مجلة «الثقافة» السورية

خليل مردم بك

المقدمة

خليل مردم بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني وكامل عياد - دمشق 5 نيسان 1933 10 ذي الحجة 1351 المقدمة في الشرق العربي هزة استيقظ لها الناس بعد سبات عميق فهبوا خفافاً أو ثقالاً بعد أن بلغت تلك الهزة مناحي حياتهم بأجمعها فنهاك نهضة مضطربة في العلم والأدب والأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك من أوضاع الحياة ومرافقها وشؤون المعاش. إما مكانهم الحاضر من هذه النهضة فما زال برزخاً بين ماضيهم الدفين ومستقبلهم الجنين وشأنهم في ذلك عدم الرضا بالحاضر في كل مظاهره والطموح إلى المستقبل. ليس بدعاً أن تأتي النهضة في الشرق العربي على كل صورة من صور الحياة سلسلة متصلة الحلقات إذا وهت حلقة منها اضطراب اتساقها. ولكن الواقع أن تلك النهضة صحبها اضطراب شمل جميع مناحي حياتنا حتى ظهرت مشوشة يطغى بعضها على بعض. فأضحى من الصعب إصلاحها دون الاعتماد على أسس لإطراد سيرها وتقدمها , لأن النهضة الفكرية أساس للنهضة العلمية والاجتماعية. فأمثل السبل والحالة هذه أشد أزر كل عنصر من عناصر هذه النهضة واستخلاص ثقافة متميزة تلائم روح العصر , وذلك بدراسة الأوضاع الحاضرة وتفهمها وحرث الماضي وتصوره وإظهار صلتنا به لأن الحاضر وليد الماضي ومتصل به كما أنه مسير بنور المستقبل , ولا يتم معرفة شيء إذا جهلت أصوله , ولابد لنا مع هذا من الاقتباس من المدنية الغربية وانتهاج السبل التي أدت إلى بلوغ القوم ذلك المبلغ من الحضارة. وهكذا فيجب أن تقوم حياتنا العلمية على أسس ثلاثة: دراسة الماضي , ومعرفة الحاضر , والاقتباس من الغرب. وأهم ما تستدعيه النهضة الفكرية من الوسائل معالجة المواضيع العلمية والفلسفية والأدبية وتحبيبها للناس على أن جعلها على طرف اللثام لا ينبغي أن يحول دون ضبطها والتعميق فيها لتكوين ثقافة فكرية دائمة. وللأدب - إذا أعطي حقه - أبلغ في تكوين هذه الثقافة فهو روح النهضات ومظهر حياة الأمة. ولقد طغت عليه جلبة السياسة في هذه الأيام حتى كاد يخفت صوته في ضوضائها فأصبح من الواجبإقالته من عثرته والأخذ بيده وتقديس حرمه وانتهاج طريق واضح له في

الدراسة والوضع. أما دراسته فعلى طريقة التنظيم والتوضح ونفي الفوضى والإبهام وتحكيم العلم والعقل والذوق والنقد الصحيح. وأم الوضع فنرمي من ورائه إلى تكوين أدب يصور حياتنا الحاضرة ويسير معها ويطرد مع ارتقائها ويزجيها إلى المثل الأعلى ويلامس طبقات الشعب بلسان عربي مبين له من الفن وسيلة إلى بلوغ الغاية وهي تمثيل الحياة بأروع صورها هذه حاجاتنا وهي كما ترى كثيرة تستعصي على الطالب وتستدعي جهداً عظيماً , ولكن إدراكها كلها أو بعضها بالتدريج والتراخي خير من القنوط أو الإهمال , لذلك فأصحاب هذه المجلة يستعينون الله في مظاهرة رصفائهم في الشرق العربي ممن استقلوا بحمل هذه الأمانة في صحفهم ومجلاتهم ويصدرونها تبحث في الآداب والفنون والجتماع والتاريخ والحقوق والعلوم والفلسفة. وغاية ما يرجونه أن يكون التوفيق جزاء إخلاصهم.

مدينة السلام

مدينة السلام للأمير شكيب أرسلان تاريخ بغداد أو مدينة السلام للحافظ أبي بكر احمد بن علي الخطيب وضعه في أزهى عصور الإسلام منذ تأسيسها إلى وفاته عام 463 يشتمل على وصفها وتخطيطها وتراجم من كان فيها من الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والأشراف والعلماء من جميع الطبقات. وقد ظهر منه عشرة مجلدات ولا يزال مجلدان تحت الطبع. وهو بأجمعه يأتي في 4800 صفحة طبع للمرة الأولى بنفقة مكتبة الخانجي بالقاهرة والمكتبة العربية ببغداد ومطبعة السعادة بجوار محافظة مصر سنة 1349 وفق سنة 1931. هذا الكتاب لا يوجد في أدباء العربية من لم يسمع به فهو من أشهر التواريخ وهو لبغداد كتاريخ ابن العساكر لدمشق. ولم أكن أطلعت عليه وإنما أهدانيه أحد أصدقائي من كبار العراقيين جزاه الله خيراً. فوقعت عليه وقوع الذباب على الحلوآء. وبدأت بدرس الجزء الأول منه فأعجبني جداً بيانه السهل الممتنع وهو في رواياته يعتمد على أسلوب علمائنا في العنعنة مع مزيد التحري. وهو أسلوب لا يقدر عاقل أن يطعن فيه لأن الرواية يجب للثقة بها الإطلاع على اسانيدها من كل الجهات وإلا فلا يكون التاريخ تاريخاً. وها نحن أولاء نرى علماء الإفرنجة يبالغون في التدقيق والتمحيص وقد يحررون عن واقعة واحدة كتاباً كثير الورق يبلغون فيه الأمد الأقصى من الأخذ والرد بتصفح وجوه الروايات ومقابلتها بعضها ببعض ويذكرون المصادر التي أخذوا عنها مع تبيين الكتاب والصفحة والسطر والطبعة أية سنة كانت وما أشبه ذلك. فمذهب العنعنة في الإسلام لا يؤتى ولا من جهة. وغاية ما يقول أنه يجوز للكتاب في حال اختصاره حذف أسانيده. وأما أهمية هذا الكتاب فهي على نسبة أهمية البلدة التي وضع لأجلها. فبغداد في الحقيقة تمثل مدينة الإسلام لأنها أكبر بلدة عمرها المسلمون بأيديهم وكانت حضارتها إسلامية من أولها إلى آخرها. ولم تبلغ بلدة في الإسلام ما بلغته دار السلام من عظمة وسعة وثروة ونعيم. وجميع مدن الإسلام التي اشتهرت في التاريخ كدمشق وحلب والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة والبصرة واصفهان وسمرقند وغيرها إنما تأتي رديفة لبغداد. ذكر الحافظ

ابن الخطيب في الصفحة الأولى من الجزء الأول قال: أخبرنا عبد العزيز بن أبي الحسن القرميسيني قال سمعت عمر بن احمد بن عثمان يقول: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال لي الشافعي: يا يونس دخلت بغداد؟ قال قلت: لا. قال: ما رأيت الدنيا. ليتأمل الإنسان أن قائل هذا القول هو الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي لم يكن ممن تزدهيه الدنيا ولا ممن تسكره زينتها ولا ممن يأخذ بلبه زخرفها ولكنه برجاجة عقله كان في مقدمة الرجال الذين يقدرون الأمور أقدارها فهو يقول: أن من لم ير بغداد لم يعرف الدنيا. وحاشا أن يكون مثل الشافعي موصوفاً بالمبالغة فبغداد في عنجهية أمرها كانت المثل الأعلى للحضارة فمن لم يكن شاهدها لم يكن شاهد المثل الأعلى من العمران. ولا نظن أنه كان يوجد في العالم كله لا في العالم الإسلامي فقط بلدة تضارع بغداد في العظمة لعهد المنصور والمهدي والرشيد. فإن رومة في ذلك العصر كانت انحطت عن درجتها المعلومة وأنه لم يكن في أوربة لذلك العهد مدينة تساوي شطراً من بغداد فضلاً عن أن تعادل بغداد نفسها. نعم كانت القسطنطينية في ذلك العصر مدينة عظيمة وكانت وقتئذ عاصمة النصرانية بلا نزاع ولكنها لم تبلغ في العظمة والضخامة ما بلغته بغداد في القرنين الأولين من بنائها. فيمكننا أن نقول أن رئاسة حواضر الدنيا انتهت لبغداد لمدة قرنين أن لم يكن ثلاث. نعم لا نعلم درجة عظمة حواضر الصين والهند لذلك العهد إلا أننا نرجح أنه لم يكن منها ما يعادل بغداد في ذيك القرنين الثاني والثالث للهجرة ولو كانت ثمة مدن تعادل بغداد لكان انتشر خبرها وقيست إلى بغداد في عظمتها لأن العرب كانوا على اتصال مستمر بالهند والصين وكانت السفن تختلف بين سيراف وكنتون بالسهولة التي تختلف فيها الآن بين شربورغ ونيويورك أو سوثمبتون ونيويورك. فمم بعد أن تقرر في نظرنا أن بغداد كانت أعظم مدينة في العالم مدة قرنين أو ثلاثة بالأقل يجب أن نبحث في درجة عظمة بغداد وما كانت سعة رقعتها وما بلغه عدد السكان فيها وذلك بناء على الروايات المختلفة التي ساقها ابن الخطيب في هذا التاريخ الذي إن لم يعرف بغداد حق التعريف فلن يعرفه كتاب آخر. إننا لا نريد الآن أن نعيد روايات ابن الخطيب التي يمكن القارئ أن يطالعها في الكتاب

نفسه. ولم نكن لنتوخى هذا البحث من أجل أن ننقل صفحات من تاريخ بغداد نقلاً. وإنما نريد أن ندقق في روايات ابن الخطيب ونزنها بمعيار العقل ونجتهد في تمييز ما يكون منها مبالغة أو مجازفة ما يمكن أن يكون حقاً، وبعبارة أخرى نريد أن نعرض هذا التاريخ على محك النقد، لا محل النقد الذي أولع به بعضهم من التشكيك في كل شيء ومن الاعتراض على كل شيء لكن محك المعقول السائغ الذي تزعن له أرباب العقول السليمة والمعارف الواسعة. قال ابن الخطيب لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشعوبها ومحالها وأسواقها وسككها وأزقتها ومساجدها وحماماتها وطرزها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرود ظلالها وأفيائها واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها وزيادة ما حصر من عدد سكانها وأكثر ما كانت عمارةً وأهلاً في أيام الرشيد إذ الدنيا قارة المضاجع دارّة المراضع خصيبة المراتع مورودة المشارع ثم حدثت بها الفتن وتتابعت على أهلها المحن فخرب عمرانها وانتقل قطانها إلا أنها كانت قبل وقتنا والسابق لعصرنا على ما بها من الاختلال والتناقض في جميع الأحوال مباينة لجميع الأمصار ومخالفة لسائر الديار. ثم قال نقلاً عن أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر: أخذ الطول من الجانب الشرقي من بغداد لأبي احمد يعني الموفق بالله عند دخوله مدينة السلام فوجد مائتي حبل وخمسين حبلا وعرضه مائة وخمسة أحبل فتكون ستة وعشرين ألف جريب ومائتين وخمسين جريباً. ووجد الجانب الغربي طرله مائتان وخمسون حبلا أيضاً وعرضه سبعون حبلاً. يكون ذلك سبعة عشر ألف جريب. فالجميع من ذلك ثلاثة وأربعون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريباً من ذلك مقابر أربعة وسبعون جريباً انتهى. فلنعل الآن امتحاناً لهذا التعديل فنقول: المعول كله على معرفة مقدار هذا الجريب لأن الأجربة كسائر المقاييس كانت تختلف. وجاء في تاج العروس أنه يختلف البلدان كالرطل والمد والذراع ونحو ذلك وجاء فيه نقلاً عن قدامة الكاتب أن الجريب ثلاثة آلاف وستمائة ذراع. وجاء في تاج العروس أن الجريب مكيالل قدره أربعة أقفزة. وجاء في محل آخر أنه عشرة أقفزة لكل قفيز منها عشرة أعشار فالعشير جزء من مائة جزء من الجريب وهذه هي أيضاً عبارة لسان العرب. وأما الفقير فيقول في تاج العروس أنه مكيال معروف زهو

ثمانية مكاكيك عند أهل العراق ومن الأرض قدر مائة وأربع وأربعين ذراع. ووجدت في بعض الكتب أن الجريب عشرة آلاف ذراع. ولكني أرى إذا جعلنا الجريب المقصود هنا عشرة آلاف ذراع وضربنا به الثلاثة والأربعين ألفاً والسبعمائة والخمسين جريباً التي هي مساحة بغداد في ذلك الوقت بحسب تاريخ ابن الخطيب بلغ ذلك مبالغ غير معقولة إذ إن كان الجريب عشرة آلاف ذراع تكون المساحة ثلاثة وأربعين مليوناً وسبعمائة وخمسين ألف ذراع مربع وهذا بعيد جداً هن العقل. فلذلك أخترنا التقويم الآخر وهو أن يكون القفيز مائة وأربعة وأربعين ذراعاً في تاج العروس والجريب عشرة أقفزة فيكون ألف وأربعمائة وأربعين ذراعاً. فإذا ضربنا ثلاثة وأربعين ألفاً وسبعمائة وخمسين جريباً بألف وأربعمائة وأربعين ذراعاً جاء ثلاثة وستون مليون ذراع مربع. فإذا أخرجنا ثلثها من أجل تكسير هذه المساحة على المتر بقي معنا اثنان وأربعون مليون متر مربع وهي مساحة تعادل ثمانية آلاف فدان بحيث يكون طول بغداد من ستة إلى سبعة كيلو مترات وعرضها من ستة إلى سبعة كيلو مترات أيضاً فهذا معقول وسائغ بل يجوز أن تكون رقعتها أوسع من هذا المقدار ذلك العقل، ولكن إن جعلنا الجريب عشرة آلاف ذراع مربع بل جعلناه ثلاثة آلاف وستمائة ذراع كان ذلك بعيد جداً عن العقل. أما الشيء الذي لا يتحمل وجوهاً وهو بعيد جداً عن العقل فهو رواية ابن الخطيب نقلاً عن محمد بن يحيى عن عدد الحمامات في بغداد قال: إن عدد الحمامات كان في ذلك الوقت في بغداد ستين ألف حمام وأقل ما يكون في كل حمام خمسة نفر حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء يكون ذلك ثلثمائة ألف رجل. فهذا غير معقول وغير مقبول قولاً واحداً لأننا لا نستطيع أن نتصور مدينة عملت الحمامات فيها ثلثمائة ألف إذ لو قلنا بغداد كانت ثلاثة ملايين نسمة وجب أن يكون عملة الحمامات عشر أهلها. ولا يوجد بلدة في الدنيا مهما بلغ من حب أهلها للنظافة يكون عشر سكانها عملة حمامات. فلو قلنا أن بغداد كانت في لذلك العهد بقدر لو ندرة اليوم أي تسعة ملايين فيجب أن يكون عدد الحمامين فها واحداً من ثلاثين وهذا غير معقول أيضاً. كما أنه لم تبلغ بغداد في وقت من الأوقات درحة لو ندرة اليوم في عدد السكان، هكذا نظن. وأغرب منه قول ابن الخطيب نقلاً عن محمد ابن يحيى أنه يكون بإزاء كل حمام خمسة

مساجد فيكون ذلك ثلثمائة ألف مسجد وتقدير ذلك أن يكون أقل ما يكون في كل مسجد خمس أنفس يكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان. فهذه العبارة كلها غريبة أما أن يكون عدد أهل بغدد ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان أي مليونا ونصف إنسان فهذا ليس بشيء ونحن نعتقد أنه كان في بغداد لذلك العهد أكثر من هذا العدد ونظن أن أهلها تجاوزا مليونين وثلاثة ولكن الغرابة في قوله أنه يكون بإزاء كل حمام خمسة مساجد ومجموع ذلك ثلثمائة ألف مسجد. فغير مقبول أصلاً أن يكون في بغداد يومئذ ثلثمائة ألف مسجد وأن قلنا أنه كان فيها ثلثمائة ألف مسجد لزم أن يكون عدد سكانها ثالثين مليوناً بالأقل هذا باعتبار مائة نسمة لكل مسجد. أما اعتبرنا مائتي نسمة لكل مسجد وجب أن يكون عدد سكان بغداد ستين مليوناً وهذا أيضاً خارج عن العقل. ولكن لم نفهم معنى قوله أن لكل مسجد خمسة أنفس، أن أراد بذلك عدد الخدمة فهذا معقول. ولكن إن أراد عدد المصلين فهذا غير معقول. لأنه قليل جداً ولا يعمل مسجد لأجل خمسة ولا لأجل خمسين ويظهر منه أنه يريد عدد الخدم وعليه يكون عدد خدمة المساجد في بغداد مليونا ونصف مليون أي ألف ألف وخمسمائة إنسان. فهذا يرده العقل بدون تردد فالمدينة التي فيها مليون ونصف رجل من خدمة المساجد لا بد أن تكون مشتملة بالأقل على مائة مليون نسمة. والحاصل أننا نستغرب لا هذا العدد بذاته فقط إذ الاستغراب هنا بديهي ولكننا نستغرب أيضاً نقل ابن الخطيب لروايات كهذه تنقص من قيمة التأليف. وهذه قضية النقل بدون تمحيص وكيفما أتفق هي أشد ما يأخذه الافرنج على العرب في هذا الباب. فإن المؤلف العربي يرى أن من الواجب عليه نقل كل خبر كما سمعه بدون تبديل ولا تعديل مهما كان سخيفاً أو غريباً وأحباناً بدون اعتراض تاركاً الحكم فيه للقارئ. ومن مؤلفي العرب من يحب التورع عن نقض الأخبار الغربية بحجة أن كل شيء في الدنيا ممكن وإن الله خرق القواعد. ومنهم من يقول: هذا شيء وجدناه هكذا فلا يجوز لنا أن نتفلسف فيه. وقد كان هذا المشرب عند كثير من مؤلفينا سبباً في مسير مبالغات العرب مثلاً سائراً عند الافرنج. فإذا أردت أن تنقل رواية عن كتاب عربي فيها شيء من العظمة بادرها العالم الافرنجي بالرد أو بالأقل بالتشكيك لأنه لا يتلقى رواية عربية لاسيما عن المقادير والكميات والكيفيات إلا بحذر عظيم. هذا الذي جره علينا مشرب هذا العدد الجم من مؤرخينا الذين أفرط بهم حب التقليد إلى درجة أنهم لا

يحبون أن يغيروا ولا أن يبدلوا خبراً من الأخبار ولو كان من فم عجوز. وذلك بحجة أن هذا كله ممكن ولا شيء يعجز قدرة الله. ونسوا أن المستحيل عادة كالمستحيل عقلاً وأن وسق جميع هذه الأخبار في الكتب بدون تمحيص يجعل القراء في شبهة حتى في الصحيح منها. وقد جرت العادة أن التاجر الذي يبيع بضاعة مغشوشة يتحامى المشترون الشراء منه ولو كان عنه بضاعة جيدة. وأن الصيرفي الذي يتعاطى مسكوكات مزيفة تقل الثقة في مسكوكاته الصحيحة. وإني على ثقة بأن نقل ابن الخطيب لأخبار الحمامات والمساجد في بغداد بهذه المبالغات الخارقة للعادة سيفقد تاريخ بغداد كثيراً من نظر الناس مع أنه من التواريخ القيمة بدون شك. أن أول واضع لعلم النقد في التاريخ هو الفيلسوف الاجتماعي الأكبر عبد الرحمن ابن خلدون رحمه الله وهو الذي كان أول المنبهين على أغاليط المؤرخين والمنددين بمبالغاتهم لاسيما في ذكر الكميات والأعداد وهو الذي قال أنهم نقلوا المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد. وقال أيضاً وقد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين توغلوا في العدد وتجاوزا حدود العوائد وطاعوا أوساس الأغراب فإذا استكشفت أصحاب الدواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم واستجلبت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدونه وما ذلك إلا لولع الأنفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد حتى لا يحاسب نفسه على خطأ ولا عمد ولا يطالها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه إلى آخره.

وإني أرى ابن الخطيب صاحب تاريخ بغداد غير ناقل ما نقله على سبيل تصديقه لأنه قد سبق له ذكر الأحاديث النبوية التي رواها الرووان عن بناء بغداد ثم عن خرابها من قبيل: تبنى مدينة بين دجلة ودجيل والصراة وقطربل يجتمع فيها خزائن الأرض يخسف بها فهي أسرع ذهاباً في الأرض من الحديد أو الحديدة في الأرض الخوارة أو: يكون خسف بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة بأمراء جبابرة يخسف الله بهم الأرض ولهي أسرع بهم هوياًّ من الوتد اليابس في الأرض الرطبة وغير ذلك من الأحاديث التي أملى فيها بضع عشرة صفحة مستقصياً أسانيدها وأنهى الأمر بتضعيف هذه الأحاديث وأحياناً تكذيب رواتها وبنقل كلام الأئمة الذين قالوا أنها من الموضوعات. أما من جهة عدد الحمامات والمساجد فكأن المؤلف لشدة إعجابه ببلدته لم يشأ أن يتحاشى نقل هذه المبالغات وإنما نقل بجانبها أخبار لم تبلغ هذه الدرجة من المبالغة وأخرى معتدلة ومقولة وترك التمييز للقارئ ويا ليته اقتصر على المعقول فكان انصح للكتاب وأحدى على الثقة به. حدث فقال نقلاً عن هلال ابن المحسن قال: كنت يوماً بحضرة جدي أبي اسحق إبراهيم بن هلال الصأبي في سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة إذ دخل عليه أحد التجار الذين كانوا يغشونه ويخدمونه فقال له في عرض حديث حدثه به: قال لي أحد التجار أن ببغداد اليوم ثلاثة آلاف حمام. فقال له جدي: هذا سدس ما كنا عددناه وحصرناه. فقال له: كيف ذاك. فقال جدي أذكر وقد كتب ركن الدولة أبو الحسن بن بويه إلى الوزير أبي محمد المهلبي بما قال فيه: ذكر لنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد واختلفت علنا فيها الأقاويل واحببنا أن نعرفها على حقيقة وتحصيل فتعرفنا الصحيح من ذلك. قال جدي: وأعطاني أبو محمد الكتاب وقال لي: امض إلى الأمير معز الدولة فاعرضه عليه واستأذنه فيه ففعلت. فقال له الأمير: إستعلم ذلك وعرفنيه. فتقدم أبو محمد المهلبي إلى أبي الحسن البادرجي - وهو صاحب المعونة - يعد المساجد والحمامات، قال جدي: فأما المساجد فلا أذكر ما قيل فيها كثرة، وأما الحمامات فكانت بضعة عشر ألف حمام. وعدت إلى معز الدولة وعرفته ذلك فقال اكتبوا في الحمامات بأنها أربعة آلاف. واستدللنا من قوله على إشفاقه وحسده إياه على بلد هذا عظمه وكبره. وأخذ أبو محمد وأخذنا نتعجب من كون الحمامات هذا القدر. وقد أحصيت

في أيام المقتدر الله فكانت سبعة وعشرين ألف حمام. وليس بين الوقتين من التباعد ما يقضي هذا التفاوت. قال هلال: وقيل أنها كانت في أيام عضد الدولة خمسة آلاف حمام وكسراً. قلت أما زمان المقتدر فكان في عهد الثلثمائة بعد الهجرة فما بعد. وأما زمان عضد الدولة ين بويه فبدأ في بغداد سنة سبع وستين أو سبعين سنة. فيكون من العجب العجاب أنه في حقبة كهذه ينزل عدد الحمامات من سبعة وعشرين ألفاً إلى خمسة ألاف! ولا أزال أظن أن في قولهم كانت الحمامات في بغداد أيام المقتدر سبعة وعشرين ألف حمام مبالغة عظيمة. وكذلك عندي دليل آخر أقرب إلى العقل من هذا على وجود المبالغة في الخبر وهو قولهم أن الحمامات كانت في أيام الأمير معز الدولة بن بويه والوزير أبي محمد المهلبي بضعة عشر ألف حمام ثم قولهم أنها كانت في أيام عضد الدولة خمسة آلاف حمام وكسراً. فإن زمان سيف الدولة هو زمان الخليفة المطيع لله. وكانت وفاة معز الدولة سنة ست وخمسين وثلثمائة. وكانت وفاة عضد الدولة سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة أي بين العهدين لا يوجد أكثر من ست عشرة سنة. فكيف يمكن في مدة قصيرة كهذه أن يتقلص العمران كل هذا التقلص ويتساقط عدد الحمامات من بضعة عشر ألفاً إلى خمسة آلاف وكسر؟ والأرجح عندي أن الحمامات كانت من أربعة إلى خمسة ألاف في العهدين. وليس بهذا عدد قليل لأننا لو جعلنا كل حمام لمائتي بيت كان مجموع البيوت مليون بيت. فإذا جعلنا كل بيت خمس أنفس كان مجموع سكان بغداد خمسة ملايين وهو أقصى ما يتصور لعدد سكان بغداد. وإن قلنا أنهم من شدة ولعهم بالاستحمام وانغماسهم في الترف كان الحمام الواحد لا يكفي إلا لمائة بيت وجب أن يكون في بغداد نصف مليون بيت أي مليونان ونصف مليون نسمة وهذا قريب للعقل أيضاً. ومما ذكر ابن الخطيب في تاريخ بغداد استدلالا على استبحار العمران فيها قوله: حدثني القاضي أبو القاسم التنوجي قال: أنبأنا أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي في سنة ستين وثلثمائة قال: أخبرني رجل يبيع سويق الحمص منفرداً به وأسماه لي ونسيته: أنه حصر ما يعمل في سوقه من هذا السويق كل سنة فكان مائة وأربعين كراًّ يكون حمصاً مائتين وثمانين كراًّ يخرج في كل سنة حتى لا يبقى منه شيء ويستأنف عمل ذلك للسنة الأخرى.

قال: وسويق الحمص غير طيب وإنما يأكله المتحملون والضعفاء شهرين أو ثلاثة عند عدم الفواكه ومن لا يأكله من الناس أكثر. قال الشيخ أبو بكراي المؤرخ: لو طلب من هذا السويق اليوم في جانبي بغداد مكوك واحد ما وجد، انتهى. فلنمتحن هذا الخبر فنقول: أن الكر على إحدى الروايات ستة عشرة قنطاراً بالشامي فإذا كان مئتان وثمانون كرا كان مبلغها أربعة آلاف وأربعمائة وثمانين قنطاراً، فهذا ليس بشيء لمثل بغداد يقال أن فيها بضعة عشر ألف حمام بالأقل. ثم رأيت أن الكر ست أوقار حمار، وعليه يكون أقل من ستة عشر قنطاراً بالشامي إذا القنطار ما نعرفه اليوم. والأرجح عندي أن الكر هو ما ورد في تاج العروس أنه عند أهل العراق ستون قفيزاً والقفيز ثمانية مكاكيك والمكوك صاع ونصف فيكون الكر سبعمائة وعشرين صاعاً. على أنه جاء في التاج نقلاً عن الأزهري قال أن الكر اثنا عشر وشقاً كل وسق ستون صاعاً أو أربعون أردباً بحساب أهل مصر. فإذا كان الكر 480 أردباً فيكون مايتان وثمانون كرّاً عبارة عن ماية وعشرين ألف أردب وأربعمائة أردب وليس هذا بشيء يستبعده العقل على حاضرة الإسلام الكبرى. على أن في تاريخ بغداد للشيخ أبي بكر الخطيب فوائد كثيرة وأدلة واضحة على ما كانت عليه من التناهي في العمران، أهم ذلك ما رأيته من وصف الاستقبال الذي جرى لرسول ملك الروم في أيام المقتدر بالله مما يلزم أن يفرد بمقالة خاصة. وربما تترجم هذا الفصل لمجلتنا (لاناسيون آراب) كما فعلنا في وصف قرطبة ونقلت ذلك عنا جرائد أوربية خطيرة. ومن الفوائد التي عثرت عليها في تاريخ بغداد للحافظ ابن الخطيب أنه في ترجمة أبي أيوب الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه نقل رواية وهي أن شيخاً من أهل فلسطين كان في القسطنطينية فرأى بنية بيضاء دون حائط القسطنطينية فقالوا: هذا قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم. قال هذا الشيخ: فأتيت تلك البنية فرأيت قبره في تلك البنية وعليه قنديل معلق بسلسة. فظهر من هنا أن قبر أبي أيوب رحمه الله لم يكن درس القرون الأولى من الهجرة، وأنه أن كان قد درس فيكون فيما بعد. فأن الأتراك يقولون أنهم لما فتحوا القسطنطينية كان قبر أبي أيوب دارساً وأنه إنما كشفه الشيخ آق شمس الدين على أثر رؤيا رآها. فمن كتاب الحافظ ابن الخطيب الذي عاش في القرن

الخامس يظهر أن قبر أبي أيوب كان معروفاً محفوظاً وهذا سند جديد يضاف إلى روايات ابن قتيبة والطبري وابن الأثير وابن الجوزي عن كون الروم احترموا قبر صاحب رسول الله ولم يطمسوه مدة قرون. وأما ما يقال بأنهم كانوا يزورونه ويستقسون عنده في أيام القحط فيجوز أن يكون صحيحاً كما يجوز أن يكون من عمل الخيال. وعلى كل حال فعدم مساسهم بالقبر وحرمتهم له هو في عاصمة النصرانية يومئذ هما من كرامات ذلك الصحابي الجليل! لقد راجعت الانسكلوبيدية الإسلامية بشأن مدينة بغداد. وليست هذه الانسكلوبيدية في شيء من التحمس لتاريخ الإسلام بل أراها في كثير من الأحيان تبخسه من أشيائه وأحياناً تعطيه أقل من حقه وكثيراً ما تعطيه نصف حقه فقط. ومع هذا رأيتها تقول في الصفحة 576 في الجزء الأول: أن بغداد كانت في عهد الخلفاء الأول من العباسيين أعظم مركز تجاري في آسيا ومنبع حياة عقلية عظيمة وأنها بعظمتها وثروتها وزخرفها كانت تشغل المقام الأول في العالم المتمدن لذلك العهد. ثم قول في تلك الصفحة نفسها: أن هذه الحاضرة يوم وفاة الخليفة المهدي أي قبل الرشيد كانت مساحتها من سبعة إلى ثمانية كيلومترات طولاً إلى سبعة أو ثمانية كيلومترات عرضاً فإذا حسبنا هذه المساحة بضرب ثمانية في ثمانية كانت أربعة وستين كيلومتراً مربعاً ولنقل مائة ألف ذراع مربع. فمساحة كهذه لا تسع أكثر من مائتي ألف بيت إذا حسبنا أنه سيدخل في هذه المساحة الشوارع والسكك والساحات والمساجد والحمامات والقصور والدور العامة. فإذا حسبنا بكل بيت خمس نسمات قلا يكون عدد سكان بغداد في زمان المهدي أكثر من مليون نسمة. قد جاء هذا الكلام في الانسكلوبيدية الإسلامية ولم يذكر فيها السند الذي توكأ عليه الكاتب في قوله: كانت بغداد في أيام المهدي من سبعة إلى ثمانية كيلومترات طولاً ومثلها عرضاً. ثم لم نجد في هذه الانسكلوبيدية حصراً لعدد السكان. ومما اتفق عليه المؤرخين أن أوج عظمة بغداد كان في زمان الرشيد بعد المهدي وبقيت على حالتها تلك إلى أيام المعتصم. ونحن نظن أن تقدير الانسكلوبيدية كون مساحتها سبعة أو ثمانية كيلومترات طولاً في مثلها عرضاً ربما كان هكذا أيام المهدي وأن بغداد قد تضاعفت فيما بعد ونعتقد أن بغداد لم يكن فيها لعهد الرشيد والمأمون ل من ثلاثة ملايين نسمة. وأن مثل هذا العدد قد يلزمه من أربعة إلى خمسة

آلاف حمام بالنظر إلى رفاهية الأهالي وللترف الذي كانت تعيش فيه بغداد ولكون أهلها مسلمين من مباديهم الدينية الاغتسال. فأما الستون ألف حمام والثلثمائة ألف مسجد فهذا من كلام العوام وقد أخطأ الحافظ أبو بكر ابن الخطيب رحمه الله في مجرد نقله بدون اعتراض. وحبك الشيء يعمي ويصم. جنيف 23 شوال 1351 شكيب آرسلان

اندفاعات

اندفاعات للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهراوي اهدي إليك يا موطناً قد ذبت فيه غراما ... أهدي إليك تحية وسلاما لولاك لم اك في الوجود ولم أشم ... بلج الصباح واسمع الأنغاما أفديك من وطن نشأت بأرضه ... ومرحت فيه يافعاً وغلاما ما كنت إلا روضة مطلولة ... تعطي الورود وتفتق الأكماما غازلت منها في الغدو بنفسجاً ... وشممت منها في الأصيل خزاما وسعدت ألعب فوق أرضك ناشئاً ... وشقيت شيخاً لا يطيق قياما لك قد غضبت وفي رضاك حملت أن ... تنتابني نوب الزمان جساما وسمعت من ناس شريرٍ طبعهم ... كلماً على نفسي وقعن سهاما لي فيك يا وطني الذي قد ملني ... حب يواري في الرماد ضراما أما المنى فقد انتهت ومضاتها ... إلا بصيصاً لا يزيل ظلاما لا نفع في أحلامكم من ثقفّته الحادثات ملمة ... يلقى الخطوب بصدره بساما كبر الألى من طيب أعراق لهم ... كانوا إذا لؤم السفيه كراما أنا للأفاعي غير مكترث وإن ... تركت بنفسي نابها آلامها بالذل لا أرضى وإن سلمت به ... روحي وأرضي بالحمام زؤاما حيّ الذين إذا الهوان أصابهم ... تخذوا الآباء من الهوان عصاما يا حامل الصمصام لا يحمى به ... حقاً لماذا تحمل الصمصاما ما في المساواة التي تشدو بها ... إن الوهاد تطاول الآكاما ياقومنا لا نفع في أحلامكم ... فخذوا الحقائق وانبذوا الأحلاما أخشى عليكم في الحياة تدهورا ... فيه الرؤوس تقبل الأقداما جهل الذين على قديم عوَّلوا ... فيه أن الزمان يغير الأحكاما وأشد خلق الله جهلاً أمة ... نقضت فظنت نقضها إبراما

يغالي في آرائه إني لا ربأ أن أكون مجنّة ... في الحادثات ولا أكون حساما ولقد يريد الظالمون لنفسهم ... بالظلم من شر يلمُّ سلاما وتشذ آراءٌ فكم من مجرم ... ما أن يرى إجرامه إجراما ولقد يغالي المرء في آرائه ... حتى يثير عداوة وخصاما ولربما أطرى أفاعيلاً له ... كانت إذا استقرأتها آثاما لا يستطيع بناء مجد صادق ... من لا يكون لكاذب هداما هل يخرق العادات فيما جاءه ... إلا جريءٌ لا يخاف ملاما أإذا نجحت حمدت نفسك مطرياً ... وإذا فشلت تعاتب الأياما دمَّ التعصّب إن الحياة وغىً وقد يبنو بها ... سيف الشجاع ولا يكون كهاما ذم التعصب في الجدال فأنه ... سقم يجر وراءه أسقاما ولرب داء فيك إن أهملته ... يبقى على طول الزمان عقاما ما أنت إلا ذرة منسية ... في بقعة من عالم يترامى كون تحركه نواميس له ... كانت له منذ القديم لزاما تشكو به الأيام مثلك أسرها ... فمن لسخافة لومك الأياما فيه الشموس كثيرة فمن الذي ... في البدء إضرام نارها إضراما الأوهام والحقائق من يحسب الأوهام منه حقائقا ... يجد الحقائق كلها أوهاما أو كان من داء به يصدى فقد ... يرد الخضم ولا يبل أواما لا ينكر الحق المبين سوى امرئ ... يعمى وشر منه من يتعامى ولقد يكون الفوز حلفاً للألى ... غمدوا السيوف وجردوا الأقلاما كم ريشة في كف أروع بددت ... جيشاً تدجّج بالحديد لهاما ابن آوى ظن ابن آوى أنه أسد الشرى ... حتى إذا لقي الهزبر تحامى

لا تسخرنَّ فلابن آوى عذره ... أن لا يكون القسور الضرغاما جعلت الطبيعة قدوة ولقد جعلت لي الطبيعة قدوةً ... وتخذت منها في الحياة أماما ما أن أروم وإن زجتني رغبة ... ما ليس يمكن أن يكون مراما السيل إما عبَّ مندفعا فلا ... يدع الوهاد ويغمر الآكاما ما أردن فطاما ولقد أقول الشعر منفعلاً به ... ولقد أنبّهُ بالقريض نياما بسمت بنات الشعر حين شببن لي ... ففطمتهن فما أردن فطاما أسفي على الأدب الذي يبغون أن ... يكسوه من عصر خلا أهداما أخذت تنغص راحتي ضوضاءهم ... من غير أن يلقي الجدال نظاما فوددت لو أن الذين تجادلوا ... جعلوا الوفاق على الصواب ختاما أنا لا أحب سوى مكان هادئ ... أما الزحام فلا أريد زحاما بغداد: 10 شباط 1933 جميل صدقي الزهاوي

كتاب إلى مؤسسي مجلة الثقافة

كتاب إلى مؤسسي مجلة الثقافة بقلم الأستاذ غابريل بونور أرحب من صميم فؤادي بالغاية التي ترمون إليها واصفق استحساناً لها. أن ما استهواكم يستهوي كرام النفوس من الشباب في كل مكان، والجهاد في سبيل الفن والمجد هو المطمح الذي يتطالون إليه ويهيمون به وهم يختارون هذا الجهد بباعث الشهامة وبما يبتغونه من حياة ذات مثل أعلى. أن القضية التي أخذتم على أنفسكم القيام بأعبائها هي من القضايا التي لا يحالفها النجاح إلا إذا كان رائدها العمل بقلب سليم. فالعمل بقلب سليم هو الأمنية التي نذر لها (شارل بيغي) جهوده وشارل بيغي هو من أولئك الذين كانوا أكثر الناس ألماًَ من جراء الضعة التي شوهت بها صور الحياة العصرية الحديثة ومشاريع العمل فيها، حتى لقد أوشك أن يكون اليوم كل جهد من جهود البشر عصر الهمجية المثقفة، ملوثاً بطابع المال يصر عن المادة ولا يعود إلا إليها. فالمنافع الاقتصادية التي أصبحت لا تخفى عن أحد، هي التي تسير العالم وتخضع لإرادتها آلهة الحرب والسلم المصفدة بالأغلال وتحكم في أقدار الرجال وتستحوذ على أرواحهم وهم لا يشعرون لتخضع ضمائرهم لأغراضها بعد أن استبعدت وسخرت جهودهم في الحياة. لقد مضى عهد الأرباب والأبطال فمضت معه أمجاد الجماعات العريقة في النبل ومطامح البطولة وقصائد المفاخرة في وصف الوقائع التي كان يوحي بها ما يثور في النفوس من عنجهية. لقد مضى كل ذلك وحل محله ما يتصف به زماننا من احتساب فوائد الأموال وأساليب النسيئة وأصول المضاربة ثم الذهب والصناعة وإيجاد المدهشات من دقائق الأعمال الصناعية الفنية التي تتطلب أن يستقلّ الإنسان بفكرته ويقف في سبيلها كل أيام حياته فيؤدي بذلك ثمناً باهظاً لقاء ما تعود به عليه من رفاه ونعمى. ولقد كان من وراء ذلك أن فوضى زماننا الغاشم المثقل بالضجيج والدخان أقلق نفوس المتسائلين عن مصير الفكر وأحزن قلوبهم فبات من المحال أن ينسب إلى أمة ولوعة بالعظمة طموحة إليها غاية سليمة مخلصة، ولم يبق من يؤمن بمهمة التمدين ولا من يشك في غاية التوسع وبسط النفوذ الاقتصادي لتصدير المنتجات وبيعها ومن هذا نشأ الخلاف الواسع الذي فرق بين الشرق والغرب فكان بيننا حائلاً كثيفاً لا يقل في ثقله عن فولاذ هذا العصر. ليس بين الشرقيين

من يمكنه أن يعتقد اليوم تجرد أوربا عن غاية النفع وليس من شرقي يستطيع متى ضمه مجلس مع غربي أن يحسبه بريئاً من الاشتراك في جشع السيطرة المادية التي تحدو الأمم صاحية القوى الصناعية إلى العمل. وهكذا فإن هذا العهد التعس الذي ظهرت فيه أعراض الحمى أفسد حتى الصلات الشخصية وسرى فساده فلم تسلم منه حتى أواصر الود بين الرفاق. لقد شعر (ويليفريد سكافن بلونت) بما أوحاه إليه إبداعه الفني حينما كان يجوب منذ خمسين عاماً انقضت أنحاء جزيرة العرب ومصر، أن هذا الخلاف قد استمد أصوله من الأمم الحديثة ومن فوضاها التعسة. وهكذا فقد مشى الفساد إلى كل منحى وأصبح حزننا الذي يجدده كل شيء لا سبب له إلا أننا نعيش في عصر ضربت فيه الفوضى أطنابها وأحاط به القبح حتى ليخيل بأنه قضي الأمر فأصبح من المستحيل العمل بقلب سليم. لا أذكر أي أخلاقي من الانكليز قال مؤخراً أنه لن يكون السبب في نشوب حرب طروادة جمال هيلانة بل إيجاد الأسواق اللازمة لتصدير منتجات الصناعة ومنسوجات القطن، ولقد وقعت في هذه الأيام وأنا أطالع، على فكرة ل (سانت بوف) تستهوي النفس ولها صلة شديدة بما أبحث فيه: لقد ذكر مؤلف حديث الاثنين بأنه من الممكن أن يظهر في زماننا أعمال عظيمة كاكتشافات غريبة ومشاريع هائلة ولكن ليس في هذا ما يدعو لمجد العصر الذي نعيش فيه. أن المجد هو في نقطة الابتداء وفي الداعي الأول للعمل أي في الفكر. كان الناس في عام 89 لا يحجمون عن أي عمل في سبيل الوطن والبشرية وكانوا في عهد الايمبراطورية يقدمون على كل شيء حباً بالمجد، وعلى هذا الأساس قامت العظمة إذ ذاك أما اليوم فإن النتائج مهما ظهرت ذات شأن قلا تتكون إلا والنفع الاقتصادي محركها والمضاربة المالية ركن من أركانها. هذا هو الطبع الخاص الذي طبع به زماننا، وهو طابع يمثل الحطة التي لا يسلم من وصمتها إلا القليل من أعمال هذا العصر لولا بعض الرجال مثل (مالا رميه) الذي أوحت إليه هذه المظاهر الوضيعة وهذا الجشع المؤسف أن يرسم بعض الخطط التي لم يكن رائده فيها الأطهارة القلب والتجرد عن الغايات. ولا شك أن في ازدياد الفوضى والتحكم بالناس في زماننا جعل الفكر مخدراً بما بقي من حثالة المادة وأن دخان المصانع والمعامل الأسود المتلبد فوق ما هبتنا إياه الطبيعة من جميل مناظرها

لشاهد على البركان الذي يثور والسعير الذي تضطرم نيرانه وأننا نعتقد أن القول الفصل في هذا العراك الذي يمتد لكل جهات الأرض والذي يتوقف عليه مصير كل الشعوب لا يكون إلا للقوة الفكرية، ولكن الفكر لا يكاد يظهر إلا مغلوباً على أمره ف كل مكان، وفي كل مكان ما برح يقوم رجال شرفوا نفساً وأثخنتهم الجراح دون أن يجد اليأس من الحاضر إليهم سبيلا. إن العمل الذي أرى التمائم تفكُّ عنه في دمشق هو ثأر وأمل. فهنالك نفر من الشبان ضربوا للعمل نطاقاً يغرسون في حدوده أزاهير الحياة الفكرية ذات المثل الأعلى. وفي العالم جهة، سلطان الفكر أقوى منه في كل مكان. وهذه الجهة، هي الشرق. فالفكر بنظر أبناء الشرق لن يبرح المنبع الفياض السامي الذي لن يضيع معه شيء بل يخرج منه كل ما يكتسب. فما شك أحد في الشرق بالفكر وبتلاؤمه مع مناحي الحياة وبانتصاره الأخير المحتم. على هذه العقيدة بنيت الفكرة التي تعتلج في نفوس مؤسسي الثقافة وهذا الذي يحبب إلي رأيهم وعملهم المفعمين بالإخلاص ويجعلني، ولو حسبني بعضهم مغالياً، أكبر شأن هذه المجلة الأدبية الفلسفية التي أسسها كتاب فتيان. قد يقول من يلقبهم (هانري دي مونترلان) بخنازير المكاسب: إنه لمن الطيش أن يصدر شبان مثل هذه المجلة! فدعهم يهرفوا، أما نحن رواد الفكر فإننا نعتمد على ثروة هي غير رؤوس الأموال التي اعتاد أن يستثمرها أصحاب المصارف فنستدر ما أدخر من النشاط وكرم النفس وذكاء العقل والإخلاص في العمل وشرف الروح والعقيدة الوطنية، تلك الصفات التي تحبب إلي كثيراً الشباب السوريين وتجعلني أشاركه الأمل العظيم الذي يتمثل فيه بين هذا الشعب الناهض. غابريل بونور

من سوانح الغروب

من سوانح الغروب للأستاذ محمد رضا الشبيسي ذكاء جنحت بصفحة ... محمرةٍ بعد ابيضاض إني إذا انقبض النهارُ ... منيتُ منه بانقباض ودعته متشائماً ... أبغي السواد من البياض وكأنني في وحدتي ... مستعرض الحقب المواضي وكأنني بين الحواضر بع ... ض سكان الغياض لا مجتلي الأقمار يبهجنني ... ولا مرأى الرياض اسم الخدود بأدمع ... كالقطر من بعدار فضاض ولقد تقاضت المسرَّة ... حين لا يغني التقاضي أنا والسعادة حائر ... بين التجافي والتراضي لو كلن ما بي ليلة ... أو مثلها حان ارتماضي ما حيلتي بمعاشر ... تجد اللذاذة بامتعاضي ملأى علي يسرّها ... إني امروءٌ خالي الوفاض عاشت بأبدان صحا ... حذات أرواح مراض يأبى اللجاجة مثلهم ... أدبي ويأباها ارتياضي اعرض عن الباغي تسد ... وتغاض تعظم بالتغاضي خير من العيش المذم ... م ميتا بشبا المواضي من مات ردّ لصحوة ... أو يقظة بعد اغتماض

البحر

البحر للدكتور نقولا فياض البحر ليس ملكاً لأحد يحيط بالأرض ويشد عليها شدا ويحبسها بين أمواجه جزراً ومدا، فآناً تلك الأمواج مداعبة الحبيب وآنات تهجم عليها هجوم العدو، فمن قبلات صافية إلى ضربات طاغية تهدم السدود وتكتسح الحدود فتعود المياه في لحظة إلى امتلاك ما أقامت الأرض دهراً في بنائه. البحر ليس ملكاً لأحد يقف عند الشاطئ ويرسل عمله إلى بعيد فهو كالسلطان المطاع سخر له الجو ليعمل بأمره، فإذا ما هاجت الزوبعة وجعدت الرياح ذلك الجبين الأزرق فأخرجت من الأمواج تياراً هائلاً لا يقف سد في وجهه يظن المرء للوهلة الأولى أن البحر عبد الظواهر الجوية تصرفه كما تشاء. ولكن البحر ليس ملكاً لأحد. هو الذي يتحرك ويزأر، ويتحول إلى بخار لطيف يخترق أحشاء الجو خازناً فيه جزءاً من الحرارة أو يجتمع غيوماً فتسد على الحرارة منافذ الخروج، وحينئذ يجود بالمطر والثلج والزوابع والصحو بلا وزن ولا حساب. ثم تعود المياه من سفرها الطويل بعد أن تأتي أعمالاً كبيرة: من قمم الجبال التي كالمتها بالثلوج تهبط الأودية سيولاً جارفة في طريقها كل ما تجد، حافرة في الصخور أخاديد، إلى أن تلتقي بالمطر المتساقط على الأرض أو النافذ في بطونها فتخرج ينابيع بعد أن تحل من أحجارها ما تحل وتحمل من أملاحها ما تحمل، تاركة فيها صوراً وأشكالا، ثم ترجع مع النهر إلى البحر. لأن البحر ليس ملكاً لأحد. فالغيوم والأمطار هي رسل الأوقيانوس العظيم تأخذ من الأرض ما وهبها من قبل وقد تقف في منتصف الطريق فتبتلع منها الأرض ما تبتلع وعلى نسبة هذا ينقض ماء المحيط. الأرض بقايا ضخمة قائمة بجوار البحر وهو وحده الكفيل بتوزيع حرارة الشمس عليها بل هو مصلح هذا التوزيع لأن الحرارة على سطح الأرض موزعة بلا عدل فيحملها ويمزجها

فيه مزجاً سوياً ويعدل على هذا الوجه حرارة القطب. الشمس أم الحياة. أشعتها تكسب الفرح في النفس وتجلب البركة والخصب وتطبخ مواد النبات فتتحول إلى لحوم، فكيف يعيش بدونها حيوان ولا غذاء إلا ما يتساقط من السابحات فوقه؟ أجل هناك كائنات غريبة الأشكال تولد النور من نفسها من شرارة إلى منارة. فالحياة بنت الشمس تحمل شيئاً منها إلى قاع البحار إلى أن تصل إلى أعماق الأعماق حيث الظلمة والسكون والعدم. ولكن البحر ليس ملكاً لأحد.

أصل المقامات

أصل المقامات أحاديث ابن دريد لخليل مردم بك أسلوب المقامات فن من فنون الإنشاء العربي فتن به كثير من الأدباء والمنشئين نحو عشرة قرون فأصحاب المقامات منذ القرن الرابع إلى القرن الثالث عشر كثيرون حتى أن أدباء الفرس والعبرانيين والسريان ممن ثقفوا اللغة العربية أخذوا بسحر المقامات فأنشأوا بلغاتهم مثلها محاكاة للمقامات العربية. والمقامة في الإصلاح الأدبي قطعة من النثر يضاف إليه نظم في كثير من الأحيان مبنية على قصة قصيرة خيالية في معناها أو حوادثها ترمي إلى مغزى معين ولها على الغالب وفي الأكثر بطل يدور عليه أهما في القصة من كياسة وبراعة وغرائب ومفاجئات مثل أبي زيد السروجي في مقامات الحريري كما أن لها راوياً يروي تلك القصة وما فيها من أقوال البطل وأفعاله مثل الحارث بن همام في مقامات الحريري أيضاً، كل ذلك بأسلوب مصنوع مسجع غاية في التألق والتزويق يجمع من شوارد اللغة وفصحها وعيون مفرداتها وتراكيبها وأمثالها ونوادرها مقداراً وافراً. أما معنى المقامة اللغوي وكيف وردت في الشعر الجاهلي وكونها بمعنى الجماعة من الناس والنادي والمقام ثم كيف تطورت في القرن الأول والثاني فصارت تطلق على المجالس التي كان يعقدها خلفاء بني أمية وأوائل خلفاء بني العباس للعباد والزهاد ليسمعوا وعظهم ونصحهم ثم كيف أخذت معنى الخطبة من منظوم ومنثور على سبيل المجاز تسمية الكلام بالموضع الذي قيل فيه وكيف استعملها الجاحظ في كتاب البخلاء ص 218 بقوله:. . . يفيضون في الحديث ويذكرون من الشعر الشاهد والمثل ومن الخبر الأيام والمقامات إلى آخر تلك الأطوار التي مر بها حتى استقر معناه المصطلح عليه، أما هذا فلا يعنيني أمره في هذه المقالة وإنما أريد أن أعالج البحث عن أصل المقامات في معناها الإصلاحي. أقدم ما ول إلينا من المقامات في المعنى الإصلاحي قسم من مقامات بديع الزمان الهمذاني (358 - 398) فقد قيل أنه أنشأ أربعمائة مقالة لم يبلغنا منها إلا أحدى وخمسون مقالة. وأكثر الناس على أنه أول من ابتكر هذا الفن لأنه لم يصل إلنا أقدم من مقاماته. ولكن ابن

خلكان يقول في وفيات الأعيان ج 1 ص 43 في ترجمة أحمد ابن فارس (329 - 395) أنه وضع المسائل الفقيهة في المقامة الطيبة وهي ماية مسألة وكان له رسائل أنيقة ومسائل في اللغة تغالى بها الفقهاء ومنه اقتبس الحريري صاحب المقامات ذلك الأسلوب وعليه اشتغل بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات فإذا كان الحريري (446 - 516) اقتبس من ابن فارس فما بالك ببديع الزمان الذي سبق الحريري بنحو قرن والذي هو تلميذ ابن فارس الخاص لازمه حتى استنفذ ما عنده كما يقول الثعالبي في يتيمة الدهر؟ ولكن مقامة ابن فارس مفقودة فلا يمكن المقابلة بينها وبين مقامات البديع. على أن أبا اسحق الحصري صاحب زهر الآداب المتوفي سنة 488 لا يجعل ابن فارس أول من انشأ المقامات بل يعزوها إلى ابن دريد (223 - 321) ويجعل أحاديثه التي أنشأها هي التي أوحت للبديع إنشاء مقاماته. قال الحصري في زهر الآداب ج 1 ص 235: ولما رأى البديع أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره وأنتجها من معادن فكره وأبداها للأبصار والبصائر وأهداها إلى الأفكار والضمائر في معارض حوشية وألفاظ عنجهية فجاء أكثرها تنبو عن قبوله الطباع ولا ترفع له حجب الأسماع وتوسع فيها إذ صرف ألفاظها ومعانيها وفي وجوه مختلفة وضروب منصرفة عارضه بأربعماية مقامة في الكدية تذوب ظرفاً وتقطر حسناً لا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى عطف مساجلتها ووقف مناقلتها على رجلين سمى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري وجعلهما يتهاديان الدر ويتنافثان السحر في معان تضحك الحزين وتحرك الرصين وتطالع منها كل طريفة ويوقف منها على كل لطيفة وربما أفرد بعضهما بالحكاية وخض أحدهما بالرواية فقول الحصري يدل على أنه أطلع على تلك الأحاديث لأنه يصفها ويقارن بينها وبين مقامات البديع ويذكر خصائص كل منهما. وقد نقل هذه الفقرة ياقوت الحموي في معجم الأدباء ج1 ص 98 بترجمة البديع. ولكن المستشرق الألماني الأستاذ بروكلمن يقطع أمل كل باحث من العثور على تلك الأحاديث إذ يقول في النسخة الانكليزية من دائرة المعارف الإسلامية بمادة مقامة ما معناه: أما كون بديع الزمان أخذ فكرة إنشاء المقامات من الأربعين حديثاً التي وضعها ابن دريد

كما يقول الحصري فلا يمكن الوقوف على مبلغ ذلك من الصحة لأن الأربعين حديثاً مفقودة. فمن الحق أن نعترف للبديع بأنه ابتكر أسلوباً جديداً في الأدب العربي وهذا رأي المستشرقين لأن كل من كتب منهم على المقامات أو على بديع الزمان لم يخرج عنه. منذ أطلعت على ما قاله الحصري وعلى ما قاله المستشرق الألماني أخذت عن أحاديث ابن دريد ما وصل إلي من كتبه وفي كتب التراجم والأدب وكان في ما عدت إلى قراءته من الكتب أمالي القالي لأن أبا علي القالي (288 - 356) تلميذ ابن دريد يروي عنه في الأمالي كثيراً فألفيت في أجزاء الأمالي الثلاثة أخباراً ونوادر وفوائد وأحاديث كثيرة في اللغة والأدب مروية عن ابن دريد وعثرت من ذلك على احد عشر حديثاً ترجح عندي لدرجة اليقين أنها من الأحاديث الأربعين التي عارضها بديع الزمان لأن أثر التوليد والوضع ظاهر عليها ولأنها كما وصفها الحصري في معارض حوشية وألفاظ عنجهية صرف ألفاظها ومعانيها في وجوه مختلفة وضروب منصرفة وهذا بيان عنها على حسب ورودها في الطبعة الأولى من الأمالي: 1 - حديث المفاخرة بين طريف بن العاصي والحرث بن ذبيان عند بعض مقاول حمير. ج1 ص 72. 2 - حديث النسوة اللاتي أشرن على بنت قيل من أقيال حمير بالزواج ووصفن لها محاسن الزواج ج 1 ص 80 3 - حديث المخاصمة بين سبيع بن الحرث وميثم بم مثوب بمجلس القيل مرثد الخير وخطبته في شأنهما وإصلاحه ذات بينهما ج 1 ص 92 4 - حديث زبراء الكاهنة تنذر الكاهنة بني رئام من قضاعة بين الشجر وحضر موت ج1 ص 126 5 - حديث خنافر الحميري مع رئيه شصار ودخوله في الإسلام بارشاد رئيه ج1 ص 133 6 - حديث مصاد بن مذعور وخروجه في طلب ذود له وما أخبره به الجواري الطوارق بالحصى. ج1 ص143 7 - حديث بعض مقاول حمير مع ابنيه عمرو وربيعة وما دار بينه وبينهما من المساءلة

حين كبرت سنه ليبلو عقلهما ويعرف مبلغ علمهما. ج1 ص152 8 - حديث اجتماع عامر بن الظرب وححمة بن رافع عند ملك من ملوك حمير وتساؤلهما عنده. ج2 ص 280 9 - حديث خروج خمسة نفر من طيء إلى سواد بن قارب ليمتحنوا علمه ج2 ص 292 10 - حديث ما دار بين المنذر بن النعمان الأكبر وبين عامر بن جوين لما وفد عليه. ذيل الأمالي ص 179 11 - حديث غسان بن جهضم مع ابنة عمه أم عقبة وكيف تراءى لها في المنام بعد وفاته. ذيل الأمالي ص 205 وها أنا إذا أورد الحديث الثاني مثالاً لبقية الأحاديث لأنه من أسهلها لغة وهو: قال القالي: حدثنا أبو بكر ابن دريد رحمه الله قال أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن أبي الكلبي عن أبيه قال كان قيل من أقيال حمير منع الولد دهراً ثم ولدت له بنت فبنى لها قصراً نيفاً بعيداً عن الناس ووكل بها نساء من بنات الأقيال يخدمنها ويؤدبنها حتى بلغت مبلغ النساء فنشأت أحسن منشأ وأتمه في عقلها وكمالها. فلما مات أبوها ملكها أهل مخلافها فاصطنعت النسوة اللواتي ربينها وأحسنت إليهن وكانت تشاورهن ولا تقطع أمراًَ دونهم فقلن لها يوماً يا بنت الكرام لو تزوجت لتم لك الملك، فقالت وما الزوج فقالت إحداهن: الزوج عز في الشدائد، وف الخطوب مساعد، إن غضبت عطف، وإن مرضت لطف، قالت نعم الشيء هذا فقالت الثانية: الزوج شعاري حين اصرد، ومتكئي حين أرقد، وأنسي حين أفرد. فقالت إن هذا لمن كمال طيب العيش. فقالت الثالثة، الزوج لما عناني كاف، ولما شفني شاف، يكفيني فقط الآلاّف، ريقه كالشهد، وعناقه كالخلد، لا يمل قرانه، ولا يخاف حرانه. فقالت أمهلنني أنظر فيما قلتن فاحتججت عنهن سبعاً ثم دعتهن فقالت: قد نظرت فيما قلتن فوجدتني أملكه رقي، وأبثه باطلي وحقي، فإن كان محمود الخلائق، مأمون البوائق، فقد أدركت بغيتي، وإن كان غير ذلك فقد طالت شقوتي، على أنه لا ينبغي إلا أن يكون كفؤاً كريماً يسود عشيرته، ويرب فصيلته، لا أتقنع به عاراً في حياتي، ولا أرفع به شناراً لقومي بعد وفاتي. فعليكنه فأبغينه وتفرقن في الأحياء فايتكن اثنتي بما أحب فلها أجزل الحباء، وعلي هي الوفاء، فخرجن فيما وجهتهن له وكن بنات مقاول ذوات عقل

ورأي. فجاءتها إحداهن وهي عمرطَّة بنت زرعة بن ذي خنفر فقالت قد أصبت البغية، فقالت صفيه ولا تسميه، فقالت غيث في المحل، ثمال في الأزل، مفيد مبيد، يصلح النائر، وينعش العاثر، ويغمر الندي، ويقتاد الأبي، عرضه وافر، وحسبه باهر، غض الشباب، طاهر الأثواب. قالت ومن هو؟ قالت سبرة بن عوَّال بن شدَّاد ابن الهمال. ثم خلت بالثانية فقالت أصبت من بغيتك شيئاً؟ قالت نعم، قالت صفيه ولا تسميه، قالت مصاص النسب، كريم الحسب، كامل الأدب، غزير العطايا مألوف السجايا، مقتبل الشباب، خصيب الجناب، أمره ماض، وعشيره راض. قالت ومن هو؟ قالت يعلى بن هزال ابن ذي جدن. ثم خلت بالثالثة فقالت ما عندك؟ قالت وجدته كثير الفوائد، عظيم المرافد، يعطي قبل السؤال، وينيل قبل أن يستنال، في العشيرة معظم، وفي الندي مكرم، جم الفواضل، كثير النواقل، بذال أموال، محقق آمال، كثير أعمام وأخوال. قالت ومن هو؟ قالت رواحة بن حمير بن مضحي بن ذي هلاهلة. فاختارت يعلى بن هزال فتزوجته فاحتجبت عن نسائها شهراً ثم برزت لهن فأجزلت لهم الحباء وأعظمت لهن العطاء. وهذا الحديث كما ترى ينادي على نفسه بأنه موضوع. أما سلسة السند التي أوردها في روايته ورواية بقية الأحاديث على اختلاف في بعض أسماء الرواة فليست غير إتباع للعرف الجاري حينئذ في رواية القصص مثل قصة عنترة المروية عن الأصمعي. لاسيما وابن دريد معروف بالوضع قال الأزهري في مقدمة كتاب التهذيب: ومن ألف في زماننا الكتب فرمي بافتعال العربية وتوليد الألفاظ وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامها أبو بكر محمد بن دريد. معجم الأدباء ج6 ص 486. وقال الأبهري: جلست إلى جنب ابن دريد وهو يحدث ومعه جزء فيه ما قال الأصمعي فكان يقول في واحد حدثنا الرياشي وفي آخر حدثنا أبو حاتم وفي آخر حدثنا ابن أخي الأصمعي عن الأصمعي يقول كما يجيء على قبله. تاريخ بغداد ج2 ص 196. والقارئ ولا شك يحس الروح التي تجمع بين هذا الحديث وبين مقامة من مقامات بديع الزمان أو الحريري لاسيما في تزويق الأسلوب وجمع المفردات والشوارد، ولئن خلت أحاديث ابن دريد من بطل واحد معين فذلك لأن فن المقامات لم يكن استكمل حدوده بعد فضلاً عن أن وجود البطل لم يطرد في كل المقامات حتى ما أنشئ منها بعد الحريري مثل

مقامات الزمخشري (467 - 538) وكأن الحصري أشار إلى ذلك لما فضل مقامات البديع على أحاديث ابن دريد وذكر من مزاياها بطلها أبا الفتح الإسكندري وراويها عيسى بن هشام فقال: ووقف مناقلتها على رجلين سمى احدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري هذا وفي الأمالي أحاديث أخر أملاها ابن دريد لم يترجح عندي حتى الآن إنها من الأحاديث الأربعين الموضوعة إما لقصرها أو لقلة الصنعة في إنشائها أو لخفاء أثر الوضع والتوليد في أسلوبها ومعناها ومبناها وإليك بعضها: 1 - حديث أوس بن حارثة ونصيحته لأبنه مالك ج1 ص 102 2 - حديث خطبة الإعرابي في المسجد الحرام ج1 ص 113 3 - حديث الأعرابي مع ضيفه ج1 ص 117 4 - حديث ملاقاة يزيد بن شيبان حين خرج حاجاً لرجل من مهرة وانتساب كل لصاحبه ج2 ص 103 5 - حديث صفة الأسد في مجلس يزيد بن معاوية لأبي زبيد الطائي وجميل ابن معمر العذري والأخطل. ذيل الأمالي ص 183 6 - حديث الخليل بن أحمد وصديقه مع امرأة من فصحاء العرب وبناتها. ذيل الأمالي ص202 وفي بلوغ الأرب للآلوسي طائفة من الأحاديث التي حدث بها ابن دريد عن الأعراب أكثرها في وصف الغيث يلوح عليها ميسم الوضع أخص بالذكر منها حديثاً لغلامين من الأعراب في وصف الغيث. بلوغ الأرب ج3 ص 353 فليرجع إليه وإلى بقية الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها. خليل مردم بك

الفقه اللغوي

الفقه اللغوي بحث في كلمة الدردار، أو البوقيصا، أو شجرة البق للأب انسناس ماري الكرملي أصعب ما في لغتنا المبينة، معرفة الألفاظ العلمية، ومعناها الحقيقي. وقد أخذ بعض علماء العصر يتأكدون أن دراسة هذا الفن من العلم، لا بد منها في هذه الأيام، لما يتقوم عليها من الأمور المهمة، إذ بغير هذا التدقيق، تذهب المساعي هباءاً منثوراً. وقد بدأنا بهذا الأمر، منذ أكثر من خمسين عاماً، ونحن لا نزال نتابع البحث بلا ملال ولا سآمة. ونريد أن نعرض على القراء، ما حققناه من أمر الدردار، فنقول: قال في التاج: الدردار (كصلصال) شجر. قال الأزهري: ضرب من الشجر معروف. قلت (أي صاحب التاج) هو شجر البق تخرج منها أقماع مختلفة كالرمانات فيها رطوبة تصير بقاً. فإذا أنفقت خرج البق. ورقه يؤكل غضاًّ كالبقول. كذا في منهاج الدكان انتهى - وقد راجعنا منهاج الدكان المطبوع في مصر في المطبعة الشرقية سنة 1305 فلم نجد تحلية هذا الشجر في مظنته في باب الدال، بل وجدناه في باب الشين يقول: شجرة البق هو الدردار ولم يزد على هذا القدر. - وقال ابن البيطار: دردار هي شجرة البق (كذا) عند أهل العراق. ويعرف بالأندلس بشجر النشم الأسود. وسميت بشجرة البق لأنها تحمل نفاخات على شكل الحصل مملوءة رطوبة. فإذا جفت وانفقأت خرج منها ذلك البق وهو البعوض. وقال ابن البيطار المذكور في بوقيصا هو شجرة الدردار المعروفة بالشام بشجرة البق ويغلط من يثوهم عير ذلك. وعرف شجرة البق بقوله: الدردار هي عند أهل الشام ثم قال في ترجمة لسان العصافير: هو ثمر شجرة الدردار وليس بشجرة البق ابن وافد: هو ثمرة شجرة يشبه ورقها اللوز: وثمرتها التي يقال لها لسان العصافير هي عراجين متفرقة. الخرنوب، شبيه أوراق الزيتون، إلا انه أصغر منه بكثير، وفي جوف كل خرنوبة لب كأنه لسان الطائر المسمى العصفور وخارجه أحمر، وداخله أبيض مائل قليلاً إلى الصفرة وطعمه حرّ يفلذَّاع مع شيء من المرارة. . إلى آخر ما قال. وهو أمر عجيب، فأنه نبه مراراً في مفرداته أن شجرة الدردار والبوقيصا وشجرة البق شيء واحد. والآن يفسد بهذا

المقال كل ما شاده من القصور والعلالي. 2. الدردار أو البوقيصا أو شجرة البق شيء واحد أما هذه الأسماء الثلاثة تعني شجراً واحداً فمما لا شك فيه ولا ظل شك. ونحن نثبت ذلك بالأدلة اللغوية، فضلاً عن المنقول في كتب الفن. الدردار كلمة فارسية منحوتة من (در) أي بق بمعنى بعوض و (دار) بمعنى شجرة. والمعنى واضح لا غبار عليه. ومن الغريب أن أصحاب المعاجم الفارسية والدواوين العربية لم تشر إلى هذا الأصل، بل ظن الجميع أن اللفظة عدنانية صرفة وهذا ليس رأينا كما رأيت. فيكون معنى هذا الحرف ما يقابله عند الفرنسيين وبالانكليزية وبلسان العلم جئنا إلى شجرة البق والاسم واضح المعنى. والمراد بالبق هنا ما يريده العراقيون وعلماء اللغة الأقدمون جميعاً، أي البعوض، لا الفسافس، أو الكتان والضمج على ما هو شائع في مصر واليمن. فإن هذا المعنى لم يكن معروفاً عند الأقدمين من الناطقين بالضاد، إنما هو مولود ومأخوذ عن أبناء اليمن. وكن قد كتبنا مقالاً طويلاً في مجلة المباحث الطرابلسية لصاحبها المحقق الكبير جرجي يني وأشرنا أيضاً إلى تحقيق هذا الاسم في المجلة الطبية المصرية (465: 12) بحيث لا يمكن لأحد أن ينكر الأدلة التي أوردناها. على أننا نقر بأن البق ورد بمعنى الفسافس في مصر، وفلسطين، وسورية، واليمن. والأندلس في عهد العرب وأما عند العرب الفصحاء في العهد القديم فإنه لم يرد عندهم البق إلا بمعنى البعوض أو البعوض الضخم. وكلمة شجرة البق تشهد على أن الشاميين في سابق العهد ما كانوا يعرفون لها معنى آخر سوى الذي نشير إليه، أي البعوض. وكل من عرف الدردار، أو البوقيصا، أو شجرة البق، لم يفكر أبداً في أن البق هنا الحشرة المنتنة، بل الحشرة العضوض. والبق في اللغة الآرامية لا يعني إلا معنى البعوض. بقي علينا أن نذكر أصل لفظة (بوقيصا) فنقول أنها مركبة من (بق) الآرمية. و (قيصا) وهي في الأصل (قيسا) بالسين باللغة المذكورة ومعناها الشجرة والظاهر أن الآراميين أتبعوا في وضع هذه الكلمة الطريقة الفارسية لا الآرمية فأنهم قابلوا كلمتهم حرفاً بحرف بالكلمة الفارسية عوض أن يقولوا قيصا بوق أو قيسا بوق وهذا من أغرب الغرائب. على أن بوقيصا ليست من فصيح كلامهم، بل في لغة عوامهم. ما في كلامهم الفصيح فيقولون:

دردار أو دردارا. لكن ما الذي دفع ابن البيطار إلى ركوبه مطية الوهم، بعد أن حذر الناس من امتطائها فهذا ما نريد أن نبينه للقراء. 3. شجرة لسان العصافير أو المرَّان الذي ساق ابن بيطار إلى خلط شجرة بشجرة هو أن الدردار في ديار الشرق من الناطقين بالضاد: شجرة البق أو البوقيصا، أما في ديار الأندلس، وديار الغرب فمناها شجرة لسان العصافير، وقد تأثر ابن البيطار في وهمه هذا كل من نقل عنه. واسم الشجرة نفسها المرّان (وزان رمان). قال ابن البيطار في هذه المادة: مران ديسقوريدوس في: أماليا هو شجرة معروفها ورقها، إذا شربت عصارتها بشراب أو تضمد بها نفعت من نهشة الأفعى. . . إلى آخر ما قال. فماليا اليونانية هي شجرة لسان العصافير وبالفرنسية وبالانكليزية - وبلسان العلم - ومثل اختلاف معنى الكلمة الواحدة باختلاف المدن، أو القبائل، كثير في لغتنا. أفليس الحرف الذي ذكرناه قبيل هذا أي البق شاهداَ على ما نقول؟ - فالبق في العراق بمعنى، والبق في مصر بمعنى آخر. وعلى هذه الطريقة جاءت ألفاظ لا تحصى وكل يدعي الحق معه. أما الحقيقة فهي أن الكلمة قد يختلف معناها باختلاف البلاد ولهذا يجب أن ننبه على هذا الأمر من يؤلف في اللغة أن في اللغة العربية، وأن في نقل ألفاظها إلى لغات الأجانب. وقد ذكر ابن البيطار أن ثمر الدردار بمعنى المران تسمى أيضاً سنبل الكلب. والذي حققناه أن سنبل الكلب هو زهر هذا الشجر لا ثمره. راجع في هذا الموضوع البرهان القاطع في مادة أهر وهو من أسمائه الفارسية. وسمي كذلك لأن تلك الأزهار تبدو على هيئة سنبل أو عنقود، إلا أن ذلك السنبل غير منسق تنسيق سنبل الحنطة ولهذا أضيف إلى الكلب تحقيراً لشكله. مع أن كل ما جاء في الطبيعة حسن من كل جهة. 4. نظرة في المعاجم الإفرنجية العربية جاء في المعجم الانكليزي العربي لمحمد الشريف بك بإزار الكلمة الانكليزية والصواب - شجرة لسان العصافير - ديشَ (بالفتحَ) - بوادق (كذا ومن غير ضبط) وفي مادة لسان العصفور - شجر الدّردار (الجزائر) - بوادق وسماه ابن البيطار المران ولسان العصفور - (ديش المغرب) - بوادق (كذا وهو مكرر ولا خير في تكراره) بوقيصا (من

غير ضبط) شجر البق (ا. س) فمن أين هذه الأسماء كلها؟ قلنا أما لسان العصفور فهو اسم الثمر لا اسم الشجر. فكان يجب أن يقال شجرة لسان العصفور. والعصفور هنا أيضاً غير صحيح بل يجب أن يقال: العصافير لأن هذا الثمر لا يشبه لسان عصفور واحد بل لسان جميع أنواع الطيور الصغيرة التي يشملها اسم العصافير. أما شجر الدردار فغر صحيح أيضاً. والصواب حذف الشجر ليبقى الدردار وحده لأن معنى هذا الاسم شجرة البق والدردار في غير موطنه هنا فهو المسمى بالفرنسية (ارم) إلا أن يقال أن هذا الاسم هنا بالمعنى المغربي كما نبه عليه ابن البيطار. وكما أسلفنا الكلام عليه. وكما ذكره شوينفرت. وشجرة البق والبوقيصا كلها بمعنى الأرم ويغلط غلطاً عظيماً من يقول بخلاف ذلك. أما الدَّيش وقد ضبطها بفتح الدال. فلا معنى لها وكذلك البوادق التي لم يضبطها. والصواب أن هاتين الكلمتين مقطوعتان من التركية ديش بوادق اغاجي وليس لها شيء من العربية. - والترك ضبطوا الدش بكسر الدال. ومعناه حرف بحرف: السن ومعني بوادق عندهم - وهي بضم فسكون - غصن وفنن. فأين هاتان اللفظتان من العربية؟ - وأطن أن حضرة البك بقل ذلك عن بادجر الذي وضع بإزاء شجرة لسان العصافير - بوادق - ديش فنقلها على ما رآها. - وأين وجدها بادجر؟ وجدها بمعجم بقطر الفرنسي العربي بإزاء كلمة - ومين أين جاء بها بقطر! سمعها من مماليك مصر حينما كان ترجماناً في الجيش الفرنسي وكان أغلب ألفاظهم يومئذ مستعارة من التركية. ولما كان بقطر يجهل التركية فاعتبر (ديش بوادق اغاجي) ثلاث كلمات. نبذ اللفظة الأخيرة الصريحة تركيتها، وتمسك بالاثنتين الأوليين فتناقلها جميع من أخذ عنه من إفرنج وانكليز وعرب. وهذه هي الطامة الكبرى. وقول شرف بك: شجر البق (ا. س) أي عن ابن سينا فهو مذكور في كتب من تقدمه فلا معنى لتقديمه على من سبقه من علماء النبات. وكان يجب أن يقال شجر البق بالإفراد لا بالجمع، لأن الكلمة الانكليزية مفردة. - وكذلك كان يجب أن يقال: مرانة لأمران. - وبوقيصا هي شجرة البق أي (الأرم) لا المرانة. فلم تسلم كلمة واحدة من النقد من جميع الألفاظ التي أوردها صديقنا شرف بك.

أما الدكتور أحمد عيسى بك فذكر بإزاء هذه الكلمات: دردار (في الغرب. كذا ولعلها في المغرب فيكون صحيحاً) - لسان العصافير - لسان العصفور - اسلن - تسلنت (بربرية) ثمرها يسمى سنا اندلس وتسمية اليونان ماليا - مران (واحدته مرانة) بنجشك زوان (فارسية) - فنقول: أما دردار فهي عند أهل المغرب صحيح وكان يجب أن تفرد فيقال دردراة - ولسان العصافير هو الثمر لا الشجر. فكان يحسن أن تسبق بقولنا مثلاً شجرة لسان العصافير - ولسان العصفور تكرار لما قبله، وتكرار مخطوء فيه ولا حاجة لنا إليه - واسلن وتسلنت بربريتان. وما نحن ولسان البربر أو البرابرة؟ أما أهل الجزائر فقد عربوها فقالوا (سل) بالفتح. - وقوله: ثمرها يسمى سنا اندلس (والصواب سنا الأندلس لأن ال لا تفارق أندلس) لم ينسبها إلى أحد. والمشهور عن اسم ثمر المران هو لسان العصافير كما تقدمت الإشارة إليه. - وتسمية اليونان لهذه الشجرة ماليا صحيح لا غبار عليه. والمران صحيح أيضاً وكان يحسن به أن يقول مرانة ويضع بين هلالين جمعه مران لأن الكلمة اللاتينية التي ترجمها مفردة لا جمع. - وقوله بنجشك زوان فارسية صحيح، لكن لا حاجة في صدرنا إلى ذكرها في معجم سمي: معجم أسماء النبات في اللاتينية والفرنسية والانكليزية والعربية ولو كان قال في عنوانه: والبربرية والفارسية لما كنا نأخذ عليه الأسماء في هاتين اللغتين، وإذ وضع اللفظة الفارسية فكان عليه أن يتم ذكر بقية الأسماء أي أهر (بفتح فسكون) وكنجشك زبان. - ثم أنه ضبط بنجشك بفتح الباء وضم الجيم. والصواب بكسر الباء والجيم معاً، كما يروى في دواوين اللغة الفارسية فأنت ترى حاجة معاجمنا إلى التحقيق والتدقيق. ولا نتعرض إلى ذكر سائر المعاجم لأن الانكليزية العربية منها عالة على معجم بادجر والدواوين الفرنسية العربية كلٌّ على بقطر وغسلين. وبهذا القدر مجزأة عن التبسيط في هذا الموضوع الوعر.

فريق العلماء وفريق الأدباء

فريق العلماء وفريق الأدباء وأيهما السباق للأمير مصطفى الشهابي هجم التتر والمغول في الشرق والأسبان في الغرب على الممالك العربية هجوماً عنيفاً طوح الملك واجتاح معظم ما أنتجته قرائح هذه الأمة العظيمة خلال قرون ونام أجدادنا بعد ذلك نوم أهل الكهف فما أفاق أحفادهم إلا في النهضة الأخيرة أيام استيلاء نابليون على مصر أو أيام محمد علي رأس الأسرة المالكة العلوية. وما كادوا يفتحون عيونهم حتى رأوا أوربا قد سبقتهم أشواطاً ورائها قد عدلت كثيراً من أسس العلوم اليونانية والعربية وأضافت إليها مئات أمثالها. وإذا بهم يجدون أنفسهم جهلاء إذا هم اقتصروا على ما كان يعلمه ابن سينا والرازي في الطب وابن البيطار في النبات والدميري في الحيوان وابن وحشية وابن العوام في الزراعة وابن خلدون في الاجتماع والاقتصاد وأخوان الصفا في مجمل العلوم المادية والفلسفية وغيرهم في العلوم السائرة. وما ذلك لأن بضاعة الأجداد الأقدمين كانت حقيرة في تلك الأيام أو هي مما يحقر في أيامنا هذه بل لأن العوم والفنون والآداب كلها تقدمت واتسعت حتى أصبح من المتعذر على الإنسان أن يتقن فرعاً منها طيلة حياته. على حين أن العلماء من أجدادنا كان واحدهم يطمح إلى تعلم العلوم بأسرها وإلى التصنيف فيها جميعاً فكان مثلاً يفخر بأنه صاحب الكتاب الفلاني في الطب والرسالة الفلانية في الفلك والمصنف الفلاني في الزراعة والديوان الفلاني في الشعر بعد الشقة بين هذه العلوم والفنون المختلفة. ورحنا منذ فجر نهضتنا إلى اليوم نبعث الشبان إلى أوربا يستقون العلم من مناهله كما أخذنا نستعين بعلماء الغرب في مدارسنا حتى كثر سواد المتعلمين وزاد عدد الاختصاصين فهل بلغنا بعد هذا الجهد ما تصبو إليه نفوسنا؟ وما هو مبلغ تقدمنا سواء في العلوم أم في الآداب؟ ففي الطب مثلاً صار لدينا اختصاصيون في مختلف العلوم الطبية يعدون من نطس الأطباء لكنني لم أسمع بأن أحداً منهم أفشى للناس أسباب مرض من الأمراض وأظهر لهم كيفية مداواته بل ما برح البحث الدقيق عن غوامض الجراثيم وفتكها بالأحياء يقوم له علماء أوربا وأميركا واليابان ويتولونه دون غيرهم.

