينسج لعروس الطبيعة من خيوط لجينه معطفا وإزارا. وغن أعين السعادة كانت أبدا ملاحظة وأجفان الشقاء وسنة. والمحنة إحدى المستحيلات والعناء اسم بلا معنى.

ذلك شأن الناس في كل عصر ودأبهم في كل جيل. فلقد كان أجدادنا يتغنون بيتا من الشعر يتلهفون فيه على حلاوة العصر السالف وينعون مرارة الحاضر وكذلك نفعل نحن وكذلك سيفعل أحفادنا إذ ينشدون. ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في زمن كجلد الأجرب فوا حزنا! ألم تزل هذه صيحة الإنسانية المتوجعة منذ آدم. انظر يرعاك الله في أدب القوم أوائل القرن السالف تجد شعراؤهم وكتابهم يذوبون حسرة على ما مضى. لهفة على ذاك الزمان وهل ... يثني زمانا ماضيا لهف كذلك كان كتاب القرون السالفة لذلك، والعهد الذهبي والعهد الأليصاباتي والعصور الوسطى في كل شعب وأمة وكذلك كان قبلهم فصحاء العصور المجهولة المظلمة والعصور الجاهلية الخرافية. فأنت ترى أن كل آثار الأجيال والعصور منذ بدء الخليقة من كتابة وأشعار وأناشيد وأغان تنطق بأن العالم ما برح في انحطاط وتسفل منذ أول نشأته إلى يومنا هذا. ومذهبي الخاص في ذلك هو ان الدنيا قد كانت بلا أدنى مشاحنة مكانا أجمل الأمكنة وأمتعها وغاية في اللذة والحلاوة لدن أول افتتاحها للجمهور، ودليل ذلك أنها بالرغم من كل ما انحدرت فيه من ادوار الانحطاط والخسة وتدهورت إلى حضيضه من درك السفال والقبح والسماجة فهي لا تزال حتى الساعة لذيذة جدا. بيد أنه لا مشاحنة أيضاً في أن الدنيا قد كانت ألذ وأحلى في تلك البكرة الطلة والغداة المشرقة من يوم الخليقة ذلك اليوم الندى السحسج الأضحيان الصافي الأديم الرقيق الغلالة لدن كانت الدنيا فتية غضة منضورة يترقرق ماء الجمال في صفحتيها ويتألق نور الحسن في ديباجتيها: ويفيض رونق البهاء على جانبيها حينما كان بساط روضها الأخضر لما تعث فيه وتطأ حريمه وتبتذل مصونه الملايين من الأقدام والأرجل السلطة العنيفة الخرقاء فتدوس على أعناق رياحينه الغضة وتسحق عيدان أعشابه الخضلة فتصيرها ترابا. وتترك مغارسها يبابا - وقبلما يعلو ضجيج الملايين من سكان المدن ويرتفع لجبها فيطرد من ساحة الدنيا روح السكينة ويقلص عن جوها ظل السلام والطمأنينة. فما كان أجمل الحياة وأحسن العيش لأهل هذا الزمان الفتي. والأوان الشهي. والعيش العبقري. أخدان طفولة الدنيا وخلان حداثتها وجناة الحلو الجني من ثمر صباها الغض وشبابها الناظر - أجل ما

كان أملح الحياة لأولئك السذج الأبرياء آباء النوع البشري ذوي القدم السريعة الركاضة. والبردة الواسعة الفضفاضة. المسيرين لله جنبا لجنب تحت سرادق السماء الهائل. طوبى لهم في خيام تلثم ذراها أشعة السراج الوهاج بين أسراب ظباء الباغمة. وأبابيل الطير الناغمة. وأفواج الغيد الناعمة. وكانوا يتناولون حاجاتهم من كف الطبيعة الحدبة الشفيقة الدائمة. وكانوا يقضون الوقت حديثا وحواراز وتأملا وإدكارا. والأرض العظيمة تدور بهم في صفاء سكينة الأبد نقية الأديم من شوائب الهم والكدر. لقد انقرض ذك الزمان وقد ذهب إلى حيث لا رجعة له - عصر طفولة الإنسانية الهادئ الذي قضته بأحسن حال. وأنعم بال في أسحق أغوار الغابات وأعمق فجاحها الخفية وشعابها الغامضة على ضفاف النهر صرارة ومسايل هدارة وأمواه تصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني قد انقرضت تلك الأيام. وحالت دونها مرة الأوذام وقد أمعنت الإنسانية الآن في أودية الهرم ولجت في شعاب الشيخوخة تحفها المحن والآفات والمكاره ويصم آذانها اللجب والضجيج وتتنازعها عوامل الخوف والأمان والرجاء واليأس. لقد انقضى عهد السكينة والسلام. ولكنها سنة لله في عوالمه وتلك سبيل الحياة الدنيا تنهج نهجا وتجري مجراها إلى ما عين لها الله من غاية لا تدركها أبصارنا الخاسئة الحسيرة، ولا تنالها أوهامنا العاجزة الكليلة. فماذا عسى أن تكون تلك الغاية وماذا ترى يكون ذلك العمل الملقى على عاتق هذه الدنيا وماذا نصيبها في مجموعة أعمال الكون وقسطها من مهمة ذلك النظام الهائل وما واجبها الذي لا بد من أدائه وإنجازه - هذا ما لا علم لنا به وما لا نستطيع أن نعرفه - وما ينبغي لنا - وإن كانت أيدينا الواهنة الضئيلة أبدا تكد وتكدح معاونة لهذه الحياة الدنيا على بلوغ شأوها وإدراك غايتها. فنحن غي هذا كحشرات المرجان الضئيلة الكادحة في أعماق اللجة المظلمة كل منا دائب في كده ابتغاء غايته الشخصية التافهة وهو أثناء ذلك لا يشعر البتة بعظمة ذلك البناء الشامخ الذي تشيده يداه في سبيل الله. إلا ابتدعنا ن الماضي وذكرياته واطرد عن ساحة القلب بها من حسرة عليه. ونزعة إليه. وانف عن كنف الضمير كل ما يعلق به من حنين إلى جمال عهده المستطاب. وأنين على حلاوة ساعاته العذاب. وانظر إلى المستقبل فإنه همنا وغرضنا وفيه عملنا وواجبنا. فلا

تقعدن مستكينا عاجزا ترنو إلى الماضي كما لو كان هو البناء المشيد. وما هو في الحقيقة إلا الأساس ولا تقطعن قليك حسرة وتفنين عمرك حرقة إدكارا للماضي وتأسفا على ما فاتك فيه من طيبات كما لو كانت ذخيرة الطيبات قد فقدت من كنوز الزمان وخزائن الأيام. فلتعلمن أن وعاء الطبيعة لا يزال أملأ ما يكون بالمناعم والمطايب. ولا تزال يدها أجود ما تكون بالعوارف والمواهب. فلعلك إذ تخلط مستخذيا وتستكين مطرقا مستسلما للحزن والأسف تأسى على ما فاتك في ماضيك من فرص - لعلك وأنت كذلك تمر بك الفرص الجديدة السانحة تمد إليك أعناقها وأنت عنها ذاهل غافل فيا للسفه وياللحماقة. أمن أجل اللجاجة في البكاء على لذة فائتة تضيع علة نفسك لذة آتية. ومن تماد في أساك على نعمة ضائعة تحرم نفسك حلاوة الفوز بنعمة مؤاتية. ومن ابلغ الحكم الدالة على عبث التعلق بالماضي والتحرك على الفائت كلمة قرأتها ذات ليلة في بعض الأقاصيص الخرافية وها هي: كان في العصور الغابرة فارس شجاع وبطل مقدام جلد على النوائب جرئ على الأهوال هجام على كل موطن ناب ومقام صعب ومأزق ضنك. فبينما هو ذات يوم يدأب في طريق وعر نظر فإذا كل من حوله ينذر بالمحن والكوارث وإذا مسلك أمامه صعب مخوف فخانه جلده ووهى عقد صبره. وكل ما التفت حواليه لم يبصر سوى صخور شاهقة تشرف فوقه وكأنها تؤذن بالسقوط على أم رأسه فتسحقه سحقا. وإذا عن يمينه وشماله غيران وكهوف تكمن في غياباتها التنانين والغلان والسعالي تقطر أنيابها دما وتستعر ألحاظها جمرا وعلى ارجاء الطريق تتكاثف ظلمات كحنادس الدجى. فلما أبصر البطل من ذلك ما آده وكربه. وتكآده وحزبه. آثر أن يقف سيره ثم يلتمس طريقا آخر أقل صعوبة وأيسر خطبا على جواده. ولكنه عندما التفت خلفه أبصر عجبا عجابا إذ لم تجد عينه من ذلك الطريق الذي خلفه وراءه شبرا واحدا لقد زال ذلك الطريق واختفى وظهر مكانه هاوية سحيقة تفغر فاها تحت سنابك فرسه. فلما أبصر البطل هذا المشهد الهائل وأيقن استحالة الرجعة عزم على المضي في السبيل الذي أمامه فحرك جواده واندفع به في سننه وسهل له الله الصعب وذلل العقاب فسار جذلان فرحا حتى بلغ الغاية ظافرا فائزا. وكذلك ترى أنه لا رجعة للمرء فيما قد خلف وراءه من مراحل العمر ولا كرة له فيما قد

استدبره من مضمار العيش فإن جسر الحياة الواهي الذي نعبر عليه من المجهول إلى المجهول ينهار فيسقط في أعماق الأبد عقب كل خطوة نخطوها عليه. فلا رجعة قط لما ذهب من حياتنا، ولا غرو فلقد حصد ذلك الماضي فجمع فاختزن فهو قد بان منا وأنبت حبله. فما من من لفظة فهتها تستطيع استردادها إلى أصل مسقطها من لسانك. ومنبتها من جنانك. ولا خطوة تقدمتها تستطيع أن ترجعها. ولا نظرة ألقيتها تطيق أن تسترجعها. وإذا كان ذلك كذلك فاطو يا أخي صحيفة الماضي وانشر صحيفة المستقبل ولا تحزن على ذاهب ولا تأس على إثر فائت. وامض قدما في سبيلك لا تلو على شيء. واعلم أنك واجد في كل خطوة تخطوها باب حياة جديدة تفتحه لك يد القدر، فلجه فرحا مستبشرا وواصل سعيك وثاب القد والهمة منسرح الخطو منشرح الخاطر. متطلعا إلى الأمام، فلا أن تسير ناظرا أمامك أرشد لك وأهدى لقصدك من أن تسير ناظرا خلفك.

الجهل وخجلنا منه

الجهل وخجلنا منه وطرق إخفاؤه ليس في العالم شيء هو أشد ما يبعث الخجل فينا من أنفسنا ويشعرنا بالعار من اعتقادنا بجهلنا، مع أن جميعا جاهلون بأغلب الأشياء التي لا بد من العلم بها وإذا صح هذا أفليس عجيبا أن نخجل من ظهور غلطنا ونستحي من نقيصة هي عامة منطبقة على الجميع على أنا لم نكن لنخجل أو (لننكسف) لولا خوفنا من أن نصغر في أعين الناس ونضؤل في المجتمع، فإذا أظهر أحد الناس جهلنا باللغة الألمانية مثلا أو بقوانين لعبة البليارد أو البر يدج أو بأي موضوع آخر فنحن لا نحفل بكلامه ولا ببراهينه على أنا جهلاء ما دمنا على انفراد معه لا ثالث لنا. لأننا لا نستطيع أن ننكر كل شيء ونستمر على (بلع) جهلنا بلا خوف ولا خشية، وثانيا لأن لا ننعدم كلمة تتفق لنا معرفتها، ولا يعرفها محدثنا، أو كتاب نحبه ولم يكن قرأه، ونستطيع أن (نلخمه) به. ثم يمكن لنا أيضاً أن ندعي أن الموضوع الذي ظهر فيه جهلنا موضوع تافه لا أهمية له - أو موضوع خاص يتشدق بمعرفته الأدعياء، وأنه موضوع مركون في زوايا الإهمال لا يحفل به أحد. ونستطيع كذلك أن نرسل ضحكة طويلة عالية في وجه مخاطبنا ونقول له إنه حافظ له كلمتين وإنه لا يتخير ما يحفظه وإنه يجب أن يظهر معرفته ويخرجها في الهواء الطلق لتجفيفها من الرطوبة التي علقت بها من كثرة خزنها في ذهنه. أو نستطيع أن نهاجمه بالنكت والدعابات والسخريات حتى يغضب ويغلق باب الحديث وهلم جرا ولهذا لا ضرورة إلى الخجل ولا حاجة بنا إلى الإستحاء. ولكن ما العمل إذا حضر مجلسنا قوم آخرون. وتلك التي تصفر منها الأنامل. هذه مسألة أخرى. لأن الخجل من جهلنا لا يلبث أن يعلونا ويهزمنا هزيمة ملعونة. ولا يترك لنا وسيلة للدفاع عن أنفسنا. يل نصبح تحت رحمة الشخص الذي كشف الغطاء عن جهلنا الفاضح ولا يسعنا إلا الاعتراف بالجهل والرضا بالمعرة والخزي. ولكن لا تنسى أن كل هذا يتوقف على تقدير الناس الذين في المجلس لمعنى الجهل. ولا شك في أنه أظهر أحدنا جهله بركوب الخيل في نادي السباق مثلا فلا يكون نصيبه إلا الفضيحة. والعار الشنيع. وكذلك إذا كنت في مجلس بعض العمد والأعيان. في أحد البنادر

أو أحد القرى. إذا أنتم بعد العشاء في (الدوار) وأظهرت جهلك بالجرائد وما يكتب في الصحف. ومقاصد السياسة المحلية. فلا تصيب منهم إلا الاحتقار، ولا تخرج إلا مفضوحا مسخورا منك وإذا جلست يوما مع الفقراء فلا بد لك من أن تكون في ثوب نظيف. وتتكلم بعظمة وزهو ولطف كأن الثوب النظيف الذي عليك ملكك الخاص وشرائك بفلوسك. ولا بد لك من إظهار معرفتك بالذوات والأغنياء فلا تتكلم كلمة إلا ذكرت صاحبك الباشا الفلاني. وصديقك البك الفلاني. وهلم. واعلم أنك في مجالس الشبان وفتيان العصر. لا ينبغي أن تظهر جهلك بالشرور والشهوات على أنواعها. لأنك لا تصيب من إظهار جهدك إلا احتقارهم وزرايتهم بك، وإنه لخير لك أنك لم تولد ولم تخرج للدنيا من أن تظهر لهم شكك في فائدة الخمور أو جهلك بأساليب التغزل والمنادمة. وقد مات في العام الماضي رجل من شدة خجله وفضيحته لأنه لم يعرف اسم رئيس الجمهورية الحالي في فرنسا. وكثيرون نراهم جالسين في ركن القهوة أو زاوية الحان. في مسكنة وضؤولة لأنهم يخشون من الجلوس مع الفتيان فتظهر عورة جهلهم. ولا ريب في أن كثيرا من المعلومات التافهة الحقيرة الضئيلة التي لا معنى لها ولا قيمة. لا يستطيع الإنسان أن يستغني عن معرفته إذا أراد أن يعيش في المجتمع ويزج بنفسه في وسط الناس. على أنه لا ينبغي لنا أن نحاول تعلم كل شيء يراد معرفته. لأن هذا بالطبع مستحيل، ولا معرفة كل شيء معروف معلوم، لأن هذا يبعث الملل، ويضيق الأنفاس، وأنما علينا أن ندرس الوسائل التي نستطيع بها إخفاء جهلنا في المجالس والهروب بأنفسنا من الوقوع في الفضيحة والعار. وهذه الوسائل كثيرة ومتعددة وسهلة الإنفاذ، فأقواها بل أشدها خطرا هي إدعاء الغضب والخروج عن الطور والتشنج والصياح والتعجب كيف يكون في الدنيا مجانين مغفلون يحفلون بمعرفة هذه الأشياء التافهة البليدة. أقول - أقواها لأنها تثير في الحضور ذلك الإحساس الذي يجعل الصغار ضعفاء مستكينين ضئالا أمام ما هو أعظم منهم، وهي مع ذلك أشد الوسائل خطرا لأنها إذا لم تحدث تأثيرها المطلوب لا تغنيك عن الألم. وقد تؤدي بك إلى مشاجرة ملعونة وقد لا تصيب منها إلا البهدلة والضرب على أم ناصيتك. وقذف الكراسي في وجهك ولكن كثيرين من الناس يستحسنون هذه الوسيلة ويعمدون إلى

اتخاذها وهي في كثير من الأحيان تنتهي إلى النجاح. وتفعل مفعولها. وهناك وسائل أخرى أحسن من هذه. فواحدة منها أن ترد الهجمة بإظهار معرفة واسعة بموضوع مطلق يخالف الموضوع الذي يحاجك فيه مكلمك أو أن تذكر كتابا أو كتابين عارض صاحبه أو صاحباهما الفكرة التي يشرحها المخاطب وأظهر فسادها وضعفها وسخفها، وتخترع من أسماء الكتب التي لم توجد في العالم ما شئت. ولكن هذه الوسيلة تحتاج إلى المهارة وإلى وجه (تلم) وصدغ صفيق. فإذا تيسر لك كل ذلك فأنت ولا ريب الناجح الموفق. على أن هناك طريقة أخرى لإخفاء الجهل بلباقة وهي أن تتقهقر أما مخاطبك ببلاهة مدعيا أنك جاهل بكل الأشياء العادية الصرفة وزاعما أنك إنما كنت تعرف ما كان يقال أمامك. ولكنك أغفلت إظهار المعرفة استسخافا واستهزاءا بتفاهة ما قيل ولهذه الطريقة أسلوب هو عندي أبدع ما أتخذ من الطرق في الذود عن فضيحة الجهل وهي أن تظهر جهلا تاما بينا ساطعا بكل ما يذكر أمامك وتظل على إقفال فمك والاعتصام بالسكوت، والنظر في ثبات وهدوء وتحتال بكل الحيل على أن تظهر أن لديك مادة لا تنفذ من العلم الذي هو أرفع مما تسمع وأسمى مما يقال أمامك. وآخر وسيلة لإخفاء الجهل هي أن تحطم الأطباق التي فوق المائدة والصحاف التي فوق الخوان وتكسر الكرسي الذي كنت جالسا عليه وتشب النار في المنزل وتطلق النار على نفسك. أو أن لم تستطع فما عليك إلا أن تأخذ الفضيحة من جنبك وأنت تنظر. ولكن هذه طريقة الجبناء فقط ووسيلة الرعاديد والخوافين. وأما الرجل الشهم الشجاع الجريء فيخرج إلى الردهة ويعود وهو رافع هراوته ويصيح بالرجل الذي عرضه للفضيحة (أنت قصدت متعمدا أن تظهر جهلي أمام هؤلاء الجمع ولهذا سأضربك بهذه العصا حتى تشبع أمام هؤلاء جميعا). فإما أن تنفذ قولك فتنجح أو تأكلها أنت حتى تشبع وهذا كل ما أقوله عن الجهل وفضائحه.

المقتطف مجلة مصرية للمصريين

المقتطف مجلة مصرية للمصريين للمقتطف مكانة محترمة عند فريق كبير من قرائه ولأقواله قيمة خاصة لما يبدو عليها من دلائل الميل إلى التحقيق العلمي، لذلك كان عجيبا لدينا أن يصدر حكما قاطعا يتناول فيه أشرف وجوه الوطنية المصرية وبالتجريح ويردفه بأحكام أخرى تناقض ما اقتنع به المصريون بل وما اعترف به خصومهم الإنجليز، وهو يدلل على ذلك كله بعبارات سفسطية متفككة لم تسلم من التناقض ومنطق كمنطق العامة الذين لم يرق بهم التفكير إلى الوصول بين المقدمات والنتائج وتحقيق من وجوهها المتعددة. ورد في مقتطف شهر أغسطس في باب المسائل سؤالان بل ثلاثة ذات صبغة سياسية وجهها سائلها إلى أصحاب المجلة. ولا نخطأ إذا قلنا إن هذه الأسئلة الثلاثة هي عماد ما تقوم عليه القضية المصرية وإن من جار في الحكم على واحد منها فقد طعن المصريين في أشرف جانب من جوانب وطنيتهم وكفاءتهم وكرامتهم. كان سؤال السائل الأول (ما رأي المقتطف في السياسة الإنجليزية في مصر في الأربعين سنة الماضية هل أضرتها أم نفعتها) وكان السؤال الثاني (لمن ينسب فشل التعليم في هذا القطر وإتباع نظام الدراسة الحالي العقيم) والسؤال الثالث (إذا استقلت مصر استقلالا تاما أيمكنها أن تجاري اليابان في ارتقائها). ولقد كنا نود أن لا يخرج المقتطف عن دائرة علمياته اللا مرنة ليتورط في الإجابة عن هذه الأسئلة وأن يدع ذلك للمقطم الذي حذق سياسة الجانبين في هذه الأيام!! وما قصدنا الآن أن نتولى الإجابة على هذه الأسئلة التي تشمل تاريخ مصر المحزن في الأربعين سنة الماضية. ولكن نريد أن نبين كيف شرح المقتطف كل هذا التاريخ في خمسين سطرا! وكيف قرر أحكاما تضعها بكلام العلماء المحققين بإضاعة ثقة كان يحاول أن يكسبها في نفوس قرائه! وسنعرض الآن نماذج من إجابته على هذه الأسئلة دون أن نحاول التعليق عليها كثيرا وإن كنا سنخص ببعض العناية مسألة فشل التعليم في مصر. ـ 1ـ أما السؤال الأول الخاص بما جنته مصر من نفع أو ضر من السياسة الإنجليزية في الأربعين سنة الماضية فيظهر أن أصحاب المقتطف عند إجابتهم عليه لم يفطنوا إلى تعبير

السائل بكلمتي (السياسة الإنجليزية). وهو قول لا يقد منه الإصلاحات أو المشروعات ولكن عموميات السياسة في الإدارة والتشريع والتنفيذ. وفرق كبير بين أن نقول مثلا ماذا كانت سياسة التعليم في مصر وبين أن نقول ماذا كانت حالة التعليم وإن كان بعض الأمر عي ذلك يحمل بعضه. فسياسة التعليم في مصر في عهد الاحتلال شرحها اللورد كرومر بعبارة وجيزة شهيرة وهي أن المدارس مصانع لتخرج الكتبة للدواوين! كذلك كانت سياسة التعليم في مصر ترمي إلى القضاء على لغة البلاد وتجنب كل منحى في التعليم يسمو بالنفوس أو يربي الملكات أو ينعش روح الوطنية أو يعود حرية الفكر واستقلال الرأي. أما حالة التعليم في مصر فمن أسوأ الحالات، فمن مدارس محدودة العلوم والفنون إلى قلة عدد المعلمين الذين أخرجتهم إلينا السياسة الإنجليزية في أربعين سنة إلى مناهج سيئة الوضع والاختيار لا تحقق أماني المصريين في التعليم بل كانت سببا في إرباك العقول الناشئين وشل استعدادهم وعدم تهيئتهم للنجاح في الحياة العملية مما دعا مستر كاربنتر رئيس المفتيشين في وزارة المعارف إلى كتابة تقريره الشهير الذي هو وصمة المعارف عندنا والذي وصف فيه ما آلت إليه حالة التلاميذ السيئة من جراء مساوئ نظام التعليم. نعيد الكرة بعد هذا الشرح الذي شرحناه ونسائل أحاب المقتطف ما الذي جنته مصر من السياسة الإنجليزية على حريتنا رويدا رويدا وساب حقوقنا واحد بعد واحد؟ هل عملت السياسة الإنجليزية على تربية الشعب المصري تربية سياسية استقلالية وأعدته إعدادا أخلاقيا وعلميا فاق به حالته من قبل؟ ألم يكن لنا مجلس نيابي تام السلطة فألغته سنة 1883؟ ألم تسلخ السودان عنا وتجعله شركة الذئب والحمل بيننا وبينهم؟ ألم تتدخل في شؤوننا حتى سقطت وزارة فخري باشا بعد تشكيلها بأربعة وعشرين ساعة لأن اللورد كرومر لم يرضى عنها؟ ألم يقل اللورد جرانفل في برقيته الشهيرة أن على الوزراء المصريين أن يسمعوا كلمة المعتمد البريطاني أو يتركوا مناصبهم؟ ألم يستأثر الموظفون الإنجليز ومستشاروا الوزارات بكل السلطة في أعمال الإدارة والتشريع والتنفيذ حتى قال اللورد كرومر إن أصغر موظف إنجليزي له حق الطاعة على أكبر موظف مصري؟ وأخيرا ألم تحاول السياسة الإنجليزية أن تخمد روح الحرية وتطارد الحركة الوطنية بجميع الوسائل القهرية والاستثنائية من أمثال قانون المطبوعات وقوانين الصحافة والتجمهر و

الاتفاقات الحنائية؟ قد كان يغتفر لمثل المقتطف لو اقتصر في إجابته على السؤال بقوله مثلا أن الإنجليز نظموا المالية وأصلحوا فروع الإدارة وقاموا ببعض المشروعات المهمة ولو أن هذا يخالف منطق السؤال كما بينا، ولكنه أندفع مع أمياله وركب الشطط في إجابته على السؤال بقوله إن مصر المستقلة ما كانت لتستطيع أن تبلغ إلى ما بلغت إليه من التقدم الذي هو نعمة الاحتلال!! وكان أقصى ما وصلت إليه همته في التشييد بهذه النعمة مقابلته بين مصر وسوريا قبل عهد الاحتلال مباشرة أعني في إبان التخبط والارتباك الأخيرين. فمن نماذج براهينه قوله (لقد انتشرت المدارس. . وتعددت الجرائد. . وأصبحت حروف المطبعة الأميرية غير سقيمة!. . . وكان المقتطف يطبع على ورق من سورية!. . أيها المصريون. . . احدوا الله. . . فإن مصر لم تتقدم على سورية إلا لأن الإنجليز احتلوا مصر ولم يحتلوا سورية!!. . .) ولعله نسي أن يذك ردم الخليج!. . . وتوسيع ميداني المنشية وباب الحديد. وجنينة الأسماك!! إننا لا نجد غير كلمة واحدة نقولها للقوم وهي إننا فقدنا الاستقلال!! فإذا كان المقطميون لم يشعروا بما يشعر به قلب الوطنية المصرية إزاء هذا الحق المقدس، وقد غلبتهم المظاهر المادية من انتشار المدارس وكثرة المطابع والمتاجر فإن نذكرهم بالتاريخ الذي يدعون أنه خدامه، نذكرهم بعهد محمد علي وما وصلت إليه مصر في زمنه من الرقي العظيم الذي ما كان شيء يحول دون تقدمه المطرد لولا احتلال الإنجليز الذين ما كادوا يدخلون بلادنا حتى باعوا السفن ومحتويات مصانعها وأقفلوا معامل المدافع والأسلحة والضربخانة ومصانع الورق والمغازل والمناول!. وأغلقوا المدارس وألغوا المجانية منها! قال رزنر في كتابه مصر في عهد الاحتلال (في سنة 1883 ألغي 22 مدرسة تجهيزية من مدارس الحكومة وثلاث مدارس فنية ومدرسة المعلمين ومدرسة المساحة لأسباب اقتصادية). على أن المقابلة إن صحت بين بلدين فلا تصح بين مصر وسورية لاختلاف ما بينهما من الأحول المدنية، فقد كانت سورية ولاية تركية طالما قيل لنا أنها كانت تتأخر في كل يوم درجات بسبب مساوئ الحكم التركي بينما كانت مصر دولة مستقلة تضارع الدول

الأوروبية ولا يربطها بتركيا سوى السيادة الاسمية، وقد أغدق عليها محمد على مدينة ضلت نامية زاهرة إلى عهد إسماعيل. ـ 2ـ كان السؤال السائل الثاني لمن ينسب فشل التعليم في مصر؟ وكان في استطاعة المقتكف أن يقضي شهوة نفسه بقوله مثلا إن فشل التعليم في مصر راجع إلى الأهالي الذين لم يعتمدوا على أنفسهم في إنشاء المدارس الحرة والتبرع للجمعيات القائمة بالتعليم وإيفاد البعثات إلى أوروبا وغير ذلك. ولكنه عمد إلى جواب ينكره الواقع وينكره المصريون والإنجليز بل وينكره المقطم نفسه في كثير من وسائله التي كتبها عن التعليم وعن قلة عدد المتعلمين الذين يعتمدون على أنفسهم في الأعمال الحرة. وأقربها إلى ذاكرتنا ما كتبه على نظام الكلية الأمريكية في قسمها غير الحكومي. يقول المقتطف إن التعليم لم يفشل في مصر! ونقول له أن نسبة المتعلمين كانت في عهد إسماعيل 23 في المائة من عدد السكان على حين أنها كانت 3 في المائة في الرسيا و 10 في المائة في تركيا و 33 في المائة في إيطاليا. وكان عدد التلاميذ 140987 وعدد المدارس 4817 وكان في القاهرة وحدها ما يزيد عن 295 مدرسة بلغ عدد تلاميذها 10000 عدا طلبة الأزهر والمعاهد الأجنبية والمعاهد التابعة للأوقاف والمدارس الحربية (راجع صحيفة 225 من كتاب تاريخ مصر لوزارة المعارف تأليف سليم حسن وعمر الإسكندري). أما الآن فنسبة الطلبة إلى عدد السكان تبلغ 4، 5 في المائة ونسبة من يعرفون القراءة والكتابة 12 في المائة حسب الإحصاءات الرسمية. أما ع الطلبة الموجودين في المدارس فيبلغ 600000. ولكي ننصف الأهالي في أعمالها والحكومة في أعمالها فإنا نقول أن الكتاتيب التي أنشأتها الأمة إلى سنة 1915 بلغت 7454 أما الحكومة فتدير 142 كتابا! أما المدارس الابتدائية الحرة التي أنشأتها الأمة فتبلغ 943 مدرسة يتعلم فيها 108641 تلميذاً، في حين أن للحكومة 22 مدرسة عدد تلاميذها 6837 تلميذاً أي إن نسبة عدد من تعلمه الحكومة في مدارسها الابتدائية إلى عدد جميع التلاميذ كنسبة 17 في الألف وللأهالي 508 في الألف. أما في التعليم الثانوي فالحكومة لا تعلم سوى 6 في الألف والأهالي 12 في الألف وباقي الألف في درجات التعليم الأخرى (راجع في كل