وفي الفنون الزراعية صار لدينا مختبرات وحقول للتجارب لا بأس بها ندرس فيها أمراض الزروع وحشراتها ونجرب أنواع النباتات والحيوانات الزراعية وأصنافها لكننا ما تجاوزنا في كل ذلك حد الدرس. وإذا كان هنالك أصناف نباتية مفيدة أوجدناها كقطن السكالاريدس في مصر أو كان هناك حشرات عرفنا أطوار حياتها كحشرلت القطن والبرتقال وغيرها فالفضل في ذلك يعود إلى الأساتذة الأوربيين في الغالب. وهكذا حالنا في العلوم السائرة طبيعية كانت أم رياضية أم فلسفية وتلخص بأن كل ما بذلناه ونبذله من الجهود لا يتعدى حد هضم بعض العلوم التي أوجدها الغربيون وبأننا صرنا نتعرف حقائق هذا الكون بأساليب يقينية وطرائق علمية بدلاً من الأساليب والطرائق الغيبية القديمة. لكننا ما برحنا مقصرين عن علماء الغرب في كل أبحاثنا وما برح البحث العلمي الذي غايته كشف المجهول من غوامض هذه الطبيعة شيئاً يأتيه رجال الغرب وحدهم إلا قليلاً. ويبدو تقصيرنا حتى في تعرف بلادنا واستقصاء أمورها. وقد سابقنا علماء أوربا وأميركا في دارنا فكانوا المجلين في هذا المضمار شأنهم فيغيره زكنا فساكل يأتون في آخر الحلبة. ولنتخذ الشام مثلاً فهو مدين إلى بلانكنهورن ولارته وزموفن في الكشف عن طبقات أرضه وإلى فورسكال وشوينفورت وبوست في درس نباتاته ودرس بعض ألفاظها العربية، وإلى (رو) في بيان معادنه علمياً واقتصادياً وإلى غزول في درس أسماكه ومصايد أنهاره وبحاره، وإلى علماء عديدين في وصف مصانعه وآثاره الخ. . . . ولعل بعض دروس شخصية درسها عدد من بعض رجالنا في دمشق تتناول بعض موضوعات اجتماعية وأخلاقية وزراعية مما سأفرد له بحثاً خاصاً هو كل ما لم يسبقنا الغربيون إليه في هذا الصدد وكأني بهم لو سابقونا في هذه الموضوعات أيضاً لسبقونا ولبذونا لما لهم من الجلد العجيب على تتبع دقائق الأبحاث العلمية. وإذا انتقلنا من العلوم إلى اللغة العلمية نصطدم بأبحاث لا تحصى ليس لها ألفاظ في لغتنا العربية لأنه من البديهي أن أجدادنا ما فكروا في وضع ألفاظ لعلوم ومخترعات ومصنوعات كانوا بها جاهلين. فماذا فعلنا نحن أما هذا النقص المخيف وهو في الحقيقة نقص لا تزيله سوى جهود علماء يتوفرون عليه في أنحاء العالم العربي تعاضدين متساندين

في مجمع مشترك يضم جهودهم بعضاً إلى بعض. لقد حاول رجالنا في مصر والشام والعراق إيجاد هذا المجمع وإيجاد نواة له فلم يفلحوا. وطاحت الأيام بمجمع السيد توفيق البكري وبنادي حفني ناصيف وبالمجمع الذي أولف خلال الحرب الكبرى في مصر وبمجامع بيروت وبغداد وعمان وكلها ألفت بعد الحرب تلك. ولم يدم سوى المجمع العلمي العربي في دمشق وهو على قلة موارده وضعف وسائله قد قام في هذا الباب بخدمة لا ينكرها إلا كل مكابر فوضع أعضاؤه بضع مئات من الألفاظ العربية أو المعربة لمعان علمية في الزراعة والنبات والحشرات وعلم الطبيعة وغيرها ونشرت تباعاً في مجلته. وبدت حاجتنا الملحة إلى وضع الألفاظ العلمية الجديدة منذ أوائل القرن التاسع عشر عندما أخذنا نترجم العلوم العصرية أو نؤلف فيها. وكان من المبرزين في ترجمة الكتب العلمية أو ضبط ألفاظها محمد عمر التونسي ومحمد عمران الهراوي. وممن جمعوا بين العلم واللغة العلمية احمد ندي وعلي رياض واحمد حمدي الجراح وغيرهم في مصر وفانديك ويوحنا ورتبات وجورج بوست وبطرس البستاني وبشارة زلزل في الشام. وما قصر المستشرقون في هذا الباب بل ظهر منهم علماء أعلام أضافوا إلى لغتنا عدداً لا يستهان به من الألفاظ العلمية وحددوا مدلول كثير من الألفاظ القديمة المشكوك فيها مثل فريتاغ ولين ودوزي ينفورث وغيرهم. لكن الجهود التي بذلت في هذا السبيل سواء أكان مصدرها رجالنا أم المستشرقين ليست في الحقيقة سوى عمل ضئيل أننا واقفون حيارة تجاه آلاف من الألفاظ نحتاج إلى وضعها أو إلى أقرارها على الوجه الأمثل. وما برحنا نرقب تأسيس مجمع للغة العربية يتضافر عليه علماؤنا في العالم العربي وفي عالم المستشرقين فيضعون لنا معجماً إفرنجياً عربياً تثبت فيه أهم الألفاظ العلمية مع مقابلها العربي أو المعرب ولعل المجمع الذي صدر مرسوم بتأليفه في مصر خليق بتحقيق هذه الأمنية إذا أحسنت الحكومة المصرية انتقاء أعضائه وأقصت عنه الأهواء السياسية ولم تبخل عليه بالوسائل المادية التي لا غنى عنها في هذا العمل المهم. ولا شك أن نجاح هذا المجمع سيكون مفخرة من مفاخر مصر كما أن إخفاقه سيلبس الذين كانوا علة هذا الإخفاق عاراً وخزياً لا يمحوها كر الأيام والسنين. هذا في العلم أما في الأدب فقد ظن أدباؤنا أن محاكاة رجالنا الأقدمين في نظمهم ونثرهم هو

كل ما نتطلبه منهم. فالذي دانى بشعره المتنبي وأبا تمام والبحتري وابن الرومي من هم دنوهم بلغ سدرة المنتهي في عالم القريض. والذي قرب بترسله من الجاحظ وابن المقفع وسهل ابن هرون وعمرو بن مسعدة عد من أئمة الأدب وبلغاء الكتاب الذين لا يشق لهم غبار. ولكن الأمر على ما أرى هو اليوم أصعب مما يذهبون إليه. ذلك إن أدب اليوم عند الغربيين خاصة له صور متعددة الأشكال والألوان وله أبواب ما طرقها أجدادنا أو هم قصروا فيها كما قصر فيها أدباؤنا في أيامنا هذه منها الروايات الشعرية والأقاصيص النثرية وصور البيئات الاجتماعية وصور العواطف والمشاعر والنزعات النفسية المختلفة فكل هذا يتطلب معرفة علم النفس والاجتماع والأخلاق ويستلزم ألماماً بكثير من العلوم المادية ومفرداتها العربية حتى تجئ اللوحة الأدبية كاملة غير مشوهة. ويستنتج من ذلك أن زاد الأديب اليوم غير زاده في الأمس فإذا تمكن أدباؤنا الحاضرون الذين هبتهم الطبيعة بروح أدبية عالية من تغذية نفوس قارئيهم بهذا الزاد في نسج كنسج من ذكرت من أدبائنا الغابرين، عددناهم من المبرزين في صناعتهم وعقنا لهم لواء السبق واعترفنا لهم بهذا الفضل. فأما وهم لم يبلغوا بعد هذه المنزلة وأما والطريق الممتدة أمامهم لا تزال طويلة المدى فهم والعلماء سواسية في التقصير وليس لفريق منهما فضل على الثاني. مصطفى الشهابي

تربية الأطفال

تربية الأطفال تطورها وأفضل طرقها للدكتور مرشد خاطر الطفل صفحة بيضاء تسطر عليها يد المربي خيراً أو شراً، صدقاً أو كذباً، إباءً أو خسة، استقلالاً أو استعباداً. هو معدن لين تنقش فيه يد النقاش ما تشاء من السجايا والأخلاق فتصوره وديعاً محباً مخلصاً أو شريراً مبغضاً عقوقاً ولا أصدق من المثل العربي القائل العلم في الصغر كالنقش على الحجر وليس العلم في الطفولة الأولى سوى التربية التي تغرس في قلب الطفل وعقله بذور السجايا الحميدة قبل أن تنبت فيها بذور الأشواك الفاسدة. غير أن تلك الصفحة البيضاء والمعدن اللين يختلفان عما هما عليه في عالم الجماد اختلافاً بيناً لأن نفس الطفل وعقله يتصفان بصفة الحياة لا الجمود فإذا كان القرطاس يحفظ على وجهه الناصع البياض ما تخطه يد الكاتب عليه بدون أن يكون له تأثير في اليد الكاتبة أو كان لذلك المعدن أن يبقي ما نقشته يد النقاش بدون أن يكون له أن يتكيف تكيفاً مخالفاً لحركة تلك اليد وعملها فليس الأمر كذلك في نفس الطفل وعقله لأن حيٌّ وليس الحي كالجماد فإن الجماد منفعل فقط يتأثر من العوامل الخارجية التي تحيط به ومن البيئة التي يكون فيها والحيُّ فاعل ومنفعل يتأثر بما يحيط به كما أنه يؤثر في ذلك المحيط أيضاً. ولهذا كان في الطفل نزعات واستعدادات وغرائز لا بد من المحافظة عليها حفاظاً يكاد يكون مقدساً لا يجوز ليد المربي أن تمسها بل يجوز لها أن تنميها موفرة لها ما تحتاج إليه في نموها. وكان فيه أميال أخرى تهيب به إلى الجنوح عن السداد، عن ذلك النموذج الاسمي الذي يطمح إليه المربي في تربيته، ويترتب على الوالدين والمربي أن يقوموا أودها في الطفل تقويماً لطيفاً بالغاً منتهى الحكمة لأنهم إذا عمدوا إلى العنف أنقلب الأمر إلى ضده وليس أفصح وأجلى من ذلك التحديد الذي يحدد به (روجه كوزينيه) التربية إذ يقول: التريبة علم غايته الفضلى التي تمكن الطفل من إظهار طبيعته إظهاراً جلياً لأن الطفل لا طاقة له أن يكون كهلاً قبل أن يبدي غرائزه الخاصة. إن هذه الكلمة القليلة تمثل لنا التربية كما يمثلها اليوم علماء النفس الذين هم المربون

الحقيقيون. وإذا قلنا المربون الحديثون فلكي نوضح الفرق الكبير بين تربية القرن العشرين والقرون الغابرة. أن الذين يعنون بتربية الأطفال في عصرنا الحاضر ناقمون على أسلافهم نقمة كبيرة وكتاباتهم ومؤلفاتهم جميعاً ملأى بالحط من تلك الخطط القديمة ووصفهم لها بالثوب البالي الذي يجب خلعه واستبداله بالثوب الزاهي الجديد. وإذا سكت فلا أستطيع السكوت عن تلك الكلمات التي لا يزال صداها يرن في آذان المربين والمربيات تلك الكلمات التي فاه لها دوهمال ذلك الكاتب الطائر الشهرة الذي مثل في أحد مؤلفاته أولاده والطريقة التي يتبعها في تربيتهم فقد دافع عن عقيدته في مؤتمر تربية البنين الذي عقد سنة 1924 في باريس قائلاً: قليلون بيننا هم الذين يرغبون في أن يعودا إلى طفولتهم الأولى مشيراً بذلك إلى ما كان يقاسيه أولئك الأطفال في العصر الغابر من عنف مربيهم. فإذا نحن عددنا كلامه غلواً ولم نقض على تلك الطرق القديمة القضاء المبرم لأن عدداً لا يستهان به من النوابغ قد أنجبتهم تلك القرون ولا يعود الفضل في نبوغهم إلا إلى تربيتهم فلا نتمالك عن الإقرار بأن بين التربيتين القديمة والحديثة هوة كبيرة وبوناً شاسعاً. فإن في تلك ذرة من الحسن تحف بها الأشواك وفي هذه كل الحسن والسداد لأنها ترتكز على إنماء غرائز الطفل لا على قتلها فيه منذ نشأته وما النوابغ الذين نبغوا في ما مضى على رأي الكثيرين من المربين الحديثين إلا أشخاص نشأوا على الرغم من فساد الطرق المستعملة في تربيتهم كما نشأ أشخاص أصحاء البنية أقويائها على الرغم من فساد علم الصحة في تلك العصور وجهل طرق المداواة واتقاء الأمراض. فإذا أقررنا بأفضلية التربية الحديثة كان لا بد بنا من وضع برنامج تتمشى عليه هذه التربية وهذا البرنامج هو ما ألمعت إليه في بدء كلامي. لا أن للتربية أقساماً ثلاثة: تربية الجسد والعقل والنفس وسأقتصر في كلامي على تربية النفس وحدها لأنها أس التربيتين الأخريين ولأن البحث في تربية الجسد أمر طويل يستحسن الكلام عنه في المجلات الطبية كما أن تربية العقل منوطة بالمعلمين وحدهم وقلما يكون للوالدين شأن فيها. بيد أن تربية النفس منوط أمرها في الدرجة الأولى بالأبوين ثم بالمعلمين ويجب أن نبتدئ التربية منذ السنة الأولى وفقاً لما قال جان جاك روسو: كما تكيف النباتات بالشذب منذ

غرسها يكيف الولد بالتربية ولهذا يشبه الكثيرون من علماء النفس مهمة المربي بمهمة البستاني: فإذا رغب البستاني في الحصول على شجرة جميلة يانعة الأثمار اعتنى بها وهي شجيرة فقلمها وأبعد عنها ما يضيرها ووفر لها وسائط النمو وإذا أحب الوالدان أن يكون ابنهما صالحاً وجب عليهما أن ينسجا على نسج البستاني. ولا بد معرفة الأولاد معرفة حقيقية ومعرفة قواعد التربية أما معرفة الأولاد فهي الصعوبة الكبيرة التي يجب التغلب عليها لأن طباع الأولاد تختلف كما تختلف وجوههم. فعلى كل مرب أن يضع أمام عينيه نموذجاً من الكمال وأن يسدد خطوات ذلك الطفل الذي يعني بتربيته ليوصله إلى ذلك النموذج الأسمى، يجب عليه أن يضعه في ذلك القالب ليخرج وفقاً لما رسمه من الكمال، يترت عليه أن يفكر دائماً في أن من يعتني به ويعده لأن يكون عضواً مفيداً في المجتمع البشري فعليه أن يكفيه وفقاً لمقتضيات ذلك المجتمع ولا يتمُّ هذا إلا بإنماء ما يجب إنماؤه في الطفل بدون معاكسته البتة وهو القسم البارز في التربية وبتقويم ما أعوجَّ فيه وهو القسم الصغير الذي لا يأتي إلا في الدرجة الثانية. أما القسم الأول فينطوي تحته إنماء الخواص والاستعدادات والميول التي تبدو بوادرها في الطفل. فالشيء الأول الذي تجب المحافظة عليه في الطفل ويترتب على كل مرب خبير بأصول التربية الحديثة أن يحترمه احتراماً مقدساً هو الطفولة نفسها. أقول هذا وأنا واثق أن السواد الأعظم من المربين لا يحترمون الطفولة بل يقاومونها بكل ما لديهم من قوة فهم يميلون إلى أن يجعلوا من الطفل كهلاً وما الطفل بذلك الكهل فنراهم يلجأون إلى العنف والإجبار والتهديد ونرى الطفل الذي يخاف مربيه ووالديه قد أطاع مرغماً إطاعة ظاهرة إلا أن نفسه لا تزال ميالة إلى الطفولة التي يمثلها ولهذا تدعوه تلك النفس بعد أن يرغم على الطاعة مرات متوالية إلى العصيان وهو لا يعصي إلا ليحيا لأنه يريد أن يحيا طفلاً قبل أن يحيا كهلاً. أن بيئة الطفولة هي الدمى والألعاب الصغيرة والأطفال الذين لا تزيد سنهم عن سنه فيجب ألا يحرم الطفل هذه البيئة التي أوجدتها الطبيعة له بل على المربي أن يحترمها ويوفر له الأغذية المادية والروحية التي يحتاج إليها ويتركه يرتع في تلك البيئة بسلام. وما الطفل إلا كالغرسة اللطيفة التي متى توفرت لها أسباب الحياة من ماءٍ وهواءٍ ونور نمت نومها

الطبيعي العادي وكانت أزهى مما لو عاشت حياتها في قفص من زجاج تنمو فيه نمواً سريعاً ولا تلبث أن يعاجلها الذبول فالموت. وإذا تأملنا قليلاً من هذه البشرية والقينا عليها نظرة دقيقة وجدنا أن كثيراً من العقول الضيقة لم يكن السبب في ضيقها إلا عنف المربين وخنقهم في الطفل نزعات الطفولة لنبتسم إذن لهذه التربية الحديثة ابتسامة لطيفة ولنترك الأولاد يفعلوا بحسب رغباتهم ونزعاتهم واستعداداتهم ولنخفف من حصر الطفل وحفظه وسجنه ولنبتعد عما يفعله بعض المربين الذين يرون في المخالفة الصغيرة وفي الهفوات الطفيفة جرماً كبيراً فهم يبرقون ويرعدون إذا لطخ الطفل ثوبه أو مزقه أو كسر قدحاً أو ضرب أخاه أو أخته أو رفيقه فينهالون بالتوبيخ والتهديد وقد ينهون هذه المأساة بالضرب ويوجدون في ذلك الولد الذي لم يقترف أثماً ولم يفعا ما فعل إلا لنزعات طفولته واستعداداتها ميلاً إلى العصيان. فكأنهم يعلمون ذلك الطفل الخشونة والتمرد عوضاً عن أن يعملوه الطاعة والرقة واللطف، ويملون عليه أمثولة في الظلم لأنهم أساؤا إليه وهو لم يقترف أثماً حقيقياً بل الهفوة التي اقترفها إذا جاز لنا أن ندعوها أثماً قد اقترفتها الطفولة وكان الواجب عليهم أن يولدوا فيه عاطفة الاستقامة والعدل. فيترتب على المربين أن يقلوا عن التنبيهات المتواصلة وإلا يزعجوا أولئك الملائكة الصغار بإرشاداتهم المتواترة وصراخهم الدائم وقصاصاتهم المتتابعة التي لا تثمر في النهاية سوى العصيان وضياع ما في الطفل من الاحترام لهم وأن يعرفوا لأولادهم الشروط التي تمكنهم من إتمام ما يريدون على ألا يكون في أعمالهم ضرر لهم. ليعط الطفل من الألعاب والأشياء ما يشغل به مخيلته وفكره ويديه فيفرح ويسر ويفرح المربي لفرحه أيضاً. أن المربين الانكليز هم المجلون الذين أدركوا قبل جميع المربين في سائر البلدان الأخرى أن التربية تقضي بإفراز بيئة خاصة للطفل يحيا فيها لا يكون لها أقل علاقة واشتراك ببيئة الكهول وأنهم لا يزالون حتى اليوم مناراً للمربين الآخرين يسترشد بهم في ليل التربية الحالك. إن طاعة الطفل ضرورية لا بد منها غير أن للطاعة أوقاتاً وشروطاً وما الطاعة في إجبار الطفل على ترك نزعات طفولته إلا ضرب من الظلم وأداة من أدوات التربية القديمة

المضرة. والخاصة الثانية: التي يجب إنماؤها في الطفل هي صفة الأستملاك التي لا تخرج عن كونها مظهراً من مظاهر الحرص والمحافظة. وهذه الصفة تنمو نماءً شديداً في الأطفال. فلو سار الطفل للتنزه نراه يملأ جيوبه عجائب غرائب والتقط كل ما يراه في طريقه من حصى ونوى وأعشاب وجذور وغير ذلك أو كان في البيت نراه يفتش في سلة المهملات عن شرائط قديمة وخرق بالية وصور ممزقة فيحفظها في مكان يخصه بنفسه كأنها كنوز ثمينة لا يحق لأحد أن يمسها. فليترك الطفل وشأنه في عمله ولا يجوز للأم أو المربية أن تجبره على الاكتفاء بلعبة جميلة تأتيه بها ليلهو موجبة عليه إهمال ما جمع والامتناع عن اللعب بتلك الخرق والحصى والبذور والعظام وإلا كان عملها مداعاة إلى حمل الطفل على عصيانها فتضطر إلى توبيخه مع أن الطفل لم يقترف أثماً ولم يعمل ما عمل إلا مدفوعاً بعوامل طفولته فعلى الأم أن تحترم نزعته هذه وأن تعلم بأن الطفل يجد في تلك الخرق البالية سلوى لا يجدها في تلك اللعبة التي تراها هي جميلة ويراها هو قبيحة لأن تلك الخرق تمكنه من أعمال فكره ومخيلته ويديه وتوحي إليه الاجتهاد في تأليف شيء منها بيد أنه لا يجد في تلك اللعبة غايته. وإذا ما اعتاد الطفل من صغره هذه الأمور نما في هـ فكر الاختراع والابتكار والتنقيب ومال إلى الصبر والثبات والاجتهاد فكان الشغل في مستقبل حياته لذة له. والأمر الثالث: الذي يجب إنماؤه في الطفل حب الاكتشاف. أن مثل الطفل مثل رجل غريب يدخل بلاداً جديدة فيجدُّ في كشف ما فيها من الأسرار فعلى المربي ألا يقاوم الطفل في سائر أعماله الموصلة إلى تلك الكشوف لا بل عليه أن يسهل له الأمر كلما عسر عليه بدون أن يلحظ منه الطفل المساعدة أو المداخلة في شؤونه. والطفل اجتماعي بطبيعته وحبه للاجتماع يساعده ويمكنه من الاستكشاف ولهذا نراه في سنواته الأولى يفتش عن أمثاله وأشباها ليجتمع بهم ويؤلف مجتمعاً وهذا المجتمع ضروري لا منوحة عنه سواء كان مؤلفاً من أخوته وأخواته أو رفقائه في المدرسة أو سواهم. لنتركه يجري اختباراته في هذه الحياة ولا نكن ممن يكثرون النصائح والتنبيهات ولا نكرر عليه ما قلنا له منذ هنيهة. فلندعه وشأنه لأننا ولو أكثرنا من الاحتياطات نظل مقصرين

عن وقاية الأطفال من خطر يهددهم فعلى قدر ما يسرعون في إجراء اختباراتهم في هذه الحياة تزداد حنكتهم وتكون الأخطار التي يتعرضون لها في مستقبل حياتهم أقل. ولست أعني بالتساهل الذي لا بد منه للأطفال لكشف حقائق هذا الوجود تركهم حيث يتهددهم الخطر بدون تنبيههم له فلا يجوز أن يترك الطفل في غرفة تتقد فيها النيران أو قرب حوض من الماء لا حاجز له أو على سطح مشرف على هوة فإن ذلك ضرب من الجنون كما أن من الجنون أيضاً منع الطفل عن التعرض لأشياء طفيفة لا تضيره إذا كان في تعرضه لها فائدة له وإنماءٌ لخاصة الاستكشاف التي يميل إليها بطبيعته. يحتاج الطفل الحاجة الشديدة إلى لمس حقائق الوجود بعقله ويديه ولا خير في تربية تسجن الطفل في قفص وتمنعه عن لمس تلك الحقائق لأن على الطفل أن يفتتح هذا الكون ويملكه. يقول دوهمال الاستكشاف ثروة غريزية وحياة الطفل الذي يترك وشأنه سلسلة متتابعة من الاكتشافات غير أننا نرى والأسف ملء قلوبنا أن طرق التربية تميت هذه الخاصة. والأمر الرابع: الذي يجب إنماؤه في الطفل هو رقة الشعور والإخلاص والدعة وغيرها من السجايا الحميدة إلا إنني اكتفي بأن أتكلم عن الصفة الأولى. من منا لم يسمع أو لم يصدف له أن رأى الطرق التي كانت مستعملة من قبل في التربية كربط رجلي الولد بما يسمونه فلقاً وضربه عليهما إلى أن يسيل الدم منهما أو ضم أصابع يديه والضرب عليهما بقضيب إلى أن تخدر أو ربط الولد إلى شجرة أو عامود. أهكذا تنمي رقة الشعور في الولد؟ لا لعمري أن الشعور هو أولى البذور التي في الطفل فهو يبتسم وما ابتسامته إلا إفاقة هذه الخاصة ودليل على المحبة. يقول أحد الاختصاصيين في التربية: ينمى الشعور في الولد بجعله في جو هادئ ساكن وبإنقاص عدد الأشخاص الذين يحادثونه وبتركه بين لعبه لأنها أشياء هادئة لا تعكر صفاء عقله النامي. هكذا تنمو جميع الملكات نومها الطبيعي بعيدة عن الضوضاء كما تنمو النباتات الصغيرة تحت الغطاء الذي يقيها الريح والشتاء والشمس المحرقة. أما نحن فلا نزال قاصرين عن إتمام هذا الواجب لأننا نعود الطفل منذ ولادته الدغدغة والدلال والرَّج بين اليدين، نسمعه صراخنا وأغانينا التي تثير عواطفه وتنبه أعصابه غير

أننا لا نقف عند المنطق بل نغالي في هذا التنبيه إلى أن نصل إلى حد الضرر فيكون أول ثائر على خطتنا هذه السقيمة المضرة الطفل نفسه لأنه وقد اعتاد هذه الضجة الدائمة لا يعود يرى في السكون لذة فلا يكاد يستقر في سريره حتى يعلو صراخه متطلباً إعادة ذلك المشهد. وهكذا نطبع في أعصاب ذلك الطفل منذ صغره ضعفاً وتنبهاً لا يفارقانه وفي نفسه الميل إلى الغنج والدلال فيشب ويكون عالة على البشرية وعاراً لأهله. والأمر الخامس: الذي يجب إنماؤه في الولد متى كبر قليلاً هو الضمير الحي وما من تربية حقيقية إلا والضمير الحي أساسها وما من ضمير بدون كمال كما قال فلاماريون العالم الشهير. ويستدعي إنماء الضمير في الولد تعويده أن يكون حاكماً على أعماله نفسها حسنة كانت أم سيئة ولا بأس في مقابلة أعماله بأعمال سواه والحكم بينهما على أن تولد فيه خاصة الانتقاد. ومتى بدأ الولد بتعويد عقله الحكم تحت إشراف مربيه توصل متى شب إلى إحسان هذا الحكم بدون معونة أحد. فأصبح ضميره الذي نما مرشده والحقيقة مناره والثبات شريعته وحب الواجب غايته. أما الأشياء التي يجب محاربتها في الطفل وهي الشق الثاني من هذا البحث فإنني أمر بها لأننا متى أنمينا فيه تلك النزعات الطبيعية الشريفة عاد الطفل من طبيعته ميالاً عنها واعني بهذه الميول التي تجب محاربتها في الطفل تلك النزعات التي لا يكتسبها إلا من مربيه ومعاشريه كالأنانية والكذب والكبرياء وغيرها. إن الطفل مقلد ينتبه لكل حركة وسكتة في مربيه ومعلميه فتنمو فيه هذه العادات وتتسرب في نفسه تسرباً خفياً بدون أن يشعر بها فعلى الوالدين والمربي أن ينتبهوا لكل عمل يعملونه أو كلمة يلفظونها متى كان الأولاد في حضرتهم لئلا يقتبس هؤلاء الصغار منهم تلك العادات السيئة. الخلاصة: نستنتج من كل ما تقدم الاستنتاجات التالية: 1 - على الوالدين والمربين أن يحترموا الطفولة في الطفل وألا يقاوموا نزعاتها وميولها. 2 - عليهم أن ينموا في الطفل بعض الخواص التي تبدو بوادرها فيه منذ طفولته الأولى: كصفة الاستملاك والاكتشاف ورقة الشعور. وأفضل طريقة في أنماء الشعور جعل الولد في

جو هادئ بعيد عن الغنج والدلال وليس في الضوضاء والاجتماعات 3 - عليهم أن ينمو فيه الضمير الحي ويسددوه متى كبر قليلاً. 4 - عليهم أن يقتلعوا من نفسه بذور الميل إلى الكبرياء والأنانية والكذب وبهذا يتم لنا أن نربي أبناءنا التربية الحديثة ونوجد للبشرية أعضاء عاملين يعلون شأنهم. مرشد خاطر

تحقيق الكتب العلمية

تحقيق الكتب العلمية للسيد محمد رضا الشبيسي من الكتب العلمية البليغة الأثر في الثقافة العامة الخالدة في اللغة العربية خاصة كتاب إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها على إيجازه وقد عدَّ الكتاب وذلك إلى عشر سنوات خلت بين ما ضاع أو ندر وجوده من كتب الفيلسوف الفارابي إلى أن أتيح نشره في نحو ذلك التاريخ المذكور عن نسخة قديمة مخطوطه مما عثرت عليه في خزانة من خزائن الكتب في العراق وقد اضطرت إلى نشره إذ ذاك في إحدى المجلات العربية المعروفة تلميحاً إلى قصور الماد وضعف التهيؤ والاستعداد للقيام بحق الكتاب أو الاضطلاع بما يتطلبه لنشره على حدة من التروي والتحقيق في جملة ما يتطلبه من الأشياء تاركاً ذلك إلى فرصة أخرى إن سنحت أو إلى من يتصدى لنشره طبق المراد ممن طبعوا على حب الدراسة والتحقيق. مضى على نشر الكتاب ما أربى على عشر سنوات كما مر عرض لي في النصف الأخير منها ما شدهني عن كل ما يتعلق به. إلا أنني كنت أحياناً أتوق إلى الألمام بما عسى أن يكون أحدثه أو أثاره نشره. وقد اتضح لي أن نشر الأصل العربي للكتاب المذكور ترك أثراً لا بأس به لدى فريق من العلماء شرقيين وغربيين وذلك لأن معظم القوم لم يكتب لهم الاطلاع إلى ذلك الحين الأعلى نتف مما نقل عنه في الكتب العربية أو على شيء من تلاخيصه في بعض اللغات الأعجمية أما تجريد الكتاب من المجلة التي نشر فيها ونشره مستقلاً على حدة بعد بذل الجهد في التتبع والتنقيب وجمع كل ما يتيسر جمعه من نسخة لهذه الغاية فما لم يقع لأحد إلى هذا الوقت هذا مع العلم بأن بعض دور الكتب المصرية بعد اتفاقها مع طلبة العلم من المصريين أقدمت على طبعه في السنة الماضية (سنة 1350) مقابلة هذه النسخة التي طبعت أخيراً في مصر بتلك النسخة التي تم نشرها سنة 1339 أي قبل أكثر من عشر سنوات فعلمت أن بين النسختين تفاوتاً لا يستهان به واختلافاً لا يستساغ إغفاله إلى هذا ونحوه مما يجعل اعتماد من يعتمد على نسخة واحدة من المخطوطات لدى تمثيلها بالطبع ذنباً لا يغتفر في كثير من الأحيان وبالجملة لقد كان عجبي بل أسفي عظيماً كيف أن من عنوا بنشر إحصاء العلوم في مصر قصروا ولم يجتهدوا في

البحث والتنقيب حتى فاتهم أن الكتاب نشر قبل نشرهم إياه عن نسخة تختلف عن نسختهم في تاريخها وفي نصها أحياناً وفي غير ذلك من الفروق وقد كان بوسعهم لو أخذوا أنفسهم بالتحقيق أن يستفيدوا من مجهود من سبقهم إليه، إذاً لجاء عملهم تاماً لا شائبة فيه ولكن العصمة لله. واساني في الشعور بما شعرت به لدى ظهور الكتاب مطبوعاً في مصر على الوجه الأنف فريق ممن طبع على حب الدراسة والتحقيق أذكر منهم في هذه الكلمة الدكتور جورج سارتون من الولايات المتحدة إذ يظهر مما كتبه الرجل أن الغيرة أخذت منه مأخذها على الكتاب وأنه أخذ نفسه بطبعه طبعة علمية منقحة وهو يدأب الآن في اقتناء نسخ الكتاب على اختلافها تمهيداً لذلك هذا ولا بد لإظهار الفرق بين أحياء الكتب لأغراض علمية صرفة وبين نشرها لغايات تجارية من إثبات بعض ما جاء في بعض رسائل الدكتور التي في هذا الشأن ومن ذلك رسالة مؤرخة في 15 شوال سنة 1351 جاء فيها بعد المقدمة ما نصه أكتب إليك لأستعين بك على أمرٍ ما. قد اشتريت في مصر نسخة من كتاب إحصاء العلوم لأبي نصر الفارابي صححه ووقف على طبعه وصدره بمقدمة مع التعاليق4 عليه أستاذ في الجامعة المصرية - والصواب أحد أعضاء بعثة الجامعة المصرية - نشر هذا الكتاب في مصر سنة 1350 وقد قال المحرر في فاتحته ص 17 ذلك الكتاب الذي وفقنا الله إلى طبعه ونشره للمرة الأولى عن نسخة خطية منقولة بالفتوغرافيا محفوظة في دار الكتب المصرية. قد درست هذا الكتاب المهم وتحققت أن الطبعة المصرية ليست الأولى وليست مرضية أبداً. الطبعة الأولى أنت تعرفها لأنك نشرتها في المجلة المعروفة بالعرفان في صيداء منذ أكثر من عشر سنوات ولا ريب أنك تود أن تعرف أنني أطلعت على ثلاث نسخ خطية لإحصاء العلوم 1 نسختك، 2 نسخة في مكتبة الاسكوريال، 3 نسخة في مكتبة كبرولو في الآستانة. ولعل هناك نسخة رابعة في مصر. ينبغي أن تكون عندي تصاوير فتوغرافية لكل هذه النسخ الخطية حتى يمكن طبع إحصاء العلوم طيعة علمية. هذا ما يهم نقله من رسالة الدكتور وقد أبدى مع ذلك رغبته في اقتناء نسختنا من كتاب الإحصاء ولما كانت النسخة مفقودة تعذر إسعافه بها. بيد أنني بعثت إليه بنبذة في وصفها وتعريفها مع وعده بمتابعة البحث والتنقيب عنها وحثه على بذل وسعه في خدمة هذا الأثر

الجليل وإخراج تلك الدرة الثمينة والجوهرة الكريمة على الوجه اللائق بها. ثم وافاني من الدكتور كتاب آخر كتبه من بوسطن في الولايات المتحدة ف 4 شعبان سنة 1351 وإذا به يعرب عن رحلة علمية طويلة أنجزها في أواخر العام الماضي في سبيل دراسة أحوال الممالك الإسلامية في جهات البحر الموسط وما إليه وفي ذلك تركيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى حتى فاس وتلسمان بحيث كوّن لنفسه ما قال فكرة خاصة عن اللغة المغربية والإسلام المغربي على حد تعبيره، ثم عبر من الغرب إلى بر الأندلس لزيارة الآثار الإسلامية العجيبة، وقد تخلص من الإسهاب في وصف رحلته هذه إلى استنجاز ما وعد به من نسخة إحصاء العلوم إنني لم أجبه إلى الآن عن رسالته الأخيرة إذ أنني لا أزال في صدد البحث عن مصير النسخة العراقية لإسعافه بها إذا أمكن تقديراً لجده وتشمير في هذا الباب. هذا ولما كان الدكتور سارتون من الأساتذة الذين يركن إلى دراستهم وأبحاثهم في القرون الوسطى من حيث نشوء العمران والعلوم فيها خاصة وبالأخص فيما يتعلق بالتآليف العربية وله في باب فضل العرب على الحضارة والثقافة العامة آراء يكاد ينفرد بها عن معظم علماء الغرب، فإننا ممن يتوسم به الكفاية للنهوض بهذه الخدمة العلمية الجليلة راجين له التوفيق في عمله المذكور.

لماذا يدرس المستشرقون اللغة العامية

لماذا يدرس المستشرقون اللغة العامية للأستاذ المستشرق أدمون صوسه تعريب كاظم الداغستاني لعل أول ما يبدأ به الأوربي الذي يؤم الشرق ليعرف البلاد ويدرس حضارتها ولغتها هو تخصيصه قسماً من وقته لتعلم اللغة العامية، وهذا كثيراً ما يدعو لتعجب أصدقائه الشرقيين، وعلى الأخص المتعلمين منهم، لذلك فطالما سمعنا هؤلاء الأصدقاء يقولون لنا: لماذا يضيعون كل هذا الوقت في دراسة لغة عامية تتألف أكثر جملها من كلمات غير صحيحة؟ إن الأولى بكم أن تحصروا جهودكم في تعلم اللغة الفصحى التي تحتاج معرفتها الكاملة لزمان طويل. . أن ما يؤكدونه لنا من صعوبة تعلم اللغة العربية الفصحى هو حقيقة يصل إليها كل منا بنفسه بعد متاعب كثيرة يتحملها، ولكن هذا التأكيد لا يقلل في أعيننا الفائدة التي نتواخها في دراستنا اللغة العامية. لقد تبين لي أكثر من مرة أن كثيراً من الشرقيين، المتعلمين منهم، يتساءلون عن هذه الفائدة المتوخاة ويشكون في صحتها ولذلك فقد رأيت من المفيد أن ألخص في بضع صفحات من الثقافة الأسباب التي تدعونا للمثابرة على هذا النوع من الدراسة التي صغر شأنها في أعينهم. أن أول سبب من أسباب هذه الدراسة وأبسطها هي الفائدة العلمية. ورب قائل بأن اللغة العامية جميعها اشتقت ومسخت عن اللغة الفصحى وحري بالأوربي أن يتعلم اللغة الفصحى وحدها فلا يحتاج لغيرها من لغات عامية مختلفة وبذلك يتسنى له التكلم في اللغة العربية وتفهمها في جميع الأقطار العربية. على أن المتعلمين من الشرقيين الذين يؤيدون هذا الرأي، يقولون ذلك لأنهم يتكلمون لغتهم وهم يستطيعون بسائق غرائزهم أن يفهموا ما يردون قوله لمحدثيهم من مواطنيهم من أي طبقة كانوا ولعلهم لا يعرفون مبلغ ما يحتاجه الغريب عنهم، من المعرفة الخاصة والتمرين والممارسة الطويلة لكي يتمكن من محادثة فرد من أفراد الطبقة العامية. يروى أن (هارتفيك ديرنبوغ) أحد الأساتذة القدماء في باريز وهو نحوي نشر الكتاب لسيبويه، وقد توفاه الله منذ زمن بعيد، وسل إلى المغرب وأراد أن يستأجر حماراً يركبه

إلى أحدى الجهات فطلب ما يبتغي بقوله: أريد حماراً دون أن يهمل حركة من حركات هذه الجملة، فلم يفهم أحد ممن كانوا حوله، ولقد كان عجبه عظيماً حين علن بأن جملة أريد حماراً، التي يكتبها بهذا الشكل، يجب أن يعبر عنها في المغرب بجملة نحبّْ دابّْ. أن هذا السبب العملي وهو أول ما يخطر للذهن، ليس السبب الأهم. إذا اهتم المستشرقون بدراسة اللغة العامية فذلك لأن في هذه الدراسة فائدة علمية كبرى. ففي معرفة اللغة العامية فذلك ما يعين على التحدث إلى أفراد الشعب والاختلاط بهم وفي هذا ما يساعد الباحث على الوصول إلى ما يتطلبه من المعلومات من منابعها الأصلية فيما يتعلق بمظاهر الحياة المادية التي يحياها هؤلاء الناس الذين يتصدى لدرس عاداتهم وما احتفظوا به من تقاليدهم القديمة وما هم عليه من الأوضاع الاجتماعية والفردية، وهو بذلك لا يتوصل لمعرفة ما يود الإطلاع عليه فحسب، بل يلقى كثيراً من المواد التي يعتدُّ بها العلم ويقابلها مع غيرها من أوضاع اجتماعية جرت عليها الناس في بلاد أخرى من بلاد العالم مما يدخل في اختصاص علوم كثيرة منها علم طبائع الشعوب اتنوغرافيا وعلم الاجتماع (سوسيولوجيا) وعلم التقاليد والعادات (فولكلور) هذا وإن في دراسة اللغة العامية خدمات جلى لدرس الحضارة العربية، لأن لهذه الدراسة شأناً كبيراً وفائدة عظيمة في فقه اللغة (فيلولوجيا) والتاريخ وتاريخ الآداب. أولاً: فائدتها في فقه اللغة، وعلى الأخص في وصف مفردات اللغة (ليكسيكوغرافيا): لا يمكن وضع معجم عربي كامل إلا بعد درس جميع اللغات العربية العامية، فمؤلفو المعاجم العربية القديمة الذين جمعوا باعتناء حتى حتى ما سمع من لغة الصحراء الشعرية، أهملوا أكثر الكلمات المألوفة لدى سكان المدن وتعابيرهم الفنية، وكثيراً يكون فيما كتبه كتاب القرون الوسطى، ولاسيما المؤرخون والجغرافيون منهم، كلمات وتعابير خاصة بالصناعة والهندسة والألبسة والطبخ والتجارة والملاحة لا يمكن العثور على معانيها في أكمل القواميس العربية وأكبرها، ولكن كثيراً ما تكون هذه الكلمات باقية في لغة من اللغات العامية التي كانت السبب في حفظها وعدم ضياعها. ثانياً: فائدتها في التاريخ: إن في المقابلة بين لغات عامية مختلفة يتكلمها سكان مناطق مختلفة في بلاد واحدة أو في بلاد متعددة، ما يمكن معه الوصول إلى نتائج مفيدة في درس

الجماعات التي تتكلم هذه اللغات ودرس هجرتها ومواطنها وما قام بينها من صلات اجتماعية واقتصادية، فدرس العربية العامية المحكية في أواسط إفريقيا مثلاً يظهر، إذا جرى فيه التتبع والاستقراء جرياً أصولياً، كثيراً من شؤون المتكلمين بهذه اللغة وشؤون مواطنهم والبلاد التي جاءوا منها، وكذلك فإن في درس ما تركته اللغة التركية من آثار كثيرة في اللغة العربية العامية في سوريا ما يظهر شيئاً كثيراً من التأثير الذي خلفه الأتراك في الحياة السورية وهو تأثير عظمت قيمته المادية والإدارية وصغرت الوجهة الفكرية فيه. ثالثاً: فائدتها في تاريخ الآداب: إن دراسة اللغة العامية تساعد على جمع وتحليل مؤلفات الأدب العامي ونعني بالمؤلفات هنا الحكايات والأغاني والنكات والأمثال العامية التي لا يمكن العثور عليها ف طيات الكتب ولكن روايتها وتداولها بين الناس يجعلها قريبة من الثبات في شكلها مما يمكن أن نسميها معه مؤلفات أدبية، على أن أدب الخاصة يعتمد على أدب العامة، شعر أو لم يشعر، فأسمى مؤلفات الأدب الغربي وأشهرها كالأوديسه ومكبث وفاوست مدينة بأصولها إلى الخرافات العامية. والأدب العربي مستمد من حياة الأعراب اليومية قبل الإسلام ومن المعلوم أيضاً بأن أسمى أنواع الأدب العربي وأرفعها هو نوع المقامات الذي يرجع بأصوله لحكايات كانت تقصها طائفة من الوعاظ ضربوا في مجاهل الأرض على عدد من أفراد الشعب يلتفون حولهم في زاوية من زوايا الطرقات. فكيف يمكن بعد ذلك أن يدرس بصورة قيّمة أدب علمي له ما له من صلات كثيرة بالأدب العامي إذا أهمل تماماً درس هذا الأدب العامي؟ وكثيراً ما يكون في الأدب العامي ذي الطابع المحلي الخاص من العبقريات ما ربما لا يظهر في الأدب العلمي الذي قل أن تبرز الطبيعة الخاصة المحلية فيه، ففي فصول قره كوز مثلاً يظهر الفرق جلياًّ بين المزاج التركي والمزاج العربي فلقد نقل السوريون هذه الفصول عن الترك وبنقلها حلت مظاهر الطبيعة السورية محل مظاهر الطبية التركية، ففي الأغاني والأناشيد التي تتخلل هذه الفصول مثلاً قامت العاطفة العربية الحزينة الوالهة مقام العاطفة التركية الهفافة. هذه هي بعض الخدم التي يمكن أن يؤديها إلى العلم درس اللغة العامية: وهي فوائد لا تدعو لأهتمام المستشرقين فقط بل تجدر باهتمام أهل الشرق أنفسهم أيضاً ونحن على ثقة بأن هذا الأهتمام سوف يعظم مع الأيام حتى يبلغ ما هو جدير به.

لا نكران بأن أمم الشرق ما برحت تندرج في نبذ خرافات كثيرة لا تتلائم مع روح الإسلام، وإننا لا نزعم بأن هذه الخرافات ما يؤسف على نبذه وإهماله، ولكن لا محيد على القول بأن فيها ما قد يصح أن يتألف منه بعض التراث الوطني للشعوب الشرقية، وإن هذه الشعوب التي تشعر الآن أكثر من قبل بنزعتها الوطنية وحاجتها للاحتفاظ بذلك التراث الوطني، لا يمكنها أن تهمل ما تتألف منه مظاهر الأنماط التي جرى عليها في كل يوم أجدادنا من قبل، على أن هذه الحياة التي قضاها الأجداد بالأمس وما برحت ماثلة أمام أعيننا بآثارها، لن تلبث أن تصبح من ذكريات الغد البعيد ولذلك لم يبق من الوقت إلا ما يكفينا أن نجمع شواهدها وإعلامها للأجيال القادمة قبل أن تتوارى في طيات العدم، وتصبح نسياً منسياً. هذا ما عملت عليه منذ زمن قديم الأمم الأوربية بشأن مظاهر حياتها الشعبية، وما شرع به أخيراً بعض الأمم الشرقية كاليابان وتركيا، فهي تجمع في متاحف خاصة اتنوغرافيا، طائفة من الألبسة والحوائج التي يستعملها الشعب في قضاء حاجاته، وتحتفظ بمجموعات من اسطوانات الحاكي في مختلف الأغاني العامية، عدا ما تسجله وتطبعه من الأمثال والقصص والنكات والشواهد العامية. على أن اللغة العامية هي أعظم مظهر من مظاهر الحياة الشعبية، فباللغة العامية نستطيع أن نعرف ونحفظ أسماء الحوائج التي يستعملها أجدادنا، والأمثال التي يضربونها فيجمعون فيها الكثير من حكمهم، والخرافات التي يعتقون بها فتنبئ عن وجهة نظر حياتهم، يزاد على كل ذلك بأن اللغة العامية من النكات والهزل والتنادر ما لا يمكن أن نجد ما يعادله رشاقة في اللغة الفصحى وهذا ما يدعو الجرائد الهزلية لتفضيل اللغة العامية على الفصحى في أكثر ما تكتبه، على أن كتاب العربية جميعاً، رغم من شذوا، لا يريدون عن اللغة العربية الفصحى بديلاً وأن لديهم لذلك أسباباً مصيبة جداً يضيق بنا المجال أن يأتي على بيانها هنا غير أنه لا يمكن حتى لأشدهم محافظة على هذا الرأي وتمسكاً به، أن يؤيدوا بأن درس اللغة العامية مما لا فائدة فيه. لقد أصبح اليوم من المتفق عليه بين الناس بأن اللغتين الفصحى والعامية في جميع الأقطار العربية ما برحتا تتقاربان الواحدة من الأخرى بصورة مستمرة وإن اللغات العامية ما فتأت تغني بمفردات وتراكيب اللغة الفصحى التي ما زالت تسهل وتعم بدون أن تفقد شيئاً من صحتها على أن هذا التطور الطبيعي يمكن أن يضاف إليه مساعي كثيرة. ثم أو ليس في

المقابلة أو الموازنة بين اللغات العامية المختلفة في العالم العربي ما يمكن معه أن نعرف الصفات العامة الجامعة لهذه اللغات العامية وخصائص كل منها، وأن نعرف أيضاً ما هي الكلمات الأخرى التي يفهمها أناس دون آخرين؟ أليس في ذلك ما يساعد أيضاً على العمل في سبيل جعل اللغة العربية الفصحى لغة عامةً لجميع العرب وعلى متناول جميع من يتكلمون بتلك اللغات المحلية المختلفة؟ يظهر لنا وقد أوردنا ما أوردناه من الأسباب أن الشرقيين سيهتمون في الآتي بلغاتهم المحلية العامة أكثر من اهتمامهم بها اليوم، وسيأتي زمن يقوم فيه كل قطر من الأقطار العربية علماء منهم يأخذون على أنفسهم درس لهجات أقطارهم درساً أصولياً مما لا يبقى معه حاجة لدرس المستشرقين وتتبعهم بهذا الشأن لأن هؤلاء العلماء الوطنيين سيضيفون إلى أصول التحليل والنقد معرفتهم العميقة في لغاتهم التي لا يستطيع أن يساويهم فيها من ليس منهم، وإن في درس الأستاذ فغالي، وعلى الأخص فيما يتعلق في مؤلفه في قواعد اللغة العربية اللبنانية وردها إلى أصول الفصحى، ما يظهر النتائج الباهرة التي يمكن أن يصل إليها البحاثة الشرقي في أتباعه في درس لغته سنن الأصول العلمية الحديثة. ومع هذا فلعل في المعونة التي يؤدي واجبها المستشرقون بعض الفائدة للشرقيين أنفسهم، إذا أن في درس جميع اللغات نصيباً من العمل يجيد فيه الغريب أكثر من أبناء اللغة أنفسهم، وهذا النصيب هو تحليل اللغة من الوجهة الروحية النفسية. إن قواعد اللغة الصرفية والنحوية التي وضعها أحد أبناء هذه اللغة لمن يتكلمونها لا تعصم إلا من الأخطاء قليلة الشأن إذ لا حاجة لذكر أشياء نمت من العقل فعرفها أبناء هذه اللغة منذ مولدهم، أما الغريب عن اللغة فأن لديهم من الدواعي ما يحدوه لتفهم فكرة اللغة وروحها والعمل على أفهامها ووصفها للغرباء من وضع أحد الغرباء. إن أجمل مؤلفي تاريخي في قواعد اللغة الفرنسية هو من وضع العالم نيروب الدانيمركي. وإن جيسبرسن من علماء الدانيمرك أيضاً ما برح مستمراً في نشر مؤلف ضخم في قواعد اللغة الانكليزية الحديثة وهو يعد اليوم من أحسن ما ألف من نوعه. وبعد هذا فليس للمستشرقين إلا أن يثابروا على دراستهم اللغات العامية فيعدون ما يلزم لمن سيأخذون على أنفسهم دراستها وحري بهم أن يستمروا، بما عرفوا به من صبر وتواضع،

على عملهم الهادئ الذي لا يقل فائدة عن غيره من الأعمال ذات الضوضاء في سبيل التفاهم بين أبناء البشر. إدمون صوسه

موت الشعر

موت الشعر ما لهذا الفلق الطالع ... مربداً كئيبا؟ أترى فارق إلفاً ... أم ترى ضل حبيبا! ما لهذي الورق لا ... تشدو بغير الحزن؟ أترى هدّدها الصقر ... بترك الوطن! غنني شعري ولحنه ... مع الطير هديلا علَّ في لحنك ما ينقع ... من نفسي غليلا نبه الغافي فقد ... أغرق في النوم شعوره! إن يكن مات ففي ... الألحان والشعر نشوره محمد البزم

النهضة النسائية

النهضة النسائية في سوريا ولبنان للآنسة ماري عجمي منذ عشر سنوات ونيف أنشئت في سوريا ولبنان جمعيات أدبية وضعت لنفسها أهدافاً واحدة أو متقاربة تنبئ أنها أعدت لنشر روح جديدة في شتى مرافق الحياة الاجتماعية. عشر سنوات تنقضي بيت تصفيق للخطيبات وتهاليل للمؤتمرات ووصف للمآدب التي تقوم لهن على صحائف الجرائد والمجلات تهب بنا إلى التساؤل وهو من حق كل مفكر: أية فائدة نتجت من كل هذه المساعي والمجتمعات؟ وإلى أية درجة قدرت هذه الجمعيات أن ترفع مستوى المرأة الأدبي وكم هو مقدار ما أحدثت من الإصلاح الاجتماعي؟ وكم من مئات القرارات التي انتهت إليها هذه المؤتمرات وضع موضع العمل والتنفيذ؟ وما هي العوامل التي سببت وقوف الجماعات النسائية عن حد ترديد الأقوال التي لا يتجاوزها إلى العمل بما يرتفع من صرخاتهن في الدعوة إلى الاشتراك مع الرجال في حل المشاكل الاجتماعية والوطنية، وتعميم الثقافة بواسطة المحاضرات في الكتب وإلى قلب التقاليد والعادات، وإلى تأييد الصناعة الوطنية وإلى المطالبة بجعل التعليم الابتدائي للبنات إجبارياً واستبدال ما وضع من الشرائع والقوانين التي أشارت الدلائل إلى وجوب تغييرها أو تعديلها مما للمرأة به علاقة كلية أو جزئية؟ إن أغراضاً كهذه تجعلها الجمعيات أهدافاً لمساعيها، وتشير إلى أن المرأة السورية واللبنانية أصبحت تتطلب لحياتها المثل العليا - تكفي للتدليل على أن في سوريا ولبنان نهضة نسائية عامة. وقد أكون من الكاذبين إن لم أؤمن بأن المرأة قد نهضت عن موضعها وأنا أراها تؤلف الحلقات وتنشئ المؤتمرات وتقوم من بيروت إلى سوريا ومن سوريا إلى لبنان ومن لبنان إلى طهران. ولا أكون أكثر زوراً مني ساعة أشهد أن المرأة لم تحقق غرضاً من أغراض هذه الدعوة العريضة ما عدا جمع بعض الكتب في مكتبات الجمعيات التي لا تقرأ منها على الغالب إلا الروايات، وما عدا إقامة بعض حفلات ترى الخطيبة لات تلقي قيها إلا الخطب الباردة في

أبحاث فرغ الناس منها هي صدى ما علق بذهنها من مطالعة الصحف الحين بعد الحين. أما العوامل التي سببت وقوف عمل جمعيات النساء عند هذا الحد على ما يقول بعض المفكرين فالأخلاق السلبية التي يتصف بها كل من الرجل والمرأة في سوريا وإن أثر هذه الأخلاق في المرأة ما يزال أقوى منه في الرجل فهي قد توافقك على الفكرة الفلسفية والعلمية وتشعر بضرورة عملها بها سعياً وراء المثل الأعلى ثم تقف مترددة ثم محجمة عما تطمح إليه بعامل الجبن أو الوجل أو الكسل أو الجهل. وقد يكون جهل جماعات النساء بالطريق إلى تحقيق أغراض جمعياتهن أكبر العوامل التي وقفت بهن بعد صرف عشر سنوات في المناقشات التي لا طائل تحتها عند هذا الحد لأنك إذا بحثت بينهن عن حاملات الشهادات الطب والآداب والصيدلة والحقوق والفنون القادرات على التعمق والإفاضة لا ترى أثر لهن في هذه الجمعيات إلا حين يدعين إلى ألقاء كلمة. لأن هذه الفئة لم تجد حتى الآن على هذه الجمعيات بشرف انتمائها إليهنَّ، ولا هن يأبهن لتأليف جمعيات خاصة بهن يتذوقن فيها لذة التفاهم ويعملن في صبر وتأن على إبراز أعمالهن بدقة وإتقان لينتجن شيئاً أو يحققن غاية أدبية أو موسيقية أو فنية أو رياضية أو اجتماعية أو علمية على نقيض ما نرى من النهضات النسائية في العجم وفي الهند وفي تركيا تلك الأقطار الشرقية التي تسير المرأة المثقفة بجماعتها وفق فكرة فلسفية أو وفق غاية معينة تطمح بها إلى مثل أعلى تضعه نصب عينيها وتبذل قصاراها في البلوغ إليه رغم ما تلاقيه من عنت وإجهاد ومشاق إلى أن يقيض لها الله أسباب التوفيق. فإذا لم تتألف الجمعيات النسائية من فرق المثقفات أو لم يكن كل الأعضاء في جمعية واحدة مثقفات فإن جمعياتنا الحاضرة ولئن ناصرتها العاملات بإخلاصهن، ودرجة أكثرهن العلمية لا تسمو على التعليم الابتدائي، باقية عند هذا الحد إلى عشر سنوات أخرى تظل فيها نهضتنا النسائية الموهومة سخرية لأدبيات الغرب اللاتي يأتين للسياحة في هذه البلاد وأن لي مما نشر أدبية فرنسية سائحة طلبت أن تجتمع إلى الزعيمات فكان لها ما أرادت دليلاً على ذلك. فقد رغبت هذه السائحة أن تطلع على درجة مستوى زعيماتنا العملي فقامت تلقي عليهن الأسئلة فإذا هن يجهلن تاريخ دينهن وبلادهن حتى أسماء الجبال التي تحيط ببلدتهن ويشرفن عليها من نوافذ منازلهن!

فزعامة من هذا النوع نملأ بها الدنيا من الجعجعة قبل أن نقوى على تحريك الرحى تنشر في الصحف أنها تفعل كثيراً وهي لا تفعل شيئاً وأنها تمثل نشاط نساء البلاد ودرجة ثقافتهن وهي في الواقع تمثل كسلهن أو ضعفهن أة جهلهن المطبق وإن جمعيات من هذا الصنف تقف المثقفات عنها في نجوة، لحرية بالسخر اللاذع. وكثيراً ما تنقلب هذه الجمعيات الأدبي إلى جمعيات خيرية وليس من عجب في ذلك لأن الجمعيات الخيرية في سورية ولبنان ناجحة، لسهولة تأثر الناس بالدعوة إلى التصدق وصعوبة تأثرهم بالدعوة إلى فكرة علمية أو أدبية ولأن الجود بالمال أيسر على أمثالنا من الجود بالأدب. وإن تصدقك على مريض أو بائس بربع ليرة مثلاً أهون عليك من تصدقك ببحث طريف مستفيض لأن قرضنا لله مبلغاً زهيداً من المال نتوقع أنه سيعوضه علينا بالفائدة الفاحشة ألفاً، هو مثار السذج على الغالب إلى التصدق على البائسين وإلى معاضدة الجمعيات الخيرية لاسيما النسائية منها. يستنتج مما تقدم أن الدعوة إلى تأييد الصناعة الوطنية من جمعية لا تقتصر ما بتباع على المآكل والملابس الوطنية، وإن الدعوة إلى التهذيب والأدب من جمعية لا تقوى عضو فيها أن تثير العاطفة أو تخاطب العقل، وإن الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي من جمعية لا تقدر أن تتلمس إليه طريقاً غير الذي ترشدها المبشرات الأجنبيات إليه، وإن الدعوة إلى رفع مستوى المرأة وإصلاح شؤونها بتعديل ما تئن منه من الشرائع من جمعية لا تغامر بشيء في سبيل الأرغام على وضع تشريع جديد يضع حداً للشكاوي والمظالم، أجل أن هذه الدعوات كلها الملقبة بالنهضة النسائية ما تزال ضعيفة خائرة لضعف القائمات بها ولخور في عزائمها ولأنَّ أكثرهن ينتحي بها طريق الشهرة لا طريق التضحية والنكران والمغامرة بالوقت والدرس والمفاداة بالمال والنفس. وستبقى هذه الدعوات صرخات في واد تصلك منها آذان المثقفين إلى أن تتحسس المثقفات بضرورة تغذيتها ودعمها بروح العلم وميزان العقل تحقيقاً للغاية منها وإلى أن يتناولن بذورها ليغرسنها في حقول سوريا ولبنان متعهدات بحرث منابتها وسقيها وتنقيها لتغدو أزهارها حية نامية لا أزهاراً توضع في الآنية أيام الحفلات لتذبل في الغد ذبول الجني من الأزهار.

أدبيات العرب في مجالسهن

أدبيات العرب في مجالسهن للآنسة وداد سكاكيني وودت لو أن لدي من الوقت ما يسمح لي بالتفرغ لمطالعة ما تناله يدي من الذخائر الأدبية القيمة التي أثقف بها نفسي وتدوين ما يعن لي من خطرات تجيش بها النفس في تلك اللحظات القصيرة التي تنشط فيها العواطف لتقلى وحي الروح والوجدان. ويؤسفني أن الوقت يمضي سراعاً غير حافل بهذه الرغبة المتواضعة التي أتمناها عليه فأجدني مضطرة أن اختلس منه الفينة بعد الفينة أجزاء قصيرة لأطفاء شهوة النفس وإشباع نهم الفكر، لذلك أعتذر إلى القراء إن رأوني مقصرة في تحليل أجزاء هذا الموضوع الذي يطالعونه ولم يجدوا في بحثه ذلك العمق الذي يتطلبه المقاوم ويطمحون إليه. قرأت في كتاب بليغ لأحد أساتيذ المحاضرات في جامعة السوربون فصولاً قيمة عن مجالس الأدب والثقافة في فرنسا وكيف كانت تزدهر بقادة الفكر من نساء ورجال على السواء، فرأيت أن أتحدث إلى قراء مجلة الثقافة عن مجال أدبياتنا العربيات في عصور دول العرب الذهبية، وأضع بين أيديهم غيضاً من فيض تلك المحادثات الشائقة والمساجلات الرائعة والمطارحات البارعة التي كانت فضليات النساء تساهم فيها نوابغ الرجال ولعلي أوفق في الآتي إلى معالجة هذا الموضوع كرة أخرى فأبحثه بحثاً مستفيضاً يدعمه الدرس والتحليل والمقارنة. لقد ذكر هذا الأديب الأجيال التي ازدهرت فيها أندية الأدب في فرنسا وجال في الكلام على نادي المركيزة دورامبويه الذي أنشأه في فاتحة القرن السابع عشر وكان يختلف إليه أكابر أدباء هذا العصر وعلية القواد، مثل الأمير قونديه وريشيليو وروترو وقورنيه والفيلسوف لاروشفوقولد، وكانت مناظرات هذا المجلس ومباحثاته يتناولها التفكير العميق والاستقراء والدرس، ومن رأي أهل هذا المعشر إن للمرأة فضلاً في ما ينحون نحوه من المثل العليا. وإن المحبة الخالصة ليست بغريزة غاشمة جائرة الطباع ثائرة الجماح، وإنما هي عاطفة سامية تلقي على الأنفس والأرواح أشعة ساطعة فتنيرها كلها، وشأن المرأة في الحب أن تكون حصاناً ذات عفة وحياء وإنصاف، وأن يكون الرجل شهماً مخلصاً فيه، وقد نفحت السيدة رامبويه هذا المجلس بروحها العالية فمد ظلاله الوارفة على الأخلاق والطبائع طيلة

القرن السابع عشر. ثم يمضي مؤلف الكتاب قدماً في تنقيبه وتنقيره عن هذه المجالس. حتى يطوي مسافة العصور، فنسرح الطرف ونملئ الذهن ونثقف الذوق بما في هذا الأدب من بهاءٍ وبهجة ورونق وروعة. وقد ذكر أن مجلس السيدة دالامبير أثر في الأدب وإن المناظرات فيه دارت ما بين نصرة القديم ونصرة الحديث وكان مونتيسكيو وماريفو من نجوم سمائه فلم يكن للأثرة أثر في هذه الجماعة، وقد برز الخامل من بين الحظائر بنبوغه وتفتحت الأعين على رؤى الجمال والبدائع ومهد السبيل لذوي العبقريات من البؤساء والمساكين. أطلعت على هذا كله ويزيد، فراقني هذا البحث الممتع وقلت لنفسي: إلا ليت أدباءنا يكتبون عن مجالس أدبياتنا في مطاوي الحقب الغابرة، ألم يكن لأدبنا العربي مجالس أشرقت فيها شموس النابغات ولمعت فراقد الأدبيات فكن يجتمعن إلى الأدباء والشعراء ويطربن من مجالستهم في الآداب الرفيعة؟ قلت هذا ولمع في خاطري خيال سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة والولادة بنت المستكفي وكثيرات ملئ بهن أبو الفرج أغانيه. قال الأصفهاني صاحب الأغاني ناسباً الخبر إلى معمر بن المثنى إن الفرزدق خرج إلى المدينة. فدخل على سكينة بنت الحسين مسلماً فقالت له: يا فرزدق من أشعر الناس؟ قالت أشعر منك الذي يقول: بنفسي من تجنيه عزيز ... علي ومن زيارته لمام ثم سألته يا فرزدق من أشعر الناس فقال أنا قالت: كلا أشع منك الذي يقول: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا فقال الفرزدق لك الله تفضلين علي جريراً، فطيبت من نفسه وأعطته جارية لها وقالت يا فرزدق أحتفظ بها فقد آثرتك على نفسي. وسكينه تعلم ما بين الفرزدق وجرير من مطاعنة الهجاء وسبة الكلام فشاءت التنادر عليه والعبث بشعره ففضلت عليه جريراً. عاشت سكينة حياة أدب خالص، وكانت المدينة سكناها فأنشأت فيها مجلساً للأدب كان يحضره الأكابر من رجال قريش وتجتمع إليها الشعراء. وحدث أبو الفرج أنه اجتمع في

ضيافتها جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب وهم حملة لواء الشعر في عصر نبي أمية كله، فمكثوا عندها أياماً لبثوا فيها يتناشدون الأشعار ويروون الأخبار وكانت تسامرهم وتفضل أحدهم على رفقائه وتأخذ عليه بمأخذ من المعاني وعشرات من الألفاظ فقالت للفرزدق كيف تقول؟ فلما استوت رجلاي في الأرض تالتا ... أحي ترجي أم قتيل تغادره فقلت أرفعا الأمراس لا يشعروا بنا ... وأقبلت في إعجاز ليل ابادره أبادر بوابين قد وكلا بنا ... وأحمر من ساج تيص مساعده ماذا حملك على إفشاء سرها وسرك وهلا سترت عليك وعليها، ثم انثنت سكينة إلى جرير وقالت له أأنت القائل؟ طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة وارجعي بسلام قال نعم، قالت أفلا أخذت بيدها وأنت عفيف وفيك ضعف، ثم ناظرت فيذلك بقية الشعراء، حتى بلغت النوبة جميلاً فأعجبت بقوله: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذن لسعيد لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد ثم أجازت كل واحد من هؤلاء بما يريد وكانت سكينه تطرب لشعر الشعراء وتحزن لموتهم فلما مات جميل ذكرت بيته: فيا ليتني أعمى أصم تعودني ... بثينة لا يخفى عليَّ كلامها فقالت رحمه الله إنه كان صادقاً في شعره عذرياً في حبه، وإذا اختصم رواة الشعر في عصر سكينة جاؤها لتحكم بينهم وتحسن التفضيل والتعليل، وكان المغنون أيضاً يتبارون في مجلسها بالغناء فتعجب بهم وهي جد طروب، غضة النفس للأنغام فتحشر إليها أصحاب الصوت والتلحين كما فعلت بابن سريج وكان قد نسك وآلى على نفسه أن لا يقول صوتاً فأرسلت إليه خادمها أشعب فأحضره إليها وقضت سمراً غناها به: وقرت عيني وقد كنت قبلها ... كثير البكاء مشفقاً من صدوها وبشرة خود مثل تمثال بيعة ... تظل النصارى حوله يوم عيدها وقد أثر مجلس سكينة في الشعراء والأدباء فكان سبيلاً لتنافسهم في التقرب منها وحضور

ناديها وكانوا يجوّدون أشعارهم ويحلقون فيها ويهفهفونها حتى يفوز أحدهم بقولها له: أحسنت وأجدت. وكانت سكينة تفضل الشاعر عمر بن أبي ربيعة وترفع مكانته بين الشعراء. ففتحت في عبقريته روحاً من الخلود، كما كانت تشجع الأدباء وتكرم الشعراء وتدني مقاعدهم وتقدر أقدارهم، والشعر ريحان، إذا تعهده الجنان بالأرواء والإسقاء أمرع وأزهر وهذه المجالس خير مسعف للشعر وباعث للعبقرية. ويذكرني ابن أبي ربيعة بابن زيدون ومجلس ولادة بنت المستكفي من خلفاء بني أمية في الأندلس بقرطبة وكان في قرطبة كما يحكي ابن فياض في تاريخه عن أخبارها مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، فما بالك في أنواع الكتابات وتفنن النساء بغيرها من نواحي الأدب والفنون في ذلك العصر العربي المجيد. لقد كانت قرطبة جنة الدنيا في زمانها، وفي إبان ازدهارها وعمرانها. كان يختلف إلى مجلس ولادة الشعراء والعلماء، وكانت هي سافرة فتساجل الشعراء والأدباء وتأخذ على أشعارهم بالمغامز ما بين نثر المترسلين وآداب المتأدبين. فأثر مجلسها في عبقرية رجال الأندلس وكان لها علاقات غرامية مع الوزير ابن زيدون الذي انطلقته بخالد الشعر فرققت ولادة ديباجة كلامه فجاء ساحراً قوياً، وكانت له سيدة بنات أشعاره وقد تعذب في سبيل تفضيلها إياه ورفعها شأنه فحسده الوزير ابن عبدوس وسجنه وشتته وصادر أمواله فقال بولادة قصيدته الخالدة: أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا فابن زيدون لولا مجلس ولادة وهيامه بها لكان أحد الشعراء الذين أبصروا الدنيا ثم رحلوا عنها ولم يبق لهم أي ذكر فيها. ذكرت كل هذا فرأيت أن أدبنا العربي المنيف مليء بمثل هذه المجالس التي جعل منها الأديب الفرنسي بواعث نهضة أدبه ولم نجعل نحن منها هذه البواعث لأدبنا، وقد تقول طائفة من الشعوبية التي تطعن بالعرب أن ليس لدينا أدب قمين بالذكر والعناية والتقدير، لأنها ثملت بخمرة التمدن الغربي وشغفت بأدب الغرب دون غيره، فتاهت في حكمها، وفاتها أن لنا في أدبنا العربي من الروائع والبدائع ما احتذاه الغربيون في أدبهم حتى جاء جميلاً كاملاً، وقد يكون أدباء الغرب أنفسهم أخذوا طراز هذه المجالس عن العرب، فإذا

كان أول مجلس للأدبيات في فرنسا هو أول القرن السابع عشر أي منذ أربعة عصور فإن مجلس سكينة المتقادم عهده ومجلس ولادة الذي كان في منتصف العصر الرابع الهجري أقدم بكثير من أول مجلس للأدبيات الفرنسيات. وعلى تطاول الأيام سيترتب أدبنا حتى يتبوأ مراتب الخلود، ما دام أدبنا وأدبياتنا ينقبون في ذخائر أجدادنا وينفحوننا بنفحات عبقريتهم وإلهامهم. بيروت وداد السكاكيني

الأبداع والأتباع

الأبداع والأتباع بقلم جميل صليبا في سوريا عدد غير قليل من المتعلمين تلقوا مبادئ الحضارة الحديثة وتغذوا بلبان العلم وتهذبت نفوسهم بالأدب وتوصلوا بعد الملاحظة والتجربة إلى درجة من الثقافة والتفكير قد لا تقل عن مستوى المتعلمين من رجال البلاد الأخرى. إلا أن ارتقاء الفكر وازدياد المعرفة لا يقتضيان بالضرورة ارتقاءً في الأدب والأخلاق لأن حكم الحال كما يقول الغزالي غير حكم المنطق والمقال. فقد تنمو المدارك العلمية ويتسع الخيال والتفكير ونجمد مع ذلك العواطف وتجف الميول وتنضب ينابيع الرحمة المنسجمة من القلب فليس كل ارتقاء علمي مصحوباً بارتقاء أدبي، وقد تعرف الشيء ولا تعمل به ولا تدرك الواقع ولا تفكر في إصلاحه لأن العلم بما هو لا يقتضي العمل بما يجب أن يكون. وأكثر الذين ارتقت معارفهم واتسع أفقهم الفكري لا يزالون في إضطراب نفسي وتشويش عملي لأن المثل الأعلى الذي تصوره أعلى من الواقع الذي غرقوا فيه ورغبوا في التخلص منه ولأن الأفق الذي ارتقوا إليه أوسع نطاقاً من البيئة التي ضاقت بأحلامهم. بحثت مرة بين بعض الشبان من طلبة العلم عن الرجل الذي يرغبون في التشبه به وعن الصفة التي يريدون الانتساب إليها فحصلت على نتائج مختلفة تدل كلها على قلق النفس وفقدان الثقة وضعف الإدارة، فأكثر هؤلاء التلاميذ يريدون أن يكونوا مثل غاندي أو مصطفى كمال أو سعد زغلول أو موسوليني أو نابليون. وأحسن المهن في نظرهم السياسة - كما يقولون - والصحافة والمحاماة والطب والهندسة. ولعلهم لم ينتخبوا هذه المهن الأخيرة إلا حباً بالسياسة فكأن السياسة في أعينهم إله معبود أو لعل خير دليل على قلقهم ترددهم ف انتخاب المهنة وعدم ثقتهم بالمستقبل لأنهم لا يجدون فه إلا شبهات وظلمات فوق ظلمات! ففيهم من يريد أن يكون مثل نابليون، إلا أن المهنة التي ينتخبها هي الطب، ومنهم من يريد أن يكون مثل مصطفى كمال ويريد أن يكون في الوقت نفسه شاعراً. فهنالك تضاد بين الغاية والواسطة وتردد في الإدارة وضعف في الإيمان والثقة. ولعل للتقليد والإتباع أعظم الأثر في تكوين هذا القلق في نفوس الشبان لأنهم يقلدون

الحضارة الغربية تارة ويتبعون صور الحياة الماضية أخرى فيتشوش عليهم الانتخاب ويختلط الأمر فتفقد أفكارهم اتساقها وتصبح حياتهم العملية عرضة للاضطراب والتبديل السريع. والتقليد يجعل الإنسان شبيهاً بالآلة، ينقل عن غيره أصول التفكير والعمل من غير أن يكون له فيها حرية الاختيار. وإذا سار المرء زماناً على طريقة الإتباع دون الإبداع ونسج حياته بقواعد النقل لا بأحكام العقل أصابه ركود في الفكر وجمود في العواطف وصار كالآلة يتحرك بغيره لا بنفسه وإذا صار شبيهاً بالآلة خسر صفقته وانحط إلى أدنى درجات الحيوانية. وأي حال هي أشقة من حالة الركود الفكري والجمود النفسي. أفلا يصبح الإنسان فيها خالياً من الذكريات والأفكار والرغائب؟ كأن نفسه قد خلت من التصور وقلبه قد تجرد من العاطفة أو كأن صور الطبيعة المختلفة قد انقلبت إلى صورة واحدة، فلا ابتسام على ثغر الزهر ولا نور في أشعة الشمس ولا أمل في احمرار الشفق! كأن هذه الألوان قد تبدلت وانقلبت إلى لون وائد غامض كما تبدل ألوان الأشياء إذا رسمتها أشعة الشمس. وكأن الفكر قد فقد نوره والعواطف قد أضاعت عذوبتها فانقلبت النفس من حالة الوحي إلى حالة التقليد أو من الحرية إلى التقيد وهي حالة - أعيذك منها - أشبه بالنوم لا بل أشبه بالموت، لأن سكونها كسكون المادة حركتها كحركة الآلة فلا تتخيل ولا تبدع ولا تحلل ولا تركب بل تقلد أفعال غيرها كما تعيد ذرات الهواء حركات الذرات المجاورة فهي كالمادة خاضعة لقانون الاستمرار لا لقانون الإبداع. وحالة الإتباع هذه على عكس حالة الإبداع، لأن النفس في الاختراع تكون مسرحاً للذكريات والأفكار، فتجري الصور أمام مرآة الشعور كما تجري مياه النهر، وتسق في تعاقبها كما تتسق النقرات الموسيقية. وتصدر المعاني العلمية والصور الفنية عن عوامل الحياة الكامنة وراء حجاب الشعور كما يفتح الزهر أكمه بعد دبيب الحياة في ألياف الشجر. يكون الإنسان في هذه الحالة حديد البصر واسع الخيال، يكشف في كل صورة من صور الوجود عن لون جديد، ويرى في كل مادة حيلة جديدة، كأن لغته لغة الوحي والإلهام لا لغة القياس والبرهان، لا يحتاج لسوى الحدس في الكشف عن الأمور العلمية، ولا يعرف غير الذوق في إدراك الأمور البديعية، يتوجه إلى فضاء الفكر ويعلة في جو المعقولات ولا

يحزن لتبدل الأشياء واختلافها، فالمرئيات والمسموعات والمشمومات كلها ناطقة بما في نفسه، والطبيعة لا تتحرك إلا بما يتحرك به قلبه. لقد وصف الفلاسفة هذه الحالة وقالوا إنها حالة تتخمر فيها ميول النفس وراء حجاب الشعور فينجس الاختراع على صورة وحي يسنده المخترع إلى قوة مفارقة له مجردة عن إدارته. فالشاعر يعزو وحيه إلى شياطينه والموسيقار، إلى ألهته، ويظن بأنه يكتب بما يمليه عليه غيره، ويخيل إليه أنه متبع في حين أنه مخترع مبتدع. وهذا مخالف تماماً لحالة الإتباع لأن المقلد قد يظن نفسه مبدعاً للأحوال التي ينقلها عن غيره، كالذي يجرفه السيل فيظن أنه مخير في سيره، وهو مسير لا مخير، تقذفه الأمواج ولا يخطر بباله أن يقف لمحة ف وجهها. على أن المخترع لا يخلو في إبداعه من إتباع المجاري القديمة التي حفرها قبله طائفة المخترعين لأن الهيئة الاجتماعية تؤثر في صور الإبداع كما يؤثر الإقليم في أشكال النبات والحيوان. وللاختراع البديعي أساس اجتماعي كما للاختراع العلمي. لأن الشاعر والموسيقار والعالم والسياسي كلهم يستفيدون من الآثار التي حفظها الماضي في حوض الجماعة المشترك. وهذا ما يمكننا التعبير عنه بقوانا أن الإتباع ضروري للإبداع ولقد قال هنري بروغسون أن إبداع المادة غير ممكن وإن الإبداع لا يكون إلا في الصورة فيمكنك تخليق الأشياء كل يوم بصورة جديدة. ولكن إبداعك لا يعدو التركيب. فأنت إنما تركب صورة جديدة من عناصر قديمة، ولا تتخيل شيئاً إلا على أساس صور المواد المحفوظة في نفسك. نعم إنك قد تتخيل حصاناً مجنحاً ولا وجود للحصان المجنح في الطبيعة إلا أن الحصان والأجنحة كلها موجودة على إنفراد ولولا وجودها لما استطعت أن تتخيل صورة مؤلفة منها. فالإنسان يبدع الصور الذهنية وقد يبدع المعاني والأفكار ولكن هذا الإبداع لا يخرج عن كونه مبيناً عن التجربة. إننا بأحلامنا نضع المثل العليا في السماء، ولكننا إذا رجعنا إلى الحقيقة عرفنا أن هذه المثل العليا منسوجة بخيوط الواقع. أضف إلى ذلك أن للإبداع، فنياً كان أو علمياً، أنماطاً معينة لا يمكن التوصل إليها إلا إذا أطلع المخترع على القواعد والاصطلاحات القديمة. وهذه الاصطلاحات السابقة لا بد للإنسان من اكتسابها حتى تصبح عادة أو طبيعة له، فإذا تعودت وصارت حاضرة في ذهنه أمكنه بعد ذلك أن يضم

بها شيئاً جديداً إلى حظيرة العلم والفن. فالمخترع لا يتقن إبداعه إلا إذا استفاد من الماضي لأن الإتباع ضروري للإبداع كما أن العادة ضرورية للتفكير والحرية. انظر إلى الطريق الذي يسلكه العالم أو الشاعر أو الروائي في إبداعهم، إنهم يتصورون بالحدس، كما قال (هنري برغسون)، معنى مجرداً بسيطاً وخيالاً عاماً مبهماً يقلبونه بالتدريج إلى شكل حسي وصورة متشخصة. فهم يدركون النهاية قبل البداية، ثم يعودون إلى المبدأ فيفكرون في الواسطة التي يمكن الانتقال بها شيئاً فشيئاً إلى الغاية. وعند ذلك تصبح الغاية المجردة حقيقة متشخصة. فالكاتب الروائي يتصور قبل كل شيء مسألة من المسائل الاجتماعية أو قضية من القضايا، ثم يجمع الحوادث ويصور الواقعات ويصف الأشخاص وصفاً يستطيع به تحقيق الغاية التي يتطلع إليها. فالواقعات التي تخيلها والحوادث التي جمعها مقتبسة من الحياة الاجتماعية، ولولا وجود هذه العناصر لما حصل التركيب. ولله در ابن سينا حين قال إن واجب الوجود لا يهب الصورة للمادة إلا عند استعداد المادة لها. فالإبداع يقتضي إذن تحليل المحسوسات المتشخصة إلى عناصرها البسيطة ضمن مركبات جديدة ولذلك كان لا بد في الإبداع من بقاء الآثار القديمة ضمن الصور الجديدة. وهذا ما يبعث على انتشار الأختراع وارتياح الناس إليه. والناس لا يرتاحون كما قال (ويليم جيمس) إلا إلى القديم ضمن الحديث، ولذلك يقلقون أمام الصور الجديدة التي لم يوآلفوها ويتألمون من الصور القديمة التي أصبحت بالية لا تتفق مع روح العصر. والسوريون اليوم قلقون لأنهم مترددون بين الماضي والمستقبل، لا يعرفون أية صورة من صور الحياة يتبعون ولا إلى أي قطب من هذين القطبين يتوجهون، فالماضي يهزهم والحياة الجديدة تستفزهم، إلا أن الماضي المحسوس أثقل على كاهلهم من المستقبل المجرد. وهم أبو أو أرادوا سائرون بحكم الضرورة في تيار المدنية الحديثة. ولعل إبداع صورة صالحة لحياة السوريين الجديدة لا يتم إلا بتحليل هذا الماضي إلى عناصره المقومة. نعم إن البناء في الأمم التي ليس لها ماض أسهل منه في الأمم القديمة ولكن هذه الأخيرة لا تستطيع التجرد من جميع عناصر حياتها السابقة. فالمهندس الذي يبني مدينة جديدة يخططها كما يريد، ولكن المهندس الذي يصلح مدينة قديمة لا يستطيع

إصلاحها إلا بالهدم والبناء معاً. فهو يهدم البيوت القديمة ويستفيد من أوضاعها وأنقاضها في بناء الشوارع الجديدة. يجمع الماضي إلى المستقبل ويضع القديم في الحديث، ولكن الصورة المجردة التي في نفسه هي أصل إبداعه. لأن الفكرة كما قال ابن خلدون أول العمل. إن أسباب القلق في نفوس الشبان ناشئة عن فقدان المثل الأعلى من نفوسهم وعدم وجود تفكير شخصي حر يجردون به عن إتباع الآثار القديمة وتقليد الأوضاع الغربية تقليداً أعمى. ولو أبدعوا لأنفسهم صورة جديدة لارتاحوا في الارتكاز عليها. . . لولا الإبداع لبقيت البشرية مظلمة كما كانت في العصر الحجري. فالإبداع قد ملأ الحياة الاجتماعية بالصور الدينية والعلمية والفنية. وهي بالنسبة إلى الحياة كالزهر بالنسبة إلى الطبيعة. والتوازن المتحرك خير من التوازن الساكن مع الراحة، لأن الحركة أقرب إلى الحياة والحرية. والمرء في التوازن الساكن يعيش مقلداً على نمط واحد وإذا تحرك كانت حركته ميكانيكية. ولكنه في التوازن المتحرك يجدد نفسه وأفكاره في كل لمحة. وكما تقلب العادة الحرية إلى تقيد والنفس إلى مادة، فكذلك يقلب التوازن الاجتماعي الساكن واجبات الإنسان الحر إلى فرائض اتباعية. فالإبداع دليل على الحرية وهو بالنسبة إلى العقل كالحرية بالنسبة إلى الإدارة وإذا تكامل صار كما قال ابن سينا في أعلى درجات التكوين، إلا أن الإنسان بالرغم منه لا يستطيع التجرد من الماضي وكلما كان الماضي بعيداً كانت تقاليده ثقيلة. جميل صليبا

الحق والواقع

الحق والواقع بقلم كاظم الداغستاني ما بزغ فجر الحركة العلمية الحديثة في الشرق العربي حتى نشطت فئة من أبنائه فأقبلت على دراسة العلوم الحقوقية وتفهم ما سنته الأمم، غربية كانت أو شرقية، من شرائع ونظم وقوانين، وزاد في هذا النشاط والإقبال تطور تلك الدراسة وتصنيفها في عداد العلوم لمدرسية الأخرى، فلقد كانت العلوم الحقوقية في جميع أجزاء البلاد العثمانية ومنها بلاد الشرق العربي وفقاً على الشيوخ من رجال الدين والمتفقهين، وكانت الشريعة الدينية والفقه الديني والقضاء الديني المراجع الوحيدة للحكم في جميع القضايا الحقوقية والجزائية والتجارية والإدارية وغيرها من فروع الحقوق، ودام الأمر عل هذا حتى عهد التنظيمات الخيرية التي جرت في زمن خلافة السلطان عبد المجيد سنة 1839 حينما شرع العثمانيون بنقل القوانين عن الغرب وتعديل أكثرها ثم توكيل أمر النظر فيها إلى محاكم نظامية أقاموا ف سنة 1879 عدداً منها في المدن والأمصار. ومن أسبابا انتشار الدروس الحقوقية في الغرب في الشرق العربي أيضاً البعثات العلمية إلى الغرب وما أنشئ من معاهد ومدارس للحقوق في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد ولقد سرت عدوى دراسة الحقوق سرعاً فكثر الإقبال على هذه الدراسة حتى أوشك أن لا يتناسب مع دراسة العلوم الأخرى. ومما يسترعي انتباه الباحث أن هذه الدراسة كانت في جميع وجوهها مقتصرة على درس الحق دون الواقع ونريد هنا بالواقع ما يحترمه الناس، ويجرون على مقتضاه، ويعملون على الاحتفاظ به دون أن يكون هنالك من القوانين والأنظمة ما يؤيده، ويدخل في هذا الباب طائفة كبيرة من التقاليد والعادات والأنماط التي ما برحت تجري مجرى العرف ولا يجمعها قانون أو يضمها نظام، فيرجع في تفهمها إلى ما عرفه الناس عنها وما حفظوه من أصولها. قد يتفق الحق مع الواقع فيكون الأمر من الوجهة العلمية كما هو من الوجهة القانونية، ولكن كثيراً ما نجد حكماً من الأحكام أيده الحق ونص عليه، ولكن الواقع يخالفه أو يفرق عنه. ولعل أوضح مثال نضربه على ذلك، تعدد الزوجات، فهو حكم ما برحت تنص عليه وتبيحه شرائع بلاد الشرق العربي، ولكنه في الواقع ندر في المدن الكبرى وقل كثيراً في المدن الصغرى. وكذلك حظ المرآة من الإرث فإن القوانين في جميع بلاد الشرق العربي ما

برحت تنص على أنه نصف حظ الذكر، ولكن في الواقع وعلى الأخص في القرى البعيدة وبعض المدن الصغيرة وعند الأعراب المتحضرين فإن المرآة قا أن تصل إلى نصيبها هذا من الإرث الذي منحها إياه الشرع الإسلامي وحال الواقع بينها وبين الوصول إليه. ودراسة الواقع لها من الأهمية شأن كبير فيتفهم أمزجة الشعوب وطبائعها وعاداتها وتقاليدها، ويزداد شأنه وتعظم أهميته حينما تعمد الدولة إلى وضع وسن الشرائع وتعديا الأنظمة وجعلها تفي بحاجة البلاد وتفق مع تقاليدها وتؤول إلى نهضتها وتقدمها في معارج المثل العليا التي تطمح إليها. يرى فريق من علماء الاجتماع المعاصرين وفي مقدمتهم دور كهايم أن أوضاع الحياة في الجماعة البالغة لا يمكن أن تتطور حتى تتبعها القوانين والأنظمة فتتطور معها فهي دائماً مرآتها تنعكس على صورتها فتتحول بتحولها وتتناسب معها حتى لا تكاد تفرق عنها، وهكذا فإن الدارس المتتبع يستطيع أن يستنبط من حقوق الجماعة وقوانينها صور أخلاقها ومبلغ التعاضد الاجتماعي القائم بين أفرادها وما قطعته من مراحل اجتماعية في حياتها الغابرة والحاضرة. وإذا اعترض معترض على هؤلاء العلماء وضرب لهم الأمثلة على أن الواقع كثيراً ما يختلف عن الحق وأن التقاليد والعادات كثيراً ما تبقى قائمة بذاتها دون أن تؤيدها أو تقيدها النظم والشرائع، أجابوا بأن هذه الحال إذا وقعت فهي حال استثنائية أو كما يسموها (مرضية) لا تلبث أن تزول متى عوفيت الجماعة وعادت سيرتها الأولى في طريق تطورها الطبيعي، فالقاعدة العامة في نظرهم هي أن الحقوق وما يتبعها من قوانين ونظم لا تبرح صورة صادقة عن الواقع وما جاء على غير هذه القاعدة فهو من المستثنيات وأن الأصل في الجماعات كما في الأفراد هو الصحة أما المرض فعرض طارئ قد يحل الشفاء محله أو يستعصي فيذهب بحياة المصاب به. ويرد على رأيهم هذا ما يدلي به آخرون من علماء الأخلاق والحقوق والاجتماع مقدمتهم الأستاذ البيرباييه، وملخص ما يقيمونه من الأدلة على ضعف هذا الرأي أن هنالك مجموعة من الأخلاق والعادات والتقاليد لا يمكن أن تنص عليها القوانين أو تؤيدها الحقوق فليس في قوانين الجزاء مثلاً ما يجبر على عمل الخير وعمل الخير واجب احترمته أمم الأرض وتسابقت في مضماره منذ أقدم الأعصر وليس في قوانين الجزاء أيضاً ما ينص على

عقاب موسر قدير امتنع عن معونة جائع يشرف على الموت على أن في التقاليد والأخلاق ما يستهجن ذلك ويستقبحه، وكذلك شأن تاجر قوي ما برح يضارب خصمه الضعيف ويزاحمه حتى أفقده كل ما لديه من مال وأنزل به من ضائقات العيش ما حداه إلى اليأس القاتل، وإن كثيراً من رجال تعتبرهم الناس جناة آثمين وليس في القانون ما يوجب أخذهم بجريمتهم لأن الشارع لم يعد عملهم جرماً أو خطيئة، وكثيراً ما تحتوي القوانين على أحكام أهمل العمل بها أو حالت التقاليد وما جرى مجرى العادة دون تنفيذها أو العمل بمقتضاها. ومن جملة الأدلة التي يقيمونها أيضاً على بعد الشقة في كثير من الأحوال بين الحق والواقع هذا النقد الذي كثيراً ما يوجهه العلماء والكتاب والشعراء في الكتب والصحف وعلى المسارح إلى بعض الأحكام، فيعرضون طائفة من أمراض اجتماعية أهمل أمرها واضعوا القوانين وصنوفاً من مظالم أخلاقية قصرت النظم الموضوعة في تلافيها، وينددون في بكثير من مناحي القانون، مشيرين إلى عدم مطابقتها للواقع ولما يتفق مع الشفقة والعدل أو لما تتطلبه الأمة من أغراض ومثل عليا في حياتها مما يصح القول معه أن حقيقة الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية في الأمة لا تظهر جلية واضحة في قوانينها بل في كتابة من يعترضون لنقد تلك القوانين وتنفيذها. وإن كان هذا الفرق بين الحق والواقع لا يبرح ظاهراً حتى في جماعة قدم عهدها في نهضتها وفي تعديل قوانينها وإصلاحها وفي اتساع نطاق تقسيم الأعمال فيها فكيف يكون شأنه في جماعة لم يمض عليها زمن طويل في وضع قوانينها الحديثة وتعديل نظمها القديمة؟ لا شك أنه يكون أكثر ظهوراً وأشد خطراً. ويزداد هذا الفرق خطورة في جماعة اختلفت سكان بلادها في وجوه معاشهم وطراز حياتهم الاجتماعية والاقتصادية فكانوا ومنهم الحضريون سكان الأمصار، ومنهم الفلاحون أبناء الأرياف البعيدة، ومنهم الأعراب المتحضرون الساكنون في البيوت أو في المضارب أو المتنقلين في مشارق البادية ومغاربها. إن الحقوق وجدها في مثل هذه الجماعة لا يمكن أن تؤدي إلا صورة مبهمة تفرق كثيراً عن الواقع فلا تمثل إلا ناحية لا شأن لها من نواحي الحياة فيها. ودرس الواقع في مثل هذه الجماعة هو الأساس النهم في تفهم أوضاعها والوقوف على ما يجب معرفته من أهدافها وما يتطلبه تحقيق الأهداف من نظم وشرائع. ولعل أهم سبب في انصراف