ذلك كتاب التعليم العام لأمين باشا سامي). يقول المقتطف أن التعليم لم يفشل في مصر!! ويقول اللورد ملنر في تقريره (أن من أسباب الاستياء العام عدم النجاح في سياسة التعليم كما هو ظاهر جليا فأدى ذلك إلى تخرج عدد دائم الازدياد ولا حاجة إليه من طلاب الوظائف الحاملين شهادات الامتحان والخالين من تأثير التهذيب الحقيقي) ويقول أيضاً (ولكن يظهر هنا أيضاً أن الحال بقيت بلا سعي يذكر في تنقيح نظام وضع في ظروف استثنائية وبالا التفات إلى كون الأحوال المتغيرة تقتضي إتباع طرق جديدة. فالتعليم والتهذيب الذي أقبل عليه الناس إقبالا حقيقيا وجعلوا يلحون في طلبه لا يزال قاصرا جدا والسواد لأعظم من الأهالي أميا وليس ذلك فقط بل ولا يزال بلا تربية اجتماعية أو أدبية أيضا). ويقول السرفالنتين تشيرول مكاتب التيمس في مقالاته التي نشرها عن مص (إنها ذات نظام مرقع في التعليم سيء في وضعه وفي تنفيذه) ويقول المستر جون روبرتسون العضو بمجلس النواب الإنجليز (لقد مكثنا في مصر مدة ربع قرن فوصلنا بالمصريين إلى هذا الانحطاط في التعليم. . وكذلك كانت وصايتنا السياسية مقترنة في مصر بسياسة تأخير التعليم). ولكن المقتطف يقول إن التعليم لم يفشل في مصر والمقتطف أصدق!!. أما قول المقتطف إن التعليم لم يفشل في مصر لأن كل الذين يشار إليهم بالبنان درسوا على هذا النظام فهو كمن يقول إن حامض الفنيك غير مميت لأن طالبا تجرعه فلم يمت! وغاب عنه أن النجاح في مزاولة أعمال الحياة تابع لنضوج العقل واكتماله وتقوية الذهن بالتجارب والمشاهدات وإنماء الملكات التي لا تلبث أن تتغلب على مساوئ التعليم المدرسي كما تتغلب البنية الصحيحة السليمة على ما ينتاب الجسم من الأمراض والمكروبات أو تضعف عملها كثيرا. فالفضل لنجاح هؤلاء الذين يشار إليهم بالبنان ليس مرجعه إلى أساس الدراسة الحالي كما يقول المقتطف ولكن إلى جهادهم الشخصي في حث مواهبهم والانتفاع بما مارسوه واطلعوا عليه من التخلص من بذور سيئة بذرها أساس الدراسة الحالي. وأخيرا يقول المقتطف إننا لا نرى ما ننتقده غير عدم انقطاع أحد للبحث العلمي! فهنيئاً لمصر التي لا يرى المقتطف في نظام تعليمها ما ينتقده سوى عدم انقطاع أحد للبحث

العلمي!! ولكن ألا يرى المقتطف أن نقده هذا اعتراف بسيئة من سيئات التعليم وإشهار بجانب من جوانب إخفاقه؟! أليس التعليم الصحيح هو الذي يخرج رجالا يميلون إلى البحث والاطلاع وتضحية مص2الحهم لمنفعة أمتهم؟! ونسوق إليه في هذا المعنى كلمة لناظر مدرسة الحقوق سنة 1907 مسيو لامبير إذ يقول (منت عضوا في لجنة امتحان طلبة شهادة الدراسة الثانوية في القسم الأدبي فتحققت إذ ذاك أن درجة التعليم الثانوي في مصر لا تكاد تعادل درجة التعليم الابتدائي الفرنسي في الوقت الحاضر. فقد محوا طبقا لخطة موضوعة من برنامج التعليم الثانوي تلك الأنظمة التي من شأنها أن تكون قوة الحكم والتعقل وتنبه في ذهن الطالب حب الاطلاع والبحث وجعلوا محل ذلك في المكان الأول ما يحتاج إلى إجهاد الحافظة). ـ3ـ أما السؤال الثالث الخاص بإمكان مصر مجاراة اليابان في ارتقائها إذا استقلت استقلالا تاما، فقد أجاب عليه المقتطف إجابة غريبة قائلا إن ذلك لا يمكن لتفاوت عدد السكان بين البلدين تفاوتا هائلا ولكثرة المصالح الأجنبية هنا عن هناك وأخيرا لأن التعليم في اليابان عمومي إجباري وهذا غير مستطاع في مصر لأسباب كنا نود لو ذكرها لنستطيع التعليق عليها. ولكنا نعود فنذكره مرة أخرى بأن التقدم العظيم الذي أدركته مصر في عهد محمد علي في زمن وجيز كان وسكانها لا يزيدون عن المليونين وليس الغرض أن نقول أن مصر ستصبح بعد استقلالها مساوية لليابان في ارتقائها ولكن الغرض المقصود هو هل تستطيع مصر أن ترتقي بنسبة عدد سكانها ومواردها ارتقاء يتناسب مع ما بلغته اليابان في الخمسين سنة الأخيرة يوم بدأت تنقل الحضارة الأوربية إليها؟ ط. ر

الصالون الفرنسي والصالون الإنجليزي

الصالون الفرنسي والصالون الإنجليزي للكاتب النقادة الفرنسي الشهير (تين) أرى في فرنسا في أحد صالونات رجال الظرف والذكاء، أو في مكتبة أحد الفنيين، عشرين رجلا في بهجة وانشراح. وشعارهم طلب المسرة ومن أخلاقهم حب السرور. وإنك لتستطيع أن تحدثهم عم شرور العالم بشرط أن يكون ذلك بطريقة مسلية لذيذة! فإذا ساورك الغضب صعوقا وإذا أردت أن تلقي عليهم درسا تثاءبوا! اضحك - هذه هي القاعدة هنا، ولكن لا تضحك بقسوة وجفوة ظاهرة ولكن بلذة وسرور وروح خفيفة؟ وإن هذا الخلق الفكه النشيط ينبغي أن يظل في حركة، وإن اكتشاف نكتة أو ملحة جديدة لهو من أعظم الحوادث السعيدة! فإذ1اأردت مرضاتهم عليك بتقليدهم وإذا أردت مسرتهم فكن أنت مسرورا طربا. أما القاعدة الثانية فهي أن تكون متأدبا. وأنك تجلس مع رجال ظرفاء رقيقين مزهوين، ولا ينبغي أن تهينهم بل ينبغي أن تتملقهم. وإياك أ، تجرح عواطفهم بمحاولتك إقناعهم بطريق القوة أو الجدل الجاف، وإظهار الفصاحة والحدة. امنحهم شرف الظن بأنهم يفهمون قولك من أول كلمة وأن ابتسامة معنوية تقوم لديهم مقام قضية منطقية صحيحة، وأن لمحة سريعة من طرف خفي أبلغ من نقد طويل ممل. وأخيرا تذكر (والحديث بيني وبينك) إنه مضى عليهم ألف سنة وهم يحكمون حكما طيبا في السياسة والدين، وبعبارة أخرى يحكمون حكما زاد عن الحد. وإن الرجل الذي تضيق نفسه بأمر لا يود أن يستزيد منه. ولكنهم في أحيان كثيرة بمحض الرغبة في النقد يتعرضون لهذين الموضوعين، وتدفعهم الحماسة والانفعال والاستياء إلى التشنيع بالمجتمع عن طريق الحكومة والتشهير بالأخلاق عن طريق الدين! وإني لا أستطيع أن أوصيك في هذا المجال بإرضائهم. ولكني ألاحظ أمرا بسيطا، وهو أنه إذا أردت مسرته فلا ضرر من مزحة مشاغبة قاسية أو سخرية عارضة!!. والآن أعبر البحر عشرين ميلا واجد نفسي في صالة كبيرة نظيفة غير مزخرفة مملوءة بالمقاعد الكثيرة ومصابيح الغاز، بناد للمحاضرات أو منزل للعظات! هنا خمسمائة رجل بوجوه واجمة جامدة، وأن أول نظرة تلقيها عليهم لتكفى في معرفة أنهم لم يأتوا إلى هذا

المكان للسرور والتسلية! ففي هذه المملكة حالة جمود وجد سلبت الإحساسات معانيها الشريفة السريعة، وأذهان أقل سرعة وتنبها فقدت الحرارة والسرور. إذا مزحنا أو سخرنا أمامهم فعلينا أن نذكر أنا نخاطب أناسا يقظين مفكرين قادرين على الاحتفاظ بتأثرات عميقة مدة طويلة وغير قادرين على انفعالات متقلبة فجائية. هذه الوجوه الجامدة المزوية ستظل بلا حراك، فهم يقاومون كل ابتسامة خفيفة لم تكتمل، فإذا ضحكوا كانت ضحكاتهم تشنجات جافية كجمودهم. وإذا حدثت فلا تمر بالموضوع مرورا بلطف ولين بل أضربها في مقاتلها، واعلم أنه ينبغي لك أن تثير في نفوسهم أقصى عوامل الحماسة، وإن الصدمات العنيفة ضرورية لتحيك هذه الأعصاب الجامدة! كذلك لا تنس أنك تخاطب عقولا عملية محبة للمفيد النافع، وأنهم لم يأتوا إلى هذا المكان إلا ليستفيدوا وإن علينا إزاءهم دينا من الحقائق والمعلومات الثابتة، وإن أصالة عقولهم الضيقة قليلا لا تقبل أقوالا خبط عشواء بلا تحقيق أو أراء مشكوك فيها وأنهم يتطلبون تفنيدات وردودا مدعومة وأبحاثا مستوفاة، وأنهم إنما دفعوا نفوذهم ليسمعوا في هذا المكان نصيحة يتبعونها ليسمعوا في هذا المكان نصيحة يتبعونها أو نقدا مؤيدا بالحجة. فحالتهم النفسية تتطلب انفعالات شديدة، وعقولهم العملية تتطلب حقائق دقيقة. فلكي نرضى نفوسهم لا ينبغي أن نكتفي بخدش الرذيلة ولكن بتعذيبها، ولكي نرضي عقولهم لا نكتفي بالتشهير المبني على الهزل والدعابة ولكن على الإثبات والبرهان بقيت كلمة واحدة أخيرة: هناك، في وسط هذه الجماعة، انظر إلى ذلك الكتاب المذهب الفخم الموضوع بإجلال فوق وسادة حريرية، إنه الإنجيل. ويلتف حوله خمسون رجلا من رجال الأخلاق الذين كانوا منذ هنيهة في أحد المسارح يرمون أحد الممثلين بالتفاح لأنه متهم باتخاذه زوجة أحد الأهالي عشيقة له فإذا خطر لإنسان ما أن يمد يده إلى صفحة من صفحات الكتاب المقدس أو أن يتعرض لأصغر التقاليد الأخلاقية عندهم فإن خمسين يدا ستأخذ بخناقه وتقذفه إلى خارج القاعة!!

قصيدة غزلية

قصيدة غزلية للشاعر الألماني هنريخ هايني انتشرت ظلال الغروب كأيبة حزينة، والتطمت الأمواج بعنف، وأنا جالس فوق الصخرة أتأمل إلى رقص الماء الأبيض. فاهتاجني الحنين وشعرت بشوق عميق إليك، أنت أيتها الصورة العزيزة، التي تتبعني دائما، وتناديني دائما وأبدا في هزيم الريح، وهدير البحر، وتنهدات قلبي! أمسكت عودا رفيعا وكتبت فوق الرمال (أجنيس! أحبك!). ولكن الموج القاسي انحدر نحو الشاطئ. ومحا ذلك الاعتراف الجميل وطمس معالمه! أيها الغصن الواهي وأيتها الرمال السافية وأيتها الأمواج الطامسة الماحية، إني لا أثق بكن بعد! السماء تظلم وقلبي يخفق ويدي القوية تقتلع أعظم شجرات الصنوبر من غابات النرويج وتغمسها في فوهة بركان أطنر الجاحم المشتعل، وبذلك القلم الناري الهائل أخط على قبة السماء المظلمة (أجنيس! أحبك!). وكذلك تشرق حروفي النارية الخالدة في كل مساء في قبة السماء، تطالعها كل الأجيال القادمة، وتقرأ في جذل وحبور تلك الكلمات المرحة (أجنيس! أحبك!).

رواية تاجر البندقية

رواية تاجر البندقية تأليف وليم شاكسبير الفصل لأول المنظر الثالث البندقية مكان عمومي يدخل باسانيوو شيلوك شيلوك: ثلاثة آلاف دوكة - إيه باسانيو: أجل يا سيدي لمدة ثلاثة أشهر. شيلوك: لمدة ثلاثة أشهر - إيه. باسانيو: وسيقوم بضماني فيها انتونيو - كما أنبأتك. شيلوك: سيقوم بضمانتك انتونيو - إيه. باسانيو: فهل لك في إنجادي. وإسعافي وإسعادي. بإسداء هذه النعمة وإهداء هاتيك المكرمة؟ خبرني أأنت مجيب سؤالي وقاض حاجتي؟ شيلوك: ثلاثة آلاف دوكة لمدة ثلاثة أشهر والضامن انتونيو. باسانيو: جوابك على هذا. شيلوك: وانتونيو رجل ثقة. باسانيو: أسمعت عنه قط خلاف ذلك. شيلوك: لا، لا لا. إنما بقولي ثقة المركز المالي أعني هل عنده كفاء ما قد ضمنه، على أني أعلم أن ثروته مزعومة. وأمواله موهومة. فإحدى سفائنه تؤم طرابلس وأخرى تقصد جزر الهند وقد علمت من الغرفة التجارية أن له ثالثة بالمكسيك ورابعة تنتحي إنكلترا وكم له غير ذلك من بضائع قد بعثرها في أنحاء البحار. واستودعها صدر الجائش الزخار. واستحملها ذرى موجة وتيار. ولكن هل ترى السفائن إلا الواحا وهل النوتية إلا أجساما وأرواحا وإن هنالك لجرذانا برية وجرذانا بحرية ولصوصا بحرية ولصوصا برية - أعني قراصنة. ويجيء من بعد هذا أخطار الأمواه والرياح والصخور. على أن أرى الرجل مع هذا كله كفؤا لضمانة هذا القرض. ثلاثة آلاف دوكة، لا مانع عندي من قبول

ضمانته. باسانيو - ثق إنه لا مانع البتة. شيلوك - سأتوثق من ذلك. ولكي أستوثق منه سأتدبر الأمر مليا. أيمكنني مفاوضة انتونيو؟ باسانيو - أفلا تفضلت علينا بتناول الغداء معنا. شيلوك: ويحي! أشم لحم الخنزير وآكل من الحيوان الذي جعل نبيكم النصراني مسكنا للشيطان أحله فيه، لا بأس على أن أساومكم وأبايعكم وأحادثكم وأسايركم وهلم جرا. ولكني لن أواكلكم لا أشاربكم ولا أشهد الصلاة معكم ما أنباء الغرفة التجارية؟ من القادم؟ يدخل انتونيو باسانيو - هذا هو السنيور انتونيو شيلوك - (على انفراد) ما أشبه بحياة الخراج ذلة وانكسار إني لأمقته لأنه نصرانيا. ويزيدني مقتالة وحردا عليه أنه من بله وحماقة يقرض المال بلا فائدة فبهبط بذلك قيمة الأرباح في فينسيا. فلو أبدى لي القدر من مقاتله فأمكنني فيه الفرصة إذن لشقيت منه عليلا قديما. وأطفأت بالقصاص منه جمرة حقد أوقدت على كبدي حميما. تباله لشدة ما يمقت شعبنا المقدس: وكم تراه في أحشد مجامع التجار وأحفل نواديهم يهزأ بي ويسخر من مساوماتي ومن حلال مكسبي الذي يسميه ربا. فلعنة الله على أمتي وناسي إن غفرت له وعفوت عن. باسانيو - شيلوك أأنت منصت لي؟ شيلوك - إني أقدر ما لدى الآن من النقد واحسب أني لا أستطيع توا تقديم جملة الثلاثة الآلاف دوكة. ولكن لا بأس علينا من ذلك. فهذا (توبال) أحد أغنياء الطائفة يمدني بالمال. خبرني كم شهرا تريد القرض؟ (مخاطبا انتونيو) أسعد الله أوقاتك أيها السنيور إنك أخر من أجرينا ذكره على شفاهنا. انتونيو - شيلوك؟ إني وإن كنت لا أرابي أخذا ولا إعطاء لأخالفن مذهبي، قضاء حاجات لصاحبي قد نضجت وأدركت. (إلى باسانيو) ألم يعرف مقدار ما تبتغي؟. شيلوك - بلى بلى ثلاثة آلاف دوكة.

انتونيو - ولمدة ثلاثة أشهر. شيلوك - لقد نسيت هذا ثلاث أشهر كذلك خبرتني. هلم بنا لتحرير العقد ولكن خبرني عن أمر. ألم تقل أنك لا ترابي في معاملاتك لا أخذا ولا إعطاء. انتونيو - بلى. لا أصنع ذلك البتة. شيلوك - لما رعى يعقوب أغنام عمه لابان - وكان يعقوب هذا بفضل مساعي أمه الوارث الثالث من بعد أبينا المقدس إبراهيم - أجل كان الوارث الثالث ـ. انتونيو - وماذا كان من أمره هل كان يستحل الربا؟. شيلوك - لا لا. لم يستحل الربا. ليس ما كان يأخذه ربا بالضبط. انظر ماذا كان يعقوب يصنع حينما تعاقد مع عمه لابان. لقد تواطأ على أن يكون أجر إبراهيم كل ما كان من أولاد هذه الأغنام منقطا أرقط. وقد كان هذا سبيلا إلى النجح فبورك له وأفلح. وما أربح إلا خيرا وبركة إذا ناله الناس من حله لا من طريق السرقة. انتونيو - أن الذي بذل بذل فيه يعقوب جهده وكده كان من المخاطرات المعلقة على المقادير مما لاحيلة له فيه ولا هو في وسعه ومقدوره ولكن لله التدبير والتيسير. ولكنفيم ضربك هذا المثل وما غرضك من إيراده ههنا؟ وهل أجريت ذهبك وفضتك مجرى النعاج والخراف؟ شيلوك - لا أدري. غير أني استثمرها بأسرع مما تستثمر هذه الأنعم. ولكنالق بالك إلى أيها السنيور. انتونيو - أصغ يا باسانيو. لهذا الشيطان كيف يتمثل آيات الكتاب المقدس تأييدا لحجته. ولعمرك إن الشهادة المقدسة صادرة عن الروح الخبيثة لا من وميض الابتسام يتألق في صفحة الوغد الفاجر. وهو كالتفاحة ظاهرها حسن. وباطنها عفن. فسحقا للخداع ما أجمل مرآه. وأسوأ منطواه. شيلوك - ثلاثة آلاف دوكة. إنه لمبلغ جسيم. ثلاثة أشهر من إثنى عشر. ثم مسألة الأرباح. انتونيو - أي شيلوك. أتحسبنا ضمن غرمائك المدينين لك؟ شيلوك - أيها السنيور انتونيو. كم من مرة بالغرفة أوسعتني شتما من جراء أموالي واستثمارها فاحتملتها منك على مضض وصبرت على أذاها وكان احتمال الأذى شعار

أمتنا جمعاء. إنك لتنبذني بالألقاب تسميني كافرا وكلبا سفاحا سفاكا للدماء وتبصق على عباءتي وهي زي الملة الإسرائلية وكل ذلك من أجل تصرفي في مالي وملك يدي. والآن أصبحت بحاجة إلى معونتي ومددي. فأنت تجيئني فتقول (شيلوك. أنا بحاجة إلى المال) تقول هذا أنت الذي كنت تبصق على لحيتي وتركلني برجلك كما تركل الكلب الشارد على عتبة دارك. الآن أصبح المال حاجتك. والذهب بغيتك. فماذا ينبغي أن أقول لك الساعة؟ أما ينبغي أن أجيبك بقولي (أيكون للكلب مال؟ أيستطيع الكلب أن يقرض ثلاثة آلاف دوكة؟ أم أجثو لك خاضعا. وأركع خاشعا. وبلهجة العبد الرقيق وهمسة الأسير الذليل أقول لك بصوت غضيض ونفس قطيع). (سيدي الكريم. لقد بصقت علي يوم الأربعاء وركلتني يوم كذا. ودعوتني كلبا مرة أخرى ومن أجل هذه الحفاوات أقرضك هذا القدر من المال). انتونيو - وما أجدرني أن أعيد عليك الكرة الآن فأبصق عليك ثانية وأرفسك بقدمي أيضا، إلا فاعلمن إن كنت مقرضي هذا المال إنك لن تقرضه إلى صديق ومتى كان من شيمة الصديق أن يأخذ من صديقه ثمرة ونتيجة على المعدن الذي هو في ذاته عقيم غير منتج ولكن أقرضنيه على أني عدوك الذي إن أخلف معك ميعاده كنت حريا أن تنفذ عليه الجزاء بجراءة. شيلوك - رويدك. وسكن ثائرة غضبك فتالله ما أبغي سوى مصافاتك ونيل ودادك وإني لصافح عما لوثت به صحيفتي من المطاعن وقاض كل حاجاتك ثم لا آخذ منك فلسا واحدا على ما أقرضك: أفلا يرضيك هذا وما أخاله إلا دليلا على المودة والمبرة. باسانيو - ما أبر ذلك لو تم. شيلوك - لأصنعن هذه المبرة. اذهب معي إلى كاتب عقود فوقع لديه على صك القرض. ولنحرر به - على سبيل المزاح والفكاهة - صيغة العقد الآتية وهي أنك إذا عجزت أن تدفع لي في يوم كذا بمكان كذا مبلغ كذا المنصوص عنه في العقد كان جزاؤك أن أقتطع من صميم لحمك رطلا أنتقيه من أي موضع في جسدك. انتونيو - قد رضيت ذلك. فأنا أوقع على مثل هذا العقد وأشهد أن اليهودي على جانب

عظيم من البر والمروءة. باسانيو - لن توقع على مثل هذا العقد من أجلي. فلخير لي من ذلك أن أصبر على عوزي وضائقتي. انتونيو - عجبا لك! ماذا تخشى أيها الرجل! ما احسب الأمر واصلا بي إلى أن أخسر هذا القدر من لحمي في ظرف شهرين أي قبل حلول ميعاد العقد بشهر أنتظر أن يرد على تسعة أمثال هذا القرض. شيلوك - يالأبناء إبراهيم من هؤلاء النصارى الذين قد أصبحوا لشدة قسوتهم يتهمون الغير بسوء النية! فبالله عليك خبرني إذا خلف السيد ميعاده ماذا يجدي على تقاضي هذه الغرامة! وإن رطلا من لحم آدمي لأقل طيبا وارخص قيمة من رطل من لحم الضأن أو العجول أو الماعز. إني أبذل له صداقتي ابتغاء مرضاته فإن قبلها فذلك ما نبتغي وإلا فسلام عليكما. وعساه مقلعا عن إساءتي جزاء ما عرضت عليه الآن من صداقتي. انتونيو - أجل يا شيلوك سأوقع لك على هذا العقد. شيلوك - لاقني إذن لدى كاتب العقود واشرح له أمر هذا العقد الفكاهي وسأذهب لاستحضار المبلغ توا وأتفقد داري التي تركتها في عهدة حارس غير مأمون وفاجر مبذر. وسأوافيك بعد قليل. انتونيو - اذهب أيها اليهودي الكريم. يخرج شيلوك كأني باليهودي يهم أن يتنصر: ألا تراه قد رقى ولان؟ باسانيو - لا أرتضي الشوط الهينة تصدر عن ضمير غادر فاجر. انتونيو - هلم بنا فلا ضير علينا في ذلك الشأن. فسترد سفائني لشهر قبل حلول الأوان. (يخرجان) الفصل الثاني النظر الأول بلدة بلمون. غرفة في قصر بورشيا صدح أبواق. يدخل أمير مراكش وحاشيته.

ثم بورشيا ونيريسا وغيرها من أتباع بورشيا. أمير مراكش: لا تصدنك عني سمرتي فما هي إلا الحلة الدكناء. خلعتها عليّ الشمس المشرقة التي في جوارها نشئت وفي كنفها ربيت. إلا فأحضري من ترينه أنصع الفتيان بياضاً من أهل الشمال حيث لا تكاد الشمس تصهر حبات البرد ودعي كلاً منا يطعن نفسه في حبك ليبين لك أينا أفتى دماً وأشد احمراراً. فلتعلمن أيها السيدة أن طلعتي هذه كم أفزعت من فارس باسل. وأقسم بحياتي أن هذه الطلعة قد أعجبت - مع ذلك - الخرد الغيد من عذارى بلادنا. وتالله ما كنت لأستبدل بلوني هذا خلافه إلا إذا جعلت ذلك سبيلا إلى استمالتك يا مليكتي الحسناء. بورشيا - أنا في أمر الاختيار لا أتابع دليل ناظر الفتاة المميز المتبصر. ولا أطاوع نصيح فكرها المتأمل المتدبر. ولكن ما تقيد به مستقبلي من أغلال تلك القرعة قد حرمني حرية الاختيار فلو أن أبي لم يدبر لي من أمر هذه القرعة ما قد شل إرادتي. وغل مشيئتي. وقضى أن لا أهب نفسي زوجة إلا لمن ينالني بتلك الطريقة التي أنبأتك - إذن لكان نصيبك من مودتي أيها الأمير الجليل كنصيب كل من سبقك من خطابي. وأملك في حيازتي كآمال جميع من تقدمك من طلابي. أمير مراكش - إني لأشكرك حتى على هذا. فسيري بي إلى الجون لأجرب حظي عناك وأقسم بهذا الصارم الذي ذبح شاه العجم وأميراً فارسياً وهزم الملك سليمان في ثلاث مواقع لأبهن بلهيب ألحاظي المتقدة أقسى العيون نظرات. وألفحها جمرات. ولقهرن ببسالتي أشد القلوب إقداماً. وأذكاها ضراماً. ولأختطفن جراء الدب الراضعة من أحضان أمهاتها بل لأسخرن من الليث حين يزأر قرماً إلى الفريسة - لأفعلن كل هذا تزلفاً إليك والتماساً لودادك. ولكن ما أسوأ الظروف؟ فوالله لو تلاعب هرقل (أقوى الأقوياء) وخادمه ليكاس بفصوص النرد لينظرا حسب حكمهما أيهما خير من صاحبه لربما انحاز الظفر إلى جانب أضعف الاثنين. وصدر السهم الفائز عن يد أوهن الرجلين كذلك غلب السيد يس خادمه. وكذلك يحتمل أن يكون مآلي إذا أسلم الحظ الأعمى مقادتي فأخطئ ما قد يصيبه من هو دوني فأموت كمداً. بورشيا - لابد أن تتبصر في أمرك وتتروى فإنك في هذا الشأن بالخيار فإما أن تدع هذه

البتة أو تحلف لي قبل الاقتراع أنك إذا أخطأت المرمى لن تفاتح بعدها امرأة في شأن الزواج آخر الأبد، وها قد نصحتك فلنتصح. أمير مراكش - سأفعل. هلم بي أنظر حظي. بورشيا - امض بنا قبل ذلك إلى المعبد. أما القرعة فستكون بعد الغداء. أمير مراكش - فليسعد الطالع. ولينعش الجد. فعلى حظي اليوم مدار شأني ومآل أمري فإما أن أغدو أسعد العالمين. أو أشقى الناس أجمعين. صدح أبواق. يخرجون.

الفتنة في الهند

الفتنة في الهند غاندي والثورة السلبية يطالع القراء في الجريدة اليومية أخبار القلاقل التي حدثت في إقليم ملابار الذي تقطنه قبائل الوبلاه. ولعل قليلا من القراء من يعرف شيئاً عن حقيقة هذه القلائل وعن أعمال الزعيم غاندي الذي ينسبون إليه كل حركة في الهند، وقد رأينا أن نفصل ذلك مبتدئين بوصف قبائل الموبلاه نقلا عن نبذة كتبها في جريدة التيمس السر ريس العضو في مجلس النواب: (الموبلاه قوم مسلمون من نسل تجار العرب الذين نزحوا إلى ساحل ملابار وتزوجوا من الهندوس وأشربوا عاداتهم، ويبلغ عددهم مليوناً ونصف مليون يشتغل أكثرهم بالزراعة ولهم رئيس ديني يقيم في بلدة تيرو انجادى، وهم سنيون شديدو التعصب، يحرمون شرب الخمر تحريماً قاطعاً، وقد أثاروا منذ سنة 1858 نحو 38 اضطراباً، وكان أغلبها بسبب الأمور الزراعية). أما الفتنة الأخيرة فقد تضاربت الأنباء البرقية في نقل أسبابها عند أول حدوثها، فقالوا أنها بسبب محاكمة زعماء الهنود، ثم نسبوها إلى حركة المقاطعة والتحدي التي يقوم بها غاندي وأنصاره، ثم قالوا إنها ضد الحكم الإجليزي ومطالبة بالحرية، وأخيراً استقر بهم الأمر عند نسبتها إلى هياج خواطر الهنود من جراء القلق على مصير الخلافة ونيت بريطانيا نحو تركيا ومساعدتها لليونان في حرب الأناضول، وقالوا إن الثائرين حملوا الأعلام الخضر!! وعندها إن السياسة الإنجليزية استحسنت الوقوف عند هذا السبب الأخير وجعله هو الباعث الوحيد على قلاقل الهنود، مفضلة أن تكون الفتنة موصوفة بأنها حركة دينية للعطف على تركيا أكثر منها حركة سياسية موجهة إلى الحكم الإنجليزي. والمطالبة بالحقوق القومية. وأمامنا مثل من تاريخنا القريب أيم كان الإنجليز يحاولون عبثاً أن يغيروا من صبغة حركتنا الوطنية سنة 1919 فقالوا إنها هياج ديني من العامة الذين أقلقهم انكسار تركيا ومصير الخلافة. . . ثم زعموا أنها حركة مدبرة من جمعية الإتحاد الترقي وأن للألمان والبلشفيين أصبعا فيها. . . . ثم قالوا بل هي حركة ضد الحماية الإنجليزية ومطالبة بالحكم الذاتي!. . . .

ولكن الإنكليز لم يفلحوا في تشويه الغرض الحقيقي من حركتنا في المطالبة بالاستقلال كما أفلحوا الآن في حمل الناس على الاعتقاد بأن حركة الموبلاه حركة دينية فحسب!. والآن ننتهي إلى وصف الزعيم غاندي وشرح مذهبه ليتبين مبلغ تأثير هذا الزعيم ومذهبه في حدوث الفتنة الحالية. لا حاجة بنا إلى القول أن غاندي أكبر الزعماء الآن في الهند وأن شخصيته العظيمة تجبر كل من أقترب منه على الاعتراف بها. وكفى تأيداً لمكانة هذا الزعيم ما ورد في البرقيات من دعوته محمد علي لزيارة ملابار الموبلاه، وقد قابله حاكم الهند العام وطلب منه أن ينصح زعماء الثورة بالهدوء وإلا عرضوا أنفسهم للمحكمة. وبلغ غاندي مكانته هذه في الهند بقوة خلقه ومتانة عقيدته وإيمانه بأن القوة الروحية تقهر القوة المادية إذا اشتبكتا معا. وقد سجن مراراً واحتمل شظف العيش وضنكه دون أن يفل ذلك من عزيمته. وهو يقول إن احتمال الألم والصبر على المكاره وقهر النفس هي التي ستنقذ الهند من الحكم الأجنبي وهو ينادي بأن المقاومة السلبية قوة لا تغلب وإنها صائرة بالإنجليز إلى الخروج من الهند. ونتج من هذه الدعوة إلى المقومة السلبية حركة مقاطعة لكل ما هو إنكليزي، حتى لقد اجتمعت الآلاف من الهنود في مدينة بومباي تحت زعامة غاندي وأخذوا يحرقون أكواما هائلة من الثياب المصنوعة في إنجلترا إعلانا عن عزمهم على مقاطعة المنسوجات الإنجليزية التي تبلغ ما تستورده الهند منها سنويا نحو 400 مليون جنيه كما تقول التيمس كذلك أخرج الهنود أولادهم من مدارس الحكومة وأدخلوهم مدارس أهلية أنشأها أنصار غاندي لنشر العلم الخالي من مساوئ المدنية الغربية. ويعرف أنصار غاندي في الهند بتقشفهم وقلنسوتهم المخصوصة وثيابهم الخشنة المصنوعة في مغازل بلادهم أو بواسطة الأنوال اليدوية. ولا ريب أن فكرة المقاطعة هذه لكل ما هو إنجليزي أنبتت في نفس الهندي شيئا من الإزدراء بالإنجليز والاستخفاف بهم، حتى قال الحاكم العام في تقريره (إن الهنود أصبحوا يحتقرون السلطة الشرعية). وقد كتب أحد الصحفيين الهنود نبذة عن غاندي ومذهبه في صحيفته التي تصدر في بوماي قال فيها: (يوجد في هذا العصر ثلاثة رجال قد أضافوا رواء جديدا لعبقريتنا، وأروا العالم مقياسا من البنية التي يمكن أن تصل إليها الرجولة الهندية. هؤلاء ثلاثة هم تاجور في الأدب، وبوز في العلوم، وغاندي في الأعمال العامة. يقول بيرك (إن مبادئ السياسة هي مبادئ

الأخلاق بشكل أكبر) وهذا عينه مبدأ غاندي إذ يقول (إن السياسة ليس لعبة، إن هي إلا نشر الفضائل المنزلية ووسيلة لتجديد الروح). ويرى غاندي أنكل شيء ترخص تضحيته لنصرة الحق وإن الانحياز إلى الخطأ إثم وشر. وليس في الهند داع يمثل القوة الروحية أكبر من غاندي. وقد هز غاندي بلاد الهند هزة عنيفة وأيقظها من سبات الغفلة والتخدير التي كانت فيه. ولكن ألا يخشى أن يكون غاندي قد أخطأ الطريق؟ وإن جهودنا هذه تصرف عبثا وتضيع سدى؟ ولكن لا فإن حركة التقدم هي روح للجهاد ولست بيائس لأني أعتقد أن روح غاندي الكبيرة أعظم من مذهبه، وإن شخصيته أكبر من عقيدته، قد يكون مذهبه الجديد جافا، فاترا، خائبا، وقد تكون فلسفته غامضة غير مؤسسة، وقد تكون سياسته خطيرة، ولكن أخلاقه صريحة وأقواله متوافقة مع أعماله). وقد كتبت مجلة النيشن فصلا في هذا الموضوع نلخص منه مايلي: (إن بعد الهند عنا وعن مدينتنا لم يمنع من ظهور رجل عظيم كغاندي، فهو في الهند بمثابة تولستوي في الروسيا، شخصية يتجسم فيها الإلهام الروحاني الخاص بأبناء جنسه. ولعل هناك شبها في الظاهر بين الاساليب التي يتخذها غاندي للحصول على السوارج (الاستقلال) وبين ما كان بفعله الشن فين قديما، فهو يعلن مقاطعة الإنجليز وعدم معاملة جميع عمال الحكومة وعلى الأخص يمتنع هو وأنصاره عن الانتخاب. . . . وهناك وجه لآخر مزعج في الحركة الهندية وهو انضمام رابندراناث تاجور إليها بعد أن رد رتبة الفروسية التي منحتها له حكومة إنجلتلرا احتجاجا منه على فظائعنا في البنجاب. وتاجور هو الشاعر الهندي العظيم الذي كشف للغرب عن أفكار الشرق وصور إبداع تصوير روحانية الهنود وآلامهم وأمالهم في التحرير وتوجههم بقلوبهم إلى اللنهاية! ولا يرى تاجور رأى غاندي في سياسة المقاطعة وعدم التعاون بل هو يريد أن يستعين الشرق بالعلم الغربي والمدنية الغربية لإدراك اللانهاية باقوة الروحانية دون أن يغمر نفسه في الماديات التي تفقده بصيرة الإلهام الشرقية).

متفرقات

متفرقات في عالم السينما الألوان الطبيعية ما من شعب راق إلا ويقدر السينما حق قدره ويعرف أنه من أهم العوامل في تقدم المدنية وانتشارها. فترى مموليهم يكونون له الشركات الهائلة وينفقون في سبيله الأموال الطائلة. ونلاحظ أن مفكريهم ومخترعيهم لا يألون جهدا في ترقيته وادخال التحسينات عليه ما وجدوا إلى ذلك سبيلا حتى بلغوا به درجة عظمو من الإتقان والإحكام. وأكبر دليل على أنهم لا يزالون يعملون على إبلاغه حد الكمال إن أمكنهم بعد طول البحث ودقة التجارب أن يخترعوا آلة مصورة تنقل المناظر والأشخاص بألوانها الطبيعية بلا مسخ ولا تشويه وعما قليل يتم هذا الاختراع العجيب وتنشر أشرطته (الفلم) في أرجاء المعمورة. لقد دلت الصورة التي أخذت بواسطة الآلة الجديدة على أن هذه الطريقة كفيلة بإخراج الروايات التمثيلية في منتهى الإتقان. وقد أخذت كثيرات من هذه الصور باستخدام الضوء الكهربائي فكان ذلك خطوة واسع في سبيل التقدم المنشود إذ لم يكن بالمستطاع إلى وقتنا هذا أن تؤخذ صورة ملونة مرضية بغير الضوء الطبيعي. . فإذا تم لأولئك المخترعين ما يطلبون. وبلغوا ما يرمون إليه وظهرت الأشخاص والأشياء بألوانها الطبيعية فسيحدث ذلك ولا شك انقلابا كليا في عالم السينما. الطب والسينما ومن ناحية أخرى. تمكن ألماني من اختراع جهاز سينما توغرافي خاص. وصرح أثناء عرضه له بأنه ذو فائدة كبرى للجراحين وطلاب الطب. وهو جهاز كروي الشكل يعلق في سقف المكان ويدار من الأسفل فيصور دقائق العمليات كبير كانت أم صغيرة. وأخذت بواسطة (أفلام) بتر وقطع الزائدة الدودية وفتح الخراريج وخياطة الجلد، وغير ذلك. ولقد صادفت هذه الفكرة من القبول إلى حد أن الحكومة الألمانية تفكر الآن في عمل دار سينما توغرافية في برلين وإدخال هذه الطريقة في مدرسة شارلو تنبرج العليا.

الألمان والطيران ما كاد يصرح للألمان بحرية الانتقال والعمل حتى شرعوا على الفور ويظهرون للعالم همتهم المعروفة وكفاءتهم المعهودة. وضمن مشروعات الهامة التي يقومون بها الآن، إنشاء طريق هوائي ما بين برلين ولندن مارا بهامبرج. وبهذه الطريقة يتسنى لأصحاب الأعمال أن يغادروا برلين في الساعة السابعة وربع صباحا، فيصلوا لندن في مساء اليوم ذاته. أطول الأعمار أثبتت لنا الأيام أن كثيرا من الناس يبلغون القرن والقرن. والنصف قرن. ولا يزال بين ظهر أنينا ذلك الشيخ الذي يقطن (ببركة الفيل) ويبيع الفجل فقد نيف على المائة والعشرين. وقد توفي منذ عهد قريب وطني بلغ المائة والثلاثين. وكان تاجرا. وقد تعهد شؤون متجره في نجاح مستمر وتقدم مطرد إلى ما قبل وفاته بعامين أو ثلاث على الأكثر. وقد كان حاضر الذهن كامل الإدراك إلى آخر سنة من حياته. وكنت إذا ذكرت له الثورة العرابية مثلا يلقبها (بحادثة البارحة) لقرب عهدها بالنسبة لما مر به من الحوادث. وقد يكون أمر هذين الرجلين أقل عجبا من أمر رجل إنجليزي اسمه توماس بار ولد عام 1483 وكان يشتغل بالفلاحة وزراعة الأرض. وزاول هذه المهنة إلى أن نيف على المائة والثلاثين. ولما كان عمره 120 سنة تزوج للمرة الثانية. وأنتج ذرية وهو في سنه هذه وكان يقوم بأعباء عائلته خير قيام. فلما بلغ 152 عاما أدخله إيرل أرندل بلاط شارل الأول ليرى الملك ذلك الرجل العجيب. ولكن الهواء المحدد ونمط العيشة الذي لم يألفه أثر على صحته فقضى نحبه. رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته، ومن تخطأ يعمر فيهرم المستشفى الطائر اخترعت منذ أيام قلائل فرنسا طائفة من هذه المستشفيات المحلقة في الفضاء لاستخدامها في المستعمرات. وقد جارت فرنسا الحكومة الإنجليزية فتقبلت وزارة الطيران في لندن

طيارة جديدة هي أشبه شيء بمستشفى يحلق في الجواء. وهي من نوع (البيبلان) طراز فيكرز فيمي تسير بمحركين اثنين وتجري بقوة أربعمائة وخمسين حصانا وتستطيع أن تحمل قبطانها ومهندسها وطبيبا وثمانية جرحى وممرضا ويبلغ عرضها ما بين الأجنحة عشرين مترا ونصف متر وطولها ثلاثة عشر من الأمتار. وقد حوت الطيارة جميع مستلزمات الراحة للجرحى. وفي داخل الطيارة حجرة لا تكاد تفترق في شيء عن الحجرات المعدة للجراحة في أكبر مستشفيات الأرض، وجرحى ينامون فوق أسرة مرتبة على نسق السيارات ولما كانت هذه الطيارات ستستخدم في المستعمرات لحمل الجرحى إلى جهات بعيدة فقد عنوا العناية الكبرى بأمر تهوية الطائرة وحجز الهواء الصالح لها. وقد أعدوا فيها من الآلات الجراحية ومستلزمات التطبيب ومطالبه. ما سهل على الطبيب أمر العناية بجرحاه. وقد وضعوا على سطح الطيارة خزانا للمياه ليكون محتجزا لحوض المغسل لأجل مطالب النظافة والاستحمام ولم يغفلوا وضع عدة للتلغراف اللاسلكي وهذه الطيارات تطير بسرعة 175 مترا في الساعة. شيء عن الحيوانات قرون االوعل لا تزل قرون الوعل من غوامض أسرار الطبيعة. فكل تلك الكتلة العظيمة الهائلة التي هي في كثير من الأحوال أثقل وزنا من هيكل الإنسان العظمي، تبلغ كما نمائها في مدى شهرين أو ثلاثة أشهر ثم لا تلبث أن تنكسر في فصل الربيع حيث يكثر تناطح الوعول لتنافسهم في السعي وراء الإناث منها. وإن أنت رأيت في فصل الربيع وعلا بالغا، فإنك لا تجد قرنيه الكبيرين المتشعبين. بل تلقى مكانهما جزأين بارزين قد غطاهما الشعر. وبعد أسابيع قلائل ينبت له قرنان قصيران يكونان في بادئ أمرهما مكسوين بشعر ناعم وما هو إلا شهران أو ما يقرب من ذلك حتى يعلو رأس الوعل تاجه الضخم. ولا يزال على رأسه طوال الصيف وأوائل الخريف ثم ينكسر كما أسلفنا. فنماء هذه الكتلة العظمية الجسيمة بهذه السرعة المدهشة لا يزال من ألغاز الطبيعة وأسرارها.

لا يمكنك أن تخدع نملة قد أوتيت الحشرات وبعض الحيوانات أعضاء خاصة يلقبها الناس بالحساسات وإنها لحاسة سادسة غريبة تعوزنا نحن معشر البشر - فلا هي بالسمع ولا بالبصر ولا بالشم ولو أنها تقرب بعض الشيء من حاسة اللمس. فبهذه الحاسة يمكن للنملة أن تميز بين أصدقائها وأعدائها فإذا أنت صبغت مثلا أو دهنتها بمادة فغيرت رائحتها فعبثا تحاول أن تخدع نملة أخرى من إدراك حقيقة بنت جنسها. معلومات صغيرة يبلغ وزن أحجار الهرم الأكبر 7000، 000 طن وهي تكفي لبناء مدينة بها 22000 منزل معتاد. أذا أردت أن تمحو أثر العرق من الملابس، فضع عليه قليلا من عصير الليمون والملح قبل أن تغمرها بالماء والصابون. لا تغسل الأوعية الزجاجية من أثر اللبن، بالماء الساخن مباشرة بل استعمل الماء البارد أولا. لأن الحرارة تسبب عشاوة يصعب إزالتها. في اليابان تباع الملابس بالوزن لا بالقطع كما هو المعتاد. يصب في بحر البلطيق نحو مائتي نهر. لأهل فارس اسم خاص لكل يوم من أيام الشهر.

البلشفيك وتربية الأطفال

البلشفيك وتربية الأطفال يهتم البلشفيك بتربية أطفالهم كل الاهتمام ويتخذون لذلك أرقى الأنماط وأقوم المناهج. يرمون بذلك إلى أن يخرجوا جيلا من الرجال في المستقبل يكون خير ما أخرج للناس. فللأطفال عندهم المدارس الخاصة، والحدائق الخاصة، والمسارح الخاصة، يتعهدهم فيها أساتذة ذوو دربة ومران، ومربون أفذاذ محنكون. ومما يذر لهم بهذا الصدد، ويدل بوضوح وجلاء على أنهم قوم دقيقوا الملاحظة، ومعشر يعنون بصغائر الأمور قبل عظائمه، أنهم حرموا بتاتا طبع الكتب الخرافية التي تكثر فيها قصص (أمنا الغولة) وأتباعها جان ومردة وعفاريت، علما منهم بأن قراءة مثل هذه الأساطير تفسد عقول النشئ وتضعف نفوسهم، ويكون لها عليهم في قادم الأيام تأثير - كبيراً كان أم صغيراً. وقد استعاضوا عن هذه الكتب السقيمة العقيمة التي نرى المئات منها بكل لغة، وفي كل دولة، لأخرى تجمع بين بساطة الموضوعات التي تقبلها عقول الصغار وبين المبادئ السامية. وبذلك يغرسون في عقول الأطفال منذ نعومة أظفارهم، بذور الشهامة والإقدام وحب الإخاء والمساواة. هكذا يصنع البلشفيك في تربية صغارهم ذكوراً كانوا أم إناثا. وهذا ولا شك من أدق الاحتياطات وأعظمها تأثيراً. فأين هؤلاء من - رضي الله عنا - وأولادنا يكون الواحد منهم (اسم الله عليه طويل طويل) ولا يجسر أن يصعد السلم بالليل أو يدخل غرفة مظلمة خوفا من (المزيرة وشمهورش وأبو رجل مسلوخة) وما إلى ذلك من صنوف الأوهام وضروب الخزعبلات. والأم الغبية الجاهلة المأفونة تساعد ابنها على ذلك فتذهب (تنوسه) ولا تزال (تسمي عليه وتحفظه بالأنبياء والأولياء الصلاح) حتى يذهب عنه الرعب. أين هذا من شاباتنا اللاتي ينشأن وقد تشبعت أفكارهن (بالزار) وما فيه من (مما، وسفينة، والولاج، وأولاد الحبش. . . . رضاكم علينا يا أسيادي) فإذا تزوج امرؤ بأحدهن لا يلبث أن يلقى شريكة حياته (مريوحة وراكبها ستون عفريت) ولا تهتم بأمر بناتها وأولادها عشر معشار ما تهتم بشأن (الكوديه وأبو السعود ونصبة الكرسي والجدي الأسود اللي من غير إشارة. . .)

ألا فانظروا يا قوم ماذا تصنع الأمم اليقظة الحريصة التي تريد أن تنهض وتسود. واعملوا على شاكلتهم فكل من سار على الدرب وصل. محمود طاهر

فكاهات وملح

فكاهات وملح أشعار المجانين حدث أديب قال كان رجل من أهل الأدب قد ذهب عقله من جراء الحب فقلت له يا أبا فلان ما حالك وأين النعمة قال تغير قلبي بالحب فتغيرت النعمة وأنشأ يقول: أرى التجمل شيأ لست أحسنه ... وكيف أخفي الهوى والدمع يعلنه أم كيف صبر محب قلبه دنف ... الشوق ينحله والهجر يحزنه وإنه حين لا وصل يساعفه ... يهوى السلو ولكن ليس يمكنه وكيف ينسى الهوى من أنت فتنته ... وفتنة اللحظ من عينيك تفتنه فقلت أحسنت والله فقال قف قليلا فوالله لأطرحن في أذنيك أدبا أثقل من الرصاص وأخف على الفؤاد من ريش النعام فوقفت وأنشد. للحب نار على قلبي مضرجة ... لم تبلغ النار منها عشر معشار الماء ينبع منها في محاجرنا ... ياللرجال لماء فاض من نار ثم أنشد. أعاد الصدود فأحيا العليل ... وأبدى الجفاء فصبرا جميلا وأحسب نفسي على ما أرى ... ستلقى من الهجر غما طويلا وأحسب قلبي على ما بدا ... سيذهب مني قليلا قليلا وحدث أبو تمام قال كنت في غرفة لي على شاطئ دجلة في وقت الخريف فإذا بغلام كنت أعرفه بجمال قد تجرد من ثيابه وألقى نفسه في دجلة يسبح فيه وقد احمر جلده من برد الماء وإذا مانى الموسوس يرمقه ببصره فلما خرج من الماء قال: خمش الماء جلده الرطب حتى ... خلته لابسا غلالة خمر قلت له لعنك الله يا ماني أبعد الجهاد والغزو تحسن غلاما قد بات مؤاجرا في الحانات فقال لي ليس مثلك يخاطب يا أحمق وإنما يخاطب هذا - وأشار إلى السماء - وقال: يكفيك تقليب القلوب وإنني ... لفي ترح مما ألاقي فما ذنبي خلقت وجوها كالمصابيح فتنة ... وقلت اهجروها عز ذلك من خطب فأما أبحت الصب ما قد خلقته ... وأما زجرت القلب عن لوعة الحب

فليت شعري هل قال العقلاء أبدع من هذا؟ خطب وكيع بن أبي الأسود وهو والي خرسان فقال في خطبته إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أشهر فقالوا له بل في ستة أيام فقال والله لقد قلتها وأنا استقلها. . . . وخطب على بن زياد الأيادي فقال في خطبته لا أقول لكم إلا ما قال العبد الصالح لقومه ما أراكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فقالوا له إن هذا ليس من قول العبد الصالح إنما هو من قول فرعون فقال من قاله فقد أحسن. وارتفع رجلان إلى أبي ضمضم فقال أحدهم أبقاك الله إن هذا قتل ابني قال هل لابنك أم قال نعم قال ادفعها إليه حتى يولدها لك ولدا مثل ولدك ويربيه حتى يبلغ مثل ولدك ويبرأ به إليك. فكاهات غربية التلميذ - أفندي! إذا قلنا (إن السياسة) فما تكون علامتها؟ المدرس - السياسة علامتها النصب يا ولدي! صديق أظن يا أخي أن الناس الذين تذهب إليهم يكرهونك. محصل العواميد - بالعكس! فكل واحد أذهب إليه يرجوني أن آتيه مرة أخرى!! السيد - هل أنت بواب طيب. البواب - نعم يا سيدي، فأنا أصلي الأوقات الخمسة في الجامع دائما. مدرس الكيمياء - (لتلميذ أنيق لاه عن الدرس بلابسه) الآن اذكر لي اسم ثلاثة فيها مادة النشا. التلميذ - الياقة وكمى القميص. الأفندي - أريد خادمة لها دراية تامة بالطبخ والغسيل والكي وتدبير شؤون المنزل، وتكون بنت حلال وعمرها أقل من ثلاثين سنة. المخدم - مع الأسف يا سيدي - يمكنك أن توصي عليها (الخاطبة) القاضي - يا رجل: امرأتك تشكو من أنك تستمر أسبوعا كاملا لا تكلمها فيه مرة! الزوج - لأني يا سعادة القاضي الحديث. الفتى - أنا رأيت من ضحكتك هذه أنه ليس لك قلب بالمرة. الفتاة - يا سلام! وهل أنا فتحت فمي لهذه الدرجة!!

غباوة الخدامين (أتحفنا صديقي حضرة صاحب العزة الفاضل النبيل محمود صادق بك بهذه الملح الواقعية المستطرفة فآثر بنا أن نتحف بها قراء البيان) أذكر هنا وقائع وقعت لي من الخدامين وأنا واحد من ملايين المخدومين وقد توخيت في أكثرها التعبير العامي تقريبا للافهام العامة وسآتي في الأعداد القادمة بما أتذكره من هذا النوع أعطيت خادما قرشا لشراء فول مدمس صباحا وأنا ساكن في خط الحنفي فذهب بالقرش بالقرش والطاسة إلى المخدم بشارع محمد علي على يسأله هل يشتري الفول بزيت أم بسمن. . . . دخلت في الناموسية لأنام فوجدت فيها ناموسا فدعوت الخدام لاحضار المنة فوقف ينش من خارج الناموسية وهي مسدولة. أمرت خادما بإحضار معلقة فذهب معه زميله ليحضرها معه. كان في يد خادم خمس بيضات فوقعت منه واحدة فانكسرت فأشرت برميها في الجردل فأخذ يكسر باقي البيض ويرمي في الجردل. سألت خداما أحضره مخدم: أنت خدمت عند مين فقال عند واحد فقلت وكم شهر مكثت عنده قال ثلاثة أشهر فقلت اسمه إيه فقال أنا عارف؟ اسأل المخدم. سألت خداما هل في منزله ولما قمت من النوم قبيل الظهر وجدته قد حضر فقلت لزميله انزل اسأل البواب عن الساعة التي جاء فيها هذا الخادم فنزل وسأل البواب ورجع فقال (كان في السيدة). عندي طربوشان فقلت للخدام نظف الطربوش وهاته فقال أنظف الاثنين أم أترك أحدهما بترابه. قلت لخدام يلزم أن يكون كل شيء مغسولا بالصابون قبل وضعه على السفرة فغسل العيش بالصابون. قلت لخدام املأ إبريق الطشت فملأ الإبريق والطشت أيضا. كنت منتظرا صاحبا لي بالمنزل لأمر مهم فقلت للخدام إذا حضر فلان أخبرني فبعد ساعة

جاءني وقال فلان حضر ووزعته فغضبت فقال أنت قلت فأخبرني ولم تقل دعه يدخل. سألت الخدام ألم يحضر أحد أمس وأنا غائب فقال حضر فلان أفندي وترك هذا الكرت فقلت ولماذا لم تخبرني إلى الآن فقال لأنك ما سألتنيش. جلست إلى السفرة للغداء فلم أجد الخبز فقلت للخدام هل نسيت أن الطبيخ يؤكل بالعيش فقال موش لما تأمر. قلت لخدام وكان أخطأ في العمل (متعملش حاجة من نفسك تاني مرة) فترك القلل فارغة وأواني السفرة بغير غسيل. شكوت خداما سرق فدافع عن نفسه بأنه لم يسرق غير الفوطة فحكموا عليه واستغنوا عن شهادتي. جاءني خدام جديد فسألته هل صنعتك سفرجي فقال لا أنا صنعتي كاتب ومرمطون. قلت للخدام هات الساعة فسألني الصغيرة أم الكبيرة (يريد ساعة الحائط) طلبت من الخدام الدواة والقلم وأحضر الدواة وقلم الرصاص. عربجي جديد مدعي الأدب لما جلس غلى كرسيه في العربة التفت وقال لي (ما تؤاخذنيش كوني معطيك ظهري).

رأس العائلة

رأس العائلة للروائي الكبير أنطون تشيخوف جرت العادة بأن ستيبان ستيبانتش زيخلين إذا خسر كثيرا في لعب الورق أو سكر سكرة طافحة وابتدأ ينتابه سوء الهضم - أن يصحوا من نومه وهو في أشد حالات الضيق والغم. فتراه منقلب السحنة ضيق الصدر منفوش الشعر وعلى وجهه الأكلح أمارة السخط كأنما أبرمه شيء أو أغضبه أمر فيرتدي ثيابه متمهلا ويجرع (ماء فيشي) متأدا ثم يبدأ يجول في غرف البيت. ـ (أريد أن أرف من الحيوان الذي دخل هنا ولم يغلق الباب!) يقول ذلك وهو يبرطل غضبا ويحبك ثوبه على نفسه ويبصق بصاقا عاليا (خذوا هذه الورقة الملقاة! لماذا ترمي هنا؟ عندنا أكثر من عشرين خادمة والبيت أقذر من حانة. من هذا الذي يدق الجرس؟ أي شيطان هو؟). ـ فتجيبه زوجته قائلة (هذه أنفيسة القابلة التي أتت بابننا فيديا إلى الدنيا). ـ دائما داخلة خارجة. . . هؤلاء الشباحين المتملقين!. ـ لا أحد يستطيع أن يفهمك ياستيبان ستيبانتش. أنك أنت الذي طلبت حضورها والآن تغضب وتصخب. ـ أنا لست غاضبا بل أنا أتكلم. وأنت يا عزيزتي ألا يمكنك أن تجدي عملا تعملينه بدل أن تجلسي هكذا ويداك في حجرك تتربصين مشاكسة وشجارا. لعمري إن النساء فهمهن فوق عقلي! فوق عقلي! كيف يستطعن أن يقضين أياما طوالا لا يعملون شيأ؟ إن الرجل يشتغل كالثور. . . كالحيوان. . . بينما زوجته وشريكة حياته تجلس كالعروس الحلوة، لا تعمل عملا سوى أن ترقب فرصة للمشاكسة مع زوجها من باب التسلية! لقد آن أن تتركي هذه الأعمال الصبيانية المدرسية يا عزيزتي. إنك لست تلميذة الآن بل ولا سيدة غضة الشباب، أنت زوجة وأم؟ تولينني ظهرك؟ آه! إن سماع الحقائق المرة لا يساغ!. ـ من الغريب أنك لا تتكلم عن هذه الحقائق المرة إلا عندما تشعر بألم في كبدك. ـ حسنا إنك تثيرين شجارا. ـ هل سهرت الليلة البارحة؟ أم لعبة الورق؟

ـ وماذا علي إذا فعلت؟ هل هذا من شأن أحد غيري؟ أيجب علي أن أقدم حسابا عن أعمالي لأحد؟ إن ما أخسره هي أموالي أنا على ما أظن إن ما أصرفه وما يصرف في هذا البيت جميعه إنما هو مالي أنا - أنا. أسامع ما أقول؟ مالي أنا) وهكذا على هذه النغمة. ولكن ستيبان ستبانيتش لا يتجلى عدله وفضله ووقاره وحلمه إلا في وقت الغداء. ويبتدئ الفصل عادة بالحساء. فيتناول زيخلين أول جرعة منها ثم يقطب وجهه فجأة ويضع الملعقة مدمدما: تبا لهذا! لم يبق إلا أن آكل في المطعم!. ـ فتبادر زوجته بسؤال جازعةماذا هل هناك شيء؟ أليست المرقة طيبة؟ يجب أن يكون للإنسان ذوق خنزير يستطيع أن يأكل مثل هذه الحثالة أنها ممتلئة ملحا، ورائحتها مثل رائحة الخرقالقذرة. . . رائحة حشرات لا بصل. . . أن هذا الشيء محزن ومهيج يا أنفيسا أفانوفنا مخاطبا بذلك القابلةكل يوم أدفع مبالغ طائلة. . . . وأحرم نفسي كل شيء. . . وهذا ما يقدمونه طعاما لغدائي لعلهم يريدون مني أن أترك الوظيفة وأطبخ الطعام!. ـ فتجيبه القابلة خجلة مترددةإن الحساء لذيذة جدا اليوم. فيرد عليها زيخلين ناظرة إليها بطرف عينه نظرة غضبأتظنين ذلك؟ كل إنسان وذوقه طبعا. والظاهر أنني وإياك مختلفان جدا في أذوقنا فأنت مثلا راضية عن أخلاق هذا الصبي. ويشير إشارة منفعلة إلى ولده فيديا. إنك مسرورة به. أما أنا. . . فشديدة الاستياء منه؟. فيديا هذا صبي عمره سبع سنوات بوجه أصفر سقيم ناحل. فما يطرق سمعه هذا حتى يكف عن الأكل ويرخي بصره إلى الأرض ووجه يزداد اصفرارا. ـ نعكم إنك مسرورة به أمات أنا فصاحت عليه. ولا أعرف أينا المخطئ أو المصيب، ولكني أستطيع أن أقول بصفتي أبا له أني أعرف ولدي أكثر منك. انظري إليه كيف يجلس. أهذه جلسة الولد المتربي تربية حسنة! اجلس معتدلا فيرفع فيديا ذقنه ويميل برقبته حاسبا أنه قد اعتدل في هيئته. وتزدحم الدموع في عينه. تناول غداؤك! امسك ملعقتك جيدا انظر إلي. سأريك كيف تأكل أيها الولد الملعون؟ إياك أن تجهش؟ انظر إلي جيدا.