الطلاب والمشتغلين في الحقوق عن درس هذا الواقع ووصف صوره في مختلف أقطار الشرق العربي هو الصعوبة التي يلقاها من يود التعرض لهذه الأبحاث لأن درس الحقوق لا يحتاج لأكثر من الانصباب على ما في بطون الكتب والمؤلفات، أما درس الواقع فهو يحتاج لجمع المواد من مواقعها ودرس الأوضاع في مواطنها وتحقيق ذلك يدعو لأسفار ورحلات في مختلف الأقطار حاضرها وباديها، عامرها وغامرها، والجري في تصنيف هذه المواد ووصفها على الأصول الأتنوغرافية الحديثة التي تتطلب دقة في مراقبة الظواهر الواقعية، والنعمق فيوصف تفاصيلها، وتحديد المواقع التي جمعت منها، والزمن الذي جمعت فيه والجماعات التي عملت بها، مع بيان الفوارق بين مختلف الطبقات في كل جماعة من هذه الجماعات والإلمام بكل ما من شأن أن يوضح هذه الموارد ويؤيد الثقة بصحتها. وهنالك عوائق أخرى من أهمها أن المشتغلين في دراسة الحقوق كثيراً ما تأبى عليهم نفوسهم أن يجمعوا الكثير من هذه التقاليد والعادات والأوهام سواء كانت حضرية أو بدوية، شعبية أو خاصة بطبقة من الطبقات فيعرضونها على أنظار الناس من المواطنين والأجانب، ظناً منهم بأن فيذلك بعض الغضاضة، مع أن أعرق الأمم في الحضارة كالأمة الانكليزية والفرنسية والألمانية لم تخل حتى اليوم من أمثال هذه العادات والأوهام التي انصرف علماؤهم وفقهائهم لجمعها ووضع المؤلفات الكبيرة عنها ومن أشهر هؤلاء المؤلفين في هذا العالم الذي سموه الفولكور البحاثة المعروف السير جيمس فريزر الذي لم يكد يترك خرافة أو عادة من التقاليد والخرافات والأساطير الانكليزية خاصة والأوربية عامة إلا وصفها وأتى على ذكرها. والشرق العربي، بعد أن وصلت دراسة الحقوق فيه إلى ما وصلت أحوج ما يكون لدراسة الواقع وجمع ما تبعثر في مختلف أقطاره م مختلف التقاليد والعادات والمشترع الذي يتصدى للبحث فيما يجب أن يكون، يتحتم عليه أن يعرف ما هو، ومن العبث أن يتصدى المصلح الاجتماعي لتعديل وضع من الأوضاع الاجتماعية قبل أن يعرف شكل هذا الوضع ويقف على كنه صوره في مختلف أقطار البلاد التي ينتسب إليها، ولقد أتاحت لنا دراسة من هذا النوع، تصدينا لها في سورية خلال سنوات عديدة أن نتأكد بأننا كالكثيرين من زملائنا نجهل الكثير مما يجب أن نعرفه عن الجماعة التي نعيش فيها جهلاً فادحاً قد لا

يتفق مع ما نعرفه عن الجماعات الأخرى الغربية عنا، ولو أراد الباحث أن يرجع إلى ما يتطلبه من مؤلفات في هذا البحث لتعذر عليه الاهتداء إلا إلى نتف مبعثرة في صحف بعض الكتب والمجلات وأكثر مما عالجه المستشرقون ممن انصرفوا لمراقبة هذه الأمور فتفهموها كما أرادوا أو الكتاب والسائحون الغربيون الذين مروا بنا في طريقهم فكان جل ما كتبوه وصفاً روائياً خيالياً لا يتفق مع الحقيقة ولا يصلح للعلم أن يقتبسه أو يستند إليه. نحن نعرف وقد علمتنا التجارب أن في درس الواقع في مختلف أقطار الشرق العربي صعوبات جمة يحتاج تذليلها الجهد هو أولى بالجماعات منه بالأفراد ولكن هذه الصعوبات يجب أن لا تثنينا عما لا منوحة عنه من إصلاحنا الاجتماعي وإعداد قوانيننا الآتية وتسيير نهضتنا القومية الحديثة في طريقي الحق والواقع معاً. كاظم الداغستاني

الاصطفاء الطبيعي

الاصطفاء الطبيعي وبقاء الأنسب فصل من رواية حياة سيارة لإيليا ارينبورغ يعيش (بوهان بريغر) في (لايبزيغ) مدينة التجارة. هنالك تطبع الكتب الدراسية للكيمائيين الناشئين. وهناك تباع مواد التدخين الفاخرة. وهنالك تعقد مؤتمرات العاطلين عن العمل. فمن الطبيعي أن لا يكون عدد السيارات فيها قليلاً. ليس ليوهان (بريغر) سيارة. ولكن السيد (شتوس) يملك سيارة بديعة من جنس (مرسيدس). فأنه صاحب مطبعة لا مثيل لها. يطبع وريقات في منتهى الذوق الفني تلصق على زجاجات الخمور والعطور وعلب (السيكارات) الثمينة. أنها أحسن مطبعة في ألمانيا لطبع هذه الوريقات. ولذلك فمن حق السيد (شتوس) أن يملك سيارة بديعة من جنس (مرسيدس). وله الحق أيضاً أن (يزمر) بكل فخر في منعطفات الطرق. وكرجل رياضي فهو يسوق سيارت بنفسه في أكثر الأحيان. يسكن السيد (شتوس) خارج المدينة ويجوب بسرعة مائة كيلو متر في الساعة. أنه يحب السرعة في كل شيء. ففي مطبعته أحدث الآلات وأحسنها وأسرعها، متى يدخل المطبعة تنحني الآلات طائعة مستعدة للخدمة. وآلات القطع تنحدر فيستطيع السيد (شتوس) أن يطبع في النهار أكثر من (800000) وريقة. وريقات صورت عليها راقصات إسبانيات بمراوحهن أو رسمت عليها مثلثات ملونة وفيها مديح لعطر (آدونيس) أو خمر (بوردو). يعرف السيد (شتوس) قيمة الإعلانات الحديثة وتأثير الألوان الحقيقية. ثم أنه أحد الذين يعملون على أنهاض ألمانيا من جديد. ولا يبزيغ، مدينة التجارة، فخورة بالسيد (شتوس) عن حق. ولكن في (لايبزيغ) المعتبرة أيضاً تعثر عين المصحح المجرب على أغلاط مطبعية. بماذا يشتغل مثلاً (يوهان بريغر) هذا؟ هل بالضرورة من العاملين لأحياء ألمانيا وبعثها من جديد. أنه لا يصنع طيارات (زبلين) ولا يستحصل أصبغة (الآنيلين) بل أنه لا يبيع حتى

(القديد). أنه يقوم بعمل جنوني فهو يدرس الأناشيد القديمة لدى مختلف الشعوب، ويقايس بينها. ويؤلف كتاباً عن وحدة الموضوع فيها وعن توافق المشاعر عند توافق الأعمال وعن فضل الشرق في الأدب الغربي. كل هذه الأمور لا يحتاج إليها الناس. فلا يمكن أن تصنع منها اسطوانة للفوتوغراف أو رواية للتمثيل أو دليلاً لوكلاء التجار السائحين الذين يهمهم معرفة شيء عن نفسية الشعوب التي يسافرون إلى بلادها والتي تشتري السيارات أو أصبغة (الآنيلين) من ألمانيا. ولكن (بريغر) يشغل نفسه بأناشيد لم يعد أحد يغني بها. ويبحث في لغات لم يعد أحد اليوم يتكلم بها فأن سكان برلين أخذوا منذ مدة طويلة يعزفون مقطعات (الفوكستروت) عوضاً عن الغناء بأناشيد قديمة بلهاء. ويظهر أن هناك بعض شواذ الناس قد وقفوا شهرياً (110 ماركات) على بريغر لمساعدته في عمله. وهو يعيش بهذا المبلغ فيأكل (البطاطا) بدون سمن ويحاول أن يكتب بخط ناعم على قدر الاستطاعة ليقتصد من الورق. ثيابه ممزقة. وهو فقير في رئته اليمنى جرح ولكنه مثابر رغم ذلك على العمل. أنه لا يعرف شيئاً عن معاهدة (لوكارنو) وليس له من علم على وجود سيارة باسم (مرسيدس). بل يجهل أن ألمانيا في طريق النهوض. أنه يجلس طوال النهار ويشتغل في قميصه لئلا تتخرق ثيابه عند المنكبين. ومساء يذهب قليلاً إلى (الزه بريخت) التي تبيع عطر (آدونيس) في إحدى المحلات التجارية. فيقص عليها في كلمات مرتبكة عن الأساطير الهندية وعن تأثير العرب في إشعار (كاستيليا). وفي هذه الأثناء يسمع السيد (شتوس) في ملهى (آستوريا) إلى أغاني (الشارلستون) الجديدة. وإلى جانبه فتاة شقراء معوجة الأنف تتوجع والسيد (شتوس) يخزها بأبرة. والفتاة سعيدة لأنها تعرف جيداً من الذي يخزها. وأمام الباب سيارة مرسيدس غارقة في النوم تحرسها عين البواب. وللشقراء كل الحق في أن تفرح إذ أن السيد (شتوس) قد نال في معرض (كولونيا) وساماً ذهبياً. وكان في السنة الماضية ربح (860000) مارك وقبل مدة قصيرة نشر رسمه في الملحق المصور لأكبر جريدة في (لايبزيغ) ومتى جلس رجل كهذا للهو فإن جميع الذين حوله يصبحون سعداء سواء الخدم أو الفتاة الشقراء أو الموسيقيون. أليس السيد (شتوس) من أكبر العملين لأنهاض ألمانيا؟

عثر بوهن بريغر اليوم على نشيد قديم للسلت عن شجرة التفاح كيف تبدأ بعد تعهدها سنين طويلة بالعناية، تحمل أزهاراً غضة فإذا ريح قوية تقلع الشجر من جذورها. ويسأل الشاعر حبيبته ماذا تريد أن تكون فتجيب: إنما أريد أن أكون شجرة التفاح النضرة تنو رويداً وتزهو وتذبل سريعاً متى هبت الريح العاصفة. . . كان سرور (يوهان بريغر) بهذا النشيد عظيماً. ولا يشعر السيد شتوس بمثل هذا السرور إلا إذا جاءه على غير انتظار طلب بنصف ميليون من الوريقات ذات الألوان الثلاثة. . . كان يوهان ذاهباً مساءً إلى صديقته الزه في شارع ويلهلم. إنه سيقصص عليها اكتشافه السعيد. كان ماشياً يكرر في نفسه أبيات النشيد: ثم تزهر شجرة التفاح. . . والناس الذين يمرون من الطريق يصطدمون به من حين إلى آخر أنهم قد أنجزوا أعمالهم ويسرعون الآن إلى بيوتهم. لقد اشتغلوا طوال النهار في المطبعة أو في تنظيف أنواع الفرو العفنة أو في محلات مبيع القديد. ويردون أن تستريح أقدامهم في البيت فيعلقون على أذانهم آلة الراديو ويستمعون، مثل السيد (شتوس) إلى أغاني (الشارلستون) الحديثة. وهم يسيرون، بطبيعة الحال، في الجهة اليمنى من الطريق فيصطدمون، ممتعضين ببريغر ويعجبون من هذا الثقيل الأبله الذي لا يتقن حتى السير في الطريق. اجتاز يوهان الساحة. فإذا ريح قوية، تقلع جذور الشجرة. . . ما أجمل هذه الأنشودة القديمة. أنها لا بد أن تنال إعجاب صديقته الزه كانت مشية (يوهان) غريبة في حذائه العتيق. وكان لا يسمع أصوات السيارات ولا يرى إشارة الخطر المطبوعة بالدم الأحمر. ولا يبصر (عيون) السيارة الجسيمة التي تبرق نوراً. بل كان يتمتم في نفسه: وإنما أريد أن أكون شجرة التفاح. وهن وقع ما يسميه الناس حادثاً. ونقل جسد وهان بريغر إلى مخفر الشرطة. وكان السيد شتوس في غاية الغضب. نعم، إن سيارته لم يصبها أي عطل. ولكنه أضاع بسبب هذه المعاملة الرسمية في المخفر ربع ساعة من وقته وقد اضطر لإبراز أوراقه المثبتة كأن ذكر اسمه وحده لا يكفي في (لايبزيغ). ثم كان عليه أن يوقع على ورقتي ضبط طويلتين. أنه قد عمل كثيراً طوال النهار. ومن حقه أن يستريح في المساء. وهي يريد أن يضحك وينشرح في آستوريا وإذا كان هذا الرجل أصم فكيف لم يبصر إشارة الخطر. وإذا كان

أعمى فلماذا لم يصطحب معه كلباً هرماً يقوده. والظاهر أنه كان مجنوناً فأن أوراقه تشير إلى أنه دكتور في الفلسفة. أجل فيلسوف! أي أحد أولئك الذين يعدون النجوم ويسرقون البرتقال من الحوانيت. فلماذا إذاً تظهر شرطة لايبزيغ كل هذا الاهتمام. أن كتاب بريغر الذي أشير في عداد نيسان من المجلة الفلسفية إلى قرب صدوره لن يتم أبداً. وعوضاً عنه سوف تنشر كتب أخرى. فأن في لايبزيغ كثيراً من المطابع. والزه بريخت لن تعلم شيئاً عن النشيد السلتي. وفي الحقيقة أنها سئمت منذ مدة طويلة هذه الأناشيد المحزنة. وهذا الشاب ويلي الوظف في مصرف درسدن يعرف أغنيات جميلة أدعى للاهتمام مثل: أنا وجيم التقينا في الأسانسور. أنها أغنية مضحكة فيها روح ونار وجميل جداً للرقص على أنغامها تحركت سيارة مرسيدس من المخفر منتصرة. وقد انتهز السائق الفرصة ومسح الأقذار من الدواليب. ويوهان بريغر لم يبق له ذكر، وفي الحانات تلمع زجاجات الخمر النفيس. وأخيراً فقد ظهر اسم عطر جديد. وهاج سرور السيد شتوس فقد جاءه طلب بثلاثمائة ألف وريقة علها رسم فتاة يابانية بلباسها الوطني مع إطار مذهب وفي آستوريا تنتظر الفتاة الشقراء. كان محرك السيارة وقلب السيد شتوس ينبضان على وتيرة واحدة. كلاهما قوي وجميل. والقرابة بينهما تزداد بعد كل منعطف. وبعد ساعة كان السيد شتوس قد افرغ زجاجة الشمبانيا في جوفه وأخذ يعربد ويصرخ مثل سيارته. وامتقع لون الفتاة من الوجد. في صدر السيد شتوس كان ينبض قلب بقوة 40 حصاناً وفي عينيه النهم والرهبة. كأنهما عينا السيارة المشتعلتان كما رآها بريغر وهو يموت. . . . تعريب كامل عياد

القصص

القصص مليحة بقلم كاظم الداغستاني من فائز إلى مليحة دمشق في 25 أيلول سنة 929 لقد مضى مع مقامك مع والديك في بحمدون شهور لم يصل إليّ في خلالها شيءٌ من أخبارك. لقد قبل سفرك أن تكتبي لي من حين لآخر فهل أصبح من الصعب على من كانت أولى الصف في الإنشاء العربي كتابة بضع أسطر لأحدى رفيقاتها القديمات؟. ليس لدي من الأخبار في دمشق ما يهمك الإطلاع عليه سوى إني ألقيت في الأسبوع الماضي الراهبة الأخت سيسيل أستاذتك القديمة، وقد ذكرت لي وهي تعرف ما بيننا من أواصر الود، أنها لم ترك منذ وقت طويل ثم سألتني عن أحوالك وعن البلد الذي تقضين فيه شهور هذا الصيف وفيما إذا كان من الصحيح إنك مخطوبة لحسن بك الكندي وقد أضافت على ذلك بقولها أنها لا تجد أحق منك بهذا الشاب المثري الذي يعد اليوم من نوابغ السوريين. وأعلمك بأنها ليست الأولى التي تسألني عن ذلك، فالإشاعة حول هذه الخطبة تدور في أكثر البيوت في دمشق حتى يقولون بأن عقد القران لا يلبث أن يتم عقب عودتكم إلى دمشق، ولم يبق الآن إلا موافقة الباشا والدك. لقد خففت من حنقي عليك حينما ذهبت بي الاعتقاد إلى أن مشاغلك الذهنية في أمر هذه الخطبة هي التي قد تكون ألهتك عن موافاتي بأخبارك، على أني أميل إلى الظن أيضاً بأن هذه المشاغل كلها لن تمنعك من أن تبر بوعدك فتكبين لي فلقد أصبحت أشوق ما يكون إليك يؤلمني هذا الفراغ الذي أشعر به في نفسي منذ افترقنا. عهدتك لا تخفين عليَّ شيئاً من شؤونك فاكتبي لي عما تقرأين في هذه الأيام وبماذا تفكرين وكيف تقضين الوقت في بحمدون ولا تنسي أن تقدمي احترامي إلى السيدة والدتك. من مليحة إلى فائزة بحمدون في 28 أيلول سنة 929 ما أكرمك في الود يا صديقتي العزيزة وما أشد وفاءك. لقد كانت على وشك أن أكتب إليك

حينما تلقيت رسالتك لي إذاً إلا أن أضاعف الصفحات وأسهب في القول. لقد أصبت حينما سميت ما اتصل بك من أمر خطبتي بالإشاعة وثقي بأنه إذا صح هذا الخبر فليس ما يكفي لأن يلهيني عنك أو ينسيني ودك وصداقتك. يخيل إليّ أن الأيام التي أقضيها هنا متشابهة الصور لا أكاد أجد فرقاً بين صبحها ومسائها وكثيراً ما استغرق ذاهلة فلا أدري ما أريد ولا ما أشتهي. أن والدي ما برحا يحوطاني بكل أسباب الرفاه والنعمة فهما لا يريان هناءً غير هنائي ولا سعادة غير سعادتي. ولقد شاء أبي أن يترك لي أيضاً في بحمدون كما في دمشق ملء الحرية في الحياة التي أحياها وكل الخيار في غدواتي وروحاتي، فهو يأبى أني يسألني إلى أين ذهبت أو من أين أعود ولعل هذا هو السبب فيما أعانيه، لأني أكاد أحاسب نفسي على كل خطوة أخطوها في بلاد رزحت تحت أعباء التقاليد القديمة فأخشى أن يتصل به عني من الأقاويل ما يعكر ولو جانباً من صفو راحته ويكدر عليه هناءه وسعادته بي، حتى أني كثيراً ما أختار البقاء في لمنزل خلال أيام كثيرة، وإذا خرجت للتنزه في بحمدون أو في ضواحيها فضلت أن أكون مع جمهور من الجارات والقريبات وبينهن الكثيرات ممن أغالب نفسي مغالبة على محادثتهن ومجاملتهن. أؤمل أن لا أكون أمللتك كثيراً من هذه الشكوى التي لم أجد بداً من بثك إياها ولعلني لو انصرفت عنها إلى الأجابة عما تسألينني عنه مما أطالعه في هذه الأيام لعز عليّ على سبيل القول لأنني وأنا على ما وصفته لك لا أكاد أقرأ بضع صفحات من الكتب حتى أمله، فانقل منه إلى غيره، ولا أدري هل سيكون شأني كذلك مع الكتاب الوحيد الذي استهواني منذ يومين فانقطعت إليه أقرأ فيه بشوق ولذة. وغريب أن يستهويني كتاب علمي جاف كهذا عهدت نفسي لا تألف مطالعة أمثاله من قبل ولعل السر في ذلك أني أجد فيه ما يتلائم ويتفق مع ما يدور خلدي من آراءه لا أكاد أجد أن العلم يؤيدها حتى اصفق لنفسي بنفسي وأتيه بذاتي على ذاتي عجباً وخيلاءً. عنوان الكتاب الذي أطالعه هو المرأة في العائلة ومؤلفه لابي أحد أساتذة علم الاجتماع. وأهم ما يمكن أن ألخصه لك مما قرأته فيه حتى اليوم هو أن المؤلف درس حال المرأة في الأسرة عند ثلاث جماعات: المصريين القدماء والهنود الحمر والأميركيين في هذا العصر.

وقد استخلص من الحادثات التي وصفها عند هؤلاء الجماعات في جملة ما استخلصه أن قدر المرأة يعلو في الجماعة على نسبة قدرها في العائلة، وإن مكانة المرأة تسمو في عين زوجها إذا كانت لا تقل عنه أو كانت أكثر منه ثروة أو ذكاءً أو علماً ومعرفة، وعلى الأخص إذا كانت من أصل أو بيت تعتبره الجماعة أكثر شرفاً وأعظم وجاهة. والمجال هنا أضيق من أن يتسع لأن أورد لك كل ما يقيمه المؤلف من البراهين والأدلة على ذلك مستشهداً بالكثير من وقائع الماضي وحوادث الحاضر. فالأولى أن أبعث إليك بالكتاب في الغد، وربما أتيح لي أن أجادلك قليلاً في موضوعاته وأبحاثه في دمشق بعد أن قرب موعد رجوعنا إليها. لقد بدأت نسمات لبنان تهب في الصباح والمساء باردة قاسية لا نستطيع أن نستقبلها وصدورنا عارية وقد شرع المصطافون يتفقدون من ضواحي البلد ما لم يزوروه بعد ويعدون معدات الرحيل والسفر. ليس لديّ من حوادث جديدة أطرفك بها، ولعل أحدث ما لديّ منها هي أننا قضينا قسماً من ليلة الأمس في صوفر حيث حضرنا حفلة موسيقية في الفندق الكبير. ولا يذهب بك الظن أننا تفرنجنا كثيراً في هذه الحفلة فلقد جلس أبي مع رفاقه بعيداً عنا وانضممنا نحن إلى النساء المسلمات من قريباتنا ورفيقاتنا اللاتي عزلهن صاحب الفندق إرضاءً لرجالهن، عن بقية الحاضرات والحاضرين بجدار خشبي متحرك، فكنا في مجلسنا كالقطيع من الغنم يحوطه راعيه إذا جن الليل من قضبان الشجر فيأمن عليها من مهاجمة الذئاب له. على أن هذا لم يمنع الكثيرات منا أن يفلتن من الزريبة ليتحدثن إلى بعض رفيقاتهن من السيدات المسيحيات اللواتي جئنا معنا من بحمدون لحضور هذه الحفلة. وعلى الجملة فقد كانت السهرة أنيقة مفرحة طربت لها وذكرتك كثيراً فيها. ألا ترين بأنه قد آن لي أن أختم رسالتي؟. نقلت سلامك إلى والدتي فشكرتك فانقلي بدورك سلامنا إلى الوالدة والشقيقات وثقي دائماً بحبي لك وبقائي على عهدك. - ما شاء الله يا باشا إنه مطر غزير لم تر مثيله دمشق منذ سنين!. هتف بذلك الشيخ سعيد وهو يغلق الباب من ورائه بعد أن سلم ونفض ما علق على أكمام جبته وجوانبها من رشاش الغيث الذي كان يسمع من في القاعة صدى أنهماره على صحن الدار المتلألئة بأشعة الكهرباء ثم انتحى ناحية الموقد وأخذ مجلسه وهو يدير نظره في

وجوه الجالسين فيحيي كل واحد منهم على حدة. ومشى الخادم ببطء يحضر للضيف الوافد القهوة البدوية ثم النارجيلة يفعم رأسها بالتنباك العجمي الفاخر، وحميد باشا صاحب البيت ولوع بانتخاب أنواعه يجلبها خصيصاً في كل سنة من طهران فلا بخل بها على سماره ممن اعتادوا أن يقضوا سهرات الشتاء عنده في قاعة المنزل البراني وهم كثر مواظبون. ولعل صّبارة البرد وتهطال الغيث في هذه الليلة حالا دون مجيء بعضهم، فكان عددهم لا يربو على خمسة كلهم من حي القنوات الذي نشأ فنه الوجيه صاحب البيت وأجداده من قبل. وأخذ القوم يتحدثون بما في شأنه أن يطرب مضيفهم. وجرى بهم حديث المطر الذي جاء به القادم الجديد إلى الحديث عن الزرع وموسمه وعن الكلأ والخصب في البادية وفي الضواحي وعن الخراف ومراعيها ولحومها. وهنا انبرى الشيخ سعيد بطرف القوم بنكاته ويتبسط في وصف المآكل الشامية فيقارن بينها وبين المآكل العراقية والمصرية ويذكر ما للحوم الخراف التي ترد إلى الشام من ديار بكر من لذة فائقة يعرفها جاره أبو صالح الذي يختارها دائماً لأنواع المحشيات ثم يروي في شيء من التمثيل المسرحي أن أبا صالح رأى عند مطلع الشمس وهو واقف أمام داره قطيعاً من هذا الغنم يسير به راعيه إلى أحد تجار اللحوم، وفي مؤخرة القطيع خروف سمين استرعت أليته الغضة انتباه أبي صالح وهيجت كوامن شهيته فتبع القطيع إلى الطرف الآخر من المدينة وما زال يسأل ويتتبع حتى عرف التاجر الذي تسلم القطيع واللحام الذي اشترى الخروف العزيز وعرف موعد ذبحه فتواعد فتواعد واللحام أن يأتيه في ذلك اليوم وبرّ بوعده فاشترى من لحمه وأعطاه أهل بيته فطبخن له فخذاً وكوسى محشياً دعا إليها جاره الشيخ سعيداً فأكلا ما شاء الله أن يأكلا ولم يذوقا من بعد لحماً ألذ ولا محشياً أفخر. ويضحك القوم معجبين بالقصة ويجاريهم مضيفهم حميد باشا وفي ضحكته شيء من التكلف، فقد كان كمن يصغي للشيء وهو يفكر بسواه على غير ما اعتادوه منه ويستمرون في سمرهم وأحاديثهم وهو يتكلف الجري معهم والإصغاء إليهم، وكثيراً ما يبلغه ما يجول في ذهنه من شؤون هي أطرب على نفسه مما يسمع فيطرق مفكراً ثم لا يلبث أن يستعيد ما فاته من كلام محدثيه فيضحك له ويتظاهر بالاهتمام به. ومضى الهزيع الأول من الليل فاستأذن الأضياف منصرفين أبكر مما اعتادوا وغادروا حميد باشا قاعة البيت البراني إلى

منزله الداخلي حيث تسكن عائلته. وهتف بالخادمة العجوز يسألها عن زوجه وابنته فأعلمته بأنهما نامتا منذ قليل فيأوي إلى غرفته وهو حريص على أن ينعم لوحده بخبر ما اتصل به قبل أن يذيعه على ذويه. نشأ حميد باشا في دمشق وشب فيها ثم اصطحبه أبوه القائد حين باشا إلى الأستانة فأدخله الجيش وما هي إلا سنوات أنقضت حتى أصبح من الضباط الذين تتردد أسماؤهم في أورقة الباب العالي وقاعاته. وزوجه أبوه بابنة صديقه القائد الشركسي عاصم باشا فوجد بها زوجاً صالحة حفظت ذمته ورعت عهده وأعانته بعد وفاة أبيه على المضي فيما طمح إليه حتى أصبح من أكب قادة العرب السوريين في الجيش العثماني ولقد أوشك أن يكون من ذوي الشأن العظيم في الدولة لولا عنجهية بقي أثرها في نفسه فلم تلتئم مع ما يطلبه عراك الرجال في قصر يلدز من اللين والنفاق والخبث. ولقد كان مع جل مواقفه أنوفاً تأبى عليه شخصيته القوت أن تضمحل أو تتصاغر أمام من هو أرفع منه درجة وأسمى مكانة. وزادت هذه العاطفة فيه نمواً حتى أنف حياة الجندية وانفصل عنها فعاد إلى وطنه القديم دمشق حيث خلف له أبوه ثروة طائلة من الضياع والأملاك بصبحة زوجه ووالداه وطائفة من جواريه وخدمه. وما هي إلا سنوات حتى ضربه الدهر ضربة قاصمة ذهبت بابنه الشاب وهو أشد ما يكون نضارة ونشاطاً، فبكاه بكاءً طويلاً مراً، ونالت منه المصيبة حتى أوشك أن يجد سبيلاً إلى السلوى لولا بقية من الأمل أحياها مع الأيام في نفسه ما بقي له من عزاء في ابنته مليحة، فزهد في كل شيء إلا التفكير في إسعادها وهنائها فانصرف إلى أجابة رغباتها والسهر على تعليمها وتربيتها وزاد في سلواه بها بعد أن بلغت العشرين من العمر إعجابه بما اجتمع فيها من جمال أمها الفاتن ونفس أبيها الأنوفة العزيزة. ولقد كان ولوعاً بالتقاليد القديمة محافظاً عليها لولا أن حبه لأبنته جعله يرضى بكل ما يظن فيه هناءها وسرورها حتى لو أنه رآها سائرة في شوارع دمشق وهي حاسرة نقابها عن وجهها لأختار تقد الناقدين من مواطنيه ونيلهم منه على كلمة عتب أو تأنيب يوجهها إليها. وانصرف همه كله إلى اختيار زوج لها، ومضت سنون وهو لا يكاد يجد بين خاطبيها الكثيرين من هو كفؤٌ لها جدير بإسعادها، حتى جاءه في مساءٍ هذا اليوم صديق له يستطلعه رأيه فيما إذا تقدم حسن بك الكندي يخطب ابنته. فاستهمل الرجل حتى يسأل زوجه وابنته

وهو يعرف مما يعرف من شؤون الخاطب الجديد أنه شاب شريف المنبت عريق المحتد حسن الخلق والخلق ورث عن أبيه ثروة واسعة ضخمة وهو كريم من غير تبذير ولا إسراف نال حظاً وافراً من الثقافة والعلم بعد أن جاب أنحاء البلاد الأوربية باحثاً متتبعاً على مثال الطالب النابه وعاد إلى دمشق يعمل في سبيل الجماعة التي نشأ فيها عملاً جريئاً مخلصاً حتى ذاعت شهرته وتناقلت أندية السياسة والأدب في الشرق العربي وما يليه حديث أعماله المجيدة. هذا ما كان يهمس به خاطر الأب الحنون قبل أن يستسلم للرقاد فيقول ويردد في نفسه ومن هو أجدر بمليحة من الشاب؟. وطلع الصباح فجلس حميد باشا يحدث زوجه طروباً بما ينقله إليها من نبأ خطبة ابنتهما فتقول له فرحة للخبر مستبشرة به أنها كانت تأمل ذلك وتنتظره ولكنها لم تشأ أن تفضي به إلى ابنتهما قبل أن يتحقق ويتحدث الزوجان عن زواج ابنتهما القريب وعما سيعدان لها من جهاز فاخر وعن المسكن الذي ستسكنه والحياة الهانئة التي ستحياها فيسعدان بما يتراءى لهما من سعادتها وهنائها. وتذهب الأم لترى ابنتها وتسألها رأيها بهذا الخاطب الذي عهدتها من المعجبات به وينتظر الأب طويلاً فيراها تعود وليس في أسارير وجهها ما ينبئ بارتياحها لما سمعته من جواب الابنة فيستطلعها الأمر فتقول إن ابنتك لا تريد أن تتزوج. قال هذا ما اعتادت أن تقوله الفتيات في مثل هذا الموقف فهل لك أن تعودي إليها؟. قالت عبثاً حاولت فلقد أوشكت أن أضجرها بإلحاحي. قال وهو ينهض من مكانه سأتولى سؤالها بنفسي فدعيني وحدي وإياها ومشى حتى دخل على ابنته في مخدعها فهرعت لاستقباله وقد عرفت ما جاء من أجله فهي لا تكاد ترفع طرفها إليه حياءً منه، ونظر إليها فرآها بثوبها الأبيض الناعم وقامتها الهيفاء وقد لمست خيوط من أشعة الشمس شعرها الأشقر الذهبي فبدت وكأنها خيال الشاعر. فأخذ بيدها وقلبه يطفح حناناً وحباً وأجلسها إلى جانبه برفق وهو يقول لها: لا تحاولي أن تصرفيني عنك كما صرفت أمك ولا تجيبينني بما أجبتها به مما أملاه الحياء عليك. فلقد جئت بنفسي استطلعك رأيك فيما ارجوه لك من السعادة. أن للشاب الذي بعث يخطبك مني بالأمس من الشهرة والجاه والسمعة الطيبة والثروة الطائلة ما يكفيني مؤنة الحديث عنه وقد ذكرت لي أمك أنها كثيراً ما سمعتك تشيدين بذكره وتعجبين

بأعماله وبالمرتبة التي بلغها فهلاّ تزالين على رأيك فيه؟. فأطرقت صامتة ثم وجدت أن لا محيد لها عن التصريح بما فكرت به وصممت عليه فقالت نعم. ولكني لا أيد أن أتزوج به لأني أراني دونه في الكفاءة وأجده أعظم من أن يكون زوجاً لي. قال أنه وهم قام في نفسك. فأنت سليلة الأمجاد من الرجال وأن لك من الجمال والشباب والعلم والذكاء ما يحسدك عليه قريناتك من بنات الأغنياء في هذه المدينة وما يليها من الأصقاع. وإن ثروتي وكلها لك، وأن تكن أقل من ثروة خاطبك فهي مما لا يستهان به في مثل هذا البلد الذي نعيش فيه. قالت وقد زاد الحماس في جرأتها: ولذلك لا أريد من الأزواج من أخشى أن تتصاغر نفسي أمام عظمته وغناه وتضمحل مكانتي التي أخذتها عنك وأنا أحرص عليها في وجه شهرته الواسعة وصيته الذائع. ولقد غرس ما كنت تحدثنا به دائماً عن مواقفك من القواد من رؤسائك وأقرانك في نفسي ما يكفي لأن ينمي هذه العاطفة بي. وإني أفضل من الأزواج من هو دوني في الثروة والجاه فيحترمني ويعجب بمكانتي ويحمل في نفسه إجلالاً كبيراً لي على من يحبني ثم ما يلبث أن يدعوه خيلاؤه بعظمته وعجبه وبامتداد شهرته إلى استصغار أمري وإهمال شأني فيعيش معي وكله لنفسي ولغيري. وإن الفتيات من قريناتي اللواتي يحسدنني كما قلت لي على ما أنا فيه من نعمة يصبن كثيراً لو رأين رأيي فعشن زوجات عزيزات كما أفضل أن أعيش هنا. وكأن هذه الكلمات أهاجت في نفس الأب كوامن العنجهية والشمم فمشت في أضلاعه رعشة من الحماس ورأى ابنته وقد خيل إليه أن روح شبابه قد بعثت فيها. فلقد كان وهو يصغي إلى حديثها يسمع صدى تلك الأنشودة في وصف الأنفة والإباء التي طالما رددها وما برح ولوعاً بنغمتها. وأطال نظره إليها محدقاً وهو كأنما ينظر إلى نفسه فيرضي عنها ويعجب بها. وساد بينهما سكوت عميق عاد الأب في خلاله يمعن الفكر في سعادة هذه التي رأى فيها صورة نفسه فيستعرض في ذهنه صور خاطبيها جميعاً ويذكر من بينهم شاباً ليس من وجهاء المدينة ولا من أصحاب الثروات لكنه كثيراً ما أعجبه منه أدبه ودعته وكرم خلقه وها هو ذا يتخيله جالساً لجانب ابنته فخوراً بها حريصاً على راحتها ويتخيلها إلى جانبه سعيدة به هانئة بحياتها معه. فكر في ذلك فرفع بصره إليها وهو يقول لها: أن بين خاطبيك

له من الصفات والمزايا ما ربما أعجبك شأنه وهو ذكي متعلم جميل الصورة عرف بين أصدقائه بدماثة الخلق ورقة الطبع على أنه الرجل يشغل الآن وظيفة أستاذ في المدرسة الثانوية وليس له من الثروة إلا راتبه الذي يتقاضاه وما يقتصد منه في مطلع كل شهر ولعل هذا ما دعاني أن لا أستطلعك رأيك فيه قبل اليوم على أنك ربما سمعت به فماذا ترين إذا عاد اليوم يخطبك زوجاً له؟. فوجمت الفتاة كمن فوجئ بما لم يكن يفكر فيه وأطرقت برأسها لا تجيب، ورأى الأب أن لا محيد له عن السير في الطرق التي سلكها فقال: أترينه دونك أو ممن لا يليقون بك؟. وكأنها رأت في هذا الكلام ما لا يصح سكوتها عنه فقالت لا ولو عرفت ما يجب أن أعرفه من شؤونه وقبلت أنت بمصاهرته فلا أترد في اختياره. قال حسن. ثم نهض من مجلسه وسار متجهاً نحو باب الغرفة وهو كمن اهتدى إلى ما وجد الخير فيه. من مليحة إلى فائزة القاهرة في 25 آذار سنة 930 هذا هو الشهر (شهر العسل) الذي غادرنا دمشق في أوائله يوشك أن ينقضي وأنا لم أكتب إليك كلمة واحدة فهل لي في ودك ما يشفع لي عندك؟ لقد كان سفرنا سعيداً وأسعد منه هذه الأيام التي نحياها على ضفاف النيل حيث الساعات تمر بنا سراعاً فلا نستطيع لها عداً. ما أجمل القاهرة يا صديقتي العزيزة وما أهنأ العيش فيها. لقد كنا على أن نقضي فيها بضعة أيام نغادرها من بعدها إلى بلد آخر فإذ بنا نستغني عن كل ما رسمته آمالنا من أسفار وننعم بمقام نقر فيه فلا نتصور أحمد منه. لقد قرب زمن عودتنا بعد أن كادت إجازة زوجي أن تنتهي وهو مضطر لأن يعاود إلقاء دروسه ومحاضراته قبل انتهاء السنة وحلول موعد العطلة الصيفية ولقد كتبت لنا أمي تشتاقنا وتستعجلنا في الرجوع. كم ودت لو أطال أمد بقائنا في هذا البلد لكن زوجي يأبى إلا أن نعود إلى دمشق وهو من دعة الخلق وطيب النفس مالا أستطيع معه إلا أن أرى رأيه وإني أجد بطاعتي له من النعمى ما يضمحل معه كل ما قد يقوم في نفسي مما لا يتفق مع رغباته. عندي كثير مما أود أن أقوله لك وكله لا يخرج عن أنني سعيدة وسعيدة جداً بحياتي الجديدة

التي أحياها وبزوجي الذي أهنأ بلذة العيش معه. ويزيد في هنائي ما أراه من فرحه وغبطته بي فهو يحبني ويحبني كثيراً ويخيل لي بأنه سيبقى على حبه لي لأنه يجلني ويحترمني. فإلى اللقاء يا صديقتي العزيزة.

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب جون غولزوارذي الكتاب المفكرون عند الانكليز في العصر الحاضر كثيرون ولكن يكاد المجمع على تقديمهم خمسة وهم ويلز وبرناردشو وجون غولزوارذي وارنولد بينيت وشسترون ولكل واحد منهم معجبون يقدمونه على أصحابه. وأشياع الثلاثة الأول أكثر. ولقد توفي منذ أكثر من سنتين أرنولد بينيت ولحقه في شباط الماضي جون غولز واذي ولد جون غولز واذي ببلدة كومب في 14 آب سنة 1876 ودرس الحقوق في أكسفورد ولكنه انصرف عن الحقوق إلى الأدب ووقف عليه نفسه. كان يحب السياحة فسافر كثيراً واتفق حينما كان مسافراً إلى إفريقيا الجنوبية سنة 1894 أن تعرف في السفينة إلى جوزيف كونراد الكابت المشهور كان كونراد إذ ذاك بحرياً لم يشتهر بالكتابة فأطلع غولز وارذي على قصة ألفها ولم يكن طبعها فاستحسنها وأشار عليه بطبعها وكان ذلك سبب شهرة كونراد. أول قصة ألفها غولز وارذي هي (جوسلين) فقد ظهرت سنة 1898 ولكن شهرته عظمت منذ سنة 1904 أما مؤلفاته كثيرة منها قصص ومنها روايات تمثيلية ومنها قصص قصيرة وأشهر قصصه قصة فورسيت وقصة الإخاء وأشهر رواياته التمثيلية رواية العلبة الفضية والكفاح والعدل والحمامة والولد البكر والشارد والغابة والمسرة. ومواضيع رواياته معضلات أخلاقية واجتماعية عالجها بتؤدة وأناة كالخصام المستمر بين العمال وأصاب رؤوس الأموال في رواية الكفاح وكمحاباة الحكام في روايتي العلبة الفضية والبكر فقد صرح فيهمان هناك شريعة للأغنياء وشريعة للفقراء إلى غير من ذك من المعضلات في هذه الحياة فهو طبيب حاذق في تشخيص الدواء ولكنه يمسك عن وصف الدواء لأنه متشائم يائس. ولقد اصطنع في رواياته التمثيلية الأسلوب الطبيعي في الحديث أي اللغة الانكليزية المحكية ولو كانت عامية أو سوقية كما فعل برناردشو، لذلك فرواياته على المسرح إذا المثلين بارعين ألذ منها للقراءة. تجد في قصة فورستير كثيراً من العطف ولكنه عطف ممزوج بالتشاؤم واليأس وكذلك في قصص الإخاء فإنك تحس شيئاً من يأس القصص الروسية فالرجال فيها ألاعيب عاجزة بيد القدر.

وغولز وارذي على علو منزله في عالم الأدب من رجال القانون في مظهره وتفكير طويل الأناة كثير الحيطة متزمت جليل لا يتهدد ولا يتوعد في انتقاده للأوضاع الاجتماعية، حريص على تفهم الموضوعات والقضايا التي يكرهها وينفر منها شأن القاضي العادل، يعطف على الأشقياء ولا يرتاح لعدم المساواة بين الطبقات. أكما منزله فهو أديب فني كبير يمتاز بالسمو وصدق اللهجة ونفوذ البصر ودقة التصوير، نال جائزة نوبل الأدبية في سنة 1932. الفواكه قيمتها الغذائية والطبية ألقى آخراً أحد أساتذة جامعة (فينا) (كارل فون نوردن) محاضرة عن الفماكه وفوائدها في حالة الصحة والمرض نقتطف منها ما يلي: إن قوة الفواكه الغذائية وقيمتها الطبية ناشئة عن احتوائها الحوامض العضوية والمواد السكرية ثم على عنصر الحياة (الفيتامين) وأكثر قسم نم (الفيتامين) يوجد في قشور الفواكه وأغشيتها وبعضه في داخله أيضاً. وأكثر ما يوجد (الفيتامين) في البندورة (الإفرنجي) التي تعتبر حداً وسطاً بين الفواكه والخضر. وللفواكه أهمية عظمى في تغذية الأطفال بصورة خاصة. ويمكن أن تعتبر بعض الفواكه التي تشتمل على كمية كبيرة من المواد السكرية معادلة في قيمتها الغذائية لأحسن أنواع الحليب. ثم أن للفواكه اليوم ميزة أخرى هي تقوية أمعاء الأطفال وزيادة مقاومتها ولذلك فإن الأطباء أصبحوا الآن، خلافاً للرأي الذي كان سائد سابقاً، ينصحون باقتصار غذاء الأطفال على الفواكه عند حدوث أمراض تسبب الإسهال. وجميع أنواع الغذاء الأخرى لا تضاهي الفواكه، ولو قليلاً في التأثير على قوة العضلات وزيادة نشاطها. وعدا ذلك فإن قلة الأملاح وقلة الزلال في الفواكه مما يدعو الأطباء إلى استعمالها في كثير من الأمراض التي تتطلب الابتعاد عن الأملاح القلوية مثل أمراض الكليتين ثم الأمراض التي يستحسن فيها الاحتراز من الشحوم مثل أمراض الكبد. ويرى الأستاذ (نوردون) أن من المفيد جداً للصحة أن يخصص الإنسان يومياً معيناً في كل مدة يقتصر فيها غذاءه

وحدها فإن عمل أعضاء الهضم يتجه بذلك إلى ناحية أخرى ويمكنها أن تستريح قليلاً من الجهد الدائمي. وقد أجريت تجارب متعددة للتحقق من فائدة الفواكه أثبتت جميعها بأن التغذي بالفواكه من أهم المسائل للمحافظة على الصحة وتقوية الجسم ومقاومة الأمراض. على أنه من الضروري أن يجري انتخاب الفواكه وتعيين كمياتها بعد استشارة الأطباء الأخصائيين. . . . المرأة الشرطية نشرت الآنسة (جرمنبرنهارين) في مجلة (مر كور دوفرانس) مقالاً وصفت فيه حال المرأة الألمانية التي انخرطت بالفعل في مهنة الشرطة بعد الحرب العامة، وذكرت بعض الإصلاحات الاجتماعية التي نجمت عن ذلك. فمن هذه النتائج أن بوسع المرأة الشرطية أن تؤثر في الأسرة تأثير وبإمكانها أنه تتخذ التدابير المانعة المانعة من وقوع الجرائم فتعنى بالمرضى والمجانين، وتعمل على تطبيق أحكام المادة 218 من القانون الألماني الذي يعاقب من يرتكب جريمة الإجهاض عقاباً صارماً وقد كان للمرأة الشرطية أثر حسن في منع النساء من الإجهاض وإسعافهن بدلاً من الاقتصار على معاقبتهن بعد وقوع الفعل. وهكذا فقد خففت المرأة قسوة القانون وحافظت مع ذلك على الحق العام. وتعزو الآنسة (جرمنبرنهارين) نجاح المرأة الشرطية في عملها إلى معرفتها بأحوال النساء النفسية وسهولة تفهمها لها. ولم يحدث في ألمانيا من تنظيم هذه الفرقة من النساء أقل حادث يخشى منه على النظام العام، بل دل حسن نظامها على فائدة التعاون بين الرجل والمرأة وضرورة هذا الوضع الاجتماعي للتطور في عصرنا هذا. أما في فرنسة فأن المرأة قد دخلت بعد الحرب العامة جميع الدوائر الرسمية فصار لحاكمية السين والمحاكم ودائرة الشرطة نصيب من عملها. ويسمى النساء المنتسبات إلى هذه الدوائر المركزية بالمسعفات وإسعهافهن محصور بإعانة الأطفال والمرضى والمجانين، إلا أنه لا يوجد في فرنسة شرطيات عاملات بالفعل كما في ألمانيا. وترجو الآنسة (برنهاين) أن يوسع نطاق هذه التنظيمات في فرنسة أيضاً لتكون المرأة معينة للرجل لا في الإسعاف

فقط بل في حفظ الأمن وتطبيق الحق العام. أمراض الأمس وأمراض اليوم نشر السير (ويليام 01 - لأن) مقالا في مجلة الشهر يبين فيه رأيه في أمراض الأمس وأمراض اليوم فقد ذكر أن بعض اكتشافات العلماء دلت على أن بعض الحيوانات القديمة التي سبقت ظهور الإنسان على وجه الأرض بآلاف من السنين كانت مصابة ببعض الأمراض العصبية التي يصاب بها الإنسان اليوم. وقد فند في هذا المقال آراء الذين يقولون أن هذه الأمراض لم تتغير بل زعم أن كل الأمراض خاضعة لقانون التطور وخصوصاً ما كان منها ناشئاً عن الجراثيم ولا يزال الأطباء يهتمون اليوم بتطور الأمراض الحاضرة حتى لقد تغلبوا في أوربا على بعضها فأزالو تماماً. ومن هذه الأمراض مرض الطاعون فقد ذكر المؤرخون انتشار هذا الوباء في أثينا قديماً وفي لوندره في القرن السابع عشر مثلاً ولكنه لا يوجد اليوم في أطباء العصر من يخشى هذا المرض. وقد ثبت اليوم أن لأكل اللحوم وشرب الخمر تأثيراً عظيماً في تولد بعض الأمراض فالمدينة الحديثة لم تزل بعض الأمراض إلا لتستبدل بها غيرها وقد ذكر السير (ويليام 01 - لأن) من هذه الأمراض الخاصة بعصرنا مرض السرطان وأمراض القلب وأمراض الأوعية الدموية والجملة العصبية. وسمى هذه الأمراض بأمراض المدينة الحديثة. ولا تزال بعض الأمراض مثل الكوليرا والملاريا والتيفوئيد ومرض النوم والسكارلاتين والأنفلونزا تفتك في الممالك الحارة والمستعمرات إلا أن أثر هذه الأمراض في الممالك الباردة خفيف جداً. وقد استخلص السير (ويليام 01 - لأن) من هذه الملاحظات قانوناً عاماً يقول فيه أن بين حياة الجسد والمحيط صلة قوية وإن كل تغير في المحيط لا بد من أن يحدث بالضرورة تغيراً في البدن فالقانون الطبيعي الأعلى هو قانون المؤالفة ولا بد لكل حيوان من مؤالفة البيئة. وقد تغيرت شروط الحياة في العصر وتغيرت مها استعدادات البدن ومقاومته. فمن ذلك أن الهيكل العظمي في أبدان الحمالين أصبح مختلفاً عنه في الحالة الطبيعية ولعل أكبر سبب في تولد أمراض التمدن الحديثة راجع إلى سوء الغذاء وانتشار بعض العادات الفاسدة. ثورة العناصر

يقصد من كلمة ثورة العناصر الانقلاب العظيم الذي حدث في السنين المتأخرة في صنع كثير من المواد واستعمالها وقد كان من الصعب قبل سنوات قصيرة إقناع الناس بأنه في الإمكان استحصال السكر من الخشب والبنزين من الفحم والحرير من القطن. وهذا كله أصبح مستطاعاً في أيامنا. . . فإن الصناعة الحديثة أخذت الآن تصنع من الهواء كثيراً من المواد المفرقعة المخيفة وتقلب الإحراج حسب مشيئتها إلى حرير اصطناعي أو إلى سكر أو غير ذلك. وإليك بعض الأمثلة عن هذا الانقلاب في استخدام العناصر: 1 - زجاج لا ينكسر إن استعمال الزجاج قديماً جداً ونحن نجده اليوم في قبور المصريين القدماء التي يرجع عهدها إلى أربعة آلاف عام. ورغم التحسينات الكثيرة التي تمت في صنع هذه المادة واستخدامها فإن صفة الإنكسار ظلت ملازمة لها طول هذه المدة. ولكن اليوم يمكن صنع زجاج غير قبل للإنكسار ولا شك في أن رجال الصناعة والفن قد وجهوا اهتماماً زائداً للزجاج في المدة الأخيرة لكثرة الحاجة إليه في البناء وفي وسائط المسير. وقد أصبح الزجاج اليوم من أهم المواد التي يستخدمها الفن المعماري إذ أن الأبنية الحديثة إنما تقوم على الحديد والبلور. ولأجل الاحتراز من حوادث الاصطدام التي كثرت اليوم بين السيارات وغيرها من الوسائط النقلية التي ترجع أسباب الأخطار فيها إلى انكسار الزجاج قطعاً جارحة أخذت المعامل تصنع زجاجاً لا يتطاير في الهواء إذا انكسر وذلك بوضع طبقة نباتية ف تركيب الزجاج. وفي المدة الأخيرة اكتشفت طريقة جديدة تستغني عن المادة النباتية وتعامل الزجاج عند صنعه بصورة خاصة يصبح معها غير قابل للإنكسار. وإذا وضعت أثقال كبيرة على هذا الزجاج فأنه لا ينكسر بل يلتوي وذلك غريب جداص في مادة مثل الزجاج. 2 - البنزين من السكر لم نكن قبل سنوات قصيرة نفهم من السكر إلا أنه مادة ذات طعم حلو تستخرج من قصب

السكر أو (الشمندر) ولكن في المدة الأخيرة قد تطورت هذه المادة أيضاً بصورة غريبة فأصبحت تستعمل في أمريكا الجنوبية لتسيير السيارات فإن الأزمة الاقتصادية العامة قد خففت من استهلاك السكر فتراكمت منه كميات كبيرة دفعت البعض للتفكير في استخراج مواد للوقود منه وذلك بتخمير السكر وقلبه إلى كحول يصلح لتحريك السيارات. وانقلاب آخر ف استعمال السكر هو الاستفادة منه في البناء وذلك بإضافته إلى (المؤونة) التي تكتسب قوة وصلابة تفوق النفقات اللازمة للسكر. ويظهر بأن المعماريين كانوا يستعملون في الأزمنة الغابرة عصير العنب لهذه الغاية. وهذا هو السبب في متانة الأبنية القديمة. 3 - الخشب ينقلب سكراً يحتوي الخشب حسب تركيبه الكيميائي على مواد سكرية غذائية. ومن الوجهة النظرية فإننا لا نحتاج إلا لمعاملة الخشب ببعض الحوامض لأجل قلب المادة النباتية إلى مادة سكرية. ولكن الصعوبة في الطريقة العلمية لاستحصال كمية كافة من السكر تضاهي النفقات اللازمة. فأنه يجب أن يستخرج من (100) غرام من الخشب أكثر من خمسين غراماً من السكر حتى يكون لهذه العلمية قيمة اقتصادية. وقد قام العالم الألماني الأستاذ (برغيوس) الذي نال جائزة نوبل أخيراً بتجارب لأستحصال مادة غذائية للحيوانات من الخشب بنفقات قليلة. ثم أخذ الآن يسعى لتخمير هذه المادة الغذائية وقبله إلى سكر فنجح في ذلك نجاحاً كبيراً. وقد أصبحنا اليوم نستطيع استخراج (24) ليتراً من (الأسبرتو) من (100) كيلوغرام من الخشب بينما كانت المعامل في أيام الحرب لا تستخرج من هذا المقدار سوى (6) ليترات. . . ولا يزال هذا التطور في أول أمره ولا نعرف إلى أي حد يصل في المستقبل.

المدنية والثقافة والإصلاح

بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني وكامل عياد - دمشق في 5 أيار 1933 - 11 المحرم 1352 المدنية والثقافة والإصلاح للفيلسوف الدكتور رضا توفيق تعريب جميل صليبا لقد خالج نفسي منذ زمان طويل أمر حيوي هو من الخطورة بمكان، حتى لم يعد في وسعي مخالفة ميلي إلى البحث فيه وإبداء رأي شخصي في أحسن أساليب النظر إليه بصورة موافقة لمصلحتنا. وهذا الأمر الحيوي الذي ما برح ضرورياً هو أمر الإصلاح. ولقد كان من حظي أن سمحت لي هذه المجلة (مجلة الثقافة) بالفرصة المناسبة وأوحى إلي أسمها بالإلهام الضروري لإبداء رأيي للقراء الكرام بحرية. وها أنا ذا أبدأ بذكر جملة من الحوادث التي تضطر الأمم الشرقية كلها إلى شيء من الإصلاح الأساسي. إن التقدم العجيب الذي استطاعت أمم الغرب المتمدنة أن تدركه منذ عصر تقريبا في جميع مناحي الحياة العلمية، هو فتح من الفتوح التي لا عهد لتاريخ الحضارة بها، ولا عرفتها عبقرية البشر قبل أن تطبق الاختراعات الهامة على الصناعة تطبيقاً مفيداً. ولقد اتسعت العلائق التجارية على وجه الأرض حتى وصلت إلى أقصى المناطق المجهولة، فاستحكمت أواصر التعاضد الدولي بصورة لا تقبل الانفكاك وتولدت من ذلك مصالح مشتركة بين الأمم. حتى لقد صارت معرفتنا بها أوضح مما هي عليه وتفهمنا لها أدل على طبيعتها. ولو لم يكن من هذه المصالح المشتركة إلا توقف السلام العالمي على اتساقها والحرب على اختلالها لكفى بذلك دليلاً على أهميتها. وكان من نتيجة تزايد هذه العلاقات واشتباكها أن، تلاقى الشرق بالغرب واصطدمت حضارة كل منهما بحضارة الآخر، فأدى ذلك إلى وهن الحضارة الشرقية، وقد كان لها مع ذلك جمال خاص وقيمة سامية. ثم ولدت هذه الصدمة العظيمة في روح الشرق الساكن هزة عنيفة اقتنع الشرقيون على أثرها أنه لا محيد لهم عن إصلاح أساسي عام يتناول جميع الأوضاع الاجتماعية فأما أن

يؤالفوا المدنية الحديثة كيفما اقتضى الأمر وإما أن يصبحوا عبيداً لغيرهم أو يبيدوا في معترك لا رحمة فيه ولا هوادة. هذا ما حمل مدعي الإصلاح في الشرق على هم أكثر الأوضاع التي كانت إلى أيامنا هذه من الدعائم الراسخة في كيان المدنية القديمة فنشأ على ذلك أزمة اجتماعية مخيفة كاد زلزالها يهدم كل شيء. وفي الحق أن هذا الصراع الاجتماعي قد زعزع الشرق كله فلا ترى من شواطئ البوسفور إلى ساحل البحر الأصفر إلا موجاً من الزلازل وسهاماً من الفتن العمياء. ولم يقتصر هذا الاضطراب على الشرق وحده بل مادت به الأرض كلها، حتى قيل أننا بلغنا من التاريخ دور الانحطاط والخراب، وأطن أننا لم نهو إلى ذلك الدرك إلا لفقدان التوازن العالمي، وذلك كان الإصلاح الذي نوهنا به ضرورة لا محيد عنها أبداً. درست باهتمام شديد بعض صور الإصلاح الأساسية التي حصلت أو شرع بها طائفة المصلحين في بعض ممالك الشرق الأدنى. فلم أتردد في الحكم بأن أكثر هذه الصورة الموهومة للإصلاح أقرب إلى الهدم منها إلى البناء. أنا لا شك في سلامة نية هؤلاء المصلحين ولا في أقدامهم ووطنيتهم، ولكنني أتهم جرأتهم وإفراطهم المضر. لأن هذه الجرأة المفعمة بالطيش تحملهم على إتباع أساليب الثورة التي أستقبحها وأكرهها. وإنني لعلى يقين أن كل طفرة في الإصلاح تدل على جهل بحاجات الحياة وسخر بالطبيعة البشرية. ولا يجوز أن تضحى هذه السنن الطبيعية مهما كان السبب. وقد يكون للمصلحين فائدة عظيمة في استنباط مهديات الفكر من دروس فلسفة التاريخ، وهي لا تبخل بذلك على الذين لا يأنفون من استشارتها. أما أنا فأريد أن أسترعي انتباه قرائي إلى مسألة واحدة أبين لهم فيها كيف أن الالتباس في كلمتي مدنية وثقافة قد يضل المصلح الجريء ذا الرواية والعزم فيقود غيره إل الخسران الذي لا يمكن تلافيه. يريد المصلحون أن يأخذوا بالمنية الغربية للأسباب التي شرحتها وربما كنت أنا نفسي أكثر حماسة من جميع الراغبين في هذا الإصلاح. نعم ولكن ما هي المدنية؟ المدنية هي حالة اجتماعية تهيئ للإنسان جميع الوسائل والشروط الضرورية التي يستطيع بها أن يحقق الرفاه في الحياة على قدر طاقة البشر. وذلك بارتقاء الصناعة ونموها المتصل

وتحسين الأوضاع الاجتماعية شيئاً فشيئاً. وهكذا فإن شكل الحكم الموافق لشروط الحياة الاجتماعية في أمة من الأمم أفضل من غيره من الأشكال لأنه يضمن حقوق الأفراد فيها. والمساكن الحديثة أرقى من الأكواخ الأولية الحقيرة لأنها أقرب إلى شروط الصحة ولوازم الرفاه. وكذلك الجسر الذي أنشئ فوق النهر أحسن من جذع الشجرة الملقى فوق الجدول. فالمدنية إذن تابعة للوسائل المادية التي استطاع الإنسان في أدوار حياته المتابعة أن ينتزعها من المحيط ويسخرها لمقاصده العملية. وأعني بذلك الوصول إلى درجة علية من الرفاه والراحة. هذا حال المدنية في ماضيها ومستقبلها. وأحسن مثال على ذلك العصر الحجري وعصر النحاس وعصر الحديد وعصر البخار والكهرباء، فإنها أدوار تاريخية مختلفة تدل على أن الحضارة لا تغير إلا الوسائط أما الغاية التي ترمي إليها فلن تتغير أبداً. ومدنية العصر الحاضر لا تشذ عن هذه القاعدة لأنها صورة جديدة متولدة من تطبيق الاكتشافات العليمة على الصناعة، وغايتها لا تختلف عن غيرها. لأن الضارة إنما ترمي دائماً لإيجاد الرفاه وحفظه. أما الثقافة فهي على عكس ذلك لأنها ثمرة من ثمار التربية الاجتماعية التي توارثتها الأجيال وما برحت تنتقل من دور إلى آخر حتى انتهت إلى طور من الأخلاق والتفكير والأدب لا عهد للإنسان به من قبل. لولا الثقافة لما تكاملت معرفة الإنسان بما يجب عليه نحو الإنسانية، لولا الثقافة لما أدرك الإنسان غاية اتساق الطبيعة البشرية في نظام الكون ولولاها لما رق ذوقه ولا لطف ولا اتسع خياله المبدع. والإبداع هو المنبع الفياض الذي تنبجس منه صور الفن وتتغذى بوحيه الطبيعي اكتشافات العلم العجيبة. فالثقافة هي إذن بهذا المعنى صورة شخصية وطابع جنسي، لا بل هي قوة حيوية تصان بها عبقرية الشعب ووحدته. فللعرب مثلاً مزايا روحية نشئت عن ثقافتهم. وكما تجعل المزايا الجنسية ملامح العربي مختلفة عن صور الآخرين فكذلك يولد المزاج الجنسي والاستعداد الطبيعي صورة شخصية من الثقافة مختلفة عن غيرها. ولولا صفات العربي الجنسية وثقافته وأخلاقه التالدة ولغته المهذبة وجمال أدبه وروعة تاريخه المجيد لما استطاع أ، يحافظ على شخصيته الجنسية بالرغم من تقلبات الزمان

وطوارئ الحدثان. بل مما هو جدير بالإعجاب أن العربي استطاع أن يتغلب بثقافته ودينه على جميع الأمم الحربية التي غلبته بالسيف والقوة الغاشمة. وشبيه بذلك أيضاً حال اليونان والفرس. فالرومان غلبوا اليونان الضعفاء بقوتهم المادية. ولكن اليونان انتصروا على رومة بثقافتهم. لقد انتصرت تلك الأمة الضعيفة أمة النبوغ والعبقرية على رومة القوية دولة الفتح والسلطان لأن ثقافتها كانت عالية وهي منبع الثقافة الأوروبية في عصرنا هذا. وكذلك الفرس فقد غلبوا بثقافتهم جميع الأمم التي غلبتهم واكتسحت بلادهم. ولو لم يكن من الثقافة إلا اتصال عبقرية الشعب الحي بروحها الخالدة لكفى بذلك دليلاً على خطورتها. ولذلك كانت الحركة من شرائط المدنية لأنها لا يمكن أن تقف وتجمد، ولو جمدت لأشرفت على الهلاك كمدنية الصين الراكدة، فلا حياة للمدنية إلا بالحركة الدائمة ولا بقاء لها إلا بالتقدم المطرد ضمن نطاق الأسباب الاقتصادية، فإذا كان ضوء الكهرباء أجمل وألطف وأرخص وأنسب فمن الخطل إضاءة المنازل بنور الزيت أو بنور (البترول). ولذلك أيضاً كان لا بد من الأخذ بالوسائل النقلية والتنظيمات التجارية والإدارية وغيرها من مظاهر المدنية المختلفة. فعلى المصلحين إذن أن لا يترددوا في تفضيل مظاهر المدنية الحديثة على مظاهر المدنية القديمة. لأنه لا بد لهذه المظاهر من تغيير عاداتنا القديمة بالتدريج وتبديل أخلاقنا شيئاً فشيئاً. أما القضاء على الأوضاع الاجتماعية وهدم اللغة القومية وتبديل الثقافة والعقائد الدينية والخلقية واستبدال غيرا بها في سبيل التجدد فليس ذلك كله إلا ضرباً من ضروب التهور والتي الباطل. لأن لهذه الأوضاع الاجتماعية صلة بروح الشعب وحياته التاريخية، فليس بالإمكان تغييرها دفعة واحدة وتجريد الشعب منها كما يجرد البدن من القميص القذر. أنا لا أدعي أن في وسع أمة من الأمم أن تسلم من التأثر بثقافة أعلى من ثقافتها. وقد قلت أن ثقافة أوروبا المتمدنة هي يونانية محضة. ولكن أوروبا لم تتصف بهذه الثقافة اليونانية إلى بعد أن انقضى على عهد نهضتها عصور عديدة. فلس بوسع أمة أن تأخذ بثقافة أعلى من ثقافتها إلا بالتدريج لأن التأثر بتلك الثقافة مع جني غرسها والاتصاف بها كل ذلك يحتاج إلى زمان. غير أن طريقة الثورة تسخر بهذه الشروط الذاتية والأسباب الطبيعية

وتهزأ بالزمان وتفضل الطفرة عليه مع أن الزمان هو المبدأ الكلي والعلة الضرورية لكل نوع من أ، واع التغير. وأريد قبل الانتهاء من هذا البحث أن أضيف كلمة واحدة إلى الاعتبار السابق. ما من أمر هو أكثر إفساداً للأخلاق وتفكيكاً لعرى الحياة وآذٍ لكيان الأمة الناهضة من ثقافة غريبة ساء تمثيلها وفسد الاتصاف بها. ولقد أثبت التاريخ ذلك ودلت على صحته التجارب الاجتماعية والسياسية فلم يعد بالإمكان جهله. أقول هذا ولا يزال يخالج نفسي أمور كثيرة أري أن أقولها غير أني لم أجد من المكان والزمان متسعاً، ولعلي لا أعدم فرصة يتهيأ لي بها ذلك فأعود إلى هذا البحث مرة ثانية. الدكتور رضا توفيق

بين الأدب والأخلاق

بين الأدب والأخلاق للأستاذ السيد محمد رضا الشبيبي جئتها كارهاً وأخرج منها ... كارهاً فالمجيء مثل الذهاب هي دار الأعمال فأعمل لتلقى ... بعد دار الأعمال دار الثوار أجل أن بلغته حق موت ... وكذا الحق في بلوغ النصاب أنا ما مكبري ومطري خلالي ... عارف من أنا خبير بما بي أنا من لست حين أسأل نفسي ... سر نفسي مزوداً بجواب أنا من لست دارياً بغدوي ... أو رواحي ماذا يكون اكتسابي أنا في البحر قطرة أو يخفى ... عنك ما شأن قطرة في العباب حجبت طلعة الحقيقة عني ... ليتها تستشف خلف الحجاب أسفري يا مليحة الدل إني ... صرت أزداد فتنة بالنقاب لست أغتر بالصواب أراه ... خطأ المخطئين أصل الصواب عز قوم لو حوسبوا لأفاقوا ... رب عز ينسيه ذل الحساب كثرة في القشور قد نقلوها ... عن سواهم وقلة في اللباب محمد رضا الشبيبي

الثقافة

الثقافة للدكتور عبد الرحمن شهبندر إذا كان رمحك معوجّاً وكان عليك أن تبرز للطعان في الميدان فلا بد لك من تقويمه وتسويته، وهذا هو أصل التثقيف في اللغة العربية، ومن هذا المعنى البسيط المحسوس انتقل العرب بطريق المجاز إلى المعنى المركب المجرد فقالوا إذا كان ولدكمعوجّاًً وكان عليه أن يبرز للطعان في معترك الحياة كما هو المنتظر فلا بدَّ لك من تثقيفه وهو التقويم والتسوية. ومن الهين أن نقول أن في الثقافة وهي مصدر ثقف اللازم معنى الاستقامة وأن خالفنا الذين أنكروا ذلك لقولهم إن هذا المعنى لم تنص عليه كتب اللغة التي بأيدينا فطريق الانتقال بينة ومحجته واضحة، ومن اللغو كل اللغو أن يحاول بخلاء الكلام المتحذلقون التقتير علينا بمال لا يمتلكونه وطعام لا يذوقونه، فاللغة الحية مثل الشجرة الباسقة تعيش وتنمو حتى بعد موت من زرعها بيه وتعهدها بعنايته. وإن كان هذا النمو متوقفاً على تلك الأصول المنتشرة في الأرض ومرتبطاً بالساق الصاعدة منها وقد أجاد العرب كثيراً في نظرهم إلى التثقيف المعنوي إنه سلاح يتذرع به الأعزل فيصير أهلاً للكفاح. وقد يكون تاريخ اللغة وتدرج الكلمات من المحسوس إلى المجرد بطريق المجاز أن الاستعارة أهم مفتاح لمعرفة وجهة النظر في الأقوام المختلفة والسجل الذي تعرف به مناحيهم العقلية. وأذكر أن اتحاديي الترك أرادوا أن يترجموا القرآن إلى لغتهم الأصلية قبيل الحرب العالمية فلما وصلوا في ترجمة الفاتحة إلى أهدنا الصراط المستقيم والهداية هي الإرشاد بلطف قالوا (بزي طوغري يوله قامشيله) أي أدفعنا اللهم بالكرباج إلى الطريق المستقيم - فكأن لغة الترك تأمر بالهداية على طريقة القومانده العسكرية ليس إلا. وإذا كان العرب قد اتخذوا من تقويم الرماح كلمة التثقيف لتقويم النفوس فإن الإفرنج اتخذوا من فلاحة الأرض كلمة (كولتور للدلالة على الثقافة، فوجهتنا في هذه الكلمة صراع وكفاح وعراك ووجهتهم اقتصاد واستثمار واستعمار فكأني بهم يقولون أن التثقيف هو حرث الأدمغة بسكة العلم وزرعها ببذور التربية وسقيها بماء الأدب وتعهدها بنور الفن لتصير دوحة يستظل بظلها المتعب ويأكل من ثمرها الجائع - أو لتصير قوة هائلة تطغى على

البلاد البكر المستضعفة فتستعمرها وتمتص خيراتها. ومن حسن الحظ إننا معاشر العرب لسنا دائماً في مجازنا على هذه الشدة وهذا البطش فقد لطفنا الأخلاقبالتدميث كما قومناها بالتثقيف واستعرنا كلمة (التدميث) هذه من معنى بسيط جداً أيضاً قد اختبره كل من افترش الأرض في البيداء والتحف السماء. فالتدميث كلمة مشتقة في الأصل من المكان الدمث إي الهين اللين المفروش بالرمل الطري، قال صاحب المثل (دمث لنفسك قبل النوم مضطجعاً) يعني إزالة الحجارة الناتئة والأشواك الواخزة والحصى المبعثرة من مضجعك في الكهف أو في الصحراء لتنام نوماً هانئاً مطمئناً على الرمل الوثير وكذلك أزل الخشونة البارزة والفظاظة الموحشة والعيوب الشائنة من ابنك بتدميث أخلاقه ليصير رجلاً وليرتاح إليه الناس، والفراش الوثير الذي يدعو إلى الارتياح هو دماثة النفوس أكثر مما هو دماثة الأمكنة وإن كنا لا ننكر أن الناس شعروا بوعورة المضاجع قبل أن يشعروا بوعورة الأخلاق. وقلنا في لغتنا أيضاً بتهذيب الأخلاق وهو من باب المجاز على طريقة الفلاحة التي سار عليها الإفرنج لأن التهذيب في كتب اللغة هو إصلاح الشجر ولاسيما النخل وقطعه وتنقيته من الليف ليعطي ثمراً أكثر، والنفس التي تهذب فتقطع منها الأغصان اليابسة وتزال عنها الألياف تكون صالحة للاستثمار في حديقة المجتمع ولا يتعذر على اللغوي أن يستخرج مثل هذه المعاني الاستثمارية من كلمتي التربية للتنمية والتحضير للإقامة على الماء الدائم فيكون الرجل المربى هو الرجل النامي كالدوحة الباسقة يستظل بظلها الناس والرجل الحضري هو الذي أقام على الماء صيفاً وشتاءً فشرب منه وسقى به حتى أخضل ربعه وامتلأ ضرعه، والماء أصل الحياة ولا ثقافة يعتد بها حيث لا حضارة يعاش تحت سقفها. وفي صيف سنة 1926 نزلت على قبيلة الخرشان في البادية البيداء فسألت نفراً من أبنائها في جملة ما سألتهم ما قولكم في البداوة والحضارة فقالوا من أمثالنا البدو في شقى الدنيا والفلاح حمار الدنيا والحضري ابن الدنيا وفي ظني أن الحضري ما صار ابن الدنيا إلا لأن الحضارة جهزته بالثقافة فاستثمر الأرض وعرف كيف يشق طريقه إلى بطنها فينمو من عناصرها ويرضع من خيراتها.

ومما هو حري بالتدوين أن الألمان هم أكثر الغربيين ميلاً إلى ربط الثقافة باستثمار خيرات الأرض حتى كادت كلمة وهي الثقافة في لغتهم تنطبق عندهم على أصل الفعل الذي اشتقت منه وهو فلاحة الأرض بأ، سع المعاني. وللبحاثة (بارت) نظريات سبع مشهورة لتعليل تاريخ البشر على ظهر الأرض منها الثقافة بهذا المعنى الاستثماري يعني أن الوسائط التي تتسلط بها الأمم على الطبيعة لإدارتها واستدرار خيراتها هي سر النشوء في مجتمعها وهي ثقافتها، ونحا (ماركس) رسول الاشتراكية هذا النحو أيضاً فقال أن العالم المؤثر في النشوء الاجتماعي هو القوى المادية المنتجة يعني أن ينابيع الثروة والآلات التي يستخدمها الإنسان والأجهزة التي يستعين بها كل ذلك يكسب الناس شكل الحياة الاجتماعية التي يتمتعون بها. فتكون الأفكار المنتشرة بينهم نتيجة ما هم عليه من الطرائق الإنتاجية التي توصلوا إليها، فإذا كانت هذه الطرائق راقية دقيقة التركيب وكثيرة المحصول فالحياة الاجتماعية راقية على نسبتها والعكس بالعكس. فلا عجب أن تكون البلاد الصناعية أرقى من البلاد الزراعية وهذه رقى من بلاد المراعي. وقصارى القول أن (ماركس) يقول أن وسائل الإنتاج في المجتمع وما يبنى عليها من العلاقات بين الناس تؤلف النظام الاقتصادي في الهيئة الاجتماعية، وهذا النظام هو العالم الأساسي في تكوين النشوء العقلي في الشعوب. وقسم أحد كبار العلماء التاريخ إلى عصر ثلاثة (الأول) عصر فن البناء وصب القلزّ وقطع الحجارة. (الثاني) عصر المخترعات الثلاثة الإبرة المغنطيسية وهي (البوصلة) والبارود والطبع. (الثالث) عصر الآلات البخارية، فكل عصر من هذه الأعصر هو ثقافة بحد ذاتها، ونحن وإن كنا أبعد الناس عن إنكار الروابط المتينة بين الثقافة وطريقة استثمار الأرض إلا أننا نرى أن هنالك بواعث أخرى غير البواعث المادية للمظاهر الاجتماعية المعنوية، ولا تزال الثقافة في نظرنا صقلاً برانياً جوانياً يصقل به الرجل الخام في معامل التربية العقلية والروحية فيصير إنساناً، وتظهر الثقافة بأجلى مظاهرها بالمقارنة بين الأجلاف الخشنين والمهذبين الناعمين. يعرف الجلف بهجر القول والحركات الثقيلة والتصورات المبتذلة ويعرف المثقف بالألفاظ المنتقاة والسيرة المنظمة والأفكار المشذبة.

تعاشر المثقف فلا تمل حديثه وتتمنى لو يكتب لكما العيش معاً ردحاً من الزمن وتصادف الجلف في حافلة أو في سيارة فتتمنى أن تنتهي السفرة ولو بصدمة أو انخراق عجلة لتخلص من سماع الحديث ورؤية الحركات والسكنات. ومن أدعى دواعي الأسف أن ليس كل من تروض بالعقليات والأبيات صار مثقفاً فقد رأينا أناساً تخرجوا في أرقى الكليات الجامعة ومع ذلك فالتربية الأولى والمعاشرة الأولى والميراث المتصل بالآباء والجود بقيت آثارها متغلبة فلم يفد فيها لا صقل البكلوريا ولا طلاء معلم علوم. ولا شك أن القابلية الطرية شرط جوهري لقبول الثقافة، ومن حسن حظ البشر أن هذه القابلية منتشرة في جميع الأوساط ولولا ذلك ما كانت هنالك فائدة كبيرة ترتجي من معاهد التهذيب أو مؤسسات التربية والتعليم. ولا يفوتني بع ما أظهرت ما للثقافة من المقام الاجتماعي وما أشرت إليه من الروابط المتينة بينها وبين النظم المادية في الجمعية البشرية أن أقول أننا إذا أردنا أن تكون لنا ثقافة قيمة وأن نقوم بنصيبنا في خدمة الحضارة فلا بد لنا من العناية التامة بشؤوننا الاقتصادية ومؤسساتنا الصناعية والزراعية، ولا تقل تلك المعامل التي أنشئت في البلاد حديثا شأنا في رفع المستوى الأدبي عن معاهد العلم والتربية لأن هنالك شبه إجماع بين أهل البحث على أن المعيشة الفردية البسيطة المنعزلة التي تغنى بها أبو العلاء المعري وأمرسون وتولستوي وفاجنر وأمثالهم لا يجوز تطبيقها على المجتمع كاملاً وأن الفلسفة التي صبت إليها نفوسهم وخلاصتها العيش البسيط والفكر السديد هي فلسفة لذيذة وحكمة بالغة ولكنها تليق بالنبغاء الممتازين لا بالدهماء من الناس ولو قدر لهؤلاء الزهاد كما قال أحد العلماء أن يستميلا العالم إلى الاحتذاء بهم وأن يستغووه ببساطتهم في المأكل والمشرب والملبس مع إغفال الأعمال الاقتصادية الناجزة لأصبح تهذيب الجماعة بسيطاً مثل حواطاتهم الخالية الخاوية ببيوت مؤونتهم - ذلك لأن الأفراد إذا قضوا حياتهم في بيئة اقتصادية بسيطة فإن النشاط العقلي والروحي والبدني فيهم يكاد يصبح مستحيلاً. ومن كانت معدهم جائعة فعقولهم مصروفة بحذافيرها إلى الحصول على الطعام، ولن يكون فيها مجال متسع لمقومات الثقافة من فن وعلم ومقاييس في الأخلاق راقية. القاهرة في 19 آذار سنة 1933

عبد الرحمن شهبندر

الجمال

الجمال تعالى المبدع القدُسُ ... مثالٌ عنه مقتبَسُ ومرآةٌ عليها نو ... رُ وجه اله ينعكس فما أدري أظلُّ الل ... هـ أم من نوره قبس بدا كالشمس لكن سرّ ... هـ في الفهم ملتبس فقالوا إنه نِسَبٌ ... بها الألباب تختلس وفوق حدودهم روح ... طليق ليس يحتبس ضلال أن يحد بما ... رأوه منه أو لمسوا يطلُّ عليَّ من عين ال ... حبيب ولحظهُ خلس فينفي النوم عن عينيَّ ... وهو بعينها نعس ويجري ماؤه في وج ... هها فيكاد ينبجس ويذكو عرفه في ثغ ... رها مارُدّدَ النفس ويزهو بين عطفيها ... هناك التيه يلتمس شجاني أنه عرَض ... معالمه ستندرس ونبتٌ أن يهج يوماً ... فغاية أمره اليبس خليل مردم بك

آدابنا العربية

آدابنا العربية ناحية من نواحي نقدها للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي من كتابنا المعاصرين طائفة حديثة النشأة اتخذوا لأنفسهم طريقة جديدة في الكتابة ترتكز علباً على الأدب الإفرنجي. وتحتذي مثاله في الأسلوب الإنشائي. وأنا أرى أن هذا لا يضر آدابنا العربية بل هو اقتباس أو تطور طبيعي في لغات الأمم وآدابها فإن بعضها يقتبس من بعض أساليب كما يقتبس ألفاظاً. لكن هؤلاء المجددين أفرطوا في انتحال أساليب الإفرنج وأكثروا الغض من أساليب كتابنا الأقدمين. إلى حد أن عطلوا - أو كادوا يعطلون قواعد اللغة العربي: فهم لا يبالون نحوها ولا صرفها ولا يتكلفون عناء مراعاة هذه القواعد في خطبهم وكتاباتهم. بل ذهبوا إلى أبعد من هذا: فزعموا أن كل كلمة عربية مجَّها ذوقهم وجب أن تموت ويخلفها من كلمات الأعاجم وتعابيرهم ما شاءوا وأحبوا. وكنت منذ ربع قرن صنفت كتاباً سميته (الاشتقاق والتعريب) جوزت فيه ماجوزه أدباؤنا الأولون من استعمال الكلمات غير العربية في الكلام العربي وأثبت أنها لا تخل بفصاحته. ولا تنزله عن درجة بلاغته. ثم إني كدت أندم على هذا التأليف إذ بلغني أنه أصبح أداة بيد بعض المجدين فاتخذوه حجة لمذهبهم في اصطناع الكلمات الأعجمية بمقياس أوسع مما كنت قررته في كتابي المذكور. ولا يخفى أن أدباءنا الذين كتبوا في فن البلاغة اختلفوا في بلاغة الكلام وفصاحته أمرجعها اللفظ أو المعنى؟ فبعضهم جعل استجماع شروط الحسن في اللفظ هو معظم الفصاحة وجمهورها. وقد راجت هذه الفكرة من بعد عهد الجاحظ. ونفق سوق الكلام الضروب على غرارها أيما رواج. ولاسيما في أواخر القرن الرابع للهجرة أي في عهد ابن العميد وتلميذه الصاحب بن عباد. وبقيت طريقة هذه المدرسة اللفظية - أي التي يعنى فيها بتجويد اللفظ - سائدة في بلاد العرب وفي دواوين ملوكهم الأعاجم حتى كان خاتمة أئمتها القاضي الفاضل في أواخر القرن السادس.