ويجتهد فيديا أن ينظر إليه ولكن وجهه يرتعد وعيناه مغرورقتان بالدموع. آه. . . أنت تبكي؟ أمع خبثك هذا تبكي اذهب وقف في ركن الغرفة يا حيوان؟ فتتدخل زوجت قائلةولكن. . . دعه يتمم أولا غداؤه لا غداء له؟ مثل هذا الشرير لا يستحق طعاما! فيترك فيديا كرسيه ويذهب إلى ركن الغرفة وهوز ينتحب ويرتعد. ـ ويستمر أبوه قائلاأتظن أنك تنجو من يدي بمثل هذا؟ وإذا كان لا أحد يهتم بتربيتك، حسنا فسوف أبدأ أنا. . . وسوف لا أدعك تبكي مرة أخرى على المائدة! أيها المجنون! يجب عليك أن تؤدي واجباتك؟ أتفهم ما أقول؟ قم بواجبك؟ إن أباك يشتغل فعليك أن تشتغل أيض1ا؟ لا أحد يأكل خبز الكسل والبطالة؟ كن رجلا؟ رجلا. ـ فتكلمه زوجته بالفرنسية قائلةأستحلفك بالله أن تدعه الآن. كف قليلا عن شجارك الدائم معنا ولو أمام الغرباء. . . إن القابلة كلها آذان إليك وسوف يعرف أهل القرية بشأنها. ـ فيرد زيخلين بالروسية قائلاأنا لست خائفا من الغرباء. أن إن إنفيسا أفانوفنا ترى أني أتكلم الحق. ماذا، هل تريدون مني أم أكون مسرورا بهذا الصبي؟ أتدرون كم يكلفني؟ أتدري أيه الولد الشقي كم أنفق عليك؟ أم هل تحسب أني أصك النقود عندي أو أتقاضها بلا مقابل! كفى عويلا؟ اخرس! ألا تسمع ما أقول؟ أتريد أن أجلدك بالسوط أيها الولد الشرير؟ نا ـ أنا. . ويعول فيديا عويلا عاليا ويبتدئ في النشيج. وهنا ترمي زوجته المنشفة وتقوم عن المائدة قائلة (غن هذا شيء لا يطاق لا تدعنا نتناول غداؤنا أبدا بسلام! عن الأكل يقف في زوري.) وتضع منديلها على عينيها وتغادر الغرفة. ـ فيفتر زيخلين عن ابتسامة مغتصبة (إنها غضبت الآن. . . من أقل شيء. . . دائما هكذا يا إنفيسا أفانوفنا. لا أحد يروقه سماع الحق في هذه الأيام وكل هذا ذنبي على ما يظهر.). ويعقب ذلك سكوت بضع دقائق. وينظر زيخلين حوله فيجد أن الطعام باق لم يمسه أحد، حتى الحساء على حاله. فيتنهد تنهدا عميقا فيحدق في وجه القابلة المتورد الحائر. ـ (لماذ1الا تأكلين يا إنفيسا؟ أغاضبة أنت أيضا؟. . . لقد فهمت. . . أنتم لا تحبون قول

الحق. ولكن صفحا، فهذه طبيعتي، لا أستطيع أن أكون مرائيا، غني أقذف دائما بالحقيقة الجافة) ويتنهد (ولكني أرى أن وجودي بينكم يضايقكم. لا أحد ياكل أو يتكلم ما دمت هنا، حسنا، كان يجب أن تخبروني بذلك وأنا أترككم. . . سأترككم الآن.). وينهض عن كرسيه ويمشي نحو الباب بتؤدة، وعندما يمر يفيديا وهو واقف يبكي يقول له (لقد عفوت عنك بعد كل الذي فعلته) ويرفع رأسع بعظمة ويقول (سوف لا أتدخل في امر تربيتك مرة أخرى. لقد نفضت يدي منك! إني اعتذر بصفتي أبا يريد من قلبه مصلحتك الحقيقية على ما سببته لك ولهم من الكدر. وأخبركم في الوقت نفسه أني أخلي نفسي من كل مسؤولية نحو مستقبلك. . . .). ويعول فيديا بصوت أعلى من قبل. فيغادره زيخلين سائرا بجلال إلى غرفة نومه فإذا صحا من نومه بعد الغداء بدا يحس تأنيب ضمير، ويخجل من مقابلة زوجته وولده وإنفيسا، ويشتد كدره وغمه كل ما تذكر ما حدث في وقت الغداء، ولكنه يستكبر أن يعترف بخطاه، وليست عند الرجولة الكافية ليكون صريحا، فيستمر على عبوسته وصخبه. فإذا صحا في اليوم التالي عاوده سروره وابتهاجه وأخذ يصفر بفمه وهو يغسل وجهه، ثم يذهب إلى غرفة المائدة للفطور فيجد هناك ابنه فيديا الذي يقف جازعا يائسا ناظرا إلى وجه ابيه. فيحيه زيخلين بانشراح ويجلس إلى المائدة قائلا (كيف أنت أيها الرجل الصغير، ما عندك من الحكايات لتقصها علينا؟ تعال أيها الولد السمين أقبل أباك قبلة). فيمشي فيديا بوجه هادئ ممتقع حتى يصل إلى أبيه فيلمس خده بشفتين مرتعشتين، ثم يقفل راجعا ويجلس في كرسيه دون أن ينبس بكلمة.

حضارة العرب في الأندلس

حضارة العرب في الأندلس الرسالة الثالثة مقامي في قرطبة عظمة الإسلام ملوك العالم تزدلف إلى الناصر - وفود ملوك الروم إلى قرطبة بلغ ملك أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر لعهدنا هذا ما لا يبلغه ملك مليك في الأرض، من اتساع الرقعة ومنعة الجانب واستبحار العمران وتعدد الجند وضخامة الأساطير وتكاثر الذخيرة والسلاح وانبثاق نور العلم والعرفان في بلاده وما إلى ذلك مما طال به ملوك الأرض واستبد دونهم بالمجد والسؤدد وحدا سائر الدول على أن تملقه وتهاديه وتزدلف إليه وتتوسل بالهدايا والتحف وعظم الذخائر والطرف، وتفد غليه بنفسها تارة وتوفد إليه رسلها طورا، تخطب مودته، وتسترفد رضاه ومحبته. وأول وتد وفد بعد وصولنا إلى قرطبة بأيام قلائل رسل قسطنطين بن ليون ملك الروم ثم رسل الألمان والصقالبة والإفرنج وصاحب روما والكثير غيرهم ت وقد كان يوم وفود هؤلاء الرسل والاحتفاء بهم يوما مشهودا يجمل بنا أن نؤتي لك على وصفه: لما جاء الخبر بقرب قدوم هؤلاء الرسل أمر أمير المؤمنين بأن يتلقوا أعظم تلقي وأفخمه، وأحسن قبول وأكرمه، وأخرج إلى لقائهم ببجاية يحيى بن محمد بن ليث وغيره لخدمة أسباب الطريق، فلما صاروا بأقرب المحلات من قرطبة خرج إلى لقائهم القواد في العدد والعدة والتعبية فتلقوهم قائدا بعد قائد، وكمل اختصاصهم بعد ذلك بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسرا وتماما إبلاغا في الاحتفال بهم فلقياهم بعد القواد فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وأكرمه لأن الفتيان من عظماء الدولة لأنهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه، وبيدهم القصر السلطاني. وأنزلوا بمنية ولي العهد الحكم المنسوبة إلى نصير بعدوة قرطبة في الربض، ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة جملة ومن ملابسة الناس طرة ورتب لحجابتهم رجال تخيروا من الموالي ووجه الحشم فصيروا على باب القصر هذه المنية ستة عشر رجلا لأربع دول لكل دولة أربعة نهم ورحل الناصر لدين الله من صر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه فقعد لهم في بهو

المجلس الزاهر قعودا حسنا نبيلا وقعد عن يمينه ولي العهد من بنيه الحكم ثم عبد الله ثم عبد العزيز ثم الأصبغ ثم مروان وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبار ثم سليمان وتخلف عبد الملك لأنه كان عليلا لم يطق الحضور وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ووقف الحجاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهمن وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدارنك وظللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور، فوصل رسل ملوك الروم حائرين مما رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان ودفعوا كتاب ملكهم صاحب قسطنطينية العظمة قسطنطين بن ليون وهو في رق مصبوغ لونا سماويا مكتوبا بالذهب بالخط الإغريقي وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضاً مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضاً فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل على الوجه الواحد منه صورة المسيح صلوات الله عليه وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده وكان الكتاب بداخل درج فضة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطسن الملك معمولة من الزجاج الملون البديع وكان الدرج داخل جعبة ملبسة بالديباج. وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه (قسطنطين ورمانيين المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم) وفي سطر آخر (العظيم الاستحقاق الفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس أطال الله بقاؤه) ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه وتصف ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه وولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ويقدمه أمام نشيد الشعراء فأمر الحكم صنيعه الفقيه محمد بن عبد البر الكسيباني بالتأهب لذلك وإعداد خطة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة وكان يدعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره وحضر المجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظة بل غشي عليه وسقط على الأرض فقيل لأبي علي البغدادي قم فارقع هذا الوهي فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم انقطع القول بالقالي فوقف ساكتا مفكرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه.

فلما رأى ذلك منذر بن سعيد - وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء - قام من ذاته بدرجة من مرقاته فوصل افتتاح أبي علي لأ ول خطبته بكلام عجيب، ونادى من الإحسان في ذلك المقام كل مجيب، يسحه سحا كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدة وبدا من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي فقال أما بعد حمد الله والثناء عليه والتعداد لآلائه والشكر لنعمائه والصلاة والسلام على محمد صفيه وخاتم أنبياءه فإن لكل حادثة مقام ولكل مقام مقال وليس بعد الحق إلا الظلال وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم فاصغوا إلى معشر الملأ بأسماعكم وألقنوا أعني بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت وإن الجليل تعالى في سماءه وتقدس بصفاته وأسماءه أمر كليمه موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء وأن يذكر قومه بأيام الله جل وعز عندهم، وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وإني أذكركم بأيام الله عندكم وتلا فيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمنت سربكم ورفعت قوتكم بعد أن كنتم قليلا فكثركم ومستضعفين فقواكم ومستذلين فنصركم ولاه الله رعايتكم وأسند إليه إمامتكم أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق وأحاطت بكم شعل النفاق حتى صرتم في مثل حدقة البعير من ضيق الحال ونكد العيش والتغيير فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخا وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء، أنشدكم بالله مع معاشر الملأ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها والسبل مخوفة فأمنها والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها ألم تكن البلاد خرابا فعمرها وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها. فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته وتلا فيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بأمامته حتى أذهب الله عنكم غيضكم وشفى صدوركم وصرتم يدا على عدوكم بعد أن كان بأسكم بينكم فأنشدكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكن ذلك إلى القواد والأجناد حتى باشره بالقوة والمهجة والأولاد واعتزل النسوان وهجر الأوطان ورفض الدعة وهي محبوبة وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة بطوية صحيحة وعزيمة صريحة وبصيرة ثابتة نافذة ثاقبة وريح هابة غالبة ونصرة من الله واقعة واجبة وسلطان قاهر وجد ظاهر وسيف منصور تحت عدل مشهور متحملا للنصب مستقلا لما ناه في جانب الله من التعب حتى لانت الأحوال بعد شدتها وانكسرت شوكة الفتنة عند حدتها

ولم يبق لها غارب إلا جبه ولا نجع لأهلها قرن إلا جده وأصبحتم بنعمة الله إخوانا وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا حتى تواترت لديكم الفتوحات وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات وصارت وفود الروم وافدة عليه ووعليكم وآمال الأقصين والأدنيين مستخدمة إليه وإليكم يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلا ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولن يخلف الله وعده ولهذا الأمر ما بعده وتلك أسباب ظاهرة بادية تدل على أمور باطنة خافية دليلها قائم وجفنها غير نائم وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم الآية وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب ولكل نبأ مستقر ولكل أجل كتاب فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه واسألوه المزيد من نعمائه فقد أصبحتم بعد خلافة أمير المؤمنين أيده الله بالعصمة والسداد والهمة والهمه خالص التوفيق إلى سبيل الرشاد أحسن الناس حالا وأنعمهم بالا وأعزهم قرارا وأمنعهم دارا وأكثفهم جمعا وأجملهم صنعا لا تهاجون ولا تذادون وأنتم بحمد الله على أعداكم ظاهرون فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن من نزع يدا من الطاعة وسعى في تفريق الجماعة ومرق من الدين فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين وقد علمتم أن في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها حظ الأموال وحقن الدماء وصلاح الخاصة والدهماء وأن بقوام الطاعة تقام الحدود وتوفى العهود وبها وصلت الأرحام ووضحت الأحكام وبها سد الله الخلل وأمن السبل ووطأ الأكناف ورفع الاختلاف وبها طاب لكم القرار واطمأنت بكم الدار. فاعتصموا بما أمركم الله الاعتصام به فإنه تبارك وتعالى يقول أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم الآية وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصنوف الملحدين الساعين في شق عصاكم وتفريق ملاكم الآخذين في مخاذلة دينكم وهتك حريمكم وتوهين دعوة نبيكم صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله رب العالمين مستغفرا لله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين. . فبهت الروم وغلي على قلوبهم وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقام المنذر وثبات جنانه وكان الناصر أشدهم تعجبا منه وأقبل على ابنه الحكم ولم يكن يثبت معرفته فسأله عنه قال

له هو منذر بن سعيد البلوطي فقال والله لقد أحسن ما شاء فلئن كان حبر خطبته هذه وأعدها مخافة أن يدور ما دار فيتلافى الوهي فإنه لبديع من قدرته واحتياطه ولئن كان أتى بها على البديهة بوقته فإنه لا عجب وأغرب ولئن لأخرني الله بعد لأرفع من ذكره فضع يدك يا حكم عليه واستخلصه وذكرني بشأنه فما للصنيعة مذهب عنه ثم ولاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع بالزهراء ثم ولاه بعد ذلك قضاء الجماعة بقرطبة واقره على الصلاة بالزهراء.

روح الإسلام

روح الإسلام لأكبر نصير للإسلام اليوم سيد أمير علي الهندي مركز المرأة في الإسلام وبعد فإنه على تقدم الفكر وارتقائه وتقلبات هذا العالم المستمرة وتطورات أحواله المتعاقبة تنمحي ضرورة الحاجة إلى تعدد الزوجات وتبطل هذه العادة من تلقاء نفسها أو تبطلها القوانين والشرائع. ومن ثم نرى أنه في البلاد الإسلامية التي قد أخذت تنمحي فيها تلك الأسباب التي كانت قد استلزمت تعدد الزوجات في بادئ الأمر - قد أصبحت هذه العادة تتعد شرا ونكرا ونظاما منافيا لتعاليم الرسول، بينما في البلاد التي أحوال المجتمع فيها خلاف ذلك والتي ينعدم فيها من وسائل معاونة المرأة نفسها بنفسها ما هو متوفر في البلاد الأعظم رقيا والأرقى تمدينا نرى أن مذهب تعدد الزوجات هو مما لابد منه ولا مناص عنه. ولما كانت حرية التفسير تترك مجالا واسعا لاختلافات أرباب الفتاوى فسيكون من الصعب جدا إبطال المذهب التعددي إبطالا تاما. ونحن لا ننكر ما لهذا الاعتراض من قوة الحجة وصرامة البرهان مما هو جدير بالتفات من كل من المسلمين يبغي خلاص التعاليم الإسلامية مما لحقها من الانتقاص والعيب ويريد التماشي مع روح العصر والمدنية الحديثة، على أنه لا يفوتنا أن مرونة القوانين والشرائع هي أنصع دليل على نفعها وفائدتها وهذه المرونة هي أعظم مزايا الشريعة الإسلامية، فهذه الشريعة ملائمة على السواء لمطالب أرقى الشعوب وأشدها تهذبا ولاحتياجات أوضعها وأحطها مدنيا. الشريعة الإسلامية لا تتجاهل مطالب ألإنسانية المتطورة المتدرجة كما أنها لا تتجاهل أيضاً أن في الدنيا شعوبا قد يصبح بينهم مذهب توحيد المرأة آفة وشرا. بيد أن محاولة إلغاء (تعدد الزوجات) ليس من الصعوبة كما يتوهم ولا خفاء من أن شر ما نكب به الشعوب الإسلامية من الآفات والمصائب إنما أتاه من المذهب التقليدي (الوقوف عند المذاهب الربعة) الذي حرم الاستقلال بالرأي الفردي (الاجتهاد). وليس ببعيد ذلك اليوم الذي فيه يرجع إلى نص القرآن ذاته للفصل فيما إذا كان الواجب على المسلم أن يأخذ بصريح آيات الكتاب الحكيم حقيق معانيها أو بتأويلات الأئمة الذين توسلوا باسم النبي إلى إرضاء أهوائهم الذاتية أو

إلى تأييد أوامر الملوك والسلاطين الذين كان أولئك الأئمة بعض خدمهم وصنائعهم. ولقد كابدت أوروبا عين هذه الصعوبات والمشاق واقتحمت عين هاتيك العقبات والحوائل فكان أولى بها من قذف الإسلام بهذه المطاعن والمثالب أن ترقب بعين العطف والرفق وتلحظ بناظر التمهل والتأني ما تبذله الشعوب الإسلامية الناهضة المتحفزة من المجهودات الجسيمة في سبيل التخلص من رق المذهب التقليدي ومتى تم للإسلام هذا فهب وانتعش ونفض عنه غبار الأفكار العتيقة وصدع قيود العقائد القديمة أصبح من السهل على مشرعي كل أمة إسلامية أن تلغي بأمر حكومتها مذهب تعد الزوجات في بلادها. ولكن هذا الحد من الكمال لا يمكن أن ينتج إلا عن رقي عام في اكتناه حقائق الحياة وأمهات المسائل وتفهم أسرار معاني الكتاب المقدس. ولا أراني مبالغا إذا قلت أن مذهب تعدد الزوجات آخذ في الاضمحلال أو سيضمحل سريعا تحت أشعة ضياء التأويل الحديث الذي أصبحت تأول به آيات الكتاب المنزل. وكذلك يتبين لنا أن ملائمة الشريعة الإسلامية لكل دور من أدوار التمدين وكل طزر من أطوار الرقي تشهد بما أوتي صاحبها (محمد) من السداد والحكمة فنحن نرى أنه في الشعوب الإسلامية غير البالغة درجة مذكورة من التمدين أن القيود والحدود التي وضعها الرسول على مذهب تعدد الزوجات قد حالت دون مصير هذا المذهب آفة وشرا على تلك الشعوب. فإن المذهب المذكور هو بلا شك خير وأفضل من تلك العوائد والتقاليد والأساليب الإباحية الدالة على التجرد التام من كل مسؤولية أدبية والتملص الكامل من كل قيد أخلاقي. وقد شوهد أنه بتقدم العلوم والمعارف يزداد الشعور بسوء موقع الآفات الناجمة عن مذهب تعدد الزوجات وتزداد تلك الآفات وضوحا وتقترب الأذان من إدراك معنى التحريم لذلك المذهب ويدنو على متناول الأفهام ماهية الغرض من إلغاءه ونحن لا يسعنا قط القول بأم مسلمي الهند قد استفادوا كثيرا بالاختلاط بأمم البراهمة الذين قد حلل بينهم مذهب السفاح. فإن هؤلاء الطوائف من الهنود قد تراخت عندهم بسبب ذلك المبادئ الأخلاقية وتلوثت بينهم نقاوة العقيدة في وجوب طهارة ال روحانية البشرية ورفعة الشرف الإنساني. وقد أصبح الفسق والفجور مألوفا لديهم كألفته لدى جيرانهم من الوثنيين. على أن لدينا من الشواهد ما يحملنا على الظن بأن نور الله الذي أضاء بلاد العرب في القرن السابع سوف

يهبط على قلوب تلك الطوائف الإسلامية الضالة فيخرجهم من دياجير ما يغشاهم اليوم من تلك الجهالة والعماية. ولا مراء في أن كراهة تعدد الزوجات قد أصبحت اليوم عقيدة راسخة اجتماعية إن لم تكن أخلاقية. وفي البلاد اليوم من الظروف القهرية مع ما بها من تلك الكراهية للمذهب التعددي الآنف الذكر ما يتجه إلى اقتلاع هذا المذهب من أمم الهند الإسلامية فقد أصبح من الشائع بين جميع هذه الأمم أن يدون في عقد الزواج فقرة تنص على أن الزوج يتعهد بالتنازل عن كل حقه المفروض في التزوج من أي امرأة أخرى طوال استمرار الزيجة الأولى. ونحن نرى أن 95 في المائة من مسلمي الهند الآن كلهم على مذهب (توحيد الزوجة) إما عن عقيدة أو ضرورة. أما بين الطبقات المهذبة العليمة بتاريخ أسلافها القادرة على المقارنة بين هذا التاريخ وتاريخ غيرها من الأمم فإن المذهب التعددي مكروه غير مستصوب. وكذلك في بلاد الفرس نرى أن نسبة قليلة جداً من السكان - 2 في المائة - هم الذين يتمتعون بلذة المذهب التعددي المشكوك في صحتها، والذي يرجوه العقلاء من صميم أفئدتهم أنه لن يمضي إلا قليل من الوقت حتى نبصر أئمة الدين قد اجتمعوا فقرروا نهائيا قرارا ساري المفعول نافذ الحكم أن المذهب التعددي هو كالرق مكروه في نظر الشريعة الإسلامية. والآن إلى مسألة زيجات النبي التي قد جعلوها ذو الجهل بالحقائق المقررة أو ذو الإنكار لها ميلا مع الهوى وقلة نزاهة حجة بتوجيه المطاعن ضد محمد. فقد احتج معترضون من النصارى بأن محمد بكثرة زيجاته قد خص نفسه بما لم تبحه الشريعوة من الملاذ فاظهر بذلك من وهن العزيمة وقلة الحزم ما ينافي واجبات الرسل وسير الأنبياء ولكن من تأمل الأمر ببصية الواسع الإطلاع على الحقائق التاريخية وإنصاف الحكم العادل حكم قطعا أن محمد لما تحمل عبء مساندة السيدة المسنة (السيدة خديجة) بتزوجه إياه حسب النواميس القديمة المتبعة وكان إذ ذاك فقيرا معوزا كان إنما يكلف نفسه تضحية ذاتية لا يستهان بها، ولا مراء في أن من حلل نوايا محمد ومراميه في ذلك الصدد تحليلا تاما في الوجهة الإنسانية المحضة المجردة من الأغراض الشخصية تبين الكذب الصراح وسوء النية فيما يوجه إلى (بطل العرب) من التهم في ذلك الشأن. نقول أن محمدا في الخامسة والعشرين من عمره في زهرة شبابه تزوج خديجة وكانت تتقدم عنه في السن بمراحل وقد لبث معها

خمسة وعشرين عاما كان سلوكه معها خلالها مضرب المثل في الصدق والإخلاص والأمانة وفي الرخاء والصفاء والسعادة وما برحت خديجة أثناء ما انهال عليه مطاعن الوثنيين وإساءاتهم ومن مظالمهم واضطهاداتهم عونه الوحيد وعضده وساعده لم تزايله طرفة عين ولم تأل مواساة له ومؤازرة ولما توفيت خديجة كان محمد في الواحدة والخمسين من عمره بل على الرغم منهم يسلمون أن محمدا لبث طول هذه المدة مبرءا من كل سوءة طاهر الذيل من كل مدنسة نقيي الجبيب من كل لوثة ناصع الصحيفة مأمون الغيب وفي حياة خديجة لم يتزوج امرأة قط غيرها بالرغم من أن عادات البلاد وتقاليدها يومذاك كانت تخوله هذا الحق لو أراد. وبعد وفاة خديجة ببضعة أشهر يوم عاد محمد من الطائف مضطهدا لا عون له ولا نصير تزوج سعدى أرملة رجل من الأعراب كان قد اعتنق الإسلام ثم اضطر للفرار إلى الحبشة هربا من أذى المشركين ثم مات هذا الشريد في ديار الغربة وخلف سعدى أرملة لا عائلة لها ولا ناصر فلم يجد محمد حسب عادات البلاد وتقاليدها سبيلا إلى حماية الأرملة أو صيانتها وإنقاذها غير التزوج بها ولا مراء في أن مبادئ المروءة والشرف والإنسانية وبواعث الرحمة والعطف والرأفة كانت تقضي على الرسول بذلك وكيف لا وإنما في سبيل محمد ومن أجله وتذرعا إلى نصرة دينه وتأييده بدل زوجها روحه وقد لازمته زوجته سعدى في منفاه واغترابه وأيام محنته ومصابه ثم عادت إلى مكة مضيمة منكوبة مهيضة الجناح دامية الجراح وحيدة مستوحشة فريدة فرأى محمد على الرغم من فرط فاقته إذ ذاك وشدة عوزه واحتياجه حتى إلى القوت الضروري أنه لا سبيل لإنقاذ المسكينة إلى التزوج بها. لها بقية

التربية العقلية

التربية العقلية ملخصة من مبحث ضاف للكاتب الشهير أرنولد بنت إذا صح أن للإعلانات أي نفع في الأمة الأمريكية بالغة شأوا بعيدا من القوة البدنية لا نظن العالم قد شهده منذ عهد الإسبارطيين. فإنك لا تفتح صحيفة أو مجلة أمريكية إلا وجدت فيها عددا لا يحصى من الإعلانات المصورة عن (أخصائيين للتربية البدنية) مستعدين أن يجعلوا جميع أعضاء الجسم تشتغل بالدقة التي تشتغل بها سيارة قوتها عشرون حصانا ولا يصيبها ضرر أو عطل! وقد رأيت كتابا لأحد هؤلاء الأخصائيين يشرح فيه كيف للإنسان أن يتمتع بصحة وافية إذا اختص نفسه بربع ساعة في كل يوم يقضيها في لعب تمرينات معينة. والإعلانات التي أشرنا إليها تزيد كل يوم عددا وحجما وتكلف مالا وفيرا ولا ريب إذن في أن أصحابها يجنون منها ربحا وعملا. ولا ريب أيضاً أن عددا كبيرا من الناس يقلقه ما يراه في جسمه من ضعف ويوشك أن يأخذ في أسباب تقويته وتربيته. وهذه الظاهرة عينها موجودة عندنا نحن الإنجليز ولكن بشكل أبسط. وهي في كل يوم تتقدم وتتقدم معها عضلاتنا. فإنك لا تفاجأ إنجليزيا في غرفة نومه صباحا إلا وجدته مستلقيا على ظهره أو واقفا على رأسه ولاعبا (بالكلبز) كل ذلك في سبيل تمرين عضلاته وتقوية جسمه. وبعد أليس غريبا أنه لم يدر في خلدي قط أن أخصص ربع ساعة في كل يوم لتمرين القوى العقلية وتقويتها؟ إن العقل العادي أحسن استعداد للتربية من الجسم العادي فما بالنا نأخذ في تمرين عضلاتنا وتقوية أذرعتنا ونتباهى بها. وما خطر لنا قط أن للعقل أيضاً عضلاته وأجهزته الكثيرة وأن هذه الأعضاء الذهنية أقل كفاءة مما يجب أن تكون فبعضها ضعيف هزيل وبعضها بحاجة إلى التغذية وبعضها غير منتظم الشكل الخ. . . إن رجلا من ذوي الأعمال المريحة إذا قضى يوم عطلة في مشي طويل رجع إلى بيته منهوك القوى غير قادر أن يتناول طعاما، ويصحو في اليوم التالي وهو يعزم عزما خالصا أنه لن يهمل رياضة جسمه إلى مثل هذا الحد ثم يأخذ في احد التمرينات الرياضية. ولكن