ثم من بعد هذا العهد أفل نجم فن البلاغة وأظلم البيان العربي وأصبحت الكتابة فيه صناعة لفظية محضة، لا تعبر عن نفسية الكاتب ولا تميز شخصية أديب عن شخصية أديب آخر. وإنما أصبح كل من كتب تقريباً (فنوغرافاً) يحكي لنا صدى أفكار المتقدمين ويسرد علينا تعابيرهم بتغيير طفيف. وهذا ما حمل أدباء الإفرنج على نقد آدابنا العربية بالجملة، والإزراء بكتاباتنا الأدبية من دون تفريق، حتى قالوا: أنها ألفاظ ترن وجعجعة من دون طحن مع إن بلغاء كتابنا الأقدمين إلى عهد الجاحظ ما كانوا يقيمون للألفاظ رزناً كما فعل من بعدهم: فكانوا يرون أن البلاغة هي المعاني الجميلة الخلابة التي تلبس من لبوس الألفاظ القدر الذي يناسبها، ولا يكون فضاضاً عليها. ولعل الجاحظ من أرباب هذا المذهب: فهو لا يبالي الألفاظ والتأنق فيها والتكلف بها. لك يرسلها كيفما اتفق من دون تعمل ولا تكلف. وكأن سجاحة الألفاظ في عبارة الجاحظ وخلوها من التأنق وتكلف الاستعارة والمجاز والكناية وأفانين الصناعة اللفظية أصبح أمره متعالماً مشهوراً حتى للمتقدمين من أدبائنا: فالبدي الهمذاني جعل في مقاماته هذه: أن عيسى بن هشام ورفاقه كانوا في بعض مجالس الأدب يفاضلون بين الكتاب ولاسيما الجاحظ وابن المقفع. وكان أبو الفتح السكندري (بطل مقامات البديع) مشغولاً بالتهام ما قدم إليه من الطعام حتى إذا اكتفى التفت إليهم وقال: أين أنتم من الحديث الذي كنتم فيه؟ قال عيسى بن هشام. فأخذنا في وصف الجاحظ ولسنه. وحسن سننه في الفصاحة وسننه. فقال أبو الفتح ياقوم لكل عمل رجال. ولك مقام مقال. ولكل دار أركان. ولكل زمان جاحظ ولو انتقدتم لبطل ما اعتقدتم. فكل كشر له عن ناب الأنظار. وأشم بأنف الإكبار. وضحكتُ له لأجلب ما عنده. وقلت: أفدنا وزونا. فقال: إن الجاحظ في أحد شقي البلاغة يقطف (1). وفي الآخر يقف والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره. ولم يزر كلامه بشعره. فهل ترون للجاحظ شعراً رائقاً؟ قلنا لا. قال: فهلموا إلى نثره فهو بعيد الإشارات. قليل الاستعارات. قريب العبارات. منقاد لعريان (2) الكلام يستعمله. نفور من بديعه يهمله فقل سمعتم له لفظة مصنوعة. وكلمة غير مسموعة

(3)؟ قلنا لا. ثم ختم أبو الفتح كلامه بأنه هو أفضل من الجاحظ. ولا نسمح لأنفسنا أن نقول: أن حسن الألفاظ لا شأن لها في البلاغة والفصاحة وإنما نقول: إن الإفراط في التأنق ومراعاة الصناعة اللفظية يؤدي إلى التكلف والإحالة وأن الاهتمام بانتقاء الألفاظ والحرص على حشرها في الكلام يلهى السامع عن تعقل المعاني فيضطرب فهمه. وتنقطع سلسلة تفكيره. ويقد الكلام قوة تأثيره. وإذا ضاع التأثير ضاع كل شيء. فالمعاني طيور. تحملها أجنحة الألفاظ إلى أوكار الأذهان. فإذا لم تكن الأجنحة خفيفة مرهفة، بل كانت كثيفة مثقلة بضروب الزينة والجمال مصنوع ثقلت الأجنحة فوقع الطائر دون الغاية. فلنجتهد إذن في أن تكون أجنحة الفاظنا كأجنحة الطيور وإلا عجزنا عن إيصال المعاني إلى الأفكار. والطيور إلى الأوكار هذا ما عابوا به آدابنا العربية بوجه عام. ويمكننا ن نشير إلى بعض ما عابوها به بوجه خاص. ذلك أن طائفة كبيرة من أدبائنا أولعوا باستعمال مجازات وكتابات وإشارات لها معان يقبح ذكرها. وتنفر النفس من تفسيرها. ففي أواخر القرن الماضي كتب بعض كتاب العرب في جريدة (الجوائب) التي كانت تصدر في الأستانة لمحررها العلامة (أحمد فارس الشدياق) مقالاً انتقد فيه الآداب الإفرنجية وقال: إن الإفرنج ليس له ذوق في الأدبيات. وكان حامل راية الأدب في ذلك العصر (نامق كمال) أديب الترك المشهور. فرد على الكاتب العربي قوله ولمز (الأدبيات العربية) فقال: نحن لا ننكر سعة اللغة العربية ولطافتها ولا مهارة أدباء العرب وفطانتهم حتى أن آثار العرب الأدبية ترجح على مؤلفات كل لغة. ولكن القول بأن أدباء الإفرنج مجردون عن الذوق لا يمكن التسليم به. وإن قول أدباء العرب (يفتض إبكار المعاني) و (فلان أبو عذر هذا الأمر) و (قول امرئ القيس فمثلك حبلى إلى إذا ما بكى من خلفها الخ) وقول الحماسي: وفخذان بينهما نفنف الخ وقول ابن النبيه في وصف الخمرة (عذراء واتعها الغمام أما ترى - منديل عذرتها بكف سقاة) - وغير ذلك من التعابير الشائعة في منثور أدباء العرب كل ذلك لا يمكننا إلا أن نعده منافياً للذوق الأدبي السليم. لكن (نامق كمال) عاد فاعتذر في المقال نفسه عن وقوع هذه الهنات في آدابنا العربية

أحسن اعتذار وأشده إيجازاً فقال: (علي أنه إذا كان في هذه الهنات الأدبية خطأ فينبغي أن نلصقه بالآداب لا بالأدبيات) كأنه يريد أن يقول: يجب أن نلصقه بآداب الشاعر لا بأدبيات اللغة. فنقول مثلاً: إن العيب في امرئ القيس وأبي نواس وعبد الله بن حجاج: فهم المسئولون عن قبح قولهم وليس المسؤول عنه (الأدبيات) العربية فهي بريئة من العيب وليست مؤولة عن عيب غيرها. ثم قال (نامق كمال): (على أن هذه التعابير القبيحة إذا كانت منافية لحسن الذوق فليست منافية لحسن الصنعة) يعني أن النفوس الفاضلة والأذواق السليمة تمج به الأقوال من جهة قبح معانيها لكنا ترتاح إليها وتعجب بها من جهة ما فيها من جمال الصنعة وابتكار المعنى وانتهاز النكتة. وهذا كالصور يصور لك صورة بشرية عارية فتستحيي منها. وتنال من مصورها عند أول وهلة ثم لا تلبث أن تعجب بها وتثني على صدق المصور ومقدرته على محاكاة الطبيعة. ثم ختم (نامق كمال) رده على الكاتب العربي الذي قال أن الإفرنج ليس له ذوق في (الأدبيات) - بقوله: (إن انتقاد الأدب الإفرنجي ينبغي أن يكون بدراسة أقوال أدباء الإفرنج المشهرين وتقليب النظر في ما تركوه من الآثار البديعة - لا بقراءة ما تخطه أقلام محرري الصحف في جريدة الطان والتيمس ونحوهما) المغربي

الكتابات العربية المنقوشة وفائدتها

الكتابات العربية المنقوشة وفائدتها للأستاذ المستشرق جان سوفاجه تعريب كاظم الداغستاني إن درس الكتابات العربية المنقَّشة هو علم حديث العهد. فلقد أ، شك القرن التاسع عشر أنن ينقضي والكتابات التي نقشت على المباني القديمة في البلاد الإسلامية لا تسترعي انتباه المستشرقين. فقد كان لديهم ما يحتم عليهم توجيه اهتمامهم لأشياء أخرى غير هذه ولذلك فلم ينشر من هذه الكتابات حتى ذلك العهد إلا بعض نصوص طبعت متفرقة مبعثرة بسائق الاستغراب وحب الإطلاع دون أن يقوم من يتصدى لجمعها وتصنيفها وشرحها تبعاً للأصول التي درست وجمعت معها الكتابات اللاتينية والإغريقية والسامية مما نقش على المباني القديمة. والمجد في درس الكتابات العربية المنقوشة يرججع للعالم السويسري (ماكس وان بيرشم) فهو أول من قدر الفائدة المتأتية عن جمع هذه المستندات القيمة. والمجموعة التي نشرها في سنة 1894 عن الكتابات العربية المنقوشة في القاهرة هي أول مؤلف من نوعه وضع صاحبه فيه أسس هذا العلم الجديد وحدد أصوله وقاعه. ثم جاء بعد (بيرشم) من أكملوا عمله ونخص بالذكر من بينهم غاستون ويت في فرنسا وموريتز سوبرهايم في ألمانيا وخليل أدهم في تركيا ولقد كان من وراء سعي هؤلاء العلماء أنه لم يبق من يشك في فائدة درس الكتابات المنقوشة التي أصبت من أعظم وسائل التتبع لمن وقفوا أنفسهم وجهودهم على درس القرون الوسطى الشرقية. ولرب قائل يقول: ما هو نوع هذه الفائدة المتوخاة من وراء هذا العلم؟ لعلنا لا ندع مجالاً لاستغراب أحد أذا قلنا أن الفائدة اللغوية المنتظرة من وراء درس الكتابات العربية المنقوشة هي تقريباً مما لا شأن له يذكر، لأن أكثر هذه الكتابات يرجع إلى عهد ازدهرت فيه آداب اللغة وحددت قواعدها الصرفية والنحوية من قبل النحاة ومتفقهي اللغة فلم يبق هنالك ما يحتاج للتمحيص والتدقيق فالفائدة اللغوية في ذلك لا يمكن أن تعادل مثلاً الفائدة اللغوية في درس الكتابات السامية المنقوشة والتي هي بقايا فذة من لغة قديمة كاملة، كاللغة التدمرية مثلا. على أن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالفائدة التاريخية في درس الكتابات العربية المنقوشة. لقد ترك الأدب العربي قبل الأعصر الحديثة

من وفرة المصادر التاريخية ملا مثيل له في الآداب الأخرى هذا لا شك فيه ولكن من يتصدى لدرس تاريخ الشرق في القرون الوسطى كثيراً ما يزعجه أن لا يجد أمامه ما يمن معه أ، يتحقق صحة المصادر الأدبية بوثائق أدلة التأييد فيا مادية تثق بها النفس. وذلك لأن بلاد الإسلام لم تحتفظ، وهذا مما يؤسف له، بتلك السجلات المخطوطة التي تعد في أوربا أساسا كل درس من دروس التاريخ الغابر، وحينما يرجع الباحث إلى ما وراء العصرين الأخيرين يجد أن الوثائق الصحيحة قد ندرت فلم يبق إلا ما تركه بعض المؤرخين من مخطوطات نسخت عن غيرها وهي غاية ما يمكن الرجوع إليه في البحث عن رسائل السلاطين ومستندات الحسابات في الدوائر القيمة وعقود الأوقاف وحججها وإلى غير ما هنالك ولكن ما مبلغ صحة هذه المصادر الوحيدة التي يمكن الرجوع إليه في التحقيق والتتبع؟ لا شك أن في نسخها شيئاً كثيراً من الاهتمام والأمانة ولكن رغم هذا فإنه لا محيد عن الشك بأنها قد تكون حرفت مع الزمن من جراء سهو وقع في نقلها أو إهمال جرى في نسخها أو تأويل حصل في ضبطها يضاف على ذلك أن عد هذه الوثائق قلقل نادر لا يفي بالغرض، وفي مثل هذه الأحوال تظهر فائدة الكتابات المنقوشة جلية واضحة وعلى الأخص إذا كانت مما أمر بكتابته ونقشه السلطان أو أحد أعاظم الرجال في الدولة فأمثال هذه الكتابات لم تكن لتنقش على جدران المباني وأبابه إلا بعد أن تنشأ وتحرر في الدواوين الرسمية وتوشح بتوقيع السلطان وتصديقه وهذا ما يجعل لها في أعيننا قيمة ثمينة فتكون كوثيقة صحيحة رسمية جديرة بأن يعتمد عليها. وكذلك على ما أيدته من روايات أحد المؤرخين التي تتفق مع ما جاء فيها. فلق تقرأ مثلا في كتاب الروضتين أن أتابك نور الدين عهد إلى وزيره أن يحرر النص الذي يجب على الخطباء أن يتلوه في مساجد مملكته عند ما يدعوه له بعد قراءة الخطبة وهذا النص كما رواه المؤرخ هو كما يأتي: اللهم أصلح عبدك بالفقير إلى رحمتك الخاضع لهيبتك المعتصم بقوتك المجاهد في سبيلك المرابط لأعداء دنك أبا القاسم محمود بن زنكي أق سنقر ناصر أمير المؤمنين. على أن في المسجد الذي بناه في حماه نور الدين كتابة منقوشة هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمله ابتغاء رضوان الله ورغبة في ثوابه العبد الفقير إلى رحمة الله الخاضع لهيبته المرابط لأعداء دينه أبو القاسم محمود بن زنكي بن أق سنقر

ناصر أمير المؤمنين ضاعف الله أجره وثوابه وأكرم منقلبه ومآبه في سنة تسع وخمسين وخمس مائة (1163م). وبما أن ألقاب السلطان التي وردت في النص الأول هي تقريباً نفس الألقاب التي وردت في النص الثاني يحق لنا أن نستنتج من ذلك أن المؤرخ نقل بأمانة عبارة الدعاء التي كان يتلوها الخطباء على المنابر، وقد يقع في بعض الأحيان أن يكون النص الأب على تناقض مع الكتابات المنقوشة فإذ أخذنا مثلاً برواية المقريزي علمنا أن قلعة دمشق استولى عليها التتار في 22 جمادى الأولى سنة 658هـ (5 مارس 1260) لكننا إذا رجعنا إلى كتابة نقشت على إحدى شرفات هذه القلعة وجدنا أن في هذه الكتابة ما ينق على أن استيلاء الأعداء على القلعة كان بتاريخ 21 جمادى الآخرة (3حزيران) ولما كانت هذه الكتابة نقشت بعد جلاء المهاجمين وفي الزمن الذي شرع بترميم القلعة وإصلاح مبانيها بأمر من السلطان وتحت إشراف موظفي الدولة الذين خبروا شؤون الحادث وعرفوا يوم وقوعه فإنه من الصعب أن لا نميل لتفضيلها والأخذ بها دون غيرها من الروايات التاريخية التي ق تكون قد حرفت حينما أخذ أحد النساخ بنقلها دون أن يعيرها الاهتمام اللازم: وأن في هذين المثالين اللذين أضربهما لدليلاً على الفوائد التي تؤديها الكتابات المنقوشة في تحقيق المصادر التاريخية مقام ما فقد وضاع من السجلات المخطوطة وأن المؤرخ الصالح الحريص على نقل الحقائق ودفع الأغلاط يحتاج دائماً للمقابلة بين النصوص الأدبية والكتابات المنقوشة التي تكون أكثر نفعاً من المخطوطات في هدايته إلى التواريخ الحقة وأسماء الأعلام الصحيحة. وإذا كانت الكتابات المنقوشة تفيد في تحقيق الملومات التي نستخلصها من دراسة الأدب ونوادره فهي كثيراً ما تقوم مقامها وتغني عنها فتكون المستند الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في تمحيص قضية معينة من قضايا التاريخ. لقد ضاعت كما ذكرنا أكثر حجج الأوقاف الخيرية وفقدت قيودها القديمة وذلك بداعي ما وقع من الحوادث أو بسبب إهمال بعض موظفي الدولة الذين لم يراعوا الأمانة في حفظها فإذا حاولنا اليوم أن نعرف حقيقة الغاية التي رمى إلها الواقف والأسس التي قامت عليها إدارة أحد الأوقاف الخيرية لغز علينا الوصول لما يدلنا عليها سوى هذا النوع من الوثائق والكتابات المنقوشة على أحجار وجدران مباني الوقف وفي الحق أن الواقفين كثيراً ما

كانوا ينقشون على الأبنية التي يحبسونها لجهة من جهات الخير خلاصة عن حجة الوقف لتقوم هذه الكتابة المنقوشة مقام الحجة المخطوطة التي كثيراً ما يخشى تلفها أو ضياعها. ولكي ندل على الفائدة التي تنشأ عن مثل هذه الوثائق التاريخية المتينة يكفي أن نورد هنا كتابة من تلك الكتابات نقشت على جدران مسجد ساكرا كيا في طرابلس شام وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم. وقف الجناب الكريم السيفي أقطرق الحجب هذا المكان المبارك مسجداً لله تعالى وتربة للدفن ووقف على مصالحه وعمارة أثاثه وتطاويقه جميع المزرعتين المتلاصقتين من عمل حصن الأكراد وهما مرج السلطان وقميره وجميع البستانين المتلاصقين بقرية دشعين من عمل طرابلس أحدهما يعرف بمسعود والأخر بابن الأفرحي وجميع الحوانيت الأربعة المتلاصقات بالصف الشرقي من سوق الحلاويين بطرابلس وجميع الدار الملاصقة للمسجد وجميع الآدر الثلاث المتلاصقات يخان المصريين بطرابلس وجميع الحصة الشائعة وقدرها النصف والربع من جميع الدار شمالي خان المهندس بالجسر العتيق وجميع الفرن المعروف بكر خولد للمسجد المذكور وقفاً شرعياً يبدأ من ربعة بعمارته وإصلاحه ويصرف منه في كل شهر أربعون درهماً لإمام بالمسجد المذكور وخمسون درهما إلى مؤذنين بالنوبة يؤذنان بمئذنة المسجد المذكور وثلاثون درهماً إلى قيم المسجد والتربة وخمسون درهماً إلى خمسة أنفار يقرؤون بالمكان المذكور حزباً كاملاً فرادى ومجتمعين وخمسة عشر درهماً في ثمن زيت وقناديل وآلة الكنس والاستسقاء ويرف في كل يوم الاثنين من كل أسبوع ثلاثة دراهم في ثمن كسوة من قميص ولباس رفيع وغير ذلك للأيتام والأرامل والفقراء المسلمين وما فضل بعد ذلك يصرف إلى من كان فقيراً محتاجاً من أولاد الواقف وأنساله ومن عتقائه بالسوية فإن لم يكن فيهم محتاج صرف إلى الفقراء المسلمين في باب التربة وشرط الواقف النظر لنفسه ثم للأرشد من أولاده وأنساله وإلى من كان أمير حاجب كبيراً بطرابلس وشرط الواقف أن لا يؤجر وقفه بأكثر من ثلاث سنين وليصرف هذا ولا تقدر عليه مظالم ولا مكوس حسبما تضمن ذلك كتاب الوقف المؤرخ بمنتصف القعدة الحرام سنة سبع وخمسين وسبعماية (9تشرين ثاني 1356م) الثابت المحكوم به بمجلس الحكم العزيز بطرابلس المحروسة ونقش ذلك في ربيع الأول سنة ستون (شباط 1359م) وولاء لهذا المسجد من الماء بحق واجب نصف

وربع أصبع من قناة طرابلس ومن الكتابات المنقوشة، المراسيم والقرارات التي لا يمكن العثور على ما يماثلها في الصحة بين النصوص الأدبية المخطوطة. فلقد كان من المعتاد أن يأمر السلاطين والحكام بنقض (ويمكن أن نقوم هنا بإعلان) ما يصدرونه من المراسيم والقرارات الهامة التي تتعلق بجميع أفراد الرعية وعلى الأخص ما كان ينص منها على إعفاء بعض الضرائب والإتاوات على جدران المساجد أو في أحد المعابد وذلك بعد إذاعتها على جميع أفراد الشعب بواسطة المنادين ولقد حفظت لنا الأيام من أمثال هذه المراسيم المنقوشة عدداً وافراً يعد من أصح الوثائق في التاريخ المالي والاقتصادي فهي تفيد في تحقيق وتمحيص كثير من الصكوك الإدارية التي لم يذكر عنها المؤرخون والرواة إلا أشياء تافهة أكتفوا بالإشارة إليها. وعلى سبيل المثال نورد ها نصاً لأحد هذه المقررات نقش في مسجد خالد بن الوليد في حمص وهو كمايلي: بسم الله الرحمن الرحيم لما كان بتاريخ سنة أربع وأربعين وثمانمائة حضر جماعة من أهل حمص المحروسة شكوا للمقر السيفي بيغوت نائب السلطنة الشريفة بحمص المحروسة أعز الله أنصاره أنه قد أحدث عليهم وظالم وسألوا صدقاته لوجه الله تعالى سؤال الصدقات الشريفة في إبطال ذلك ففي الحال كتب سؤال الصدقات الشريفة في إبطال ذلك فعاد جواب وقرينه مربع شريف المرسوم العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري السيفي أعلاه الله تعالى وشرفه وأنفذ أن يبطل ما أحدث من ضحاف دلالة الحرير والصوف والتبن والخبز وشجرة الزيت بحمص المحروسة وإبطال الشهرة على الإطلاق وإن تكتب على باب السيد خالد رضي الله عنه القصة المشمولة بالخط الشريف عن أهل حمص حسب المرسوم الشريف شرفه الله تعالى وعظمه وفي ظاهره الرسم الشريف جقمق نصره الله هذا وإن الكتابات المنقوشة هي مصدر ذو قيمة كبرى وشأن عظيم في تحقيق الألقاب التي كان يحملها السلاطين وأعاظم الرجال في الدولة والي لا يخلو درسها من فائدة. ومن المعلوم أن هذه الألقاب لم يكن يختارها أصحابها لأنفسهم بل هنالك أصول متبعة تمنح بموجبها من قبل السلطان أو الخليفة وذلك تبعاً لمرسوم يصدره صاحب الشأن، ولما كان أكثر هذه المراسيم والوثائق قد فق فلم يبق لدينا اليوم من مستند نرجع إليه في تحقيق هذه

الألقاب وتصنيفه وأصول منحها ومراتب الذين تمنح إليهم وسلطة عمال الخليفة ومواقفهم منه، إلا هذه الكتابات المنقوشة التي تدلنا بصورة موجزة، ولكن وفية وصحيحة، على الحالة الروحية وبعض صورها الاجتماعية في ذلك العصر. إن الكتابات المنقوشة في عهد الملك الظاهر بيبرس تشير إلى أن الألقاب التي كان يلقب بها الملك هي كما جاء في العبارات الآتية: مولانا السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين سلطن الإسلام والمسلمين قاتل الكفرة والمشركين قاهر الخوارج والمتمردين محيي العدل في العالمين ملك البحرين صاحب القبلتين خادم الحرمين الشريفين وإرث الملك سلطان العرب والعجم والترك إسكندر الزمان صاحب القران بيبرس الصالحي قسيم أمير المؤمنين وهذه الألقاب، لا تنص فقط على الوظائف التي كانت تعد إذ ذاك من واجبات الملك (الجهاد المقدس ضد الصليبيين والذب عن حياض الإسلام وإقامة العدل) بل تستمد أيضاً أسسها من ساسة السلطان الذي أراد، بعد أن بسط حمايته في القاهرة على الخليفة العباسي الذي هزمه التتار، أن يجعل من مصر مركزاً لجميع البلاد الإسلامية. ونهاية القول أن أبسط فائدة يمكن أن نذكرها للكتابات المنقوشة هي أنها تبين لنا بالضبط والدقة تاريخ البناء الأثري الذي نقشت عليه. فعلماء الآثار في أوربا الذين يحاولون تحديد مراحل التطور في فن البناء في القرون الوسطى لا يجدون لديهم من الوثائق بهذا الصدد ما يؤيد لهم تاريخ إنشاء البناء سوى وثائق خطية نادرة مما كتبه المؤرخون في السجلات المخطوطة أو مما رواه الرواة في ذلك العصر وهذا ما يضطرهم لأن يجددوا تاريخ البناء الأثري الذي يجعلونه موضع درسهم على وجه من التقريب يتراوح بين ربع ونصف قرن. أما في الشرق فليس من بناء أثري تقريباً لا يحتوي (أو لم يحتو) على كتابة منقوشة ينص فيها على اسم بانيه وتاريخ بنائه. وبفضل هذه النصوص فقد أصبح لعلم الآثار وتاريخ في الشرق عدد كبير من المصادر الأساسية وهي من الدقة بمكان يمكن معه تحديد مراحل التطور في فن البناء بكل ثقة واطمئنان. هذا ولا ندري إن كان في هذه العجالة التي أوجزنا في سطورها فوائد الكتابات العربية المنقوشة ما يكفي لأن يسترعي اهتمام بعض طبقات الناس فيذكرهم بما في

الاحتفاظ بآثار الماضي العزيزة من منافع جلَّى. دمشق في 25 آذار سنة 1933 جان سوفاجه

فلسفة التصوف وتأثيرها في الثقافة العربية

فلسفة التصوف وتأثيرها في الثقافة العربية للأستاذ عز الدين التنوخي للفكر في نهضة الأمم الخصيبة حركة فلسفية خاصة تنطبع بها ثقافتها بطوابع خاصة. وهذا الفكر القومي بمظهره لا يكون غذاؤه قومياً بحتاً، فهو يستمد عناصر أغذيته وهوام قوته من أية أمة توفرت في تربتها تلك المواد الغذائية النافعة، وذلك كالتصوف في الإسلام مثلا، فإنه حركة أو نزعة فلسفية عربية صرفة في أصله، أعجمية في فروعها، مختلفة بخصائصها عن سائر النزعات النسكية في الأديان الأخرى وبعبارة أوضح: نبتة نمت من بذرة نبوية ف تربة عربية، ولبثت تستمد غذاءها من تلك التربة السامية زهاء قرنين بما اقتبسته من حياة النبي العربي إلى الله عليه وسلم وهي حياة مترعة بالتحنث والرياضة والمجاهدة ومما استمدته من روحانية القرآن ومن سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، وفي أواخر القرن الثاني للهجرة أخذ يتسرب إلى غذاء هذه العشبة النسكية ما سنشير إليه من بعض العناصر الأعجمية شأن أغتذاء الأحياء الآخذة في النشوء والارتقاء. قلنا أن هذا التصوف هو حركة فلسفية بل هو فلسفة أدبية موضوعها النفس البشرية وغايتها تهذيب هذه النفس بنهيها عن الهوى، وتقويم ما أعوج والتوى منها بصدق المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، ولا يتم ذلك للمزيد النشيط إلا إذا عرف غرائزها وطبائعها الموهوبة والمكسوبة، وإدراك الصحيح من المريض منها ليحسن تمريضها بإحسان ترويضها، فالصوفي الحقيقي على ذلك هو العالم النفساني - البسيكولوجي - الذي يبحث أبداً عن نفسه ويراقبها مراقبة الطبيب الناصح لمريضه ليقصيه عن كل ما يؤذيه، وليدنيه من كل ما يشفيه، وبفضل هذه المراقبة الدقيقة والمحاسبة العسيرة وقف علماء التصوف وأطباء الأرواح على أحوال القلوب وأهواء النفوس وطرائق معالجة أمراضها، وسجلوا في كتبهم تلك الأحوال النفسانية والأعراض المرضية والأدوية الطبية، فدونوا بذلك علم طب القلوب، وعينوا بالأسماء المخصصة التي اصطلحوا عليها تلك الأحوال تعيينا أصابوا في كثير منه، فزادوا بذلك من ثروة اللغة العلمية، ولو تفرغ بعض علمائنا لدرس التصوف درساً علمياً - كما فعل مثلاً من علماء الغرب ماسينيون، ومن علماء الترك أحمد نعيم - لوجدوا الشيء الكثير من مصطلحات علم النفس الحديث، ولعدم العثور عليها أو إيجاد ما

ينوب عنها تبلبلت السنة المؤلفين والمعلمين، وكثرت المجادلات والردود في الجرائد والمجلات، وكل يدافع عن مصطلحاته العلمية وبذلك أصبح للمسمى الواحد عدة أسماء كما حدث مثلاً لكلمتي ووقد اقتبس لهما أحمد نعيم في كتابه علم النفس لجورج غريو الذي نقله إلى التركية كلمتي انفسي وأفاقي من اصطلاحات الصوفية وعثر على كثير من مصطلحات المنطق والكلام، ومجامع اللغة العربية في المستقبل زعيمة بإزالة هذه البلبلة اللغوية التي هي عقبة من عقبات الثقافة والتعليم. أما كون التصوف فلسفة أدبية آلهية تمتاز على كتب الأخلاق النظرية عندنا بوصفها وتشخيصها لأمراض النفس وتخصيصها للأدوية الناجعة وطرائق معالجتها التجريبية، فمن الدلائل عليه ما بأيدينا من كتب التصوف والإسلام، عن طب القلوب فقال ما نصه: وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب، إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة عللها وأسبابها، ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى: قد أفلح من زكاها، وإهمالها هو المراد بقوله: وقد خاب من دساها، ونحن نشير في هذا الكتاب إلى جمل من أمراض القلوب وكيفية القول في معالجتها. اهـ وفي كلام هذا الإمام العارف ما يشير إلى أن علم طب القلوب يرجع بأصوله إلى الكتاب والسنة، ومن الدلائل أيضاً على فلسفة التصوف الخلقية تعاريف شيوخ الصوفية وأركان بنيانه كالجنيد البغدادي سيد هذه الطائفة وهو الذي أجاب من سأله عن التصوف بقوله: الخروج من كل خلق ردي، والدخول في كل خلق سني، وقال لأبي حفص: لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين وقال عبد الله بن المبارك: نحن إلى قليل من الأب أحوج منا إلى كثير من العلم وقال ذو النون المصري: إذا خرج المريد عن طلب الأدب فأنه يرجع من حيث جاء وقال الكتاني: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف وقال العارف الهوروي في منازل السائرين: واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم أن التصوف هو الخلق، وإذا كانت الغاية من البعثة المحمدية تتميم مكارم الأخلاق، وتتميمها هو غاية علم التصوف التي لا تتحقق إلا بالمراقبة والمحاسبة، فالتصوف على ذلك هو روح الإسلام، والرسول هو الصوفي الأعظم، وهذا هو الأستاذ

الحكيم الشيخ محمد عبده الصوفي النشأة يقول ما معناه: لقد ضاع الإسلام بضياع التصوف الصحيح وقال مرة في التربية الصوفية لصاحب المنار: إذا يئست من أصلاح الأزهر فإنني أنتقي عشرة من طلبته وأجعل لهم مكانا عندي في عين شمس أربيهم تربية صوفية مع إكمال تعليمهم وكان أقترح مثل هذا على أستاذه الأفغاني الحكيم. هذا ومن النقص في ثقافتنا القومية أن لا ندرس تراث أسلافنا درساً علمياً فتؤلف كتب تاريخ الأدب في لغتنا مثلا وليس فيها بحث عن تأثير التصوف في آدابنا وعلمائنا وأدبائنا في العصور السالفة تأثيراً كبيراً، والصوفية شعراء مسمويون هاموا بالمثل الأعلى في قصائدهم، واهتم كثير منهم بالصناعة البديعية كما فعل ابن الفارض أما شعراء الصوفية، فالأدب الصوفي خليق بدرس أدبائنا والبحث عنه في كتب تاريخ الأدب العربي، أوليس عجيباً أن يهتم بأدبنا الصوفي مثل المستشرق الإنكليزي براون في كتابه الأدب العربي، ونيكلسون في تاريخ العب الأدبي وهوار الفرنسي في كتابه الأدب العبي وغيرهم، ونحن لا ننتبه إلى ما تركه التصوف في آدابنا العربية من ذلك الأثر العميق! إن هؤلاء المستشرقين قد عنا بالتصوف كل العناية فنشطوا للتنقيب عن أمهاته المخطوطة في مكاتب المشرق والمغرب وبعد تصحيحها وتنقيحها أحيوها بالنشر ثم عكفوا على درسها التحليلي عكوف الصوفي على مراقبة نفسه، ومنهم من قضى أكثر مراحل حياته وهو يبحث عن التصوف وأصله، أو يرحل لأخذه من أفواه أهله مثل ماسينيون الفرنسي وفون كريمر الألماني ونيكلسون الانكليزي وأضرابهم ممن تراهم، ولا شغل لهم إلا البحث عن أصوله العربية السامية وفروعه وزياداته الآرية من الفلسفة الأفلاطونية الجديدة والعقائد الفارسية والهندية وغيرها ويتتبعون آثار النحل الباطنية والمذاهب الكلامية في التصوف الذي أخذ منذ القرن الثالث يختلف عن التصوف السلفي اختلافاً بيناً بتباعده عن عصر السلف، ثم كثرت فيه المصطلحات حتى أمست وليس لكثير من أسمائها مسميات. اشتقاق التصوف. - التصوف مصدر تصوف أي لبس الصوف كما يقال تقمص لبس القميص وتدرع لبس الدرع مثلاً، والصوفي منسوب إلى الصوف للبسه إياه، ولعله أقوى الأقوال في نسبة الصوفي وإليه ذهب كثير من الصوفية وإن لم يختصوا بلبسه، وأخذ به ابن خلدون في مقدمته وعليه أعتمد معظم المستشرقين، وقد نسب إلى صوفة نسبة صرفية

صحيحة، وصوفة هذا لقب الغوث بن طانجة ولقب أولاده وقد كانت له ولهم من بعده الإجازة بالحج للناس من عرفة، وسبب تسميته بصوفة ما رواه الكلبي أنه ما كان يعيش لأمه ولد فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت فقيل له: صوفة ولولده من بعده، وتعليق الصوفة في الرأس عادة جاهلية باقية في البادية إلى أيامنا هذه، ولكن النسبة إلى صوفة مما تستبعد إذ لم ينتسب إليها أحد من قراء الصحابة ونساكهم، ولا عرفت لذريته في الإسلام بقية اشتهرت بالزهادة والعبادة، فالأنساب إلى أمر أسلامي مشهور أقرب إلى الصحة منه إلى أمر جاهلي مغمور، وإما النسبة إلى صفة المسجد النبوي في المدينة فقياسها الصرفي صفي لا صوفي وكذلك النسبة إلى الصف الأول في الصلاة أو إلى الصوفانة وهي بقلة قصيرة صحراوية، قيل أنهم نسبوا إليها لاجتزائهم بنباتها طعاماً، ولو صحت لقيل صفى أو صوفاني، وأعب منها النسبة إلى صوفي الفعل المجهول من صافي، والظاهر أنه لقب شرف منحه الشاعر للصوفية بقوله: ولست أمنح هذا الاسم غير فتى صافى فصوفي لهذا سمي الصوفي وعلى ذلك تكون هذه النسبة الشعرية خيالية لا حقيقية، وأما النسبة (1) إلى صوفيا بمعنى الحكمة أو ثيو صوفيا الإغريقية فغير صحيحة، قال نولدكه لأن العرب كانوا يعربون حرف سيغما من الأبجدية الإغريقية بحرف سين لا صاد فقالوا فيلسوف وسفاسطائي، فلو كانت النسبة إليها لقالوا تسوف لا تصوف بالسين لا بالصاد ولأنه ليس ثمة صلة أرامية بين صوفيا وصوفي تسهل النسبة إليها ومما يقوي النسبة إلى الصوف أن الزهاد لبسوه في صدر الإسلام، وانتشر لبوسه بين التابعين من القراء والقصاص والمتعبدين حتى غلب لبسه على المتصوفة في أواخر القرن الثاني وإن لم يختصوا به، وكاد يعمهم في القرن الثالث حتى صار الصوف لهم علماً به يعرفون وإليه ينتمون. أما ما ورد في فضل لبسه من الأحاديث فمن الموضوعات (2) التي لا يثبت منها شيء وإنما كان الرسول يلبسه في بعض الأوقات، ويتفقد من يلبسونه رياءً وسمعة، فقد روي عنه إنه قال: (إن الأرض لتعج إلى ربها ن الذين يلبسون الصوف رياء). وكان يتعوذ من لبس المنافقين، وقد سئل الحسن عن لبسهم فقال: خشوع اللباس بغير خشوع القلب، وهو الذي أنكر على فرقد لبسه الصوف للشهرة بقوله: يا فرقد يا ابن أم

فريقد إن البرليس في هذا الكساء (من الصوف) وإنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل ثم أنكر أبو العالية على عبد الكريم أبي أمية ما عليه من ثياب الصوف قائلاً إنها ثياب الرهبان، كما أنكر على فرقد السيجي حماد بن أبي سليمان في البصرة قائلا: ضع عنك نصرانيتك هذه فالظاهر أن الاستمرار على لبوس الصوف وعدم تبديله مقتبس من الرهبانية النصرانية وقد حارب الإسلام في الكتاب والسنة هذه الرهبانية، مما حدا بنيكاسون وغيره إلى الاعتقاد أن النصرانية أثرت في التصوف تأثير الأفلاطونية الجديدة والزردشتية والبوذية وغيرها، فضلاً عن تأثيرات المتكلمين والباطنية، ولعلنا في الخلاصات التالية التي سننشرها في مجلة الثقافة الممتعة سنتحدث لقرائها الكرام عن بعض تلك الحقائق أو النظريات الصوفية وعن تلك العناصر الأجنبية التي استمدت منها غذائها واكتسبت نمائها. دمشق عز الدين التنوخي

الجناح المكسور

الجناح المكسور أرأيتها وقد طارت بجناحيها، آمنة عوادي الزمن لقد شدت بين الرياض، وحامت حول الأزاهر، وتنقلت من غصن إلى فنن لقد مضت والربيع، إلى ضفاف الغدير، تشرب في كؤوسالزهور، رحيق الشباب والهوى ومشت يحدوها الهيام، على رمال البحار، وفي سفوح الجبال، ترتل أناشيد الصبي وغرتها أماني الحياة، فظنت وعود الزمان حقيقة لا تُفترى وهبت العاصفة. . . . فإذا الجناح ينكسر، إذا الآمال تنقضي، وإذا الهوة سحيقة المدى لقد أضناها المسير، وأجهدها النحيب، فارتمت وقدفت في عضدها الأسى يا للرجال الراحمين!!!!! لقد رددت صخور الوادي صوت الأنين، فلا من مجيب سوى رجع الصدى. كاظم الداغستاني

علم الاجتماع وعلم وصف الجماعات

علم الاجتماع وعلم وصف الجماعات من جان غولميه إلى كاظم الداغستاني عن الفرنسية قال دور كليم في نتيجة ما استخلصه من قواعده الشهيرة التي وضعها لعلم الاجتماع، وفي قوله شيء من السيطرة ما يأتي: نعتقد أنه قد آن لعلم الاجتماع أن يتصف بصفات العلم الحقيقية لا أن يقتصر على مالقيه من النجاح الذي يلقاه كل شيء جديد في هذا العصر وعلى أثر دور كليم سار رجال المذهب الاجتماعي الفرنسي فأرادوا أن يلبسوا أبحاثهم هذه الصبغة العلمية التي تمناها شيخهم وأضع هذا العلم. فهل وفقوا؟. هذا ما يجب البحث فيه منذ الآن بع أن أصبح مذهب دور كليم في علم الاجتماع نوعاً من الفلسفة (الرسمية) في فرنسا وأصبح تلمذة دور كليم وأشياعه ك (ليفي برول) و (بوكله) و (موص) و (دافي) و (وفو كونه) من أعاظم الأساتذة في الجامعات الكبرى. لقد أيدت التجارب أن كل مذهب علمي يدرس في جامعة من الجامعات يصبح وقد أصابه من الجمود ما يفقده صفات الكائن الحي. نزيد على ذلك أن هذه القضية هي ذات بال في هذه البلاد حيث علم الاجتماع يستهوي عدداً كبيراً من الشبان فيعتبرونه وكأنه أحدث ما ظهر مما أنتجته القرائح العلمية في الغرب ويضعون في قواعده وأصوله، كما أتضح لنا، من الثقة ما تدعو الحيطة لأن نحذرهم منه وننبههم إليه. يرى دور كليم أن علم الاجتماع هو علم الحاثات الاجتماعية ولذلك فهو يعتقد أن كيان هذا العلم يقوم على تعريف الحادث الاجتماعي ومراقبته ودرسه وتفسيره ثم إثباته ولهذا الأسلوب العلمي من القواعد والتعابير ما يجعل لعلم الاجتماع (سوسيوغرافيا) صورة عليمة ويخيل إلينا أنه ليس هنالك من العلم إلا صورته الظاهرية. ونستطيع القول أن دور كليم أسس مذهبه على معنى واحد لكلمة لها معان مختلفة فاتخذ العلم بمعنى المعرفة فقال علم الاجتماع هو علم الحادث الاجتماعي وذلك على مثال قولهم: علم ما وراء الطبيعة هو العلم الإلهي أي معرفة الله، ولقد عدا بعد ذلك هذا التعريف الذي وضعوه لعلم الاجتماع لاستنباط الفكرة العلمية من معرفة الحادث الاجتماعي وهذا أدى أيضاً إلى وضع أصول وقاعد

اجتماعية وتأسيس مذهب خاص في علم الاجتماع. ولكن أين العلم الصحيح من ذلك؟ إن مذهب دور كليم الاجتماعي يقوم على أسس مجردة من التصور والتصديق وأهمها العامل الاجتماعي الذي لا مندوحة عن الخضوع لمشيئته وغير ذلك من الأصول ذات النتائج الخطرة كالتدرج في الحياة من المتجانس إلى المتباين وقاعدة التحريم (تابو) ونظرية العقلية الولية لواضعها ليفي برول وغيرها من الأصول والنظريات التي لا نرى محلاً هنا لذكرها وتعداها. وقليل من التفكير العلمي يكفي لكي يتأكد الباحث أن ليس في ذلك كله إلا فرضيات، على أن للفرضيات العلمية أصولاً لا تجعلها أبداً في قواعد المذهب الاجتماعي الفرنسي (ولعل القارئ يستغرب الأمر إذ نبهناه إل الأصل اليهودي الذي يمت إليه دور كليم وليي بورل وموص فيجد معنا في هذا المذهب أثراً ظاهراً لفكرة قضاء ما وراء الطبيعة المحتم التي جرى عليها مفكرو بني إسرائيل فكانوا في تفكيرهم كهنة وأنبياء أكثر منهم فلاسفة) وكيفما كان المر فإن علم الاجتماع (سوسيولوجيا) جدير بأن يسمى: العلم الوليد الذي ليس فيه فرضيات علمية. وبعبارة أخرى قد تكن شديدة اللهجة: هو علم أسس على التصديق لا على الواقع وجريا على هذا الأسلوب في تصديق الأشياء دون البحث عن حقيقتها فق ألفت مؤلفات ضخمة لعلم الاجتماع ككتاب فوكونه عن التبعة وتاب دافي عن الحلف وكتب دور كليم في الانتحار وفي زواج المحارم ومع ذلك فإننا لا نريد أن نشك بأن النظريات قد سبقت هذه المؤلفات بل نميل إلى الظن بأن المؤلفين قد استنبطوا آراءهم مما وضعوه ودرسوه ولولا ذلك لما كان لهذه الكتب من الصفات ما يدعو الباحث المتتبع إلى الحذر منها والاشتباه بصحتها. . والخلاصة أنه ليس من الظلم في شيء إذا قلنا بأن دور كليم يمثل لنا في علمه إذا استعنا بتعبير أوغوست كونت - مرحلة ماوراء الطبيعة وقد مثل روسو من قبل المرحلة الدينية لا العلم وها نحن أولاً نصل اليوم إلى المرحلة الثالثة من تطور علم الاجتماع التي هي مرحلة العلم الصحيح. إننا نفضل على تعبير علم الاجتماع الذي لا يخلو من إدعاء تعبير (سوسيو غرافيا) أي علم وصف الجماعات وهو علم له محسنات كثيرة من أهمها أنه واضح وذو أصول مستقلة في حدود معينة وهو لا يطمح إلى تعميم شامل يتطلب مواد كثيرة من الحادثات الاجتماعية تلك الحادثات التي لم يعرف حقيقة أكثرها بع ونقول ذلك إننا نعتقد أن أمثال هذه المؤلفات التي

ذكرناها لا تصح مستنداً لما يطمح إله علم الاجتماع من بسط الأحكام وتعميمها ونضرب على ذلك بعض الأمثلة: لقد نشر الأستاذ بوكله منذ عهد قريب كتاباً عن نظام الطبقات الاجتماعية في الهند ولقد يظن القارئ أن المؤلف قضى قبل أن يتعرض لها البحث بضع سنوات في بلاد الهند باحثاً متتبعاً فدرس اللغات الهندية واختلط بأبناء الهند فعرف عاداتهم وأخلاقهم وأختبر أفكارهم وآراءهم في الحياة. ولكن ليس هنالك شيء من هذا. وكذلك دور كليم فقد وضع مؤلفه الشهير عن أصول الطوطمية في أستراليا فأستمد جميع مواد بحثه من أشخاص آخرين شاهدوها بأنفسهم أو نقلوها هم أيضاً عن غيرهم وقد أعتمد في أكثر ما وصفه من الحادثات الاجتماعية على تقارير من جهلوا لغة وعادات البلاد التي مروا بها في طريقهم وعاداتهم أ، على ما كتبه المبشرون الذين يشوهون بقصد أو بدون قصد ما يلحظونه من ظاهر الفكر دون أن يتعمقوا في درسه وتفهمه. وهكذا أيضاً فإن ليفي برول ألف كتابه عن العقلية الأولية في القبائل الهمجية دون أن يرى هو نفسه في كل حياته واحداً من أفراد تلك القبائل يعيش في البيئة التي وصفها وتكلم عنها. إن ذلك أشبه شيء بحكم يصدره أحد نقدة الفنون في تقدير صورة من عمل الرسام رفائيل مكتفياً بالنظر لرسم فوتوغرافي بسيط نقل عن الصورة الأصلية أو بحكم طبيب أستن ف تشخيص المرض على ما وصفه له أحد الجهلاء من حالة المريض الذي لم يعده قط. فإذا لم يقم عدد وافر من العلماء والباحثين ينصرفون لوصف دقائق الحادثات الاجتماعية في الجماعات ويدرسونها بأنفسهم فيصفونها كماهي لا كما يجب أن تكون فإن كل تعميم بهذا الشأن يكون عبثاً لا ترجى من ورائه فائدة علمية. وعلى وصف هذه النواحي المختلفة في الأوضاع الاجتماعية يجب أن تقوم دعائم (السوسيوغرافيا) علم وصف الجماعات على أن يترك التعميم بسط الأحكام لمن يجيء في الآتي من العلماء الذين يستفيدون مما تقدم بإضافته إلى ما وصفه الآخرون في الجماعات الأخرى التي درسوا وعرفوها بأنفسهم. فعلم الكيمياء لم يكن ليستحق لقب العلم قبل أن ينبذ نظرية الإحراق الموهومة التي كانت إحدى مراحل تطوره قبل ظهور العالم لافوازيه ولعل هذه المرحلة هي نفسها التي يجتازها اليوم علم الاجتماع بانتظار من يؤدي له الخدمات التي أداها لافوازيه إلى علم الكيمياء. ومن الغرائب المدهشة أن أصحاب المذهب الاجتماعي الفرنسي استطاعوا أن يتركوا مجالاً

للبحث في الصلات القائمة بين علم الاجتماع والأخلاق بداعي أنه يمكن الاستعاضة عن الأخلاق بعلم الاجتماع وقد أرادوا بذلك أن يؤسسوا أخلاقا مستنبطة من العلم ولكن أليس في ذلك ما يؤيد أن علم الاجتماع في وضعه هو كالأخلاق على أن الأخلاق لا يمكن أن تتصف بصفة العلم بمعناها الوضعي المعروف يزاد على ذلك ما ينشأ من الخطر من جراء وصفها بهذه الصفة وسترها بها الستار العلمي الموهوم. أما في علم وصف الجماعات فليس هنالك ما يدعو لهذا المحاذير ولهذا الخلط بين شيئين مختلفين فالباحثون يكتفون بوصف الأوضاع الاجتماعية من الوجهة الفكرية والمادية دون أن يحتاجوا للاستعانة بما يسميه دور كليم في قواعده الاجتماعية (التصرف تقديم الأدلة) وبذلك يصفون الحادثات الاجتماعية كما هي دون أن يجعلوا منها أدلة وحججاً ليسخروها في تأييد نظرية من النظريات الموضوعة. فعلى هذا الأساس الذي يأبى أن يستعجل الشيء قبل أوانه يجب أن يبنى العلم الاجتماعي وبهذه الشروط وحدها يمكنه أن يكون علماً خصباً يبحث في أوضاع الإنسان بحثاً دقيقاً تستطيع الإنسانية أن تستفيد منه في الآتي فوائد كبرى. دمشق في 28 آذار سنة 933 جان غولميه

آراء في النقد واللغة

آراء في النقد واللغة معنى النقد بقلم الأستاذ محمد البزم حاول كثير ممن تكلف الكتابة في النقد أن يثبت أن هناك فناً يجب أن يدعى فن النقد، فبذلوا ف ذلك كثيراً من الوقت في البحث والتنقيب عما يظفرهم بضالتهم وينتهي بهم إلى طلبتهم فعادوا وملء أيديهم الإخفاق واردانهم الخيبة: غير أنهم أبو إلا أن يضعوا في ذلك تآليف أرادوا بها حمل الناس على الاعتقاد بأنها كتب في النقد وليست هي في الواقع إلا أبحاثاً في شؤون مختلفة شاؤا أن يطلقوا عليها فن النقد. على أن من تتبع ما قاله العرب - ونحن إنما نتكلم عن النقد في لغة العرب - في لفظة النقد والانتقاد يعلم أن ليس من ضرورة لأن يكون بين العلوم ومستحدث الفنون علم أو فن يسمى فن النقد أو علمه إذ أ، هذه اللفظة قلما تستعمل غير مضافة إلى لفظة أخرى كقولك: نقد الشعر ونق الأدب ونقد اللغة وغير ذلك ما ق يعرض لمعانيه الخطأ فيه والنقص ببعض شؤونه والتقصير في جهة من جهاته فيبدو لبعض الناس خلله دون بعض ويتجلى مكان الضعف فيه لنفر دون آخرين، فليس يستطيع أن يتعرض لنقد شيء أياً كان إلا ما هو فيه حاذق بتفاصيله وجمله وقد كان للأمة العربةي في النقد عناية كبيرة وحفاوة واهتمام لا تزيد عليها فيه أمة من الأمم. يدلنا على ذلك كثرة ما اسحدثته لها المعنى من الألفاظ المرادفة لكمة النقد. وإن كان لقائل أن يقول أن كثرة الكلمات الدالة على النقد في العربية ليست حتما أن تكون دليلاً على هذه العناية وتلك الحفاوة لأن العرب من خصائص لغتهم كثرة الترادف فقد وقفوا للمعنى الواحد من الأفعال والأسماء والحروف ما تضيق عن بعضه أد اللغات سعة وأكثرها عدد كلم، غير أن كثرة المترادف لمعنى النقد ليست مستندنا وحده بل هناك أدلة جمة تدل دلالة نيرة على أن النقد كان فطريا في العرب لما جبلوا عليه من قوة الطباع وسلامة الفطر وتوقد الخواطر وشدة الإلهام يعلم هذا ويروح منه على أشد من اليقين من كثر اختلافه إلى كتب أدب العرب وطال عهده بممارستها مع نفوذ بصر وصفاء بصيرة فأصبح وليس بالمتعذر عليه أن يجيء من الأدلة والبراهين بما لا يسع مكابراً أو منكراً ن يقوم له أو يثبت أمامه خلافاً لما اعتمده وقلد به بعض المتكلين في الأدب ول رو بذلك لأن السبب فيه

أنهم حديثو عهد بالأدب وأن للأدب العربي آفاقا لم يتح لهم الجولان في عامتها أو الانتهاء إلى غايتها والإشراف عليها جملة، وليس من شك بأن النقد في أي فن أو علم إنما هو نتيجة الثقافة فيه وإن من ينصب نفسه لانتقاد شيء تحتم عليه أن يكون ملماً به إلمام الإحاطة بكل منحى من مناحيه متغلغلاً كل التغلغل في مدابه وخوافيه فلا ينتقد في اللغة مثلاً إلا من قتلها خبرة وعلماً وقتلته ممارسة وعمراً ولا يأخذ على الشعراء شيئاً في شعرهم إلا من جرى الشعر في نفوسهم مجرى الدم في سمام أعراقهم فحذقوا من خفاياه ومداق شؤونه ما يحول بينهم وبين العسف فيه والجور والسفه على ذويه لما توفر عنده من عزة العلم وشمم المعرفة فيترفعون عن منح الألقاب هبات والنعوت فارغة أو ملأى على من لا يستحق إلا أن يسل لسان شيطانه من قفاه كيلا يجود عليه بما يبدو قرحة في وجه الشعر وخراجة في جسم الأدب. قال ابن سلام الجمحي في مقدمة كتابهطبقات الشعراء: وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهله كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومن ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز ولا حس ولا صفة ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها (1) وزائفها (2) وستوقها (3) ومفرغها (4) ومنه البصر بغريب النخل والبصر بأنواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده وتشابه لونه ومسه وذرعه حتى يضاف كل صنف منها إلى بلده الذي خرج منه وكذلك البصر بالرقيق فتوصف الجارية فيقال، ناصعة اللون، جيدة الشطب، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، جيدة النهود، ظريفة اللسان، واردة الشعر، فتكون بهذه الصفة بمائة دينار وبمئتي دينار وتكون بأخرى بألف دينار وأكثر لا يجد واصفها مزيداً على هذه الصفة وقد أبى الله لهذه العامة إلا أن يكون لها سبق إلى كثير من استعمال ألفاظ لا تتعدى فيها ما أرادته العرب من معان كثيراً ما تنحرف عنها الخاصة جهلاً أو ذهولاً فلا تأبه - أي الخاصة - ولا تفطن لجهلها أو ذهولها حتى يصدع بخطاها صادع أو بشهر أمرها مشهر وذلك كثير بحيث يتعذر علينا الإتيان عليه إلا في كلمة ضخمة عسانا نرسلها متسلسلة في

هذه المجلة حتى إذا تمت أخرجت للناس كتاباً قد يكون عوناً كبيراً لكل كاتب أو شاعر من أبناء الضاد. فمن هذه الألفاظ التي يستعملها العامة بالمعنى المقصود عند العرب ويجاريهم بذلك بعض الخاصة ممن أشتد بصره في اللغة كلمة النقد فهم لا يقولون نقد فلان فلاناً إلا إذا أخذ عليه أو عاب خلة أو اهتدى إلى موطن سبة. وهاك ما دونه أرباب المعاجم عن أفواه العرب في كلمة النقد قالوا: النقد والتنقاد تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها. روى سيبويه لأحدهم يصف ناقة: البهرج: الدرهم المضروب في غير دار الأمير الزائف: الدرهم الرديء المردود لغش فيه. جمعه: (زيف) و (زيوف) الستوق: على وزن تنور وقدوس: درهم زيف بهرج ملبس بالفضة وقيل هو أردأ من البهرج المفرغ: المصبوب في قالب ليس بمضروب ضرباً. تنفي يداها الحصي في كل هاجرة نفي الدراهم تنقاد الصياريف وقالوا: ناقدت الرجل مناقدة إذا ناقشته في الأمر، ونقد الصبي الحوزة إن يضربها بإصبعه ونقد الرجل أرنبة انفه ضربها وفي حديث أبي الدر داء انه قال إن نقدت الناس نقدوك وان تركتهم تركوك. ويقال نقد بصره إلى الشيء ونقد بعينه الشيء ونقد بعينه الشيء إذا خالسه والنقد مخالسة النظر بحيث لايفطن له وما زال بصره ينقد إلى ذالك نقودا شبه بنظر الناقد إلى ما ينقده ومن ذالك النقد بفتحتين لنوع من الغنم قصير الأرجل ولسفلة الناس، إلى غير ذالك مما يجيء بمزيد هذه المادة فأنت ترى في كل متقدم إن كلمة النقد أم تخرج عن العيب والإنكار إلا إلى ما يشبهه ويقاربه من إرادة الشر يبدو ذالك بينا ظاهرة لكل من رزق نصيبا من حسن النظر في هذه اللغة هذا وان أمهرة ممن ألفوا في خصائص اللغة أدركوا هذا الذي ندعيه بلفظة النقد فلم يخلطوا المترادف منها بغيره من الألفاظ الاختبار والبحث كما فعل إبراهيم اليازجي في كتابه (نجعة الرائد) فانه فظلا عن مزجه باب النقد بالاختبار فقد أذبت كثيرا مما أورده في باب النقد في الذم، وعذره في هذا شدة التقارب بين البابين حتى انه لو جمع بينهما لكان أدنى

إلى الصواب من عمله الأول. وهذا عبد الرحمن الهمذاني يقول في كتابه (الألفاظ الكتابية) في باب المناقد: تقصيت على الرجل وحاصصته على الأمر محاصة وناقشته وصارفته وناقدته وحاسبته. قال بعض الأدباء: محاسبة الصديق على الأمور دفاءة وترك الحقوق للضنين غباوة إلى أخر ما يرى أكثره في كتب الخصائص وجملته في كتابنا ((الجحيم) لاحتفالنا بالنقد هناك توسعا وإشباعا وسدا لنهم محبي الاطلاع على مال لعرب في النقد وجري بنا وقد نقلنا شيئاً من مادة النقد وما يريد منها العرب في كلامهم إن الثقافة ج1 - م 11 الثقافة نورد ما يرادفه على تقارب في المعنى واختلاف قليل في مواطن الاستعمال وفرق لا يأبه إليه إلا الكيس اللبق من أهل اللغة والكتاب والشعراء، غير ما ذكر عن عبد الرحمن الهمذاني: قال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز نقرته وناقرته، عبته وغبته ورميته بناقرة ونواقر وبينها مناقرة أي مراجعة كلام ونقرت عن الخبر ونقرة عن الخبر ونقرت عنه بحثت وعبت وسهم ناقر أي صائب قال الشاعر: رميت بلانواقر الصياب ... أعداءكم فنالهم ذنابي ومثل هذه رذل الشيء جعله رذيلا ضد انتقاه وارذله مثله. تقول: ارذل فلان من غنمي وأصحابي كذا عددا عابه ورده ونقاه ولم يرضه وعلى هذا فلا بد لنا من القول بأن اللغات والألفاظ كالأمم والفراد تعلو في زمن وتنحط في غيره وترتقي في إقليم وتهبط في آخر وتحالفها السعوج في قطر وتناكرها في سواه ولم يكن عصر من إعصار اللغة يخلو من أن تكون السيادة فيه لكوكبة من الألفاظ تلح على استعمالها الخاصة ويتهافت عليها السواد مجاراة وتقليداً. ومن هذه الألفاظ التي كان لها سيادة وذيوع، وترادف كلمة النقد على فرق قليل ولم تصل إليه أيدي أصحاب كتب الخصائص: التتبع. قال في اللسان: التتبع أن تتبع في مهلة شيئاً بعد شيء وفلان يتتبع مساوئ فلان وأثره ويتتبع مداق أموره. وفي كتاب (البخلاء) للجاحظ في حديث سهل بن هارون رداً على أناس عابوا عليه قولاً لهوقد تتبعتموني في قولي كذا أي أخذتم وعبتم ولست أشك في أن

لفظة التتبع هذه كان لها من الحول والسلطان والذيوع على الألسنة، صدر الدولة العباسية حتى عجزها، ما لا يقل عن نفوذ كلمة النقد اليوم. وإن في لفظة التتبع مع جدتها وحداثة عهدنا بها من الجمال ما تطيق معها مزاحمة كلمة النقد بعد أن ألحفنا عليها ذلك الإلحاف الذي أغرى العالمة فلهجوا بها حتى أذهبوا من جدتها وأنضبوا من ماء بهائها، على أن من أعين بالصبر وأمد بسعة الجلد على طول التنقيب يجد في ثنايا اللغة مما يجري مجرى كلمة النقد والتتبع الشيء الكثير مما لم يعثر عليه مؤلفو الخصائص في اللغة. محمد البزم

الأزمات وتعليلها في التاريخ

الأزمات وتعليلها في التاريخ لماذا تحدث الحروب والفتن والمجاعات من وقت لآخر؟ ومن أين تنزل على البشرية تلك المصائب؟ وما هي الأسباب في توالي الأزمات التاريخية حيناً بعد حين؟ إننا إذا سألنا مؤرخا صادقاً، صريحاً - وما أقل أمثاله بين المؤرخين ويا للأسف! - إذا سألنا مؤرخا عن الأزمات في التاريخ فلا بد أن يجيبنا بأن جميع العصور والأمصار كانت دائماً مسرحاً لويلات الحروب وفظائع الفتن وفواجع المجاعات وإن أوقات السلم والهناء والاطمئنان لم تكن سوى فترات قصيرة جداً أو بالأحرى مراحل تستريح فيها البشرية قليلاً قبل أن تعود إلى عهدها السابق، عهد الملاحم والآلام والتزاحم. ويمكن القول أن عصور الفوضى والاضطراب هي الحال الطبيعية للبشر وأن سنوات الراحة والازدهار ليست إلا أدوار انتقال مؤقتة. على أن الناس، حسب فطرهم، لا يستغربون سعادتهم ولا يتعجبون إذا وجدوا من الخبز ما يكفيهم فلا ينقص بدرجة تقضي على الكثيرين باحتمال الجوع ولا يزيد عن اللازم حتى يستطيع المزارعون بيع محصولهم مقابل حاجاتهم الأخرى. وهم كذلك لا يستغربون إذا رأوا أحياناً الأمم تعيش في وئام فلا تشن إحداها الغارة على الأخرى أو تسعى للقضاء عليها واستثمارها تدريجياً بعهود ثقيلة ترغمها عليها. بل الناس يأخذهم العجب إذا صادف واختل نظام هذه العلاقات وانتهت بذلك فترة الهدوء واشتعلت نار الحروب والفتن من جديد وتعاقبت المجاعات والأوبئة فإنهم حينئذٍ يتساءلون عن هذه الأزمات ويريدون أن يعرفوا: من أين أتت؟ لأن رجال الدين لم يقدموا إلى الآلهة الظلام ما يكفي من ضحايا لإرضائهم بالرشوة. هكذا تعلل الأقوام الابتدائية في الماضي والحاضر الأزمات التاريخية. وكانت الكتب المقدسة عند بني إسرائيل تدعي بأن الشعب قد استحق في كل مرة نقمة الإله لأعراضه عن سماع مواعظ أنبيائه وانغماسه في المنكرات. ذلك هو التعليل الدين للأزمات ومنه نرى أن الناس كانوا يرجعون السبب فيما يحيق بهم من مصائب إلى خبث آلهتهم أو نقمة الرب وعقابه أي إلى قوى فوق الطبيعة. ثم لما فقد الناس العقيدة الدينية فإنهم كانوا، إذا رأوا الأعداء إنما تغزوا بلادهم عندما ينقصهم السلاح اللازم للدفاع أو أن أسعار البضائع إنما تهبط بصورة لا مثيل له بينما هم

لا يملكون شيئاً من النقود - كان الناس الملحدون يعزون مثل هذه الأمور إلى الصدف والظروف السيئة ومعاكسة الحظوظ. وكثيرون من العلماء وكبار المفكرين كانوا لا ينظرون إلى الأزمات التاريخية إلا كعوارض استثنائية من كوارث الطبيعة نشأت عن نقص أو اختلال في نظام الكون. ولم يحاول الناس إلا في العصور المتأخرة تعليل الأزمات تعليلً علمياً علا يعتبرونها من مجرد الصدفة السيئة بل يحاولون كشف أسرارها وإظهار أسبابها الطبيعية وتصويرها كنتيجة محتمة لا سبقها من الحوادث. ولعل أول من فكر في تعليل الأزمات التاريخية بصورة علمية هو ابن خلدون الذي نعده بحق مؤسس فلسفة التاريخ والاجتماع بالمعنى الحديث. فإن المؤرخين قبله سواء اليونانيين أو الرومانيين أو العرب كانوا يقتصرون في مؤلفاتهم على مجرد سرد الحوادث التاريخية دون أن يتعرضوا للبحث في مجرى التاريخ العام وكشف العوامل المؤثرة فيه. تقوم فلسفة ابن خلدون التاريخية على نظرية طبيعية لا تفرق بين حوادث الطبيعة الخارجية وبين وقائع التاريخ. فإن البشر في جميع أحوالهم لا يخرجون، على رأيه عن نظام الكون العام وهم خاضعون في تطورهم التاريخي أيضاً لنواميس الطبيعة الأبدية. ويقول ابن خلون أن الهرم في الدولة مثلاً من الأمور الطبيعية وهو يحدث كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني ولا يمكن ارتفاعهلأن الأمور الطبيعية لا تتبدل. (أنظر مقدمة ابن خلدون - فصل في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع.) ومما يدل على أن ابن خلدون لم يكن يتقيد بالنظرية الدينية في التاريخ سعيه لإخضاع الأنبياء أيضاً لقوانينه التاريخية فقال: وهكذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء. لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة (راجع: فصل في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم) ومعنى هذا أن التطور التاريخي يجري على وتيرة واحدة وحسب نظام ثابت لا يتغير أبداً. أما العوامل الحقيقية المؤثرة في هذا التطور فإنما هي على رأي ابن خلدون، في الدرجة

الأولى شروط الحياة الاقتصادية. ولا شك في أن ابن خلدون من الذين سبقوا (كارك ماركس) إلى الفكرة الأساسية في نظرية (المادية التاريخية) التي تجعل للاقتصاد، أي للمادة المقام الأول في تكييف حياة البشر. وقد قال ابن خلون: أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش. أي أن نطور الأوضاع الاجتماعية والتاريخية تابع لتبدل الشروط في الحياة الاقتصادية وهذه النظرية التاريخية تقصر كل همها على الأزمات الاقتصادية ولا ترى في الأزمات السياسة والاجتماعية والفكرية بل والدينية أيضاً سوى نتائج طبيعية للأزمة الاقتصادية. فالأزمات التاريخية في نظر ابن خلدون ليست من آثار المصادفات أو من دلائل النقمة السماوية بل أنها خاضعة لقوانين طبيعية عامة ويمكن تعليلها كنتيجة محتمة وظاهرة لا مناص منها في مجرى التطور التاريخي. يرى ابن خلدون أن أمم إذا دخلت في طور الحضارة الذي يعتبره آخر مراحل سيرها، فلا بد أن تجتاحها الأزمات المتعاقبة إلى أن تضمحل قواها الحيوية وتتدهور ف هاوية الهلاك. وهو يعلل ذلك تعليلاً اقتصادياً بحتاً فيقول أن تفنن الأمصار في الحضارة يزيد في نفقات أهلها وارتفاع الأسعار في أسواقها ثم يزداد الغلاء بكثرة المكوس التي تضعها الحكومات في عهد استفحال الحضارة وهكذا تعظم نفقات أهل العمران وتخرج عن القصد إلى الإسراف ونتيجة ذلك، بطبيعة الحال، كساد الأسواق وفساد المدنية. (أنظر: فصل في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره). وفي فصل آخر من المقدمة يبين ابن خلدون بأن المجاعات والموتان تكثر في أواخر الدول وذلك لقبض الناس أيديهم عن الفلح بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة (فصل في وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات) ولما كان العالم اليوم في أزمة اقتصادية عامة ظهر تأثيرها في جميع آثار الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية نرى من المفيد استعراض النظريات المختلفة التي حاول أصحابها، مثل ابن خلدون، تعليل الأزمات التاريخية تعليلاً اقتصادياً. إن أول من بحث في الأزمات الاقتصادية بين علماء الاقتصاد والاجتماع الأوروبيين هم

أصحاب (المذهب الفيزيوقراطي) الذين ظهروا بفرنسا في عهد الثورة الكبرى. وكان هؤلاء يعتبرون الأرض كمنبع الثروة الوحيد ويعتقدون لذلك أن زيادة الإنتاج الزراعي تسبب الغلاء في نفقات الإنتاج الاقتصادي العام وإلى مدرسة (الفيزيوقراطيين) ترجع جميع النظريات المتأخرة التي تعلل الأزمات الاقتصادية بكثرة الإنتاج وزيادته عن الحد الطبيعي. وتقول هذه النظريات أن الأزمات الاقتصادية تتكرر بانتظام كل عشر سنوات وتتجلى فيها العوارض نفسها. فإنه في أول هذه المدة تزداد وسائل الإنتاج من آلات وأدوات ومواد ابتدائية ولا يمكن أن يباشر في استثمار هذه الوسائل الجديدة إلا بعد عشر سنوات. وحينئذٍ يغمر السوق بسيل دافق من المصنوعات والمنتوجات الجديدة التي تسبب سقوط الأسعار وحصول الأزمة. وعلى نقيض هذه النظريات كان (كارل ماركس) وأشياعه من الاشتراكيين يريدون تعليل الأزمات الاقتصادية لا بكثرة الإنتاج بل بقلة الاستهلاك. فهو يقول أن الأرباح الناتجة عن الآلات والأدوات والمخترعات الحديثة لا يستفيد منها العمال بل تتسرب إلى خزائن الرأسماليين الذين يستخدمونها لإنشاء معامل جديدة وزيادة منتوجاتهم وتحسينها. هذا ف حين أن العمال الذين صنعت هذه المنتوجات لهم لم تزدد أجورهم فلا يستطيعون لذلك اشتراءها فتتكدس البضائع في الأسواق وتهبط الأسعار وتحدث الأزمة التي تتوقف فيها الأعمال وتكسد المتاجر ويدوم ذلك مدة يعقبها نشاط جديدة بسبب تراكم رؤوس الأموال في أيدٍ قليلة قوية تنظم الحياة الاقتصادية من جديد. وهكذا على التوالي إلى أن ينهار النظام الرأسمالي السائد وتستولي الحكومة، ممثلة الجمهور، على وسائل الإنتاج جميعها. والمباحثات الجديدة في الأزمة الاقتصادية الحاضرة بصورة خاصة، مثل كتاب نهاية الرأسمالية الذي انتشر مؤخراً بالألمانية تحت الاسم المستعار (فرديناند فريد) ونقل إلى كثير من اللغات الأخرى، توجه كل اهتمامها إلى هذه الظاهرة الأساسية وهي: تمركز رؤوس الأموال وتأسيس نقابات وشركات كبيرة موحدة من طبيعتها أن تقضي على التزاحم والتنافس في الأسواق الحرة. ويرى (فرديناند فريد) أن النتيجة المنطقية والغاية الطبيعية لهذا التطور يجب أن تكون في انتقال هذه المؤسسات الاقتصادية التي اكتسبت صبغة اجتماعية، إلى ملك الدولة وتصرفها فتتألف بذلك مناطق اقت2ادية كبرى مستقلة في

سياستها التجارية مثل منطقة أوروبا الوسطى أو منطقة الشرق الأدنى أو غيرهما. وكل واحدة من هذه المناطق تعيش ضمن نظام خاص بها لا يقتصر على حياتها الاقتصادية وحدها بل الاجتماعية والسياسية والروحية أيضاً وأختلف في أسسه عن الأوضاع السائدة اليوم وها نرى أن الباحثين المعاصرين لا يريدون الوقوف عند حد تعليل الأزمة بل يسعون كذلك وراء معرفة الوسائل الناجعة للخلاص منها. إلا أننا بذلك نخرج عن نطاق البحث العلمي المجرد وندخل في بحر النظريات التي لا تخلو من صبغة سياسية لأنها تحاول قلب الأوضاع الحاضرة وتبديلها بغيرها. وهاك مباحث كثيرة في تعليل الأزمات السياسية والفكرية والأدبية في التاريخ لا تجعل للاقتصاد هذه المكانة الأساسية مثل النظريات الاقتصادية التي نوهنا بها سوف نسعى للتعرض إليها في فرصة أخرى. . . . . كامل عياد

هنري برغسون والأخلاق

هنري برغسون والأخلاق كنا ننتظر بعارغ الصبر ظهور كتاب (هنري برغسو) في الأخلاق. وكنا نشك، قبل ظهوره، في قيمة التطور المبدع وطريقة الحدس. إلا أن هنري برغسون بدد كل ما يحيط بمذهبه من الشك وأخرج لنا في هذا العام كتاب الأخلاق الذي سماه: منبعي الأخلاق والدين (1). لسنا نستطيع أن نلخص بهذه الكلمة كل ما جاء في كتاب الأخلاق من الأفكار الصائبة والأحكام العميقة، لأن كل فقرة لا بل كل كلمة من هنري برغسون تحتاج إلى إيضاح دقيق وشرح طويل. ولا غر فهو فيلسوف العصر، ولم نجد فيلسوفاً بلغ منذ عهد (كانت) و (شوبنهاور) الدرجة التي بلغها مهنري برغسون من التفكير العميق والتجريد العجيب والبيان الساحر. إذا قرأته لا يستولي على عقلك فقط بل يأخذ بمجامع قلبك فتجد في كل كلمة من كلماته سحراً يدعوك إلى أن تكون من أصحابه وتلاميذه. قال (ويليم جيمس) في كتاب التجربة (ص - 256) (2): أقرأ هنري برغسون، تجد في كل صفحة من صفحاته، لا بل في كل سطر من سطوره أفقاً جديداً. فكأنك تشعر بنسمات الصبح أو تسمع تغريد الطير، وكأن اللغة التي يكلمك بها هي لغة الحقيقة والوجود، لا لغة التعليم التي ينقل غبارها إليك طائفة من الأساتذة الذين تعودوا أن يغربلوا أفكار غيرهم أجل إن اللغة التي يكتب بها هنري برغسون هي لغة الإلهام، وطريقته هي طريقة الحدس. أما أسلوبه فمعجزة من معجزات الفن وهوساحر عجيب. وليس يختلف هذا الأسلوب في (كتاب الأخلاق) عنه في كتاب التطور المبدع بل تشعر في كل منهما بالدافع الذي يتكلم عنه برغسون نفسه، ويخيل إليك أن المؤلف لم يغلق لك أفقاً أدنى إلا ليفتح ل أفقاً أعلى. وفي الحق أن للأخلاق كما للدين آفاقاً عديدة. ولك أفق مرتبة في الكمال تختلف عن مرتبة الآخر. إلا أن فيلسوف الحدس أرجع هذه الآفاق المختلفة إلى أفقين، أحدهما محدود متناه، والآخر غير محدود. وهذا الأفق المحدود هو أفق البيئة الاجتماعية الضيقة التي يعيش فيها الإنسان مقيداً بالعادات والتقاليد. أما الأفق الثاني فهو أفق الإنسانية الذي يتجرد فيه الفر من نطاق الحياة الاجتماعية الضيقة ويرتقي إلى إدراك المثل العليا السامية والغايات المجردة. ولذلك كان الأفق الأول ضيقاً والثاني واسعاً، يخضع

الفرد في الأفق الأول لضرورة التقاليد والواجبات الاجتماعية كما تخضع الأجسام لضرورة النواميس الطبيعية، ويتجرد في الأفق الثاني من هذا التضييق الاجتماعي، ثم يرتقي بأحلامه إلى مناهضة العادات المحدودة والقواعد الضيقة. الحياة الأولى أشبه بحياة المقيمين في كهف مغلق الأبواب أما الثانية فهي حياة فضاء لا جدول نهاية له. أنظر إلى واجبات الأفراد التي لا حيلة لهم في اختياراها سواء كانت عائلية أو وطنية، فإنهم مرغمون على إتباعها بسائق الغريزة وحاكم العادة لأنها واجبات اتباعية وذات نطاق محدود، ثم أنظر إلى وحي الأنبياء وأحلا الفلاسفة ودعوة المصلحين تجد أنهم لا يرغمونك بسائق التقاليد وضرورة الاجتماع على إتباع القواعد المألوفة، داخل نطاق المجتمع الضيق، بل يكلمونك بلغة الإلهام والحدس وتجد في أقوالهم ما يدعوك إلى الخروج من الأفق الضيق ويحملك على إتباعهم. فهناك إذن منبعان للأخلاق والدين أولهما الحياة الاجتماعية الضيقة والثاني حياة الإنسانية الواسعة. المنبع الأول محدود والثاني غير محدود. وللانتقال من المتناهي إلى غير المتناهي رجات لا ب للمتحرك من المرور بها. والفرق بين هذين النوعين من الأخلاق كالفرق بين الإدراك والأحلام. لأن الإدراك مقيد ثابت، أما الأحلام فمتحركة ومتبدلة. وهذا ما ينقلنا من السكون إلى الحركة ويدخلنا في فلسفة التصوف التي استخرجها هنري برغسون من كتاب التطور المبدع. وهو كتاب الكون والتجديد والإبداع والحياة والحب. ومما هو جدير بالذكر أن هنري برغسون لم يترك في كتاب الأخلاق فكرة من فكره الأولى بل تعصب لها ودافع عنها وحرك في أفكاره تلاميذه دافع الحياة وعالم الإبداع. لم يتراجع أما حملات المنتقدين واعتراض المعترضين بل زاد افتخاراً بتصوفه وروحانيته. وقد فرق في كتابه بين ديانة الجماعات الضيقة وديانة الإنسانية الواسعة التي ليس لها وطن. . وفرق أيضاً بين التقاليد الدينية التي تضيق على الأفراد والعبادة المفعمة بالأحلام والحب. وقال أن الإيمان ليس خوفاً وخشية بل هو أمان من الخوف. إذن فالديانة المتحركة خير في مذهبه من الديانة الساكنة وهذه الديانة المتحركة هي طريقة التصوف، ولا خلاص لمدنية الصناعة من شقاء المادة إلا بإبداع جديد في أفق الحياة الأخلاقية والجينية وذلك بالأعراض شيئاً فشيئاً عن مظاهر الرفاه والرجوع إلى الحياة البسيطة، لأن ازدياد الرفاه

وتعدد الحاجات، وارتقاء الاختراعات الصناعية كل ذلك لم يحسن مصير الإنسان ولا خفف من شقائه. ولا تقع تبعة ذلك على العلم لأن العلم لا يبحث عن السعادة ولا عن الشقاء. فلا محيد إذن عن التقدم العلمي. ولئن كان في التقدم حياة فليس في السكون واتباع التقاليد كمال. ولذلك انتقد هنري برغسون فرائض الديانات الاتباعية كما انتقد صور المدنية المزيفة. لأن المثل الأعلى عنده هو الحب. والحب هو الإبداع. فمما قاله في ذلك: إن ذات الإله هي الحب، ولكن هل نحب للحب ذاته، أم نحب لشيء آخر غير الحب؟ إن العواطف السامية قائمة بذاته، وهذه الموسيقى تدل على الحب، كأن لكل موسيقى حباً، ولكل حب موسيقي. إلا أن هذا الحب ليس حب شخص من الأشخاص. إذا تغيرت الموسيقى تغير الحب كأن هناك فلكين لعاطفتين متلفتين أو عطرين متباينين. وفي كلا الحالين لا نعرف الحب بغايته بل نعرفه بذاته وهو هو لم يتغير. . . ولكن من ذا الذي يعشق للعشق نفسه من غير أن يكون له معشوق؟ ألا يقول المتصوفون أن الإله محتاج إلى الناس كما أن الناس محتاجون إليه؟ فالإله عاشق وهو بحاجة إلى معشوق؟ كما أن الإبداع هو خلق كائنات مبدعة جديرة بأن تعشق. إلى مثل هذه النتائج الساحرة يوصلنا هنري برغسون بلغته الشعرية ولو ساعدنا المكان لنقلنا جميع آرائه في المدنية الحديثة. إلا أننا نقتصر عل بعضها: فمنها قوله أن الحرب ضرورة طبيعية ناشئة عن تزايد السكان وفقدان الأسواق التجارية ونقص المواد الأولية. وإنه لا يمكن منعها وإخماد نارها إلا بمعالجة أسبابه الطبيعة كمراقبة ازدياد السكان وتنظيم الإنتاج وغير ذلك وأنه لا نجاح لعصبة الأمم إلا إذا شاركت الدول في وضع شرائعها الداخلية فلا بد إذن من تنظيم الإنتاج وجعله متناسباً مع الاستهلاك. ولا بد من رادع عقلي يوقف الغريزة عند حدها. وقد أدرك اليونان ذلك من القدم فجمعوا في أساطيرهم بين (فينوس) آلهة الحب و (مارس) إله الحرب. ومعنى ذلك أن الأمر إذا وسد إلى (فينوس) فانتظر الساعة، لأن فينوس هي رمز الغريزة فيجب كبح جماحها وإيقافها عند حد العقل. ولعل الإصلاح لا يكون إلا بالرجوع إل الحياة البسيطة وتخفيف الرغائب والحاجات وهذا يقتضي العدول عن إتباع اللذة في سبيل اللذة. ومن الآراء التي جاء بها هنري برغسون أن المرأة مساوية للرجل في المارك العقلية وإنها

دونه في العاطفة. ومنها انتقاده لمذهب الاجتماعيين لا التهيج السريع والاضطراب المؤقت. منها انتقاده لمذهب الاجتماعيين (لفي برول) و (دور كهايم) في العقلية الأولية وقوله أن الأساطير ضرورة لا محيد عنها وإنها ملازمة للعقل البشري وإن العقلية الأولية موجودة في دماغ الرجل المتمدن أيضاً، ولعلها موجودة في دماغ (لفي برول) أيضاً. وهكذا فإن هنري برغسون يعتقد أن الطبيعة البشرية واحدة الجوهر وهو أقرب إلى الإيمان بالأخلاق من أصحاب المذهب الاجتماعي الفرنسي. وقصارى القول أن مذهب هنري برغسون في منشأ الأخلاق لا يختلف عن مذهبه في منشأ العلم، وهو مذهب حيوي يجعل الأخلاق الحقيقة قائمة على الحياة والحب والإبداع لا على التفكير المقيد بأحكام المنطق الجامدة. جميل صليبا

التين والزيتون

التين والزيتون من مقال للكاتب الألماني الشهير توماس مان تتكلم الأساطير الشرقية عن شجرتين في حديقة العالم لهما مكانة سامية في حوادث الكون يأتي ذكرهما كمثال لاختلاف والتضاد في كل شيء. الأولى: شجرة الزيتون التي يدهن الملوك بزيارتها ليزدادوا طولاً في العمر. فهي شجرة الحياة وأخت الشمس المقدسة، رمز النور واحد نواميس العقل، أصل الرجولة والوضوح وكل ما ينبثق منها يتصف باللمعان والقوة ويدعو إلى الحزم والطمأنينة وهي التي تغدق على الأقوام السلوى والانشراح وتنقذها من الآلام والمخاوف. والثانية: شجرة الموت تهدينا حقيقتها إلى معنى المعرفة والتمييز والشهوة. إنها أخت القمر تنتهي بنا مسالكها المتشعبة إلى سحر الليل والإنتاج وعمق الحواس وهي تمنح الألم والروح كثيراً مم لا يقدر عليه سخاء شجرة الزيتون الملوكية - المبهجة. وهذا التضاد في حوادث الكون كما يتمثل لنا في أسطورة هاتين الشجرتين في حديقة العالم قد ظل مسيطراً في جميع الأزمنة على عقول البشرية ومشاعرها ومرافقاً لها في طموحها إلى الحقيقة وسعيها وراء الغايات السامية حتى أننا نستطيع أن نقصر تاريخ التطور الفكري على التصادم والجدال بين هذين المبدأين. وقد جرت العادة أن نقول لبيان شدة الاختلاف بين شيئين أنهما متباينان كالليل والنهار. وهذا التعبير يرجع إلى الأساطير القديمة التي تنبئ بأن اختلاف الليل والنهار والشمس والقمر مازال منذ القدم يشغل أفكار البشر ويؤثر في عقائدهم الدينية فيتجهون إلى البحث فيه بكثير من الحب والتقى والإيمان. إن عالم النهار والشمس هو عالم التفكير والرجولة والإبداع. إنه عالم العلم والإرادة والحرية وتحديد القواعد الأخلاقية وتقرير المثل العليا عدم الخضوع للطبيعة والأقدار شأن العقول الجبارة. فهو إذن، عالم الحركة والعمل، عالم المستقبل والحياة الاجتماعية والسياسية. والأبطال والملوك الذين تدهن جباههم بزيت شجرة الزيتون يضحون بدمائهم وحياتهم في سبيل إنقاذ الأمم من البغضاء والأحقاد ويفادون بأنفسهم وهم يسيطرون، لتحقيق حياة سعيدة للأقوام أقرب إلى العقل وأولى بالبشر. وترى الناس يمجدونهم ولكن مع

شيء من البرودة ثم لا يتركون لهم مجالا لتنفيذ أفكارهم ف الإصلاح. ولا غرابة في ذلك. فإن نصف القلوب البشرية على الأقل لا تربطها أي صلة بهذا العالم بل تعيش في العالم الآخر الذي يتهافت الشعراء للتغني به: عالم الليل وآلهة القمر التي تنعم علينا بثمرة التي العذبة، عالم تلك الليالي الساحرة الغارقة في أنوار القمر التي يشعر جميع الخياليين بانجذاب باطني نحوها. إن هذا ليس عالم الفكر بل عالم الروح. ليس عالم الرجولة المولدة والمبدعة بل عالم الأمومة الحاملة، الحنونة، العميقة الإحساس. ليس عالم الوجود واليقظة والانتباه بل عالم النمو في حضن اللاشعور وحرارته الغريزية. وليس السيطرة هنا للحرية بل للتقيد، ليس للفكر بل للعاطفة، ليس للعظمة والجبروت بل للخضوع والتسليم، ليس للإرادة بل للانقياد والتضحية، تلك التضحية التي لا انفصام لها عن فكرة الماضي ومحبته فإن الماضي مقدس في نظر كل من يحب التقيد بينما رجال العلم لا يعبئون إلا بالمستقبل ولهذا فإن المهم في عالم الليل ليس هو إصدار الأحكام والتصميم الأخلاقي بل المشاهدة العميقة والشعور المتأثر المتألم والتسليم الديني لقوى الطبيعة البعيدة عن كل فكر وعن كل حكم أخلاقي. ومنذ القدم انصرفت الأمم في عقائدها الدينية إل البحث في تفضيل أحد هذين العالمين وتقرير أيهما أكثر قدسية وأعلى رتبة هل مملكة الشمس أم مملكة القمر وحسب الجواب على هذا السؤال كانت الأمم تسير في نظرتها إلى العالم وتقرير طراز حياتها وطرق تفكيرها وقد علقوا على ذل تفسير فكرة الحياة نفسها ونسبوا إلى أحد العالمين، عالم الفكر أو عالم الروح، كل قدسية، وكل قيمة للحياة. ولا شك في أن الغرب كان منذ أيام اليونانيين، عبداً للآله (زبوس) متعلقاً بمبدأ الشمس وعالم النور والإرادة والحرية والعمل بينما الشرق الآسيوي يتصف بتقديس مبدأ القمر وعالم الأمومة والروحية السلبية. . تعريب: كامل عياد

نابغة بين شيبان يصف الجامع الأموي

نابغة بين شيبان يصف الجامع الأموي عبد الله بن المخارف المعرف بنابغة بني شيبان شاعر بدوي من شعراء الدولة الأموية كان يفد على خلفاء بني أمية بدمشق ويمدحهم فيجزلون عطاءه، مدح عبد الملك بن مروان وأولاده من بعده وله في الولد بن عبد الملك مدائح كثيرة منها قصيدة ينوه فيها ببناء الوليد لمسجد بني أمية بدمشق بعد أن كان معبداً مشتركاً بين المسلمين والنصارى ويصفح وصفاً بديعاً يصور روائع الفن التي كانت ماثلة فيه وما بذله الوليد في سبيل تشييده. وللقصيدة قيمة تاريخية - عدا مالها من قيمة فنية - لأنها أول قصيدة قيلت في وصف الجامع الأموي وإليك الأبيات التي تناول فيها وصف الجامع: تدعو النصارى لنا بالنصر ضاحية ... والله يعلم ما تخفي الشاسيف قلعت بيعتهم عن جوف مسجدنا ... فصخرها عن جديد الأرض منسوف كانت إذا قام أهل الدين فابتهلوا ... باتت تجاوبنا فيها الأساقيف أصوات عجم إذا قاموا بقربتهم ... كما تصوت في الصبح الخطاطيف فاليوم فيه صلاة الحق ظاهرة ... وصادق من كتاب الله معروف فيه الزبرجد والياقوت مؤتلق ... والكلس والذهب العقيان مرصوف ترى تهاويله من نحو قبلتنا ... يلوح فيها من الألوان تفويف يكاد يعشي بصير القوم زبرجه ... حتى كأن سواد العين مطروف وفضة تعجب الرائين بهجتها ... كريمها فوق أعلاهن معطوف وقبة لا تكاد الطير تبلغها ... أعلى محاريبها بالساج مسقوف لها مصابيح فيها الزيت من ذهب ... يضيء من نورها لبنان والسيف فكل أقباله والله زينة ... مبطن برخام الشام محفوف في سرة الأرض مسدود جوانبه ... وقد أحاط به الأنهار والريف فيه المثاني وآيات مفصلة ... فيهن من ربنا وعد وتخويف

لا مرتين في سوريا

لا مرتين في سوريا بمناسبة مرور مائة عام على مجيء لامرتين لسوريا للدكتور أنور حاتم استهوى حب الشرق جميع الناس في أوائل القرن التاسع عشر فسحرت أوروبا كلها بقراءة (دليل) شاتوبريانمنباريس - إلى القدس وبكى القرن بأسره موت الشاعر الإنكليزي (بيرون) شهيد استقلال اليونان ونال فيكتور هيجو شهرة كبيرة حينما نشر (الشرقيات) لم يسافر لامرتين إلى الشرق كما زعم بعض الرواة لكي يعي نفسه بعد فشله في الانتخابات النيابية ولكن السفر إلى سوريا كان حلم حياته الدائم. سمع نداء الشرق صغيراً ورآه في أحلامه المدرسية حيث تجلى له بسحره ووحيه وشمسه الساطعة وقد قال في كتاب عام 1818: لو كنت أملك مائة دينار فقط لسافرت بها إلى اليونان والقدس وحرمت نفسي من جميع المآكل سوى الخبز. غادر لامرتين فرنسا ومعه امرأته وأبنته وطبيبه الخاص وصديقان وستة خدم وبلغ بيروت في 6 أيلول سنة 1832 على ظهر (الأنسست) السفينة التي استأجرها من برونو روستان جد الشاعر الكبير أدموند روستان مؤلف سيرانو دي برجراك وغادر لامرتين سوريا من يافا قاصداً القسطنطينية في 30 نيسان عام 1833 وكانت رحلته إلى الشرق من أسباب اهتمامه بالمسائل السياسية والاجتماعية. وقد خيبت زيارة بلاد اليونان آمال الشاعر ولم ير فيها غير صخور عادية مجدبة ولكن الساحل السوري أدهشه بعظمته وتنوع مناظره وقد ترك امرأته وابنته في بيروت وذهب على رأس قافلة فخمة مؤلفة من خمسة وعشرين حصاناً لزيارة فلسطين وبلاد الشام وعند عودته أصيب بموت ابنته الوحيدة جوليا التي توفيت في بيروت في 6 كانون أول ومرض لامرتين نفسه وأشرف على الموت في قرية نائية في بلغاريا أثناء مروره بها راجعاً إلى بلدته (ماكون). أحب لامرتين سورية وحياة السوريين وأخلاقهم وعاداتهم ولم تخف عليه الفوضى التي كانت قائمة في البلاد وتعدد الحكام والأمراء والديانات فتأسف على ذكاء ذلك الشعب الضائع وقال: كم من الأعمال العظيمة كان يستطيع أن يأتي بها رئيس حاذق من رجال