اطلي من مثل هذا الرجل بعد أن ينهك نفسه في مطالعة الصحف والمجلات والروايات أن يمرن عقله في تسلق موضوع علمي أو فلسفي أو فني. . إنه سينبذ هذا العمل بعد قليل ولا يهتم بأن يشكو بأن عقله ليس في حالة مرضية وأنه يلزمه أن يعنى بتقويته وتمرينه، بل إنه سوف يرضى بالحالة التي هو فيها دون أن يشعر بشيء من الخجل أو الحزن المحض!. أقول (الحزن المحض) لأن الحقيقة أن الإنسان يشعر بشيء من السف على رؤيته قواه العقلية على غير ما يحب من النشاط والعلم. وكثيرون يأسفون على جهلهم النظريات المهمة. . والسنون تمر. . وهم لا يشتغلون كل أربعة وعشرون ساعة سوى ست أو سبع ساعات. . ولا يحتاجون إلى أكثر من دافع أو مجهود أو نظام لينقذوا الذهن من خموده وركوده وينتفعوا بتمرين عضلاته ويزودوه بمفاخر المعرفة التي تزدهيه. إننا نقضي أيامنا لا نعمل عملا ولا نفكر تفكيرا ولا عذر لدينا من ضيق وقت أو قلة اختبار. لماذا لا يتقدم إلينا أخصائي لتقوية العقل ويشرح لنا كيف ننتفع بعقولنا في الأعمال المهيأة لها! إذا كان هناك نظام لتربية الجسم فإن هناك نظاما يمكن استنباطه لتربية العقل. وبذلك نحقق بعض مطامعنا في الانتفاع في أوقات الفراغ بتلك الآلة العظيمة التي نتركها تصدا في رؤوسنا إننا لا تعوزنا الرغبة لنيل المعرفة وتقوية الذهن ولكن تنقصنا أولا قوة الإرادة - ولا اقصد قوة الإرادة للبدء في العمل ولكن للاستمرار فيه - وثانيا ينقصنا علاج الحالة السيئة التي صارت إليها أجهزة العقل بسبب إهمالنا. وعلى ذلك يكون العلاج منقسما إلى قسمين: تنمية قوة الإرادة وإصلاح حالة الجهاز العقلي. ويجب أن يسير هذان العلاجان جنبا إلى جنب. العلاج إن من السهل أن يعزم الإنسان أمرا في ساعة من ساعات حماسته واهتياجه ولكن تنجيز ما اعتزم صباحا إثر صباح ويوما بعد يوم وطول الشهور والأعوام هو العقبة الكؤود. ولا أظن احد من قارئي يخالفني في هذا. وكثير من الناس يتجاهلون هذه الحقيقة ويتساءلون: ماذا نعمل؟ وبما نشتغل؟ ويظنون أنهم قد أصابوا حل المشكلة إذا هم انحازوا إلى جانب طريقة من طرق تقوية الذاكرة أو تربية الذهن. وفاتهم أن الطريق ليست مهمة وإنما

الطريقة الحسنة تتوقف على قوة العزم. ولنضرب لذلك مثلا سهلا بسيطا بامرأة، أو رجل في الثلاثين من عمره يعيش عيشة مرضية ويشتغل شغلا مناسبا، كم من مرة قد جال في خاطره أن عقله يعوزه شيء من النشاط والعلم فوثب عن كرسيه قائلا في نفسه أن سيعنى اليوم بتمرين عقله تفضل بالرجوع ثانية إلى كرسيك! طالما مرت بك أوقات كهذه اعتزمت فيها أعمالا مجيدة ثم فشلت! فأي المعدات اتخذت لتأمن الفشل هذه المرة؟ لا أظن إرادتك اليوم أقوى منها قديما فاعلم أنه لا جرح ألم لعزم النفس من الرجوع بالفشل وقد تحسب أن هذا الجرح قد اندمل والتئم ولكنه سوف يثور عليك في اللحظة الحرجة وينزف نزيفاً مميتاً. ليس لي شرف معرفتك ولكني أعرفك لأني أعرف نفسي. لقد كان فشلك القديم راجعا إلى أحد أسباب ثلاثة. أولها أنك كلفت نفسك عملا كثيرا من بدء الأمر ورسمت برنامجا رائعا! ولكنك لم تتبع ما تتبعه في الرياضية البدنية من الاستعدادات الأولية فلا تتخذ في هذه المرة برنامجا ويكفيك أن تسير خببا، قل لنفسك مثلا (سوف أقرأ كتاب التربية لسبنسر في مدة شهر وسوف أكتب على غلافه الملاحظات المهمة) قد تقول إن هذا عمل سهل بسيط. حسنا اعمله. . فإذا أتممته فإنك على أية حال سترضى على نفسك إذ تراك اعتزمت أمرا وحققته ولا بأس بعد ذلك أن تضع لنفسك نظاما آخر تتبعه ثلاثة أشهر وبذلك تكون قد وفقت إلى عمل برنامج وإن كان أفضل من هذا كله اجتنابك ذلك الجرح الخطر وهو الفشل. أما السبب الثاني لفشلك القديم فهو تلك الابتسامة الساخرة التي يلقاك بها أصدقاؤك إذ تخبرهم بما تعمله. فأوصيك ألا تذيع في كل مكان أنباء انتصاراتك فإذا كسبت معركة أو اثنتين فلوح بعلمك وسوف ترى أن هذه الابتسامة المشفقة الساخرة تموت قبل أنت تولد. والسبب الثالث هو أنك لم تنظم أوقاتك تنظيما جديدا. يجب أن تخصص جزءا من يومك لهذا العمل الجديد، لكن لا تنقص ساعات نومك أو تحشر أوقات عملك هذا بين وقتين ضيقين، كلا، أعط نفسك الوقت الكافي. وإذا نويت أن تفكر أو تقرأ نصف ساعة كل يوم فاجعلها في حساب وقتك ساعة، وليس هذا الاحتياط بكثير على المبتدئ. ألا يمكنك أن تقتطع من أوقات رياضتك ولهوك هذا الزمن القصير؟.

لقد صعقت أخيراً برؤيتي في أحد الضواحي انتشار الألعاب الرياضية والتمرينات البدنية واهتمام الناس بتقوية عضلاتهم وأجسامهم فقلت في نفسيأيها العقل المسكين المتهافت؟ إن لألعاب الكرة والتجذيف في القوارب والجولف والتنس فصولا مخصوصة وأنت محروم من مثلها. والآن وقد شرحنا الكيفية التي بها يبدأ الإنسان تمرين قواه العقلية والأسباب التي دعت إلى فشله قديما فإننا ننتقل إلى التمرينات التي يصح أن يأخذ في القيام بها. إن كثيرين يستخفون بالاشتراك في جمعية لتقوية الذاكرة لماذا لا يفعلون ذلك هزوا رؤوسهم وقالوا إن الذاكرة ليست كل شيء! كذلك يتردد كثيرون في حفظ شيء بظهر الغيب والحقيقة أن حفظ النثر أو النظم غيبا لمن أفضل التمرينات العقلية. إن معالجة الذهن ستة أشهر باستظهار عشرين سطرا كل أسبوع لينفي ركوده. وإن أهم ميزة للاستظهار هي القدرة على توجيه الذهن. ولا شك في أن القدرة على توجيه الذهن إلى العمل الذي تشتغل فيه هو أعظم مقدمات تربية النفس. وهناك تمرين عقلي آخر وهو أن تطالع صحيفة من أي كتاب ثم تأخذ في كتابة ما تذكره منها بكلمات من عندك أو بكلمات المؤلف نفسها. إن أمثال هذه التمرينات التي لا تشغلك أكثر من ربع ساعة في كل يوم لتأتي بالنتائج الباهرة. وعلى ذكر هذا ننتقل إلى ذلك التمرين العقلي العظيم وهو الكتابة. ولا يهمني بلاغة ما تكتب ما دمت تدأب على تركيب الجمل. إن هناك أربعين طريقة لتكتب كتابات خصوصية. فإنك تستطيع أن تتخذ لك مذكرات يومية أو إن شئت عملا أسهل فاتخذ لك دفترا بمثابة جريدة تدون فيه الحوادث المهمة. أو اكتب ملاحظاتك في الكتب التي تقرؤها الخ. . . ويأتي عقب الكتابة التفكير (وقد يبدو هذا الترتيب غريبا ولكني أصر عليه). إن تربية الذهن وتقويته تكتسبان بتمرينه الدائم على التأمل وإنعام الروية وبعبارة أخرى توجيهه عشر دقائق مثلا في كل يوم إلى التفكير في موضوع من الموضوعات العالية التي يستطيعها. نعم سيفشل الإنسان عدة مرات ولكن لا يجب أن يكترث بذل بل يثابر ويواظب في الطريق التي هو فيها. وقد طلب مني كثير من القراء أن أعين لهم الكتب التي يقرؤونها: فكأنهم يطلبون مني أن

أعين لكل واحد منهم ما يوافق مزاجه ويلائم روحه! ولكني لم أكتب مقالي هذا لأعين الطريق التي تؤدي إلى التربية العقلية ولكني كتبتها لأبين كيفية السير في تلك الطريق. وعساك أن تقول بأني أشغل نفسي بالبحث عن أحسن الطرق للمشي ولكني أرفض أن أعين الجهة التي تذهب إليها. وهذا حق. فإني لا أستطيع أن أعرف الجهة التي يريد غيري الذهاب إليها: ط. ر

حديقة أبيقور

حديقة أبيقور لكاتب الروائي الفرنسي الكبير أناتول فرنس مقتطفات من هذه الحديقة في الصومعة وجدت صديقيجان في الدير القديم الذي اتخذ من بوالي رسومه وعوافي أطلاله منزلا في العشر السنوات الأخيرة وقد تلقاني بالبشر الهادئ - بشر رجل ناسك - آثار الآمال البشرية ومخاوفها وساقني إلى حديقته الغير المنسقة حيث تعود أن يشعل غليونه ويدخن في كل صباح بين أشجار البرقوق المغشاة بالطحلب وجلسنا هناك على نقعد أمام مائدة واهنة مرتجفة لا تكاد تتماسك تحت حائط نتهدم قد علته الأزهار من ناضر ومصوح ننتظر طعام الإفطار وكان ضوء السماء الممطرة يرتعش من خلال أوراق أشجار الحور التي كانت يسمع لها همس ووسوسة من جانب الطريق وكانت سحب لؤلؤية تنجاب فوق رؤوسنا وكانت توحي إلى نفوسنا الحزن الناعم الرقيق ولكن الحزن الذي لا يبل من دائه. مرت به الذكر على حالاته الماضية فسألني عن صحتي وأحوالي ثم بدأ يقول في صوت خفيض وجبين متغضنإني وأن كنت عادة لا أقرأ فإن جهلي ليس موقى من المعرفة فقد علمت وأنا في وحدتي هذه ونسكي الذي كنت تسخر به في أيامك السوالف م الصفحة الثانية من إحدى الجرائد السيارة بظهور نبي عاقل بليغ التعبير حسن الأداة إلى حد أنه يعلم أن العلم وإجهاد الذهن هما المنبع الثر الذي تتدفق منه كل الأحزان والآلام والأوجاع التي يلاقيها الإنسان. وهذا الرائي. إذا كنت لا أزال أذكر الصواب - ذهب إلى أنه من أجل أن نجعل الحياة بريئة ومحبوبة فكل ما نحتاج إليه هو أن نطرح التفكير وننبذ كل تحصيل العلوم وأمن السعادة الوحيدة في الدنيا لا توجد إلا في الرأفة والرحمة الغير السببية المتبادلة وأن الأوامر والنواهي العاقلة والحكم البوالغ التي عيبها الوحيد ونقصها الفذ هو أن مبدعها قد عبر عنها وكان ضعيفا إلى حد أن يضعها في أساليب بديعة ويصبها في قوالب محكمة بدون أن يراعي أن صدم الفن بالفن ودفع العقل بالعقل معناهما أننا نقضي على أنفسنا ونذهب ضحية لأجل أن يكسب العقل مفخرة أية مفخرة ولينال الفن محمدة أية محمدة وأنك يا صديقي الهرم لترى أني لم أقع في هذا التناقض الذي يبعث على الرحمة وإني قد

نفضت نفسي كلية من الفكر والكتابة من بدأ اليوم الذي عرفت فيه أن الفكر شر وأن الكتابة لعنة وقد وصلت إلى هذه النتيجة وقوى من نفسي هذا العزم كما تعرف في عام 1882بعد طبع كتيب في الفلسفة كلفني الكثير من الآلام ونقدته الفلاسفة لأنه كان مكتوبا بأسلوب أخاذ ونمط من الإنشاء بديع وفي هذا الكتاب حاولت إثبات أن الكون مغلق السر غير مفهوم وقد كنت مغضبا عندما ذكر لي أني لم أفهمه كحقيقة منزوعة من برود الخيال مجردة من أثواب الأوهام وقد هممت للدفاع عن كتابي لذلك ولكن عند قراءته عجزت أن أتسقط معناه الحقيقي وجدت نفسي غامضا ملتبسا مثل أعظم فلاسفة ما وراء الطبيعة وأن الدنيا قد أساءت إلي وغبنتني لأنه ضنت علي بشيء من الإعجاب الذي تتسخى به عليهم وقد منعني ذلك من التفكير فيما وراء الحس فانصرفت إلى علوم الملاحظة ودرست علم التشريح ومبادئه راسية القواعد راسخة فقد مضى عليها الآن ثلاثون عاما وهي تتركب من تقييد ضفدعة بدقة بالدبابيس على قطعة من الفلين ثم شقها لملاحظة الشرايين والقلب ولكني أدركت بعد مدة قصيرة أننا بهذه الطريقة نحتاج إلى وقت أطول من الحياة التي تهبها لنا الدنيا لكي نصل إلى سر الأحياء العميق الخافي وحقيقتها البعيدة المتوارية وشعرت بغرور العلم الصافي الذي لا يضم بين أطرافه ومنفرجاته سوى جزء لا نهائي الدقة من المظاهر ويشارفه منه عدد محصور من الروابط والصلات ولا تكفي في خلق مذهب متين راسخ وفكرت دقائق في أن أقذف نفسي في مناطق الحرف وميادين الصناعة لكن رقة قلبي منعتني منذلك وليس هناك محاولة مهما اختلفت ضروبها يمكننا أن نقول عنها أنها سيأتي من وراءها من الخير أكثر ما يأتي من الشر وإن (كريستوف كولمبس) الذي كان يحيا حياة القديسين وكان يتشبه بالقديس (فرانسيس) كان بلا مدافع لا يفكر باستكشاف طريق جزائر الهند لو أنه كان يعلم أن استكشافه هذا سيريق الدماء ويكشف عن مذابح أمم عدة برمتها من ذوي الجنود الجمر وهم بلا مرية قوم مستوحشون مقبحوا السريرة فيهم شراسة وشر ولكن كل ذلك بمانعهم من أن يحسوا الألم لو كان يعلم أيضاً أنه سيجلب إلى الدنيا القديمة من ذهب الدنيا الجديدة من الأمراض والأسقام والجرائم ما كان من قبل مجهولا وكنت أظهر الامتعاض وأبدي الاستنكار عندما كان نفر من الأمناء المخلصين أن امضي إلى ممارسة الأسلحة النارية والمفرقعات التي كسبوا من وراءها

ثروات طائلة ومبالغ جسيمة أثلت مكانتهم وأعلت مراكزهم وقد صارت شكوكي حقائق من أن الحضارة كما يدعونها ليست إلا بربرية علمية فنحوت بفكري منحى آخر وحاولت ا، أصير مستوحشا ولم تعترضني صعوبات ولم تقم في وجهي حوائل في إخراج الفكرة وإبرازها من خبز الفكر إلى مجالات العمل في هذا الإقليم الصغير النائي الواقع على مسافة ثلاثين فرسخا من باريس والذي يقل سكانه تدريجيا وأنت رأيت في طرق القرية منازل خاوية قد لعبت بها أيدي العفاء وأكثر أولاد المزارعين ينزحون إلى المدن تاركين قرية قد صارت أملاكها موزعة بدقة إلى حد أنهم لا يستطيعون أن يجدوا بها وسيلة إلى عمل يحصلون به على قوتهم. ويظهر أنه قد آن اليوم الذي يشتري فيه مفكر ماهر كل هذه النواحي وينشأ فيها الأملاك الواسعة والضياع الفسيحة وسنرى المزارع الصغير يختفي في الريف كما يختفي الآن التاجر الصغير في المدن الكبيرة شيئا فشيئا ولقد دفعت ستة آلاف فرنك واشتريت بقايا ذلك الدير القديم بسلمه الحجري الأنيق والبرج المحدق به وتلك الحديقة التي تركتها نهبا لعبث الزمان وهناك أذهب أوقاتي في مراقبة السحب السائرة في السماء أو في ملاحظة الحشائش وسيقان الجزر المستطيلة وهذا عندي أجمل من تشريح الضفدعة أو من اختراع نوع جديد من النسافات. وعند ما يكون الليل جميلا ساجيا وأكون مستيقظا أحدق زواراً ولا أفكر في شيء ولست أكد النفس ولا أورى زناد الفكر لأستميلك إلى عزلتي وأجذبك نحوها. إني لسعيد فرح لأني سأقدم لك عجة البيض ونبيذا وتبغا ولكني أقول لك ورائدي الصراحة إن الأجمل ي والأوثق بنفسي هو لو أني أعطيت كلبي وأرنبي وحمامي قوتها اليومي الذي يجدد نشاطها ويرد عليها قوتها وهي لا تحوله إلى منافع رديئة مفسدة لكتابة رواية تشوش الذهن أو كتاب تشريح يسمم الوجود. في هذه اللحظة أحضرت لنا بيضا وقنينا من النبيذ الأحمر الزاهي فتاة مليحة المنظر على خديها تورد ولها عينان زرقاوتان مشرقتان ثم سألت صديقي جان هل هو يكره الفنون والآداب من كل قلبه كما يكره العلوم.

فأكد لي. لا. إن هناك عنصرا من عناصر الطفولة في الفنون إن هذا العنصر يجرد العداء الشد \ يد من سلاحه وإن النحاتين والمصورين هم ملوثو الصور الجميلة وهم صانعوا العرائس والألاعيب وليس أكثر من ذلك وأي ضرر عظيم في ذلك؟ بل ينبغي لنا أن نقر ونعترف بالفضل والألمعية للشعراء ولو لم يكن ذلك إلا لأنهم يستعملون الألفاظ بعد أن يجردوها من المعنى الجدي الرصين والمغزى الوقور الهام وسنبقى شاكرين لهم إذا كانوا لا يبتغون هذا المطرب بجد وحماسي وإذا هو لم يتركهم يتسكعون في مذاهب الأنانية الوضيعة الممقوتة وإذا هو لم يخلفهم سريعي الغضب خفاف الرأس فتلتهب في صدورهم نيران الحسد وتغلي فيه كراجل الأحفاد خليقين بمستشفى المجاذيب وتعاطي العقاقير الصالحة للعقل وعجيب أنهم يترقبون أن يحصدوا الشهرة وبعد الصيت من وراء هذه الزينة الكاذبة والزخرف الباطل وهذا دليل وضعي على خبلهم وجنونهم وإنه من بين كل أنواع الخط العقلي وأصناف الهوس الفكري الذي يلحق بالرجل المريض المأفون العقل فإن طلب الشهرة وحب الإعلان عن النفس هما أبعث أسباب الهوس والحنون والحماقة والغباء لهزاهز الضحك وأشدها إثارة وتحريكا لبسمات السخرية والاستخفاف كما أنه مستجم أكثر الشرور ومستنقع أكثر البلايا وأنا لا أستطيع إلا أن أرثي لحالهم وأتوجع ويقض مضجعي ما حل بهم وإن العمال هنا يغنون على المحراث الأغاني القديمة التي شدت بها آبائهم والرعاة وهم جالسون على جوانب التلال يحفرون بأطراف سكاكينهم صورا صغيرة من جذور خشب البقس وربات المنازل يصنعون من العجين أرغفة في شكل حمائم وقماري وهذه فنون بريئة لا عيب فيها ولا تتخللها سموم الكبرياء ولا ميكروبات الصرف وهي سهلة هينة وملائمة للضعف البشري وعل نقيضها فنون المدن فإنها تستدعي مجهودا وكل مجهود ينتهي بالألم. ولكن الذي يلم إخواننا البشر ويحزنهم ويشوههم ويقبحهم هو العلم الذي يوجد لهم علاقات وروابط بأشياء لا تتناسب مع قوتهم وهو يفسد كل شرائط الاتصال الحقيقي للإنسان بالطبيعة وهو يستفزهم إلى الفهم بينما من الجلي الظاهر الغني عن البرهان أن الحيوان خلق ليشعر لا ليفهم والعلم ينمي الذهن - ذلك العضو العديم الفائدة - على نفقة الأعضاء الأخرى التي يشترك فيها مع الحيوانات وهو يقصينا عن التمتع بلذاذات الحياة ويمنعنا من

إرخاء أعنة النوازع والشهوات التي نعاني من أجلها شوقا غريزيا وهو يزيد في شقاوتنا ويشعل الخابي من جمرات همومنا بالخيالات المخيفة والصور الرهيبة التي يعرضها علينا وليس لها من وجود إلا في تركيبه وجهازه وهو يؤيد ضعفنا ويزيدنا يقينا به وإيمانا بمقارنتنا إلى الأجرام السماوية وبإظهار قصر حياتنا إلى جانب قدم الدنيا ويظهر عجزنا لأنه يفسح لنا مجالا للتظني فيما لا نستطيع أن نبصر ولا أن نلمس ويكشف عن جهلنا لأنه يبين لنا روعة المجهول ويجلي لنا حقارتنا وتفاهة قدرنا بتكرار الأشياء التي توقظ تلفتنا تستدعي تطلعنا دون أن يجبنا عليها. وأنا لا أقر الكلام على نتائجه الفكرية فإننا عندما نتخطى إلى التطبيق العملي نرى أن مخترعاتنا ليست إلا وسائل للتعذيب طريفة تدل على المهارة والتبصر وأن ماكيناتنا لتحكم بالموت على أفراد الإنسانية التعسة الأسيفة. زر أي مدينة صناعية أو انزل إلى أي منجم من المناجم وانظر إن كانت المظاهر التي تراها تختلف كثيرا عن النار الموقدة التي يتصورها أشد رجال الدين تعصبا وتحمسا وإننا لنبدأ نشك عند إمعان النظر وإجالة الفكر في أن ضرر مجلوبات الصناعة للذي يصنعها أقل من الضرر العائد على صاحبها ونبدأ نفكر في الترف وهل هو أفدح أمراض الحياة عاقبة وأشملها ضررا، ولقد عرفت أقواما من كل طبقات المجتمع ولم أقابل في حياتي أحدا وصل من التعاسة إلى ما وصلت إليه سيدة من ذوات المنزلة في باريس وهي امرأة حسناء كانت تنفق على ملابسه خمسين ألف فرنك في العام وإن هذه حالة تفضي بصاحبها إلى إنهاك الأعصاب ومرضها العزيز الشفاء. ثم صبت لنا القهوة الفتاة القروية الحسنة المظهر ذات العيون الصافية وعليها ظواهر السذاجة القانعة. فأشار إليها صديقي جان بعنق غليونه وكان ملأه في الوقت نفسه وقالانظر إلى تلك الصبية وأنها تعيش على الخبز ولحم الخنزير المملح وكانت البارحة تحمل حزمة من القش على المذراه وغنك لتبصر الآن قطعا منها على شعرها وهي سعيدة وبريئة في كل ما تفعل لأن العلم والحضارة قد خلقا الخطيئة كما خلقا المرض وإني لأقاربها سعادة وأشابهها في خلو البال لأني أفكر في شيء ولا أقوم بعمل شيء وإني لا أزرع حديقتي بل أتركها تنمو

جامحة مطلقة من أن أعمل عملا أجهل عاقبته وبإتباعي لهذه الطريقة وسلوك هذا المسلك تراني مقتنعا بسكون العقل التام وصفاته الخالصة. فقلت لهلو كنت في موضعك لما أمكنني أن أشعر بنفسي السلام والأمن والهدوء الذي تشعر به وإنك لا تستطيع ولن تستطيع ولا يمكن أن يكون قد تهيأ لك أن تسحق في نفسك كل المعرفة والفكر والعمل وتخمدها لتطعم الراحة النقية الخالصة. ولا تنس أنه مهما فعلنا فإن الحياة هي العمل وأن نعيش هو أن نعمل وإن نتائج المخترعات العلمية والاستكشافات تخيفك لأنها لاتحد ولا تحصر ولكن اعلم أن أبسط الأفكار وأشد الأعمال الفطرية تتضمن أيضاً نتائج لا ينالها الحصر ولا يحويها العد وإنك لتكون قد أفرطت في مدح العقل وأكثرت من التنويه به وبالصناعة إذا ظننت أنهما هما المتحكمان في مصير الإنسانية وإن كثيرا من أشياء هذا العالم تصنعها القوات الجاهلة الغير الشاعرة بنفسها وهل في وسعنا أن نتنبأ بتأثر اكبر حصى أزيحت من جانب التل! أنها قد تؤثر في مصير الإنسانية تأثيرا ظاهرا فعالا أكثر مما يؤثره طبع كتاب علمي قيم واختراع مثل اختراع الكهرباء. وإن ظهور الاسكندر ونابليون على ملعب الأيام لا يمكن أن يرد إلى أسباب فكرية مقصودة وليس هو من النوع العلمي ولكن على رغم كل ذلك فإن مصير ملايين البشرية تأثر بظهورهما واشتبك فيه وهل تظن أننا ندري قيمة المعنى الحقيقي لما نعمل وأن في كتاب ألف ليلة حكاية لا يمكنني أن أمسك عن تفسيرها تفسيرا فلسفيا وأقصد بذلك حكاية التاجر العربي الذي جلس وهو عائد من الحج إلى مكة على حافة عين جارية ليأكل بعض الثمر وكان يروي بنواة في الهواء فكان أن واحدة من هذا التمر قد قتلت مخلوقا غير ظاهر - أحد أولاد الجان - ولم يكن ذلك التاجر التعس يحلم أنه سيحدث ذلك من وراء رمي النواة ولما أخبر بهذه الجريمة التي اجترمها أبلس حتى لم يكد يجيب من الخوف والذعر ولم يكن قد أعمل الفكر من قبل في العواقب المحتملة لأي عمل نعمله فهل نستطيع أن نعلم إذا رفعنا ساعدنا أننا سوف لا نصفع جنيا في الهواء كما حدث للتاجر؟ وإني في مكانك لا أستطيع أن أشعر بالراحة والطمأنينة ومن علمك إن إقامتك الهادئة في هذه الصومعة التي زاد فيها نمو اللبلاب وغيره من النباتات الصخرية ليست عملا صادق التأثير نافذ المفعول في

الإنسانية وإنه أعمق في الأهمية وأبعد غورا من كل مخترعات العلماء وتواليفهم وأنه ينتج تأثيرات هائلة مخيفة وحوادث رائعة رهيبة في الأيام المقبلة؟؟ هذا غير محتمل ولا مرجح. ولكنه غير مستحيل وإنك تعيش عيشة غريبة وتتكلم كلمات غريبة يمكن أن تجمع وتطبع وهذا كاف في ظروف خاصة في أن يكون منك بكرهك صاحب ديانة جديدة وملايين الناس قد تعتنقها وقد يضرهم ذلك وينزل بهم إلى مهابط التعس ويرمي بهم مرامي الشقاء وقد يقتلون آلاف البشر وهم لا ينون يرددون اسمك مشفوعا بالشكر والدعاء. ينبغي للإنسان أن يموت إذن ليصير بريئا ليحوز الهدوء التام. أعد النظر فيما تقول فإن الموت عمل لا يمكن أن نحصر ما يأتي وراءه من المحتملات والمتمكنات. علي أدهم

مجاعة وقحط في الأزواج

مجاعة وقحط في الأزواج بلغت قلة الرجال في أوروبا الوسطى حدا جعل النساء يتلمسون الزواج تلمسا ويتطلبونه بكل وسيلة. والحق ان الأزمة الرجالية مستحكمة فإن كل عشرة من النساء لا يكاد يقابلها رجل واحد. والصحافة حافلة بإعلانات الزواج ليس من النساء فقط بل من أمهاتهن وآبائهن وأخواتهن فلا أقل من خمسة أنهر في كل جريدة تخصص في هذا الشأن. وإليك صورة إعلان من هذه الإعلانات العجيبة نشر في جريدة نمساوية: تطلب ابنتي زوجا وهي، ذكية، مستنيرة، جميلة، بم تتجاوز السادسة والعشرين من العمر، من عائلة عريقة في النسب وديعة. رقيقة الإحساس تملك مليونا من الكرونات النمساوية تود أن تتزوج من رجل من أصل شريف يكون قد فكر في الزواج وأع له العدة ويجب على من يتقدمون لذلك أن يكونوا ناسا ذوي حيثية ومكانة الإمضاء

كتاب الصور

كتاب الصور تأليف واشنطون إيرفنج وهو الكتاب المقرر على طلبة الشهادة الثانوية في هذا العام السياحة لا جرم أن الوافد على أوروبا من الأمريكان مصيب في سياحته الطويلة أفضل ممهد لوفدته. وأحسن مهيأ لقدمته. وذلك أن فترة انقطاعه عن المناظر والأشغال الدنيوية خليقة أن تترك صحيفة ذهنه على أتم استعداد للتأثر بما سوف تتلقاه من الصور والعاني الجديدة. فإن بطائح المياه المنفسجة الفاصلة بين شطري الكرة الأرضية هي كصحيفة غفل بيضاء في كتاب الحياة فليس قمة انتقال تدريجي كالذي يكون في أوروبا سببا لاندماج مملكة في أخرى من حيث أهليهما ومعالمهما. فمتى اختفى عن بصرك البر الذي تفارق لا ترى إلا فراغا حتى ترسي على الساحل المقابل ثم تزج دفعة واحدة في غمرة ضوضاء عالم جديد وتغمس في حومة طرائفه وغرائبه. والسياحة البرية تتصل فيها المناظر وتطرد فيها سلسلة نظام الأشخاص والحوادث المؤلفة من حلقاتها قصة الحياة والتي هي جديرة أن تضعف ما ينشأ في النفس من أثر الغيبة والفرقة ولا مشاحة في أننا لا نزال أثناء السياحة البرية نجرسلسلة تتزايد حلقاتها بعد كل مرحلة نقطعها من سفرنا ولكن هذه السلسة متصلة غير منقطعة نستطيع أن نتتبع ما خلفناه منها وراءنا حلقة حلقة ولا نزال نشعر أن آخر هذه الحلقات يربطنا بالوطن أما السياحة البحرية النائية فهذه تصرم الأسباب وتجذم الروابط للتو واللحظة وتشعرنا بأننا قد نبذنا من مرسى الحياة المستقرة وقذفنا من مرفأ العيشة المطمأنة على غارب غباب عالم ظنين متهم تحفه الشكوك والريب. فهي تحول بيننا وبين الأوطان بهوة حقيقية غير وهمية عرضة للعواطف والظنون والمخاوف يظل معها البعاد أمراً محسا ملموسا والأوبة غير مضمونة. تلك كانت حالتي شخصياً. فلما غاب عن بصري أخر معالم بلادي مضمحل الزرقة أقصى كأنه السحابة المنجابة خيل إلي كأنما قد أقفلت جزء من كتاب الدنيا وشؤونها وأنفسح لي مجال التأمل والاعتبار قبل افتتاح جزء آخر. هذه الديار المتقلصة من ناظري - تلك التي تضم في حضنيها وتجمع بين دفتيها كل كل ما هو محبب إلي في الدنيا - ماذا يحتمل أن

يصيبها من صروف المحن. وتقلبات الزمن. وماذا يحتمل أن يصيبني أنا من تبدل وتحول قبل أن تسعدوني المقادير بالإياب! ومن ذا الذي يستطيع حين يهم بالرحيل أن يعلم أيطوح به تيار القدر التعسف. أم متى تكون أوبته إلى وطنه. وهل يتاح له ثانيا أن يشهد معالم طفولته. ومآلف شبيبته. أم هل يباح الورد ثانية ... ويلذ برد الماء مرتشف قات أنك لا ترى في البحر إلا فراغا وإني لجدير أن أصحح من هذه الفكرة بقولي بل إن البحر لصحيفة مملوءة بالمعاني الباعثة على التفكير والتأمل ولكن هذه المعاني ليست سوى عجائب البحر والهواء مما هو أجدر أن يصرف الذهن عن شؤون الدنيا ويجرده من شوائب الحياة المدنية ولكم سرني أن أشرف من فوق سياج السفينة في اليوم الساجي منغض الرأس للنعاس أو أعتلي ذؤابة الدقل أقضي الساعات تأملا فيس ساحة صدر اليم الهادئ المشتمل في غلالة المصيف أربو إلى ركام السحب المطرزة بحواشي النور المذهب تشرأب إن تبرز من حجاب الأفق فأخالها مآلف جان ثم أعمرها بخلائق من صنيع خيالي - وأراقب مجرى الأمواج تقلب أجرامها اللجينية كما لو كانت تود أن تضمحل فتموت على تلك السواحل الهنية السعيدة. لقد كنت أشعر بمزيج من الأمن والخوف والرهبة والطمأنينة لئن كنت أشرف من ذلك المربأ الشاهق على عجائب مخلوقات اليم تلعب ألعابها الخشنة الخرقاء - فمن أسراب درفيل تتنزى حول مقدم السفينة وحوت يرفع جرمه الجسيم فوق الماء في بطأ وتثاقل. وكلب بحر جارح فراس يمرق من خلال اللجة الزرقاء كالطيف السانح. والبرق اللامح. وعند ذاك يستثير خيالي كل ما سمعت أو قرأت من عالم الدأماء الذي أعتليه ـعن ذوات الزعانف الجائبة ووديانه السحيقة الأعماق مما لا يدرك مداه. ولا يبلغ أقصاه. وعن الخلائق المنكرة الهائلة غير ذات الصور والأشكال - الكامنة بين أساس الأرض وقواعدها وعن تلك الخيالات الخارقة مما تفيض به أقاصيص النوتية وصياد البحر. وأحيانا يبدو لك من أقصى مسافة شراع سفينة تنساب على حافة اليم فيكون مبعثا لخطرات بالك. وسنحات خيالك ويا عجبا لهذه السفينة المنسابة. إنها لعمرك عالم ضئيل ودنيا دقيقة تسرع لتنضم إلى السواد الأعظم في هذا الوجود! هذه آية بارعة من آيات إبداع

البشر قد تغلبت بوجه ما على الرياح والأمواج وضمت طرفي العالم. وقامت بين أنحاء الأرض واسطة تبادل للخيرات. وتقايض للبركات تصب في حجر الشمال الممحل الجديد. جملة مناعم الجنوب. وتبث نور العرفان وثمار التربية والتهذيب. فهي بذلك قد ألفت الشمل بين المتفرق المنتشر من أجزاء النوع البشري مما كان يحسب أن الطبيعة قد أقامت بين بعضه والبعض حائلا صعب المرام وسدا منيعا متعذر الاقتحام. ولقد بصرنا ذات يوم بشبح مبهم الشكل يطفو على مسافة منا. وكل شيء يبدو على ظهر الماء يظل لانفراده وسط ساحة المياه الفيحاء المتماثلة الأرجاء المتشاكلة الأنحاء خليقا أن يلفت النظر. ويجذب البصر. ولما استبن ذلك الشبح ألفيناه دقل سفينة لم نشك في أنها قد غرقت فأهلكت إذا أبصرنا بقايا مناديل كان بعض النوتية قد شدوا بها أنفسهم إلى ذلك العمود حتى لا يحتاجهم الموج ولم يكن ثمة من آثار الفينة ما يستدل بها على اسمها والظاهر أن حطامها كانت الأمواج ما برحت تتقاذفه منذ شهور عدة فهو يذهب على سطح العباب كل مذهب ويضرب في كل مضرب: وكان قد اعتقله ونشبت به قطع متكاثفة من المحار وخففت على جانبيه أوراق بسيطة مسترسلة من عشب الماء. فقلت في نفسي (ترى أين النوتية؟ لقد انقضى كفاحهم العنيف منذ بعيد وقد رسبوا بين زماجر العواصف فعظامهم اليوم بأعماق اليم يضمحل ثاويها. ويبيض باليها. وقد طواهم النسيان (كما صنع بهم العباب) بين غضونه وأثنائه، وغيبهم الصمت والسكون في ضمير أحشائه، فليس من أحد يستطيع أن يدل على آثارهم أو يحدث عن أخبارهم. وهذا المركب الغريق كم من زفرات لدى الرحيل شيعته. وكم من نظرات ودعته. وكم من دعوات بالغنم والسلامة تصاعدت لركبه التعساء من حول مواقد هجروها في ديارهم فأضحت من بعدهم موحشة نابية. وعادت روضة النعيم بهاذاوية. وتعطلت فيها مجالس اللهو وكانت بهم صدورها حالية. وكم من زوجة وحبيبة عكفت على صفحات جريدة لتظفر بين سطورها بشارد نبأ عن تلك السفينة الجوابة للبحار: الوثابة على القحم والأخطار! وكيف استحال القلق إلى ظلمة الخوف واستحال الخوف إلى السواد واليأس. فوا أسفا أن لا يرجع البتة من تلك السفينة تذكار واحد يكون عما مضى عزاء تستريح إليه النفس ويهفوا إليه الضمير بل كل ما عساه أن يعرف هو أنها أبحرت من المرفأ ثم نقطع خبرها أبد الآبدين؟).

وقد حرك منظر الحطام بعض القوم - كما هو المعتاد - إلى سرد الكثير من فاجع الروايات وقد جرى ذلك لأخص ساعة الغروب إذ طفق الجو بعد صحوه يكفهر ويربد. وينذر ويهدد. ويؤذن ببعض هاتيك الزوابع المباغتة التي ربما أغارت على صفاء سكينة السياحات الصيفية. فجعل كل منا وقد أخذنا مجالسنا من الطارمة حول شعاع مصباحها الكليل الذي كان لا يزيد ظلمة المكان إلا وحشة ورهبة - يلقي بما عن له من القول عن حوادث الغرق والهلاك. فكان أدهش ما سمعت من هذه الأحاديث موجزة ألقاها القبطان قال: بينما أنا ذات مرة في مركب رائع ضخم أسيح بين سواحل (نيوفوندلاند) أتيح بعض تلك الضبابات الكثيفة مما يكثر في تلك الأنحاء فقصرت مدى ألحاظنا ومنعتنا رؤية ما تباعد من الأشخاص حتى في ضوء النهار. أما بالليل فقد أفرطت كثافة الغيم بما أبهم علينا صور المرئيات وأخفى أشباحها حتى على مدى ضعف طول المركب. فأشعلت أضواء في ذؤابة الدقل. وأقمت الأرصاد يرقبون ما عسى أن يسوقه القدر من قوارب السمك المعتادة الرسو على السواحل وكانت الريح إذ ذاك تهب نسما نفاحا والمركب يهفو بنا سريعا. فإنا لكذلك إذ صاح الرقيب بغتة (هاكم قارب!) وما كاد يفوه بها حتى هبطنا على القارب وكان زورقا صغيرا وكان زورقا قد ولانا عرضه وكان النوتية كله رقودا وقد فاتهم أن يرفعوا مصباحا فاصطدمنا بالقارب. ثم كان من قوة الصدمة وضخامة مركبنا وثقل أبداننا ما حط ذلك القارب تحت الأمواج وغمره بالأمواه ثم اجتزنا من فوقه ومضينا في طريقنا. وبينما القارب المتحطم يرسب من تحتنا حانت مني التفاتة فلمحت اثنين أو ثلاثة من ركابها البؤساء عارية أنصاف أجسادهم خارجين من الطارمة. لقد هبوا اللحظة من فرشهم لتبتلعهم ذئاب الموج العاوية. وسباعه الضارية ولقد والله سمعت صرخت غرقهم يخالطها عزيف الريح العاتية. وما لبث الإعصار الذي حمل إلينا تلك الصرخة أن أطاحنا وراء مسمع كل صوت من أصوات تلك المأساة الفاجعة. على أني مهما أعش فلست بناس تلك الصرخة! ولم يك إلا بعد برهة أن استطعنا تعديل سير مركبنا لما كان قد تغلب عليه من سطوة اليم. ثم عدنا مسترشدين برائد الحدس والتخمين إلى حيث كان القارب قد أرسى فسرنا بضع ساعات في ضباب كثيف وأطلقنا طلقات أشارية

لعلنا نسمع هتاف من عساهم يكونون قد أفلتوا من مخالب المنون ولكن الصمت كان شاملا، ولم تر أبصارهم ولم تسمع أذاننا من أثر منهم ولا خبر. ولا أنكر أن هذه الأقاصيص أودت بلذيذ تصوراتي مدة من الزمن. واشتدت العاصفة على امتداد الليل وضربت الزوبعة غوارب الموج بأصوات الرياح فبددت وئامه. وشوشت نظامه. وكان يسمع بتكسر الموج وتدفع الأذى صوت مخوف موحش. وتجاوبت من اللجج الأعماق. وتراءت الأنواء بالآفاق. وخيل إلينا في الأحايين أن سود السحائب فوقنا كانت تتصدع بصوارم البارقات الخفاقة على رؤوس الموج المزبدة الراغية فتضيء لحظة ثم تترك الظلمة التالية أرهب وأخوف وتداعت زماجر الرعود فوق قفار المياه الموحشة فأجابتها الأصداء من غيران الجبال بما أطال صوت زئيرها ومد في شأو هديرها. ولما نظرت إلى سفينتنا تترنح وتتعثر بين هذه الحومات المتفجرة وكهوف الماء الضجاجة المزمجرة، خيل إلي أن تماسكها وسط هذه الزعارع وتوازنها بين هذه الزلازل كان حقا أحد المعجزات الخارقة. وكانت ربما انغمست رواجعهاو اندفن مقدمها تحت أطباق الموج وأحيانا كانت تشرمن فوقها اللجة فتهم أن تتلمسها لولا حركة حاذقة من الدفة تقيها الهجمة الهائلة والصدمة الغائلة. ومازال ذلك المنظر المخوف يتشبه لي ويتراءى حتى بعد ما عدت إلى حجرتي وقد جعل حفيف الريح خلال الجبال يرن في آذاني كعويل المآتم. وما كان أشنع صريع الأدقال وأنين الحواجز وضجيجها إذ المركب يكدح في عباب اليم المتقلب وكان يخيل إلي والموج على جنبات المركب يتمطر وهديره في آذنه يضج ويزأر كأنما الموت ذاته يدور ثائرا حنقا حول ذلك السجن العائم يتلمس فريسته فلو إن مسمار ند عن مغرزه أو انفجر ما بين لوحين من ألواحها الملتئمة لا نفتح بذلك الباب لوافد المنية فأخلى ما بينه وما بين الضجة. ولكن لما طلع علينا الغد بالصحو الجميل ولانت سورة البحر وخيمت عليه السكينة وهبت الريح رخاء مؤاتية بدد هذا الصفاء ما كان قد استحوذ على نفسي من تلك الخواطر الحزينة. ولا غرو فإن المرء لا يسعه إلا أن يلين رقة ويصبو طربا إلى محاسن الصحو الجميل و

النسيم العليل على صدر اليم. ومتى تبرجت السفينة في جل أبرادها وحللها وانتفخ كل شراع ومر يزهى مرحا فوق طرائق الموج المسرد وحبائل الماء الطرد بدت لك وأيم الله أكمل ما تكون أبهة وجلالا وروعة وجمالا وكأن قد أدالها من الخضم الزاخر وأثرها عليه بالعزة والسلطان. لو سمح لي المجال ها هنا لأفعمت كتابا هائلا بوصف ما يعتاد المرء في الرحلة البحرية من سوانح الخيال فإن هذه السوانح لتطرد عندي إطرادا غير منقطع ولكنه قد آن لنا أن نعمد إلى الساحل. وفي ذات صباح وضاء وضاح الجبين نودي من قمة الدقل (البر) ليس يتأتى لغير مجرب مكابد أن يدرك لذة ما ينثال على قلب الأمريكان من معسول الخواطر العذبة وشهي الإحساسات لدى أول رؤيته سواحل أوروبا. فإن مايقترن بهذا الاسم من السوانح والمعاني لجدير أن يملأ كتابا كاملا. هذه هي الأرض الموعودة قد غصت بكل ما كان سمعه السائح الجوال في طفولته وتأمله أثناء دراسته. وما زال ذهني منذ تلك اللحظة لحين وصولنا مثارا للخواطر الجياشة والعواطف المهتاجة. فكان في مشهد المدرعات الحائمة على الساحل كأنها الحرس من المردة وفي رؤوس إيرلندة الممتدة في الخليج وجبال ولز الشامخة فوق مجرى الغمام - مجال المتبصر. ومسرح المتفكر. ولما أصعدنا في (مرسى) استطلعت أنحاء السواحل بالمرقب فقر بعيني منظر الأكواخ الأنيقة الحسنة محلاة الأكتاف ببديع البساتين وخضر الرياض وأبصرت إطلالة دير دارسة مندثرة قد نسجت عليها يد البلى حللا قشيبة من الأعشاب ورأيت مستدق ذؤابه البرج من كنيسة قروية مشرفة من جبهة تل مجاور وهذه كلها من معالم انكلترا الخاصة وآياتها المميزة. كانت حركة المد والجزر إذ ذاك ومهب الريح مؤاتية مساعفة فتسير للسفينة أن تبلغ رصيف المرفأ للتو والساعة. وكان غاصا بالنظارة من اللاهين وبغير هؤلاء من الأحباب الواجدين المتلهفين شوقا إلى لقاء الخلان والأقارب وقد استطعت أن أميز من

بين هذه الجموع المحتشدة التاجر المعهود إليه أمر السفينة - عرفته بما كان يبدو عليه من القلق وما ارتسم على جبينه من سيما التقدير والمحاسبة وكان واضعا يديه في جبينه يصفر كالمفكر المتروي رائحا غائدا وسط مجال ضيق كان قد أفسحته له المزدحمون احتراما وإعظاما لأهميته المؤقتة. وكان الهتاف والتحيات تتبادل بين الساحل والمركب كلما تعارفت الأصدقاء. وقد بصرت بامرأة فتية بذة الهيئة لكنها مستملحة الملامح والشمائل وكانت مقبلة بوجهها من بين الجموع وقد جالت ببصرها سريعة اللمحات في أنحاء المركب تلتمس من بين ركابها وجها مؤملا محبوبا وكأنما خاب ظنها فاستولى عليها الإشفاق والقلق. وما لبثت أن سمعت صوتا خافتا يناديها باسمها. وقد انبعث هذا الصوت من نوتي مسكين كان قد مرض أثناء الرحلة حتى رحمه كل من في السفينة وكان قرناؤه لما أقبل الصحو فرشوا له وسادة في مكان ظليل من السفينة ثم ألح عليه المرض في أخريات الرحلة حتى ألجأه إلى حجرته وقد قال لعواده أن أقصى مناه أن يبصر زوجته قبل مماته. فحمله أخوانه إلى ظهر المركب لما أصعدنا في النهر فاتكأ على الشراع وقد بدا من هزال وجهه وفرط صفرته وشحوبه ما ليس يستغرب معه إن أخطأته ألحاظ الشغف والولوع من زوجته المشتاقة. ولكنها ما سمعت صوته حتى انثنت ألحاظها نحو وجهه فقرأت على صحيفته لأول وهلة كتابا مستفيضا من الحزن والأسى فضمت يديها وأرسلت صيحة ضعيفة ووقفت تعصر كفيها المضمومتين في وجد صامت. وعم بعد ذلك الهرج والمرج - فتقابل الصاحب وتصافح الأحباب. وتآسى التجار وأرباب الأشغال. ووقفت بينهم فريداً ساكتا لا أجد من ألقاه ولا من يلقاني ويهتف لي ويرحب. ثم نزلت بديار آبائي وأجدادي ولكني وجدتني فيها غريبا. .

رواية تاجر البندقية

رواية تاجر البندقية تأليف وليم شاكسبير الفصل الثاني المنظر الثاني شارع بفينسيا يدخل لانسيلوت لانسيلوت - حقا إن ضميري لينهاني أن أهرب من هذا اليهودي مولاى ولكن الشيطان يوسوس لي حثا وتحريضا قائلا ليأي جوبو. أي لانسيلوت جوبو. أيها الطيب الكريم لانسيلوت جوبو امتط رجليك وتحفر وفر فرارا ثم يعاودني ضميري بقولهكلا. بل اتئدوترو يا لانسيلوت الصادق الأمين. تبصر وتدبر يا لانسيلوت الأمين الصادق. لا تهرب احتقر الهرب أشد احتقار ثم يراجعني الشيطان الباسل الشجاع فحثني على الرحيل قائلااذهب لا أبالك! حرك عزيمتك وأيقظ همتك واهرب فينثني إلي الضمير مستثيرا بالحض والإغراء عزيمة قلبي مسديا إلي أحكم النصيحة بقولهأي لانسيلوت يا صاحبي الأمين أما أنت سليل رجل ماجد - بل سليل امرأة ماجدة فلا تبرح مكانك ويقول الشيطانابرح مكانك ويعيد الضمير قولتهلا تبرح مكنك فأجيب قائلا أيها الضمير حبذا نصيحتك وأيها الشيطان ما أحسن نصيحتك فإتباعا لضميري يجب علي البقاء مع مولاي اليهودي وهو - حماك الله - صنف من الشياطين. وفي فراري من اليهودي طاعة للشيطان - وقالك الله - إبليس نفسه. ولا مشاحة في أن اليهودي هو إبليس مجسد. وفي اعتقادي وضميري أن ضميري ليقسو علي غلظة وفظاظة إذ ينصح لي بالبقاء مع اليهودي. ولذلك أرى الشيطان أكرم نصحا وأبر إرشادة. فيا أيها الشيطان لأهربن عملا بنصيحتك. فاعلمن أن قدمي رهن إشارتك. نعم سأهرب (يدخل الشيخ جوبو والد لانسيلوت) جوبو - سيدي الشاب. أين بالله منزل السيد اليهودي؟ لانسيلوت (جانبا) يا الله! هذا أبي الذي ولدني ونماني! وأراه للذي به من العمى وما فوق العمى لا يعرفني. سأرهقه تحييرا وتضليلا.

جوبو - سيدي الشاب أين بالله منزل السيد اليهودي؟ لانسيلوت - عرج يمينا لدى أول منعطف ثم عن يسارك عند تالي منعطف. وعند ثاني منعطف مباشرة لا تعرج لا يمينا ولا يسارا ولكن عرج منحدرا غير مباشر نحو منزل اليهودي. جوبو - وحق أولياء الله القديسين إنها السبيل أشق من أن يهتدى إليها. أتعرف يا فتى هل ذلك الغلام المدعو لانسيلوت القاطن في دار اليهودي لا يزال يقطن هناك؟ لانسيلوت - أتعني السيد الصغير لا نسيلوت (جانبا) الق إلي بالك الآن. لأثيرن اللحظة زوبعة - أتسألني عن السيد الصغير لانسيلوت. جوبو - ليس بسيد وإنما ابن رجل صعلوك فأبوه - وإن كان هذا القول صادر مني - رجل على فرط صعلكته أمين وفي كفاف من العيش. لانسيلوت - دعنا من ذلك وليكن أبوه كما يشاء إنما نتكلم عن السيد الصغير لانسيلوت. جوبو - لانسيلوت فقط وليس كما تقولالسيد لانسيلوت. لانسيلوت - ولكني أرجوك لهذا السبب يا أيها الشيخ - ولهذا السبب أرجوك وأتوسل إليك - فقل لي أتسألني عن السيد الصغير لانسيلوت؟ جوبو - عن لانسيلوت إذا مننت وتفضلت يا سيدي. لانسيلوت - إذن فالسيد لانسيلوت. لا تذكر السيد لانسيلوت يا والدي لأن الفتى بحكم الأقدار والأقضية وما لا تزال تلوكه أفواه المتشاعرين من أمثال قولهم (الأخوات الثلاثة: ملائكة القدر - قد قضى نحبه أو كما تقول أنت باللغة البسيطة قد مات). جوبو - لا قدر الله. لقد كان الغلام عماد هرمي ودعامة شيخوختي. لانسيلوت - (على حدة). أفي هيئتي ما يشبه القضيب أو العمود أو العصا أو الدعامة؟ أتعرفني يا والدي؟ جوبو - واأسفاه. أنا لا أعرفك أيها الشاب ولكن ألا تخبرني عن بني - أراح الله قلبك - أميت هو أم حي؟ لانسيلوت - ألا تعرفني يا والدي. جوبو - واأسفاه يا سيدي. إني لأوشك أن أكون أعمى. كلا لا أعرفك.

لانسيلوت - بل لو بقي لك بصرك لأوشكت أن لا تعرفني أيضا. فرحم الله امء عرف ولده وفلذة كبده. مهلا يا والدي سأنبئك الأنباء عن نجلك. باركني (يركع موليا الرجل ظهره) لابد أن يبرح الخفاء ولا يلبث المحجوب طويلا حتى يظهر. وقد يطول احتجاب الولد عن أبيه ولكن لا بد أن تظهر الحقيقة في النهاية. جوبو - انهض بالله يا سيدي أنا على يقين من أنك لست ابني لانسيلوت. لانسيلوت - بالله عليك ألا ما تركت هذا الحمق والعبث - ثم باركتني. فأنا غلامك سالفا ونجلك حاضرا ووليدك مستقبلا. جوبو - ما أحسب أنك ولدي. لانسيلوت - لا أدري كيف أفهم ذلك ولكني لانسيلوت غلام اليهودي وأعلم يقينا أن زوجتك مارغريت أمي. جوبو - اسمها حقا مارغريت. أقسم لو كنت لانسيلوت لكنت إذن دمي ولحمي. لله مزيد الحمد والثناء! ما أعظم لحيتك! لذقنك والله أكثف شعرا من ذيل حصاني دوبين. لانسيلوت - (ينهض) يظهر إذن أن ذيل دوبين ينمو إلى الوراء. أنا واثق أن ذيله كان أغزر شعرا من وجهي حين آخر عهدي به. جوبوـ يا الله! شد ما تغيرت! كيف حالك مع سيدك؟ لقد جئته بهدية على أية حال من الوفاق أنتما؟ لانسيلوت - بخير. يخير. ولكني إذ كنت قد أقلقت راحتي ابتغاء الفرار فلن أخلد إلى راحتي قد جريت شأوا. إلاأن مولاي يهودي عريق في اليهودية. تقدم إليه هدي! بل قدم إليه حبلا ليشنق نفسه. لقد هلكت جوعا في خدمته حتى لتستطيع أن تعد أضلاعي. لقد سرني قدومك يا أبتاه. هبني هديتك أقدمها إلى سيد يدعى باسانيو لا يزال يمنح الخلع الجديدة النادرة. فإذا لم أوفق إلى الالتحاق بنفره وخدامه فلأذهبن في فضاء الله إلى آخر الدنيا. يا لحسن الحظ لقد جاء الرجل. هلم إليه يا أبت. لفئن أقمت في خدمة اليهودي بعد الآن لحظة لأكونن يهوديا مثله. (يدخل باسانيو مع ليوناردو) وأتباع آخرون

باسانيو - لك أن تفعل ذلك. وإنما يكون ذلك ممن السرعة بحيث تستطيع أن تهيأ العشاء الساعة الخامسة على الأكثر. ثم ابعث بهذه الرسالة وجهز الأكسية. وسل جراشيانو أن يوافيني في منزلي. (يخرج أحد الخدم) لانسيلوت - إليه يا أبي. جوبوـ بارك الله فيك يا مولاي! باسانيوـ شكرا لك. ألك إلي من حاجة أقضيها؟ جوبوـ هاك ابني يا موي صبي مسكين - لانسيلوت - لست بصبي مسكين يا مولاي ولكني غلامي اليهودي الغني. وأود يا سيدي كما سيخبرك أبي ـ جوبوـ إنه له يا مولاي لشغف شديدا بالخول في خدمة - لانسيلوت - قصارى الأمر هو أني في خدمة اليهودي وأني راغب كما سينبئك أبي - جوبو - إنه أصلح الله مولاي ليس على تمام وفاق مع سيده - لانسيلوت - قصارى الأمر ولباب الحقيقة هو أنه لما كان اليهودي قد ضامني واهتضمني فلقد حملني بعمله هذا كما سينبئك أبي الذي يدفعه إلى إنبائك بذلك كونه شيخا هرما كما أود - جوبوـ ومعي ها هنا صحن حمام أحب أن أهديه إلى جنابك وبغيتي لديك هي لانسيلوت - خلاصة القول أن هذه البغية لا شأن لي بها كما ستعلم من هذا الشيخ الهرم الأمين. وهو وإن صرحت بذلك وبالرغم من كونه شيخا هرما - رجل مسكين والدي هذا - باسانيوـ يتكلم واحدا منكما عن كليكما: ماذا تريدان؟ لانسيلوت - أن اكون خادما لك يا مولاي. جوبو - هذه آفة الأمر يا سيدي. باسانيو - إني أعرفك جيدا. لقد أدركت حاجتك. فلقد كلمني سيدي شيلوك في شأنك اليوم فاستصوب لك أن تلحق في خدمتي - إن صح أن يعود استصوابا انصرافك عن خدمة

يهودي غني إلى خدمة فقير مثلي. لانسيلوت - أرى المثل القديم قد صح انقسامه قسمة عادلة بين سيدي شيلوك وبينك يل مولاي. فقد استأثرت من دونه برضوان الله وذهب هو بالثراء. باسانيو - لقد أعربت وأفصحت. اذهب بغلامك يا والدي. استأذن سيدك القديم ثم استدل على منزلي. (يخاطب أتباعه). أعطوه كسوة بهى وشيا وأبهج طرازا من أكيسة زملائه. وأنجزوا هذا الأمر عاجلا. لانسيلوت - هلم يا أبي. أنا لا أستطيع أن أحصل على خدمة لي بنفسي لما يعتري لساني من الحصر والحبسة عند محاولة الطلب (ينظر في كفه على سبيل التكهن والعرافة) لو كان في إقليم إيطاليا برمته رجل يستطيع أن يمد - ساعة حلفه اليمين - راح أيمن أسرة من راحتي إذن فقتلني الله. هذا خط الحياة وهذا يدل على بضع من الزوجات؟ إن خمس عشرة امرأة لمقدار حقير جدا لا يكاد يذكر. وإن إحدى عشرة أرملة وتسع أبكار لنصيب الخسيس لرجل واحد وأرى أيضاً أني سأنجو من الغرق ثلاثا. وأن حياتي سيهددها الخطر من حرف ريشة من ريش الفراش. وهذا الخط يدل على انفراج أزمات بسيطة. لو كان الحظ أنثى لم تكن إلا امرأة سمحة كريمة في هذه المرة سأستقيل من خدمة اليهودي في أسرع من لمح البصر. (ينصرفان لانسيلوت وجوبو) باسانيو - أرجوك يا ليوناردو أن تباشر هذا الأمر بحكمة وأناة. فمتى تم شراء هذه الأشياء وضعها في المركب عد إلي مسرعا لأني سآدب الليلة صفوة إخواني للعشاء. امض الآن قدما. ليوناردو - سأعير هذا الأمر جل عنايتي ومجهودي. يدخل جراشيانو جراشيانو - أين مولاك؟ ليوناردو - إنه يسعى هنالك يا سيدي. (يخرج) جراشيانو - أيها السنيور باسانيو! باسانيو - جراشيانو! جراشيانو - لي إليك حاجة.