كالسوريين، فلو ملكت ربع ما ملك أصحاب المصارف في باريس أو لوندرة في عشرة أعوام وجه سورية أتى لامرتين إلى سورية ليستمد الوحي والإلهام فوصل إليها وهو شاعر الغرام وغادرها وقد أصبح شاعر الإنسانية، كان قبل سفره يرجع بأنظاره إلى الماضي باكياً عليه فغدا الآن رسول الرقي والإخاء بين الشعوب وكان لزيارته إلى (ادي استيراستنهوب) أبلغ أثر في روحه وقد بحث المؤرخون طويلاً عن حقيقة هذه المرأة الإنكليزية السرية التي كانت منقطعة على قمة جبل منعزل يصعب الوصول إليه فروي عنها أنها وهبت النبوة وكشف لها ستار الغيب وروي عنها أنها انتخبت ملكة على تدمر تحكم البدو والعربان وترفع إليها الصلوات ولكن حقيقة أمرها أنها جاسوسة إنكليزية أشبه بالكولونيل لورنس أو بالحج سان جون عبد الله فلبي زار الشاعر قبر المسيح في القدس ولم يطلب منه الإيمان الذي أضاعه بل الوحي الذي يحقق أمانيه في الحياة وكان يشعر بنفسه أنه سيكون يوماً قائد شعب وسياسياً من أكبر ساسة أوروبا واحد دعائم الفكرة الجمهورية في فرنسا. ثم عمل لامرتين عند رجوعه إلى فرنسا لتحرير الأقطار العربية من النير العثماني وان يحب الإسلام وقد مدحه مراراً بشعره ونثره وعارض في بعض خطبه في المجلس النيابي فكرة الحروب الصليبية وعندما أرادت مدينة (أميان) أن ترفع الستار عن التمثال الذي شيدته لبطرس الناسك الذي كان أول من بشر بالحروب الصليبية رفض لامرتين حضور هذه الحفلة ونشر مقالاً في إحدى الجرائد روى فيها الأضرار التي سببها هذا الرجل. مال الشاعر إلى البلاد السورية لأنه رأى في جمالها شيئاً أشبه بجمال شعره وكان للميول والأهواء التي قامت في نفسه هناك صدى عميق أثر في وحيه. وغادر الشرق متأسفاً لأنه لم يولد على ضفاف نهر الأردن أو نهر الكلب وطاف في فلسطين لعله يسمع في ضميره رسالة نبي عصري أو وحياً جديداً يبلغه إلى الغرب فيدعوا الناس إلى المحبة والمساواة وقد كان يحلم مراراً أنه سيصبح يوماً محرر الأمم ومؤسس العدل في الدنيا وبينما كان في شهر آذار عام 1833 يطوف داخل قلعة بعلبك تمثل له شيخ عربي وبشره أن مقاطعة (برك) في شمال فرنسا انتخبته نائباً وهناك تصور لأول مرة في حياته الأدوار التي سيلعبها عام 1848

ترك لامرتين الشرق وأحلام الشق لم تتركه وق رجع إليه في 1850 بدعوة من السلطان عبد المجيد الذي أهدى إليه أراضي واسعة بالقرب من أزمير لكي يزرعها ولكن لم يصل إلى سورية في هذه المرة بل رجع إلى فرنسا ليفتش عن رأس مال يستطيع بواسطته أن يستثمر أملاكه التركية وكان يلذ له أن يقول في شيخوخته أريد أن أقضي عمري زارعاً في لبنان. أنور حاتم

السنوسي

السنوسي ماذا يريد الأخوان السنوسيون؟ بموت السيد أحمد الشريف السنوسي في المدينة المنورة بعيداً ن وطنه طرابلس - برقة، طويت صفحة لامعة من صفحات تاريخ الإسلام الحديث ستبقى عبرة خالدة وذكرى مقدسة. قضى هذا البطل كل عمره في خدمة أبناء دينه والدفاع عن وطنه وإعلاء كلمة الإسلام في جميع العالم. إنها حياة كلها جهاد وتضحية وعبادة، حياة ملئت بالمفاخر والمكرمات وأعمال الخير والتقى ثم انقضت، كما هي الحال مع أكثر أبطال التاريخ، في البؤس واليأس والانزواء. كان السيد أحمد الشريف، لما أغار الطليان في 5 تشرين الأول سنة 1911 على طرابلس - برقة منهمكاً في إدارة الزوايا السنوسية التي كانت قائمة في معظم أنحاء أفريقيا الشمالية وأفريقيا الوسطى واليت ساعدت كثيراً على انتشار الدين الإسلامي بين الزنوج. وكانت سياسة السيد أحمد الشريف مثل سياسة سلفيه في الإمارة: عمه المهدي وجده محمد السنوسي الكبير، مبنية على مسالمة الحكومات المحيطة بمنطقة نفوذه سواء العثمانيين أو الانكليز أو الفرنسيين. ولما كانت ساحة الحرب الطرابلسية - بادئ الأمر عن الاشتراك بكل قواهم في محاربة الطليان إلى أن كانت الحرب العامة وأرسلت حكومة استانبول نوري باشا أخا أنور باشا للتحرش بالانكليز في مصر وتحريض السنوسيين على ذلك. وقد وفق نوري باشا بعد محاولات طويلة إلى أقناع السيد أمد الشريف بدخول الحرب ضد الانكليز والتجاوز على حدود مصر. ولكن انكسار جيوش نوري باشا أضجر السيد أحمد الشريف للانتقال إلى طرابلس الغرب فتولى إمارة السنوسيين في برقة ابن عمه السيد إدريس السنوسي الذي اعترف به الانكليز وتفاهم مع الطليان على توليته إدارة البلاد. ولم يكن في استطاعة السيد أحمد الشريف، الذي حصلت بينه وبين رمضان الشتيوي زعيم المجاهدين الطرابلسيين في مصراطة اختلافات شديدة، أن يبقى بعد ذلك في طرابلس الغرب فانتقل سنة 1915 إلى استانبول في أحدى الغواصات الألمانية عن طريف النمسا. فانتقل سنة 1915 إلى استانبول في إحدى الغواصات الألمانية عن طريق النمسا. وبعد انتهاء الحرب العظمى ظل السيد أحمد الشريف يعيش منزوياً في مدينة (بروسة)

بالأناضول تحت مراقبة حكومة السلطان وحيد الدين ودول الحلفاء لاتهامه بالاتصال مع مصطفى كمال باشا الذي قام إذ ذاك يجمع بقايا الجيش العثماني ويعمل لإنقاذ الأناضول من إغارة الأجانب. وفي الحقيقة فإن رئيس السنوسيين قد انضم إلى الكماليين وكان من أكبر العاملين على نشر الدعوة لهم وإثارة الحماسة في سكان الأناضول ودفعهم إلى الجهاد لصد غارات اليونانيين والدول الأوروبية من ورائهم. وقد أثبت مصطفى كمال باشا كثيراً من الدهاء السياسي في استثمار السيد أحمد الشريف والاستفادة من نفوذه الديني لنيل عطف العالم الإسلامي ومساعدته المادية والمعنوية. على أنه بعد انتصار الحركة الكمالية وظهور مقاصد الحقيقة في قطع علاقات الأتراك بالإسلام وإلغاء الخلافة والسلطنة العثمانية أصبح من المستحيل على السيد أحمد الشريف البقاء في البلاد التركية فحمل على الانتقال إلى الحجاز وظل منزوياً في المدينة المنورة إلى وفاته في شهر آذار الماضي رحمه الله. وبهذه المناسبة نرى من المفيد أن نذكر بعض المعلومات عن الطريقة السنوسية فنقول: أن مؤسس هذه الطريقة هو سيدي محمد بن السنوسي الذي نشأ حوالي سنة 1800 بالقرب من مدينة (مستغانم) بالجزائر ودرس في فاس ثم رحل إلى مختلف البلاد الإسلامية يدقق أحوالها وأقام مدة بالحجاز واتصل بالوهابيين فاقتبس كثيراً من تعاليمهم وأنظمتهم. وقد عاد في سنة 1843 إلى شمالي أفريقيا وأختار الإقامة في طرابلس - برقة فابتنى له (زاوية) على جبل بالقرب من مدينة (درنة) على شواطئ البحر الأبيض ولكن لما اجتمع الناس حوله وكثر أتباعه وازدد نفوذه ساءت العلاقات بينه وبين الحكومة العثمانية فاضطر لنقل مقامه إلى واحة (جغبوب) في جنوبي صحراء برقة قريباً من الحدود المصرية. كان سيدي محمد السنوسي من أعاظم رجال الإسلام أشتهر بالدهاء والعلم وحسن الإدارة وكرم الأخلاق فاستطاع ف مدة قصيرة أن يؤسس جماعة كبيرة منتظمة لها كثر من الأتباع ليس في شمالي أفريقيا وحدها بل في جزيرة العرب ومعظم الأقطار الإسلامية الأخرى أيضاً ويمكن أن نعتبر السنوسية التي لم ينقض بعد قرن واحد على تأسيسها من أكثر الطرق انتشاراً. وق أصبحت اليوم من أكبر العوامل في تيار الحركة الإسلامية. قامت جماعة الأخوان السنوسيين على فكرة الإصلاح الديني والتهذيب النفساني والخلقي

وهي جمعية ذات تشكيلات منتظمة أساسها الأخوة والتعاون وينقسم الأخوان إلى ثلاث طبقات العوام والخواص وخواص الخواص. ثم أن للأعضاء درجات مختلفة مثل الخليفة والنقيب والشيخ والمقدم. ولجماعة السنوسيين (زوايا) منتشرة في أكثر البلاد الإسلامية يقوم بإدارتها (مقدم) يجتمع الأخوان تحت رياسته ليلة الجمعة والاثنين عدا الليالي الخاصة وهذه الزوايا ليست أماكن للعبادة فقط بل أنها في نفس الوقت مدارس كبرى ونواد لدعاية والبحث. ورغم ما يظهر من عد تحرض السنوسيين بالحكومات المجاورة فإن الجمعية تسعى وراء غايات سياسية. وتقضي خطتها السرية بإكمال العدة من الوجهة الفكرية والاجتماعية أولاً قبل مباشرة العلم السياسي. والأخوان السنوسيون مقتنعون بأن تحرير الإسلام السياسي يجب أن يسبقه انتشار التجد الروحاني والدعوة الأخلاقية في المسلمين وتهذيب الرعية وتنشئتها على الفضائل الإسلامية العليا. ثم ينبغي أيضاً من الوجهة الاقتصادية تحسين أسبابا المعاش وتوفير وسائل الكسب، وتدل أعمال السنوسيين على اهتمام زائد بالزراعة والتجارة، وقد كثرت بدعايتهم فلاحة الواحات الخصبة وانتعشت الزراعة واحتفرت الآبار الحديثة في الصحراء كما انتشرت التجارة. ويمكن القول أن شيوخ السنوسيين يقومون عدا واجباتهم الدينية والسياسية بأعمال مفوضين تجاريين و (سماسرة) ماليين يديرون حركة البضائع ويراقبون تقلبات الأسواق ويقرضون المزارعين والتجار الأموال وهم يدفعون قسماً من أرباحهم إلى صندوق الجمعية. ومن أعمال جماعة السنوسيين التي لها أهمية عظمى في تطور المسلمين حضهم الناس على العمل وزيادة المكاسب. وهم يساعدون الفقراء ويعتنون بإطعامهم وإسكانهم. ثم أن من أكبر أغراض السنوسية التبشير بالدين الإسلامي وقد دخل بعونهم ملايين من الزنوج في الإسلام بإفريقيا الوسطى. ويعتني السنوسيون، لنشر دعوتهم، بتأسيس فروع لزواياهم في مختلف الأقطار الإسلامية يجعلون رؤساءها من أهل البلاد أنفسهم الذين يعرفون الناس. ومما يدل على الغاية السياسية التي تسعى إليها السنوسية تدريب جميع الأخوان على استعمال السلاح وهي تفرض على كل واحد التأهب، بجميع الوسائل، للحرب وتطلب منه

القيام بكافة الواجبات. بهذه الخطة تسعى جماعة الأخوان السنوسيين لتأسيس حركة سياسية منتظمة غايتها تحقيق الجامعة الإسلامية ليصبح العالم الإسلامي كله مملكة واحدة على رأسها خليفة واحد لا سيطرة للأجانب عليه. كامل عياد

صفحة من أدب الغرب

صفحة من أدب الغرب سحر المدينة صورة لبرلين في الليل للكاتب الألماني وسكار ماريا غراف في محطة السكة الحديدية الكبرى المغمورة بالأنوار كانت ضوضاء مزعجة: آلاف من البشر يسرعن في خطواتهم وكلماتهم المتقطعة تتطاير وبائعو المرطبات والصحف ترن أصواتهم الحادة وتتجاوب مع صراخ الحمالين وتختلط بقعقعة أواني الطعام في غرف الانتظار وتضيع جميعها بين طنين الأجراس وصفير القطارات الذاهبة والقادمة وقرقعة عجلاتها التي ترتجف الأرض من اهتزازها. وكانت الروائح المنتشرة من أجسام المزدحمين والعطور المختلفة ودخان (السكاير) ورائحة الزيوت والأطعمة والصابون تمتزج بعضها مع بعض وتملأ الهواء الكثيف. والجموع المحتشدة من الركاب الذاهبين والقادمين تموج وتختلط. ووكلاء الفنادق يعرضون على الغرباء بأصوات مرتفعة غرفاً منخفضة الأسعار والسيارات على أبواب المحطة (تزمر) والمسافرون يهرفون ويضحكون ويسألون ويتنازعون ويسألون ويتنازعون مع الحمالين. إزاء هذه الضوضاء وبريق الأنوار المرتعشة في المدينة التي كان الظلام قد هجم عليها وبدأت الآن النجوم تبزغ في سمائها الفسيحة صاح أحد القادمين: - ما أجمل المدينة العظيمة في الليل! وفي بهو المحطة استقبل بعض الرأسماليين زملائهم من مساهمي إحدى الشركات الكبرى وامتطى الجميع متن السيارات الخاصة. - هيا بنا، إذن قال أحدهم وقد هبط على المقعد الوثير: إن الجلسة الإدارية سوف تكون حامية الوطيس. وفي الساحة أمام المحطة كانت حافلات الترام تنهب الأرض ولم يكد أحد القادمين يعرب لرفيقه عن إعجابه بهذه السرعة الزائدة حتى سمع صوتاً مخيفاً: (آخ!) ووقفت السيارات والحافلات فجأة وقفز الركاب يرتعشون رعباً وتراكض الناس من جميع الجهات وازدحموا على مكان الصراخ وظهرت بينهم خوا رجال الشرطة تلمع. . .

وكان بائعو الصحف يصيحون بملء أفواههم: (ليلة في حي الفقراء، الوزارة الجديدة، زلزال في اليابان، حادثة قتل في شارع لسينغ) - ناشدتك الله يا (قورت)، قف! لا تقترب من الجمع. لقد حدث شيء هناك يا للفجيعة! كانت هناك امرأة قصيرة كأنها كرة، تقول ذلك بتوجع وقد سترت عينيها. وكان إلى جانبها زوجها الذي لا يختلف عنها كثيراً في قصره وسمنه يتدحرج وفي يديه حقيبتان كبيرتان وهو يلهث والعرق يتصبب منه فوقف ودمدم بضع كلمات غير مفهومة. وكان الحمل الثقيل قد حنى ظهره فاستقامت الآن ركبتاه واتجهت عيناه البليدتان تنظران إلى الجمع المحتشد بامتعاض. وفي السيارة التي وقفت قال أحد الرأسماليين إلى جليسه: - إن العمال بدؤوا يتمرّدون. يا للملاعين! على أننا قد اتخذنا جميع التدابير اللازمة وسريعاً ما وصلت إحدى سيارات الإسعاف الصحي وفتحت لنفسها طريقاً بين الجموع المحتشدة وكان الشرطيون يصدرون الأوامر بأصوات حادة فتفرق الناس وعادت الحافلات والسيارات إلى سيرها. وفي المستشفى استلم الأطباء رجلاً متقدماً في السن ذكروا في السجل أنه دعس من قبل حافلة الترام. وبسبب الحادث وصلت السيدة (ماير) وزوجها متأخرين إلى دار التمثيل لأنهما كانا في هذه الحافلة ولم يستطيعا العثور على سيارة بالقرب. وكتب مفوض الشرطة ورقة ضبط مختصرة عن الحادث. وفي إحدى الدور الفقيرة في شمالي المدينة أخذت امرأة في العويل وبدأ أطفالها الصغار يصرخون ويبكون. وأسرع مخبر إحدى الصحف إلى أقرب هاتف ونقل إلى المحرر الحادث ليضعه حالاً في عمود (حوادث السير). ولما عقد الاجتماع في شركة (يوست) قام رئيس المهندسين وشرح للمساهمين ما يأتي: - أن تدارك المواد الابتدائية لا يصاف شيئاً من العثرات. وقد انتهى تحسين معاملنا وتنظيمها عل أسس اقتصادية سريعة حتى أصبح في الإمكان أتمام عجلة ذات محرك في 88 ساعة فقط. وإذا ازدادت العناية في انتقاء العمال الصالحين فليس من الصعب إنقاص هذه المدة إلى 82 ساعة. . وكانت أنغام الموسيقى في المقاهي المفعمة بالناس تنعكس إلى الشوارع ومعارض المحلات

التجارية الكبرى الغارقة في النور تسحر عيون المارة بما فيها من كنوز هذا العالم وغرائبه والإعلانات الكهربائية الملونة ترتعش في سماء الليل المظلم. ومرت جماعة من السكارى على الرصيف تغني وتزعج الناس فأسرع شرطي لتفريقهم بينما بنات الشوارع ترمي أنظاراً كلها إغواء وتسير في طريقها متبخترة عند رؤية الشرطي وبعض الأحداث يرشقونها بكلمات بذيئة. وكانت السيدة (ماير) تقرع زوجها وهي تأخذ مقعدها في الصف الخامس من الطابق الأول بدار التمثيل وتقول: إن الفصل الأول من الرواية قد ضاع كله لأن الخادم منعها من الدخول أثناء التمثيل وهي لو كانت وحدها لما رضيت بذلك ولكن زوجها يتحمل كل إهانة ثم أخذت تفتش وهي تلهث والعرق يتصبب منها على نظارتيها وعلى زجاجة (الكولونيا). أما زوجها فظل صامتاً ينظر إلى المسرح: - ثم! ثم أعود إليك مرة أخرى، يا عزيزتي الصغيرة، إذا كنت توافقين. كان الممثل الجميل الأنيق يقول ذلك وهو يرمي نظرات ذات معان إلى زميلته الرشيقة على المسرح. وفي إحدى غرف الحاضرات كان الأستاذ (نفينكر) يخطب قائلاً: - إننا، يا سيداتي وسادتي، تجاه نوعين من الأنظمة الاجتماعية: من جهة النظام الصناعي الأمريكي الذي بدأ ينتشر في أوروبا أيضاً ثم النظام الروسي الاشتراكي من جهة أخرى. وهنا وقف قليلاً ليتناول جرعة من الماء. - ما أشد جوعي! قال صانع شاب إلى رفيقه في مقهى صغير مشبوه. (ألا تريد، يا فرانتس، أن نذهب إلى مطعم رخيص) وكان أثناء ذلك يعد خلسة ما في جيبه من الدراهم خيفة أن لا تكفي لتسديد قيمة الطعام. وبينما كان الاثنان في طريقهما إلى المطعم خرج من فندق (كونتننتال) رجل متقدم ف السن كثير التأنق في لباسه ودخل أيضاً وراء الشابين إلى المطعم الفقير في هذه الأثناء ظهر من أحد الشوارع الفرعية جمهور من المتظاهرين وتجمعوا في الساحة وهم ينشدون: أيها الأقوام ... اسمعوا النداء وهيا قوموا ... إلى النضال فحقوق الإنسان ... وسعادة البشر

تدعوكم لجمع الكلمة ... وإلى العراك. . وسار الجمع، والأعلام الحمراء تخفق، إلى الأمام ولكنه وقف فجأة وسمعت خطوات الشرطة الخيالة مسرعة إلى الساحة فتفرق المتفرجون وارتفعت أصوات المتظاهرين بالمسبات والشتائم يتهددون ويتعدون وكان ضابط الشرطة يصدر الأوامر بصوت حاد وبعض المتحمسين يشجع الجمهور ويدعوه إلى الثبات والمقاومة ويصرخ: إلى الأمام إلى الأمام. وكانت الخيل في هياج وسيوف الشرطيين تلمع وسمعت أصوات الأنين والتظلم وكلمات الشتم والسب. وبعد برهة قصيرة عادت الساحة إلى ما كانت عليه قبلاً. وكان الشابان في المطعم طلبا شيئاً من القديد وأخذا يلتهمانه دو التفات إلى الرجل المتقدم في السن، الأنيق الملبس الذي جلس قريباً منهما. ولما أبدى أحدهما ملاحظته على مظاهرة الشيوعيين وحمد الله على أنه لم يكن في الشارع ولم يشترك فيها تداخل الرجل المتقدم في السن في الحديث مع الشابين قائلاً: - ماذا حدث؟ هل كان هؤلاء من الشيوعيين. حقاً إن هذه المظاهرات أصبحت من الأمور المعتادة. وقد ساقت الشرطة أربعة عشر من العمال المهشمين إلى سجن الشرطة وسلمت أثنين إلى المستشفى لأن جروحهما كانت خطرة وسأل الرجل المتقدم في السن الشابين: - كيف تجدان الطعام؟ ثم تقدم منهما قليلاً وهو يبتسم: هل أنتما من هذه المدينة؟ إنني غريب وأريد أن أتعرف قليلاً على الحياة الليلية هنا فهل تريدان مرافقتي؟ ولما أجاب الشابان بالقبول ازداد الرجل الأنيق المتقدم في السن بشاشة ولطفاً وأوصي لهما بقدحين من الجعة وخرج الناس من غرفة المحاضرات واخذوا يتناقشون بحماسة ويبحثون في آراء الأستاذ (نفينكر). فكنت تسمع البعض يقول: - شيء عظيم! أفكار جديدة بكل معنى الكلمة! استنتاجات مدهشة! ووقف طالب وصرخ في الجمع: - يا خنازير! لماذا، إذن تذهبون الآن في منتهى الهدوء إلى بيوتكم إذا كنتم اقتنعتم بأن

النجاة لن تكون بمحاربة الشيوعية والقضاء عليها. . . . على أن أكثر السامعين لم يعبأ بصراخ الشاب وأبتعد مسرعاً بعض أصدقاء الطالب وقال له: - لا تهرف، يا رجل، هيا بنا لنذهب! ولكنه أزداد حماسة وأخذ يعربد كالوحش حتى اضطر رفقاؤه للتخلي عنه وجاء شرطي وأوقفه لإخلاله بالراحة العامة وفي دار التمثيل كان إعجاب الحاضرين بالغاً أشده وأعترف الجميع بأن الممثلين أجادوا في أدوارهم وإن الرواية لا تخلو من فكاهة وروح واجتمعت السيدة (ماير) - أما زوجها فكأنه لم يكن موجوداً - بالتاجر الكبير (وينديكر) في بهو دار التمثيل وأخذت تقص عليه حادث المساء: - شيء فظيع! بينما نحن جالسون في حافلة الترام. . . الموقف أمام منزلنا تماماً ولذلك نفضله للوصول إلى هنا. . ومع الأسف فاتنا الفصل الأول كله. . فإنه عندما وصلنا إلى المحطة، نعم، تماماً عند المحطة. . مسكين الرجل! قطعت كلتا رجليه! منظر فظيع. . وعبثاً فتشنا أكثر من ربع ساعة على سيارة. . يالله الرجل المسكين، وإنني لا أتحمل رؤية منظر كهذا. . - ماذا فعلتم بالصانعة، هل بقيت عندكم؟. . - إنها حقاً رواية جميلة جداً والدور الذي قامت به الممثلة ولم تكن أحكام الحاضرين في البهو على الراية تختلف عن رأي السيد (ماير). - أعطيه حقنتين! قال الطبيب للممرضة في المستشفى وغاب في الممشى الطويل وكان الرجل الشيخ الذي قطعت رجلاه يصيح دون انقطاع من شدة الألم وكان صوته الفجيع يتردد في سكون لمستشفى المفعم بروائح (القلوروفورم). - والىن فإن القيادة لكما، تعالا، أيها البطلان! قال الرجل الأنيق المتقدم ف السن بعد أن خرج الثلاثة من المطعم. . - ولكن، يا رجل، يجب أن أرجع إلى البيت وإلا فإنهم يطردونني. . لا، لا، يا (ويلي) لا أستطيع. . كانت فتاة أسمها (فريدا) تظهر الامتناع لجليسها على مقعد في الحديقة العامة وقد أمسكت بأذيال ثوبها الذي يكاد يستر ركبتيها: (لا، لا، أرجوك، أنت تعرف. .) حينئذ قام الشاب الملح في طلبه فجأة وقال:

- إذن لا، ي بلهاء! وبعد مشادة طويلة تركها وذهب مسرعاً وكان التمثيل قد انتهى وكذلك الجلسة الإدارية في شركة (يوست) فانتقل بعض الأعضاء إلى حانة قريبة وجدوا فيها رهطاً من الطلاب السكارى يعربدون ويقلقون راحة الزبائن بأناشيدهم وصراخهم. وهدأ سير الترام قليلاً ونشطت حركة السيارات وبدأ الموسيقيون في المقاهي يصرون آلاتهم والخدم يضعون الكراسي بامتعاض على الموائد وخرجت الخادمات لتنظيف المحلات الخالية ونشطت بنات الشوارع لاصطياد المنفردين من المارة وكان الرجل الأنيق، المتقدم في السن قد غلب عليه السكر وأخذ يسأل الشاب الذي بقى معه: - أين هو فرانتس، رفيقك فرانتس الجميل. . وكان هذا قد استأذن ليقضي حاجة فلم يرجع. - يظهر أنه قد فرّ، إذن، تعال لنذهب وكان العمال الأربعة عشر جالسين في سجن الشرطة يتجادلون فقال أحدهم: - إن مثل هذه الأعمال لا تجدي نفعاً ما دمنا لم نستلم مقاليد الحكم - إنما ينقصنا الاتحاد فقط - ما معنى الاتحاد، يا هذا؟ الأفضل أن يكون عددنا قليلاً ولكن يجب الإخلاص والثبات والصدق. أما الخونة فلا يمكن العمل معهم. . وكانت السيدة (ماير) وزوجها في غرفة النوم ينزعان ثيابهما - هكذا أرى أسرة التاجر (وينديكر) تعود إلى البيت بالسيارة ونحن بالترام! أنت تبيع (سيكاراتك) بأغلى الأسعار ولكن عندما ينبغي أن تحافظ على مكانتك بين الناس تبدأ بالتوفير قالت السيدة (ماير) ذلك بغضب وصرخت في زوجها فجأة: - يا رجل، لا تجلس على قبعتي، هل أنت أعمى. ثم، إياك، وإياك أن ترافقني مرة أخرى إلى دار التمثيل. . وكان زوجها لا ينطق ببنت شفة وينظر حائراً إلى الأرض. وفجأة سكتت السيدة وأرهفت سمعها وخاطبت زوجها: - والآن ماذا تقول؟ إن الخادمة تعود إلى البيت في هذه الساعة. حقاً إن هـ1اشيء لا

يحتمل. ثم فتحت باب الغرفة وصرخت: - يا فريدا، الآن تأتين إلى البيت؟ دمدمت الفتات بضع كلمات غير مفهومة للاعتذار لم تلتفت إليها السيدة ماير التي استمرت قائلة: - إذا تكرر هذا منك مرة أخرى فلا يمكن أن أسكت عنه أبداً وأغلقت الباب بشدة وهي تقول: - إن الساعة قاربت الثانية. شيء جميل مع هذه الخادمة وفي المستشفى كانت الخدم تنقل سريراً من غرفة المرضى وأخبرت الممرضة الطبيب بأن الرجل الشيخ الذي قطعت رجلاه قد مات. فهز هذا كتفيه. . ولما ازداد إلحاح الرجل الأنيق المتقدم في السن هرب منه الشاب الآخر أيضاً وكان الفجر بدأ يتسرب نوره إلى الشوارع وهب نسيم نشيط من السماء. وانطفأت فجأة الأضواء في الطرقات وأخذت عجلات الحليب تدخل المدينة وارتفعت أصوات الكناسين. وكنت تسمع من النوافذ لمفتوحة أجراس الساعات ترن لإيقاظ النائمين. وبعد قليل كان العمال يتسربون من البيوت الخلفية مسرعين إلى أعمالهم. . . تعريب ك. ع.

الكتب والصحف

الكتب والصحف رأي كاتب تركي في ترجمة القرآن قام في الأستانة مؤخراً عالم فهَّامة وأديب كبير له شهرته الواسعة في البلاد التركية (1) ووضع مؤلفاً يبحث فيه ع استحالة ترجمة القرآن الكريم إلى التركية، عاملاً على إثبات ذلك بأدلة علمية قوية حيث تفضل واطلعنا على بعضها لسابق صلة أدبية وطيدة تجمعنا به وترجع إلى عهد الدراسة في الأستانة ثم إلى عهد الزمالة في الصحافة فرأينا أن نلخص بعض آرائه القيمة في هذه العجالة الصغيرة قال لا فض فوه: ليست المصيبة في أننا نريد أن نترجم القرآن إلى اللغة التركية وحسب بل إننا نريد أن نرسم هذه الترجمة أيضاً بالحروف اللاتينية. فتصور بعد ذلك أن مصحفنا الشريف، أو كتابنا الديني نحن معاشر الأتراك سوف يُقضى بين عشية وضحاها على فصاحته اللاهوتية وينقلب إلى لغة أعجمية ذات أصداء ونبرات حادة سوف تكون على ما يقولون خالية من كل لفظ عربي يؤتى بها من أفواه الرعاة وقبائل التركمان الجبلية السارحة في بطاح آسيا. ثم يكتب بحروف قتلت برطانتها جمال اللهجة التركية القحة نفسه، وفوق هذا كله سوف نبعد بكتابنا هذا (القرآن) الجديد عن معاني القرآن الحقيقي كبعد الأناضول عن مكة. . وقال في مكان آخر: إنني أهب نصف ثروتي لمن يستطيع من بين علماء اللغة التركية الأفذاذ ممن يتقن اللغة العربية أيضاً (وهؤلاء ليس لهم أثر البتة في تركيا) أقول بأنني أهب نصف ثروتي لمن يستطيع من هؤلاء ترجمة قوله تعالى (لا يلاف قريش إيلافهم. .) أو قوله (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) أو قوله (والعصر. . . وكهيعسص وحمعسق و. . . . إلى ما هنالك من رموز ومعاني كلها إعجاز. فإذا قال لنا هؤلاء العلماء الأتراك أنه لا بد من ترك الكلمات التي تشير الرموز على ما هي عليه لبقينا نحن الأتراك على جهل من الغاية التي توخاها القرآن من ذلك وإن أرادوا معناها والعرب أنفسهم لم يستطيعوا ذلك (كذا) أنا أفهم أن تقوم الحكومة التركية وتعمل على ترجمة القرآن بحواشي توضع على الهوامش بجانب الآيات، فإذا أراد التركي أن يقرأها بالعربية تيسر له ذلك أو في التركية رجع إلى الحاشية أو الهامش بنفس الصحيفة ذاتها

وقال في موضع آخر: لا أدري إذا كنا نتوخى العلم من وراء ترجمة القرآن، أم النزول على النعرة الجنسية التي أخذت تبعدنا عن أقرب الأمم إلينا وهم إخواننا العرب. فإن كانت الغاية من هذه الترجمة علمية فهل من العلم ثمة في شيء يا ترى أن نرجع في ترجمة كتاب عظيم الشأن مثل القرآن يعجز عن أدراك معانيه فطاحل علماء العرب أنفسهم إلى مترجمين من الأتراك لا يعرفون من العربية إلا بقدر ما تعمنا نحن من اللغة الصينية؟ ألا نسعى على الأقل إلى إيجاد من يعرف لغتنا من علماء العرب ونكلفهم القيام بالاشتراك مع علماء الترك إلى وضع هذه الترجمة إن كان ثمة لا بد منها كما فعل علماء الانكليز على الأقل (وليست لهم بالقرآن صلة دينية مباشرة) حيث رجعوا إلى أكابر علماء اللغة العربية في وضع هذه الترجمة، ومع ذلك جاءت في النتيجة بتراء طمساء لا تعرب عن صحة آياته ومعانيه كما اتفق ذلك أكثر مستشرقي الإنكليز أنفسهم. وإن كانت الغاية ترمي من وراء هذه الترجمة إلى غرض قائم على روح التعصب الجنسي أو القومي، فنكون قد ارتكبنا إثم التضليل للعنصر التركي القوي الإيمان بدينه. لأنه خير للأتراك أن يقرؤوا القرآن العربي ولا يفهمون معانيه من أن يقرؤوا قرآناً نفهم منه غير ما أراد الله منزله، ومن ثم من يضمن لنا بأن لا تتسرب عوامل التشويه إلى هذا القرآن التركي في كل سنة أو كل عصر مثلاً فتدخل عليه الأساليب الإنشائية المنمقة بدعوى تحسين ألفاظه وتهذيب كلامه فتختلف المعاني ويختبط الآيات بعضها ببعض حتى إذا مرت أعقاب قليلة رأينا بين هذا القرآن المترجم وقرآننا العربي الأصلي هوات سحيقة من المعاني والأغراض الدينية التشريعية وسواها تدخلنا في مذهب ابتداعي جديد يبعدنا عن الإسلامية الحقة ونحن لا ندري!! طه المدور البطل الخالد والشاعر الخالد خطبتان في مجلدة لطيفة للأديب الكبير الأستاذ محمد أسعاف النشاشيبي الأولى خطبها في حيفا يوم ذكرى واقعة حطين التي ظهر بها السلطان صلاح الدين على الصليبيين والثانية تليت في بيت المقدس ونابلس وحيفا في ذكرى الأربعين التي عقدت لتأبين شاعر العصر أحمد شوقي أهداهما المؤلف إلى روح عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي الطيب

المتنبي. الأستاذ النشاشيبي من أفراد الأدباء الذين امتازوا بسعة الرواية وكثرة الاطلاع وجزالة الأسلوب وصحة اللغة والغيرة على العربية وأهلها أضف إلى ذلك خاصة هي أبلغ من كل ما تقدم أعني بها قوة الشخصية ووضوح أثرها في كل م يصدر عنه فالنشاشيبي ذو شخصية مستقلة في إنشائه وتأليفه وإلقائه وحديثه وإشاراته وخطه وبهذه المزية التي لا يشاركه بها أحد عرف بين الناس أكثر من سائر خصائصه ولأجل تلك الشخصية المستقلة يلذ الناس قراءة آثاره من معجب به ومخالف له فلا يكاد الإنسان يبدأ بقراءة رسالة من رسائله حتى يأتي على آخرها كأن كلامه يغري بعضه ببعض. وخطبتاه في صلاح الدين وأحمد شوقي فيهما علم كثير في الأدب والتاريخ وحب جم وإخلاص شديد وإعجاب بالنبوغ وحزن عميق واستنهاض للهمم وربما كانت خصائص المؤلف أشد ظهوراً فيهما لفرط إعجابه بالسلطان العظيم والشاعر العظيم كقوله في شوقي: عبقرية عربية، إسلامية، محمدية، وإن شاعراً ما خرج في الأمم العربية قاطبة في جميع أقاليمها كافة من بعد الأحمدين: المتنبي والشيخ (وشوقي في الشعر من الشيخ أشعر) - أستئن (الدالية) نح الدالية: غير مجد. . . مانبغ خطير يضاهيه ولاند - لعبقري، لعظيم. عصور تلتها عصور، وعصور طوتها عصور، وهناك دول عربية، وهناك أمم عربية، وهناك ملك وسلطان، وليس هناك متنبي ثان. (وإن كان هناك في المغرب محمد بن هاني) حتى جاء أحمد شوقي فملأ الدنيا (كدأب سميه) وشغل الناس (أحمد) عاد وعاد (البحتري) ورأى القوم (حبيباً) يبدع. رُبَّهُ قائلين يقولون: هو الود في الحياة، وهو الوفاء بعد الممات يتظاهران فيقولان، ويتبجحان في المديح: أهابك إجلالاً وما بك قدرة ... عليَّ ولكن ملء عين حبيبها كلاَّ، كلا. حلاّ حلا (إ، هـ لحق مثل ما إنكم تنطقون) إنه الحق، إنه الصدق، (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) وحيَّ هلاً، حيَّ هلا إلى كلام كان يوم المهرجان قبل أن يكون ود، قبل أن يكون التصافي، وقبل حزن جاء، ومصاب نزل كلام أملاه عليَّ علمي، وأدبي، ومعرفتي، وإخلاصي في حب لغتي. ما كتبته يميني (إلا ابتغاء وجه الله) إلا ابتغاء وجه عربيتي.

خ. م. المباني التاريخية في دمشق عنوان كتاب أصدره في هذا الشهر الأستاذ المستشرق جان سوفاجه من أعضاء المعهد الفرنسي في دمشق. والأستاذ سوفاجه الذي يعرفه أبناء دمشق هو ممن يقبعون في هذه المدينة منذ أكثر من عشر سنوات قضاها في التتبع والدرس ضمن نطاق معين محدود من الموضوعات العلمية حتى أصبح ذا اطلاع واسع وخبرة عميقة في آثار سوري التاريخية ومبانيها القديمة وكتابه الجديد الذي يقع في 130 صفحة مزينة بالصورة والمخططات والنقوش يحتوي على وصف دقيق لجميع المباني الأثرية في دمشق ولمحة عن تاريخها وقد صدره بمقدمة عن مدينة دمشق القديمة قبل الفتح الإسلامي ورسم مصورها القديم وأبوابها التاريخية كالباب الشرقي والباب الصغير مع تخطيط شوارعها كما كانت عليه في عهد الرومان ومن كان قبلهم متتبعاً بذلك شواهد التاريخ وبقايا الماضي محكماً الروابط بين الغابر والحاضر ثم درس بعد ذلك مدينة دمشق بعد دخول الإسلام إلها فأتى على ذكر جميع المباني الأثرية التي أنشئت فيها مع تعيين مواقعها على خرائط هندسية أضافها على الكتاب مفرداً لكل منها فصلاً خاصاً مبتدئاً بوصف البناء ورسم ما يجب من جهاته متطرقاً لبيان الآراء المختلفة عن أصل بنائه وتواريخ أصلاحه مضيفاً على ذلك رأيه الخاص وقد بلغ عدد الأبنية التي درسها وصورها وأتى على وصفها مائة بناء يمتاز كل ما كتبه عنها بالجلاء والوضوح والدقة في التتبع والدرس حتى أن الكتاب بتبويبه على هذا الشكل وتقسيم مباحثه وتأييدها بالرسوم والمخططات والصور هو أشبه شيء بكتاب مدرسي تسهل مطالعته حتى على من لم يألف هذا النوع من المباحثات ذات الشأن الكبير في تاريخ المدن والأمم وبيان مجدها التالد. وعلى الجملة فإن كتاب الأستاذ سوفاجه الجديد هو من خيرة الكتب القيمة التي نشرت في دمشق ومن أفيد ما يمكن ترجمته إلى العربية مما أصدره المستشرقون في هذه السنوات الأخيرة الفكر والعالم تأليف إبراهيم المصري، مكتبة سابا ومطبعتها. القاهرة 1933 مجموعة مقالات في الأدب والاجتماع مذيلة برواية تمثيلية اسمهانحو النور بقلم السيد

إبراهيم المصري المحرر في جريدة (البلاغ) أحد أدباء الشباب المجددين في مصر. ويظهر إلى أكثر هذه المقالات التي تبحث في الحضارة والآلات) وفي معنى الحضارة وعن الفنون والآداب في عصر الآلات واضطراب أوربا وعنمارسيل بروست القصصي الفرنسي العبقري وعن شارل بودلير الشاعر العبقري وعن (غرام ميشيل أنجلو) وعن كتاب أندريه موروا في الشاعر الإنكليزي (بيرون) - نقول يظهر على هذه الدراسات وكذلك على الرواية التمثيليةنحو النور في خاتمة الكتاب تأثير الأدب الغربي واضحاً حتى يخيَّل إليك أن بعضها مترجم عن اللغات الأجنبية أو مقتبس عنها على الأقل. إلا أننا نلمس في جميعها إطلاعاً واسعاً على الآداب الغربية ومعرفة جيدة بتطورات الفكر الحديثة. ويجب أن نعترف بأن أكثر أدباء العرب ما زالوا بعيدين عن الخوض في المسائل التي يتعرض إليها السيد إبراهيم المصري. وفي الكتاب نص محاضرة للمؤلف في المثل الأعلى للفرد والمجتمع في مصرتدل على روح طيبة، محبة للإصلاح، شديدة الإخلاص ولى فكر ثاقب ونظرة عميقة. ويعجبك في السيد إبراهيم المصري صراحته وجرأته في تسمية الأمور بأسمائها. فهو يقول: إن الرخاوة دبت فينا. وعدم الاكتراث قد سمنا والمصلحة العامة أبعد ما تكون عن تفكيرنا. وإننا نفترش بلادنا كما يفترش الفاسق جسم الغانية يروي منه شهوته ثم يلتقي بها متاعاً للآخرين ثم يتكلم عن المثل الأعلى قائلاً: إن المثل الأعلى لبلادنا منذ نصف قرن مضى هو أن تصبح قطعة حية من أوروبا وأن تحتفظ في نفس الوقت بجوهر ثقافتها الشرقية. فماذا فعلنا لبلوغ تلك الغاية في نصف قرن؟ لقد قبلنا الحل الوسط وجعلنا البلد مزيجاً غريباً من التقاليد الشرقية البالية والإصلاحات الغربية. نظمنا المدن وجعلناها متعة للأجانب وأصحاب رؤوس الأموال وتركنا الفلاح في الريف فريسة الاستبداد والمرض يسكن حظيرة تعاف سكناها الكلاب. أما العلم فقد القينا به بين براثن الشركات الأجنبية تستغل شبابه ورجولته ثم تلفظه عند مقدم الشيخوخة دون تعويض يكفل راحته. أردنا النهوض بالأسرة المصرية فأرسلنا بالمرأة إلى المدارس لتتعلم ثم أبقينا في الوقت

نفسه على تشريع عتيق يخول الرجل حق الزواج بنساء عد ولا يساوي بينه وبين امرأته في حق الطلاق. فنحن نريد تحرير المرأة بالقلم بينما نحن نستعبدها بالقانون. . ولأجل مثل هذه الأفكار الحرة يجدر بجميع الذين يهمهم التفكير في أحوال الشرق الاجتماعية ومستقبل حضارته عدا الاطلاع على كثير من أفكار الغربيين أن يطالعوا كتاب السيد إبراهيم المصري القيم. المراحل أصدر الأديب السوري المعروف ميخائيل نعيمة صاحب كتاب الغربال كتاباً جديداً في هذه السنة سماه المراحل وهو سياحات في ظواهر الحياة وبواطنها كما قال المؤلف، ولعل أول ما يسترعي انتباه المطلع على كتاب المراحل هو التحول الظاهر في نفسية كاتبه حتى ليخيل أن مؤلفه هو غير مؤلف الغربال ففي الغربال لا تكاد تجد إلا مقاييس وموازين ثابتة أستمدها صاحبها من درس الواقع ومنطق العصر والوسط الذي عاش فيهما وفي المراحل لا تقع إلا على صور وآراء لا أساس ترتكز عليه إلا الوحي النفسي والإلهام الشعري الذي لاتحصره قاعدة معينة أو مقياس ثابت. ففي الغربال كان نعيمه من عشر سنوات خلت عربياً مدققاً ورياضياً حيوياً أا في المراحل فلقد أضحى شرقياً متصوفاً يرى كل ما في الحياة وهماً طارئاً وعرضاً زائلاً فلا يكاد يسمع من الأحاديث إلا حديث حبات القمح وهي تتكلم في جوف الأرض ولا يتعظ إلا بالغراب حينما يسمعه ينعب (قاق. قاق. قاق.) ولا يرى في الوجوه كلها إلا وجوهاً شرقية ثلاثة: وجه بوذا شيخ الهند وفيلسوفها الأكبر ووجه لاوتسو مجذوب الصين وحكيمها القديم ووجه يسوع نابغة سورية الأوحد ومعلم التضحية والإخلاص. لقد أحب نعيمه هذه الوجوه وأفتتن بها فوصفا لنا في كتابه المراحل وصفاً لعله أبدع من جميع ما كتبه في حياته، وأتى على شرح فلسفة أصحابها بأسلوب أنيق لا أعرف بين كتاب العربية من سبقه إليه. أما بقية مقالاته في كتابه المراحل فهي لو عرضت على نعيمه صاحب كتاب الغربال، هو غير نعيمه صاحب كتاب المراحل، لا صلاها من نقده ناراً حامية رغم ما فيها مما يستلهي الفكر ويطرب النفس. الأمواج

لأحمد الصافي النجفي السيد الصافي شاعر انصرف في حياه إلى الشعر لا عمل له سواه وهو القائل: قد جاء النزل لي سائلاً ... يقول ما شغلك في ذي الحياة فحار عقلي في جوابي له ... حتى كأني غارق في سبات فقلت شغلي الشعر في نظمه ... أدفع عني جحفل النائبات نشر منذ نحو سنتين تعيب رباعيات الخيام فكانت ترجمته من أفضل الترجمات محافظة على الأصل ومقدرة في النظم وأخيراً نشر ديوان الأمواج وفيه طائفة صالحة من شعره السهل السائغ. يعجبك من الديوان موضوعاته الطريفة مثل قصيدة حياتي وسراجي وغرفة شاعر وأن والدجاج والشاعر والفار والشاعر والقط إلى غيرها من القصائد والمقطوعات التي تعبر بدقة عن نفس الشاعر وحياته ونظره إلى المجتمع بصراحة لا جمجمة فيها وبيان سهل لا تكلف فيه ولا صنعة وق يفرط في اعتماده على طبعه وإلقاء الكلام على عواهنه فيهمل التهذيب في كثير من أبياته وله في ذلك رأي نظمه بقوله: قال خلي هذب قريضك حتى ... لا ترى فيه غير بيت مليح قلت شعري مرآة روحي فإن كا ... ن قبيحاً فهل أغير روحي وكل من عرف روح الشاعر لا يقره على هذا الرأي وبعد فطريقة الصافي في الصراحة والاعتماد على النفس والاستقلال بالرأي ومجاراة الطبع والبعد عن المغالاة والصنعة والتزويق أشبه بطريقة الزهاوي شاعر العراق. خ. م. الصحائف الضاحكة يصدرها ويصورها: محمد الصالح الخماسي، تونس وهي اسم مجلة فكاهية جديدة في تونس وصلنا العدد الأول منها وهو في 28 صفحة مصورة تصويراً متقناً يحتوي على قصة محلية تاريخية جيدة الأسلوب. وهذه المجلة تعد خطوة كبيرة في سبيل رقي الصحافة العربية في تونس التي أخذت تسابق أخواتها في الأقطار العربية الأخرى.

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب لامرتين في دمشق أقيمت في دمشق وبيروت عدة حفلات بمناسبة مرور مائة عام على مجيء لامرتين إلى سوريا وقد التقى الموسيو تره س محاضرة في الجامعة السورية موضوعها لامرتين في دمشق بين فيها حالة دمشق يوم جاء الشاعر إليها عام 1833 وكيف نزل ضيفاً عند الموسيو (بودن) واجتمع هناك بالقادمين من بغداد واطلع على حالة جزيرة العرب. فمما قاله الموسيو تره س أن لامرتين تجنب في وصفه لدمشق ذكر الأسماء الخاصة والأشياء المحسوسة وقال أيضاً أ، وصف لامرتين لدمشق وصف شاعر هام بما شعر به من العواطف لا بما شاهده من الأشياء وقد جاءت هذه المحاضرة وحيدة في بابها لأن الموسيو تره س قد اطلع على مستندات جديدة لم يتح لغيره الاطلاع عليها قبله. وقد ألقى الدكتور أنور حاتم محاضرة في المدرسة العلمانية الفرنسية ذكر فيها علاقة لامرتين بالفير وهي مدام شارل التي عشقها في صباه وبين أن حب لامرتين لها لم يكن خالياً من المنفعة في أول الأمر وأنه لم ينقلب إلى حب حقيقي إلا بعد موت حبيبته. العلم وإثبات الطوفان مازال العلم يميل إلى اعتبار كثير من الحوادث الطبيعية والتاريخية المذكورة في الكتب الدينية المقدسة كأساطير بعيدة عن الحقيقة. وهكذا كان الأمر مع الطوفان أيضاً. إلا أنه في السنين الأخيرة أخذ بعض علماء طبقات الأرض والجغرافيا الطبيعية يبحثون في حقيقة الطوفان الذي تتكلم التوراة عنه. وقد قامت بعثة أثرية إنكليزية في سنة 1928 بحفريات لهذه الغاية في العراق فعثرت عي عمق ستة أمتار من سطع الأرض على طبقة من الوحل تمتد إلى مسافة بعيدة. ويمكن أن يستدل من وجود هذه الطبقة على إنها من آثار كارثة طبيعية نتج عنها فيضان المياه فوق سطح الأرض. ومنذ ذلك الوقت كثرت مثل هذه الحفريات في محلات أخرى أيضاً بالقرب من مدينة (أور) القديمة حيث عثرت البعثة الألمانية أخيراً على طبقة من الوحل تحت الأرض. ولذلك فإن العلماء يرجحون اليوم القول أن هذه الآثار ليست سوى نتيجة للكوارث الطبيعية المذكورة في الكتب المقدسة. ومما يؤكد هذا الرأي الأنقاض والآثار نفسها التي تكشف عنها الحفريات. فإن بقايا الأبنية

تحت طبقة الوحل تختلف كل الاختلاف عن الآثار الموجودة فوق هذه الطبقة. ومعنى ذلك أن الطوفان يفصل بين شعوب لا تربطها أية صلة بعضها مع بعض. فقد انقرضت بالطوفان أقوام خلفها غيرها فيما بعد. ويقدر العلماء بأن الطوفان قد حدث سنة (3000) قبل الميلاد. . البواخر وخطر الحريق كان الغرق قديماً من أهم الأخطار التي تتعرض لها البواخر وركابها على أن هذا الخطر أصبح اليوم تافهاً لا شأن له أمام أخطار الحريق ولقد أحصيت كبرى البواخر التجارية التي أبادها الحريق في السنوات العشر الأخيرة التي تنتهي في 1 كانون الثاني سنة 1932 فكانت 296 باخرة تجارة منها 16 فرنسية و8 ألمانية و88 أميركية و73 انكليزية و 15 يابانية و 13 نرويجية ما عدا البواخر الصغيرة الأخرى. فقامت الشركات البحرية تدرس أسباب هذا الخطر وتفكر فيما يحول دونه ويظهر من مجمل ما كتب بهذا الصدد في المجالات الفرنسية أخيراً أن المهندسين الأخصائيين انقسموا إلى حزبين فمنهم من يرى الاقتصار على بناء البوار من المواد الحديدية والمعدنية ومنهم من يدافع عن استعمال الأخشاب ويبين المحاذير التي تنشأ عن الاكتفاء بغيرها ثم يدع للبحث الدقيق في طريقة أصلاح تمديد الخيوط الكهربائية التي نشأت أكثر الحرائق في البواخر عنها. وقد اقلق وضع هذه القضية على بساط البحث تجار الأخشاب فقاموا يذيعون وينشرون فوائد استعمال الأخشاب في البواخر ويؤيدون انه لا يمكن الوصول بسواها إلى أسباب الرفاه والراحة للمسافرين كما انه من الصعب جداً الاستغناء عنها. ويظهر لمن أمعن النظر في الحجج والأدلة التي يقدمها الفريقان إن كفة الذين يرون الاقتصار على المواد المعدنية في إنشاء البواخر وتزيينها هي الأرجح. وربما لا يمضي وقت طويل حتى نرى بواخر تجاريه كبيرة ليس فيها قطعة واحدة من الخشب وبذلك يأمن راكبوها على أنفسهم من خطر الحريق بين لجج المياه. . أعظم اجتماع للرقص في أول حزيران سنة 1933 سيعقد في وارسو في اجتماع يحضره ثلاثة آلاف راقص وراقصة يشترك فيه نحو عشرين امة وسيكون أكثر الراقصين من بولاندا وفرنسا وانكلترا

والسويد وهنغاريا ورومانيا وروسيا. وسيشمل الراقصون من كل امة تطور الرقص القومي عندهم آينشتاين وسعادة العلم بمناسبة اضطهاد اليهود في ألمانيا من قبل الوطنيين الاشتراكيين (النازي) اهتم الناس لحادث العالم اليهودي الكبير الأستاذ (آينشتاين)، صاحب نظرية (النسبية) المشهورة الذي ترك الجنسية الألمانية احتجاجاً على أعمال هيتلر. والأستاذ (آينشتاين) من أعاظم الرجال في هذا العصر ذاع صيته في كل أنحاء العالم وأصبح من اكبر دعاة التفاهم بين الأمم وفي مقدمة أنصار السلم العام. وهو من الشخصيات الفذة ليس في سعة علمه وعمق نظرياته فقط بل في بساطة معيشته وطيبة قلبه ونبل عواطفه وسمو أفكاره أيضا. ولعله من المفيد أن نسمع من هذا النابغة رأيه في قيمة العلم وأهميته للناس ونفهم منه شيئاً عن اللذة التي يشعر بها رجال العلم. قال (آينشتاين): ليس للعلم أي تأثير في مقدرات الأمم وكذلك يجب ألا نبالغ في تقدير فوائد العلم المادية. فان العلماء لا يهمهم إذا كانت مباحثهم مفيدة في الحياة العملية أم لا. وقد تكلم الناس كثيراً عن قيمة العلم وذهب بعضهم إلى أن فيه سعادة البشر وقال آخرون انه شقاؤهم ولم يمكن الاتفاق على احد هذين الرأيين. والأمر الثابت هو إن الأمم تستطيع الحياة العلم كما يدلنا مثال اليابان التي عاشت مئات من السنين وتقدمت وهي منقطعة عن العلوم. ويشبه ولوع العالم بعلمه غرام العاشق وانقطاعه إلى حبيبته. فهل إذا افتتن احد بفتاة جذابة يجوز أن نسأله عن الفائدة من ذلك؟ وكذلك إذا استهوانا العلم واستحوذ على أفئدتنا. ولا يمكن أن نقول فيما إذا كان هذا الحب ينتهي بجميع العلماء إلى السعادة. أما أنا فإنني سعيد بالعلم. وليس معنى ذلك أنني لا التفت بتاتاً إلى مظاهر الحياة البشرية الأخرى مثل شؤون العائلة وغيرها ولكنني اعترف بان العلم قد استولى على جميع مشاعري وان أمور

العالم الأخرى لا تلعب إلا دورا ثانويا في حياتي ولا أتأخر عن تضحيتها في سبيل العلم. ولا أعتقد إن الرجل العالم اقرب إلى السعادة من الجاهل. فإن رجل العلم لا يسلم أبدا من عذاب الشكوك والشبهات التي تعتوره على الدوام والتي لا يعرف الجاهل شيئا عنها. . ويقول (آينشتاين): إن الحقيقة لا تحتاج إلى من يدافع عنها لأنها هي نفسها الحجة الدامغة. ولكن إذا لم نكن في حاجة للدفاع عن الحقيقة فانه من الواجب أن نبشر بها وندعو إليها ونظهرها للآخرين الذين يسعون وراءها ولا يستطيعون الوصول إليها. . المرأة والسياسة في نظر موسوليني نشر أخيرا الديكتاتورية الطلياني موسوليني مقاله عن الدور الذي تلعبه المرأة في حياة الشعوب جاء فيها: اعتقد إن المرأة تفوق الرجل في الصفات الباطنية مثل قوة الحدس والمؤالفة وطيبة القلب والكرم وحب العائلة والتضحية غير المتناهية. وبينما لا نجد منذ أول العالم امرأة نبغت في فن التلحين أو التصوير أو صناعة النحت أو البناء نصادف بين النساء كثيرات من مشاهير الكتاب والخطباء. وقد اثبت النساء العجز التام في التفكير الفلسفي فلم يظهر بين الفلاسفة امرأة واحدة. ومن هنا يتضح موقفي تجاه اشتراك المرأة في الحياة السياسية. فانا وان كنت اعترف بان الأصوات التي تعطيها المرأة المتوسطة في الانتخابات لا تختلف كثيرا عن أصوات الرجال المتوسطين إلا إنني أقول إن اشتراك النساء في الانتخابات النيابية على جانب عظيم من الخطورة لان الأكثرية في جانبهن. ومتى ازداد انقسام المسؤولية أنفسح المجال لضياعها وفسادها ولذلك فإنني من المعارضين لفكرة منح النساء حق الانتخابات رغم اعترافي للمرأة بالذكاء وبكثير من المزايا الأخلاقية. وإذا كنت لا اشك في وجود كثير من النساء النابغات إلا إنني لا اعتقد مقدرة المرأة على العمل في ميدان السياسة فان السياسة أسمى الصناعات مقاما وأكثرها صعوبة وهي تتطلب معرفة بالناس نفوذا إلى نفسية الجماهير وتحتاج إلى كثير من التجارب والاعتدال والجرأة والسيطرة على النفس والسيادة على الآخرين ورباطة الجأش واطلاع تام على التاريخ

وعلم دقيق بأهم المسائل الاقتصادية والجغرافية والاجتماعية ولا يمكن النجاح في المسلك السياسي إلا بصرف جهود عظيمة لا قدرة للمرأة عليها. وقبل كل شيء فان مزاج المرأة السريع التأثر لا يساعد على انخراطها في السياسة أبدا. على أنني لست من الرجال القدماء الذين يجسرون على الادعاء بان المرأة يجب أن يقتصر اهتمامها على بيتها وأسرتها. لا شك في أن البيت هو مملكة المرأة وميولها تدفعها إلى العمل في هذه المملكة في الدرجة الأولى. في بيتها، صغيرا كان أو كبيرا، يجب أن تكون المرأة ملكة وليس ملكة خاملة متقاعسة، بل ملكة عاملة مدبرة. ولكن الحياة العصرية ويا للأسف قاسية تضطر الملايين من الفتيات اللواتي لا يجدن رجلا يعولهن، إلى الاشتراك في معترك الحياة. وهذه الملايين يجب أن تعمل لمعيشتها وها نحن نراها تقوم بذلك على أتم وجه محافظة على وقارها وشرفها ومكانتها. وما دامت المرأة مرغمة على مزاحمة الرجل في ميدان العمل فمن الضروري أن يفسح لها المجال واسعا لإظهار مقدرتها في جميع الساحات العملية والفكرية. . ماذا يجب أن نأكل إن مباحث العلماء عن المواد الغذائية وفوائدها قد أحدثت في السنين الأخيرة انقلابا كبيرا في طرق (التغذية). فقد ثبت الآن إن الغذاء الطبيعي للإنسان كما يتطلبه بنيانه (الفيزيولوجي) لا يمكن أن يقتصر على المواد الغذائية الأساسية بل يجب أن تضم إليها بعض المواد الإضافية الضرورية للحياة التي لا تتم التغذية إلا بها والتي لم نكن إلى وقت قريب نعرف شيئا عنها. ولا يشك اليوم احد في أن الغذاء الذي لا يحتوي إلا على المواد الغذائية الأساسية الثلاث: الزلال والسكر والشحم لا يمكن الاكتفاء به ولو تناولنا منه كميات كبيرة بل لابد أن يسبب ذلك اختلال حالتنا الصحية ويعرضنا لأمراض كثيرة. . ومن الحقائق الجديدة معرفتنا بأن الاستمرار على طعام كثير الزلال ليس له من الفائدة الغذائية والصحية بقدر ما كنا نظن قبلا. وقد كان من الخطأ أن نستنتج من كون الزلال أحد المواد الأساسية في بناء الجسم فنقول انه أحسن مادة غذائية أيضا ونعبره اهتماما زائدا

أكثر من غيره. فقد ثبت أن الجسم لا يستفيد من المواد الزلالية في الطعام إلا بقدر ما يستهلكه وان الكمية الزائدة عن ذلك إنما تتحلل وتتحول إلى مواد احتراقية مثل الشحم والسكر. ولذلك ليس صحيحا أن نتمسك اليوم بالفكرة القديمة التي تفضل المواد الغذائية الحيوانية مثل اللحم والبيض والحليب على غيرها وتقصير عليها لاحتوائها على مقدار كبير من الزلال. وإذا اكتفينا بكمية صغيرة من الزلال فيجب أن تكون من الأنواع الجيدة التي لها قيمة حيوية لان التجارب المتعددة قد اثبت أن الزلال الموجود في الأغذية المختلفة لا تتساوي قيمة وفائدته للجسم بل إن هنالك أنواعا أكثر قيمة وفائدة ينبغي تفضيلها على غيرها في تغذية الأطفال بعد دور الرضاعة لتأمين نموها الطبيعي. وهنا يأتي الحليب في المقدمة وكذلك اللحم والبيض يحتوي على مواد زلالية مفيدة. ولكن ليس معنى ذلك إنها متساوية أو متشابهة في قيمتها الغذائية ويمكن الاستغناء عن الآخر. ومثلها المواد الغذائية القريبة من الزلال التي تشتمل عليها النباتات فإنها يختلف بعضها عن بعض في فائدته لتغذية الجسم. على إن أهمية الأغذية النباتية إنما ترجع في الدرجة الأولى إلى احتوائها على كمية كبيرة من المواد الإضافية الضرورية للأفعال الحيوية في الجسم. وبينما كنا قبلا لا نعتني بالأغذية النباتية لكثرة الماء وقلة الزلال والشحم فيها أصبحنا اليوم نقدر قيمة الأغذية النباتية حق قدرها لما ظهر من أهميتها لاشتملها على كمية عظيمة من المواد الإضافية الضرورية مثل أنواع الفيتامين والأملاح المعدنية. وقد عرفنا إن تناول مقادير كافيه من مختلف الأغذية النباتية مثل (البندورة) والفجل واللفت و (الملفوف) والكرنب وأنواع الحبوب والفواكه بما فيها الليمون والبرتقان، مما يتوقف عليه نمو الجسم وحصول المناعة فيه ضد كثير من الأمراض. والرأي الذي اجمع عليه العلماء اليوم يقول بضرورة تنويع الغذاء وعدم الاقتصار على أنواع قليلة منه. فان كلا من الحبوب والخضر والفواكه وكذلك اللحوم والبيض والحليب يحتوي على عناصر ضرورية للجسم لا توجد في غيره أو لا توجد فيه بمقدار كاف. . الشعور بالتعب في الربيع

متى جاء الربيع نشعر برخاوة وتعب غريب في أجسامنا. ويرافق هذه الحالة ازدياد الجوع رغم كثرة الأكل ثم ألم مزعج في العضلات لا يشعر به الإ صحاح الجسم من البالغين. فما علاقة هذه الظواهر بالربيع؟ كثير ما يحار الأطباء في الجواب على مثل هذه الأسئلة البسيطة عن الأمور المعتادة ويرجع السبب في ذلك إلى إن هذه الأعراض المرضية تافهة لا تدعو الناس إلى مراجعة الطبيب وقد ظهر للأستاذ (براوئر) في ألمانيا بان هذه الأعراض تدل على مقدمات لمرض الحفر الذي كثر ذكره مؤخرا في البحث عن (الفيتامين). وهو مرض سار يسبب فساد الدم وينشأ عن فقدان بعض أنواع الفيتامين في الغذاء ويقول الأستاذ (براؤئر) إن التعب الذي نشعر به في الربيع إنما يرجع سببه إلى نقصان كمية الفيتامين في الأغذية التي نتناولها في أوائل هذا الفصل. فان الخضر والفواكه لا تزال حينئذ نادرة جدا ولا يعتني الناس كثيرا بأكلها. . برج بابل الجديد وضع المهندس الافرنسي (بير) مع غيره من المهندسين المساعدين له مشروعا لإنشاء برج جديد يبلغ ارتفاعه (700) متر وحسب التصميم الذي أتمه المهندس (بير) فان الصعود إلى أعلى البرج لن يكون بالرافع (الاسانسور) كما هي الحال الآن في برج (إيفل) الذي لا يتجاوز ارتفاعه (300) متر بل إن هناك طريقا حلزونية للسيارات تدور حول البرج طولها ستة كيلو مترات وعرضها سبعة أمتار تنتهي بنا إلى قمة البرج حيث يوجد مرآب يسع (400) سيارة. والطريق الحلزونية العريضة تساعد على سير أربع سيارات في وقت واحد اثنتان صعودا واثنتان نزولا. وفي رأس البرج سيفتح مطعم كبير وفندق فيه (200) غرفة. وهذا البرج سيكلف (60) ميلونا من الفرنكات ولكن استثماره مدة سنة واحدة يكفي لتسديد جميع هذه النفقات. ولا فرق في أي مكان ينشأ هذا البرج ولكن يفضل أن يكون على إحدى الهضبات. الصناعة والاقتصاد كانت قيمة الإنتاج الصناعي الذي يقوم به العامل الواحد في الولايات الأمريكية المتحدة

سنة (1900) ما يقارب (600و1) دولار بينما ازداد هذا المقدار في سنة 1919 إلى (500و7) دولار. ورغم الفرق بين الدولار من الوجهة الاقتصادية في تلك الفاصلة الزمنية فان الزيادة في إنتاج عظيمة جدا. ولكن النسبة بين قيمة المنتوجات وبين رؤوس الأموال المستثمرة كانت في نقص مستمر مع مرور الأيام. فبينما كانت هذه النسبة في سنة 1850 ما يقارب (2) هبطت في سنة 1916 إلى 93و1 فقط. ومعنى ذلك انه رغم نقصان عدد العمال الذين يستخدمون في استثمار الآلات المتكاملة فان نفقات الإنتاج قد ازدادت لان هذه الآلات الحديثة تكلف مبالغ كبيرة لما هي عليه من الدقة والإتقان.

ركود الأدب في سورية

بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني وكامل عياد - دمشق في 5 حزيران 1933 - 11صفر 1352 ركود الأدب في سورية لخليل مردم بك المتعلمون في سورية بالنسبة لعدد السكان أكثر من المتعلمين في الأقطار العربية كافة، ومع ذلك فالحركة الأدبية في سورية ممنوة بركود يستدعي الاستغراب. فالمطابع في قلة إنتاجها من آثار السلف أو مؤلفات المعاصرين تكاد تكون عقائم، والناس منصرفون عن الأدب انصرافا لا يتلاءم مع امة متحفزة للنهوض حتى كأن الأدب حاجة فضولية في حياتهم الاجتماعية، والأدباء قابعون في زواياهم لا يتعالى صوتهم في أجواء المجتمع أو هم منصرفون لما لم يخلقوا له. إذا سألت الأدباء عن سبب تخلفهم في مضمار الإنتاج أجابوك والأسف يملأ نفوسهم إن الأمة لا تعني بالأدب عنايتها حتى بالتافه من شؤون الحياة، فلماذا يوزعون أنفاسهم بين من لا يقدرونها حق قدرها، وأي كتاب عاد بغير التعب على مؤلفه أو ناشره ثم لم يكن حظه الحبس الطويل؟ اللهم إلا الكتب المدرسية التي تفرض على الطلاب فرضا، بل متى تحدث الناس عن كتاب جديد مهما بلغ من الجودة كما يتحدثون عن اقل الحوادث؟ وإذا بدا لك أن تستطع رأي الناس في إهمالهم شؤون الأدب أحالوا الذنب على عقم الأدباء أو سوء إنتاجهم، وإنهم لا يلذون ما تسيل به قرائح الأدباء في الفترة بعد الفترة وان القليل الذي ينشر من أثار السلف لا يتذوقون حلاوته. ودعوى الفريقين حق ومنهما كانت العلة التي رمت حركة الأدب بالشلل في هذه البلاد، فيحسن بذل العناية في البحث عن منشأ تلك العلة وتشخيصها وتفهم عناصرها وأعراضها. ربما كان من أعظم الدواعي في تفاقم تلك العلة اختلاف ثقافة المتعلمين في سورية، فمنهم من اشتغلوا بأنفسهم وانقطعوا للطلب والمطالعة ومصادرهم كتب الأدب العربية فثقافة هؤلاء عربية، ومنهم من تخرجوا بمدارس الأجانب فثقافتهم إما افرنسية أو انكليزية، فهذه البلبلة في مناهج التعليم باعدت ما بين الآراء والأذواق فالكتاب الذي يؤلفه ذو ثقافة أجنبية لا يستسيغه ذو ثقافة عربية، وهكذا يبقى الكتاب في حدود من القراء ضيقة، فضلا عن إن

النشء لم يتعودوا المطالعة منذ حداثتهم بإقبال ورغبة. وينشأ عن ذلك بالطبع فتور هوة الأدباء، فلا ينقطعون للأدب انقطاعا يشحذ قرائحهم ويبرز مكنونات نفوسهم وعقولهم فيضطرون لاتخاذه أداة للتسلية والترويح لا غاية للحياة. فلا غرابة بعد ذلك إذا ندرت المؤلفات الأدبية التي تحبب المطالعة للناس وتغريهم بها وتجعل القراءة حاجة من حاجات الحياة التي لا يصبر عنها الإنسان. على إن في أدبنا نقصا لم يمكن تلافيه إلى الآن ولعله من أعظم ما جعل الناس يزوون وجوههم عن تقدير الأدب والارتياح له وهو أن أدبنا مرآة غير صادقة لا تنعكس فيها حياتنا الحاضرة أو قل انه صورة لا تمثل الواقع كما هو. ولئن كان في الأدب القديم ما يمثل حياة أهله فانه لطبقة خاصة من المتأدبين لا لبقية الناس الذين يشق عليهم استحضاره صورة القديم في أذهانهم بل هم بحاجة لما يمثل شؤونهم الحاضرة ويحدثهم عنها. والقصص والروايات خير وسيلة لهذه الغاية وما عندنا منها أكثره مترجم لا صلة له بحياتنا، والموضوع قليل جدا لا يستدعي بعض الحاجة دع عنك الخلل والتقصير الماثلين فيه من حيث ضيق التصور والتواء الأسلوب وقلق اللباقة في التأدية والغفلة عما يحيط بنا ويحدث لنا. وهناك عقبة نرجو أن يذللها الزمان بازدياد سواد المتعلمين وهي بعد الشقة ما بين لغة الأدب واللغة المحكية، ومعالجة هذه المعضلة تستلزم فضل تدبر ورفق فشدة الكلف بالصنعة اللفظية تجعل الأدب كالمقامات تكلف مطالعها من العناء أضعاف ما تجلب له من اللذة، كما إن الدعوة إلى استعمال العامية عقوق للغة والأدب والقومية وتفريط في ميراث أدبي عظيم لا يقل عن اجل ما خلفته الأمم في الماضي. على أن الأديب اللبق قادر على أن يكون سهلا مفهوما من غير أن يخرج على قواعد اللغة وحدود البلاغة لاسيما فيما يكتبه للناس عامة. وتقاطع الأقطار العربية أو تقطعها جعل جمهور القراء ضئيلا مشتتا في العالم العربي لان الحجازي مثلا لا يعتبر دمشق أو القاهرة أو بغداد عاصمة له يشارك أهلها في مصالحهم وشعورهم ويهمه الاطلاع على ما يحدث فيها ويصدر من كتب وآثار أدبية، وهكذا السوري بالنسبة للأقطار الأخرى.

هذه أهم الأسباب التي نتج عنها ركود الحركة الأدبية في سورية وهي كما ترى متلازمة بعضها ينشأ عن بعض. ومعالجة كل سبب منها تحتاج تبصرا وسعيا، وليس إدراك الأمل بعيدا إذا صحت العزيمة على العمل. خليل مردم بك

كلية الطب

كلية الطب للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي عفا ما بني المأمون للطب معهدا ... ببغداد إلا أن فيصل جددا ندي لدرس الطب ضخم بناؤه ... رأى فيصل تشييده فتشيدا مليك إلى الشورى صبا فوق عرشه ... فمدت له الشورى تصافحه يدا واني إذا ما شمت ومض عيونه ... أرى نصب عيني كوكبين توقدا وما زال ردء للعراق يحوطه ... ويخفره من أن يحيق به الردى أعاد به مجدا له كان ذاهبا ... وأصلح من قطريه ما الدهر افسدا تذرع بالأسباب حتى أقامه ... فأحرز يبني سؤددا ثم سؤددا رأي الحزم في إنهاضه من عثاره ... فقام به جلدا وما إن ترددا وما كل من قد رام علياء نالها ... ولا كل من قد سار يبتدر اهتدى أكلية الطب الحديث تخلدي ... كما كل ما أجدى الحياة تخلدا أحييك صداحا، أحييك هاتفا ... مع الجمع في الحفل الحفيل ومفردا فانك في جيد العراق قلادة ... وأحر بذاك الجيد إن يتقلدا وما الطب إلا منهل طاب مصدرا ... لوراده العطشى كما طاب موردا وما عاش إلا من أطاع وصاته ... ولا مات إلا من عليه تمردا وقبلك قد كان الوباء رزيئة ... وسهما إلى قلب العراق مسددا وقد كان صوت الطب في الغرب عاليا ... وما كان منه للعراق سوى الصدى ولولا اتقائي شر ناس تعصبوا ... على غير رشد لاتخذتك معبدا على إنني إما أتيت عبادتي ... عبدت جلال الله فيك موحدا إلى الطب في كل الأقاليم حاجة ... فما اقرب الجدوى وما ابعد المدى يبدل من عضو تحطم غيره ... ويحيي غريقا قد الم به الردى ورب مريض ما استطب فلم يعش ... ولم أر مثل الموت للجهل مشهدا ولم يعترف يوما ذووه بغيهم ... ولكنهم عدوا الضلال من الهدى ورب أذى يأتيك من ذي قرابة ... ورب صديق كان شرا من العدى

ستغفو عيون بعد ذا ملء جفنها ... فلا تجرأ الأمراض أن تتهددا وما الفضل إلا للأطباء إنهم ... لقد أوقعوا بالداء حتى تبددا خبيرين من أجسام من يفحصونه ... بما كان مخفيا وما كان قد بدا أولئك لاحوا للحضارة أنجما ... ففي كل جو أنت تبصر فرقدا تحاول أن تنكي الطبيعة جهدها ... كأن لها فيما تحاول مقصدا وكانت قديما تنفذ الحكم مطلقا ... ولكنما جاء الطبيب فقيدا فخفف ما يشكو المريض من الأذى ... وأخر آجالا قربن وبعدا وما زال يبلي الطب عند صدامه ... بجيش من المكروب مجر تحشدا وكم أسعفوا من سلة الداء ناشبا ... وكم أنقذوا من كاد يلحقه الردى وكم تعبوا يبغون تخفيف ما به ... فما ذهبت أتعابهم هذه سدى قد ابتسمت بغداد بعد عبوسها ... كما ابيض ليل بعد أن كان اسودا وهذا لعمر الحق صبح مكذب ... لمن ظن ليل الناس في الشرق سرمدا نزا بلبل يشدو فغنيت مثله ... وهل كنت ترجو أن يثورا وأجمدا ولا فرق بين العندليب وشاعر ... تفخر يشدو للسرور كما شدا كلانا نشأنا في خميلة روضة ... زهت وشربنا من أزاهيرها الندى لدى جنة أشجارها قد توا شجت ... كما خاصرت غيداء للرقص أغيدا ألست ترى روض الأماني مورقا ... يمد ظلالا بعد أن كان اجردا زرعنا فجاء الزرع ريان ناضرا ... وسوف تراه قد أجم فاحصدا تجدد هذا الدهر فانعم بخيره ... ومن حسنات الدهر أن يتجددا بغداد: جميل صدقي الزهاوي

نشوء التصوف

نشوء التصوف للأستاذ عز الدين التنوخي اختلف كلمة الباحثين من الشرقيين والمستشرقين في منشأ التصوف وتكامل علمه فذهب أنصاره إلى كونه مقتبسا من نور الهدى النبوي وسيرة الصحابة والسلف الصالح، ومال خصوم التصوف البدعي لا الشرعي كشيخ الإسلام ابن تيمية وإتباع مدرسته السلفية إلى تأثره بالنصرانية ومناسك الرهبانية فقد جاء في رسالته الفرقان مانصه: إن الصوفية ونحوهم إلى النصارى اقرب فان النصارى عندهم عبادة وزهد وأخلاق بلا معرفة ولا بصيرة والإسلام بعيد عن الرهبانية وتعذيب البدن واتخاذ الأربطة الشبيه بانفراد الرهبان في الأديرة، والزهد الكلي الذي يخرج به المرء عن الملك الكلي والانقطاع عن الاستمتاع، وعن الزينة التي لم يحرمها الله، وفي الكتاب المبين: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وأي تعظيم لقدر المال اكبر من جعله قواما لمعيشة الإنسان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: لان تترك ورثتك أغنياء خير لك من أن تتركهم عالة يثكففون الناس وقال: ما نفعني مال كمال أبي بكر وقال أيضا لعمرو بن العاص: نعم المال الصالح للرجل الصالح، وكان النبي العربي (ص) باتفاق المسلمين ازهد البشر وقد ادخر قوت سنة لعياله، كان علي بن أبي طالب والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعثمان من الزهاد على كثرة أموالهم، وأبو الفرج ابن الجوزي ممن حمل على جهلة المتصوفة في كتابه تلبيس إبليس ونقد مسالكهم وبدع مناسكهم، وأشار إلى أن بعض عاداتهم وآرائهم هو مقتبس من الرهبانية وبعضها ملتمس من العقائد الهندية، وكفر الاشاعرة شيخ الحلمانية أبا حلمان الفارسي الحلبي المعدود من شيوخ الصوفية وطريقته حلولية كالطريقة الحلاجية القائلة بحلول اللاهوت في الناسوت وقد كفر الحلاج لهذه المقالة كثير من الفقهاء والمتكلمين والحكماء والصوفية، وذهب ابن خلدون في مقدمته إلى إن الصوفية نظام الأقطاب من نظام النقباء عند الشيعة، وإلى أنهم خالطوا الإسماعيلية الرافضة فاخذوا عنهم الحلول، ولم تدخل دسائس الباطنية على المسلمين ومنهم هؤلاء الإسماعيلية، إلا من بابي التشيع والتصوف، والباطنية هم الذين جاؤا بالباطن والظاهر (ويغلب على الظن إن أخوان الصفا كانوا من الإسماعيلية وقد توفقوا برسائلهم المشهورة لدس كثير من الفلسفة الإغريقية والحكمة الهندية

في الشريعة السمحة الإسلامية، وفسروا القرآن تفسيرا باطنيا. والشيخ محمد عبده، وهو من حكماء الصوفية المتأخرين، كان يقول إن التفسير الباطني المنسوب إلى ابن عربي والمطبوع في جلدين هو للشيخ الكاشاني الباطني، وفي بعض كتب الصوفية ذكر للبراهمة وتفريق بين كشفهم والكشف الصوفي بكون الهندية صوريا وظلمانيا، والإسلامية معنويا ونورانيا. هذا غيض من فيض مما في ثقافتنا الصوفية من إشارات لما خالطها من الدخائل التي عمرت صفوها، وباعدت بينها وبين تصوف السلف، وأما الباحثون من المستشرقين قهم كذلك مختلفون في تخصيص هذه العناصر الغربية، فالأستاذ بروان مثلا يذهب في كتابه النفيس تاريخ فارس الأدبي إلى أن ما ينزع من التصوف إلى حلول هو من أصل فارسي، وما يتعلق بالفلسفة فمقتبس معظمه من الأفلاطونية الجديدة - ومنهم فون كريمر الذي يرى أن نظريته الفناء في التصوف مثلا هي من التعاليم البوذية، وان الذي نقلها إلى العرب هو أبو يزيد البسطامي البلخي الذي أخذها عن مربيه أبي علي السندي، وقد بالغ كثيراً باعتقاده إن للمدرسة الفلسفية الهندية أعظم التأثير التصوف الإسلامي. وأما نيكلسون تلميذ بروان والذي نشر كثيرا من كتب السلف في التصوف وألف كثيرا فيه فقد خالف أستاذه على ذلك بملاحظة دقيقة وهي حياة كل نم إبراهيم بن ادهم وشقيق البلخي اللذين عاشا في بلخ على اتصال وثيق بالبوذية وليس مع ذلك في أقوالهما ما يدل على الفناء، فهو لذلك يرجح تأثر التصوف بالرهبنة النصرانية والفلسفة الأفلاطونية الجديد، واستشهد لذلك بأقوال ذي النون المصري ومعروف الكرخي اللذين عاشا في زمن الرشيد انتشرت فيه الثقافة الإغريقية النصرانية. هذا ولم يقتصر تأثير النصرانية وحدة فقد أثرت كذلك في زعم بعض المستشرقين على الكلام حتى ذهب منهم فون كريمر إلى أن فرقه المعتزلة نشأت من النصرانية لان آباء الكنائس كانوا يتجادلون في حرية الإرادة وبعبارة أخرى في مسألة القدر كما كانوا يتجادلون في صفات الله، وقد رد عليه الأستاذ احمد أمين في ضحى الإسلام (1) ذلك السفر الممتع مبينا له إن مسألة القدر مصدرها الكتاب والسنة واستشهد لذلك بكثير من الآيات وبورود أحاديث كثيرة تتعرض للقدر، كذلك رد على غولدزيهر نظرة تبجيل الفقر وإنها نصرانية

بحتة واستشهد على كونها إسلامية صرفة بما ورد في القرآن نفسه من الآيات التي تمجد الفقراء الصالحين، وبهدي الرسول الذي عف عن الغنى ولم يشأ أن يكون غنيا وكان ذلك في إمكانه، كذلك بين لغولدزيهر إن دخول أقوال من الإنجيل في الحديث قد ادخلها فيه مسلمة النصارى، ونحن لا ننكر إن الإسلام فيه روح من التعاليم الآلهية النصرانية فان الإسلام على رأي الحكم الأفغاني هو نصرانية وزيادة، وفيه كذلك روح من الموسوية الصحيحة. اشرنا في كلمة التصوف الأولى على إن أصوله كلها موجودة في الكتاب والسنة وفي هدي الصحابة والسلف الصالح، لان غاية التصوف تطهير النفوس وتهذيب الأخلاق، بيد إن هذه الأصول قد أخذت في التفرع منذ صدر الإسلام، والأصل الأول الذي ابتدأ التصوف منه هو الورع في العبادات والمعاملات، فان روحه ما زالت تنمو في القلوب الوجلة من الذنوب، وقوته ما برحت تهيمن على الأرواح المشفقة من غضب المحبوب حتى جمحت بكثير من أرباب الورع الصادق إلى الزهد، فالورع مقدمه والزهد نتيجة، وإلى هذه الحقيقة أشار أبو سليمان الداراني بقوله: الورع أول الزهد كما إن القناعة أول الرضا، وجاء في منازل السائرين للعارف الهروي إن الورع أول مقام للمريد. وهذا الزهد قد غلب إطلاقه على المعنى الذي عرفه ابن خفيف به إذ يقول: الزهد سلو القلب عن الأسباب، ونفض الأيدي من الأملاك وهذا الزهد لم يكن بهذا المعنى متفشيا بين الصحابة الذين فهموا روح الإسلام، وفهموا معنى قوله تعالى: ولا تنسى نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك يدل على ذلك إن الرسول (ص) حث مرة على الصدقة فجاءه الفاروق بنصف ماله، فقال له الرسول وما أبقيت لأهلك فقال له: مثله أي أبقيت نصف مالي الآخر، قال ابن جرير الطبري وفي هذا الحديث دليل على بطلان ما يقوله جهلة المتصوفة إن ليس للإنسان ادخار شيء في يومه لغده، وان فاعل ذلك قد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله. وقال الحسن البصري: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وان تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها ارغب منك فيها لو لم تصبك ولعمري إن هذه الكلمة لمن جوامع الكلم في الزهد.

وكما إن الورع ينتهي بالسالك إلى الزهد، كذلك ينتهي به الزهد - إذا صدقت إرادته - إلى التصوف، فالزهد على ذلك أول التصوف كما إن الورع أو الزهد والقناعة أول الرضا، والتوكل أول التسليم. الفرق بين الزهد والتصوف. - إن للصوفية طريقتين في السلوك: فمنهم من يستحب الرجاء على الخوف، وهؤلاء قلما تجد في عباراتهم إلا ذكر الرجاء والمحبة، ومنهم من يفضل للسالك الخوف على الرجاء، والسهر وردي يميل في عوارفه إلى الطريقة الأولى، فجعل مبنى الزهد على الخوف، ومبنى التصوف على الحب والرخاء ومن أنصار الطريقة الثانية أبو سليمان الداراني القائل: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد، وأبو سليمان هذا من صوفيه الشام وأركان التصوف، وأهل طريقته هذه يشبهون القلب في سيره إلى الله بطائر فالمحبة رأسه، والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى عدم الجناحان فهو عرضة صائد وكاسر. أما طريقة الرسول، وفيها الأسوة الحسنة، فمبنية على تغليب الخوف على الرجاء كيف وهو القائل: شيبتني هود وأخواتها سورة الواقعة، وإذا الشمس كورت، وعم يتساءلون، ومن اجله صحابته الزاهدين معاذ بن جبل القائل: إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه، ومما يدل على خوف الصوفي من النار ما حدث به ابن القارح في رسالته قال: حدثني من أثق به ولا اتهمه عن أبيه وكان زاهدا، قال: كنت مع أبي بكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق، فرأينا شاويا قد اخرج حملا من التنور، وإلى جانب قد عمل حلاوي فالوذجا، فوقف ينظر إليهما، وهو ساه مفكر، فقلت: يا مولاي، دعني آخذ من هذا وهذا ورقاقا وخبزا، ومنزلي قريب، تشرفني بان تجعل راحتك اليوم عندي فقال: يا هذا، أظننت إني قد اشتهيتهما؟ وإنما فكري في إن الحيوان كله، لا يدخل النار إلا بعد الموت، ونحن ندخلها أحياء: يا رب عفوك عن ذي شيبة وجل ... كأنه من حذار النار مجنون قد كان ذمم أفعالا مذممة ... أيام ليس له عقل ولا دين ويرى الأستاذ نيكلسون (1): إن الحب قوام التصوف، وانه قلما يلتئم لذلك مع روح المسلم

التقي المتأثر بغضب الله وانتقامه أكثر من تأثره برحمته وحنانه، ويزعم إن القرآن يمثل الله بوجه عام ربا عبوسا مخيفا غشوما لا يسأل عباده إلا الخضوع المطلق لإرادته العاتية، وهو مع ذلك لا يعبأ بما للبشر من عواطف ورغائب، ويظن إن مثل هذا المعبود لا يمكن أن يرضي الغريزة الدينية، وانه لذلك كان تاريخ التصوف باجمعه شبه احتجاج على جفاء غير فطري بين الرحمان والإنسان الذي تغمره هذه المعرفة، ثم ذكر نيكلسون هذا رأيه المعهود في تأثير النصرانية في الحقائق الصوفية التي قامت بها على الحب والرحمة، لا على الخوف والنقمة. إن التصوف الصحيح الذي هو روح الإسلام يخالف رأي هذا المستشرق المخالفة كلها، ذلك إن القرآن، وقوامه الترغيب والترهيب، قد اشتمل على آيات تصف الله بشدة العقاب والعزة والانتقام ترهيبا للعامة الذين ينجع الخوف والشدة في ردعهم وزجرهم أكثر مما يؤثر اللين والتسامح، واشتمل كذلك القرآن على آيات أكثر عددا، وهي تصف الله بالرحمن الرحيم، والبسملة في أوائل السور من الشواهد، وبأنه هو ارحم الراحمين، واللطيف الغفار، والرؤوف الستار، ومنها قوله: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، وهذه الآية يسميها الصوفية والسلف الصالح آية المحنة أي الاختبار، قال أبو سليمان الداراني: لما ادعت القلوب محبة الله انزلها محنة، وقال بعض السلف: ادعى قوم الله فانزل الله آية المحنة (قل إن كنتم الآية. . .) فالصوفية، وشواهد أقوالهم جمة، تعتقد على ذلك إن القرآن قد قام على المحبة وبالمحبة تعاليمه الروحية، فهم يتلون آية المحنة كثيرا، وهو يرتلون: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وكما يلهج المحب باسم حبيبه إذا ما نأى، وكما يشتاق إلى رؤية وجهه، وصف الله محبيه الصادقين في كتابه بقوله: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. وأما الحديث فشواهده أكثر من الآيات، من أشهرها، وهو مما اعتمد عليه التصوف في شرح حقائقه، وما لهج به العارفون كثيرا، وجاء في صحيح البخاري: ما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وان سألني لأعطيه، ولئن استعاذني لأعيذنه. . .

وفي الصحيحين: إذا أحب الله العبد دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض وفي جامع الترمذي من حديث أبي إدريس الخولاني (1) عن أبي الدرداء عن النبي (ص) انه قال: كان من دعاء داود: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد، ولو أردت استقراء آيات المحبة وأحاديثها وأقوال السلف الصالح من التابعين والصوفية العارفين لا تسع مجال المقال ولخشيت على نفس نيكلسون من السأم والملال. إن التصوف الشرعي الصحيح ليشمل على الخوف والرجاء والحب والصفا معا والرجاء حادي المحبة، وما كان الحب والخوف ضدين يوما، ذلك إن الحب مع الاشتياق يمازجه الخوف والإشفاق، وأي محب - عمرك الله - لم يخف هجران حبيبه أو تجنبه، وأي متيم لم يحذر مع الوصال من فرقته وتنائيه، وما أصدق الشاعر إذ يقول: وما في الأرض أشقى من محب ... وان وجد الهوى عذب المذاق تراه باكيا في كل حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي - إن نأوا - شوقاً إليهم ... ويبكي - إن دنوا - خوف الفراق! عز الدين التنوخي

شعر ابن زيدون

شعر ابن زيدون لخليل مردم بك ابن زيدون احد أدباء الأندلس الذي جمعوا بين الشعر والنثر وجودوا فيهما كابن عبد ربه صاحب العقد الفريد ولسان الدين الخطيب. وتلك مزية كاد الأندلسيون ينفردون بها لأنك قل أن تجد بين أدباء المشرق من نبغ في الصناعتين معا وان كان شعراء المشرق على انفراد اكبر من شعراء المغرب وكذلك قل في الكتاب. على إن الكلام في هذا الفصل سيكون مقصورا على شعر ابن زيدون دون نثره. كان الأديب الأندلسي يأتم بأدباء المشارقة ويقلدهم ويطبع على غرارهم في أساليب الشعر والنثر ولا يرى الأدب الحق إلا ما روي عنهم فهذا كتاب العقد الفريد وصاحبه من أئمة الأدب في الأندلس مروي من أوله إلى آخره عن أهل الشرق ليس فيه من الأدب الأندلسي غير أرجوزة واحدة في خلفاء بني أمية بالأندلس لصاحب الكتاب مع قليل من شعره. قيل إن الصاحب ابن عباد حرص على إن يطلع على ذلك الكتاب فلما حصل عليه وتأمله قال: بضاعتنا ردت إلينا، ظننت إن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم فإذا هو يشتمل على أخبار بلادنا لا حاجة لنا فيه ثم رده. وإذا نبغ بينهم شاعر أطلقوا عليه اسم شاعر من شعراء المشرق أو لقبه كابن هاني الأندلسي الملقب بمتنبي الغرب وابن زيدون المعروف ببحتري المغرب. على انه مهما بالغ الأندلسيون في اقتفاء اثر المشارقة فان لطبيعة الأندلس أثرا لم يخف في شعرهم، فاعتدال الجو وحسن المناظر في الأرض والسماء وكثرة الافياء والأنداد وامتداد الظلال والأنهار، رقق من طباعهم وهيأ نفوسهم لتقدير محاسن الطبيعة في تلك البقعة المباركة، فمالوا إلى الترقيق ووصف الطبيعة، كابن خفاجة الأندلسي الذي يحق له أن يسمى شاعر الطبيعة. فهم من هذه الجهة يشبهون شعراء الشام لتشابه طبيعة القطرين. ولعل ابن زيدون من طليعة أولئك الشعراء الذي تتبين في شعرهم طابع الأندلس السحري. لان ابن هانئ الذي كان قبله لا يتميز شعره بتلك السمة الخاصة. وهو بلا شك أوفرهم حظا من الشهرة حتى كأن اسم الأندلس مقرون بابن زيدون وكأن شهره ذكرى عذبة لذلك

الفردوس المفقود، ولا تكاد تجد شاعرا يجعلك تتصوره بلاده مثله حتى إن القصائد التي عارض بها الشعراء قصيدته التي مطلعها: أضحى التنائي بديلا من تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا سميت بالأندلسيات. نشأ ابن زيدون في بيت معروف بالوجاهة والعلم بقرطبة عاصمة الدولة الأموية في الأندلس ولم يكد يبلغ الحادية عشرة من سنة حتى فقد أباه ويدلنا شعره ورسائله على ثقافة عالية ورواية للأدب واسعة. وكانت قرطبة إذ ذاك على اضطراب أمر الدولة فيها تضاهي بغداد في الحضارة ونعيم العيش وتوفر أسباب الترف واللهو. ومن أجدر من ابن زيدون الفتى النبيه بالأخذ بأوفر نصيب من حياة قرطبة في شتى مناحيها، فطلب العلم والأدب واختلف إلى مجالس الحسان ومقاصيرهن واشتغل بالحوادث السياسية التي انتهت بانقراض دولة بني أمية. ولكل ذلك اثر واضح في شعره. وقدر له وهو في عنفوان شبابه أن يقع في شرك ولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي، وولادة أميرة برعت في الأدب والجمال كان مجلسها ناديا لأعيان قرطبة وذلك لفرط أدبها وجمالها وحسن محاضرتها وحلو عشرتها ولين حجابها وخفة روحها، كانت تجالس زوارها وعليها ثوب كتب بالذهب على طرفه الأيمن: إنا والله أصلح للمعالي ... وامشي مشيتي واتيه تيها وعلى طرفه الأيسر: أمكن عاشقي من لثم خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها فكان الأعيان والأدباء يتبارون في ذلك الميدان ويتنافسون في محبتها. ولكن ابن زيدون الشاب الشاعر الجميل أحبها حبا شديدا وأحبته هي أيضا ففاز منها بما لم يفز به غيره. واسمه يحدثك عن علاقة ذلك الحب بينهما ويصف لك ليلة لقائهما قال: كنت في أيام الشباب وغمرة التصابي هائما بولادة فلما قدم اللقاء وساعد القضاء كتبت إلي: ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فاني رأيت الليل اكتم للسر وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا ... وبالشمس لم تطلع وبالنجم لم يسر فلما طوى النهار نوره، ونشر دنانيره، أقبلت بقد كالقضيب، وردف كالكثيب، وقد أطبقت

نرجس المقل، على ورد الخجل، فملنا إلى روض مدبج، وظل سجسج، قد قامت رايات أشجاره، وفاضت سلاسل أنهاره، ودر الطل منثور، وجيب الراح مزرور، فلما شببنا نارها، وأدركت منا ثأرها، صرح كل منا بحبه، وشكا ما بقلبه، وبتنا بليلة نجني أقحوان الثغور، ونقطف رمان الصدر، وكانت عتبة قد غنتنا: أحبتنا إني بلغت مؤملي ... وساعدني دهري وواصلني حبي وجاء يهنيني البشير بقربه ... فأعطيته نفسي وزدت له قلبي فلما انفصلنا عنها صباحنا أنشدتها ارتياحا: ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذ شيعك يا أخا البدر سناء وسنا ... حفظ الله زمانا أطلعك إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك وكتب إليه ولادة مرة: ألا هل لنا من بعد هذا التفرق ... سبيل فيشكو كل صب بما لقي وقد كنت أوقات التزاور في الشتا ... أبيت على جمر من الشوق محرق فكيف وقد أمسيت في حال قطعه ... لقد جعل عجل المقدور ما كنت اتقي تمر الليالي لا أرى البين ينقضي ... ولا الصبر من رق التشوق معتقي سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا ... بكل سكوب هاطل الوبل مغدق فأجابها: لحى الله يوما لست فيه بملتقي ... محياك من اجل النوى والتفرق وكيف يطيب العيش دون مسرة ... وأي سرور للكئيب المؤرق ونافسه في حب ولادة الوزير ابن عبدوس وكاد له من اجله عند أميره ابن جهور فكان من اكبر أسباب محنته وحبسه وكان اشق شيء عليه في السجن بعده عن ولادة فلما فر من السجن ورحل عن قرطبة كانت ذكرى ولادة شغله الشاغل فولادة هي التي اوحت إليه تلك الأغاني الشجية الساحرة وحبها كان اشد العوامل أثرا في حياته وشعره. فلا تحفل بعد ذلك من شعر ابن زيدون إلا بما كان في ولادة وذكراها. هذه قصيدته التي كتب بها من سجنه

إلى ابن جهور يستعطفه بها يقول في أولها متشوقا إلى ولادة: ما جال بعدك لظي في سنا القمر ... إلا ذكرتك ذكر العين بالأثر ولا استطعت ذماء الليل من أسف ... إلا على ليلة سرت مع القصر فليت ذاك السواد الجون متصل ... لو استعار سواد القلب والبصر فهمت معنى الهوى من وحي طرفك لي ... إن الحوار لمفهوم من الحور حسن أفانين أعيننا ... غاياته بأفانين من النظر فإذا انتهى من هذه الأنغام العلوية وبلغ ابن جهور يستعطغه انحط عن تلك المرتبة مع إن القصيدة نظمت برسم ابن جهور. يروقك من شعر ابن زيدون اثر الترف الماثل فيه وحب اللهو وتلك اللوعة الوثابة والشوق المبرح والحنين الشديد وكل ما يمت إلى الغرام وأهواء النفس بسبب ووصف مغاني الإنس ومعاهد الذكر فهو كشاعر غزلي اكبر منه في كل فن من فنون الشعر وما قاله في ولادة شعر حي يتغنى به منذ عهدهما إلى الآن. ابن زيدون وان أحب الصنعة واقبل عليها في شعره فهو مطبوع يتدفق ماء الطبع من أكثر شعره ولا شك في أن غرامه رقق ذلك الطبع وشحذه فظل باب الغزل في شعره أحسن من جميع الأبواب التي عالجها. صنعة ابن زيدون أشبه بصنعة البحتري لا تعارض الطبع بل تجاريه وتعتمد عليه فهناك حسن انتقاء للألفاظ العذبة في الذوق والسمع وبعد نظر في استعمالها وإنزالها منازلها مع تتبع برفق وبراعة لأنواع البيان والمحسنات بنوعيها معنوية ولفظية. قالوا أن ابن زيدون بحتري المغرب والحقيقة إن بين الشاعرين تشابها من حيث السلاسة والعذوبة والاهتمام بموسيقى اللفظ وحسن الرصف بما لا يعارض الطبع والتسلسل والتساوق ومخاطبة النفس والدقة في وصف المرئيات والهواجس وان كان البحتري أكثر فنونا وأوسع مضطربا في أغراض الشعر. ومهما يكن فقد كان ابن زيدون معجبا بالبحتري يجاريه فلا يقصر عنه في الغزل والحنين قال الصفدي إن قصيدة ابن زيدون: أضحى التنائي بديلا من تدانينا. . . . . . .

عارض بها البحتري في قوله: يكاد عاذلنا في الحب يغرينا ... فما لجاجك في عذل المحبينا نلحى على الوجد من ظلم فديدننا ... وجد نعانيه أو لاح يعنينا مذهب ابن زيدون في الشعر مذهب الوجدانيين الذين يعبرون عن هواجس النفس وخوالج الضمير بصورة فنية خلابة تستفز الطرب وتستثير الإعجاب وان لم يكن فيها ابتكار أو عمق في التفكير لذلك فلا تكاد تجد له معنى مخترعا أو رأيا يعتمد على المحاكة العقلية والتفكير العميق فإذا شئت أن تقف على براعته وسحره فالتمسهما في غزله ووجده وشوقه وحنينه كقوله: لا سكن الله قلبا عن ذكركم ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا لو شاء حملي نسيم الصبح حين سرى ... وافاكم بفتى أضناه ما لاقى كان التجاري بمحض الود مذ زمن ... ميدان انس جرينا فيه إطلاقا فالآن احمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم وبقينا نحن عشاقا أما الوصف في شعره فجيد بالغ إذا تناول محاسن الطبيعة لاسيما إذا كانت مربعا للهواة أو باعثا لذكرياته كالقصيدة التي كتبها إلى ولادة يصف الزهراء في الربيع ويشكو إليها شوقه: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا ... والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في أصائله ... كأنه رق لي فاعتل إشفاقا والروض عن مائه الفضي مبتسم ... كما شققت عن اللبان أطواقا يوم كأيام لذات لنا انصرمت ... بتنا لها حين نام الدهر سراقا نلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندى فيه حتى مال أعناقا كأن أعينه إذ عاينت ارقي ... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا ورد تألق في ضاحي منابته ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا سرى بنافجة نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح إحداقا كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا ... إليك لم يعد عنها الصدر إن ضاقا وصور الطبيعة تتراءى في مواضع شتى من شعره على اختلاف الأغراض كقوله في الشكوى من السجن:

ألم يأن أن يبكي الغمام على مثلي ... ويطلب ثأري البرق منصلت النصل وهلا أقامت أنجم الليل مأتما ... لتندب في الآفاق ما ضاع من نثلي ولو أنصفتني وهي أشكال همتي ... لا لقت بأيدي الذل لما رأت ذلي ولا فترقت سبع الثريا وغاضها ... بمطلعها ما فرق الدهر من شملي وكقوله في قصيدة يمدح بها ابن جهور: إلى أن بدت في دهمة الأفق غرة ... ونفر من جنح الظلام غراب وقد كادت الجوزاء تهوي فخلتها ... ثناها من الشعرى العبور جناب كأن الثريا راية مشرع لها ... جبان يريد الطعن ثم يهاب كأن سهيلا في رباوة افقه ... مسيم نجوم حان منه إياب كأن السها فاني الحشاشة شفه ... ضنى فخفات مرة ومثاب كأن الصباح استقبس الشمس نارها ... فجاء له من مشتريه شهاب كأن إياه الشمس بشر ابن جهور ... إذا بذل الأموال وهي رغاب وما سوى ذلك من الأبواب التي عالجها كالمديح والرثاء والعتاب والتهاني لا يستدعي في جملته الإعجاب على ما فيه من أحكام في النسج وصنعه تدل على أدب جم ورواية واسعة وثقافة عالية لان اثر التصنيع ظاهر عليه ينبيك بأن الباعث على نظمه ضرورة أو مجاملة أو قضاء حق أو دفع مغرم أو جر مغنم كقصائده التي مدح الملوك بها في حبسه وبعد فراره من السجن أو التي هاجم بها حساده ومنافسيه فلا تكاد تجد بها معنى مبتكرا أو إبداعا في جملتها بل هي من المتعارف المعهود وبعضها من المردد المعاد الذي ألح عليه الشعراء حتى بلي. فالوزير ابن زيدون شاعر يجري طلقا ويأتي سابقا في ميدان صبابته وهواه فإذا تعدى حدود ذلك الميدان لم يكن من السابقين. فأناشيد غرامه وحدها هي التي تستحق الخلود ولأجلها قارن بعض المستشرقين بينه وبين طيبو لوس الشاعر اللاتيني وبيترارك الشاعر الايطالي. خليل مردم بك

خصم جديد

خصم جديد كتب الأستاذ الموسيو جان غولميه الذي حبانا صداقته منذ سعدنا بلقائه على مقاعد التدريس في جامعة الصور بون مقالا في عدد الثقافة الماضي لعله لم يوجه إلينا إلا انه حمل فيه حملة شعراء على علم الاجتماع الحديث الذي يعرف إننا من مريديه ومن المعجبين به. وقد تعرض لتنفيذ ما يرتئيه أصحاب هذا العلم ودحض مذهبهم الاجتماعي هازئا بقواعد دور كايم ونظريات أشياعه من أمثال بوكله، وموص ودافي، وليفي برول، من أساتذة جامعة الصور بون ثم بين ما دعاه إلى ذلك بقوله إن هذه القضية هي ذات بال في البلاد السورية حيث علم الاجتماع يستهوي عددا كبيرا من الشبان فيعتبرونه كأنه احدث ما ظهر مما أنتجه القرائح العلمية في الغرب ويضعون، كما اتضح لنا، في قواعده وأصوله من الثقة ما تدعو الحيطة لان نحذرهم منه وننبهم إليه. نشكر صديقنا الأستاذ غولميه على ما أراد أن ينبه قراء الثقافة إليه، على أننا نرى من الواجب أن ننبههم بدورنا إلى ما ربما لم يخف على احد منهم وهو أن الأستاذ غولميه ليس هو أول متهجم على علم الاجتماع وأئمته هذا التهجم الشديد فلقد لقي دور كايم واضع هذا العلم الجديد بعد شيخه اوغست كونت من المصاعب والعقبات وتحامل الناس عليه، شأن كل مصلح يلامس ما تجمد في الأدمغة من عقائد وآراء قديمة، ما أوشك أن يثنيه عن الغاية التي رمى إليها، فلقد رموه بالإلحاد، واتهموه بالكفر والإباحية، ووصفوه بالمادي المتجمد والطائش الأبله، ولكن الرجل ظل مثابرا على عمله يدحض المزاعم بالأدلة العلمية وينفي الأوهام بشواهد الغابر والحاضر حتى وفق في أيامه الأخيرة لان يجمع حوله طائفة من الرجال الذين يعدون اليوم بما صنفوه وألفوه من أكابر رجال العلم ومن مفاخر الجامعات الافرنسية. ولا بدع أن يكون بين أخصام دور كايم وأعداء علم الاجتماع طائفة من الفلاسفة في هذا العصر، فالفلسفة أم العلوم والفلاسفة أصحابها هم أخصام كل ما خرج عن نطاق فلسفتهم، فليس من علم نشأ واستقل بنفسه عن الفلسفة إلا ونال من ظلمهم وعسفهم حينا من الدهر حتى كاد يقضي عليه وهو في المهد لولا ثبات أصحابه وجهادهم في سبيل تأييده وتصنيفه في عداد العلوم المستقلة الأخرى. وان ما يصيب علم الاجتماع اليوم هو نفس ما أصاب العلوم الأخرى في حين نشأتها وقبل أن تستقل استقلالا اعترف لها به العلماء والفلاسفة

أنفسهم. رأى دور كايم كما رأى الكثيرون من قبله إن حياة الجماعات هي غير حياة الأفراد وان الفرد الواحد يحس ويفكر ويعمل وهو مجتمع مالا يحسه ويعمله ويفكر به وهو منفرد وان الجماعات وان تألفت من أفراد فكيانها غير كيان الأفراد وأحكامها غير أحكامهم وان هذه الأفراد كالعناصر العضوية إذا هي اجتمعت كان لها من الخصائص مالا تملكه وهي مفترقة ولذلك فقد جعل هذه الجماعات الهدف الذي يرمي إليه في علمه كما إن علماء البسيكولوجيا جعلوا مشاعر الفرد وعواطفه وتصوراته وأهواءه هدف علمهم وموضوع بحثهم. ثم رأى دور كايم أن للهيآت الاجتماعية من المظاهر والقواعد والأصول ما يخضع له الفرد مضطرا لا اختيار له فيه فالمذهب الذي ننتحله واللغة التي نتكلمها والقواعد التي نجري عليها والنظم والتقاليد التي نخضع لحكمها والنزعة التي ننزعها ليست جميعها أثرا من آثار الفرد أو نتيجة من نتائج عمله بل هي حادثات اجتماعية أملتها علينا الجماعة التي نشأنا فيها ولدنا فتجمدت في أدمغتنا وتحكمت في عقولنا وسيرتنا تبعا لأهوائها حتى أصبحت وكأنها قطعة من نفوسنا نكاد لا نشعر بسيطرتها علينا وتحكمها فينا. وجد علماء الاجتماع وعلى رأسهم دور كايم وأصحابه إن لهذه الحادثات الاجتماعية في تطورها وتحولها وتأثيرها على النفوس قواعد وسننا يجب تسجيلها وتصنيفها فجعلوها موضوع علمهم وقالوا علم الاجتماع هو علم الحادثات الاجتماعية، وانبروا يبحثون وينقبون عن ذلك بفرضيات وضعوها ثم سعوا لتأييدها بوصف الواقع ووصف مظاهره تبعا للأصول العلمية التي جرى العلماء جميعا عليها في تأييد علومهم واكتشاف قوانينها ونظمها الثابتة وافترقوا بذلك عن أصحابها الفلاسفة الذين اعتادوا أن يعالج الموضوعات الاجتماعية كغيرها من المباحث الفلسفية بطريق التحليل اللفظي والجدل الفكري والتعميم الذي لا يستند إلا على النظريات الفلسفية التي كثيرا ما تناقض الواقع وتخالفه في كل مظاهره. ولقد راع بعض الناس أن يروا طائفة من العلماء يقدمون على درس الحادثات الاجتماعية التي لها مساس بالدين والعقائد والتقاليد وجميع مظاهر الفكر على هذا الشكل الذي تدرس به بقية العلوم كعلمي الكيمياء والفيزياء مما لم يعتادوه أو يألفوه شأنهم مع كل جديد لا يتفق مع ما تمركز في العقول من المبادئ والآراء القديمة وزاد في

روعتها القاعدة الأولى التي وضعها دور كايم لعام الاجتماع ومفادها انه من الواجب على الباحث الاجتماعي أن يعتبر الحادثات الاجتماعية كالأشياء وقصده بالأشياء كما أوضح ذلك لاخصامه في مواقف كثيرة الأشياء المنفصلة عنا والتي لها كيان قائم بذاته. وغايته التي رمى إليها في اعتبار الحادثات الاجتماعية كالأشياء هو أن يتجرد الباحث ما استطاع عند درس الحادث الاجتماعية عن كل عاطفة وهوى يقومان في النفس فلا يترك مجالا في الاستقصاء والتتبع والتحليل لسوى العقل السليم والمنطق الصحيح، فالعلم لا دين ولا وطن له والقواعد العلمية هي هي في كل زمان ومكان لا يصح أن تنال لقب العلم إلا بهذه الصفة العامة الثابتة. لم يشأ صديقنا الأستاذ جان غولميه أن يصرح في مقاله انه من أولئك الناقمين على هذا التجدد في المباحث العلمية بل حاول أن يثبت انه ليس لعلم الاجتماع بعد من الحادثات الاجتماعية التي درست في مختلف الأقطار ما يكفي لان نستخرج منه بطريق الاستقراء قوانين اجتماعية عامة لا تقل ثباتها وصحتها عن بقية القوانين العلمية وان ما جمع من هذه الحادثات الاجتماعية حتى اليوم أكثره مشكوك في صحته لا يمكن للعلم إن يتخذ حجة يعتد بها ولذلك فحري بعلم الاجتماع الذي يستعجل الشيء قبل أوانه أن يتلاشى ويخلي المكان لشيء آخر سموه (سوسيو غرافيا) أي وصف الجماعات الذي يكتفي بوصف الحادثات الاجتماعية في مختلف الأقطار دون أن يتعرض لشرحها وتفسيرها واستنباط سنن اجتماعية من مقايستها ومقابلة بعضها ببعض. والغريب في ذلك أن الأستاذ غولميه يقول هذا وهو يعرف حق المعرفة أن كل علم من العلوم يستحيل عليه أن يوفق، وعلى الأخص في بادئ عهده لجمع كل الحادثات والأشياء التي يمكن أن تكون مدار بحثه ومصدر قواعده. فإذا كان في علم الكيمياء مثلا أجسام كثيرة لم تعرف خصائصها بعد ولم يتوصل العلماء لاكتشاف صفاتها فليس معنى ذلك أن علم الكيمياء يجب أن يتلاشى ويخلي المكان لفرع من فروعه يقتصر على الوصف دون الاستنباط. ومن المعروف أيضا أن أسلوب وصف الجماعات هو فرع من فروع علم الاجتماع يساعد على جمع الحادثات الاجتماعية ووصفها وإعدادها. وأي شأن لهذا الأسلوب لو لم يبين علماء الاجتماع الفوائد العملية المتأتية عن وصف الحادثات والأوضاع الاجتماعية وتشخيصها

ومراقبتها في أماكنها وجمعها كمواد يدرسها علم الاجتماع ويقابل بعضها ببعض فيستخرج منها دساتير علمية ثابتة؟ ومن الغريب الذي نكاد نميل معه إلى الاعتقاد بتحامل الأستاذ غولميه هو انه لم يتطرق في مقاله كله إلى ذكر الاتنوغرافيا أي وصف الأقوام والشعوب الذي يعد اليوم احد أركان علم الاجتماع فيبين لنا الفرق بينه وبين وصف الجماعات الذي يشيد بفوائده وصحة أسلوبه ولعله لو فعل ذلك لعز عليه أن يؤيد ما ذكره من عدم صحة أكثر الحادثات الاجتماعية التي يجمعها العلماء وصعوبة الوصول إلى ما يمكن أن يعتد به العلم منها، لان علماء الانتوغرافيا قد توصلوا اليوم إلى تلافي كل ما من شأنه أن يدعو للشك بصحة وصف الأوضاع الاجتماعية وان للمعاهد والمجامع الانتوغرافية وعلى الأخص في انكلترا وأمريكا من الوسائل وإعداد الأخصائيين الذين انصرفوا إلى هذا العلم دون سواه مالا نظن انه يخفى على الأستاذ غولميه، فوصف الجماعات هو كوصف الشعوب والأقوام وكلا الأسلوبين هو مما يهيئ لعلم الاجتماع مواد صحيحة يجمعها تبعا لما تقتضيه قواعد هذا العلم الذي لولاه لما وجدت هذه الأصول ولما نشط العلماء لدرسها والتعمق في جميع فروعها. بضيق بنا المجال في هذه الرسالة أن نورد أكثر مما أوردناه في تفنيد بعض ما أدلى به الأستاذ غولميه من الشواهد على ما يدعيه من لزوم إحلال وصف الجماعات محل علم الاجتماع ولكن لا بد لنا من أن نشير إلى أمر هام أورده في مقاله دون أن يتعرض لبيان أسبابه. فلقد ذكر أن علم الاجتماع يستهوي الكثيرين من الشبان في بلادنا ولعلة لو بحث عن السر في ذلك لعرف أن هذا العلم لم يستهونا إلا لأننا رأينا فيه ضالتنا التي ننشدها، وشعرنا بأننا أحوج ما يكون لدرسه وتفهم قواعده، فأوضاعنا ونظمنا وأكثر مناحي حياتنا الاجتماعية بحاجة للإصلاح بعد أن جمدنا حينا من الدهر ثم نهضنا نسير الهوينا وإننا إذا انصرفنا إلى هذا العلم الجديد واهتمامنا بأمره فما ذلك إلا لأننا وجدنا فيه ما يعيننا على هذا الإصلاح ويرشدنا إلى الطريق التي يجب أن نسلكها في تجددنا وتطورنا ومجاراة غيرنا ممن سبقنا من الأمم، فهو ينبهنا إلى أن ماضينا لا يموت وان حاضرنا يحتاج إلى الاستقصاء والدرس وان مستقبلنا بأيدينا إذا علمنا ما يجب أن نهيئ له، ولعل هذه الحاجة

الماسة سوف تحدونا إلى الاختراع فلا نكتفي بالاستقصاء والدرس بل نطمح أيضا لان نساعد على إظهار ما لم يهتد إليه هذا العلم الجديد بعد فنؤيد قواعده بما استنبطناه بأنفسنا ونقدم الأدلة على أصول جديدة هدانا إليها ما اختبرناه من مراحل تطونا وما اكتشفنا من صلات بين حاضرنا وماضينا فنفيد علماء الغرب في هذا العصر كما استفدنا منهم ونجاريهم ونماثلهم فنكون وإياهم في العمل على حد سواء. كاظم الداغستاني

سحر الألفاظ

سحر الألفاظ جاء في كتب الأدب أن سعيد بن عثمان بن عفان قال لطويس المغني أينا أسن أنا أو أنت يا طويس. فقال بابي أنت وأمي، لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب، فانظر إلى حذقه وإلى معرفته بمخارج الكلام كيف لم يقل بزفاف أمك الطيبة إلى أبيك المبارك، وهكذا كان وجه الكلام فقلب المعنى (البيان والتبيين). وفي الحق أن للمعرفة بمخارج الكلام وساعات القول وانتقاء الألفاظ أعظم الأثر في نفوس السامعين لان لا تساق الألفاظ سحرا يضاهي تأثيره تأثير الألحان. والجمال غاية الألفاظ كما أن الحقيقة غاية المعاني ومثلها الأعلى. فللألفاظ وامتزاجها ولمخارج الحروف وتركيبها جمال لا يقل سحرا عن جمال النغمات الموسيقية والألوان المتسقة، وقد قيل أن من البيان لسحرا. لقد بحث أدباؤنا في تأثير اللفظ وسحره وحسن دلالته وأسهبوا في ذلك، حتى ملأوا كتب الأدب بالأحبار التي تدل على حسن انتقاء اللفظ وتأثيره في المعنى الوحشي البعيد وتقريبه للأذهان مما لا أجد الآن حاجة إلى ذكره والناس قد افتتنوا بالألفاظ منذ القديم فلم يقتصروا في بيان تأثيرها على نقل الأفكار من المتكلم إلى السامع بل اعتقدوا أن لها بعض الخواص السحرية. وأي سحر هو أعظم وأمتع من صوت تسمعه فتفهم معناه، وكيف تتألف الألفاظ من الحروف، لا بل كيف تفرق بين الأصوات، وكيف تكون دلالتها. أن في الألفاظ لسحرا. فلا غروا إذا افتتن الإنسان الأول بالألفاظ وعز إليها خاصة سحرية وظن انه يستطيع أن يؤثر بها في حوادث الطبيعة. كنا ونحن في المدرسة الثانوية نقصد منجمة من منجمات دمشق لاستماع حديثها العذب وألفاظها الساحرة. وكان كل من أصحابي يسألها عن طالعه وحاجات فؤاده، وكانت لا تحفل بهزئنا وضحكنا بل تتمتم وتدمدم وتقرأ لنا سجعا لا تزال نغماته ترن في أذني. ثم تعطي كلا منا تميمة (حجابا) وتطلب منا أن نحلها في الماء ونشرب محلول ألفاظها. لم اتبع يوما من الأيام علاج المنجمة ولكني اعرف كثيرين ممن شربوا محلول الألفاظ واستشفوا بسذاجة الاعتقاد. فألفاظ تشفي من بعض أمراض النفس ولعلها تشفي أيضا من بعض أمراض الجسد. وربما كان علاج بعض الأمراض بكيمياء الألفاظ لا يقل تأثيرا عن العلاج بالعقاقير، بل ربما كان

بعضهم أميل إلى التأثر بالكلام منه إلى التأثر بالمادة. إلا تقول العامة في بلادنا إن الكلمة الطيبة تخرج الحية من وكرها، إلا يسعى المشعوذون لإخراج الشياطين من صدور المجانين بالألفاظ التي يهمسون بها إليهم. وكم عليل تحسن حاله بالكلام، وكم هم بدده سحر البيان وقوة البلاغة. فكأن الألفاظ أدوية وكأن الخطباء أطباء. ومن تأثير الألفاظ عند الشعوب الأولية إنها كانت تحرس المال وتحفظ الملك كما كانت تشفي من الأمراض. فكان الإنسان لا يجسر أن يسرق أموال أخيه خوفا من الألفاظ، لان الذي سرقت أمواله ينادي بالويل والثبور ويشتم ثم يدعو إلى الله أن يصاب السارق بالمرض والجوع والغرق والحريق والهلاك. فإذا علم السارق بذلك ارجع ما سرقه إلى صاحبه خوفا من تأثير تلك الألفاظ وسحرها، وكان الناس يكتبون بعض الألفاظ على الواح من الحجر أو من الرصاص ويضعونها في المحل الذي يريدون أن يحرسوه أو في معبد الإله الذي يبتهلون إليه ولا يزال قسم كبير من هذه العادات موجودا اليوم عند قبائل (الداياك) من جزيرة بورنئو. وهذا ما يدعو إلى القول أن الألفاظ سلاح يستطيع الإنسان أن يدافع به عن ماله كما يستطيع أن يدافع به عن نفسه. نقل لي احدهم أن في بلاد الأفغان عادة تقضي أن يستأجر النساء المتخاصمات شتامات كنا نستأجر في بلادنا ندابات. كل شتامة تنازل أختها باللعنات والشتائم. فإذا غلبتها شعرت موكلتها بلذة الانتصار وشرف الغالب. فهناك إذن مبارزة تقتصر على اللفظ ولا تحتاج إلى الفعل وهي اقل خطرا من المبارزة بالسلاح. وكم مرة خلص الكلام صاحبه من القتل. من ذلك أن الحجاج ضرب مرة أعناق أسرى فلما قدموا إليه رجلا ليضرب عنقه قال: والله، لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو فقال الحجاج أف لهذه الجيف أما كان فيها احد مثل هذا وامسك عن القتل. فالمعاني المختلجة في النفوس والمتصلة بالخواطر لا تجدي نفعا إذا لم يظهرها اللفظ وتدل عليها الإشارة. وكما يصح أن نقول إن الألفاظ سلاح فكذلك يمكن القول إنها ثروة. فالخطيب والمحامي والأستاذ يتاجرون بالألفاظ ويبتاعون الرطب بالخطب. ولولا استثمارهم للألفاظ كما تستثمر رؤوس الأموال لما نجحوا في أعمالهم. ولعل تجارة الألفاظ أكثر إنتاجا في بعض الأحيان من تجارة البضائع ومبادلة الأموال، لان معينها لا ينضب ولا يجف بكثرة الاستعمال بل

يحسنها الصقل ويزيد قوتها الانتقال وهكذا فان الألفاظ واسطة من الوسائط التي استطاع الإنسان أن يتغلب بها على الطبيعة حتى لقد كان الملوك يستمطرون الرحمة من السماء بالألفاظ التي كانوا يبتهلون بها كأن لألفاظهم تأثيرا في حوادث الكون فكانت الأمطار تهطل بتأثير الألفاظ كما يزداد الخصب ويمتنع الجراد وتزول الأوبئة. جاء في كتاب (عمل بسيشه) لفريزر، إن الكارنيين من قبائل برمانيا يعتقدون أن للزنى مثلا تأثيرا في الطبيعة فإذا انقطع المطر وأجدبت الأرض اجتمع عقلاء القبيلة وابتهلوا إلى الله أن يعاقب الجاني. ثم إنهم يبتاعون خنزيرا ويذبحونه ويعطون كلا من الزاني والزانية رجلا من رجليه ثم يشقون في الأرض تلما ويملأونه من دم الخنزير ويرددون هذه الألفاظ: يا اله السماء والأرض ورب الجبال والآكام. لقد أيبست ثمار الأرض بعملي، فلا تؤاخذني، ولا تبغضني لأنني جدير برحمتك وعفوك. انظر إلي. ها أنا ذا أصلح الجبال واحيي الروابي والأنهار. رب رحماك لا تضع أتعاب الناس ولا تهلك أموالهم الخ. (ص - 80) ويعتقدون إنهم يستطيعون بمثل هذه الألفاظ أن يؤثروا في حوادث الطبيعة ويعتبروا مجرى النواميس وهناك أمثلة عديدة مقتبسة من عادات الشعوب وأخلاقهم تدل على هذا السحر في الألفاظ. ولو لم يكن في الألفاظ إلا تأثيرها في نقل الأفكار وتفهم المعاني لكفى بذلك دليلا على سحرها. لولا الألفاظ لما اطلع الإنسان على فكر صاحبه ولا إدراك ما هو قائم في صدر أخيه. فبالألفاظ تحيي المعاني وعلى قدر وضوحها ودلالتها يكون البيان. والمعنى لا يظهر ولا ينقل من الضمير إلى الضمير ولا يمر من القوة إلى الفعل ولا يثبت إلا باللفظ. فلولا الألفاظ لما أمكن حصر القياس ولا حسن الاختصار ولا دقة المدخل في الكلام. ولولاها لما ثبت المعاني العلمية. ولا أغالي إذا قلت أن الاصطلاحات العلمية تعادل نصف العلم. فها أنت ترى أن للألفاظ شأنا عظيما في الشعور والتفكير والإرادة وحسن الدلالة فقد توحي إليك بالمعنى الذي لم يخطر على قلبك وقد تفسد المعنى اللطيف وترفع المعنى الوحشي. ولا غرو إذا عشق الناس الكلام والكلام أصل الوجود: في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله وقال فيكتور هوغو: اللفظ هو الكلمة والكلمة هو الله. فكأن اللفظ آلة للسحر وكأن الكلام إله معبود

ولو لم أقف من سحر الألفاظ إلا على هذه الأمثلة لوجدتها كافية، إلا أن هناك أمثلة عديدة تدل على سحر اللفظ وتدل في الوقت نفسه على مضرته. وأنا لم امتدح لك الألفاظ إلا لا حذرك من معاطبها. ثم أن الألفاظ تثبت المعاني وتعين الفكر، إلا أن تصور المعنى يسبق الدلالة باللفظ والإنسان لا يستطيع أن يوضح باللفظ عن كل ما في نفسه من المعاني المكنونة والأفكار الخفية حتى قال العلماء إن الألفاظ لا تدل على قسم مما يخالج النفس من المعاني، لأنها محصورة معدودة أما المعاني فعير محصلة غير محدودة وهذا ما يعبرون عنه بقولهم إن المعاني متصلة والألفاظ منفصلة. وقد يحمل الاهتمام بالألفاظ على إهمال المعاني فيفتتن الكاتب باللفظ دون المعنى ويشوه الفكر حبا بموسيقيه الألفاظ وينسى أن للأفكار جمالا بذاتها حتى لقد يبعثه هذا الغرام بالألفاظ على استعمال الكلام دون فهم معانيه فيحدثك عن شآبيب الرحمة وافواف الوشي وهو لا يفهم معنى ما يقول. ولكن أعجبه ما في العبارة من الوقع وما في نغمتها من الصدى فاستعملها وستر معناها بحجاب من الرضا والإغضاء. إن شدة الاعتناء بالألفاظ توقف نمو الفكر فيصبح آلة تكرر ما حفظت وتغربل ما نقل إليها من غير أن تبدع. وقد قيل أن إضاعة العمر بالوسائل مانعة من الوصول إلى المقاصد لقد ورثنا هذا الشغف بالألفاظ عن أجدادنا فتأخر الإبداع في آدابنا وازداد تقيدنا بالأوضاع المعروفة والتعابير المألوفة. وقد فتنتنا صناعة اللفظ حتى ذهلنا عن المعاني. وما أكثر أدباءنا الذين أضاعوا عمرهم في وزن السجع وصقل الألفاظ. أنهم يكتبون بلغة غير طبيعية ولهجة غير معتادة كأن بساطة التعبير حرمان من الأدب أو كأن وضوح العبارة نقص من العلم. قرأت في كتاب للموسيو (لودانتك) إن استعاذا من أساتذة الفلسفة كتب على إحدى مقالات تلاميذه ملاحظة قال فيها: إن عبارة المقالة واضحة جدا وان القارئ يفهمها بسهولة. وقد قال فولتير عن نفسه انه مثل الجداول الصغيرة فهي شفافة لأنها غير عميقة. . ولكن هل يجوز أن تكون اللغة العلمية غير واضحة. إن الذي يريد أن يكتب المواضيع العلمية بلغة الحريري أو بلغة الهمذاني أشبه بالمرأة الجميلة التي تفسد جمالها بالمساحيق. ولم يقتصر حب الألفاظ على الأدباء بل عم العلماء أيضا حتى نظموا العلوم شعرا فهناك أراجيز للنحو والمنطق والطب تدل كلها على هذا الميل المخالف للطبيعة. إن نظم الطب

شعرا يضر الطب والشعر معا. وكذلك نظم النحو فهو لا يكسب ملكة اللغة والإنشاء بل بكسب صناعة لفظية لا فائدة للعلم منها. قل لي بربك ما الفائدة من نظم كتاب إقليدس؟ إن القضايا الواضحة يجب التعبير عنها بألفاظ واضحة. غير أن الميل إلى المجاز واستعمال الكنايات والحرص على موسيقى الألفاظ فتن العلماء كما فتن الشعراء حتى نال بعضهم أن الفن والعلم إخوان لا يفترقان وان للحقيقة شعرا كما للشعر حقيقة. لا جرم إن في الكشف عن الحقيقة جمالا لا يقل روعة عن جمال الفن نفسه إلا انك إذا حاولت ستر الحقيقة بحجاب من الألفاظ شوهت الحقيقة. فالحقيقة يجب أن تبدو بثوبها الطبيعي لا بثوبها الصناعي، وإذا ظهرت بثوب غير ثوبها فقدت جمالها. ولعل السبب في هزء العلماء بالأدباء إنهم لا يتكلمون بلغة واحدة ولا يدل اللفظ عندهم على معنى واحد. فالعالم إذا أراد أن يبحث عن تأثير الريح في أمواج لا يقول: نسج الريح على الماء زرد بل يسمي الأشياء بأسمائها. ولو استمر العلماء على البحث في خواص المادة الخفية كما كانوا يفعلون في دور ما بعد الطبيعة لما تقدم العلم. إلا أنهم اقتصروا اليوم على البحث في الأعراض الظاهرة. فلفظ الرمان يدل عندهم على الرمان فقط وهم يبحثون عن لونه وتركيبه أما الأدباء فلا يزالون يبحثون عن معنى (الرمان) وصوره، ولعلهم إذا أكلوا الرمان تغدوا بحقيقة الرمان كما يتغذى اليوم بعضهم بسحر الفيتامين. ولعل السبب في عشقنا للألفاظ فساد طرق التربية في مدارسنا. فتربيتنا تربية لفظية. تملأ عقل التلميذ بالألفاظ دون المعنى، وتشحن ذاكرته بالكلام دون أن تحرك عقله بالأشياء والتجارب. فيحفظ الطفل الألفاظ ولا يرى الأشياء بل يبتعد عن التجربة ثم إذا خرج من المدرسة حافظ على احترام الألفاظ وعبادة الكلام فيكلمك وأنت تظنه يفكر وهو يردد أفكار غيره ويرن كما ترن الآلة، لأن الألفاظ لا تغذي العقول ولا تفتق الأذهان بل تخلق أشخاصا مقلدين ليس لهم قوة على الإبداع ولا ميل إلى التجديد. جميل صليبا

نهضة اليابان

نهضة اليابان بين جيلين يروي أستاذ أوروبي عاش زمنا طويلا في اليابان أن احد كبار رجال السياسة اليابانيين تكلم مرة في مجلس جمع بعض ممثلي الدول الأجنبية وذلك سنة 1907 بعد مدة قصيرة من انتصار اليابان على الروس فقال: إننا نحن اليابانيين من الجيل القديم كنا نقطع رؤوس أعدائنا بالسيوف ونعود بها ظافرين إلى بيوتنا. ثم خاطب السفير الانكليزي قائلا:. . وفخامتكم تعلمون إنني كنت بين الجنود الذين هجموا على سفارتكم في 5 تموز 1861. إننا لم نستطع الدخول إلى السفارة لأن الحامية التي وضعتها الحكومة إذ ذاك كانت قوية. ولكنني تعديت شخصيا على اثنين من المحافظين فقطعت رأسيهما ورجعت بهما في يدي. وقد كنت مرتديا درعا ثقيلا فشعرت بتعب شديد من حمل الرأسين الكبيرين واضطررت لان ارمي بهما في عرض الطريق استولى على السفير الانكليزي جمود وذهول ظاهر عند سماعه هذا الحديث الغريب الذي لم يكن في استطاعة الحاضرين أن يعرفوا هل هو حقيقي أم لا. فقد كان في عيني السياسي الياباني بريق ممزوج بالسخرية جعل الشك يدب إلى نفوس سامعيه حتى اعتقدوا انه إنما يريد الهزؤ بهم. على انه ليس من المستعبد أن يكون حدث للرجل مثل هذا. فقد كانت اليابان في منتصف القرن التاسع لا تزال تعيش في التقاليد القديمة المتوارثة من آلاف السنين. والذي يدعو إلى الدهشة هو انتقال اليابان في عشرين سنة فقط من تلك الحالة إلى دولة حديثة لا تختلف في شيء عن الأمم الأوربية الراقية. لقد ولد هذا السياسة الياباني في القرون الوسطى ولكنه لما مات كان أولاده وأحفاده الناشئون يصنعون الطيارات والغواصات والدبابات والمحركات ويلهون بآلات الراديو ويفحصون صحة نظرية النسبية. . . اليابان القديمة كانت اليابان قديما مسكونة بقبائل من الشمال تسمى (آينو) مشهورة بغزارة الشعر في

أجسامها خلافا لليابانيين الحاليين الذين يرجع أصلهم إلى العرق المغولي. وهم يشبهون الهنود الأميركيين في تكوينهم الظاهري ولا يستبعد أن يكون اليابانيون قد اختلطوا بالعرق المالائي أو بالزنوج. ولكن مهما كان أصل اليابانيين فلا شك في أنهم قد اقتبسوا حضارتهم القديمة وكتابهم وتقاليدهم الأدبية والفنية من الصينيين. وهم قد خرجوا من دور الهمجية والفطرة في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. وكان أول ظهورهم في ميادين الحروب والفتوح لما استولوا على شبه جزيرة (قوره آ) في عهد الملكة (جينغو) التي لعبت دورا هاما في تاريخ الحضارة اليابانية. وقد عاشوا مدة طويلة تحت نظام أقطاعي سادت فيه الفروسية وكثرت الحروب الأهلية والغارات المتوالية على الصين وبالأخص على (قوره آ) وهناك فرق عظيم بين اليابانيين الذين تشبه جزرهم في وضعها الجغرافي الجزر الانكليزية في أوربا وبين جيرانهم الصينيين الذين تجمعهم بهم وحدة العرق الأصفر فان اليابانيين جنود محاربون بطبيعتهم يمتازون بالشجاعة والبطولة والتضحية وحب الوطن. ثم أنهم قد اشتهروا بالذوق الفني وخفة الروح وسرعة النكتة والتفكير والتدبير والملاحظة وشدة الذكاء وسهولة المؤالفة والميل إلى الأمور العملية النافعة. إلى منتصف القرن التاسع عشر ظلت اليابان إمبراطورية إقطاعية يتولى عرشها (الميكادو) الذي يعتبر من سلالة الآلهة وله مقام مقدس ولكنه لا يتمتع بشيء من الحكم السياسي الحقيقي. بل أن الأمر كان في أيدي القائد العام ورئيس البلاط الملقب (شوغون) من جهة وفي أيدي الأمراء الأغنياء من الطبقة الارستوقراطية العسكرية (دايميو) من جهة أخرى. أما النبلاء الذين لا يملكون شيئا من المال فإنهم يندمجون في خدمة أمراء المقاطعات ويؤلفون الحرس والفرسان المحاربين ويسمون (ساموري). ولم تتغير أوضاع الحكم في اليابان إلا في أواخر القرن التاسع عشر بعد الاختلاط بالغربيين واقتباس أنظمتهم ومظاهر حضارتهم. . . اليابان والأجانب

ترجع معرفة الغربيين باليابانيين إلى القرن السادس عشر إذ وصل بعض البرتغاليين في سفينة إلى صينية إلى شواطئ اليابان سنة (1542). ثم هاجر إلى هناك بعد سنوات (فرانسو كزاوية)، رفيق (لوايولا) مؤسس جمعية اليسوعيين للتبشير بالمسيحية بين السكان اليابان الذين أحسنوا في أول الأمر وفادة الأوربيين من مبشرين وتجار واظهروا رغبة صادقة في ربط العلاقات الطيبة ودخل الكثيرون منهم في الدين المسيحي بل إنهم عينوا رجلا انكليزي اسمه (وليم آدامس) مستشارا لدى الحكومة يعلمهم صنع السفن الكبيرة. ولكن بعد ازدياد عد المبشرين الذين كانوا من طوائف وأمم مختلفة احتدام النزاع بين الدومينكس الاسبانيين واليسوعيين البرتغاليين والبروتستانت الانكليز والهولانديين وأخذت كل طائفة تحذر اليابانيين من الطائفة الأخرى وتكشف لهم عن مطامعها السياسية وترشيدهم إلى مواضع النقد في عقائدها وأعمالها. ثم لم يتورع اليسوعيون خاصة عن إظهار ما عرفوا به من التعصب واخذوا يحتقرون البوذيين ويتعقبون فاقتنع حينئذ اليابانيون بان الأوربيين والمسيحية كلها معهم من الشرور والمصائب التي لا يمكن احتمالها وظهرت لهم المقاصد السياسية الخفية التي يرمي إليها المبشرون فقاموا يطردون جميع الأجانب من بلادهم ولم يسمحوا بعد سنة 1638 بدخول احد من الأوربيين إلى اليابان ما عدا القائمين بالمعمل الهولاندي في الجزيرة الصغيرة بميناء (ناغازاكي). وهؤلاء أيضا لم يكن لهم الحق في الاختلاط بالشعب بل كانوا إنما يتفاوضون مع موظفي الحكومة اليابانية فقط. ومنذ ذلك الوقت عاشت اليابان في عزلة تامة عن العالم فقطعت كل صلة لها بالخارج ولم تكتف بمنع دخول الأجانب إليها بل حظرت على اليابانيين أنفسهم مغادرة البلاد بتاتا. وكان لا يسمح لليابانيين بإنشاء سفن كبيرة يستطيعون السفر بها في عرض البحار إلى البلاد الأجنبية. وبينما كانوا اليابانيين يعيشون مدة مائتي سنة تحت رحمة النظام الإقطاعي تفتك ببلادهم الحروب الأهلية والفتن الداخلية وتسيطر عليهم فئة صغيرة لا يتجاوز عددها (5) في المائة من مجموع السكان هي طائفة (الساموري) إي الفرسان الذين كانوا يتجاوزون الحدود في ظلمهم وعسفهم - في هذه المدة كان العالم قد تقدم بخطوات واسعة في طريق الرقي والمعرفة وبدأ اليابانيون يلمحون في البحار سفنا كبيرة لا عهد لهم بها تمر قرب شواطئهم.

وفي تموز سنة 1853 ظهر في ميناء (ايدو) أسطول حربي ترفرف عليه الأعلام الأميركية تحت قيادة الأميرال (بري) الذي قدم كتابا من رئيس الولايات المتحدة يطالب فيه (الشوغون) بعقد معاهدة صداقة بين أمريكا واليابان. وقد رأى الأمير كيونان السفن الحربية الأربع التي كانت تؤلف هذا الأسطول كافية لإملاء إرادتهم على شعب يبلغ (30) مليونا. وفي الحقيقة فان اليابانيين لم يكونوا إذ ذاك ليستطيعوا مقاومة القوة الأميركية المعتزة بتفوقها الصناعي والحربي. ورغم هياج الشعب في طول البلاد وعرضها فقد اضطرت الحكومة اليابانية إلى قبول مطاليب الأميركيين ثم الروس من بعدهم. وتقول المصادر اليابانية إن المندوبين اليابانيين الذين أرسلوا لمفاوضة القائد الروسي كانوا راكبين سفينة حربية أنشئت قبل 250 سنة. ثم أن خزينة الدولة كانت خالية خاوية وليس لدى الحكومة جنود منظمة ولا أسلحة صالحة عدا ما يهددها من الفتن والاضطراب الداخلية ولذلك خضعت لإرادة الأجانب ورضيت بفتح بلادها للتجارة الخارجية. النهضة هذه الصدمة كانت مبدأ النهضة اليابانية. ويظهر إن الأمم لا تفكر في خيرها وكيانها إلا إذا كانت نزلت بها الولايات وذاقت طعم الذل والخضوع. وقد كان لإرغام اليابان على فتح بلادها للغربيين صدى بعيد في جميع طبقات الشعب ورد فعل شديد في هذه الأمة القوية الإرادة البعيدة الطموح فقامت فجأة وبعد أن ثبت لديها أن لا حياة لها إلا باقتباس الاختراعات الحديثة في تنظيم الجيوش قبل كل شيء اندفعت في هذه السبيل جميع العقبات مهما عظمت. بدأت النهضة بثورة على الأوضاع السياسية القديمة في إدارة البلاد فتأسس حزبان بين الأمراء والنبلاء احدهما يريد القضاء على سلطة (الشوغون) - القائد العام ورئيس البلاط - وتوطيد حكم الميكادو بينما الحزب الآخر ظل متمسكا (بالشوغون) وإنما اخذ يطالب بتوسيع العلاقات مع الجانب لاقتباس صنع الأسلحة والسفن منهم. وبعد اعتلاء الميكادو الجديد (موتسو هيتو) على العرش أرغم (الشوغون) على اعتزال الحكم ونقل العاصمة من (كيوتو) إلى (ايدو) التي سميت

(توكيو) أي عاصمة الشرق (سنة 1868) في هذه السنة يبدأ العهد الجديد في اليابان، عهد النهضة والتقدم (مه ئي جين) وكانت الحكومة هي التي قامت بالإصلاحات الجديدة. وكانت طبقة الارستوقراطيين العسكريين هي المتعلمة وقد نشأ على فكرة التضحية التي كانت تظهرها قديما في الفروسية والحروب الأهلية فاندفعت الآن بهذه الروح إلى اقتباس الأنظمة العسكرية والإرادية والسياسية والعلوم والصنائع الأوربية. وتقدمت الجهود في هذه السبيل بسرعة خارقة فألغي النظام الإقطاعي وأعلنت مساواة جميع اليابانيين تجاه القانون واستدعيت البعثات العلمية والعسكرية والفنية من انكلترا وفرنسا والمنايا وأرسل آلاف من الطلاب إلى الجامعات الغربية وأسست المدارس الحديثة وأصدرت القوانين المدنية العصرية. ومنذ 1870 بوشر في إنشاء السكك الحديدية والأسلاك البرقية والأساطيل الحربية والتجارية وأعلنت الخدمة العسكرية الإجبارية ونظم الجيش على أسس حديثة وزاد عدده حتى بلغ في مدة قصيرة ما يقارب 400. 000. واصدر الميكادو في سنة 1889 دستورا يحتفظ فيه بالقوة التنفيذية لنفسه ولكنه يجعل القوة التشريعية في أيدي مجلس الشيوخ ومجلس النواب. ولما نشبت الحرب الروسية - اليابانية سنة 1905 وانتصر اليابانيون ذلك الانتصار الباهر عرف العالم اجمع مبلغ التقدم الذي وصلت إليه اليابان في مدة قصيرة. ومنذ ذلك الوقت ازدادت اليابان سرعة في تقدمها حتى أصبحت اليوم في مقدمة الدول العظمى يبلغ عدد سكانها مع ممتلكاتها 90 مليونا. وتزاحم تجارتها جميع الأمم الأوربية العريقة في الحضارة والصناعة. وأنظار الأمم الشرقية متجهة اليوم إلى اليابان تعترف لها بالزعامة والقيادة في النضال العنيف القائم بين الشرق والغرب. . . كامل عياد

المصدرات بـ تن

المصدرات بـ تن للأب انستاس ماري الكرملي استفدت كثيرا من النبذة المعنوية ب (تن) المنشورة في مجلة المجمع العلمي (57: 13) وفي أثناء وقوفي عليها بدت لي بعض نظرات أودعها هنا لعلها تقدح شررا يساعد على الاستزادة من الحقيقة. 1. التن - الطن وأول شيء يتبين لي من خلال الاجتهاد، أن لـ (تن) مقابلا في العربية عرف منذ القديم هو (الطن). قال في التاج: الطن بالضم، القامة. وقال ابن الأعرابي: ومنه قولهم: فلان لا يقوم بطن نفسه فكيف بغيره؟ وقال ابن دريد: هو قول العامة، ولا احسبها عربية صحيحة آه - قلنا: ليس ذلك من كلام العامة في شيء، بل من الألفاظ التي وردت في عدة لغات معا، أي من متفق اللغات فهو بالفارسية (تن) وبالزندية (تنو) وبالهندية القديمة (تن) وبالارمية (طان) وبالتركية القديمة (تن). ومن الطن قالت العرب: الطني أي الرجل الجسيم، ولم ينكر فصاحتها وصحتها ابن دريد نفسه. فأنت ترى من كل هذا أن المادة شائعة في جميع اللغات. ثم إن العرب زادت في أوله الباء فقالت: البطن، وهو القسم الأعظم من الإنسان والباء الأول تدل على المائية أو على سائل. فقولك (البطن) كقولك العضو الأعظم في الإنسان الذي فيه تجري السوائل وهو منبعها كالمرة والصفراء والدم ومقر الأطعمة والاشربة إلى نحوها. ثم أرادوا أن يتوسعوا في المعنى ويطلقوا لفظا على مجموع الأعضاء كلها، فغيروا شيئا في لفظه (البطن) حرفا وشكلا فقالوا (البدن)، فجاءت بمعنى الجسم كله ولهذا لا يحق لنا أن نقول أن (البطن) من كلام العامة، ولا نقول إنها من الفارسية إذ هي أيضا في سائر اللغات كما رأيت. ومما يدل على أن (الطن) قديم في لغتنا أن الناطقين بها ادخلوه في تراكيب ألفاظهم ومنه: (طنثر) الرجل: أكل الدسم حتى تثقل جسمه وقد (تطنثر) وقلبوا طنثر فقالوا (نطثر) ومنه (النطثرة) وهي أكل الدسم حتى يثقل على القلب أو حتى يثقل جسمه. ولا جرم أن الكلمة منحوتة من (الطن) بمعنى الجسم و (الثر) الذي هو

الغزارة والكثرة. وقالوا طنحت الإبل طنحا أي بشمت وسمنت. وقيل: طنحت بالحاء سمنت. وطنخت بالخاء المعجمة: بشمت. حكى ذلك الأزهري عن الأصمعي. وقال غيره بجعلها واحدا. (عن التاج بتصريف قليل) وهي مشتقة من الطن مذيلا بالحاء للدلالة على السعة والامتلاء على ما هو معهود في هذا الحرف إذا وقع ذيلا. ومن (الطن) و (الفساد)، نحت السلف (الطنفس) كزبرج، وهو الرديء السمح القبيح، كأن ليس فيه سوى الجسد وليس فيه شيء من محاسن النفس هذا ولو أردنا أن نذكر كل ما جاء من تراكيب الطن لا وغلنا في البحث بعيدا على غير جدوى، إذ النتيجة واحدة في كل ما يرى في مركباتها ومنحوتاتها. 2. التنبل ذكر السيد أدي شيران أن (التنبل) مخفف (تن برور). قال الشيخ الأستاذ: وهما كلمتان (تن) بمعنى جسد، بدن و (برور) بمعنى مربي (كذا. لعلها مرب)، مغذي (كذا. لعلها مغذ) فالبليد الكسلان تراه مشغولا براحة بدنه، مكثرا لتغذيته بألوان الطعام، فيسمن ويضخم ويصبح غير قادر على السعي، ولا نشيط الحركة في العمل أهل قلنا: إن التنبل عند الفرس غير ال (تن برو)، فالأول يعني الكسلان والثاني يعني المتأنق في أكله وشربه أو كما نقول (المتفق) وقد يتأنق المرء في معاشه ويكون مع ذلك نشيطا، كما قد يكون الكسلان نحيفا فهذه الصفات الجسدية ليست من اللازمة للصفات النفسية. وإذا كان لابد من القول بنحت التنبل فهو من (تن) و (بل) وهو الجاهل البليد والثقيل. وقد ذكر صاحب التاج بمعنى التنبل: (الطنبل) كجعفر، والمعنى واحد لأنه قال في تفسيره إياه: هو البليد الأحمق الوخم الثقيل. ولم يعزه إلى قائله. ولعله له وهو منقول عن الفارسية. فقد قال في مستدرك مادة ت ن ب ل: والتنبل كجعفر: البليد الثقيل الوخم. لغة عامية اهـ. وكان عليه أن يقول في كليهما: معرب عن الفارسية. 3. التجفاف هذه الكلمة لا صلة لها بالفارسية فهي عربية محضة. وقول بعضهم أن أصله

(تنبناه) أي حارس البدن، هو من الأقوال الوهمية إذ ليس في الفارسية (تنبناه) بمعنى التجفاف. وحق للأستاذ المغربي الكبير أن يقول: لا أراني مرتاحا إلى ما قالوه (لعلها: لما قالوه، إذ يقول الفصحاء الحذاق: ارتاح له لا إليه) من تعريب التجفاف، فانه بالكلمات العربية أشبه والى صيغتها ومعانيها اقرب اهـ. - على إننا لا نرى رأي الأستاذ المغربي في أن التجفاف بالكسر، مأخوذة من التجفاف بالفتح بمعنى التيبيس كالتجفيف، وان قال بذلك صاحب المصباح، إذ يرى أن سبب تسمية تجفاف الفرس بهذا الاسم هو ما فيه من الصلابة والنبوسة - قلنا: وليست الصلابة واليبوسة في التجفاف فقط، بل في الركاب أيضا واللجام والحكمة والشكيمة إلى غيرها. فهذا تعليل واه لا يقبله ذو منطق صادق. والذي عندنا أن التجفاف لغة في التكفاف، مصدر كف للكثرة. يقال: كفه عن الشر والضرر، فكف هو، أي دفعة عنه وصرفه ومنعه، فاندفع وانصرف وامتنع. ومصدر كف تكفافا مقيس عند جماعة عظيمة من أئمة النحاة واللغة. وجعل الكاف جيما أو بالعكس أكثر من أن يحصى راجع المزهر طبعة بولاق 109: 1 و224 وكانت لغة بعضهم: إما تغيير صيغة المصدر إلى اسم المصدر، فذلك لا بد منه ذهابا إلى معنى جديد، وصرفا للأذهان من معنى المصدر إلى معنى الآله. بقى علينا أن بعض الآلات سميت بالمصدر، فهذا أيضا مبذول عندهم ف (التمتان) بالكسر، و (التمتن) خيوط الخيام، و (التمثال) بالفتح مصدر مثل تمثيلا و (التمثال) بالكسر: الصورة المصورة. - والتسبيغة. بيضة من حلق تلبس على الرأس. - والسرد: مصدر سرد واسم جامع للدروع وسائر الحلق. - والشرك خروق الحلق، إلى غيرها مما هو مستفيض في دواوينهم. 4. التبان هو صحيح الاشتقاق من تن وبان أي حافظ الجسم واستعمله الفرس والترك والعرب لما يستر العورة المغلطة من الثياب. 5. المنتان الذهاب إلى انه من منثن العربية هو من قبيل خرافات العجائز. واشتياقه من نيمثن

وانه وقع فيه القلب أمر معقول ومألوف ومأنوس وكثير النظائر في العربية. وقد جاء بعدة معان وان كان الغالب في شكله انتصاف الجسد من فوق إلا أن شكل قطعة وتفصيله اختلف عند قوم دون قوم، وفي عصر دون عصر. فـ المنتان ورد بمعنى ما يسميه الترك والفرس أر خالق وهو نوع من القباء ينزل إلى دوين الركبتين. - وجاء بمعنى الزبون وزان دخول وهو قباء يلبس تحت الثوب لكنه قصير الردنين ولعل الإفرنج اخذوا منه والزبون معروف عند البغداديين منذ العهد القديم إلى يومنا هذا؟ ويريدون به البقاء الضيق الردنين. وقد عرف الزبون السيد مرتضى فذكره في تاج عروسه إذ قال: الزبن بالتحريك: ثوب على تقطيع البيت كالحجلة. ومنه الزبون الذي يقطع على قدر الجسد ويلبس آه - وجاء المنتان بمعنى السنلخ كجعفر، وهو قباء مفتوح من الأمام، وله ردنان قصيران وهو الذي سمي قبل نحو مائتي عام بـ الكاتبي، لان الكتاب العثماني والإيرانيين كانوا يتخذونه في أثناء القيام بوظائفهم. - وجاء أيضا بمعنى الترلك كزبرج وهو كالسنلخ إلا انه افخر منه وأثخن مجسا وادفأ للجسم. وقد تلاعبوا بلفظه فقالوا أيضا ترليك ودرلك ودرليك. وكان يلبس معه حذاء يتصل به ران فيبلغ الركبتين. وكثيرا ما يكون الترلك مغضنا. وقد رأيت من يلبسه في بغداد بين سنة 1876 و 1885 واغلب لا بسيه كانوا من العلماء والفقهاء، وكان الخف اصفر اللون، وكذلك عنقه أي الران. ولم ينقطع لبسه عند الفرس إلا قبيل الحرب العامة. ومن غريب ما حل بهذا اللفظ (الترلك) أن هذا الاسم منسي اليوم بهذا المعنى. وأطلق بعد ذلك على ما يلبس في الرجل ويصل إلى الركبتين. فصار الترلك ملبوس الرجل بعد أن كان ملبوس أعلى البدن. وهذا من باب المجاورة. فكأنهم أرادوا أن يقولوا الحذاء المجاور للترلك، ثم استغنوا عن هذه الكلمات الثلاث بكلمة واحدة فصار الترلك - كما قال صاحب محيط المحيط - الخف أو ما يلبس في الرجل في البيت من جلد أو قماش ويعرف بالقلشين. وكلاهما عامي عربي - قلنا: وهو تركي فارسي كما رأيت. - ومثل هذا التحول في معنى اللفظة الواحدة وقع في العربية نفسها من باب المجاورة، أي لقرب الشيء الواحد

من الشيء الآخر قال في التاج: الرواية: المزادة فيها الماء. ويسمى البعير والبغل والحمار الذي يستقي عليه: رواية، على تسمية الشيء باسم غيره لقربه منه. هذا نص ابن سيده، إلا انه اقتصر على البعير الذي يستقى عليه. . . اهـ كلام التاج. 6. التنور والتنورة القول بان (التنورة) مركبة من تن بمعنى بدن. ونورة التي لا يعرف معناها، ناشئ من مشابهة هجائها الأول للثن، ولأنها ملبوس. وإلا فالتنورة مأخوذة من (التنور) مع هاء التخصيص لا غير. والتنور مخبز مستدير طويل له من أعلاه فتحة كبيرة مستديرة ليدخل فيها ما يخبز. وفتحة صغيرة من الأسفل لإخراج الرماد الزائد منه. والتنورة مصنوعة على هيئة تنور. والتنور هي كذلك في الارمية بزيادة ألف في الآخر. وهي كذلك في الزندية أي (تنورا) بلا تشديد، وبالفهلوية (تنور) وكذلك بالفارسية الحديثة والتركية فهي إذا مشتركة في جميع اللغات. وعندنا إنها غير منحوتة من (تن) و (نورة) المجهولة المعنى، بل مشتقة من مادة (ن ور) الدالة على النور والنار. فالتاء في الأول زائدة لا أصلية، بخلاف ما يظنه جمهور اللغويين الغربيين والشرقيين. فتنور وزنه تفعول، بفتح التاء، ولو كانت أصلية لقيل تنور بضمها. قال الزبيدي في ديوانه في مادة (ذ ن ب): وتذنوب بالفتح، وتاؤه زائدة. وفي اللسان العرب: التذنوب: البسر الذي قد بدأ فيه الارطاب من قبل ذنبه، ويضم. وهذه نقلها الصاغاني عن الفراء (وهي لغة بني أسد على ما قال في اللسان ونقله صاحب التاج)، وحينئذ يحتمل دعوى أصالتها اهـ كلام الزبيدي. قلنا: وإنما قالوا التاء أصيلة في تذنوب لتحمل على فعلول، لا على تفعول. وفعلول في جميع موزوناته مضموم الأول، ماخلا بعض الشواذ. وأما تفعول، فالغالب عليه فتح التاء، لأنها زائدة، بل هي الإشارة إلى زيادتها. وعليه قالوا: تعضوض وترنوق وتنوم بالفتح فيها. وجاء (التنور) في الأرمية والفارسية بمعنى النثرة وهي الدرع السلسة الملبس أو الواسعة. - وبمعنى الحوف أو الرهط وهو جلد يشق كهيئة الإزار تلبسه الجواري والصبيان. -

وبمعنى الوتر وهو ثوب كالسراويل لا ساقي له. - وبمعنى النقبة وهي ثوب كالإزار تجعل له حجزة مطيفة من غير نيفق ويشد كما يشد السراويل وهي المسماة الآن عند بعضهم بالتنورة. - وبمعنى الجديلة وهي شبه انب من ادم تتزر به النساء والصبيان. وبمعنى كل ثوب ينزل من الخصر إلى القدمين، كائنا ما كان، من ادم أو نسيج أو زرد أو حلق. - فالتنورة على الحقيقة غير علمية. - بل مقيسة قياسا عربيا لا أمت فيه ولا عوج. وهو من باب المشابهة والكلمة مختومة بتاء التخصيص وهو أمر أشهر من أن يذكر. 7. التنباك الذهاب إلى أن (التنباك) مأخوذة من (تن) و (باك) من الخرافات التي يستغنى عن ذكرها في مجلة أدبية، فضلا عن مجلة علمية. و (التنباك) و (التبغ) من أصل واحد هو تباكو اسم جزيرة من جزر الانتيل. ولا يلتفت إلى ما يثرثر به بعض الخرافيين 8. التن ومما يدخل في باب هذا الموضوع (التن) بكسر التاء وتشيد النون. وله عدة معان، من جملتها: الشخص والمثال (عن أبي زيد ذكره ابن مكرم). وهو بهذا المعنى ينظر إلى (تن) الفارسية والزندية والفهلوية وغيرها. وهي في هذه اللغات بفتح فسكون. هذا ما مر بخاطرنا حين مطالعة نبذة الأستاذ شيخا المغربي العلامة اللغوي الكبير وفقنا الله جميعا لخدمة اللغة والوطن. بغداد الأب انستاس ماري الكرملي

صفحة من أدب الغرب

صفحة من أدب الغرب أنشودة الحرب للشاعر آرنت على اثر حروب نابوليون قامت في الأدب الألماني نزعة وطنية شديدة شبت في الألمان روح الحماس والحمية، فقويت بها فكرة الوحدة القومية وقامت حركة تحرير ألمانية. واليوم ننشر ترجمة قصيدة عنوانها أنشوة الحرب للشاعر آرنت (1769 - 1860) المعدود من اكبر شعراء الحرب في العلم، وذلك بمناسبة النزعة الوطنية المحتدمة في أيامنا هذه بألمانية ورجوع الشبيبة الألمانية إلى إنشاد هذه القصيدة وأمثالها. الله لما انبت الحديدا قد شاء أن يحرر العبيدا فوضع السيف بكف البطل صاعقة تمحق ظلم الدول وأودع الجرأة في القلوب والصوت في الأفواه للحروب والبأس في الوجوه والاقداما يهزأ بالموت ولو زؤاما إن الذي يريده نريد ... مطمحنا وعنه لا نحيد فلنطرد الأجانب الظلاما ... وسفلة غدوا لهم خداما ولنذق الراغب في الدنايا ... لقومه ودينه المنايا أبائع الشعب ببخس الثمن ... أهل لأن يلمس ارض الوطن؟ بلغت يا أرض العلى الامانيا بوركت من ارض أيا جرمانيا! أي صريخ روع القلوبا منك صريخ من غدا مكروبا

كلا، فقم وحطم الاغلالا سبر تقوس، واجمع الابطالا نحن بنو الحرب لأرمنيوس فلعلي نار الوغى الضروس! وارتفعي، قدستن نار الحرب بلهب النصر وحر الضرب لواؤنا تنشرة الحرية ... وعزة في نفسنا الأبية توجهوا لله بالضراعة ... ثم اهجموا عليهم، الشجاعة! وأقسموا باوكد الإيمان لأرق بعد اليوم للجرمان! يا بوق صح، يا طبل دردب غضبا ورن يا سلاح وارقص عجبا جميلة نراك ذا النهارا ... سيوفنا أن تزدهي احمرارا حمرا ولكن من دم الجلاد ... منتقمات منه للبلاد إلا اخرجي من هذه الغمود إلى نهار الأمل المنشود! هيا اخفقي بالنصر والهناء أعلامنا في خافق الهوا وليصح الشهيد في الميدان: رصوا الصفوف واحملوا إخواني! يهوى اللواء اليوم أن يعتزا والسيف مسلولا بان يهتزا طيروا، فإما النصر أو فالقبر وليمت الشجاع وهو حر! المعرب

عز الدين التنوخي

اللذة

اللذة للأستاذ ميشيل فرح لا أرى ما يحوجني أن أقول لكم: عليكم أن تتفاهموا على تباين لغاتكم واختلاف عناصركم وتعدد نزعاتكم بلغة الألم، لأنها لغة الضعفاء وهي اللغة الوحيدة التي تتفاهمون بها اليوم ولكني أرى انه حقيق بي أن ادعوكم لتتفاهموا بلغة اللذة لأنها لغة الأقوياء والجبارة، لغة الألم هي لغة كل مريض وسجين وخائف وطريد، هي لغة كل امة غلب عليها. ولكنكم متى وصلتم الألم باللذة من طرفيه كما يتصل ليلكم بنهاركم من طرفيه أصبحتم تحلمون بللذة كما يحلم الساري بطلوع الفجر، وليس الحلم باللذة سوى اللذة نفسها. المريض الذي يحلم بالصحة صحيح في مرضه والخائف الذي يحلم بالأمن آمن في خوفه والطريد الذي يحلم بالأوبة آيب في طروده والأمة المغلوب عليها أمة غالبة إذا حلمت بالغلبة، أن أحلامكم مبعث إيمانكم وليس إيمانكم بغلبتكم سوى غلبتكم نفسها ولذتكم بهذه الغلبة نفسها. سمع الكثيرون يتشدقون حتى من أعلى المنابر بقولهم: يجب علينا نحن الشرقيين أن نحمد الظلم الذي جمعنا تحت لواء المشرقية وجعلنا إخوانا نتألم للحقوق الواحدة التي اغتصبناها. وأنا أقول أن الأحرى بنا أن نجتمع تحت لواء التحرر من هذا الظلم. وان نحمد التحرر وحدة ونلتذه، أما إذا كنا نلتذ الظلم لأنه آخانا وجمعنا تحت كنفه فلسنا غلا كالمسجونين الذين اعتادوا الشقاء والذل وأصبحت أيديهم وأرجلهم لا تنوء بأعباء قيودهم ولا أظنني مبالغا إذا قلت: إنهم قد يسمعون برنين قيودهم نغمات موسيقى مطربة لا تحسبو إنني لست من البشر الذين لهم دم يجري في عروقهم وجسوم ينال منها الحر والبرد وأعصاب حساسة في أناملهم تشعر بالخشن والناعم بل اعلموا أنني صحيح الجسم صادق الحسن ولكنني أيضا صحيح الإرادة فكما إن الدم الذي يجري في عروقي يجب أن احتفظ بقوة اندفاعه الواحدة لكي اثبت صحة جسمي كذلك يجب أن احتفظ بملمس واحد للأشياء فلا المس الخشن منها إلا من وراء طبقة صفيقة تحول دون تخديش أناملي وكذلك يجب أن البس الثقيل من اللباس فلا يؤثر في البرد إذا خشيت شره. وتلك الطبقة الصفيقة التي البسها أناملي وذاك اللباس الثقيل الذي ارتديه قد لا أفتش عنهما طويلا

وقد لا أفتش عنهما بعيدا لأني أجدهما متى أردت وهما موفوران لي، معسرا كنت أم موسرا أجدهما في نفسي، نفسي الجبارة التي تجعل الأشياء باكسيرها متشابهة بل واحدة أنا لا أريد أن لا تميزوا بين الصباح والمساء، بين الشروق والغرب بين الظلمة والنور بل أريد أن تنير نفوسكم إذا أظلمت الدنيا وان تشرق شمس نفوسكم إذا غربت شمس سمائكم أرأيتم في احد الأيام بل في كثير من الأيام في طريقكم إلى جامعكم أو كنيستكم فقيرا بائسا فتت منظره أكبادكم ولآلم نفوسكم ولكنكم لو أردتم، وقلما أردتم، لحولتم فقره إلى غنى ونعمة بل على الأقل إلى عدم فقر وبؤس، مدوا أيديكم إلى جيوبكم فلا يعود يؤلم منظره نفوسكم ويفتت أكبادكم، وقد تستطيعون إذا كانت جيوبكم فلا يعود يؤلم منظره نفوسكم ويفتت أكبادكم، وقد تستطيعون إذا كانت جيوبكم فارغة أن تصلوا من اجله ليقيل الله عثرته بل على الأقل أيضا قد تستطيعون أن تصلوا من اجل نفوسكم ومن اجل أن تكونوا صما وعميا فلا تعودون تسمعون صوت تألمه الذي استنكرتموه. ولا تعودون ترون منظره الذي فتت أكبادكم ولكن تعلمون لماذا لا تعملون شيئا من هذا وذاك؟. . لأنكم لا تريدون أن تعملوا بل بالأحرى لأنكم تريدون أن لا تعملوا وفي ما أرى إن ليس بين عدم إرادة الشيء وارادة عدم الشيء فرق يذكر. ليس بين عدم إرادتكم تهوين بؤس البائس وإرادتكم عدم تهوين بؤسه فرق يذكر. إذا كنتم لا تريدون أن تكفكفوا دمعة شقي فأنتم تريدون أن لا تكفكف دموعه بل تريدون أن يبكي وحينئذ تكونون مصرا ألمكم بل مصدر شقائكم. تباينت آراء الأدباء والشعراء حتى الفلاسفة في حد اللذة، فلستم ولا شك تنتظرون مني أن أحدهم لكم بما يرضيكم كما إني لست أجرؤ أن آتيكم بحد هو القول الفصل ولعل كل الحدود التي حدها بها الناس صادقة، لعلها كألوان الأطعمة التي يستسيغ الواحد منها ما لا يستسيغ الآخر، لعلها كأنواع الألبسة التي نرتديها والتي لأذواقنا المتباينة أعظم الخطر في اختيارها. ولكن مهما كنتم مخيرين في انتقاء ألبستكم وأطعمتكم فللبرودة شأن وللدفء شأن في أنواع ألبستكم كما أن للمعدة شؤونا في تناول ألوان الأطعمة متناسبة مع حالاتها وإذا لم تراعوا هذه الشؤون فأنكم مرضى تحتاجون إلى غير أدوية الفيلسوف والأديب وكما انه لا يضركم اللون الواحد من الطعام بل اللونان حتى الألوان العدة ولا يضركم النوع الواحد من الألبسة أو النوعان أو الأنواع

العدة، كذلك ربما لم تجدوا في الحد الواحد للذة ما يسبر غور نفوسكم فاطلبوها في الحدين والعشرة بل بكل ما حد به الفلاسفة في تحديد اللذة فقد لا تتناقض، وإذا تناقضت فلا يدل ذلك على أن اللذة حلم نائم لا يقبض المستيقظ منه على شيء، أو أن اللذة ليست من أحلام أهل الأرض. إن حاسة اللذة والألم موجودة في الناس وهي حاسة واحدة ولولاها لما ميزنا بين الفرح والترح والحق والباطل والفضيلة والرذيلة والأمن والخوف. قلت أن حاسة اللذة والألم واحدة كما أن الحاسة التي نشعر فيها بلذة الطعام ورديئة واحدة وكما أن الحاسة التي نشعر فيها بالروائح الطيبة والروائح الخبيثة واحدة وكما أن الحاسة التي نسمع بها أصوات الغناء وأصوات الندب واحدة. في العالم اللذيذ والرديء من الأطعمة والطيب والخبيث من الروائح، في العالم لذة وألم مرتبطان بتكيف الطبائع بالإرادة الحرة الخاصة. في وسعكم أن تجعلوا حواسكم لا تشعر إلا من صفحتها الواحدة الصالحة التي تريدون أن تشعر بها. وفي وسعكم أيضا بقناعتكم وصبركم وقوتكم أن تريدون كل ما هو كائن وكل ما يكون وفي وسعكم حينئذ أن تلتذوا كل شيء ميشل فرح

كانا من صنع كفيه

كانا من صنع كفيه لا تخف نقمه رب ... الأرض جبار السماء فهو ادري بمكان ... الضعف من طين وماء كلنا من صنع كفيه ... جدير بنداه أترى يفتن في ... تعذيب ما صاغت يداه؟! وطن النفس على ... الموت ولا تحذر عقابا إن للموت يدا ... تصطاد في الجو العقابا ذل من يصحب هذا ... الدهر مذعور الجنان بين خوف من لظى ... النار وتأميل الجنان محمد البرم

الكونتس دي نوايل

الكونتس دي نوايل للدكتور أنور حاتم فقدت فرنسا بموت (الكونتس دي نوايل) اكبر شاعرة من شواعرها. كانت حياة هذه الشاعرة وأعمالها وأفكارها تحوم دائما حول أنشودة الموت. ولقد انتهت هذه الأنشودة اليوم إلى غايتها. ولدت الكونتس من أب روماني وأم يونانية ونشأت في باريس وتغذت بالثقافة الافرنسية فكانت باقة شعر مجردة عن قيود التعابير واللغات. أنشدت الشعر وهي لم تبلغ التاسعة من عمرها وقد استقبل أعاظم الأدباء مثل ميسترال وأناتول فرانس الأبيات الأولى التي نشرتها في مجلة باريس بكثير من الإعجاب والدهش ورحب كبار النقدة في شخصها بشاعرة كبيرة يختلج في فؤادها جميع ما يهز النفس الإنسانية من وحي وألم وأنين. قضيت عمرها منعزلة عن الناس كأن الحياة كانت منفى لها وظلت يهزها الحنين إلى أوطان أبدعها خيالها فكانت رغم ما يحيط بها من نعيم وعز ومال لا تشعر بلذة في هذا الوجود بل تطمح دوما إلى الخلود ولم تكشف لها الأيام إلا عن معنى الفناء فكان الموت بتمثيل لها في كل ساعة من أفراحها ويرافقها شبحه في أسفارها وهي التي نطقت بهذا البيت الخالد: اعتبرني قد مت ... لأنني سأموت تغنت بالموت كما يتغنى غيرها بالربيع أو بالشباب وكان الموت يحوم حولها ليزيدها حبا بالعيش ومقتا له وحقا فان عاطفة الموت أعظم ما خلده الأدب الافرنسي من (فيلون) شاعر القرون الوسطى إلى (باريس) و (بييرلوتي). كانت الكونتس (دي نوايل) مصورة وموسيقية فشعرها تصوير وموسيقى معا. وتعتقد أن الفنون الجميلة كلها واحدة متلازمة يزداد احدها بالآخر قوة ونموا فكل موسيقى كبير مصور وكل مصور كبير شاعر. وليس الشاعر وهو ينظم إلا كالنقاش الذي يفرغ أحلامه في الرخام لتخلد فتعيش وتقاوم طوارئ الأيام. ولا نعرف بين الشعراء من فهم روح الموسيقين العظام كالكونتس دي نوايل التي

أحيت ذكرى هؤلاء الموسيقين في اضاميم من ارق الأشعار. عبثا حاول بعض الأدباء توجيه النقد إلى لغة الكونتس دي نوايل التي يبدو عليها أحيانا شيء من الضعف في التعبير. وحقا كانت تنظم أشعارها كما يرتل البلبل أناشيده، إنها كانت تقول الشعر مندفعة إليه من طبيعتها فلا تهتم بما قيل وما يقال ولا تحفل بما فرضه المتعصبون من قواعد ركيكة يريدون بها خنق لغة اشتهرت بسذاجتها وسهولة تعبيرها. إن شعر الكونتس (دي نوايل) يشبه البركان الهائج أو السيل المتدفق يجرف كل ما في طريقه. أحبت (دي نوايل) الطبيعة حتى امتزجت روحها بالرياض والرياح والأنهار والجبال والصخور فأصبح شعرها أنشودة حية لجمال الكون. سمعت حفيف الأشجار في الغابات فذهبت تعرب عن الأنين الذي يتخلل هذه الأصوات ونظرت إلى الرياحين في الرياض فغدت لا ترى في العالم كله سوى ريحانة بديعة وكانت ترغب في أن تعانق الطبيعة كما تعانق طفلا تقبله وتستنشق عبيره وتتلذذ بلمسه وتتمتع بالتهام محاسنه فان نظراته كلها غرام وقد هتفت يوما: لقد أثرت الغابات والغدران والسهول الخصبة في مقلتي أكثر من لحاظ البشر فلجأت إلى جمال الكون ولست أريج الفصول بيدي ودت لو تعيش سائحة حول الأرض وقد زارت صقيلة ورومية والبندقية نتغنت بمحاسن تلك البلاد كأنها صديقة لهن فرق بينهن وبكت البلاد التي لم يساعدها الحظ على زيارتها وأرادت أن تبعث جمالها حيا في الخيال وهكذا أعربت في أبيات خالدة عن حسرتها لأنها لم تشاهد دمشق فحيت مياهها العذبة المتدفقة وسماؤها الساحرة وجنانها الفتانة وتغزلت بورد اصبهان وجوامع القسطنطينية وقصور بغداد (التي شيدتها أحلامها) ورددت تقول إنها إنما خلقت لتعيش الشرق. كانت في حياتها شعلة من الحب فنثرت حبات قلبها التي لا تحصى فوق الأحياء والأشياء فهي أسيرة كل كائن تحبه - وما أكثر الكائنات التي تحبها -. بكت مع الأطفال وجرحى الحرب ومع الخريف والسحاب وتبسمت مع الزهر والنور والشباب فتدفق شعرها كأنه ينبوع عطف يشمل جميع المخلوقات وتمنت أن تتلاشى في الطبيعة وتتحول إلى شجرة تتقاذفها الأعاصير.