باسانيو - لقد نلتها. جراشيانو - لا ترفض طلبي. إني أريد أن أرافقك إلى بلدة بلمون. باسانيو - فلترافقني إذن. ولكن اسمع مني يا جراشيانو. إنك رجل نزق سليط جهير الصوت. وهي صفات تلاءم طبيعتك وتوافق مذهبك وطريقتك ولا تعد في نظرنا نحن معشر إخوانك وخلانك عيوبا ولا نقائص. ولكن من لا يعرفونك قد يرون فيها ما ينافي الوقار والحشمة. فناشدتك الله ألا ما لطفت من حدة روحك الوثابة المتوقدة بمزاج من الحشمة والتؤدة لئلا يكون من نزقاتك ونزواتك ما يعرضني لسوء الظن في المكان الذي أنا قاصده فتخيب آمالي. جراشيانو - اصغ أيها السنيور باسانيو. إذا أنا لم أستشعر الوقار وأنطق عن رؤية وتبصر وعن حذر وتحرز ولا أغلط القول إلا في الأحايين القليلة - وفوق ذلك إذن أنا لم استرعيني بقلنسوتي لدن يتلى دعاء المادة ولم أقل آمين متنهدا وإذا أنا لم أراع آداب المجاملة والحفاوة كمن قد مرن على الرزانة وريض على الحشمة كيما يرضي ولي أمره - فلن تثق بي بعدها. باسانيو - سنرى كيف يكون سلوكك. جراشيانو - ولكني سأشرب الليلة فلا تحكمن علي بما سيكون منا الليلة. باسانيو - كلا فلو فعلت لظلمتك. بل إني أسألك أن تلبس أجهر حلل المراح هذه الليلة لأن لدينا إخوانا يريدون أن يمرحوا ولكن سلام عليك الآن. فلدي ما يشغلني من العمل. جراشيانو - وأنا ذاهب أيضاً إلى لورنزو وسائر الزمرة. ولكنا آتوك ساعة العشاء. المنظر الثالث فينيسيا - غرفة في بيت شيلوك تدخل ياسيكا ولانسلوت ياسيكا - يسوءني أن تبرح دار أبي على هذه الصورة. إلا أن دارنا هذه هي الجحيم وأنت فيها شيطان مروح تخفف من بلاءها وتهون من شقاءها. ولكن اذهب صحبتك السلامة. هذه دوكة لك خذها. واعلم يا لانسلوت إنك ملاق في دار مولاك الجديد على مائدة العشاء فتى يدعى لورنزو أحد أضيافه اليلة أعطه هذه الرسالة ولكن في خفية وتستر والآن واعا.

فلست أحب أن يراني أبي في حديث معك. لانسلوت - وداعا! أن الدموع لتحبس لساني وتعوق بياني. يا أجمل كافرة وأملح يهودية. إذا أنت لم تمني بنصراني ينصب لك أشراك الإغراء وشباك الإغواء حتى تقعي في فخه وتنشبي في حبالته فما أنا بالصائب الظن الصادق الفراسة. ولكن وداعا إن هذه القطرات السفيهة لتفل من حد عزيمتي. وداعا. ياسيكا - وداعا أيها الطيب الكريم لانسلوت. (ينصرف لانسلوت) واأسفا! ما أفظع خطيئتي وأشنع زلتي إذ أخجل أن أكون ابنة أبي. على أني أكن ابنته تناسلا فلست ابنته شيما وخلقا، إي لورنزو لئن أنجزت لي وعدك لحسمت هذا النزاع باعتناقي المسيحية ثم أكون لك زوجة حبيبة. (نصرف) المنظر الرابع (يدخل جراشيانو ولورنزو وسالارينو وسالانيو) لورنزو - سوف ننسل من دار باسانيو ساعة العشاء فنلبس ثياب التنكر في منزلي ثم نعود ميعا في ظرف ساعة. جراشيانو - إنا لم نأخذ للأمر تمام عدته. سالارينو - ولم نتفق بعد مع حملة المشاعل. سالانيو - ما أقبح هذا الأمر إذ لم تراع فيه أبدع أساليب التنسيق والتنظيم فأولى لنا أن ندعه. لورنزو - الساعة الآن الرابعة. فأمامنا ساعتان للتجهيز والتهيئة. (يدخل لانسلوت حاملا رسالة) أي صاحبي لانسلوت. ما نبأك؟ لانسلوت - إذا تكرمت بفضل هذه الرسالة فلعلك واجدا فيها فائدة. لورنزو - إني أعرف اليد التي رقمتها وسطرتها. حقا إنها ليد مليحة أنصع بياضا من الطرس الذي جالت فوقه.

جراشيانو - أنباء غرامية بلا شك. لانسلوت - اسمح لي بالانصراف يا سيدي. لورنزو - أين تريد أن تذهب؟ لانسلوت - إلى اليهودي سيدي القديم لأسأله أن يذهب لتناول العشاء مع النصراني سيدي الجديد. لورنزو - ق. خذ هذا (يناوله نقودا) خبر الحسناء ياسيكا أني لن أخذلها ولن أخفر لها عهدا ولا انقض وعدا. ولكن حدثها بذلك في خفية. اذهب (يخرج لانسلوت) أيها السادة أتتأهبون لهذا المقصف الليلة؟ لقد هيأت لنفسي حاملا للمشعل. سالارينو - أجل سأنبري في اتخاذ الأهبة من اللحظة. سالانيو - وسأحذو حذوه. لورنزو - قابلاني وجراشيانو في منزل جراشيانو بعد ساعة. سالارينو - سنفعل. (ينصرف سالارينو وسالانيو) جراشيانوـ ألم تك هذه الرسالة من الحسناء ياسيكا؟ لورنزو - لا مندوحة لي عن الإفضاء إليك بجملة الأمر لقد أوضحت لي الطريق إلى اختطافها من بيت أبيها وبينت لي ما قد تزودت به من خزائن أبيها من ذهب وجواهر وأنها قد أعدت حلة مكن حلل الغلامان لتخرج فيها متنكرة. فإذا قدر لليهودي أن يفضي بأية حال إلى رحمة الله فلن يكون ذلك إللا من أجل فتاته الحسناء. وما أحسب أن الشقاء يجرؤ أن يعترض سبيل الفتاة إلا محتجا بأنها سليلة يهودي كافر. هلم بنا واقرأ هذا أثناء سيرك تعرف منه أن ياسيكا الحسناء ستكون الليلة حامل مشعلي. (ينصرفان)

سعد زغلول

بطل مصر العظيم سعد زغلول لمناسبة أوبة معاليه من رحلته النبيلة المباركة طالع السعد يقدم الآمال ... فاستبينوه كوكبا يتلالا دار في دورة مع الفلك الأع ... لى وصالت به الحظوظ وصالا ورمى للمنة وهن بطاء ... فانتاحهن فابتدرن عجالا رجل تحسب العناصر فيه ... عنصراً عنصراً وحالا فحالا فيه معنى تراه حيث ترى البح ... ر وتلقاه حيث تلقى الجبال رجل في صحيفة الحق منه ... وجهة مصر للزمان سؤالا رجل في فم الحقيقة منه ... وضعت مصر مقولا جوالا رجل في يديه يستمسك التاري ... خ يبغى على يديه انتقالا رجل غير أن معناه أمر ... نازل من سما الإله تعالى قد رأته النجوم يهبط مصراً ... ورأت مصر تنهض استقبالا فتنادت وراعها البطل الأر ... وع يعتز هيبة وجلالا إن بين الرجالا قوماً نجوماً ... ليتبين النجوم منهم رجالا أي قلب ترى بجنبك يا سع ... د به الله روع الأبطالا فيه نور الهدى وفي كل قلب ... منه حب والنور يقلى ظلالا لا أراه يمل بل هو عزم ... جد حتى أمل منك الملالا إن قلب الحكيم روح مع الرو ... إذا أمست الحياة قتالا والعظيم امرؤ يفصل تفصي ... لا ويحويه قلبه إجمالا أنت يا سعد حجة النيل إن قي ... ل ضعاف أو قيل قوم كسالا ثرت في الحق لا تخاف ولا الح ... ق وأقبلت تحطم الأغلالا واستطرت استطارت البرق لماحاً ... لم يزل في سمائه يتوالى شعل من فؤادك الحر صارت ... حجج في أكفنا ونصالا قيل مصر وجوها وبنوها ... كل هذه السهول. . سهل منالا

لا تغرنكم طبيعة فيما ... جعلت من سلاحه الاعتدالا يربض الليث وادعا وهو اللي ... ث ويضنى الدؤوب هدى النمالا وترى الأرض تقشعر دبيبا ... ويرينا دبيبها الزلزالا والقوى في الوجود أقوى إذا ما ... نوعت ا، تعددت أشكالا قدرة الله لم تهب مصر بركا ... ناً وأعطت من مثل سعد رجالا ما على مصر في الزمان محال ... إن آثاره كذبن المحال هرماها تجاورا واستقاما ... ليقولا للمستحيلات (لا لا) أول الدهر دهر مصر وما زا ... ل وزالت وهكذا لن يزالا كم أتوها ليهدموا فبنوها ... كالذي شذب النبات فطالا لن يدير الأقدار يوماً يميناً ... من إدارته في يديها شمالا يا بني مصر إنما هي مصر ... فصيالا حول العرين ضيالا إن خوف الأهوال أكبر هول ... عند من كان يطلب الأهوالا كل شعب صاغ الشباب مفاتي ... ح رمى عن بلاده الأقفالا سألونا عن آية فنريهم ... إننا نستحق الاستقلالا آية لا يطاق فيها جدال ... إننا لا نطيق فيه جدالا

الثورة الهندية

الثورة الهندية - 1 - تمهيد لعل ما يستثير الدهشة أن المستر أرثر جريفث مؤسس الشين فين اتخذ في أول الأمر من برنامج المقاطعة الذي ابتكره غاندي مثالا يحتذى، ذلك لأن القوم عندنا قريب عهدهم بالنظر في التمرد الهندي على أن الواقع أن هذه الحركة بعيدة الأمد فقد انعقد في سنة 1906 مؤتمر هندي عام قرر الموافقة على برنامج المقاطعة الذي كان أقره مؤتمر تقدمه. وبودنا أن يفطن القارئ إلى أن فكرة المقاطعة سلبية إيجابية معا فهي سلبية من ناحية علاقة الهند بإنجلترا وإيجابية من ناحية المصلحة الهندية البحتة ومعنى ذلك أن المقاطعة ليست سياسية فحسب بل هي محاولة جدية قصد إعادة تشييد أمة وببارة أوضح هي سياسة بناء في صميمها ولبها أكثر مما هي سياسة انفصال. يقول أرثر جريفث: أن أساس سياسة الشين فين هي اعتماد الوطن على نفسه. وليس هناك قانون أو سلسلة من القوانين في مقدورها تكوين أمة من شعب لا يثق بنفسه. ويقول غاندي: إن حركتنا قوامها الاعتماد على النفس، ولا بد لنا من أن نكشف كل يوم عن مواطن الضعف من أنفسنا لنصلح منها الفاسد السقيم، هذا إلى أن احتمال الأمة العذاب هو مقياس يعرف به درجة تقدمها في سبيل الحرية: إني أقول مع الكاردينال فيومن: لست أحاول استطلاع حالات مجهولة لم نوجد بعد فيها إن الخطوة التي خطوتها في جعل الاستقلال دينا كافيا لنيله إن من الفرائض على كل رجل يؤمن بالله ويخشاه أن يقوم بواجبه. نحن لا ننتظر نتيجة عاجلة، فمن آمن بالله ووبأنه يريد الخير لعباده أيقن بحسن العاقبة وتلك هي فكرة جيتا في العمل لذات العمل تاركا الأمر لله يدبر المستقبل وهو على كل شيء قدير يتبع المؤمن الحق ولو لاقى في سبيله الموت، ويفضل الاستشهاد على العيش في ظل الشيطان ويشيح بوجهه عن الحكومة ويطوي عنها كشحه فهي من أعمال الشيطان. ومن أوجب الواجبات الانفصال عنها وعدم التعويل عليها.

والناظر في تاريخ الثورات يجدها جميعا اعتنقت كدين وكان الزعماء جميعا رسل مذهب اجتماعي جديد وأنبياء دين وطني. الثورة عقيدة توحي بها نظم الطبيعة فقد كان مازيني يرددإن النصر حليف احترام المباد \ ئ، حليف احترام العدالة والحق. حليف التضحية والاستمرار على التضحية. والأمم المغلوبة على أمرها لا تفتأ تعتقد أن قرون الاستعباد سجل طويت في أعطافه اعتداءات فظيعة علىكلتور الأمة المستعبدة وعلى مدنيتها تبقى حية في مخيلة الأجيال منتعشة يحتويها اللاشعور بتلك القوة المعنوية الإلهية. وفي الحق إن موت المدنية أدعى للحزن والأسى من موت الحرية. من أجل ذلك كانت حركة الهند وهبتها ويقظة الشين فين ووثبته سياسية بنائية قضت بها سنن الطور الاجتماعي العام. وعندنا إن شخصيات الأمم لا بد مستكملة يوما خلقتها. وإن عبقريتها لتختلف باختلاف طبيعتها. ونرى مع ذلك أن عدوان الأمم وطغيانها خروج لقوانين الوجود وتمرد يجعلها تصطدم بعنف فتتمزق وهذا هو السر في تهشم الإمبراطوريات وبارها. ولا شك عندنا في أن العبقرية تمت بصلة متينة إلى طبيعة البلاد فهي ثمرة الجزر والمد الذي تخضع له الكائنات الحية وغير الحية. وما المدنية إلا جماع جهود العبقريات المختلفة ومظهر الارتقاء والتطور لا مظهر نزاع الإنسان مع الطبيعة لأنه من عمل القوى الخارقة المبدعة التي تخضع لها الكائنات. بواعث الانقلاب عاش الهنود أعواما طوالا في جو اضطهدوا فيه وهيض جناحهم وديست كرامتهم واحتقروا وانحطوا إلى مراتب العبيد. ومستحيل علينا أن ندون الحالات المتعاقبة التي يتراءى بها إحساس فتى في أقوى عهود شعوره وأحر مزاج عواطفه - في السن الملتهب المتدفع حين لا تبهره أو تظله ألحياة بلذاذاتها وآلامها نترك هذا الهندي تجود به الأيام المقبلة يسطر في اعتافاته قصة نفسه المشحونة بالأسى والشجن فياضة بالحقائق الحية الناطقة. إن مثل هذا الكاتب لهو المؤرخ الإحساسي. يقرؤهما الهنود في كل مكان. محجوز للأوروبيين

عبارة جارحة للإباء القومي والغريزة الجنسية ومعناها لا يفيد إلا أنهم خلقوا في الوجود عفوا كبعض النبات والحيوان في جو موبوء بالغطرسة الساخرة المتهكمة. إن أسباب الثورة قد أوجزها غاندي في قوله: إن نظام الحكم في الهند قضى على الروح الأخلاقية والحالة الاقتصادية والسياسية فقد استخدم الإنجليز الجندية والشرطة في القضاء على الشعور القومي واستخدم الجندي الهندي في سحق حرية العرب والمصريين والأتراك وبقية الشعوب التي لم تسئ إلى الهند. ولا متسع هنا إلى الإفاضة في وصف حالة التعليم والزراعة والاقتصاد والصناعة ويكفي أن نقول أن نسبة المتعلمين 4 في المائة وإن الزراعة متأخرة جدا وانطمست معالم الصناعات الوطنية الكبر وقبض الإنجليز على زمام الأسواق المالية وتحكموا في الأراضي التي استولت عليها شركات منهم تستثمرها استثمارا عجيبا. هذه هي الأسباب الحقيقية لا التي يزعمها المضللون السياسيون. المطال بالهندية تشتمل المطالب الهندية الأمور الآتية بوجه الإجمال: 1_السوارج أو الاستقلال. 2_مسائل البنجاب - وفي مقدمتها مسألة الخلافة. 3_حالة الهنود في البلاد الأخرى. 4_مشاكل العمال. هذه الأربع مطالب هي في الحقيقة مطلب عام واحد هو تخليص البلاد من النير الأجنبي إذ الثلاثة مطالب الأخيرة جزء من الأمنية العامة ويمكننا أن نقول أنها مشاكل فرعية بعضها داخلي وبعضها خارجي. وقبل أن نخوض في الكلام عليها جميعا نقدم للقارئ حقيقة تاريخية خاصة بالثورات هي أن كل ثورة قامت في وجه غاصب مستعبد كانت ترتكز على دعامتين: الأولى - الأمة المغلوبة علىأمرها. الثانية - المعونة الخارجية وتكون من قبل أمة أو أمم معادية للدولة الغاصبة. إذن فقانون الثورة هو البرنامج الكامل الذي يضعه وينفذه الزعيم الأكبر إلا أن هذا البرنامج

كثيرا ما يدخله التحوير ولتبديل عند التطبيق في الشكل لا في الجوهر. وكل ثورة لا يسبقها انفجار في الأفكار وخروج عن المتبع المألوف واحتقار وازدراء بمظاهر الجمود وشعور بالضعف هو بدء الشعور بالقوة - كل ثورة هذا شأنها مقض عليها الفشل. وقد صنع غاندي برنامج الجزء الإيجابي من الثورة الهندية داعما إياه على اعتقاد راسخ بأن القوة الروحانية تقهر المادة إذا اصطدمت هذه بتلك وإن المقاومة السلبية لا تغلب وإليك البرنامج الذي أقره مؤتمر كليكتا المنعقد في سنة 1920. 1_إنشاء وزارة معارف أهلية. 2_إقامة محاكم وطنية وسن قانون لهذه المحاكم. 3_عدم التطوع أو الدخول في جيش الحكومة الهندية. 4_مقاطعة الانتخابات والوظائف الحكومية وعدم قبول الرتب والنياشين. 5_مقاطعة البضائع الأجنبية وبخاصة البضائع الإنجليزية. أعلنت هذه الأمور وأخفى المؤتمر شيئين عظيمين هما. أولا - الالتجاء إلى حرب العصابات وإلى وسائل الشين فين عند اشتداد بريطانيا في التضييق عليهم حالة تنفيذ هذا البرنامج. ثانيا - إعلان الجمهورية بعد الحصول على الاستقلال. وقد التجأ الثوار في الملابار إلى حرب العصابات كما سنقرره وصرح محمد علي أثناء محاكمته بما يفيد أن الجمهورية هي نظام الحكم الذي سيسود الهند بعد تخلصها من الحكم الأجنبي وسنفصل ذلك فيما بعد. تنفيذ برنامج الثورة السلبية وجهت أول حملة إلى المجالس التشريعية الجديدة التي أنشأها الإنجليز عملا بمبدأالتدرج في الحكم. وأجمع الكل على القضاء على الانتخابات لها. ولقد نجحوا أيما نجاح فأرهبوا الناخبين وشتتوا شمل المجتمعين في دائرة انتخاب كاجول وخرجوا من الهمس بالتهديد إلى تنفيذه جهرا ولم يحجموا عن استخدام أي سلاح من أسلحة الإرهاب فمن المهاجمة والضرب إلى احتقار الجماعة وازدراءها إلى الطرد من المجتمعات. وأخفقت الانتخابات حيث امتنعت 440من965 دائرة من دوائر الانتخابات عن التصويت واستحال في ست

دوائر إجراء عملية الانتخابات إلى عدم وجود من يرشح نفسه - واحدة في البنجول وواحدة في الباهار وثلاثة في المديريات الوسطى واثنان في الأوريا. وكان متوسط نسبة أصوات الناخبين 10 % هذا إلى المساعي الكبيرة والجهود الهائلة التي بذلتها الحكومة وأنصارها من المعتدلين والمترددين المنافقين في سبيل إعداد جو صالح لإجراء عملية انتخابات وترشيح المخلصين لها بعد أن أغدقت عليهم من نضارها وبعد أن منتهم الأماني الجسام. والواقع أن الذين انتخبوا لم ينتخبهم الشعب بالمعنى الدستوري الصحيح وإنما عينتهم الحكومة تعينا. يستدل على ذلك بأن الذين وقع عليهم الاختيار جماعة لم يعرفوا قبل انتخابهم هذا وليس لهم مكانة أو أثر في الحياة العملية العامة. أما وزارة المعارف الأهلية فهم جادون في إقامتها يجمعون لها المال ويعدون لها الأماكن والمدرسيين وما إلى ذلك ولقد بلغ من إقبال الطلبة عليها أن 33 % من طلبة مدارس الحكومة انتقلوا إليها حتى أواخر السنة المكتبية الماضية. أما المحاكم فقد ضعفت فيها الحركة وانسحب منها المحامون الوطنيون. وتعصب الهنود فعلا فأبوا الانضمام إلى الجش الذي وجه إلى العراق ولعل هذا هو السبب في سحب الجيوش البريطانية من شمالي العراق وشمال فارس وكف القتال على حدوود الهند ومصالحة الأفغان. ولا زالت حتى كتابة هذه السطور تزداد حركة مقاطعة البضائع الأجنبية خصوصا الإنجليزية منذ أن أعلنها غاندي يوم الاحتفال بذكرى وفاة الزعيمطيلاق يثبت ذلك الأرقام الواردة في الصحف وفي إحصائياا لجمارك الهندية وحقا إن غاندي قد ضرب بريطانيا في الصميم لأنه كنا قالت المورننج بوست أساء إلى صناعة القطن وهي أحد عمد الصناعة البريطانية الأربعة. صناعة القطن والصوف والحديد والصلب. وترى ذلك مجسما معكوسا في اضطراب العمال العاطلين وانفعال صحافتهم. وقد تدخلت الحكومة بناء على إلحاح أصحاب المصانع فأرسلت لجنة إلى الهند لدرس الحالة والمشورة عليها بما ترى. وقد بثوا الأنوال في المدن والقرى وأعدوا لها العدة من عمال وأمكنة وقطن مغزول وأخذوا ينشطون الصناعة الوطنية ويؤلفون من العمال اتحادات تعنى بشؤونهم واتخذوا من

إضراباتهم - وقد بلغت في عددها 200 إضراب - وسائل للتهديد وطرقا عملية للإضرار بالمشاريع البريطانية. ثم انتبهوا إلى الأراضي ومن يفلحها من المزارعين التعساء الذين يكونون ثلاثة أرباع السكان. ومتى اعتمدت الثورة على السواد الأعظم - على الشعب، وأحس هذا برنامجها المصلحة ولمس فيه المنفعة الأكيدة وأيقن أن الحالة التي ستؤول إليها البلاد حالة لا تخص بالفائدة أقلية تدير دفة الحكومة وإنما حرية شاملة منتجة تنهض بجميع وجوه الحياة فلا بد ناجحة إن عاجلا وإن آجلا لأن إرادة الشعب من إرادة الله: وإذا استيقظ. مرة فمستحيل تخديره أو بلفه أو إخضاعه. . لهذا الموضوع بقية

مصطفى كمال باشا

مصطفى كمال باشا وصف كاتب إنجليزي بطل الإسلام مصطفى كمال باشا قالإن محياه مفعم بآيات الشجاعة وصدق العزيمة، ولا شك في كمال استحواذ العواطف الوطنية عليه. وفناءه فيها، ولا يستطيع حتى أعداؤه أن يجدوا فيه أثرا للمطامع الشخصية وهو جندي فني، ويرى أنه لا نجاة لتركيا إلا بالحرب. وهو من أصل أناضولي فهو تركي أرمني، وهذا المزيج بديع ولكنه خطر جدا. وأنور باشا نتاج مثل هذا المزج. فصلابة الفلاح الأناضولي وذكاؤه وشجاعته ممزوجة فيهما بدهاء الأرمني ولا شك في أن اجتماع هذه الصفات ن حظ الجندي الموفق. تولى مصطفى كمال قيادة الفرقة التركية التاسعة عشر في غالبيولي سنة 915 وكان عمره يومئذ 35 سنة وفرقته هذه هي التي صدت هجوم الأستراليين والنيوزيلنديين - ذلك الهجوم التي علقت عليه القيادة البريطانية كل أمالها ولذلك يسمى مصطفى كمال بحق بطل غاليبولي. ولما قسمت تركيا بمعاهدة سيفر وقطعت أوصالها رفض مصطفى كمال قبول أحكام هذه المعاهدة. وهنا بدأ فيه الدهاء الأرمني يملي عليه خطة العمل فأخذ ينشر دعوته في طول البلاد وعرضها من مكمنه. أما حركته الثاني فالخطوة التي خطاها إلى أنقرة ودعوته الجمعية الوطنية للانعقاد فيها. ولم يكن مدفوعا في هذا العمل إلا بدافع ذاتي بحت لا لأثر للمؤثرات الخارجية فيه. ولم يلبث بضعة أسابيع حتى أصبح حاكم تركيا الفعلي. وكانت أنقرة التي اتخذها مقرا عاصمة غالتيا القديمة والمقاطعة التي تسمى باسمها مقاطعة غنية ذات مزارع واسعة للمائية وذات أبناء شداد هم الذين تتكون منهم نواة الجيش الأناضولي. ولقد فطن مصطفى كمال من أول لحظة إلى أن بقا أرمينيا وأذربيجان في أيدي الحلفاء خطر عليهم وإنه لا مأمن لهم إلا أن تقعا في أيدي الروسيين فعمل لهذا ونجح ولما أمن على ظهره انبرى لليونانيين. ولكن على الطريقة الأرمينية طريقة الدهاء وبعد النظر وقلة المبالاة إلا بوسائل النجاح مهما ساءت ظواهرها ويعلم كل إنسان كيف انتهى أمر هذه الخطط.

ما أحلى

ما أحلى ما أحلى أن تعرف وأنت عائد إلى البيت أن هناك عينا تتطلع إليك وتزداد إشراقا برؤيتك. ما أحلى مقدم أول مولود على الوالدين. ما أحلى لثغ الأطفال وسماع كلماتهم الأولى. ما أحلى أن تنام على صوت خرير الماء وأن تستيقظ على تغريد البلابل. ما أحلى آلام الحب. ما أحلى الراحة بعد مجهود شريف. ما أحلى جمع المال عند البخيل. وأحلى منه بذله عند الكريم. ما أحلى تضحية النفس عند الجندي الذي يحب وطنه. ما أحلى جني ثمر غرست بذوره. ما أحلى التصاق قلبين خافقين. ما أحلى ثروة تصل عفوا بعد موت قريب بلغ من العمر أرذله. ما أحلى الابتعاد عن المجالس الصاخبة والوحدة في مكان هادئ. ما أحلى أن يتسنم المرء ذروة المجد بالسيف أو بالقلم. ما أحلى الانتقام ولا سيما عند النساء. ما أحلى أحيانا مشاجرةالأنطاع ممن تعرفهم. ما أحلى ذكريات الطفولة. ما أحلى المر في خدمة الوطن.

ما أمر

ما أمر ما أمر أن يفارق المرء وطنه للمرة الأولى. ما أمر خيبة الأمل وتأنيب الضمير. ما أمر الفقر وأكثر منه مرارة - الدين ـ. ما أمر أن لا يعتد برأيك - أو أمر منه أن يخطئ القوم فهمك. ما أمر أن ينظر الإنسان إلى أرضه تغتصب. ما أمر دموع الوالدة وأمر منه لعنة الوالد. ما أمر أن لا يعتر فلك بقوتك ومركزك. ما أمر الشهادات التي لا قيمة له. ما أمر أن يتقاضى المرء نصف مرتبه. ما أمر كبح جماح النفس وعدم القدرة على الانتقام. ما أمر أن تماطل فيما تستحق. ما أمر تخفيض المرتبات وقت غلاء المعيشة. ما أمر الضرائب التي تقرر اعتباطا. ما أمر قلة الدخل عن المنصرف. ما أمر أن تسمع يطنبون في مدح جاهل ويرفعونه مكانا أنت أحق به. ما أمر الزوابع ولنا سفن في عرض البحر. ما أمر فصم عرى الصداقة وموت الحب. ما أمر إذا لم تجد من تفشيه إليه. ما أمر الزوج الغشوم والمرأة الخائنة. ما أمر التهامس والتغامز والتلامز. ما أمر المشيب مع عدم الاحترام والرجولة بلا ثروة والشباب مع الخمول. ما أمر الموت في غير الوطن.

فكاهات

فكاهات الذهب والبنوك لحضرة صاحب العزة الفاضل النبيل محمود صادق بك يوم اجتمع أهيف ذهب ... في الدرج مع أهيف ورق قال له الذهب يا للعجب ... وصلت يجالسني الشلق قام قال له يا أصفر يا ثقيل ... هو أنت عندك خفتي أنا صاحب النقش الجميل ... والكل عاشقسن رقتي ألوان وأشكال شفتشي ... ورسوم ونقش عليه كلام أخضر وأصفر مشمشي ... أما أنت لون وجه اللئام الألف مني ينطوى ... في الجيب خفيف من غير ملل والمية منك تنكوى ... بالشمع طرد من الثقل اليوم بتهواني الملوك ... وبقيت في جيب كل العباد حتى الحكومات والبنوك ... لولاي بيقوا في كساد أنا اللي في البار بنصرف ... على الحظوظ في دي الزمان ونت اللي بس بتنحدف ... في الحرب والموت والمحن أنا في الرفاهة شيء بديع ... والجرح فيّ ملوش دوا لمعزتي تلقى الجميع ... خايفين علي من الهوى أما أنت مثلك يندفن ... في الخن أو تحت البلاط وتعيش في مجرورهم زمن ... تطلع وبرضط في انبساط فاتنحنح الرنان وقام ... على حد جنزيره ولمغ وقال بقى دامش كلام ... علشان ما سكت له طمع تعرفش إيه أصل الورق ... ياللي إنت مغرور بالنقوش الأصل فيك كهنة وخرق ... ما يجبشي قنطارهم قروش موتك رهين رهين شخة ربيع ... وتفرتك نقرة غراب ويمدغك جحش الربيع ... ومن شرارة تروح هباب

وظفر سكران يفسخك ... وتبوش إن استفرغ عليك وكف فحام يمسخك ... والنملة تخرق لك عينك أما أنا لا أنبدل ... مهما جرى لي يا سفيه إن مسني الطين أنغسل ... ون مسك الطين دبت فيه في مصر وأزمير واليمن ... وبريز ولندن لي مقام ونت إن خرجت من الوطن ... برا متسواش إيد برام أنا الدهب في كل تاج ... والعقد مني والحق أما الكنيفات في احتياج ... لك يا خفيف يا بن الورق راحم لبنكير حكموه ... للفصل بينهم في الجدال شرحوا القضية وفهموه ... فحكم لهم حكم الاعتدال قال للورق فضلك جزيل ... انت في غيلبه نفعتنا لكن ما كناش لك نميل ... لو كان أبو الخيال هنا

فوائد

فوائد خطر البعوض - إن نوعا معينا من أنواع البعوض ينقل الملاريا والحمى الراجعة. فكل من تلسعه بعوضة من هذا النوع يصبح عرضة لأن يصاب بالحمى. ويتولد البعوض في الماء وعلى الخص في الأزيار والجداول الراكدة وشواطئ الترع وفي الآبار، والمستنقعات التي على شواطئ الأنهار، وفي المياه الراسبة في الشواطئ الرملية وكذا في الصفائح الفارغة التي فيها قليل من الماء الخ. فيجب أن تردم كل المستنقعات والبرك الصغيرة وأن تطمر كل الصفائح والزجاجات الفارغة. وإذا وجدت صغار البعوض في الماء فضع شيئا منالكيروسين أي زيت البترول فوقها فإنها تبيدها في التو واللحظة. ويختبئ البعوض في الأركان المظلمة والغرف المظلمة والخيام وعلى الثياب وفي خزائن الثياب (الدواليب) وتحت الأسرة وعلى المناضد (الترابيزات) الخ. كيفية التخلص من البعوض المختبئ أولا - في الغرف والخيام: إذا أحرقت مقدار ملعقة شاي من مسحوق (كتينج) إحراقا بطيئا طرد البعوض وإذا أحرقت مقدار ملعقة شاي من (الكوريزول) وتركته يلتهب إلى أن يتبخر تجد أن لهذا المطهر نفس التأثير. اقتح بابا أو نافذة من الغرفة لكي تتمكن الحشرات من الخروج بعد نصف ساعة ثم أقفله. ثانيا - الكلل (الناموسيات) وخمر الرأس (وهي أغطية من نسيج رقيق يلف بها الرأس إلى العنق منعا للذباب والبعوض كما تفعل الإفرنجيات): من يريد اجتناب الملاريا يجب أن يدهن جسمه (بدهان البعوض) وأن يضع أطراف الكلة تحت فراشه لكي لا يكون هناك نفذ للحشرات وإذا وجدت فيها خرقا يجب أن تخيطه أو ترقعه في الحال وقبل أن تنام تحقق أنه ليس في الكلة بعوضة واحدة. ثالثا - شبكات السلك: يجب أن توضع شبكات مصنوعة من السلك الضيق النسيج على أبواب ونوافذ غرف الاستراحة وغرف الطعام والمطابخ ومخازن الأطعمة الخ إذا كان ذلك ممكنا. النصيحة الذهبية أن لا تدع بعوضة تلسعك فإذا لسعتك واحدة فلا تحك جلدك لأنك إذا فعلت

أحدثت قروحا. لا تحك بل ضع (دهانا) مكان اللسعة. يفيد ملح الطعام إذا وضع على الحروق التي تصيب الجسم أكثر من أي شيء آخر لا سيما وأنه في متناول كل إنسان في أي وقت وبأزهد ثمن. لا شيء يبيد القمل من الملابس وأغطية الفراش مثل السليماني يوضع في الماء الذي تغلى به الملابس بنسبة 5 % وهو يبيد كذلك بويضاته المعروفة عند العامة باسم (السيبان). إن أرخص وأحسن شيء يرقق البشرة ويجعلها ناعمة الملمس غضة رخصة هواللبن خصوصا قبل أن تفصل عنه الزبدة تدلك به دلكا متواصلا مدة بضع دقائق ثم يترك دون غسيل كي تتشربه البشرة. النفتالين يقتل العتة لأنها تختنق برائحته فتموت. ومن أجل ذلك توضع كرات منه في خزائن الملابس وبين طياتها. ويذر مسحوق منه بين أوراق الكتب وجوانب خزائنها. اتضح أخيرا أن الغاز - زيت البترول - له فائدة كبيرة جدا في تقوية جذور الشعر بشرط أن يستعمل بمقادير معقولة ومخففة كما اتضح أنه يجلو الأسنان ويبعد عنها لعطب بل إنه ليفيد في بعض الأمراض الجلدية الخبيثة إذا استعمل في شكل مرهم. ينصح الأطباء كثيرا بعدم إضافة أية مواد كيماوية إلى اللبن لحفظه مدة طويلة ويستحسنون الالتجاء إلى الطرق الطبيعية وشرح ذلك أن يغلى اللبن ثم يوضع في زجاجات معقمة يحكم سدها. ويترك في غرفة رطبة إذا لم يتيسر حفظه في الثلج. وليس معنى هذا أن يحفظ لأجل غير مسمى إذ الأفضل أن لا يبقى هكذا أكثر من 48 ساعة. ويراعى أن الزجاجة التي تفتح مرة ويؤخذ بعض ما فيها يفسد ما بقي فيها من اللبن بسرعة أو على الأقل يفسد قبل اللين المحفوظ في باقي الزجاجات. إذا جرحت جرحا قرب ظفر قرب ظفر من أظفار أصابع اليد فلا تهمل أمره ولا تدنى منه خرقة غير معقمة أو تجتهد في إيقاف الدم السائل منه بأن تضغط عليه باليد الأخرى وإنما سارع إلى صبغة اليود فادهنه بها ولا تربطه قط واذهب توا إلى الطبيب فإن الجرح في هذا الموضع خطر لأنه في غالب الأحوال تتورم منه اليد كلها إلى ما فوق الرسغ - المفصل الذي بين الكف والساعد - وتمتلئ بالصديد وقد يضطر الجراح إلى بترها. إن مجموعتنا الشمسية (شمسنا وما يدور حولها من السيارات) مع عظمها وهولها ل يست

إلا خردلة بالنسبة للكون بأسره. فإن الصور الفوتوغرافية أخذت في مرصد ولسون الشهير تدل على أن للضوء - الذي يقطع 186000 ميلا في الثانية يلزمه 1000000 عاما ليصل منت أحد أطراف الكون إلى الطرف المقابل. وعلى هذا الاعتبارأثبت المستر جون براي العضو في الجمعية الملكية الفرنسية - بعد حسابات دقيقة أجراها بأن المسافة مابين طرفي عالمنا هذا على ضآلته وحقارته هي 58. 697. 1300. 000. 000. 000 من الأميال!!!! وقد أضاف إلى ذلك فراغا يلزم ما لا يقل عن 4. 400 من مثل مجموعتنا الشمسية مرصوصة بعضها إلى

صورة مشؤومة

صورة مشؤومة وهنالك انغمس ذلك الفتى في عمله انغماسا لهاه عم كل شيء آخر: وجعل دأبه وديدنه غشيان المتاحف حيث كان ربما وقف الساعات العديدة المتوالية إزاء تصاوير الفحول الأقدمين يستطلع أسرارا الفن ويستجلي غوامضه باقتفاء آثارهم ونقرى أساليبهم وتتبع مذاهبهم. وحبذا الدروس الصامتة والإرشادات الخافتة التي كان يتلقاها عن تلك البدائع الخالدة وكان يأخذ من كل نابغة من أولئك القدماء أحسنه وأطيبه. وينقل عن كل نفيس مكن آثارهم الباقية آنفه وأعجبه. ثم جنحت به طبيعته ومالت به سليقته نحو أمام المصورين قاطبة وسيدهم غير مدافعرافائيل المقدس مثلما ينحاز الشاعر بعد إدمان النظر في دواوين الفحول إلى أسلوب سيد الشعراء هوميروس فيتخذه إمامه وقدوته إذ يرى فيه جماع ما قد تفرق في أشعار سائر الشعراء من المحاسن والمزايا. لما دخل الغرفة شارتكوف وجد طائفة من الوفود مزدحمين أمام الصورة قد شملهم السكوت كأن على رؤوسهم الطير. فأشعر وجهه سيما الخبرة والدراية من الصورة بكبرياء الحبر العلامة المتضلع ولكن ما أبصر أمامه!. لقد تجلت الصورة لعينه كالعروس جمالا وفتنة وجلالا. ووقف النقاد أمامها مطرقين حيرة ودهشة قد جمعت فأوعت إذ ضمت أفانين بدائع الفن صنوف ملحه وأعجب من كل ذلك ما نمت عليه من أسمى مراتب الابتكار والإبداع. حيث بدا للناظرين في غضونها وثناياها أن صاحبها كان ممن لا يزال يرتاد كنوز الطبيعة فسيتوعب نفائسها في خزانة خياله فإذا انصب للعمل استماحها ثانية من ذلك المنبع الروحاني العبقري فأفرغها في أعجب قالب من الحسن وصاغها على أغرب مثال من الملاحة ثم وسمها بأفتن ميسمم من الإبداع وطبعها بأسحر طابع من الروعة، لقد هز منظر الصورة من نفوس الجماعة وحرك من أوتار شعورهم حتى شرقت بالدموع أجفانهم. وكأن الجميع قد اشتروا معا في أنشودة صامتة تجلة لتلك الآية المقدسة وإكبارا. وقف شارتكوف أمام الصورة شاخص البصر فاغرا فاه. ولما استرد الجمع عازب عقولهم واستجمعوا شارد أحلامهم وبدؤوا يتهامسون بآرائهم عن الصورة ويتبادلون الكلام فيها التفتوا إلى شارتكوف فسألوه رأيه فيها فعند ذلك ثاب إلى رشده فحاول أن يتظاهر بقلة الاكتراث والمبالاة واجتهد أن يلفظ بكلمة عادية مبتذلة مما جرت به العادة في وصف

الصور التي لا قيمة لها ولا خطر كقولهملا بأس بها. إنها لا تخلومن بشيء من القيمة - نقول لقد اجتهد شارتكوف أن ينطق بشيء كهذا ولكن أرتج عليه فاعتقل لسانه. واحتبس بيانه. ومات المنطق على شفتيه وفاض جفنه عبارات وصدره زفرات وغر هاربا من الغرفة لا يلوي على شيء في طريقه. وبعد برهة رأى نفسه واقفا في غرفته الفاخرة. لقد كان في غفلة وفي غرور وفي غمرة. فما هي إلا أن أبصرت تلك الصورة حتى انجلت غمرته وانجابت عمايته وانقشعت غوايته، لقد كان الترف والنعيم وما أعقباه من تبلد الملكات واسترخاء القوى وعجز الهمة قد أطفأت فيه جذوة العبقرية وأغاضت معين الحياة وحجبت أشعة الوحي الفني فما هو إلا أن أبصر تلك الصورة حتى ثار ثائره. وكأنما انبعثت روح النبوغ من أعماق روحه وهبت ريح العبقرية من أنحاء نفسه وكأنما انتبه جنانه. واستيقظ وجدانه. للتو واللحظة. وكأنما استعاد صباه. واسترد شرة سبابه وحماياه. وكأنما سقطت عن عينيه الغمامة. وانجلت عن سماء ذهنه الغمامة. يا للداهية ويا للبلية ويا للقصمة الظهر ويا للطامة الكبرى! لقد أضاع زهرة العمر وصفوة الحياة في غير ثمرة ولا طائل. لقد أخمد في قلبه تلك الشرارة التي لو صانها لكانت ربما تأججت حسنا وتلهبت جمالا فأصبحت آثارها فتنة القلوب وزينة الأبصار. ومحل الإعظام والإكبار. واستدرت دموع الفرح والإعجاب كما فعلت تلك الصورة التي شاهدها آنفا ولقد خيل إليه في تلك الساعة كأنما العواطف والنزعات والآمال والوجدانات التي كان يجيش بها صدره في عهد الشباب قد ثارت من مكامنها وهبت من مدافنها في أعماق روحه. فتناول ريشة وتقدم إلى بعض ألواحه وقد استحوذت عليه فكرة ملكت مشاعره ووجدانه وذلك أنه أراد أن يرسم صورة ملك ساقط قد زل عن مقام الملائكة وهوى إلى وهدة الإثم والخطيئة. وشد ما انطبقت هذه الفكرة على إحساسه إذ ذاك التأمت مع شعوره. فأقبل بريشته على اللوحة يبذل أقصى جهوده وقد تحلب جبينه عرقا ولكن ما فاضت به الريشة من الأشكال والمواقف والأفكار كانت لسوء الحظ تأبى أن تتلاءم وتنتظم وتتناسق وأدرك أن يده قد فقدت مهارتها وحرمت براعتها وسلبت ملكة التصرف والافتتان بطول انحباسها على أسلوب واحد والتزامها طريقة واحدة. وجعل عجزه عن التخلص مما قد ضر به على

نفسه من القيود والأغلال يبدو في مظاهر شتى من الخطأ والانحراف والزلل لقد أسف على ما كان منه من احتقاره الطريق الوحيد المؤدي إلى العلم والعرفان أعني الطريق الوعر الطويل المتعب الممل وازدراء الشرط الأول الأساسي لبلوغ النبوغ والمجد والخلود أعني الكد والكدح والدؤوب. أجل لقد أحزنه ذلك وأسفه ولن يتمالك كتمان هذا الحزن والأسف ولا استطاع تهوينا لبرحاء شجنه وغلواء كمده بل أطلق العنان لثائر غضبه ووجدها فأمر بجميع ما لديه مكن رسومه وصوره التي صنعها خلوة من سمات الإتقان والإجادة صفرا من آيات النبوغ والعبقرية فأخرجت من متحفه (أي غرفة تصويره) ثم أحرقت: وحبس نفسه في متحفه وامتنع عن الطعام والشراب وتفرغ قلبا وقالبا للعمل يعكف عليه كالتلميذ دنى وقت امتحانه. ولكن ما كان أضعف وأسخف وأحقر وأضأل كل ما فاض من ريشته: لقد كان يقوم في سبيل ريشته لدى كل سحابة عائق من الجهل بأبسط قواعد الصنعة. لقد حال هذا الجهل دون كل إلهام من وحي الخاطر وفيض القريحة وقام عقبة كؤودا وسدا منيعا دون وثبات الخيال وطموحاته. وأخيرا ناجى نفسه قائلاأراني مدفوعا عن أدنى مراتب الإتقان ولا جرم فقد حيل بين العير والنزوان ولكن هل حقا كان لي في عهد الشباب ملكة وسليقة وهل كنت انطوي على سر العبقرية؟ أم كنت في نفسي مغشوشا مخدوعا؟. وعلى إثر هذه المناجاة قام فتوجه غلى رسوماته القديمة - مأثورات عهد سشبابه البائس الطاهر ثمرات الروح النقية والنفس الزكية وحرية النبوغ وشذوذ العبقرية ثم أقبل على هذه الرسومات ينعم النظر فيها ويدقق ويتأمل ما خفي من حسناتها وما ظهر. ويتدبر ما برز من مزاياها واستتر. فلما استوعبها جميعا وعرف ما هنالك صاح صيحة منكرة ملؤها اليأس. أجل لقد كان لي ملكة وسليقة وقد اوتيت براعة وعبقرية وهاتي آياتها بادية في كل خط من خطوط تلك الصور - وتلك آثارنا تدل علينا. وهنا احتبس لسانه وعرته رعشة شملت جميع جسده ووقعت عيناه على عينين آخرين بالغرفة - أعني عيني تلك الصورة المشؤومة التي كانت السبب فيما انتابه اليوم من هذه

المصيبة. لقد بقيت أثناء تلك الفترة الطويلة محجوبة عن بصره بما كان يغطيها من طبقات الصور والرسوم المتكاثفة فوقها وقد ندت عن ذاكرتها فكأنها لم تكن. فلما أخرج اليوم ما كان بالمتحف من الصور المألوفة المرغوبة برزت هذه الصورة هي وكل مصنوعاته القديمة من حجبها ومكامنها. ولما تذكر شارتكوف ما اقترن بتلك الصورة المجهولة من عجيب الأحداث والطوارئ - لما تذكر أن هذه الصورة كانت بشك لم سببا في زلاته وعثراته وأن ما أورثته تلك الصورة من بدرة الذهب المخبوء في إطارها هو الذي استثار في نفسه تلك النزعات المنكرة التي أفسدت ملكته وأودت بعبقريته - لما تذكر كل هذا أوشك أن يجن وكاد عقله أن يذهب. فأمر في الحال بالصورة الملعونة أن تزال من المتحف. ولكن إزالة الصورة لم يسكن من هياج خاطره ولا هدأ من ثائرة نفسه وكيف ولقد كان جذع الحياة فيه كأنما يزلزل من جذوره وإن ركن الحياة فيه كان يزعزع ن أساسه. وعلى أثر ذلك ألم به إحساس فظيع من الحسد لذوي النبوغ من رسامي عصره كاد أن يكون جنونا فكان كلما بصر بطريفة من بدائع الصور احتدم قليه حسدا لصاحبها فجعل يصرف عليه نابه حنقا وحقدا ويلتهم الصورة بعينيه التهاما وما لبث هذا الحسد والحقد القادح في كبده أن حداه إلى تدبير حيلة جهنمية نم أشنع ما دبر مغيظ محنق ثم أسرع بكل ما للجنون من قوة إلى تنفيذ هذه الحيلة فشرع ينفق مكنوز المال ومدخره في شراء كل ما جادت به ملكة التصوير من نفائس ملح معاصريه من الرسامين. وكلما اشترى صورة من تلك الطرائف هرع بها إلى غرفته ثم انقض عليها بسطوة القسور الغضنفر فمزقها إربا إربا وداس على جذاذها بقدمه وعلى شفتيه ابتسامة الظافر المنتصر. وكان قد سبق في قضاء الله أنه أراد بالفن وأهله وعشاقه خيرا فقدر أن لا تطول حياة مثل هذا الرجل إذ كانت ثورات نفسه الهائجة أشد ما يطيقه جثمانه الضعيف. فجعلت نوبات الجنون تعتاده من حين لآخر وكثر عليه ترددها وتتابع تكرارها حتى انتهت به إلى أسوء حال من المرض فأخذت حمى عنيفة مصحوبة بسل سريع وبلغ من شدة وطأتها عليه أن لم يبق منه بعد ثلاثة أيام إلا خيال. وبدا عليه مع ذلك أعراض الجنون الميؤوس من شفائه. فكان ربما أصابته النوبة فتعجز الفئة من أقوياء الرجال عن كبح جماحه. وجعل يتراءى له

وهو في هذه الحال شبح العينين المخوفتين اللتين كانتا أصل بلائه فيورث ذلك المنظر المرعب أشد الألم وألذعه. وإذ ذاك يتناهى جنونه صورة وفظاعة وكان يخيل إليه أن كل من أحاط به من العواد صور منكرة تحملق إليه بأعين شنيعة. لقد تضاعفت الصورة الرهيبة لناظره حتى خيل إليه أن جدران الغرفة قد رصعت بالمئات منها وكأن العيون المخوفة تطل عليه من السقف ومن الأرض وعن يمينه ويساره ومن أمامه ومن خلفه وكأن الحجرة قد استطالت وتعرضت إلى ما لا نهاية له لتفسح المجال للمزيد من تلك العيون الشاخصة الرهيبة. وحاول الطبيب بعد أن عرف ما يعلمه العواد من ماضي حياته أن يدرك سر العلاقة ما بين رؤيا تلك الأشباح المزعجة وحوادث حياته فلم يفلح وذلك أن المريض لم يكن يدرك ولا يحس بسوى مضيض أوجاعه وآلامه ولم يفه سوى صرخات نكراء. ورطانة عجماء. ثم فاضت روحه أخيرا إثر نوبة من أفتك النوبات. ولم يعثر بعد وفاته على شيء ما من ثروته الواسعة. ولكنهم لما أصابوا أنقاض ما حطمت يداه من أروع بدائع الفن وأغرب محاسن الصناعة مما يربو ثمنه على المليون أدركوا ما بددت في سبيله تلك الأموال الجسيمة. الفصل الثاني ازدحمت طائفة من المركبات على باب بيت كان معقودا فيه جلسة مزاد علني على مخلفات رجل من عشاق فن التصوير ممن ينفقون ثروة أجدادهم في اقتناء الطرف الأحاسن من آثار هذه الصنعة. كانت الردهة غاصة بالوفود والزوار من كل صنف وطبقة كأنهم جوارح الصقور والعقبان تحوم على جثث القتلى. وكان من بين هؤلاء فيلق كامل من تجار الصور وباعة الثياب القديمة قد طرحوا على وجوههم ما يلبسونه عادة للزبائن من علامات الملق والخداع والنفاق والمداهنة وسيما التذلل والخضوع والمسكنة وبدت في ألوانها الطبيعية هادئة ثابتة بالرغم من التصاقهم في ذلك المكان بنفوس أولئك الزبائن الأرستقراطيين الذي لو لاقوهم في حوانيتهم لخروا لهم ركعا ولكنسوا التراب المتساقط من نعالهم. لقد أولئك التجار والباعة في تلك الردهة وقفة الوداع المطمأن المطلق من قيود الكلفة والاحتشام لا يبالي ولا يحفل بمن حوله كائنا من كان وطفقوا يقلبون الصور والرسوم ليتأكدوا قيمها وأقدارها. وكان ن

بين الجماعات كثير من عشاق المزادات العمومية الذين لا تكاد تفوتهم جلسة من جلساتها أعني غواة الصور من طبقة الأرستقراطيين الذين يرون من أوجب واجباتهم ألا يدعوا فرصة تمر دون أن يزيدوا أعداد ما لديهم من مدخرات الرسوم والتصاوير والذين لا شغل لهم فيما بين الساعة 12و2 إلا حضور هذه الجلسات. يضاف إلى هؤلاء فقراء الأرستقراط الذين يذهبون إلى تلك المزادات في أثوابهم الشريفة البالية لا طمعا في شراء ما يعرض ولكن لمجرد الاطلاع على ما يؤول إليه أمر المزاد. كان ثمة طائفة من الصور ملقاة بلا نظام ولا ترتيب يخالطها أمتعة من الأثاث وشيء من الكتب عليها أسماء أربابها الذين ما خطر ببالهم قط أن يفضوا أغلفتها وآنية صينية وألواح من رخام المناضد وبسط وأنماط وزرابي ونمارق وكراسي وأرائك وثريات ومصابيح وشتى ضروب من آلات الزخرف والزينة يكدس بعضها فوق بعض أكداس مشوشة مختلطة كأنها كثيب مهيل من الفنون الجميلة. وكان المزاد قد بلغ أقصى غلوائه. وكان الجمع المحتشد يتبارك ويتنافس في صورة تأبى إلا لفتا لأنظار أهل الفن واجتذابا لأبصارهم. إذ كانت تبدو في غضونها بلا شك آيات قدرة بديعة وبراعة مدهشة وهذه الصورة التي كان يبدو عليها أثر تكرار التجديد والترميم فكانت تمثل شخص رجل أسيوي في ثياب فضفاضة تنم صفحة وجهه عن معاني رائعة خطيرة. ولكن أغرب ما في الوجه فرط توقد العينين. فكلما أطال إليها المشاهد نظره خيل إليه أن ألحاظها تزداد تغلغلا في أحشائه ونفاذا إلى حبة قلبه هذه الفتنة الغريبة الخداع التي أبدعها المصور بقوة براعته كانت موضع العجب والدهشة من الجميع. وقد بلغوا من ارتفاع ثمن الصورة في المزايدة أن كثيرا من المساومين كفوا أيديهم لعجزهم عما وصلت إليه من الثمن الفاحش الخارق للعادة. ولم يبق غير اثنين من عشاق الصور من طبقة الأرستقراطيين وإنهما قد أصرا على اقتناء الصورة مهما بلغ ثمنها فحمى بينهما وطيس المساومة وقد كانا بلا شك بالغين بالثمن حد الإعجاز والاستحالة لولا ما اعترضهما به أحد النظارة من قولهاسمحا لي أن اقطع تيار المساومة برهة من الوقت فلعلي نم بين سائر الحاضرين أحق الناس بإحراز هذه الصورة.

هذه الكلمات لفتت في الحال أنظار الجميع نحوه. فإذا رجل طويل يناهز الثلاثين أسود الشعر منسدله ينم وجهه الطلق عن فرط الاستخفاف بصروف الزمان وفراغ البال من أكدار الحياة وهموم الدنيا. وكانت ثيابه ساذجة غفلا من آثار التجمل والتأنق وكل ما به دليل ناطق على أ، هـ من أهل الصناعة. ولواقع أنه كان المصور المعروفة محاسن آثاره لدى كثير ممن حضر هذه الجلسة. واستمر الرجل في خطابه فقال مهما أثارت كلماتي هذه في نفوسكم من العجب فلسوف تحقونها وتبررونها متى وعيتم ما أنا ملقيه عليكم الآن من نبأ هذه الصورة فإني على يقين من أن هذه هي عين الصورة التي ما زلت أدأب باحثا عنها سنين عدة. . هنا سطعت آية العجب على وجوه لسامعين واشرأبت إلى الرجل أعناقهم وسموا إليه بأبصارهم حتى منادي المزاد نفسه وقف فاغرا فاه دهشة رافعا عصاه في الهواء تهيأ للإنصات إلى النبأ الغريب. وفي مقدمة القصة أقبل الجمع ينظر إلى الصورة فلما انحدر القاص في قصيصه وتدفق في شعاب روايته تحولت إليه الأنظار وانصاعت نحوه القلوب وانقادت الأذهان طوع بيانه. وتعلقت الأرواح بأسلة لسانه. حدث الرجل الجماعة قالتعرفون ذلك الحي من المدينة المسماة كولوما هذا الحي يخالف سائر أحياء موسكو فهو ملجأ المتقاعدين من ضباط الجيش ومأوى الأرامل وموائل الفقراء المعسرين وقصارى القول مثوى كل أولئك الأقوام الذين يصح أن ننعتهم بكلمة الطوائف الغبراء (أي التي لونها لون الغبار) من تراهم كأنما نسجت على ثيابهم ووجوههم وشعورهم وعيونهم طبقة من الغبار أو الرماد التي تكسو الجو في يوم لا شمس فيه ولا غيم. وقد يصادف بين هؤلاء القوم متقاعدو الممثلين ومتقاعدو المحامين ومتقاعدو الفرسان والمقاتلة ذوو الشفاه الوارمة والعيون الخربة. أجل إن الحياة في حي كولوما تمل وتسأم والعيش فيها لا رونق له ولا مذاق. وقلما تجري فيه المركبات إلا مركبة تحمل ممثلا تنحدر به في الطريق وقد أزعجت روح الصمت والسكون بدوي صريرها وصليلها وقد تحصل في دورها على السكن لمرضي بأزهد أجرة - خمسة روبلات في الشهر ضمنها ثمن القهوة وأعرق سكانها ارستقراطية الأرامل ذوات المعاشات والمكافآت وهؤلاء يسرن سيرة مرضية يصن أعراضهن ويكنسن حجراتهن

ويحادثن أصحابهن وصويحباتهن عن أسعار الضان والعجل والكرنب والكرنبيت والبطاطس كثيرا ما يكون لإحداهن ابنة فتية قلما تجدها إلا رزينة ركينة خفرة صموتا وقد تكون جميلة وكلب قبيح الخلقة وساعة حائط تدق دقات مؤلمة حزينة. ويجيء من بعد الأرامل طائفة المثليين الذين كسائر أهل الفنون الجميلة يعيشون في الدنيا للهو والمتاع واللذة. أولئك تراهم جلوسا في مباذلهم ينظفون مسدساتهم وسيوفهم ويصنعون كل شيء في الوجود من الورق مع كل من هب ودب وبذلك يقضون صباحهم وعلى هذا النحو يقضون أيضاً مساءهم مضافا إليه النبيذ والبنش.

§1/1