لم تكن الكونتس دي نوايل مقيدة بدين من الأديان المنزلة فهي وثنية المذهب وقد قالت أن قلبي يشبه غابة تزورها الآلهة، وكنت تعتقد أن كل شيء على الأرض من نبات وجماد وحيوان هو اله فالله وهو الكل والكل واحد، وهو الله. أما هي فليست الاجزء صغيرا من ذلك الهيكل العظيم ستفنى فيه كقطرة ماء في ثبج البحر. وليست صاحبة كتاب ظل الأيام أول من دان بهذه العقيدة التي هي من أقدم المذاهب الفلسفية ولكنها جددتها واستخرجت من تلك الأوتار المشوشة ألحانا علوية فيها شيء من تلك الحسرة السائدة على قلوب شباب العصر. ورثت عن أمها حب اليونان، كعبة الفن والاعتدال والجمال وكثيرا ما حاولت عبثا زيارة تلك البلاد ونظمت فيها قصائد تفيض حنانا تناجي الآلهة وتوسلت إلى تلك الروح التي نفختها الآلهة اليونانية أن تهب إليها سلوى لم تجدها في بقية الأديان. وكانت تقضي أيامها كئيبة لا تعرف سببا لبؤسها فقضت شبابها متلهفة خائفة من اليوم الذي يذهب فيه الشباب وقضت كهولتها باكية على شبابها وماتت قبل أن تدرك الشيخوخة. كان اثر (الكونتس دي نوايل) في الأدب الافرنسي عظيما فهي آخر شاعرة من شعراء الرومانتيك (الإبداعيين) الذين بدأت نهضتهم في فرانسا عام 1820 والذين اشتهر منهم هوغو ولا مرتين وموسه ودوفيني وجورج ساند واسكندردوماس وميشلة. وكما يمثل بول فاليري الشعر المحض كذلك تمثل الكونتس دي نوايل الإلهام المجرد فقد جعلت أبياتها آلة تعبر عما في قلبها من آلام وأحلام فهي بعيدة عن كل تطرف وتحفظ في عواطفها، صريحة في فنها كما هي صريحة في حياتها. فكانت تنتمي إلى أحزاب الشمال معجبة بسياسة اريستيد بريان وقد قاومت مرارا تعصب أولئك الذين جعلوا العقيدة الوطنية الضيقة حائلا دون الرحمة والشفقة والحنان على الإنسانية المتألمة. بيد أن هذا لم يمنعها من أن تكون أشهر من نظم بفرنسا في رثاء أبطال الحرب الذين ذهبوا ضحية الواجب. وكانت لها صلات ود مع اكبر رجال السياسة في فرنسا حتى مع الملكيين وبينهم ليون دوده وشال موراس وقد مدحتهما مرارا وصرحت بإعجابها بهما وقد استقبلت في دارها بشارع (شيفر) عظماء الرجال في أوروبا وباتت شاعرة الجمهورية الرسمية في فرنسا.

عاشت آخر سني عمرها متألمة، صابرة على مصائب الدهر، رابطة الجأش. لقد افقدها الموت اعز أحبائها ونزل بها ذلك الداء الذي أودي بها بعد أن نشرت في عام 1920 أبدع مؤلفاتها الشعرية اعني (القوى الأبدية) كما نشرت في العام الماضي مذكراتها التي سمتها (كتاب حياتي) وكأنها أرادت قبل موتها أن تخلد أجمل ما مر من الحوادث بها. فجأها الموت في آخر يوم من شهر نيسان المنصرم. ولعل نزعها كان اهدأ يوم في حياتها. فلقد كانت منذ يفعت متأهبة للرحيل وفراق ما الفت من ضروب العيش عساها تجد في العالم الآخر تلك الراحة التي طالما حنت لها وهي في الحياة الدنيا، حيث خلدت اسمها مع الخالدين. . . أنور حاتم

امرأة المستقبل

ستة عشر أديبا يفتشون عن امرأة المستقبل في أيام الدراسة بجامعة برلين كنت أنا وصديق إيراني نجلس في درس اللغة اللاتينية إلى جانب فتاة ألمانية لا نلتقي بها إلا و (راحة) التنيس معها. وقد كانت في مظهرها مثال المرأة المغربة بالرياضة البدنية: لها جسم قوي مفتول العضلات ووجه أحمر يطفح نشاطا ترتدي لباسا في غاية البساطة رغم غناها. وكنا كلما سألناها إلى أين هي ذاهبة بعد الدرس أجابتنا: إلى ملعب التنيس أو إلى البحيرات في ضواحي برلين للسباحة أو التجذيف. ليس من الغريب انهمال هذه الفتاة في الرياضة البدنية فان كل الشعب الألماني وفي مقدمته النساء قد جعل للرياضة المقام الأول في حياته ويكاد الناظر يعتقد أن ألمانيا كلها قد أصبحت ملعبا كبيرا يتبارى فيه الجميع في سبيل القوة والجمال. ولكن الأمر المهم الذي يستحق التفكير هو تأثير الرياضة ليس في الصحة العامة والجمال فقط في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والأخلاقية والنفسية والفكرية أيضا. فان الحياة الرياضة الطلقة قد حررت أفرادها هذا الشعب من القيود البالية ونفخت فيه روحا جديدة اقرب إلى الطبيعة. وقد صرحت لنا هذه الفتاة في احد الأيام، لما انتقل بنا الحديث إلى العلاقات بين الرجل والمرأة، انه أخذها العجب منا نحن الطالبين الشرقيين اللذين تسيطر علينا التقاليد القديمة، البعيدة عن الفطرة ولا تزال نعيش في الخيالات والأوهام الشعرية. وقالت: يجب أن تسود الصراحة والبساطة في علاقات الجنسين ولا يجوز إن يضيع الناس في هذا العصر أوقاتهم في الأحلام والعواطف. وبينما الجمهور في ألمانيا وغيرها من البلاد الغربية أصبح لا يؤمن إلا بهذه العقيدة التي قلبت العلاقة الجنسية نرى أصوات بعض المفكرين من الأدباء ترتفع بانتقاد التطرف والغلو في هذه السبيل التي أوشكت أن تنتهي إلى الإباحة والمادية. وقد كثرت في السنيين الأخيرة المباحث حول موضوع المرأة وعلاقتها بالرجل ونريد هنا تلخيص كتاب جديد انتشر في ألمانيا يشرح فيه ستة عشر أديبا من ابرز الكتاب الألمان

والنمساويين الحديثين آراءهم في امرأة المستقبل. . . يقول أميل لوقا، الكاتب المعروف بمباحثه الفنية وتحليله للحب: إن المثل الأعلى لعلاقة الجنسين ظل في أوروبا حتى أواخر القرن التاسع عشر يتمسك بمبدأ التضاد والتقابل أي أن المرأة والرجل كان ينظر إليهما كقطبين متناظرين يجذب احدهما الآخر لما فيهما من اختلاف في الطبيعة ولان كل واحد منهما يتمم ما في الآخر من نقص. ومنذ أول القرن العشرين تزعزع هذا المثل الأعلى واخذ يقوم مكانه مثل أعلى أخر معارض له مبني على فكرة التوازي والاتساق بين الجنسين. أن هذا المثل الأعلى الجديد يبغض كل اختلاف وتضاد وتطرف ويتطلب في الجنسين الصفات المتشابهة، المشتركة المتقاربة: انه لا يحفل بغرائز الأنوثة أو الرجولة البارزة بل يميل إلى الصفات البشرية العامة الجامعة بين الرجل والمرأة وهذه الفكرة قد انتشرت بين الأمم الشمالية ولا تزال بعيدة عن البلاد الأوربية الجنوبية. ومن مظاهر هذه الفكرة انتشار الحب الجنسي. . لقد تقارب الجنسان في مظهرهما الخارجي ولكن المثل الأعلى ليس هو أن تصبح المرأة مشابهة للرجل ومساوية له بل أن تقرب من الغلمان والشبان سواء في ظاهرها أو في شعورها الباطني. إن رغبة الرجل والمثل الأعلى الذي ينشده في صميمه ولو لم يصرح به هو إلا تكون المرأة مثله تماما بل أن تكون كمخلوق بين الشاب والغلام، بين الفتى والصبي أو بالأحرى كالأخ الأصغر: أكثر منه نضارة ورشاقة ونعومة ورقة ولطفا. . . على أن هذا المثل الأعلى قد اخذ منذ الآن في التضاؤل والاضمحلال وبدأت حركة رد الفعل. وتدل الظواهر على أننا في أوائل عهد جديد يجمع بين الفكرتين المختلفتين ويبدع منهما فكرة جديدة أكثر سموا. فان المرأة الراقية ترفض اليوم أن تكون مشابهة ومساوية للرجل وهي لا تريد أن تصبح بشرا مطلقا لا جنس لها بل تريد أن تكون قبل كل شيء امرأة بكل معنى الكلمة. امرأة تتصف بالأنوثة، ذلك هو المثل الأعلى الذي يتكلم عنه أميل لوقا ويطالب به جميع زملائه الكتاب الستة عشر.

وهذا (لئوماتياس) الذي اشتهر بكتاب عن رحلته في الشرق قد نشر رسالة يخاطب فيها ابنته قائلا: إياك ومحاولة التساوي مع الرجل! فإن المرأة أيضا لها قيمتها ولكن هذه القيمة عن قيمة الرجل. ويجب أن تنصرف همة النساء إلى نيل امتيازاتهن الخاصة كما ينبغي أن تصبح لهن قواعد أخلاقية خاصة. ويبحث الأديب الروائي (آلفونس باكة) عن الخطر في إخضاع قوة الحب والشهوة الجنسية لسلطان العقل وسيطرة المنطق. أما الكاتب الفيلسوف (اوتو فلاكه) فيقول أن تحكم العقل والمنطق مما ينتهي بالحب إلى الحقارة والتفاهة. وامرأة المستقبل لا مهمة لها في الحياة غير المهمة التي تقوم بها امرأة اليوم وقامت بها امرأة الأمس وهي: العناية بالحب والسمو به عن الانحطاط والابتذال. ويدعي (روبرت موزيل) الكاتب الروائي أن المرأة قد سئمت أن تبقى دائما موضوعا لمثل الرجل العليا. وعدا عن أن الرجل لم يعد من القوة بمكانة يستطيع معها إبداع المثل العليا الجديدة وتصورها فان المرأة بدورها قد أخذت اليوم على نفسها مهمة التفكير في أمانيها ورغباتها الخاصة في المستقبل. ويتعرض (آكسل اككه بريخت) إلى الجمود واليأس الذي استولى على العالم الأوربي الغربي في أمور الحياة الجنسية ومسائل الحب ثم يثبت أن الناس أمسوا لا يعتبرون الحب والعلاقات الجنسية إلا كحادث شخصي تافه لا وزن له في حياتهم ومن هنا ينشأ التردد والتذبذب الذي لا يطاق في موقف الرجل تجاه المرأة ويقول (اككه بريخت): أن معضلة الحب ناجمة عن فقدان الحب. وغاية ما نرغب فيه هو أن نقدر على الرغبة. وكذلك (هاينريخ ادوارد ياقوت) ينشد المرأة التي يجب أن تبتعد عن عالم الرجل وان تثير فيه الشوق غير المتناهي وان تعبن بأفكاره المنطقية التي تجلب إليه الشؤم والاضطراب بوضوحها وجلائها. ويحاول (والترفون هوللاندر) إن يصور لنا المثل الأعلى للمرأة فيقول: إن الأنوثة شيء قائم بذاته ولذاته، إنها في صورتها النقية الخالصة عنصر ضروري وركن لا يستغنى عنه في بناء الحياة والعالم. ثم ينتقل إلى التطور الحديث

ويطالب المرأة بان تتغلب على الشعور بالنقص في نفسها الذي يلازمها والذي يجعلها تعتقد إنها لا قيمة لها في ذاتها وإنها لا تعتبر شيئا مذكورا إلا إذا كانت إلى جانب الرجل والولد. يجب أن تتحرر المرأة من قيود الدائرة الضيقة التي تدور حول الرجل والزواج والولد والتي تمنى فيها كل يوم بخيبة الأمل وانكسار الخيال فتعود على نفسها وتصبه امرأة مستقلة في ذاتها وفي أنوثتها أيضا بعداد لت تم لها ذلك من الوجهة الحقوقية والاجتماعية قبلا. جميع هؤلاء الكتاب يعتقدون أن الحياة الزوجية، كما كانت قبل اليوم قد انقض عهدها وأصبحت لا تصلح للأجيال المقبلة. فليس هناك احد ينكر على المرأة الحق في أن تشارك الرجل في حياة العمل وان تتمتع بالمساواة الحقوقية والاجتماعية. ولكن المعضلة التي تشغل الأفكار هي معرفة التطور في علاقات الجنسين وحل هذا اللغز المسمى بالمرأة لان حياة الرجل لن تستقر ويسود فيها الاطمئنان والسعادة والإبداع إلا إذا أصبحت المرأة جزءا متمما له تنفحه القوة والنشاط وتغذي شعوره وتفكيره كما تتلقى منه ما ينقصها في حياتها الخاصة من عواطف ومبادئ. . . كامل عياد

السينما الناطقة

السينما الناطقة للمهندس الكيماوي مخائيل كزما إن أول من فكر في السينما الناطقة هوتوماس اديسن المخترع الأميركي المعروف ومما هو جدير بالذكر أن أهم الأسباب التي حركت هذا المخترع الكبير لابتكار الصور المتحركة هو رغبة في جعل صوت الفونوغراف الذي كان قد اخترعه حديثا مصحوبا بصور الأشياء التي أحدثت الصوت. إلا أنه لم يوفق المخترعون إلى نتيجة عملية في هذا المضمار إلا بعد مضي عشرات من السنين وذلك بفضل اختراعين هامين الأول الجهاز الكهربائي للصوت تجهيزا يزيد قوته ألوف ومئات المرات. والثاني البطارية الفوتو كهربائية وقد اتجهت أبحاث العلماء الساعين إلى تحقيق السينما الناطقة في طريقتين مختلفتين. الأولى مقارنة الفونوغراف والصور المتحركة. وذلك بوصل قرص (اسطوانة) الفونوغراف بفانوس السينما وصلا كهربائيا بحيث تخرج الصور والأصوات بوقت واحد. وثم تكبير الصوت بوصل إبرة الفونوغراف بالتيار الكهربائي فيحدث اهتزاز الإبرة السائرة في ثلم القرص الفونوغراف تغيرات في شدت التيار الكهربائي ومماثلة للاهتزازات الصوتية المسجلة على قرص الفونوغراف وهذا التيار الكهربائي المتغير يغذي المجهر الكهربائي الذي يحوله إلى صوت مكبر ألوف المرات. وقد جرب هذا الجهاز لأول مرة سنة 1926 وأعطى نتائج حسنة. أما الطريقة الثانية وهي الأكثر شيوعا الآن فتستند إلى مبدأ البطارية الفوتو كهربائية أي تلك البطارية التي تحول النور إلى تيار كهربائي. ولا بد لنا قبل الخوض في موضوع السينما الناطقة من الإتيان على شرح موجز لمبدأ هذه البطارية. من المعلوم إن النور حسب النظرية المسلم بها الآن مسبب عن اهتزاز الجسم المضيء اهتزازا سريعا يحدث في الأثير - ذلك الكائن الافتراضي المرن الذي يملا الفضاء الفاصل بين الأجرام السماوية وكافة الفراغات والأجسام الشفافة - تموجات تنتقل من الجسم المضيء إلى كل الجهات. وعندما تقع هذه التموجات على شبكة العين ومنها تنتقل بواسطة العصب البصري إلى الدماغ تتحول إلى شعور بالنور.

ويفسر اختلاف شدة النور باختلاف شدة هذه الموجات الأثيرية. كما انه قد ثبت أن لون النور ناشئ عن عدد الاهتزازات في الثانية وبالتالي عن عدد التموجات في الثانية وهي ما يعبر عنها بكلمة تردد. فتردد موجات النور البنفسجي أعظم من تردد النور الأزرق وهكذا يتناقص التردد إلى الأحمر الذي هو أقل الألوان ترددا. ولما كانت سرعة انتشار النور واحدة في الفراغ والهواء لكل الألوان كان طول الموجات متناسبا عكسيا لترددها فتكون موجة النور البنفسجي اقصر الموجات المنظورة وموجة النور الأحمر أطولها. ويمكننا مقاربة هذه الظاهرة مع ظاهرة الصوت. فانه أيضا ناشئ عن اهتزاز الجسم المصوت الذي يحدث في الهواء وغيره في الأجسام المجاورة تموجات تنتقل من مصدر الصوت إلى إذن السامع بواسطة الهواء أو غيره من الأجسام الناقلة للصوت بسرعة هي اقل بكثير من سرعة انتقال الأمواج الأثيرية. وكما رأينا في التموجات الأثيرية تعلل شدة الصوت بشدة هذه التموجات، كذلك علو الصوت يعلل بتردد تموجاته. ولنرجع إلى التموجات الأثيرية. فان المنظورة منها وهي التي تكون النور ليست إلا جزاء صغيرا جدا من مجموع التموجات الأثيرية. فان أكثرها لا يؤثر في العين البشرية. لكن يوجد أجهزة دقيقة تشعر وتقيس أطوال موجاتها بالضبط. ومن هذه التموجات غير المنظورة ما تفوق موجاتها أطول الموجات المنظورة. وأهمها الأشعة التحت الحمراء والاهتزازات الكهربائية المستعملة الإشارات اللاسلكية ومنها التي طول موجاتها اقصر من اقصر الموجات المنظورة ولعلها الأشعة الفوق البنفسجية وأشعة رونتجن وأشعة (غما) المنبعثة من الراديوم. ثم أن هنالك نظرية علمية في منتهى الأهمية لابد من شرحها ولو باختصار ليتم لنا فهم مبدأ البطارية الفوتو كهربائية وهي نظرية تركيب الجوهر الفرد أو الذرة. من المعلوم إن العناصر التي تتألف منها الأجسام كالمعادن والأكسجين والازوت يمكن تجزئتها إلى أقسام متناهية في الصغر هي الذرات لها أوزان وخواص معينة هي خواص العنصر المؤلف منها. وما قطعة الحديد مثلا إلا مجموعة كمية كبيرة جدا من

الذرات المتماثلة. وعندما يتفاعل الحديد مع الأكسجين مثلا تتحد ذرة من الحديد بذرة من الأكسجين وتكون جزيئا من أكسيد الحديد أو صدأ الحديد. ويمكن تفكيك عرى هذا الجزيء بواسطة القوى الكيماوية فيعود الأكسجين والحديد كما كانا قبل اتحادهما. وقد بقي الاعتقاد سائدا إلى بضع عشرة سنين خلت أن الذرة لا يمكن تجزئتها مهما سلط عليها من القوى. إلا أن اكتشاف الراديوم وغيره من العناصر المشعة اثبت أن الذرة تتهدم إلى أجزاء اصغر. وهاك نتيجة ما وصل إليه العلماء عن تركيب الذرة مقتصرين على القسم الذي يهمنا لتفهم مبدأ البطارية الفوتو كهربائية: تشكل الذرة نظاما محكم التركيب كالنظام الشمسي. فهي مؤلفة من نواة مادية مشحونة بكهربائية ايجابية يدور حولها عدد من الأجزاء الكهربائية السلبية تسمى الكترونات يختلف عددها حسب طبيعة العنصر. وبما أن قيمة الكهربائية الايجابية لنواة درة ما تعادل تمتما قيمة الكهربائية السلبية لمجموع الكترونات تلك الذرة كانت الذرة متعادلة الكهربائية. ويمكننا أن نستنج بسهولة انه إذا توصلنا بإحدى الطرق إلى أن نطرد من الذرة بضعة الكترونات تغلبت كهربة النواة الايجابية وأصبحت الذرة مكهربة ايجابيا بينما تشكل هذه الالكترونات المطرودة تيارا كهربائيا سلبيا. وبالعكس يمكن جعل الذرة تكهرب سلبيا بإضافة الكترونات إليها. ويوجد الآن لدى العلم عدة وسائل لاقتلاع الالكترونات من ذرات العناصر منها أشعة النور وغيرها من التموجات الأثيرية كأشعة رنتجن والأشعة الفوق البنفسجية وهذه الظاهرة هي المبدأ الذي يرتكز عليه عمل البطارية الفوتو كهربائية وهي تتألف بأبسط معانيها من (بلون) زجاجي كالمستعمل في المصابيح الكهربائية مفرغ من الهواء ومطلي من الداخل بطبقة رقيقة من المعدن. وهذه الطبقة متصلة كهربائيا بأحد قطبي الجهاز. والقطب الآخر متصل بسلك معدني دقيق مثبت في وسط (البلون) وملحوم في الزجاج. وقد تركت في أحد جوانب المصباح بقعة خالية من الطلاء المعدني لأجل دخول النور. لنفرض شعاعا من النور الاعتيادي داخلا إلى المصباح من البقعة الشفافة المذكورة آنفا فعند وقوع هذا النور على الطلاء المعدني تقتلع قوة اهتزاز الأثير عددا من الكترونات هذا

المعدن فتصبح ذراته مكهربة ايجابيا بينما الالكترونات المنطلقة منه تحمل كهربائية سلبية إلى السلك المعدني الكائن في وسط المصباح ومنه إلى قطب الجهاز المتصل به. فإذا وصلنا هذا القطب بالقطب الآخر المتصل بالطلاء المعدني بواسطة سلك خارجي يجري في هذا الأخير تيار كهربائي يمكن قياسه بواسطة المقاييس الكهربائية العادية. ومن البديهي انه إذا ازداد تألق النور الواقع على المصباح ازدادت قوة اهتزاز الأثير فيزداد عدد الالكترونات المنطلقة من الطلاء المعدني فتشتد قوة التيار الكهربائي الجاري في السلك الخارجي. والعكس بالعكس. فإذا وقع على هذا المصباح شعاع من النور متغير التألق نتج عنه تيار كهربائي متغير الشدة. هذا هو مبدأ عمل البطارية الفوتو كهربائية التي تشكل الجزيء الرئيسي من الآلة التي تعرض الصور الناطقة. وسوف نعود إلى شرح عملها بالنسبة للسينما بعد أن نشرح الآلة الآخذة للمناظر الناطقة تؤخذ مناظر السينما بواسطة آلة فوتوغرافية لا تختلف بمبدئها عن آلة التصوير العادية سوى أن الغشاء الحساس المكون من شريط (فيلم) طويل يتحرك على دولاب بسرعة منتظمة. فيرتسم عليه المنظر المتحرك في أوضاع مختلفة بالتتابع. وعند عرض هذا الشريط في الفانوس يدار بنفس السرعة التي أخذت بها المناظر. فترتسم صورها على الشاشة البيضاء ويخيل للناظر أنها متحركة متواصلة مع أنها بالحقيقة صور منقطعة لنفس الشيء في أوضاع مختلفة. وتعليل ذلك أن الشبح الذي يقع على شبكة العين يبقى مرتسما عليها برهة من الزمن بعد زوال الشيء المسبب للشبح. وفي احد جانبي الشريط يترك حقل لا يتجاوز عرضه ثلاثة مليمترات لأجل تسجيل الصوت وذلك على الكيفية الآتية. إذا أحدث صوت أمام سماعة التلفون اهتزت طبلتها اهتزازا مماثلا لاهتزازات الجسم المصوت. وإذا وضعت السماعة في دائرة كهربائية حدث في شدة التيار تغيرات مماثلة لتغيرات الصوت. فإذا استعمل هذا التيار لإنارة مصباح كهربائي عادي لضاء هذا

المصباح بنور متغير التألق حسب تفاوت شدة التيار الكهربائي وبالتالي حسب تفاوت الصوت المحدث أمام السماعة. لنضع الآن جهازا كهذا أمام المناظر المراد اخذ صوتها وصورها. فبينما الآلة الفوتوغرافية تأخذ الصور على الجزء الأكبر من الفلم لنجعل المصباح المتغير التألق يضيء شقا ضيقا يكون طوله بقدر عرض الحقل المخصص للصوت في الفلم وليكن الشق ملاصقا تقريبا للفلم. فترتسم على الحقل الضيق من الشريط صور الشق المذكور وتكون كثافة تألقها متفاوتة تفاوتا يطابق كل المطابقة تفاوت شدة الصوت. فيكون لدينا فلم مسجلة فيه الصور والأصوات في نفس الوقت. لنرجع الآن إلى الآلة العارضة للمناظر. لندع نور الفانوس يقع على الفلم المتحرك ولنفرض شعاعا من النور واقعا على بطارية فوتو كهربائية بعد مروره بالحقل الضيق من الفلم الذي سجلت عليه الصور والأصوات كما مر آنفا. فيكون للواقع على البطارية متغير التألق تغيرا مماثلا لتغير الصوت الأصلي. فينشأ في البطارية الفوتو كهربائية تيار كهربائي متغير الشدة. ولنفرض أن هذا التيار المتغير يغذي آلة تلفونية آخذة ومجهرة للصوت. فتهتز طبلتها وتحدث في الهواء المجاور أصواتا مماثلة للأصوات الأصلية وموافقة للصور مرافقة تامة. ميخائيل كزما مهندس كيماوي

سعادة الإيمان

سعادة الإيمان للكاتب الافرنسي أندره موروا تعريب جميل صليبا - قلت للسيد الشرقاوي وأنا انظر إلى الخنجر الأعوج الموضوع في غمده البسيط كم ثمن هذا الخنجر؟ فوقف وتمتم بضع كلمات بالعربية. ثم انحنى البائع أمامه وقبل يده البضة التي كانت أجمل من يد الغندورة الحسناء. وقال -. . . فابتسم الشرقاوي في لحيته وقال لي: - انه يطلب خمسين فرنكا. ولكن يكفي أن تعطيه ثلاثين. كنا في أسواق مراكش. وكان العبيد الراكبون على ظهور الحمر الصغيرة ينادون بالك، بالك. ثم يشقون الطريق غير مبالين بالازدحام. وكان الناس يفتحون لهم الطريق بأعجوبة. وكانت النساء وراء الخمار الأبيض جميلة ساحرة. وكان الرجال جالسين أمام الدكات الخشبية فيقفون عند مرورنا بالقرب منهم ويسلمون علينا يرفعون أيديهم إلى جباههم وينزلونها إلى صدورهم. فقال لي الشرقاوي: - ليس هؤلاء الباعة كتجاركم في أوروبا. لأنهم لا يحسبون دخلهم ولا خرجهم ولا يعرفون ما عندهم من البضائع بل يشترون ويبيعون ويعيشون غير مكترثين بالأرباح، فإذا بقي لديهم شيء من المال في آخر السنة اشتروا به بضائع جديدة أو ابتاعوا أرضا وبيوتا. أما العقلاء منهم فيشترون به نساء وسجادا. - أليس لهم حساب في الصارف؟ وكنا ذاك قد وصلنا إلى سوق الدباغين حيث تلمع مراجل النحاس في الظل الوارف. وكان الهواء مفعما برائحة الصوف المحروق ورائحة النيلج وكان بعض أولاد العرب يعقلون كبب الخيوط البنفسجية والحمراء على أبواب المخازن الخشبية. فقال السيد الشرقاوي: - ليس للمسلم حساب في المصارف لان ديننا قد منع الربى وأمرنا أن نستثمر أموالنا في

التجارة، أما استثمار المال بالمال فلا يريده الله. فقلت - ولكن أنت يا سيدي الست موظفا كبيرا؟ إن راتبك ضخم وليس لك تجارة تستثمر بها ما يزيد عنك. فماذا تصنع بهذه الزيادة. إلا تشتري بها أسهما مالية؟ فقال الشرقاوي، وكنا نجتاز سوق الحدادين بين نغمات المطارق: - معاذ الله، كيف استطيع أن املك الأسهم المالية وأحافظ على ديني؟ لقد اضطرتني الظروف في بعض الأحيان أن أودع أموالي في بعض المصارف، ولكنني كنت في كل مرة ارفض الفائدة. فقلت - ولكن يا سيدي يجب على المسلم أن يفكر في مستقبله! فماذا تصنع إذا طعنت في السن، بل ماذا يصنع هؤلاء الباعة؟ قال - إن حاجات الإنسان تصبح في الشيخوخة قليلة جدا. ومن السهل عليه تأمين حاجاته ببيع احد عقاراته التي اكتسبها في صيف حياته. الشيخ لا يحتاج إلى عدد كبير من النساء ولا إلى كمية كبيرة من الغذاء، بل يكفيه من ذلك كله شيء قليل. ويمكنه أن يقتصر على حديقة صغيرة في بيته يخصصها لنزهاته القصيرة. قلت - ولكن يا سيدي يجب توقع كل شيء، ماذا يصنع الشيخ إذا عاش أكثر مما كان ينتظر، فباع كل عقاراته ولم يبق له شيء أليس من العقل أن يبتاع أسهما مالية أو سندات تجارية يعيش من فائدتها حتى الموت؟. قال - انه يجد عند ذلك في أولاده عونا على الدهر. قلت - وإذا لم يكن له أولاد فماذا يصنع -؟ قال - انه يكل أمره عند ذلك إلى الله، والله لا يترك أحدا. . وكنا نسير إذ ذاك في سحاب من الطيب، وكانت أوراق الورد وأزهار البرتقال تتساقط من سلات القصب. وكان الحمارون يصرخون بالك، بالك، والنساء يبتعن الأزهار والشيوخ يقولون لنا السلام عليكم، وكانت أشعة الشمس محرقة بينما رفيقي الشرقاوي يمشي بقدم ثابتة لا تقوى على حمل حذائه الثقيل. فرددت في نفسي عبارة الشرقاوي: إن الله لا يترك أحدا. ثم قلت له:

- هل تظن إن الله يهتم بما يجري في هذه الدنيا وهي حفرة من الوحل فيلهو بمصير كل واحد منا ويحول دون موت الفقراء جوعا ويحرس أموال الناس؟ قال وهو ينظر إلي بدهش - وهل تشك في ذلك يا سيدي؟ - قلت - أود لو اصدق ذلك، ولكنني لا أخفي عليك إنني إذا نظرت إلى ما يحيط بي من الأشياء لا أجد أثرا لهذه الحكمة الربانية والعناية الإلهية، والدنيا لا توالي إلا الأشرار ولا تكافئ إلا الطماعين، ولا تؤيد إلا المغتصبين. أما الفاضل في الطول شقوته! الأمراض تفترسه والجوع يضنيه. إلا ترى كيف يعشق الرجال المرأة اللعوب ويعرضون عن المرأة الفاضلة!؟ قال - انك كثير الاهتمام بالحاضر، ولولا ذلك لما زعمت أن الأشرار سعداء. كنت وأنا في ريعان الحداثة ألوم الزمان مثلك، وأتظلم من تغلب عدوي علي بالرياء والكذب والافتراء، فكنت اغضب من ذلك، وأريد أن أنازل خصمي وافضح فعله. ال أنني أدركت الآن معنى رواية الحياة، وعلمت أن الدهر دولاب، يوم لك ويوم عليك، وسينقلب الزمان على عدوي شر منقلب من غير أن أزعج نفسي واقاسي مضض الانتقام - قلت - وكيف ذلك، هل تريد أن تقول أن كل شرير ينال عقابه في هذه الحياة، الم تر كيف يموتون وهو راتعون في بحبوبة العيش، رافلون في حلل السعادة؟ - لعل بلدكم مراكش يختلف عن البلدان التي شاهدتها في أوربا وأميركا! فقال لي، وقد أوقفه احد البائعين ليسمح رداءه بشيء من الطيب. - عفوا يا سيدي، لم اقل أن كل شرير ينال جزاءه قبل الموت بل شاهدته أنا أيضا بعض الأشرار يموتون قبل أن ينالهم العقاب. ولكنني اعرف أن الله سيعاقب أولادهم وأحفادهم حتى الجيل العاشر. ومهما تحاول تبديل الأشياء فلن تفلح أبدا. لأنه لا مرد لحكم الله وكل شيء مقدر مكتوب وكنت لا تسمع إلا قول الحمارين بالك. بالك، ولا ترى في مدخل الأسواق عند ساحة (جامع الفنا) إلا زمرا من الفقراء، بينهم خمسة عبيد عميان يطلبون الصدقة. وكان مقدمهم ينشد بعض الأذكار بنغمات محزنة ثم يتبعه الأربعة قائلين آمين. ثم يعود المقدم إلى الإنشاد على نمط واحد بينما المارة يقفون وينظرون ويتصدقون

لقد ودعني السيد الشرقاوي بين أولئك الرجال المتربعين أمام جدران الأسواق كأنهم قد طردوا من نفوسهم كل فكرة أو كأنهم صمموا أن يعيشوا نائمين لا حراك لأجسامهم المسندة ولا حركة في أعينهم الشاخصة. وبينما كان القاص العربي يتكلم في المقهى وقد أحاط به السامعون كأنهم هالة من الصوف الأبيض قلت في نفسي: إن الله لا يترك أحدا. إن الناس لا يبدلون ما هو مقدر مكتوب. ما اشد اعتقاد الشرقاوي وما أقوى إيمانه بهذا المذهب! إن حياته مطمئنة هادئة. أما نحن الأوروبيين والأميركيين فلا نستطيع احتمال هذا الركود فنتكهن ونتنبأ ونحسب وندبر ونبدل ما هو مقدر ولا نرضى بالعدالة الإلهية ولا نرتاح لهذا العالم الذي أبدعه الخالق. نعم، إننا نتنبأ، ولكننا نتنبأ ونخطئ، ثم نعمل ونبني، ونهدم ما بنيناه، وننتج، ويولد الإنتاج قسوة الفقر وشقوة الفاقة في حياتنا. فهل نحن أكثر حكمة وأحسن حالا من هؤلاء الباعة الذين يشترون النساء والسجاد ويتمتعون بقوة أجسادهم ونضارة شبابهم؟. وكانت وجوه بعض الراقصين تشبه وجوه الأولين بلونها النحاسي وعيونها الواسعة الجاحظة، فقلت في نفسي: إن الإنسان لا يبدل ما هو مقدر مكتوب لا أذكر الآن ممن سمعت هذه العبارة قبل هذه المرة: ليس في الإمكان أبدع مما كان. كل ما أذكره إنني كنت في بلاد النور مانديا واقفا إلى جانب احد الأبواب انظر عن كثب إلى الوادي المحصور بين الآكام. وكانت الخيل تعدو بين أشجار التفاح الباسقة. وكان السكون عميقا لا تقاس قوته إلا بضجة المحرك البعيدة. هناك قال لي المالي لا يجوز أن نبدل شيئا. هناك قال لي المالي يجب أن ندع المقادير تجري في أعنتها، لنترك قليل الفطنة يهلك في معترك الحياة. هناك سمعت الاقتصادي يقول لي وهو يقطف الأزهار، أن كل مداخلة وكل تجربة تمنع النواميس الاقتصادية من أن تجري مجراها. فالمالي يقول أطلق لنواميس الطبيعة العنان ولا تقيدها والشرقاوي يقول أن الإنسان لا يبدل

ما هو مقدر مكتوب. . وكان الطبل يزيد الراقصين احتداما. وكان البقر يدور ببطء حول الحواجز البيضاء فقلت. إن حكمة الحضارة وحكمة البداوة تلتقيان في الشقاء، فالأزمات الاقتصادية قد جعلت الغربي يستحسن الكون الذي أبدعه الله ويرضى بحكم الطبيعة ويجد علاج للازمات الاقتصادية في الاستسلام للمقادير. فكأنه لا مرد لحكم الله وكأنه ليس في إلا مكان أبدع مما كان. هنا شعب أنهكه العراك وأضناه الإنتاج، وهناك في الغبار شعب متربع على الأرض ينتظر مصيره ساكنا من غير أن يفكر يوما في تغيير قضاء الله.

الكتب والصحف

الكتب والصحف مجموعة المباحث الشرقية ظهر في هذا الشهر المجلد الثاني من مجموعة المباحث الشرقية التي يصدرها في كل عالم المعهد الافرنسي في دمشق. وهذا المجلد لا يقل عن مجلد العام الغابر بما فيه من مقالات قيمة وأبحاث علمية دقيقة عالجها أعضاء المعهد وغيرهم من الأساتذة الأخصائيين معالجة هي مثال لما وصل إليه الاستقصاء الحديث والتتبع العلمي. وأول ما يلفت النظر في هذه المجموعة طبعها المتقن وورقها الصقيل وما فيها من النقوش التاريخية والرسوم العلمية التي كثيرا ما تزيد في لذة القارئ وتغريبه بالمطالعة والدرس. وفي هذا المجلد الذي يقع في 125 صفحة من القطع الكبير مقالات كثيرة من أهمها مقالة المستشرق الأستاذ جان سوفاجه عن مراسم المماليك المنقوشة في سورية ومقالة الأستاذ مونتانيه عن سكان الجزيرة العليا ومقالة الأستاذ جان غولميه عن بعض مناظرات أدبية بين أهالي حمص حماه. . ولقد درس الأستاذ سوفاجه في مقاله بعض نقوش عربية لم تنشر بعد جمعها من المباني التاريخية في دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية مقتصرا في درسه هذا على النصوص التي نقشت بصورة مراسيم أصدرها المماليك في سورية وكان لها شأن تاريخي عظيم في بيان أثار الحضارة في بلادنا ولقد اثبت نصها العربي وشرح ما غمض من ترجمتها شرحا هو نموذج لما يأتي به التتبع العلمي من الفوائد العلمية في درس آثار الأمم وعوالم مجدها الغابر. ومما يزيد في فائدته مقالة انه نقل أكثر تلك المنقوشات العربية مع رسومها الفوتوغرافية إلى لوحات أضافها على بحثه الذي استوعب خمسين صفحة من صفحات المجموعة. ودرس الأستاذ مونتانيه في مقاله قسما من سكان الجزيرة العليا في شمال سورية من أعراب رحل ومتحضرين ونصف متحضرين وكذلك سكان القرى والمدن مبينا تأثير الإقليم والتربة والعوامل الاقتصادية والاجتماعية في طراز معاش هؤلاء الجماعات وما بينها من الفوارق وما يخشاه الموظفون السوريون من أن ينشأ هنالك أقليات تتكلم بلغة غير لغة الوطن العربي وتدين بدين غير دينه. ولعا فائدة المقال العلمية كانت أكثر قيمة لولا بعض نظرات ونتائج يشتم منها رائحة السياسة.

وبحث الأستاذ جان غولميه في الخصومة المعروف بين الحمصيين والحمويين كحادث اجتماعي وبين كثيرا من أسبابها التاريخية والطبيعة وما نشا عن هذه المناظرة القديمة من الأدب القديمة من الأدب اللغوي والأدب الشعبي وأورد لذلك كثيرا من الأمثال والشواهد والأشعار التي ترجمتها وشرحها بدقة ومهارة مستندا بذلك إلى كثير من الحادثات التاريخية في هاتين المدينتين القديمتين. والأستاذ غولميه ما برح يعالج وصف الجماعات الحموية منذ سنوات حتى أصبح خبيرا بشؤونها عارفا بكثير من الدقائق التي تفوت سكان مدينة أبي الفداء أنفسهم ولعل بحثه هذا هو احد فصول الكتاب القيم الذي ما برح يعمل في إعداده وتحريره منذ خمس سنوات. وفي مجموعة المعهد الافرنسي الجديدة، غير ما ذكرناه من المقالات والأبحاث الشرقية، فصول كثيرة ممتعة يجدر بالشرقيين عامة والسوريين خاصة وكذلك بكل من يهتم بشؤون سورية والشرق من الغربين الاطلاع عليه ودرسها درسا وافيا. . بوم شوقي بفاس لست أدري هل من المناسب أو اللياقة أن تقتصر حفلات التأبين على أن يكيل الخطباء المدح للمؤبن وتنهمر دموعهم على وفاته، أم إن واجبهم يحفزهم على أن يجاهروا بالحقيقة مهما كانت قاسية لا تتفق ورهبة الموت في نظر السذج، لست ادري ذلك وإنما الذي أراه أن اغلب المؤبنين يتخذون جلال الموت ذريعة لتناسي النقائص والإشادة بالفضائل. على أن المجتمع الأدبي العربي اليوم بدأ يتوفق لنبذ المبالغات (الاتباعية) التي كانت تزف إلى كل ميت فأصبحت خطب التأبين شبه تحليل لمحاسن المتوفى. فلقد توفى الله حافظا فلم تكسف الشمس ولم تزلزل الأرض في خطب تأبينه، وتوفي أمير الشعراء (شوقي) فرن الأسى في جميع البلدان الناطقة بالضاد دون أن تنقلب العوالم أو يتوقف سير المجموعة الشمسية في تلك المراثي التي نظمها شعراء العرب، بل لقد عبر الشاعر عن حزن خامره وخامر أمته لفقد شخصية كانت تغذي عاطفة العربي وهو يكافح عوادي الطبيعة ومظالم أخيه الإنسان التي شملت جل مظاهر الحياة. إن في تلك المظاهرات الأدبية التي أقيمت لتأبين شوقي في كل البلاد العربية مغزى جميلا طالما رمى إليه شاعرنا في قصائده، وبلاد مراكش ساهمت في تلك الحقيقة الكبرى الدالة

على ارتباط الأمم العربية الفكري واتحادها في مثلها الأدبية فيبدي اليوم مجموعة تتضمن قصائد وخطبا ألقيت في حفلة تأبين شاعرنا شوقي (بفاس) (بجامعة القرويين) فلقد اجتمع يوم الأربعين لوفاة شوقي نخبة من أدباء مراكش وتباروا في استعراض ما امتاز به شعر الفقيد من محاسن، بل ربما مادت الأرض ووقعت السماء في كلام بعض الخطباء. . . لست بصدد نقد هذه المجموعة وإنما حسبي أن أشير إلى ذلك المغزى حيث أوضحت تلك النخبة من أدباء مراكش أن الشعر أو بالأحرى الأدب يربط بلادهم النائية بهذا الوسط الأدبي العربي وإنهم يتذوقون ما تخرجه عقول المفكرين في الشرق العربي بل إنهم لا يقوون أن ينقدوه ويحللوه في غير حرج. فلقد استعرض شاعرنا الشباب المغربي في قصيدته بهذه المجموعة مجمل مبادئ شوقي وأوضح في مقدمه المجموعة سبب شهرة الفقيد بينما غيره من الشعراء كحافظ المرحوم وغيره الذين لا ينقصون شاعرية عن المحتفى بتأبينه لا تتعدى شهرتهم الجمرة الأدبية إلى تغني أفراد العامة بشعرهم. وقام خطيب آخر فتكلم عن حياة شوقي ومنزلته الأدبية وعبقريته الخالدة مما ينير طريق تفهم روح شوقي الذي ليس لهم به كبير اتصال وهكذا جل الخطباء. فلينقد أدباء العربية هذه المجموعة فيكون نقدهم باعثا ومشجعا لا بناء المغرب الأقصى على الحرص في تمكين اتصالهم أبناء العروبة والارتواء من فيض الأدب العربي لمجموع الناطقين بالضاد. دمشق: (مراكش) دائرة المعارف الإسلامية منذ أكثر من عشرين سنة عزمت طائفة من كبار المستشرقين على تأليف دائرة معرف إسلامية تبحث في جغرافية بلاد الإسلام وأصول شعوبها وتراجم مشاهير الأمة الإسلامية وتاريخ دولها وحضارتها وعمرانها وعلومها وفرقها ومذاهبها وما إلى ذلك من الموضوعات التي تتناولها دوائر المعارف عادة. ورأوا أن تكتب بثلاث لغات الافرنسية والانكليزية والألمانية لكل لغة نسخة لا تختلف عن البقية من حيث المادة في شيء. فصدر المجلد

الأول سنة 1913 في 1085 صفحة يبدأ بحرف وينتهي بحرف كما تصدر المجلات أجزاء متتالية. وصدر المجلد الثاني سنة 1927 في 1175 صفحة يبدأ بحرف وينتهي بحرف أما المجلد الثالث يبدأ بحرف والمجلد الرابع يبدأ بحرف فما زالت أجزاؤهما تصدر متواترة معا. وآخر ما صدر من المجلد الثالث جزء رقم أولى صفحاته 641 وآخرها 704 وأهم ما ورد فيه من المواد: (محمد - صلى الله عليه وسلم - ومحمد بن طفج الإخشيد مؤسس الأسرة الإخشيدية في مصر ومحمد عبده ومحمد علي باشا رأس الأسرة المالكة في مصر) وآخر ما صدر من المجلد الرابع جزء رقم أولى صفحاته 1073 وآخرها 1136 وأهم ما ورد فيه من المواد: (وبار ووهابية ووحي ووقف وواصل بن عطاء). ويتولى رئاسة تحرير هذه الدائرة الآن الأساتذة المستشرقون: هو تسماووينسينك وجيب وهيفنتيك وليفي بروفينسال. ويكتب بها عدد غير قليل من عمدة المستشرقين وبعض علماء الشرق وتكون كل مادة مذيلة باسم كاتبها. فيا حبذا لو ترجمت هذه الدائرة إلى العربية فإنها اجل عمل قام بع الغرب نحو الشرق الإسلامي خ. م الشعار الإسلامي الغربيون، واخص بالذكر منهم الانكليز، محبون للعمل المجهد الذي يتطلب درسا طويلا وتدقيقا زائدا فلا يقفون عند حد دراستهم لآدابهم وعلومهم وما يتعلق بهم بل يسعون بكل واسطة للوقوف على آثار جميع الشعوب. فالعنوان الذي تقرأ موضوع كتاب للمؤلف الانكليزي المؤرخ الدكتور (ل. ماير) الموجود في فلسطين دار الآثار والمحاضر في الكلية العبرية في القدس والعضو المراسل لنادي الآثار في ألمانيا. قرأت هذا الكتاب حبا بالاطلاع على مقدار ما وصل إليه الكتبة الانكليز من دراستهم لآثارنا منتظرا من المؤلف أن يحذو حذو بعض الكتاب الغربين في تفهم الأشياء الشرقية على غير وجهتها، فلم يكن لي في هذه المرة ما توهمت إذ أن الكاتب كان متيقظا متوخيا الحقائق، مطلعا على ما يهم القارئ في هذا الموضوع الهام، فجاء بحثه نزيها وافيا.

ليس بين المؤرخين العرب سوى مؤلف واحد بحث مفصلا في هذا الموضوع الهام هو القلقشندي في كتابه صبح الأعشى وقد رجع إليه المؤرخ في كثير من الحقائق واستشهد بأقواله كما رجع إلى المؤرخين الذين مروا عرضا على هذا الموضوع في مؤلفاتهم. لا يخفى أن لكل دولة من الدول الإسلامية شعارا اتخذته دون غيره لسبب أو لغير سبب ولكل مليك أو خليفة شارة خاصة يهبها للأمراء والأنصار الذين جاهدوا في ظل ملكه أو خلافته تقديرا منه لجهودهم المخلصة في سبيله وهذه الشارات بقسمها المؤلف من حيث شكلها إلى أربعة أقسام: (أولا) الشارة البسيطة وهي التي يكون منقوشا عليها رمز واحد إما رسم حيوان وفي أكثر الأحيان النسر أو رسم نوع من السلاح وفي كثير من الأحيان السيف. (ثانيا) الشارة المركبة وتقسم إلى نوعين نوع مركب من رسم متكرر لرمز واحد ونوع مركب من رسوم مختلفة لرموز مختلفة. (ثالثا) الشارة المختلطة وهي التي ترمز إلى مهنة حاملها وفي أكثر الأحيان تكون مع هذه الرموز صورة النسر. (رابعا) الشارة التي تحمل أثرا تاريخيا يدل عليها وكانت مركبة من رسوم أشياء لا من رسوم حيوانات وفي أكثرها لكأس محاط بألوان مختلفة. يمتاز هذا الكتاب بمزايا ثلاث: (أولا) سعى مؤلفه وراء الحقيقة المجردة مع الإتيان بشواهد تاريخية من مراجعها الأصلية مرفقة بالرسوم والآثار وأماكن وجودها وتاريخها وأسماء حامليها. (ثانيا) نقده الصريح للمؤلفين الغربيين الذين كتبوا في الموضوع نفسه مع البراهين القيمة التي تدل على صدق لهجته وسعة اطلاعه. (ثالثا) ما بذل للوصول إلى هذه الحقائق التاريخية المبعثرة هنا وهناك والتي لم يفكر بها عربي قبله في عصرنا هذا كل هذا إذا أضيف إلى جمال تنسيق المواضيع وسهولة اللغة واستعمال الاصطلاحات الصحيحة وتفسيرها تاما يضع الكتاب في مصاف الكتب ذات القيمة التاريخية العظيمة ويجعلنا نقدر المؤلف قدره على هذه التحفة الثمينة التي أهداها إلى قرائه فأحسن انتقاء

الهدية. معروف صعب صناعة تقنيك تأليف حسني يوسف، مصر: القاهرة (1933) وهو كتاب يبحث في مختلف الصناعات والفنون بطريقة عملية سهلة يمكن لكل احد الاستفادة منها فيتعلم كيفية الطلاء الكهربائي لأنواع المعادن أو تقطير النباتات العطرية أو تركيب الصبغات والروائح العطرية أو فن التصوير الشمسي أو صناعة الزبدة والجبن والجعة أو تربية النحل ودودة القز وغير ذلك من الأعمال الصناعية المفيدة. وحبذا لو تكثر لدينا مثل هذه الكتب النافعة وينصرف إليها الشبان فيتقنون بعض الصناعات الحديثة التي تدر كثيرا من الأموال والتي نرى الأجانب قد استأثروا بها دوننا. والأزمة الاقتصادية الحاضرة تضطرنا للتفكير في جميع الوسائل لنشر الصناعات العملية والاستفادة من العلوم والاختراعات الحديثة كما نرى في كتاب السيد حسني يوسف صاحب جريدة لسان الشعب. وثمن الكتاب 25 قرشا وهو يطلب من صاحبه، المبيضة بالجمالية رقم 8 بمصر. البيت السوري تأليف (ر، تومان) مؤلف هذه الرسالة هو (ر. تومان) صاحب كتاب تاريخ سوريا وصف فيه البيت السوري في مناطق حوران والغوطة والقلمون مع بعض الرسوم التي تدل على اختلاف طراز البناء باختلاف الناحية الجغرافية. وفي الحق أن البيت كما قال الأستاذ (جان بروهن) أشبه بالنبات وهو يختلف باختلاف الإقليم ويدل على الحالة الاجتماعية. فإذا كانت البلاد آمنة مطمئنة تفرقت المساكن وتباعدت وإذا كانت قليلة الأمن تجمع الناس حول مركز واحد وبنوا مساكنهم فيه ليدفعوا عن أنفسهم عند الحاجة.

وقد وصف الموسيو (تومان) الإقليم السوري وما فيه من مواد البناء وقسم البيوت بحسب مواد بنائها إلى بيوت من تراب وبيوت من حجارة كلسية وبيوت من حجارة بركانية ثم اتبع ذلك كله بوصف موجز لمخطط البيت السوري وأشكاله واختلافها بحسب ثروة العائلات وختم الكتاب بزينة البيوت وبين كيف يستعمل الفلاحون التراب في زينة البيوت الداخلية. وقد جاءت الرسالة في 29 صفحة من القطع الكبير يضاف اليها35 صفحة من الصور الجميلة التي تزيد قفي قيمة الرسالة وتحبب مطالعتها للقراء. وكنا نود لو أسهب المؤلف قليلا في وصف مخطط البيت السوري ونشأته مع بيان آثار القدماء فيه كتأثير الفرس والرومانيين والبيزنطيين والعرب. وكنا نود أيضا لو احتوت الرسالة على بعض المراجع - ولعل المؤلف لم يشأ أن يبحث في البيت السوري بحثا تاريخيا بل اكتفى ببحث جغرافي ذكر فيه حالة البيت السوري الحاضرة وتركيب مواده وأشكاله وتأثير الإقليم فيه. ج. ص

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب شهداء الطب من التجارب القديمة المعروفة أن كثيرا من السموم، إذا اخذ منها كميات صغيرة، تصبح دواء شافيا. وقد حاول الأطباء منذ العصور الأولى التحقق من ذلك بتجربة السموم على أنفسهم. وإذ كان الملوك قديما يخافون دائما من خطر التسمم فقد كانوا يطلبون من الأطباء في قصورهم أن يخترعوا سموما مضادة يجربونها بأنفسهم فيتناولون كمية لا يستهان بها من السموم ليبرهنوا على إمكان حصول المناعة. وقد كان الملك (ميتريداتيس) يأمر بإجراء مثل هذه التجارب الخطرة على غيره ليتوصل إلى معرفة أنواع الترياق التي يصون بها نفسه. وهذا الترياق المعروف باسم (ميتريدات) ظل حتى القرن الثامن عشر يستخدم ضد سموم الأفاعي ويقال إنه يحتوي على دم إوز جربن فيها السموم واكتسبت المناعة وبما أن بعض السموم لا يمكن فحصها إلا في الإنسان فقد كانوا يستخدمون الأسرى والمجرمين والمحكوم عليهم بالإعدام ليقوموا غير مختارين، بمهمة (شهداء الطب). وكثيرا ما كانوا في مثل هذه الحالات الخطرة يجربون سموما شديدة الفعل ودون اتخاذ شيء من التدابير الاحتياطية ولذلك فان عاقبة هؤلاء المساكين كانت دائما الموت بالسم عوضا عن المشنقة أو السيف وكذلك كانوا يستخدمون المجرمين للقيام بالتجاريب الجراحية الخطرة، فانه في سنة 1731 قاموا بعملية إزالة الغشاء الطبلي من أذن احد المحكوم عليهم بالإعدام لمعرفة فيما إذا كانت ذلك يسبب الصم أم لا. وبهذه التجربة، التي كان خطرها محدودا بالنسبة، تخلص هذا المجرم من الموت. ولم يرض لويس الرابع عشر، الذي كان يشكو من مرض في أمعائه، أن يقوم الأطباء بعملية جراحية له إلا بعد تجربة هذه العملية نفسها في عدة مجرمين ونجاحها فيهم نجاحا تاما. وفي العصور المتأخرة التي لا تسمح بمثل هذا التعدي على أرواح البشر قد اضطر الأطباء للقيام بكثير من التجارب على أنفسهم رغم علمهم بأن العاقبة ستكون وخيمة عليهم في

معظم الحالات. فان العالم الكبير في التشريح (فزاليوس) ثم (ميخائيل سروت) الذي كان أول من عرف دوران الدم بين الرئتين والقلب قد ذهبا ضحية لظلم محاكم التفتيش التي كانت تعتبر دراسة الجسم الإنساني من بدع الكفار. على أن شهداء الطب بالمعنى الصحيح ليسوا هم الذين علقوا على المشانق أو حرقوا بالنيران بسبب جهل الحكام وتعصبهم بل الذين تقدموا إلى الموت في سبيل مكافحة الأمراض السارية في العصور الحديثة. فان الأطباء الذين يعالجون المصابين بالوباء أو الكوليرا أو المالاريا أو التيفوس إنما يخاطرون بأنفسهم مختارين لأجل كشف أسرار هذه الأمراض ومعرفة أسبابها المجهولة. وفي أواخر القرن الماضي، لما قام الطبيب (نوت ناغل) بمخبره في (فينا) بفحص الوباء أصيب اثنان من المستخدمين بهذا المرض فلم يمنع ذلك معاونه الدكتور (هرمان موللر) من زيارتهما في حجرتهما حيث أصيب هو أيضا بالوباء ومات على الأثر. والباحثون ذوو الإقدام من الأطباء مثل (نوت ناغل) أو (بيتنقوفر) كانوا لا يجدون في طريقهم إلا العراقيل التي تدفعهم إلى الموت دفعا. ومن هؤلاء الأطباء (جينر) الانكليزي الذي اخترع طعم الجدري والذي يعد من اكبر خدام الإنسانية فانه طول حياته عرضة للاضطهاد ولما اخترعت أشعة (رونتكن) التي كشفت لنا القناع عن كثير من الأمراض - عدا الاستفادة منها هي نفسها كدواء - ذهب عدد كبير من الباحثين ضحية في سبيل معرفة خواصها وأسرارها. فان فحص هذه الأشعة كان في أول الأمر محفوفا بالأخطار وقد أصيب الكثيرون من الذين اشتغلوا بها بمختلف الأمراض والعاهات. وكذلك فان عددا كبيرا من الأطباء الذين قاموا بتجربة الوسائل المختلفة على أنفسهم لمعرفة أنواع (التبنيج) الصالحة قد ماتوا شهداء في سبيل علم الطب. . . الأدب والأخلاق تعرض الكاتب الطلياني (آدريانوا تيلغر) في احد مباحثه الأخيرة للبحث في علاقة الأدب بالأخلاق فقال: إن العامل الأخلاقي هو العامل الوحيد الذي يقوم عليه نظام الحياة البشرية.

وهذه الحياة تبقى فوضى إذا لم تكن هناك مقاييس أخلاقية تبين لنا إن هذه العاطفة شريفة وذاك الشعور ساقط وذلك الإحساس حسن وهذا قبيح. وبذلك يتم ترتيب الكون ونظامه. ورجال الفن والأدب يجب إلا تغرب عنهم هذه الحقيقة. ولكن ليس معنى ذلك إن هؤلاء أن يصفوا الأشخاص الذين يتكلمون عنهم بالحسن أو القبح. بل إنما يتحتم عليهم أن يظهروا في آثارهم ما يسيطر على أرواح هؤلاء الأشخاص من عوامل الخبر أو الشر ثم ما ينتج عن هذه العوامل من أفعال تقابلها وتلازمها. وكل أثر أدبي لو فني لا صلة للعوامل الأخلاقية به لا يمكن أن يبدع عالما كاملا مستقلا ولو اشتمل من جهة أخرى على مظاهر الحياة وأجاد في وصفها. فان هذه الحياة تبقى دائما مشوشة تعتروها الفوضى إذا خلت من الأسس الأخلاقية. وقيمة رجل الأدب والفن تظهر في مقدرته على إبداع عالم كامل يقوم على نظام وترتيب. وبقدر ما يكون هذا العالم بارزا، واضحا تزداد عظمة الآثار الفنية والأدبية التي يجب أن تمثل لنا النظام في الكون وتتعرض إلى المعضلات البشرية الكبرى ولو من الوجهة السلبية فقط. إذن، فان مطالبة رجال الأدب والفن بالاهتمام بالأخلاق ليس معناه محاولة تقييدهم بقانون لم يسن لأجلهم بل إنما يقصد منه تذكير بان الإبداع الفني والأدبي لا يمكن أن يبلغ الكمال إلا إذا استطاعوا التعبير عن تأثير العوامل والمقاييس الأخلاقية في آثارهم. . . الفن والسياسة ألمانيا الدامية يحاول أنصار هيتلر في ألمانيا أن يستفيدوا من السينما أيضا في سبيل الدعاية الوطنية. وقد عرض الآن في برلين (فيلم) يرمي إلى الدفاع عن الحكم الجديد. واسم هذا الشريط ألمانيا الدامية وهو عبارة عن صور تاريخية تمثل الحالة في ألمانيا قبل الحرب وفي أثناء الحرب ثم بعدها. وفي الصور الأولى يظهر عهد غيلوم الثاني قبل الحرب كأنه من العصور الزاهرة السعيدة، ويسعى الفيلم بعد ذلك لتصوير انتصارات الجيوش الألمانية أثناء الحرب ثم توقفها فجأة بسبب خيانة الثوار الاشتراكيين الذين رضوا في معاهدة (فرسايل) بالتنازل عن البلاد إلى الحلفاء.

ويرى الناظرون على الشريط المتحرك خارطة ألمانيا قبل الحرب وبعدها وكيف إن الأيدي امتدت إليها من كل جانب للاغتصاب والنهب وتقطيع أوصالها: ففي (سيليزيا العليا) نرى البولونيين المسلحين يطردون السكان الألمان العزل من بيوتهم. وفي حوضة (الرور) ترابط الجنود السنغالية مع الدبابات الافرنسية. وتقابل إحدى الصور بين الجيش الألماني الصغير وبين جيوش الأمم الأخرى العظيمة. وأخيرا يمثل (الفيلم) حركة هيتلر كيف نشأت في بادئ الأمر واستطاعت تأليف كتائب منتظمة تقوم بالتمارين الحربية والاستعراضات العسكرية وهي تنشد الأناشيد الوطنية الحماسية. وتختم هذه الصور باستيلاء هيتلر على الحكم ونجاح حزبه في انتخابات 5 آذار 1933 ذلك النجاح الباهر. . . النجوم السيارة الصغيرة في النشرة التي يصدرها معهد الرصد الألماني يبلغ عدد النجوم السيارة الصغيرة التي أحصيت حتى سنة 1933 وتحقق العلم من وجودها نهائيا (1. 223) أي بزيادة (40) عن السنة الماضية. وقد ذكر النجم السيار الذي اكتشفه (دلبورت) قبل سنة، والذي يبعد عن الأرض بما يقارب (10) ملايين ميلا تحت رقم (1. 223). أدنى درجة للبرودة بينما نستطيع اليوم في المخابر الحصول على برودة صناعية تنزل إلى (2720) درجة سانتيغراد تحت الصفر نرى أن أدنى درجة للبرودة أمكن ملاحظتها في الهواء الطبيعي من سطح الأرض لا تبلغ أكثر من (100) درجة بمقياس (فارنهايت) وكذلك على جبال (ماك كينلاي) في شبه جزيرة (آلاسكا). شجرة تدر حليبا أكتشف العالم الأميركي (ج. ريقورد) في بلاد (غواتيمالا) بأمريكا الوسطى نوعا جديدا من الشجر الذي يدر حليبا. وقد كانت المصادفة هي التي ساقت هذا العالم إلى التقرب من هذه الشجرة فرأى مائعا يسيل منها شبيها بالحليب ولم يستطع منع نفسه من تناول شيء قليل منه لمعرفة مذاقه فوجده حلو الطعم لطيفا.

وسكان البلاد الأصليين يعرفون هذه الشجرة من القديم ويسمونها (شجرة الحليب). وهم يستعملون هذا الحليب كدواء يشفي من أمراض المعدة. التعليم الثانوي في فرانسا صادق مجلس النواب الافرنسي أخيرا على قانون جديد ينص على جعل التعليم في المدارس الثانوية مجانيا بصورة مطلقة. إن معظم المعارف في الجمهورية الثالثة في فرنسة هو (جول فري) وقد جعل التعليم بالاتفاق مع مساعدة المربي (فردينان بويسون) مجانيا منذ أواخر القرن التاسع عشر فصارت المعارف خاضعة بذلك إلى ثلاثة مبادئ 1 - المبدأ الأول هو أن التعليم إجباري 2 - والمبدأ الثاني هو مجانية التعليم. 3 - والمبدأ الثالث هو المبدأ العلماني وهذه المبادئ الثلاثة متلازمة لا يستغنى احدها عن الآخر فإذا جعلت التعليم إجباريا اضطررت إلى جعله مجانيا لأنه قد يوجد في الوالدين من لا يستطيع أن يعلم أولاده على نفقته، وإذا جعلته إجباريا ومجانيا وجب عليك أن تجعله أيضا علمانيا لان مدرسة الأمة هي مدرسة جميع الأديان لا مدرسة طائفة دون غيرها. وقد كان التعليم في فرانسا مجانيا في المدارس الابتدائية فقط ولم تتمكن حكومة من الحكومات من جعله مجانيا في المدارس الثانوية قبل هذه الأيام الأخيرة فقد حاول الموسيو هريو أثناء وزارته الأولى في سنة 1924 أن يجعل التعليم مجانيا في المدارس الثانوية أيضا إلا انه لم يوفق إلى ذلك ولم تزل هذه الفكرة تنمو في رجال الحزب الراديكالي حتى توصلت الحكومة في الحادي عشر من شهر نيسان المنصرم إلى حمل مجلس النواب على تصديق المادة السادسة والعشرين من القانون المالي وهي تجعل التحصيل الثانوي في جميع الصفوف مجانيا. إصلاح التعليم في روسيا أعادت حكومة السوفيت النظر في قرار كان صدر سنة 1918 يقضي بإلغاء تعليم اللغات القديمة في جميع المدارس الثانوية. وقد رأت الحكومة الآن أن فهم الاصطلاحات العلمية يتوقف على معرفة هذه اللغات فقررت إعادة تدريس اللغتين اللاتينية واليونانية في المدارس الثانوية ولكن ضمن نطاق محصور فلا يتعدى المبادئ الأولية ولا تزيد الدروس

عن ساعات محدودة في السنة. معلمة أفرنسية جديدة كانت الحكومة الافرنسية قررت قبل أشهر إصدار (معلمة) انسكلوبيدا للقرن العشرين أسوة بايطاليا وروسيا اللتين سبقتا غيرها من الأمم في هذا المضمار. وقد عهدت حكومة باريس إلى لجنة كبار العلماء للقيام بهذه المهمة الجليلة. وبين أعضاء اللجنة كثير من المشاهير مثل: لانجوين وجاك هادامون، وليفي برول، وبول بانليفة واتيهن رابو وغيرهم. وسيصدر أول جزء من المعلمة الجديدة في سنة 1934 القادمة. حيوان ذو قلبين توصل الموسيو (اتيه ن فولف) لإيجاد طريقة يمكن بها تقسيم قلب بعض الطيور إلى قسمين وذلك بحرق السطح الخارجي من الرشيم بالكهرباء بين الساعة الخامسة عشرة والساعة العشرين من زمن التفريخ إذ تكون التشكيلات العضوية لا تزال ظاهرة على سطح الحجيرة فيفصل القلب على هذه الصورة إلى نصفين مستقلين كل منهما قائم بذاته أي متسق الضربات مع الآخر ولا شك في انه سيكون لنتائج هذه التجربة شأن عظيم في عالم الفيسيولوجياء والطب. دارسونفال احتفلت جامعة باريز في السابع والعشرين من هذا الشهر بمرور ثلاثة وثمانين عاما على ولادة العالم الكبير الأستاذ (دارسونفال) ولد العالم (دارسونفال) في (بوري) من مقاطعة (فينا) العالية من أعمال فرانسه سنة 1851 ثم تتلمذ لكلوردبرنارد وصار مساعدا له وحصل على شهادة الدو كتواراه في الطب سنة 1876. ثم عين مدبرا لمختبر الحكمة الحيوية في كلية فرنسة بباريز سنة 1878 وهو عضو المجمع الطبي الفرنسي منذ 1888 وعضو المجمع العلمي منذ 1894. ولهذا العالم الفذ اكتشافات عديدة منها الغالفانومترو والتلفون المستند إلى المغنطيس والكهرباء وبعض مباحث في الحرارة الحيوانية وهو الذي برهن على أن الجسد آلة كهربائية وله مباحث في المعادل الميكانيكية للحرارة والتيار الكهربائي وغير

ذلك من المواضيع التي لا يمكن ذكرها هنا. وقد نشر أكثر آثاره واكتشافاته في مجلة المجمع العلمي الافرنسي. فالصوربون تكرم فيه برئاسة رئيس جمهورية فرنسة عالما ضحى حياته كلها في سبيل العلم والإنسانية. موت شاعرين كبيرين أضاعت اسبانيا في الشهر الماضي شاعرين من أعاظم شعرائها: احدهما (سالفادور رويدا) والثاني (جون بوفيل ماتس). فقد ولد الشاعر (سالفادور رويدا) في مدينة (بناك) سنة 1857 ونشأ قلقا فقيرا مضطرب الحياة حتى جرب كسب معاشه بوجود مختلفة فحاول أن يكون حراثا وخبازا ثم طرق باب الصحافة واخذ ينظم أشعاره الرقيقة حتى ارتفع شيئا فشيئا إلى صف الشعراء الخالدين، جمع لشعره في ديوانه المسمى أميركا الجنوبية. أما الشاعر (جون بوفيل ماتس) فقد كان يوقع أشعاره باسمه المستعار (كنرو) وديوانه يقع في ستة مجلدات لم تعرف اسبانيا من فبل شاعرا رقيق المعاني ساحر اللفظ مثله. السينما يظهر إن الأفلام الناطقة الافرنسية في حالة يرثى لها من الانحطاط وقلة الإنتاج ولو كان إنتاج هذه الصناعة جيدا من حيث الكيفية لكانت خسارة المسارح بقلة الروايات الفرنسية لا تعوض. إلا إن الأفلام الافرنسية تتأخر كل يوم فبينما تجد أميركا تنتج لنا روايات مثل رواية ورواية تجد فرانسة لا تصدر إلا صورا من (الفودفيل) التي ليس فيها شيء من القوة والإبداع. نعم أن رواية تضاهي أعظم أفلام العالم جمالا ألا أن الروايات الأخيرة مثل رواية أودعك زوجتي ورواية رجلا السيدة، تافهة جدا من حيث غاياتها ومواضيعها وقيمتها الأدبية. وهكذا فقد صار الأدباء الافرنسيون يخشون أن ينحط الأدب الافرنسي عن طريق الفلم الناطق وقد أعرب كثيرون منهم عن آرائهم في المجلات والجرائد قائلين يجب أن يكون الفلم الافرنسي ساميا في مواضعه وغاياته كالأدب

الافرنسي. ولست تجد في أكثر الأفلام الناطقة الافرنسية سعيا لغاية وطنية فبينا الألمان يضعون كالروسيين روايات للدعاية الهتلرية أو الشيوعية قلما تجد في الأفلام الافرنسية غاية غير اللذة وأضاعت الوقت. الصحافة في الصين نشرت مجلة الأمة في بونس ايرس مقالا للكاتب (اشابار) عن صحافة الصين جاء فيه أن الصحافة في بلاد الصين قديمة جدا يرجع أصلها إلى عهد اختراع الطباعة بالصين. وأول جريدة ظهرت في بلاد الصين هي جريدة (تسينغ باو) ومعناها أخبار العاصمة. وقد جاء ذكر هذه الجريدة في احد كتب التاريخ القديمة التي يرجع عهدها إلى القرن الثامن قبل المسيح. إذن فالصحافة في الصين قديمة جدا، ولكن بالرغم من قدمها فإنها لم ترتق إلا بعد سنة 1833 حينما اخذ الصينيون يتصلون بالأوروبيين وقد تقدمت الصحافة في الصين بعد سنة 1895 بمناسبة حرب اليابان وازداد عدد الجرائد من 7 إلى 19. والجرائد الصينية لا تختلف عن غيرها من جرائد العالم من حيث تشويه الحقيقة وتبديل الحوادث ولعلها أكثر جرائد العالم كذبا. فكانت تخبر مثلا أن عدد الأسرى من اليابان بلغ 12 مليونا في حين أن الجيش الياباني كله لم يتجاوز 100 ألف محارب. ولا تقتصر الجرائد الصينية على هذه المبالغة في رواية الإخبار بل تتعرض للأشخاص وتنال من أعراضهم وتشتمهم ولذلك كثيرا ما يعتمد الحكام إلى تعطيل الصحف وتأديب الصحافيين. فقد اصدر الإمبراطور في سنة 1888 مرسوما جاء فيه: لما كانت الجرائد لا تهتم إلا بتهيج الرأي العام وتشويش النظام وكان أصحابها من المنتسبين للأدب فقد أمرنا بتعطيل كل الجرائد في جميع أنحاء الإمبراطورية - ولكن هذا التعطيل لم يستمر زمنا طويلا بل عادت الجرائد إلى الظهور بعد ثورة 1911 وازداد عدد الجرائد بصورة عجيبة جدا. وتكون الجرائد الصينية في الغالب مؤلفة من أربع صفحات وقد تبلغ ثماني صفحات بصورة استثنائية. ولعل قلة صفحات الجرائد الصينية ناشئة عن صعوبة الطباعة. فالصينيون يستعملون

الإشارات في لغتهم للدلالة على الأفكار فكل إشارة تدل على معنى لا على حرف وهذا ما يجعل عدد الإشارات المستعملة في المطابع محدودة. وكلما ارتقت مرتبة الجريدة ازداد عدد الإشارات المستعملة فيها لأنها متناسبة مع المعاني، حتى أن الكتاب لا يستطيعون أن ينشروا مقالاتهم في جميع الجرائد لفقدان الإشارات اللازمة لتصوير معانيهم فيضطرون إلى الاقتصار على عدد معين من الألفاظ أو تخصيص مقالهم بجريدة دون أخرى. وبالرغم من أن الحكومة الجمهورية قد أعادت للجرائد حريتها فانك تجد حكام المقاطعات لا يزالون يستبدون بالصحافيين فيعطلون الصحف ويزجون بأصحابها في أعماق السجون. فقد كانت معاملة المارشال (تشانغ - تسه - لينغ) للصحف قاسية جدا. وجرى ولده (شانغ همسوه لينغ) على منواله. وليس الرؤساء الأحرار اقل قسوة على الجرائد من الحكام المستبدين. قال المسيو (اشابار) صاحب هذا المقال بينما كنت في بكين منذ خمس سنوات مديرا لإحدى الجرائد الصينية جاء رسول الجنرال (فنغ - بو - هسبانغ) حاكم بكين وطلب من صاحب المطبعة أن يقال الجنرال الحاكم فذهب معه ولم يمض ساعة حتى أعيد إلى إدارة الجريدة مقتولا وقد قطعت أعضاؤه ووضعت في تابوت صغير. نعم أن القوانين تحمي الأجانب من الوقوع في براثن الحكام إلا انه لم تخلص صديقي ورئيس المسيو (سيمسون) من القتل. فقد قتله ثلاثة من الصينيين في بيته ولم يكشف القضاء عنهم حتى الآن. نسبة عدد الذكور إلى الإناث تدل مباحث العلماء على إن نسبة عدد الذكور إلى الإناث ليست ناشئة عن المصادفة والاتفاق بل هي خاضعة لقانون طبيعي فقد أثبتت الاحصاآت أن عدد الذكور في البلاد المتمدنة يزداد بصورة تدريجية فيقابل كل 100 فتاة 106 صبيان إلا أن هذه النسبة لا تنطبق على فرانسة لان عدد الذكور فيها أميل إلى التناقص منه إلى الزيادة. ولا شك أن نسبة المواليد تابعة أيضا للشروط الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر في صحة الوالدين ومن اغرب ما دلت عليه الاحصاآت أيضا أن عدد الصبيان قد ازداد أثناء الحرب العامة في الممالك المتحاربة وقد ازداد أثناء الحروب السابقة، حتى زعم (ف. سارفونيان) إن

زيادة عدد المواليد في الذكور ناشئة عن غياب الأزواج الطويل، كأن الطبيعة تريد أن تبلغ غايتها فإذا مات الذكور في الحرب صارت مواليد الصبيان أكثر من مواليد البنات. تثبيت حركات القلب والرئتين على الشريط السينمائي اخترع العالم الفيزيائي الألماني المشهور (مانفريد) بالاتفاق مع الدكتور (بره نينه) آلة غربية يمكن بواسطتها تسجيل جميع حركات القلب والرئتين بكل دقة. وذلك بتحويل الأصوات الناجمة عن حركات هذه الأعضاء إلى أشعة تثبت على الشريط سينمائي. وهذا الشريط الذي تظهر عليه أقل التقلبات في نظام حركات القلب والرئتين يساعد الأطباء مساعدة كبرى في فحوصهم وتشخيصهم الأمراض ومعرفة الأحوال غير الطبيعية. شارل اندلر مات في باريس في السابعة والستين من العمر الكاتب والمؤرخ الافرنسي المشهور شارل آندلر بعد مرض طويل. وقد نال (آندلر) شهرة واسعة في عالم الأدب بكتابه القيم عن الفيلسوف الألماني الكبير (نيتشه). وكذلك مباحثه كلها تدور حول الحياة الألمانية التي سعى لتحليلها وشرحها لأبناء أمته حتى أصبح يعتبر من اكبر الأخصائيين في المسائل الجرمانية بفرنسا سواء من الوجهة اللغوية أو الفلسفية أو الأدبية وله من الآثار المعروفة مجموعة دراسات قيمة عن التطور ألمانيا السياسي تبحث في أصول الاشتراكية الحكومية في ألمانيا والبيان الشيوعي (لكارل ماركس) ورفيقة (انكلس) وفي بسمارك ثم كتاب عن ضعف الاشتراكية السياسية في ألمانيا وأخيرا أربع مجلدات عن فكرة الجامعة الجرمانية. وقد كان (آندلر) بدأ حياته في سلك التعليم وعين فيما بعد أستاذا في كلية فرنسا (كوليج دوفرانس). اللحم المطبوخ واللحم النيئ تعرض العالم الفرنسي الكبير (شارل ريشة) في إحدى مقالاته الطبية إلى أهمية (الفيتامين) في المواد الغذائية. ثم تكلم (ريشة) عن تجارب متكررة قام بها بنفسه وتأكد من صحتها وهي أن الكلاب التي يقتصر في إطعامها على اللحوم المطبوخة الناضجة وحدها تموت بعد

شهر ونصف أو ثلاثة أشهر على الأكثر. ويظهر على الكلاب في أول الأمر إنها لا ترغب في هذه اللحوم الناضجة إلا إنها تعتادها بالاستمرار. وأما الكلاب التي تطعم اللحوم النيئة في حالتها الطبيعية فتتحسن حالتها الصحية تحسنا ظاهرا فتسمن ويزداد شعرها لمعانا وتنشط للحركة والنضال واللعب. ومن هذه التجارب يتبين بصورة محققة أن اللحم النيئ يفضل على اللحم الناضج في التغذية. وقد ثبتت فائدة اللحم غير الناضج في مداواة السل وغيره من الأمراض. السياسة السرية اخرج المسيو روبرت غراف كتابا غزير المادة، حاويا مثيرا من الأسرار التي تدور حول حياة الكولونيل لورانس. وقد انشأ بهذه المناسبة مسيو (بيير دومينيك) مقالا في جريدة الأخبار الأدبية تحدث فيه عن السياسة السرية التي تبني وتهدم الممالك، وعن الأشخاص الذين يقومون بالأعمال العظيمة دون أن يدري بها الناس. ومن جملة ما قال: إن الكثيرين من الناس وهم يطالعون صحفهم كل يوم يحسبون أنهم يعرفون كل شيء وكذلك معظم رجال السياسية والوزراء والصحافيين والكتاب، والحق إنهم لا يعرفون من الأمور سوى ظاهرها إن المملكة الانكليزية من صنيع طائفة من المخاطرين المغرمين بالإسفار الذين ليسوا على شيء من الثقافة ومع ذلك فقد كانوا ولا يزالون جادين وراء الغابات البعيدة فلا يفارقون الحياة إلا وقد وضعوا حجرا أساسيا في بناء مملكتهم وكذلك كانت حكومات فرنسا واسبانيا وهولندا والبرتغال، فجميعها يرجع الفضل فيما بلغت إليه من السلطان إلى جماعة من المخاطرين أسدل النسيان ستاره على كثير منهم ومع ذلك فقد كانوا من أحسن رجال السياسة. مثل (ارماك) الذي ضم سبيريا إلى روسيا. وهناك أيضا بعض أشخاص أمثال بونابرت في مصر، ودوبلكس في الهند، وسسيل في افريقية الجنوبية - فهؤلاء أيضا مخاطرون ولكن مخاطرتهم ممزوجة بالعبقرية ولذلك كانوا يتعلقون بأهداب غابة فلا ينفكون عنها. وهناك أيضا من كانوا على الضد، تجد حياتهم متسربلة بنوع من الإلهام طالما رفعهم للقيام

بمخاطرات كأنها خيالية أو فلسفته. ولذا كانوا لا يخطبون ود الشهرة ويضحون، لا يهتمون إلا بإشباع سرورهم في النجاح. ومن هؤلاء (الأب جوزيف) و (اييون). أما الرجل الذي لم نسمع بمثله فيما مضى فهو الكولونيل لورانس. هذا الرجل الذي يظهر انه اخفق في أول عمل قام به وهو السعي لتأسيس مملكة عربية تسهل لانكلتره أن تصل بين مصر والهند. ورغم أن هذه الفكرة لم يتحقق إلا نصفها فان لورانس قد تمكن من إيجاد ثورة أفغانستان وتحطم عرش أمان الله، وهو لا يزال اليوم يسعى في ظلام الليل وراء غايات عديدة سيكشف لنا الزمان عنها.

عمل الجماعات في سورية

عمل الجماعات في سورية لقد أصبح من المعروف حتى بين عامة الناس في سورية أن كل عمل تقوم به جماعة أو شركة أو رهط من السوريين مصيره في الغالب إلى الفشل ومن المعروف أيضا أن اكبر أعمال وأعظم المشاريع في الغرب قل أن يقوم بها إلا جماعة اشتراك أفرادها في العمل واتحدوا عليه سواء كانت تلك الأعمال صناعية أو تجارية أو سياسية. ويتساءل الناس كثيرا عن السر في عدم نجاح عمل الجماعات في سورية تساؤلا جدليا قل من ينصرف فيه إلى التحليل والدرس على الطريق الاستقراء والاستنتاج. ولتحليل الحادثات الاجتماعية وتفهمها أصول لا يصح معها تفسير الظاهرة الاجتماعية بعلة واحدة والاعتماد بالبحث عن أسبابها على عامل واحد فقد تتضافر العوامل والعلل فتخلق وضعا اجتماعيا واحدا وقد تكون هذه العوامل والعلل فردية يرجع فيها إلى التحليل النفسي أو اجتماعية أصولها إلى روح الجماعات ومزاياها الخاصة وما احتفظت به من تقاليد الماضي وعرفه وأوهامه. على أن بين هذه العوامل والعلل ما هو رئيسي يعمل أضعاف أضعاف ما تعمله العوامل الأخرى في تكيف الوضع الاجتماعي وتطوره وهذه العوامل الأساسية في عدم نجاح عمل الجماعات في سورية هو ما سنتعرض لبسطه وتعليله في هذه العجالة. يتوقف نجاح العمل في الجماعات على شروط أساسية كثيرة غير وحده الغاية والمبدأ من أهمها الثقة المتبادلة بين أفرادها الجماعة والمفاداة بكثير مما تمليه الأثرة وحب الذات، وأهمها اعتقاد الفرد بإخلاص شركائه في العمل وحسن ظنه بهم وتناسبه جزءا من ذاتيته وتنازله عن شيء كثير مما يعتقده من حقوقه لإنهاض المشروع الذي ترمي إليه الجماعة قبل سعيه لتأمين ما يرمي إليه هو نفسه وتفضيله الغاية العامة على الغاية الخاصة متى تعارضت الغايتان وغير هذه من الشروط التي تتطلب في كل فرد من أفراد الجماعة شيئا من التضحية والإخلاص وسلامة القلب وشرف النفس وسمو الروح وهي صفات لا تتفق بشيء مع ما نسميه الأنانية على أن الأنانية من الوجهة العامة تكاد تكون ابرز ظاهرة من ظواهر نفسية الرجل السوري يؤيد ذلك ما يمكن الرجوع إليه من التحليل النفسي بطريقة درس ظواهر الأعمال ونتائجها. والأنانية لا تنافي الذكاء بل تؤيده وتدل عليه فالرجل السورية حديد الذكاء سريع الخاطر لكن في ذكائه شيء كثير من الخبث والدهاء وسوء الظن وعدم الثقة

بغيره وهذا ما يدعو لنجاحه منفردا بعيدا عن جماعته ويسلبه أكثر الصفات التي يقوم عليها نجاح العمل في الجماعة. وليست هذه المساوئ ناشئة عن مزاج الرجل السوري أو عن طبيعة الخاصة فهو كغيره من الرجال الأذكياء غير أن هنالك أسبابا اجتماعية عملت عملها في روحه منذ الصغر فأورثت نفسه ما أورثتها وسلبت منها ما سلبت منها ما سلبت حتى صار إلى ما هو عليه اليوم، قويا ناجحا ما دام منفردا، وضعيفا فاشلا إذا انضم إلى جماعة. نحن من المؤمنين أن أهم هذه الأسباب وأعظمها أثرا في تكييف نفسيه الرجل السوري هو النظام العائلي الذي تربينا عليه وترعرعنا في حماه وان تجارب سنوات طويلة قضيناها في درس العائلة (الزوجية) في سورية وتفهم أوضاعها أيدت لنا ذلك وجعلتنا نكاد أن نأبى الجدل فيه. تجرد عن العاطفة وحكم العقل والمنطق وأقدم على درس العائلة السورية كأنك غريب عنها. انك لا تكاد تجد من أوضاعها غير ما يورث الأنانية وحب الذات في نفس من نشأ فيها. في هذه الجماعة الصغيرة الأولى التي تقوم على دعائمها الأمة بأسرها بتلون الذكاء بلون الخشية وسوء الظن ويصير هدؤ الضمير إلى قلق وحذر فتنقلت لذة التضحية إلى حب الذات وتتلطخ طهارة النفس بادر أن الأنانية وأوساخها. من الصعب علينا أن نبسط في مقال واحد أوضاع هذه الجماعة السورية الأولى التي فيها سر كل ما نعانيه وعليها مدار إصلاحنا الاجتماعية والاقتصادي والسياسي فنبين أثرها وعواملها في تربية النفوس وتطورها لان ذلك يحتاج إلى إقامة الحجج والإدلاء بالبراهين وضرب الأمثلة الصريحة المقنعة. على إننا لا نجد مندوحة عن الإشارة هنا منذ الآن إلى أن جميع تلك الأوضاع تنشأ عن مبدأ واحد هو تحكم الرجل في شؤون المرأة والعائلة تحكما نشأ عن تقاليد قديمة فلم يعد يتفق مع ما تطلبه التربية في هذا العصر لإعداد رجال أشداء لإنجاح لهم إلا في عملهم مجتمعين وهذا ما سنفرد لبيانه وتفصيله بابا خاصا في اعدد الثقافة الآتية. كاظم الداغستاني

الشاعر

الشاعر مخلوق خالق، وروح خالدة، يصور من خفقات قلبه، وخلجات ضميره، وإبداع فكره، أشباحا ينفخ فيها من روحه فإذا هي من الخالدين ملك أو جني، هبطت روحه من عالم الغيب فتمثلت بشرا سويا، فهو مع بني الإنسان ولكنه غريب عنهم فما يزال يصيخ إلى هيمنة الملائكة في السماء، أو عزيف الجن في الصحراء ويستشف من وراء الأفق عالما نورانيا، ويتبين في الجو مسارح انسه الأولى، ومعاهد هواه القديم: لابنه الجني في الجو طلل فهو يقظان حالم، أنكر الناس أمره، وحاروا في شأنه، وقالوا شاعر أو مجنون. يأنس بالوحدة لأنه من نفسه في عالم، ويؤثر السكون ليسمع جلجلة الوحي وأصداء الأرواح، ويسكن إلى الظلام ليشاهد الرؤى والأشباح، ويغمض عينيه ليرى ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. وارحمتا له! القطرة على الزهرة دمعة على خد، والغصن حيال الغصن وقد يهفو إلى قد، والظلال أشباح والنسائم أرواح، وفي العبير عبقة من ريح أحبابه، وفي الزهر بشاشتهم، وفي البرق أشواق تشب، بل في كل ما يرى ويسمع ويتخيل معان حية يخفق لعا الشعر في قلبه، ويجيش في صدره، ويثير في نفسه هزة ترتعش لها يداه، ويقشعر جسمه فيطل الشعر من عينه دمعا، ويجري على لسانه سحرا. ما قرأ الناس من شعره إلا ما تقمص اللفظ، لان ديوانه أوسع من أن يحاط به، فمن قصائده ما يخفق في قلبه، ومنها ما يحيك في صدره، ومنها ما يتمثل في مخيلته، ومنها ما يشع في بصره، ومنها ما يفيض من عينه. لا يعرب الاعتدال في شيء، لأنه واسع الخيال، حاد الحس، سليم القلب، فإذا عبد تبتل، وإذا صبا هوى، وإذا تعفف تقشف، وإذا تنعم أسرف، يهيم في كل واد، ويسمو بأحلامه إلى السبع الشداد. نبأ من الملا الأعلى أنكره أهل الحياة الدنيا وقالوا شاعرنا أو مجنون خليل مردم بك

مائة نقلة

مائة نقلة من كتاب نقل الأديب وهو ألف نقله مقتطفة من ألف كتاب مؤلفه محمد إسعاف النشاشيبي حق الطبع والنشر ونقل شيء من هذا النقل محفوظ هدي مائة النقلة هذه إلى مجلة (الثقافة) اهدي إلينا الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي لمناسبة زيارته مجلة الثقافة مائة نقله من كتابه نقل الأديب واتبعها بطائفة من آثاره المعروفة وهي: كلمة في اللغة العربية وشاعرها الأكبر احمد شوقي، قلب عربي وعقل أوروبي، كلمة موجزة في سير العلم وسيرتنا معه، البطل الخالد صلاح الدين والشاعر الخالد احمد شوقي. فالثقافة تحيي الأديب العربي الكبير وتشكره على هديته الثمينة. 1 - هذه أنفاس ريا جلقا قال ابن الكتبي: قال بعضهم: مررت يوما ببعض شوارع القاهرة وقد ظهرت جمال، حمولها تفاح فتحي من الشام، فعبقت روائح تلك الحمول، فأكثرت التلفت لها، وكان أمامي امرأة سائرة ففطنت لما دخلني بتلك الرائحة فأومأت إلي وقالت: هذه أنفاس ريا جلقا!!! 2 - يا نسيما هب مسكا عبقا قال السلمي الدمشقي المعروف بالبديع وقد اشتهرت هذه الأبيات، وغنى بها المغنون: يا نسيما هب مسكا عبقا ... هذه أنفاس ريا جلقا كف عني، والهوى، ما زادني ... برد أنفاسك إلا حرقا ليت شعري نقضوا أحبابنا ... يا حبيب النفس ذاك الموثقا يا رياح الشوق سوقي نحوهم ... عارضا من سجد عيني غدقا وانثري عقد دموع طالما ... كان منظما بأيام اللقا 3 - زمزم الحادي وسار المثل

قال أبو الوليد بن الجنان: محمد بن الشرف من شعراء الملك (الناصر) صاحب الشام: أنا من سكر هواهم ثمل ... لا ابلي هجروا أم وصلوا فبشعري، وحديثي فيهم ... زمزم الحادي وسار المثل إن عشاق الحمى تعرفني ... والحمى يعرفني والطلل رحلوا عن ربع عيني فلذا ... أدمعي عن مقلتي ترتحل ما لها قد فارقت أوطانها ... وهي ليست لحماهم تصل؟ لا تظنوا إنني أسلو، فما ... مذهبي عن حبكم ينتقل 4 - ياعين صار الدمع عندك عادة قالت اسما العامرية: جاء الكتاب من الحبيب بأنه ... سيزورني فاستعبرت أجفاني غلب السرور علي حتى انه ... من عظم فرط مسرتي أبكاني يا عين صار الدمع عندك عادة ... تبكين في فرح وفي أحزان فستقبلي بالبشر يوم لقائه ... ودعي الدموع لليلة الهجران 5 - وكلهم لصروف الدهر أقران قال حميد بن مالك: ما بعد جلق للمرتد منزلة ... ولا كسكانها في الأرض سكان فكلهم بمجل منتزه ... وكلهم لصروف الدهر أقران وهم - وان بعدوا عني بنسبتهم ... إذا بلوتهم بالود - إخوان 6 - لم يقدر قال ابن فائد البحراني: برزت دمشق لزائري أوطانها ... من كل ناحية بوجه أزهر لو أن إنسانا تعهد أن يرى ... مغنى، خلا من نزهة، لم يقدر 7 - تغني الغريب عن الأهل قال عبد الرحيم البيساني القاضي الفاضل:

يقولون لي ماذا رأيت بشامهم ... فقلت لهم كل المكارم والفضل فبلدتهم خير البلاد وأهلها ... بإحسانهم تغنى الغريب عن الأهل 8 - هذا بلاغ للناس سئل علي بن عيسى الرماني فقيل له: لكل كتاب ترجمة، فما ترجمة كتاب الله؟ فقال: هذا بلاغ للناس ولينذروا به 9 - نزلنا عن الاكوار نمشي كرامة قال يونس بن محمد المفتي: أخبرنا أبو عبد الله بن منظور قال: لما سرنا إلى الزيارة وانتهينا إلى باب الخشبة - وهو الباب الذي يفضي إلى القبر - نزل رجل عن راحلته وانشد: نزلنا عن الاكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا فلما سمعه الناس نزلوا عن رواحلهم، ومشوا إلى القبر وتمثل هذا الرجل بهذا البيت أحسن من مدح أبي الطيب المتنبي من مدح به، وقال فيه. 10 - صدقت قال أبو الفوارس بن إسرائيل الدمشقي: كنت يوما عند السلطان صلاح الدين بن أيوب فحضر رسول صاحب المدينة ومعه قود وهدايا. فلما جلس اخرج من كمه مروحة بيضاء عليها سطران بالسعف الأحمر وقال: الشريف يخدم مولانا السلطان ويقول: هذه المروحة ما رأى السلطان ولا احد من بني أيوب مثلها فاستشاط السلطان صلاح الدين غضبا. فقال الرسول: يا مولانا السلطان، لا تعجل قبل تأملها. وكان السلطان صلاح الدين ملكا حليما فتأملها، فإذا عليها مكتوب: أنا من نخلة تجاور قبرا ... ساد من فيه سائر (الخلق) طرا شملتني عناية القبر حتى ... صرت في راحة ابن أيوب أقرا فإذا هي من خوص النخل الذي في مسجد الرسول. فقلبها السلطان صلاح الدين، ووضعها على رأسه، وقال لرسول صاحب المدنية النبوية صدقت فيما قلت من تعظيم هذه المروحة!!! 11 - عيب

قيل لصوفي: لم تقول: الله، الله ولا تقول: لا اله إلا اله؟. فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب - عيب. 12 - في هذا مرة، وفي هذا مرة وقال أبو بكرة: كنت عند النبي، وعنده إعرابي ينشده الشعر فقلت: يا رسول الله، اشعرا أم قرآنا؟؟ فقال: في هذا مرة، وفي هذا مرة. . . 13 - وما سواه كلام قال الثعالبي: عليك بالقصار من الأحاديث، والغرر من النكت، مقتديا بابن المعتز القائل: بين أقداحهم حديث قصير ... هو سحر، وما سواه كلام 14 - ثم ساروا ولست أعلم أينا! قال الفتح بن خاقان - صاحب القلائد والمطمح -: قال الوزير أبو الحزم جهور بن محمد - وقد وقف على قصور الأمويين، وقد تقوصت أبنيتها، وعوضت من انيسها (بالوحوش) أفنيتها -: قلت يوما لدار قوم تفانوا ... أين سكانك العزاز علينا؟؟! فأجابت: هنا أقاموا قليلا ... ثم ساروا، ولست أعلم أينا!!! 15 - ولكني رأيت الأمر ضاعا قال أبو عطاء السندي: أليس الله يعلم أن قلبي ... يحب بني أمية ما استطاعا. وما بي أن يكونوا أهل عدل ... ولكني رأيت الأمر ضاعا. 16 - فاقسم أنا والبرابر أخوة قال عبيدة بن قيس العقيلي: إلا أيها الساعي لفرقة بيننا ... توقف، - هداك الله سبيل الأطايب فاقسم أنا والبرابر أخوة ... تناولنا جد كريم المناسب فنحن وهم ركن منيع وأخوة ... على رغم أعداء لئام النقائب 18 - فمن لها بزياد أو بحجاج

قال الابيوردي، الأموي: دهرا تذأب من أبنائه نقد ... وأوطئت عرب أعقاب أعلاج وأينع الهام لكن نام قاطفها ... فمن لها بزياد أو بحجاج وكم أهبنا إليها في الملوك فلم ... نظفر بأروع، للغماء فراج 19 - أنا لا اسمع لو ما في حبيب قال ابن حجة: كان صلاح الدين الصفدي، مذهبه تقديم أبي الطيب المتنبي على أبي تمام حبيب الطائي. فاتق أن صلاح الدين اجتمع بابن نباته بالديار المصرية وذاكره في أبي الطيب وأبي تمام فوجد على مذهبه واجتمع بعد ذلك بالشيخ أثير الدين بن حيان وذاكره في ذلك. فقدم أبا تمام، فلاماه على ذلك. فقال: أنا لا اسمع لوما في حبيب. . . 20 - وسماع الشعر المطبوع قال أبو عمر بن سالم المالقي: كنت جالسا بمنزلي بمقالة، فهاجت نفسي أن اخرج إلى الجبانة، وكان يوما شديد الحر. فراودتها على القعود، فلم تمكني من القعود، فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي، فقال لي: إني كنت أدعو الله أن يأتيني بك وقد فعل، فالحمد لله، فأخبرته بما كان مني، ثم جلست عنده، فقال: أنشدني، فأنشدته: غصبوا الصباح فقسموه خدودا ... واستوعبوا قضب الأراك قدودا ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم ... فتقلدوا شهب النجوم عقودا لم يكفهم حد الأسنة والظبي ... حتى استعاروا أعينا وخدودا وتضافروا بضفائر ابدوا لنا ... ضوء النهار بليلها معقودا صاغوا الثغور من الأقاحي، بينهما ... ماء الحياة، لو اغتدى مورودا فصاح الشيخ، وأغمي عليه، وتصبب عرقا، ثم أفاق بعد ساعة وقال يا بني، اعذرني، فشيئان يقهراني: النظر إلى الوجه الحسن، وسماع الشعر المطبوع 21 - لأجل هذا البيت الواحد وفد أبو الفضل بن شرف بن برجة على المعتصم (صاحب المزية) يشكو عاملا ناقشه في

قرية يحرث فيها، وانشده الرائية التي مطلعها: قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر إلى أن بلغ إلى قوله: لم يبق للجور في أيامها أثر ... غير الذي في عيون الغد من حور فقال له: كم في القرية التي تحرث فيها؟ قال: فيها نحو خمسين بيتا. قال: أنا أسوغك جميعها لأجل هذا البيت الواحد، ثم وقع له بها وعزل عنها نظر كل وال. 22 - حتى أتى الله بالفرج قال عبد الله بن مسلم بن جندب: تعالوا أعينوني على الليل انه ... على كل عين لا تنام طويل قال عبد الله: فطرقني عيس بن طلحة فقال لي: سمعت قولك فجئت أعينك. . . فقلت: يرحمك الله، أغفلت الإجابة حتى أتى الله بالفرج. 23 - دنت مسافة بين العجم والعرب كتب البحتري إلى صديقه ابن خرداذبة الأديب المشهور: إن كنت من فارس في بيت سؤددها ... وكنت من محتدي بالبيت والنسب فلم يضرنا تنائي المنصبين وقد ... رحنا نسيبين في علم وفي أدب إذا تقاربت الآداب والتأمت ... دنت مسافة بين العجم والعرب محمد إسعاف النشاشيبي

جورج برنارد شو

جورج برنارد شو اجمع نقدة الأدب الانكليزي ومؤرخوه على أن برنارد شو أعظم كاتب روائي بين الانكليز في العصر الحاضر، وان الشعوب الغربية تعجب به أكثر من كل كاتب معاصر ولاسيما الأمير كان والألمان الذين مثلوا رواياته قبل أن يمثلها الانكليز. أما برنارد شو نفسه فلا يأبه لما يقول عنه بل يذهب بنفسه ابعد من ذلك فيدعي انه أعظم من شكسبير بل يزعم انه أفضل رجل في العالم، وقد يتنادر على شكسبير فيشبه به احد خدمة الفنادق الذين مرنوا على مسايرة الناس وتزويق الكلام وكثرة الهز، ويسمى دانتي اكبر شعراء الطلياني وملتون اكبر شعراء الانكليز بعد شكسبير اغبي رجلين عاشا في ايطاليا وانكلترا. سمعته ذات ليلة من ليالي تشرين الثاني سنة 1928 يلقي محاضرة على جمهور عظيم من الناس في لندن موضوعها مستقبل المدنية الغربية، فقدمته إلى الحاضرين سيدة وبالغت في تقريظه، فقام على الأثر وقال: شكرا للسيدة الفاضلة التي لم تكن مخطئة في إشادتها بفضائلي لأنني الفت كثيرا من الروايات المنقطعة النظير في الجودة بل منها ما لا يقدر على الإتيان بمثله احد. فهتف له الناس طويلا، فقال: أن من يهتف لنفسه غني عمن يهتف له، أنا لا أعرف التواضع. ولد هذا (المتأله) في دبلين (ايرلندا) في 26 تموز سنة 1856 فهو ايرلندي لا انكليزي وكان أبوه يعمل في الحكومة ثم اشتغل في التجارة فلم يفلح، وكانت أمه معروفة بحسن الصوت، فكان اظهر ما ورثه من أمه الشذوذ وحب الفن ولاسيما الموسيقى. أما تعليمه في حداثته فقدوه كل إلى احد أقاربه من رجال الدين، ثم ذهب إلى كلية ويسلي في دبلين حيث مكث بها حتى بلغ الرابعة عشرة من سنه وكان يغلب عليه الكسل وعدم الاهتمام بما يجب على التلاميذ حتى ريع لذلك أهله فنقلوه إلى عدة مدارس أخر لم يحصل منها على أكثر من النتيجة التي حصل عليها في كلية ويسلي، ثم استخدم في بعض المحلات باجرة قليلة، فلما بلغ العشرين ترك ايرلندا وذهب إلى لندن فقضى فيها تسع سنوات في ضيق شديد ولقي كثيرا من المصاعب في سبيل عمل يقوم بمعيشته، فكان يكتب مقالات في نقد الموسيقى يتقاضى عليها أجرة زهيدة، وشرع يؤلف بعض القصص فأنجز حتى سنة 1883 تأليف خمس قصص ولمن لم يجد من يطبعها له بعد أن عرضها على الناشرين، كما انه كتب كثيرا في النقد الروائي. ثم بدا له أن يتحول عن كتابة القصص إلى الروايات التمثيلية

فطبع سنة 1892 رواية بيت الأرامل وفي سنة 1894 رواية السلاح والرجل ومن تلك السنة بدأ نجمة بالصعود فلم يطلع فجر القرن العشرين حتى بلغ من الشهرة مبلغا عظيما، واستمر على التأليف بهمة لا تعرف الكلل ولا يزال حتى الآن، فكان عدد رواياته تسعا وثلاثين عدا القصص والنقد الروائي والموسيقي. ولقد نال جائزة نوبل الأدبية لسنة 1926 البالغة أكثر من سبعة آلاف ليرة انكليزية فلم يبرد منها في كفه شيء بل دفعها إلى المعهد الانكليزي الاسوجي لتصرف في سبيل ترقية الآداب الاسوجية في البلاد التي تتكلم باللغة الانكليزية. ويلاحظ أن جملة رواياته ألفها بعد أن بلغ الأربعين من عمره وان نصفها ألفه بعد أن كان في العقد السادس على أن الروايات الثلاث المعدودة خير آثاره وهي بيت كسر القلب والعودة إلى متوشالح وجان دارك ألفها وهو في العقد السابع من عمره اظهر خصائص برنارد شو الشذوذ واعتبار الأشياء بخلاف ما يعتبرها الناس ولقد قال عن نفسه: أنا لا أشارك الناس في ذوقهم في الفنون ولا في حرمتهم للآداب المألوفة ولا في عقيدتهم في الدين ولا في إعجابهم بالبطولة. ومع أني ايرلندي فلا ادعي الوطنية لايرلندة ولا للمملكة التي خربتها. وكرجل إنساني امقت القسوة سواء أكانت في الحرب أم في الألعاب الرياضية أم في مجازر القصابين. نعم أنا رجل اشتراكي ولكن ابغض تكالب الاشتراكيين على المال. ويعلل شذوذه بقوله: لي صديق طبيب مختص بأمراض العيون فحص ذات ليلة بصري وقال لي: إن بصرك طبيعي يرى الأشياء كما هي تماما ولكن تسعين بالمائة من الناس لا يتمتعون ببصر طبيعي. فما شككت أن بصر عقلي كبصر عيني يرى الأشياء كما هي ولكن لا كما يراها الناس. إذا تقرر لديك ذلك فلا تعجب لما ستراه من آراء برنارد شو في الدين والعلم والسياسة والاجتماع والأدب فهو يرى - وذلك الرأي شائع في جميع رواياته - أن الله تعالى أو قوة الحياة كما يسميه، كائن يتكامل ويستعمل في سبيل غايته كل وسيلة، فإذا أضحت تلك الوسيلة غير صالحة أو أمكن أن يستبدل بها غيرها نسخ الأولى. وقوة الحياة عنده تتمثل في المرأة التي تقتاد الرجل ليكون أبا لأولادها.

وهو لا يحفل كثيرا بالمدنية الحاضرة ولا بالعلم بل يرى أن الإنسان الحاضر لم يرتق كثيرا من حيث المدنية والعلم على الإنسان قبل آلاف من السنين، ولكنه ارتقى بالتدمير وعمل الشر، فبناء البيوت لا يتغير في ألف قرن بمقدار ما يتغير شكل قبعة المرأة في عشرين أسبوعا، ولكن آلات الحرب التي لا تبقي ولا تذر لا يمكن أن تقاس بالقسي والسهام التي كان يستعملها القدماء. ومع ذلك فهو عظيم الأمل بالمستقبل يرى أن الإنسان سيتمكن من أن يعيش مئات من السنين حتى يكاد يكون خالدا وانه سيغير شخصيته وخلقه كما يريد. وقد عالج هذا الموضوع في روايته العودة إلى متوشالح فأتى على تاريخ البشر منذ آدم وحواء إلى الزمن الحاضر ثم صور المستقبل البعيد على أقصى ما يتخيله الفكر. ويرى أن البشر سيأتي عليه زمان يدين بدين واحد ويتكلم بلغة واحدة أما ذاك الدين فهو الإسلام المجدد وأما اللغة فالانكليزية. ولقد حمل حملة منكرة على رجال العلم والدين والسياسة وندد بالأطباء والمحامين وهزئ بعلمهم وقواعدهم، فالعلماء عنده بله والجامعات معاهد للغباوة، والأطباء جزارون يتقاضون على بتر أعضاء الناس وإزهاق أرواحهم أجرا قال: العالم كسول يقتل الوقت بالبحث فاحذر علمه الكاذب واعلم انه اشد ضررا من الجهل وقال: عقل الغبي يحول الفلسفة إلى سخافة والعلم إلى خرافة والفن إلى حذلقة كما هو الشأن في تعليم الجامعات وقال: القادر على عمل يعمل والعاجز يعلم وقال: العمل وحده هو الطريق إلى المعرفة وآداب المسيحية عنده لا تصلح للحياة العملية حتى ولا الأخلاقية وله في مخالفتها آراء منها قوله: لا تعامل الناس بما تحب أن يعاملك الناس به لان الأذواق قد تختلف ومنها: إياك ومقاومة الأهواء ولكن امتحن كل شيء ثم استمسك بالصالح ومنها: احذر ممن لا يرد لك لطمتك فانه لا يعفو عنك ولا يأذن لك أن تسامح نفسك وعنده أن من اعتاد أن يضحي بنفسه لا يحجم عن التضحية بغيره، ومن بدا بتضحية نفسه في سبيل من يحب انتهى ببغضه، وان نكران الذات ليس من الفضيلة في شيء ولكنه أثر الحنكة في الخداع. ورجال الحكومات عنده دعاة للوثنية يدعون الناس لعبادة أصنام من اللحم والدم فيعودون بهم القهقرى إلى مستوى المتوحشين الذين يعبدون أصناما من الخشب والحجر والفرق بين

المعبودين أن الأول يضر ولا ينفع والثاني لا يضر ولا ينفع. والبشر في رأيه يؤلهون العبقرية ويعبدونه لأنهم لا يفهمون فإذا فهموه صلبوه، وهكذا فهم يعبدونه ويجهلونه ولا يعملون بإرادته. والشعب الانكليزي عنده شعب غبي مغرور غاشم يتمسك بالمزعجات في جميع أحواله ويدعوها رسوما وآدابا، فعادات الانكليز في ملبسهم ومأكلهم ومشربهم ومجتمعاتهم ومراسمهم سلسلة من المزعجات، وهم مع ذلك يحسبون أنهم من اعرق الأمم في الحضارة بل يزعمون إنهم بناة المدنية الغربية، وقد تأصل في نفوسهم حب التسلط على غيرهم فاستعملوا كل وسيلة لبلوغ غايتهم، فلا معنى للعدل عندهم إذا اصطدم بمصالحهم السياسية، والقتل السياسي في عرفهم ضرورة أو رخصة مباحة. وهو يرى أن العبودية لا تستأصل شأفتها من العالم حتى يأتي اليوم الذي ينشد فيه الناس لن تسود بريطانيا كما يقول، وهكذا فهو يحمل الانكليز وحدهم تبعة استعباد الشعوب المستضعفة في العالم. ولقد أبرزهم حمقى أغبياء في معارض شتى من رواياته حتى ادخل على بعضهم الشك في نفوسهم، فلقد سمعت أستاذا من أساتذة جامعة لندن يقول: لابد من أن نكون نحن الانكليز أغبياء لان برنارد شو يصفنا بالغباوة وهو نابغة ذكي. لذلك فهو لا يؤمن بالعلم الحديث ولا بالأساليب السياسية ولا بالقوانين والأنظمة الحاضرة ولا بالأوضاع والآداب الاجتماعية، ويكره ألوان النفاق التي يسميها الناس تهذيبا ولياقة، كما يكره الإقبال على الألعاب الرياضية وترويض الأجسام على المشاق، ولا يرى استخف ممن يقول أن العقل السليم في الجسم السليم لأنه لو صح ذلك لكان الفيل أعقل المخلوقات، ولكنه يرى أن العقل السليم يبني الجسم السليم. والناس عنده ينظرون إلى الأشياء بنظر معكوس ويقيسونها بمقاييس ملتوية. بمثل هذا التفكير وبصراحة جريئة ألف برنارد شو تسعا وثلاثين رواية عالج فيها معضلات الحياة باذلا جهده في القضايا الاجتماعية أكثر من القضايا العلمية مواجها الحقائق بالتفكير لا بالعاطفة. لذلك فأدبه واقعي لا عاطفي، وسلسلة حديث الأشخاص في كل رواياته على ما في بعضها من الاسترسال طلي عذب فكه يستهوي القارئ والسامع بما فيه من سحر وبراعة ورشاقة، وتمتاز رواياته بعمق التفكير وحدة الذكاء وحلاوة النكتة، تستثير

الإعجاب والضحك معا وتدع القارئ يفكر مسرورا بما فيها من إخراج الجد في معرض الهزل. فهو من هذه الجهة يشابه الجاحظ كما انه يتفق معه في أن الإنسان لا يتمكن من إتقان لغتين فبرنارد شو يقو: ليس هناك رجل أتقن لغته بحق وتمكن من إتقان لغة أخرى والجاحظ يقول: ومتى وجدناه قد تكلم بلسانين علمنا انه قد ادخل الضيم عليهما لان كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها وهو يعتقد أن الشعر أسهل من النثر ولو أراد أن يضع رواياته شعرا كروايات شكسبير لكان عددها الآن أكثر. وله شعر قليل يشهد الأدباء بجودته. وكما شاعت النكتة في رواياته فقد شاعت أيضا في أجوبته، قيل أن إحدى الحسان قالت له لو اقترنت عبقريتك بجمالي لتولد منهما نسل هو المثل الأعلى في النبوغ والجمال. فقال لها: وما قولك لو جاء ذلك النسل بنبوغك وجمالي؟ وقال في محاضرته عن مستقبل المدنية الغربية: أن الإنسان في المستقبل سيتمكن من تغيير شخصيته كما يريد فلما انتهى من المحاضرة قال له احد الحاضرين: من ذلك الإنسان الذي سيتمكن من تغيير شخصيته؟ فأجابه برنارد شو: نسيت أن أعطيك عنوانه. ولرواياته مقدمات طويلة جدا يربو بعضها على مائة صفحة يشرح فيها آراءه التي يبني عليها الرواية حتى كأنه يكتب الرواية لأجل المقدمة. وهو يعتبر فنه وسيلة لتأدية رسالته ويهزأ بمن يقول: الفن لأجل الفن. خليل مردم بك

جمال الدين الأفغاني وشكيب ارسلان

جمال الدين الأفغاني وشكيب ارسلان كتب الأمير شكيب ارسلان منذ ست وثلاثين سنة هذا الفصل وقد بلغه الخبر باشتداد المرض على صديقه السيد جمال الدين الأفغاني، وقد أرسله إلينا لنشره في الثقافة كذكرى. إن كانت الحكماء مصابيح الأرض، وكانت الدنيا توحش حقيقة لفقدهم، فأجدر أقسام الدنيا بذلك استيحاشا، وله وجوما، بلاد تأذن الله بذهاب حكمائها، وانتقاص الأنوار في أرجائها، وفتر عليها في توزيع الرجولية، وسمح بزيادة مناظرتها في أنفال المدنية. ألا وعلى مقدار حاجة الوقت، يغلو الفضل، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، وليس في هذا الشطر المشرقي ذو عقل إلا وهو يدرك أن من الكواكب اللامعة في أفق المشرق المباهي بها أمثالها في آفاق المغرب، عدة هذا الوطن في الفخار، إذا تجمعت الأحساب، والحجة الباهرة إذا أدلى كل قوم بحجة فضل، في معرض، حساب الفيلسوف الكبير السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني عافاه الله، وأمتع به فما زال هذا الحكم منذ طلع في الشرق، علما منيرا تعشو العلوم إلى نوره، وشهابا ثاقبا يستنير به الوقت في مشتد ديجوره، وملاذا يستضاء بالأصيل من رأيه، ويستعان بالأصيل من رأيه، ويستعان بالمستفيض من دربته ورشده، شعلة ذكاء متوقدة، ولجة علم متدفقه، وكعبة فضائل محجوجة، ونفسا هذ بها السلوك وأخلصها التجريد، وسبكت أفلاذها الحكمة، وصفى جوهرها التأمل في عالم الغيب، إلى نزاهة مشرب شمخ مارنها، وعفة روح تزكت شواهدها، وتمحض في حب الوطن وخدمة الملة وانصراف إلى هذا الوجه الأسنى دون الوجوه كلها، ووقف حياة على هذا المقصد الأشرف دون المقاصد جميعها، زاهدا في الدنيا، طارحا زخرفها، محتقرا متاعها، آخذا من الفلسفة بمصاصها، مؤثراً للقسم العملي منها، رائداً وراء إصلاح الجماعة، قاصراً مطلبه الشخصي على حرية القول، عامل بمبدأ اقراطيس الفيلسوف اليوناني، الذي كان يحث مريديه على الفرار من حظوظ الدنيا، قائلا: (لا يليق بالفيلسوف من الأوصاف إلا الحرية). هذا إلى فضل تتقطع بمنافسته أنفاس النظراء، ومعارف تموت حسرة عليها الحكماء، مما يندر أن يجتمع في دماغ، ويعز تكرر المنة به في كل آن وقد بلغنا الآن وحق للخواطر أن تجم، وللقلوب أن تجب، أن داء الحكم المشار إليه قد

حرية الرأي

أعضل، وأن نفسه النفسية على خطر، فنسأل الله أن لا يرزأ الملة بإحدى بواصر عيونها، ولا يفجع الحكمة المشرقية بأمتن أساطينها، وأن يحفظ حياته ذخرا في هذه الأيام، ويقرب شفاءه برا بالوطن والإسلام!، آمين حرية الرأي في الشرق العربي إن صح ما أقرَّه علماء الاجتماع المعاصرون من أن للجماعات في تطورها كما للأفراد في حياتها مراحل لا بد من قطعها ومناطق لا مندوحة عن اجتيازها في الانتقال من حال إلى حال فأبناء القطر السوري وكثير غيره من أقطار الشرق العربي يجتازون اليوم في بعض وجوه تفكيرهم وإبداء آرائهم وكثير من أوضاعهم الاجتماعية , مراحل قطعها أبناء الغرب في أواخر القرون الوسطى التي انقضت منذ خمسمائة عام تقريباً. وهي حقيقة يحتاج التصريح بها لشيء من الجرأة وعلى الأخص إذا كان قائلها من أولئك الذين درسوا في جامعات الغرب لأن أكثر هؤلاء قد اتهموا في جميع أقطار الشرق العربي بتهمة حبك الشيء يعمي ويصم لا لأنهم أحبوا ما رأوه في الغرب فأعماهم ذلك عن الحقائق بل لأن أخصامهم من ذوي الأفكار المتجمدة وجدوا في العداء السياسي القائم بين الشرق والغرب ثلمة انحدروا منها للوصول إلى أغراضهم في تصغير شأن أخصامهم والنيل منهم فكان لهم ما أرادوا في شعب لم تزل العاطفة الهوجاء لا تقيم فيه على الغالب للعقل حساباً أو وزناً. وليس من المحتم على من تعرض لمثل هذه المقابلة الخطرة بين ما كانت عليه أفكار الناس في أواخر القرون الوسطى في الغرب وما هي عليه أكثر الآراء والعقائد في سورية وكثير من أقطار الشرق العربي اليوم أن يثبت الشبه في جميع الوجوه والمناحي حتى يقنع الناس أن لا فرق هنالك قط بين العصرين في جميع صورهما ومظاهرهما فمراحل التطور الاجتماعي تقطعها الجماعات على وتيرة واحدة وتبعاً لنظام واحد ولكن أشكال هذه المراحل تختلف باختلاف الشعوب وتتباين بتباين العناصر والأديان واللغات عدا ما هنالك من عوامل مفاجئة ومؤثرات طارئة فإذا كان مثلاً في عقائدنا وعرفنا وتقاليدنا الشرقية في عصر الكهرباء والسرعة بعض الوجوه التي تختلف عما كانت عليه الآراء في الغرب منذ

مئات السنين فليس في ذلك دليل على أننا نقطع اليوم المرحلة نفسها أو نستغني عن اجتياز الطريق ذاتها بل أن هنالك عوامل اجتماعية فعلت فعلتها وحالات شرقية اختلفت في ماضيها عما يقابلها في حالات غربية فغيرت اليوم كثيراً من وجوه الشبه بين الدورين اللذين نقابل ونقايس بينهما. وهذا الاختلاف الواقع الذي كثيراً ما يحتج به مناهضو هذا الرأي هو استثناء يؤيد القاعدة العامة في سير تطور الجماعات وتحولها البطيء على وتيرة واحدة وفي ظواهر مختلفة. ولعل أصح صور الشبه وأبرزها في المقابلة بين ما كان عليه الغرب في أواخر القرون الوسطى وما نحن عليه اليوم هي حرية الرأي ومظاهرها في كلا الزمنين وهي ظاهرة صادقة ومقياس صحيح تقاس به نهضة الجماعات وما بلغته في طريق تحولها وتبدلها فحرية الرأي والجرأة في إبداء ما يهتدي إليه التفكير هما أصح ما يعتمد عليه في قياس الحضارات. وتاريخ الفلسفة في العالم هو تاريخ ما تجرأ الناس على إبدائه من آرائهم وهذا التاريخ هو أعظم ما يرجع إليه في تقدير الشعوب وقرها ومعرفة حقيقة ما عملته ورمت إليه وليس من داع لأن نأتي في هذه المقابلة على ذكر طائفة من مظاهر حرية الرأي وما كانت إليه في أواخر القرون الوسطى في الغرب من ضعف وانكماش وما أصاب أصحابها من اضطهاد وعسف وما ذهب في سبيلها من ضحايا فكل ذلك بتصور القارئ ويتمثله بعد أن عرف عنه ما عرف وسمع من غرائب شأنه ما سمع وحسبنا أن نتصدى لتذكيره بالرجوع إلى التذكير تفكيرا صريحا مستمدا من منطق العقل الصحيح فيما نحن عليه في هذا القطر السوري وغيره من أقطار بلاد العرب ومقابلته بما تمثله ووعاه من مظاهر إخفاء الرأي وعدم الجرأة في إبداء الفكر في تلك الصور. إنه لو غاب نفسه على ذلك وتجرد قليلا عما أملته عليه الجماعة التي عاش فيها وغرسته في نفسه دون اختياره ورضاه من عقائد وتقاليد ونزعات لعرف أن الشبه صحيح من أكثر الوجوه وأن ماشذ عنه استثناء يؤيد القاعدة التي أشرنا إليها في نظام التطور المحتم. وليس مطلبنا هذا منه بالأمر السهل فتحكيم العقل دون الهوى والتجرد عن العاطفة في التحليل والمقابلة عقبة كؤود ما برحت تعترض علماء الاجتماع في إقناع الناس بصحة ما استنبطوا من نظم وسنن اجتماعية تجردوا في استنباطها عن أهوائهم الشخصية وعواطفهم القومية والدينية فأحكموا

في استقرائها واستنتاجها عقولهم فحسب. يعتقد الكثيرون ممن لم يفرقوا بعد بين الحق والواقع في أقطار الشرق العربي إن الناس أحرار في إبداء آرائهم وبسط ما يجول في خواطرهم للناس ويستدلون على ذلك بما جاء مثلا في المادة السادسة عشر من الدستور السوري وما ورد في غيره من المواد في دساتير الأقطار العربية الأخرى التي تنص كلها على أن حرية الفكر مكفولة وأن كل شخص مكفولة إن لكل شخص حق الإعراب عن رأيه وهي نصوص يكتفي الباحث بقليل من التحليل والاستقصاء حتى يعرف أنها تخالف الواقع ولا تتفق معه فهي رماد يذر في أعين البسطاء من الناس ليخفي عنهم تأثير العرف القديم والتقاليد البالية التي ما برحت الحاكم المطلق في أقدار الكتاب والأدباء والمفكرين والمسيطر الأول على إبداء وإعلان ما يهجس في نفوسهم ويجول في خواطرهم من آراء عقائد. استعرض إن شئت في ذهنك جميع من عرفتهم من كبار المفكرين ورجال الأدب المعاصرين في سورية وغيرها من بلاد العرب وارجع إلى ما يكتبونه وينشرونه في هذا العصر وابحث عن أرائهم الخاصة التي يتحدثون بها إلى أصدقائهم في مجالسهم وعن أفكاره التي ينشرونها ويذيعونها على الناس في الصحف والكتب والمجلات وانظر فيما تكنه نفوسهم وما يعلنونه. إنك لو فعلت لوجت أن منهم من رأى الجماعة التي هو منها واعتقد بعقيدتها ودان بعرفها وتقاليدها فكان قي كل ما يكتبه كرجع الصدى فهو لا ينشد إصلاحاً ولا يطلب تجدداً بل يرضى بالحالة التي وجد آباءه عليها وهو أشبه شيء بمفكري القرون الوسطى ممن رضية عنهم الكنيسة ورأت فيهم رسل السلام والحق فخضعوا لحكمها عن رضاء وعملوا بمشيئتها فأراحوا واستراحوا. ومنهم من كانت السياسة هدفهم الأول فطمحوا للزعامة وصرفوا كل جهودهم للوصول إليها وهم مثقفون لم تخف حقائق الكون وسنن التطور عنهم لكن الوصول إلى الزعامة يقضي أن لا تجابه الجماعة بما لم تألفه فهم يعنون عير ما تكنه نفوسهم ويحاربون حتى الجماعة في أرائهم وعرفهم وتقاليدهم ليحرزوا ثقتهم وينالوا عطفهم آملين أن يتحكموا في أقدارهم ويسيروا في طليعتهم فيقودونهم إلى حيث يريدون واجدين في غاياتهم السامية ما يبرر السبل التي يسلكونها.

ومنهم من اعتقدوا غير ما تعتقده الجماعة واستنارت أذهانهم بنور الحقائق فثارت نفوسهم ضد العرف وضد التقاليد وعرفوا ضرورة التجدد في الحياة لكنهم جبنوا فلم يجرؤوا على مجابهة الناس بما يخالف وتقاليدهم وعقائدهم وأعوزتهم حرية الرأي في جماعة قديمة جامدة فانبروا يحتالون على الأبحاث التي يعالجونها احتيالاً ويخدعون القراء بظاهر ما يبتغونه خداعاً يحتاج لكثير من المهارة والجهد ويدسون أفكارهم الجديدة دساً من حيث لا يجد فيها أخصامهم من المتعصبين سبيلاً لإثارة غضب الجماعة ونقمتها عليهم. ومنهم من عرفوا الحقائق واعتقدوها ولكن نفوسهم كانت أصغر من أن تذيعها وتؤيدها وضمائرهم أضعف من أن تدعوهم للمفاداة من أجلها فأذاعوا على الناس غير ما اعتقدوه ودعوهم لما تأكدوا من فساده متخذين من أدبهم وعلمهم وقوة أقلامهم طريقاً يصلون منه لما يدفع عنه عادية المتربة أو يسد جشعهم وأطماعهم. أما أولئك الذين اعتقدوا بما لا يتفق مع عقيدة سواد الجماعة وعرفها وتقاليدها واستطلعوا أن يجابهوا القوم بما اعتقدوا صحته مجابهة دون خداع أو احتيال أو تردد وتقلب فأنك لا تكاد تجد منهم من تهتدي إليه في هذا العصر لتذكره على سبيل المثال في سورية وسائر أقطار الشرق العربي. وحرية الرأي لا تكون صحيحة إلا متى أتيح لهؤلاء الآخرين أن يذيعوا آرائهم ويبثوا أفكاره دون أن يكون لهم من نقمة الجماعة وغضبها عليهم ما يخشون معه على نفوسهم وأرواحهم. إذاً فحرية الرأي التي تؤيدها حقوقنا ونظمنا ليس في الواقع ما يدل على وجودها وإذاً فمشيئة الفرد ما برحت خاضعة بكل مناحيها لهوى الجماعات وهوى سوادها وعامتها وفي جملة ما نشأ عن ذلك أن أدبنا أصبح لا يمثل نفوسنا بشيء ولا يتفق مع تفكيرنا فقد حظرت الجماعة عندنا على العقل والشعور والعواطف أن تظهر كما هي وقضى العرف والمحافظة والتحرج على الأدباء والمفكرين والكتاب أن يكتموا الناس ما في نفوسهم وأن يذيعوا عليهم غير ما يجب أن يعلنوه فكانت أكثر آدابنا وكتاباتنا وتأليفنا حتى قصائدنا وأشعارنا ومظاهر فنوننا مشوهة بالكذب والرياء والخديعة والدس والممالأة والجبن والتردد وغير ذالك من مظاهر ضعف الأفراد ووجلهم أمام قوة الجماعات وبطشها. وهذه كلها صور لما كانت عليه حرية الرأي وجرأة التفكير في الغرب حوالي القرون الوسطى وأواخرها.

ولا ينتج عن هذه المقابلة أننا نحتاج لمئات من السنين بعد لتصل إلى ما وصل إليه الغرب اليوم في إبداء الرأي وبيان نتائج التفكير فسرعة التطور وقطع المراحل الاجتماعية تختلف باختلاف وسائط العصر على أن الانتقال من طور إلى طور في الجماعات أعراضاً لا مندوحة عن ظهورها وأهم الأعراض والدلائل التي تنبئ باجتيازنا المرحلة التي نحن فيها اليوم واتصالنا بالطريق المؤدية إلى حرية الرأي الصحيحة هو ما يجب أن يظهر بيننا مما ظهر في الجماعات الأخرى من أولئك المفكرين الذين تستهويهم آراؤهم وأفكارهم وعقائدهم فيذيعونها على الناس ويعلنونها فلا يثنيهم عن عزيمتهم خشية السلطان ولا يردعهم عن عليتهم غضب الجماعات ولا يبرحون عند أرائهم هذه حتى يسقطوا مضرجين بدمائهم من دونها وهم ينادون بها ويهتفون لها.

حضارة مدينة دمشق الفيحاء

حضارة مدينة دمشق الفيحاء وآثارها وكتاباتها للأستاذ عيسى اسكندر المعلوف تمهد إنّ مدينة دمشق من أقدم المدن ذكرت التوراة فيها اسم اليعازر الدمشقي خادم إبراهيم الخليل الذي مرّ بها عندما جاء من أور الكلدانيين إلى أرض كنعان وجرت لإبراهيم حوادث أخرى مع كدر لاعومر ملك عيلام ومحالفيه وذلك في تضايف القرن الثالث والعشرين قبل ميلاد المسيح. وورد ذكر دمشق في كتابات تل العمارنة وهيكل الكرنك في القطر المصري وعلى مسلة كنيسة اللأتران في مدينة رومية بالكتابات القديمة المصرية والمسمارية. وفي غيرها من الآثار باسم تمشكو بمعنى المثمرة وسميت بأسماء أخرى كثيرة تفيد مثل هذه المعاني إشارة إلى غوطتها الفيحاء إحدى متنزهات الدنيا الأربعة ولاسيما اسم (جلَّق) الفارسي بمعنى (ألف زهرة). وقد عنيت بوضع تاريخ لدمشق بعنوان (حضارة دمشق وآثارها). وهو في مجلّد كبير لا يزال مخطوطاً في خزانتي بمدينة زحلة وأنا في بيروت فاقتصر على ذكر لمعة مما يحضرني منه على دمشق وكتاباتها بمناسبة مطالعتي لمقالة المستشرق الأستاذ (جان سوفاجه) المنشورة في الجزء الثاني من مجلة الثقافة الغراء والصفحة 125 من كتابه الافرنسي (المباني التاريخية في دمشق) الذي وصف في ذلك الجزء أيضاً. مباني دمشق القديمة والحديثة ليس هنا محل الإفاضة في أبنية دمشق وهي كلها القديمة وكتاباتها اليونانية والرومانية والعبرانية وغيرها ولا في؟ أبنية العرب فيها ولا كتاباتهم وآثارهم ولكنني أقتصر على لمعة من ذلك من (تاريخي المذكور آنفاً) فأقول: منذ بضع وثلاثين سنة كنت أتردد إلى دمشق معجباً بآثارها مستقرياً لتاريخها ناقلاً بعض كتبها القديمة من عربية وأجنبية واصفاً ما وقفت عليه من آثارها وأبنيتها. فكنت أطوف في أنحاء مدينة دمشق مع بعض زملائي أو لا ثم انفردت وحدي في تفقد الآثار القديمة والأبنية والكتابات ونقل ما يجب نقله عنها وتصوير بغضها إلى أن اجتمع

لدي كتاب ليس بقليل رأيت أن أضعه تاريخاً لدمشق وحضارتها وآثارها نقلت فيه الكتابات الأجنبية وترجماتها وبعضها مما لم يعثر عليه ودنكثون الانكليزي وغيره لأنه ضمن البيوت أو ظهر عند هدمها أو عند الحفر في المدينة ونحن ذلك ثم استقريت الكتابات العربية القديمة والجديدة ولاسيما على أبوابها ومدارسها وجامعاتها وتكياتها وكنائسها ودياراتها من خرب ومعمور ونقلتها بحروفها ثم عمدت إلى المخطوطات العربية والرحلات العربية والأجنبية وطالعتها وأخذت عنها ما وصفه المؤرخون والرحالة وما دونه مما كتب على جدرانها أو أبوابها من عامر ودارس وعارضت ذلك بما اجتمع لي منها ونقلت كثيراً من رسوم الكتابات والنقوش والمباني والمخططات ونحو ذلك مما يجب أن يزدان به الكتاب ليكون عصرياً مفيداً على أسلوب علمي نقدي يعرف (بفلسفة التاريخ). مع ذكر أسانيده ومصادره فجاء كل ذلك في مجلد ضخم ضمنته هذه المباحث وما يتعلق بها من الإضافات والاستدراكات والانتقادات. وفي ذلك كله مباحث مهمة وفوائد عديدة مقتبسة من مخطوطات نادرة ورحلات عديدة وتواريخ كثيرة عربية وأجنبية فاقتصر الآن على انتخاب ما يحضرني من كتاباتها العربية في أبنيتها مقدماً عليها عامة والله الهادي إلى الصواب: لم أقف على تقويم قديم بمباني دمشق وعددها ولكنني عرفت أنها كانت سنة 1871م تعد14696داراًفصارت سنة 1901م 18ألف دار عامة. وكان عدد بساتين دمشق في القرن الثامن للهجرة والرابع عشر للميلاد مائة وأحد عشر بستان. غازداد عددها بعد ذلك إلى يومنا. أما مدارسها فهي كما ذكرها أبو المفاخر محيي الدين النعيمي المتوفى سنة 927هـ (1520م) ومختصره العلموي المتوفى سنة 981هـ (1573م). في كتاب (تنبه الطلاب وإرشاد الدارس إلى ما في دمشق من المدارس). المخطوط في خزانتي هكذا مدارس القرآن الشريف عدد7والحديث عدد18 والشافعية عدد57والحنفية عدد51والحنابلة عدد10 والمالكية عدد4. والمدارس الطبية 3 الدخوارية أسست سنة 621هـ (1224م) والبودية سنة 664هـ (1265م) والصالحية670هـ (1271م).

والمستشفيات هي مستشفى الجزام أنشأ منذ الفتح الإسلامي وغرزه الوليدين عبد الملك (وهو المسمى الآن الأعاطلة والقاطلة في محلة الباب الشرقي). والمشفى النوري الذي أسسه السلطان نوري الدين الشهيد وكانا مستشفيين أحدهما النوري الكبير والثاني النوري الصغير في باب البريد. والقيمري في الصالحية نسبةً إلى الأمير أبي الحسن القيمري. وكان فيها صيدلية منطمة والربيعية غربي البيمارستان النوري وبمارستانات أخر إلى غير ذلك مما تغني الإشارة فيه عن التفصيل الآن. وأنشأت بعد ذلك مدارس كثيرة منها المرادية والنقشندية والسليمانية والعبدلية والإسماعيلية وهذه الثلاث الأخيرة أسسها الأمراء سليمان وعبد الله وإسماعيل من آل العظم وأما المدرس العصرية فجددت بزمن مدحت باشا ومنة جاء بعده في القرن التاسع عشر للميلاد (الماضي). وكان بدمشق في ذلك العهد القديم 26خانقاها (أي دور الفقهاء) و32رباطاً (أي مسكن الدراويش) و26زاوية (للدراويش) وكانت على جبل قاسيون (فوق الصالحية) قبة لرصد الكواكب وكذلك دار للقديس يوحنا الدمشقي قرب باب توما وأسس نور الدين الشهيد السلطان العظيم دار العدل (محل المشيربة الآن) وهي للنظر في مظالم الرعية من العمال. ومن الأبنية قصر الأبلق والظاهرية والعادلية وبنيت دور أخرى لا محال لتفصيلها ووصفها في هذه الحالة وذكر ما كتب على جدرانها وأبوابها مما لايسعه المقام الآن. أمثلة عن كتابات دمشق القديمة والحديثة لما كان الشيء بالشيء يذكر أصف الآن بعض الكتابات التي جمعتها في (تاريخي المذكور) مقتصراً على أمثلة قليلة منها وهي الكتابات العربية لا الأجنبية. وبعض تلك الكتابات فقد وبعضها باقٍ ومنها ماهو مشوش ومنها ماهو جلي فإليك شيئاً منها مما هو موجود الآن من تلك الكتابات القديمة وما وافقت عليه فقراته في بلاطه فوق باب (المدرسة الجوهرية) القديمة وهذا نصه بسم الله الرحمن الرحيم إنشاء هذه المدرسة المباركة العبد الفقير إلى الله تعالى أبو المكارم محمد نجم الدين ابن أبي الطاهر عباس بن أبي المكارم التميمي الجوهري على مذهب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة وكان الفراغ من عمارتها والتدريس بها سنة ستة وسبعين

وستمائة وقرأت هذه الكتابة فوق مدخل (المدرسة الريحانة) في سبعة أسطربسم الله الرحمن الرحيم. وقف هذه المدرسة المباركة الأمير جمال الدين ريحان ابن عبد الله على المتفقهة بها على مذهب الإمام الأعظم سراج الأمة أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه. ووقف عليها جميع البستان الحراجي المعروف بأرض الحواري والأرض المعروفة بدف العناب والغرماوي بأرض القطايع والجورتين البرّانية والجوانية بأرض (كذا) الخامس والنصف والثلث من الريحانية والاصطبل المعروف بعمارته ببستان بقر الوحش وذلك معروف مشهور فمنة بدله بعد ما سمعه فإنما لله. . . . إنّ الله سميع عليم. وذلك في شعبان سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وعلى باب مقام الشيخ رسلان كتابة كوفية ثم تحتها هذه الكتابة بالخط النسخي: جدد عمارة هذا المسجد المبارك مسجد خالد بن الوليد (رضه) الفقير إلى رحمة رب العالمين أبي علي. . . الشيخ رسلان رضي الله عنه. لاإلاه إلا الله في أيام الملك الناصر صلاح الدينا والدين ووقف عليه الساحة التي. . . وقرأت على باب (المدرسة السليمانية قرب سوق الحميدية هذا التاريخ لبنائها سنة 1130هـ (1717م) وهو: للخير والعلم والطلاب مدرسة ... قد شادها أوحد الدنيا سليمان أعني الوزير أمير الحج سيدنا ... من كل أفعاله بر وإحسان بالقرب من داره الزهراء أوقفها ... وشيد منها على الإخلاص بنيان أثابه الله في الدارين صالحة ... كذا له السعد والتوفيق أعون وهاتف البشر والإخلاص أرخها ... أس القبول على الإشراق عنوان وقرأت في ذيل (الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة) للنجم الغزي الدمشقي المخطوط وصف أبنية مراد باشا الوزير المشهور في دمشق وهي كثيرة منها الوكالة التي عمارتها له الشيخ أحمد المغربي متولي الجامع الأموي مع عمارة السوق الأول والقهوة (والوكالة أسم الخان كما هو المعروف في عرف المصريين وأهل دمشق يسمونه قيسارية) وأرخ بناء الوكالة الشيخ أبو الطيب بقوله:

هاك تاريخاً سما له ... بدر هالات الغز اله جملة الملك بهاء ... وسخاءٌ وبساله صح في أخر شطر ... ضمن القول مقاله ولي الشام مراد ... فبنى خير وكاله ومما فقد من تلك الكتابات حجر كان بجانب قوس النصر في مدخل الهيكل الغربي الذي شيد محله الجامع الأموي الشهير قد نقش عليه بيتا شعر يتناقلهما الدمشقيون خلفاً عن سلف وهما: عرج ركابك عن دمشق فأنها ... بلد تذل لها الأسود وتخضع ما بين جابيها وباب بريدها ... قمر يغيب وألف بدر يطلع وفقد حجر آخر كان قرب برج القلعة في الزاوية بين الشمال والشرق رأيته قديماً ثم عدت إليه ثانية فلم أجده: ولكنني نقلت عنه ما نقش عليه أول مرة وهو بالحرف الواحد: بسم الله الرحمن الرحيم - أمر بعمارة هذا البرج المبارك مولانا السلطان الملك الغازي سيف الدنية والدين سلطان جيوش المسلمين حامي الحرمين الشريفين أبو بكر بن أيوب بتولية العبد الفقير إبراهيم بن موسى وذلك سنة ست وستُمائة الختام هذه كلمتي الآن في آثار دمشق وكتاباتها العربية من تاريخها المخطوط الذي ألفته بعد مراجعات ما كتبه المؤرخون والرحالة من إفرنج وعرب راجياً من الأدباء والعلماء أن يسبلوا ذيل المعذرة على ما وقع لي من الوهم وما العصمة إلا لله وما الحقيقة إلا بنت البحث. ولعلي أعود إى التفصيل في فرصة ثانية. بيروت (مؤقتاً) 20 أيار 1933 عيسى اسكندر المعلوف

تاريخ السل

تاريخ السل يجدر بنا والسل متفش تفشياً راعباً في سورية والأفكار قلقة لشره المستفحل أن نكتب تاريخ هذا الداء مبينين تطور الأفكار فيه منذ أن عرفه الطب حتى يومنا. في سورية ولبنان اليوم نهضة مباركة لمكافحة هذا الداء وصد هجماته وهي أشد في لبنان منها في سورية مع إن السل أشد فتكاً وأكثر انتشارً هنا منه هناك: غير أن جمعية مقاومة السل في دمشق قد أخذت على عاتقها بناء مصح تتوفر قيه جميع الشروط لإيواء من غضهم هذا الداء بنابه. وهي دائبة على العمل وربما أوفدت أحد الاختصاصيين إلى بلاد الغرب لدرس المصحات فيها وستباشر البناء قي القريب العاجل لأن المال قد توفر لها كما أن الآنسة دوكره هذه المرأة التي لا تثني المصاعب عزيمتها قد شمرت عن ساعد الجد بعد أن هالها مار أته في عيادات المستشفى الوطني من جيش المسلولين فجمعت مبلغاً كافياً من المال من سورية وفرنسة لإنشاء مستوصف يعاين فيه المرضى فيعالج منه من لا يحتاج إلى استشفاء ويبعث بالآخرين إلى المصحة. وقد افتتحت هذا المستوصف في السادس عشر من حزيران المنصرم في إحدى دور الجامعة والهمة مبذولة لإتقان هذين المشروعين اللذين يخففان من وطأة هذا الداء العقام ويقيان مئات الأطفال منه بعد أن يعم التلقيح بلقاح ع. ك. غ. فداءٌ كهذا يمرح بيننا ويذبل ألوفاً من زهرات أبنائنا وبناتنا في السنة الواحدة يليق بنا أن نكتب تاريخه ليطلع عليه قراء هذه المجلة الزاهرة ولعلنا نخصص مقالاً آخر للبحث في طرق اتقائه: لن نجد للسل ذكراً إلا في السنة 1800 ق. م. عند الهنود الأقدمين الذين كانوا يعدون المسلول كالمجذوم خطراً على من يساكنه ويجاوره وكانوا يتجنبونه تجنب الأفعى وقد منع البراهمة في ذلك العهد التزوج بالفتيات المتحدرات من سلالة فيها بعض المسلولين مهما كان ثراؤهن ونبل محتدهن. غير أننا لم نقف على وصف مسهب للسل ذكرت به أعراضه وبعض عراقيله إلى في زمن اليونانيين منذ 500 سنة ق. م. فقد ورد أن أوريفونوس الكنيدي كانا يعالج المسلولين بلبن النساء والكي وكان يظن كالمصريين القدماء أن الأمراض مسببة من الإفراط في الغذاء ولعل أوريفونوس هذا مؤلف كتاب (الحكم الكنيدية

والحمية النافعة في الأمراض الباطنة) الذي ورد ذكره في قانون أبقراط ولم يعثر على نسخة منه حتى الآن على ما أعلم. وكان السل مرضاً شائعاً فتاكاً في عهد أبقراط أبي الطب الذي ولدفي جزيرة كوس من جزر بحر إيجه سنة 460 ق. م. ومات في مدينة لريسه اليونانية وله من العمر تسعون سنة. فكان يقال في أسبابه أنه ينجم من النزلة التي تنحدر إلى الصدر ومن انبثاق الأوردة ومن الخراجات الكائنة في الصدر ومن الجناب المتقيح الذي انفتح في الرئة ولم يذكر أبقراط شيئاً عن العدوى ولعل السبب في إهماله لهذا الأمر شيوع الاعتقاد بعدواه غير أننا متى عرفنا أنا لطب الهنود أثراً في الطب اليوناني وان الهنود كانوا يتجنبون المسلول كالمجذوم فهمنا أن العدوى كانت أمراً مسلماً به عند اليونانيين. أما الوراثة فقد جاء ذكرها جلياً فقد ورد ما نصه (المسلول يولد من المسلول) وأن هذا الداء يختار البلغميين البيض وأنه كثير الشيوع بين السنوات الرابعة عشرة والخامسة والثلاثين من العمر وأنه يبدأ بنوافض خفية وسعال جاف وناخس في الصدر والظهر وأن السعال يشتد بعدئذٍ وتبدأ التفلات وتزداد. وكان يطن أبقراط أن نفث الدم وقياءه سبب المرض وليس عرضاً له. ثم إن المرض يستفحل والجسم جميعه يهزل، أما الساقان فتتورمان وهذا دليل واضح على أن اليونانيين عرفوا الدنف السلي ووصفوه أما أظفار القدمين واليدين فنقف ثم إن الهزال يزداد في ناحية العنق والكتفين ويعود التنفس صغيراً كما لو نفخ في أنبوب ينطفئ الصوت ويشتد الوهن بتناثر الشعر ويبدو الإسهال ويقف التقشع ويموت المريض إنذار السل بحسب أبقراط وخيم جداً غير أنه إذا عولج في بدايته يشفي وقد ذكر في قانون أبقراط السلام العظمي والفصلي ولاسيما ما نسميه اليوم داء بوت فقد جاء فيه ذكر خراجات في الورك والعانة مرافقة لحدبات الطهرية وورد فيه أيضاً ذكر داء بوت العنقيفي المرضى المصابة رئاتهم بعقيدات قاسية صلبةوذكر فيه أيضاً خلع الفصل الحر قفي الفخذي من خراجات ونوا سير. لا عجب فأننا لا نزال نرى حتى اليوم في هذا القرن العشرين الذي بلغ فيه لطب أسمى درجاته، بعض المرضى بالورك وقد أهملت معالجتهم فأفضى مرضهم إلى الخلع المرضى فلا غرابة إذا ذكر أبقراط في عصره ذلك الخلع المنوسر.

وجاء بعد أبقراط أرسطو طاليس (382 - 332ق. م.) وكان فيلسوفاً وطبيباً في آن واحد فلم يضف إلى ما عرفه أبقراط غير شيء واحد هو قوله أن السل والطاعون ينقلان بالهواء وهذا القول الذي نطق به أحد علماء اليونان منذ ثلاثة وعشرين قرناً صحيح لا غبار عليه لأن السل والطاعون الرئويين ينتقلان بالهواء كما يسبب الطب الحاضر. ولم يمضى غير القليل على موت أرسطو حتى ظهر في السنة 330ق. م. ديوكلس فجاءنا بشيء مستحدث لم يذكره من تقدمه وهو مكافحته لنفث الدم لصمغ الثيران أو ما نسميه اليوم الهلام أو الجلاتين. إن ديوكلس قد أملى هذه الأمثولة على القرون التي تعاقبت بعده ونحن لا نزال نستعمل اله لام شرباً ونلجأ إلى المصل الهلامي حقناً تحت الجلد في مكافحة النزوف ناسيين ذلك العبقري الذي طوته ألوف السنين وهذه الهدية الثمينة التي نفح بها الطب وبنائه ونذكر من أطباء اليونان ساليوس أورليانوس الذي قال عن السل أنه قرحة رئوية مع قيح لا ينضب وكان يصف له الترياق والنوم في أرجوحة والسفر بحراً والقراءة بصوت عالٍ وكان يغذي المسلول بأفضل الأطعمة وأجودها كالبيض والأرز والنشا والخمر واللحوم. لعمري أن في كلام الطبيب اليوناني لمنتهى الحكمة لأننا إذا استثنينا أمراً واحداً مضراً وقد ورد في كلامه وهو القراءة بصوتٍ عالٍ حكمنا أن مانطق به يعد أساساً لمعالجة السل في زمننا. فإن هواء الشواطئ جزيل الفائدة للمسلولين وأشد فائدة منه هواء عرض البحار الخالي من ذرات الغبار حتى من الجراثيم أيضاً. فضلاً عن أن تغذية المسلول والاعتناء بأمر طعامه جديد في ذلك العهد الذي كان يظن به أن الطعام مجلبة الداء وأن المسلول كسواه من المرضى محظور عليه الإكثار منه. ويجيء بعد ساليوس ذلك النابغة الكبير والعبقري العظيم الذي لم تنجب القرون السالفة أوسع منه علماً ولا أغزر منه معرفةً أعني به جالينوس (130 - 200بعد المسيح) الذي كان له في تاريخ الطب العربي أكبر أثر لأن الأطباء العرب استرشدوا بما تركه هذا النابغة فنقلوا العلوم عن مؤلفاته وأضافوا إليها ونقضوا ما يحتاج إلى نقض وثبتوا ما هو خليق بإثبات غير أن جالينوس الذي كان له التشريح القدح المعلي حتى أن مؤلفاته بقي معمولا بها زهاء 1200سنة،

جالينوس الذي عني قبل كل أحد بعلم الغريزة (الفسيولوجيا) ووضع أسسه الأولى، جالينوس الذي كان للفلسفة من نبوغه القسط الوافر لم يترك شيئاً جديداً عن السل بل اكتفى بان يدقق في ماتركه السلف ويثبت ماوجده حسناً ويمهل مارآه بعيدا عن الصواب ولهذا إذا ذكر اسمه مقرونا بالإجلال ومحفوفاً بالوقار كلما ذكر التشريح أو الغريزة أو الفلسفة فهو قلما يذكر إذا بحث في تاريخ السل. نصل الآن إلى عهد جدودنا القدماء. إلى أطباء العرب الذين بنوا لنا ذلك المجد الزاهر الذي لا يمحوه كرور الأعوام. إنهم قد برزوا في كثير من فروع الطب والجراحة وكانوا معلمي العالم ما لا يقل عن ستة قرون فإذا كان لنا ما أتفاخر به فيهم وإذا حق لنا أن نرفع الرأس عالياً متى ذكرت العلوم والفنون فبفضلهم وتفوقهم. كثيرون هم النابغون بين أطبائنا القدماء الذين يطول بنا المقام إذا أتينا على ذكرهم وأخاف أن ينسب إلي التعصب الجنسي إذا ذكرت منهم من تركوا شيئاً عن السل أو لم يتركوا إلا الشيء القليل ولهذا أمر بها رون وبختشوع وحنين والرازي الكبير الذي يعود إليه الفضل في وصف الجدري والحصبة وابن زهر وأبي القاسم وابن القف وكثيرين سواهم. وأفق عند الإمام ابن سينا (980 - 1076) الذي جاء في قانونه عن السل بكثير من الأمور الجديدة. فقد ذكر فيه أن نفث الدم ربما لا يتأخر بل يقع فيه الابتداء إذا كان السل من الجنس الرديء وهذا الأمر قد أثبته الطب الحاضر فقد يكون نفث الدم العرض الأول الذي يبدونه السل الرئوي قبل أي عرض آخر. وقال أيضاًوأما قروح الرئة فقد اختلفت الأطباء في أنها تبرأ أو لا تبرأ البتة لأن الالتحام يفتقر إلى السكون هناك. لعمري إن هذه الصفحة لخالدة في تاريخ السل أعني بها حاجة السل إلى السكون وامتناع السل الرئوي عن الشفاء لتحرك الرئة حركة مستمرة ألا نرى أن المفصل متى سل يثبت ويحكم عليه بالجمود والقسط؟ ألم نلاحظ أن أفكار الاختصاصيين بالسل قد اتجهت في جميع أقطار العالم إلى إيجاد طريقة يثبتون بها الرئة ليقربوا منها الشفاء وأن الربح الصدرية أو طريقة فورلانيني ليست غايتها إلا منع الرئة موقتاً عن الحركة كما أن قطع عصب الحجاب يرمي إلى هذه الغاية أيضاً فهل أقررنا لذلك النابغة العربي الذي جاءنا منذ

عشرة قرون بالشريعة التي لم يبدلها العلم بل لم يزل جاداً وراء تحقيقها؟ وجاء أيضاً في قانونه ما حرفهوقد يعرض للمسلول أن يمتد به السل ممهلا إياه برهة من الزمن وكذلك ربما امتدا من الشباب إلى الكهولة وقد رأيت امرأة عاشت في السل قريبا من ثلاث وعشرين سنة أو أكثر قليلا والبرهة لغة الوقت الطويل لاكما يظن البعض أنها الوقت القصير فيكون أمامنا قد ذكر الشكل المزمن من السل الأمر الذي لم يصرح به أحد من قبله. وقد عرف ابن سينا السوس والزرنيخ والقطران والأقيون المستخرج من الخشخاش والكافور في معالجة السل وقال أن امرأة مسلولة بلغ من أمرها أن علتها طالت وأضنتها واستدعيت من تهيئ لها جهاز الموت فقام أخ على رأسها عالجها بأقراص الكافور مدة طويلة فعاشت وعوفيت فهو يشير باستعمال الكافور ويصف منه الجرعات الكبيرة ونحن نرى أن أطباء القرن العشرين وجراحيه قد عادوا إلى استعمال الكميات الكبيرة من الكافور وقرروا ما كان ذكره النابغة في بدء القرن الحادي عشر وقد أشار ابن سينا في معالجة السل بلبن الأتن النيئ وبين فائدته ولم يكن يعلم حينئذ أن في ذالك اللبن النيئ المواد التي لقبها الطب الحاضر بالحيوين أو الفيتامين ونسب إليها تلك الخواص الناجعة. واتبع الأوربيون بعد أن انتقل الطب إليهم من العرب خطة ابن سينا في معالجة المسلولين بمضارة الحليب فأنشئت في النمسا وسو يسرة مراكز عديدة لهذه الغاية كان يؤمها المسلولون من جميع أقطار أوربة لتناول هذه المضارة فيها تناولاً منتظماً وكان يأتي المصل بفوائد جليلة يقر بها المسلولون. غير أنه أيحق لنا أن ننسب تلك الفوائد إلى مصل الحليب أم إلى السكن في تلك البلاد الجبلية المطلقة الهواء المعرضة لنور الشمس؟ ووضع ابن سينا شروطاً لتناول اللبن فقال ما نصه: لو أمكن أن يمص اللبن من المرضع (وهو يعني ضرع لاتان) لكان أولىوقال أيضاًيختار من الأتن ما وضعت منذ أربعة أو خمسة أشهر وقالتغسل العلبة بالماء الحار ولاسيما إذا كان قد حلب فيها من قبل فتنقع فيه حتى يتحلل ما كان فيهاوفي هذا القول منتهى الحكمة لأنه لوحظ أن الحليب يختمر ويتبدل تركيبه ويعود مضراً وأن العلبة التي كان يحلب اللبن فيها قبل أن تغسل جيداً أداة ضرر شديد إذا ما جمع الحليب فيها فأشار بغسلها بالماء الحار

ولم يقل بالماء البارد لأنه عرف أن الماء الحار أفضل في تنظيف ما علق بتلك العلبة من فضلات الحليب. ولا يجوز لنا أن ننسب كلام ابن سينا في ذلك العصر مهما جاشت في قلوبنا النزعة العربية إلى أنه كان يرمي باستعماله الماء الحار للتعقيم والتطهير فما كان التعقيم ليخطر له ببال ووصف ابن سينا طريقة إعطاء اللبن وكميته ونصح للمسلول بالإكثار من اللحوم على أنواعها. مرشد خاطر

دمشق

دمشق لأمير الشعراء أحمد شوقي أما دمشق فمقر الملك ... ومعقد التاج ونظم السلك بل شامة والشام وجنة الثرى ... ترفُّ فردوسها وتجري كوثرا مهد معالي ملكهم وأسها ... لا يعجب أن يرفعوها للسها ظلت على أيامهم تزيد ... تعمرها يد وتكسوها يد وتزلف الدنيا لها وتجي ... وتثني بها الزمان عجبا حتى جلتها دولة الوليد ... في أزين الطريف والتليد وكملت محاسن العروس ... وعوَّذت بالجامع المهروس تأنقت يد الوليد فيها ... واستبقت أكف مترفيها فأصبحت حديقة الفنون ... وهيكلا من مرمر مسنون تفيض من عجائب العمارة ... وحجر الصلاة والإمارة ثم هوى أقمارها وأبعدوا ... فخلفت بعدهم ولا تسعد

تطور القضية النسائية في سورية

تطور القضية النسائية في سورية من دواعي الغبطة والسرور أن القضية النسائية في الأمصار العربية ارتقت درجات ولئن كانت متفاوتة إلا أنها حسنة على وجه عام ومطردة السير إلى الأمام بفضل جهود نسائنا وبتأثير روح العصر والعدوى الاجتماعية، ومما يستدعي الإعجاب بهذه النهضة وعقد الآمال عليها أنها تجاري تطور الزمن وتتمشى مع حاجة الوطن. فقد ألفت المرأة الجمعيات الخيرية والأدبية وقامت هذه الجمعيات النشيطة بما يتطلب منها مساعدة الإنسانية والدعوة إلى العلم والثقافة والتربية وتخطها إلى التعاون لرفع مستوى المرأة وحفظ كرامتها. ومع ذلك فلطالما تعرض المنتقدون والمنتقدات إلى المرأة وأظهروا استخفافاً بما قامت به من أعمال يساعدهم على ذلك ما يرونه من استمرار جهود الجمعيات ضمن منطقة حتى كأن حركتها تدور حول نفسها. ولو أن أنصف هؤلاء المنتقدون لما حكموا على الحركة النسائية بالعقم لما غشيتها من جمود في الآونة الأخيرة بل إنهم لو أنصفوا لاستعرضوا أعمال المرأة السورية اللبنانية منذ فجر النهضة حتى الآن وراقبوا الخطوات الواسعة التي خطتها في برهة قصيرة والخدمات الجلي التي بذلتها في سبيل الحياة الاجتماعية، وعلى أنّ الجمود الذي حدث أخيراً في ما أتي المرأة لم يكن عن ضعف في نشاطها ولا عن تأخر بحركتها وإنما ظهر هذا الجمود على أثر التطور الاجتماعي في البلاد، فإنّ الانقلاب الذي حدث في العالم عن تأثير الحالة الاقتصادية، وعما صار للمال من النفوذ في تكييف مناهج الأمم المعاصرة وأخلاقها شمل هذا الوطن العزيز فاستدعى أن يحصل فيه تطور بالحركة النسائية يلائم ذلك الانقلاب. وهذا ما استرعى انتباه سيدات هذه المدينة الزاهرة وعملن على مداركته فقد راقب بعض بعض فضلياتنا الأثر الذي أحدثه هذا التطور الجديد ولاسيما من حيث نزول المرأة إلى ميدان الكسب، وما حصل عنه من توفر صاحبات المهن الحرة بين الطوائف كافة، من محاميات وطبيبات وكيماويات وقابلات وقانونيات وممرضات، فضلاً عن الصحفيات، والمعلمات، وعدا التاجرات، والكاسبات، فرأين أن الحاجة أصبحت ماسة للقيام بسعي يقصد منه اتحاد النساء العاملات الكاسبات لخدمة والوطن ومساعدة المحتاجات للكسب على إيجاد أعمال لهن تناسب استعدادهن وبيآتهن، فأسسن نقابة المرأة العاملة، وتوخين فيها أيضاً العمل والتعاون على ترويج المصنوعات والمنتوجات الوطنية وهكذا تداوي هذه النقابة الأزمة الاقتصادية وتوفير الكسب لصاحبات الصنعة العاطلات من

جهة وبالسعي لرواج مصنوعاتهم الوطنية وسائر منتجات الوطن من جهة أخرى، ثم أنها تستفيد في الوقت نفسه من القوة النسائية التي تحصل عن اتحاد العاملات وتستخدم هذه القوة لنيل المرأة حقوقها كاملة. وبهذه الواسطة تخطو المرأة في بلادنا خطوة جديدة، فتنتقل من دور الأقوال إلى دور الأعمال. على أنه إذا صح وجود عقم في أعمال المرأة التي قامت بها حتى الآن فسببه بقاؤها تحت وصاية الرجل واستمرار حرمانها من الحقوق التي تتمتع بها شقيقتها في البلاد الراقية ومن البديهي أن تأتي آثار القاصرات قاصرة. فإذا أردنا أن نطالب المرأة بما يترتب عليها من واجبات الهيئة الاجتماعية كان علينا أن نطالب أنفسنا قبل ذلك بالتخلي عن حقوقها كاملةً لأن إشراك المرأة في هذه الواجبات ومحاسبتها عليها من شأنهما أن يشحذا مواهبها، ويثقفا مداركها تثقيفاً تعجز دور العلم عن إدراكه، تثقيفاً يؤهلها لخدمة قومها وخدمة الإنسانية في شؤون كثيرة يقصر الرجل عن مجاراتها فيما وإنّ شريعة البلاد كما أن تاريخنا القومي يساعدنا أشد مساعدة على تمتع نسائنا بالحقوق المنشودة. فكما إن الشريعة الإسلامية جعلت المرأة صنو الرجل فأجازت لها الاستقلال في أموالها وأملاكها، وسمحت لها بتعاطي الأعمال الاقتصادية من تجارة وصناعة وزراعة، وخولها الحق بتولي الأعمال العامة كالقضاء وغيره، فأن تاريخنا العربي أرانا أمثلة كثيرة على الأدوار الاجتماعية والسياسية التي لعبتها المرأة: فقد اشتركت في الأحزاب السياسية وفي الحروب والثورات، وزاحمت الرجل على تولي الزعامة الحركة الفكرية، كما زاحمته في الأسواق التجارية. ولقد استبشرنا خيراً كثيراً للخطوة الجديدة التي سلكتها المرأة في هذه البلاد لما هو معلوم من ارتباط كرامة النساء بالاستقلال المالي وبتنا نترقب نجاح هذه الخطوة نجاحا للمطالبات بالحقوق. ولكن بلوغ هذه الأماني لا يزال يتوقف على اتجاه جديد آخر ننتظره من نسائنا العناية به وقبل الإشارة إليه اسمحوا لي يا سادة أن اطرح عليكم سؤالا بهذه المناسبة طالما ساءلت نفسي به، وهوان المرأة السورية، ولاسيما في لبنان، أصبحت تتمتع بخط كبير من التربة والثقافة، وصار في عدادها جمهور غير قليل من صاحبات الشهادات العليا والتخصصات كما رأينا رأي العين في الاجتماعات التي توالت لتأليف نقابة المرأة العاملة. ومع ذلك فانا نرى عجباً إذا ما عمدنا إلى المقابلة بين ما بلغة نساؤنا من الحقوق وبين ما استحوذت عليه من ذلك

نساء أمم شرقية وغربية، نسبة المتعلمات بينهن دون نسبة المثقفات لدينا، اجل نرى عجباً إذ نجد نساء تركيا والهند والبلقان وبعض الممالك ألاتينية والسلافية وكذا نساء الصين يتمتعن بالحقوق الاجتماعية والمدنية والسياسية، على أن نساءنا بقين محرومات من معظم هذه الحقوق. هذا سؤالي وإذا سمحتم بان أكفيكم مؤنه الجواب عليه فأقول: ليس السر في ذلك أن نساء لأمم الأخرى اللاتي تمتعن يتلك الحقوق بلغن ما بلغته بفضل رقي المرأة وإلحاحها بالمطالبة بحقوقها فحسب، كلا فأن المرأة الغربية جاهدت مدة جيل في سبيل الحصول على المساواة مع الرجل ولكنها لم تحظ بهذه الأمنية في معظم الدول الكبرى إلا فجأة بعد أن كان صوتها قد خفت وكانت قد انصرفت عن الافتكار بهذه المساواة. ذلك لان الرجل الذي كان ينكر على المرأة حقها قبل الحرب العامة لم يلبث أن استسلم لشقيقته بعد انتهاء هذه الحرب وساعدها على بلوغ حقوقها كرة واحدة ولم يكن هذا التساهل يأتيه الرجل عن انقلاب علمي في عقيدتهم، كلا، بل حدث عن براهين حسية قدمتها المرأة أثناء الحرب ساكنة صامتة بما بذلته من خدمات جلى لأوطانها، براهين لم يسع الرجل المعترف بجميل المرأة إلا إن يقنع من بعد بصواب مطالبيها وصحتها وكذلك كان شأن المرأة التركية فان ما بذلته في الثورة الكمالية من المظاهرة لها وتأييد مباديها أوصلها إلى حقوق مدنية وسياسية ما كانت لتنالها في نصف جيل لو اقتصرت على المطالبة المجردة. ويقال مثل ذلك عن المرأة الهندية التي ساوت الرجل مساواة كاملة في الحقوق العامة. فان مظاهرتها للرجل قي الجهاد الوطني كانت أعظم مساعد لها على التمتع بهذه المساواة. ولقد ذكرتني بطولة المرأة الهندية ببطولة المرأة العربية في صدر الإسلام فأن عجوزاً هندية مسلمة فجعت أخيراً في ثورة غندي بوحيد لها فازرفت دمعات حارة على وجنتيها الجعديين. ولما حاول صحبها أن يطيبوا خاطرها قالت ولست احزن على فقد وإنما اذرف الدمع آذ لم يبق لي ولد آخر يستمر بعده على خدمة الوطن ثم يبذل نفسه فداء للوطن سيداتي - تلك هي السبل التي سلكتها المرأة في الأقطار الأخرى فبلغت بها حقوقها كاملة، وتلك هي السبيل التي يجدر بسيداتنا أن يسلكنها لنيل ما نالته نساء العالم من الحقوق: فأن مظاهرة وطنية واحدة تظاهر المرأة فيها الرجل تجعله يتأهب للتخلي عن حقوقها أشد من ألف خطاب يصفق له بيديه مجاملة، ويغلق فؤاده دونه استنكاراً. وأني إذا خصصت

الوطنية بالذكر والعناية بالوطنية فلا أقصد بذلك دعوة سيداتي للتخلي عن واجباتهن الأخرى وإنما أخصها بالذكر لأن المرأة غافلة عنها حتى كأني بها تحسبها من واجبات الرجل وحده. على حين أن اهتمام المرأة بالوطنية يؤمن مصلحتها ومصلحة الوطن أيضا سياسياً واقتصادياً. مثلا فان مصدر خراب هذه البلاد أاكتساح المصنوعات والمحصولات الأجنبية أسواقنا بينما نحن عزل عن أسباب الدفاع، وما العدة للدفاع في هذا الميدان الاقتصادي إلا النعرة الوطنية فلو أن التعصب الوطني متأصل في نفوس نسائنا تأصله في نساء فرنسة وألمانيا لكان يتاح لنا أن ندفع عن أسواقنا الجارف الأجنبي بما للمرأة في الأوساط الاجتماعية والعائلية من تأثير عظيم، فكم جرّبنا يا سادة أن نقاطع البضائع الأجنبية وكم جربنا أن نعمل على ترويج المحصولات الوطنية وكنا مع ذلك نفشل على الدوام وعبثا ننجح في الآتي إذا لم تشعر المرأة قبل الرجل شعوراً عميقاً بوجوب هذه المقاطعة فتشعر الأمة بأسرها من ورائها. وفضلا عن كل ذلك فانا لنرتجى من عناية المرأة في الوطنية فائدة جلى من حيث تأليف رأي عام. فأن بلاداً كبلادنا تعددت فيها الطوائف وتنازعت فيها الأهواء جعلت حكم الرجل في الشؤون العامة يأتي على الأغلب مطبوعاً بطابع المصلحة، وإما كان نساؤنا لايزلن مترفات عن المصالح الشخصية والطائفية فمن المنتظر أن تكون أحكامهن وأفكارهن أشد تقارباً وأكثر إنصافاً، وتكون من ثم أقوى على تأليف رأي عام. محمد جميل بيهم

صفحة من أدب الشرق

صفحة من أدب الشرق دار الحبيب قطعة من المثنوي لمولانا حلال الدين الرومي قال حبيب لمحب عان كم جبت بالأسفار من بلدان فلي هاتيك البلاد أحسن قال التي فيها الحبيب يسكن أي حمى حل ملكي مربعه وأن يكن سمَّ الخياط، ذو سعة ويوسفي الحسن حيثما بدا ولو بقر الجب يغدو خلدا النار كالجنة إن كنت معي والسجن لي معك كروض ممرع إن كنت في النار، جنان مزهره أو لم تكن في الروض، نار مسعره إني متى كنت معي، في بشر وأن أكن في ظلمات القبر خير من الدنيا ودار الآخره دار أراها في هواك عامره تعريب أحمد الصافي النجفي

صفحة من أدب الغرب

صفحة من أدب الغرب الولد الأعمى يناجي أباه للشاعر الانكليزي كولي سيبر ماذا الذي تدعوه نوراً ... أنا ما سمعت به بصيراً بل كيف ينعم مبصر ... هل تخبر الولد الضريرا يا طالما حدثتني ... عما تراه وتشهد فزعمت أن الشمس ... تشرق جذوةً تتوقد أنا لست أجهل وهجها ... لكنَّما لا أعلم أنَّى يكون بها نهار ثم ليلٌ مظلمُ الصبح عندي والمساء إذا لعبت وحين أكرى لو لم أنم لجعلت أيامي نهاراً مستمرا كم ذا سمعتك ترسل الزفرات محزونا عليا هي نعمة لم أعطها فبقدرها لم أرز شيئاً حزني على ما لا سبيل إليه يحزمني السرورا أنا كالمليك إذا شدت أن أكن أعمى صغيرا تعريب خليل مردم بك

ما سبب انصراف الفتيات عن الأدب العربي

ما سبب انصراف الفتيات عن الأدب العربي وكيف تلافي ذلك جواب السيدة وداد سكاكيني على استفتاء الثقافة شاءت الثقافة الغراء أن تنظمني في عدد الأديبات اللواتي وجهت إليهن هذا السؤال ما سبب انصراف الفتيات عن الأدب العربي وكيف تلافي ذلكمعتقدة - وشكراً لحسن اعتقادها بي - إنها ستقع على خبيرة وافرة الاطلاع كثيرة البحث والاستقصاء للخواطر والآراء التي يطلبها سؤالهم القيم، ولست أنكر أن شيئاً من الذهول تولاني عند ما أخذت سؤال الثقافة فقد وجدتني أمام معضلة قومية - إن صحت التسمية - لا يجوز لنا إهمال شأنها وترك الأمور التي تتفرع عنها تسير في غير طريقها المستقيم وذلك رغبةً منا في تدارك هذا النقص البارز في أدبنا النسائي فيكون عملنا هذا ترويجاً للأدب العربي بين حاملات رسالة الأدب السنوي فيقبلن عليه بلذة وشغف إقبالاً يؤدي حتماً إلى رفع قيمته في نظر الأدباء والمتأدبين. تولتني هذه الفكرة فعكفت على السؤال أدرسه بقدر ما تسمح معرفتي وطاقتي متلمسة في ذلك وجه الصواب، وها أنا أبسط لقراء الثقافة وقارءاتها ما وصلت إليه بإيجاز راجية أن يجدوا فيه ما ينقع اللغة ويروي الآوام ولا فحسبي إني حاولت معالجة الموضوع ورائدي الإخلاص وليس من ملام على المجتهد الذي له من إخلاصه ما يشفع به إن أخطأ سهمه الهدف، والتوى عليه القصد ألقيت على نفسي السؤال ورحت أناقشها فيه فألفيتني أنتهي دون قصد إلى صوغه على وجه آخر وهوماسبب انصراف الفتيان عن الأدب العربيوما كنت أخبز لنفسي أداخل هذا التعديل على سؤال الثقافة المحترمة لولا أنَّ التفكير قد ساقني إلى ملاحظة ذلك التأثير الذي يتركه أو يحدثه الأدب الرجالي، في الأدب النسائي ولست أجيء بشيء جديد إذا لحظت أن نهضة الرجال الأدبية قد سبقت نهضة المرأة فكان طبيعياً والحالة هذه إن تتأثر نهضتها بنهضته وإن تحمل في تضاعيف أدبها وثناياها بعض الخصائص الموجودة في أدبه دون أن يشغلنا ذلك عن ملاحظة الفارق بين عناصر الأدبين. وهي هذه لعناصر لتي تنبثق عن بيئة كل منهما وتطبع أدبه عليه لست أعني بذلك أدباء العرب في أيامنا لا يعنون بأدبهم نثراً وشعراً عناية تستحق الإعجاب ولا كني أريد أن أقرر أمراً لا سبيل إلى إغفاله ولا

مندوحة لنا عن تقرير قيمته وخطره، وهو هل كان الأدباء في فجر نهضتهم الحديثة يدرسون الأدب العربي ويسيغون فنونه ويذيقون ما فيه من روعة وجلال كما هو شأنهم اليوم على رغم ما يجدون من عنت وعناء وجهد في بحوثهم ودراساتهم في الكتب الأدبية الباقية في أيدينا من تراث أسلافنا وهي كما لا يخفى على الباحث كثيرة البلبلة والتشويش والتشتيت، تحتاج إلى استثمارها واقتناه أسرارها لتجار لغة عصرنا ومنهجه وروحه ومصطلحا ته. إن الرجل الأديب لم يزج بنفسه تحت أعباء هذا العمل المرهق إلا أسلافهم ولا ريب في أن محاولته الأولى كانت شاقة ومدنية لأنه لم ينشأ نشأة فيها شيء من الاستعدادات لذلك فالبعث الأدبي التي تقوم عليه نهضتنا الحديثة تشوبه روح أجنبية وتعليم غير عربية بثهما فيه رجال غير عرب حريصون على ترويج ثقافتهم وطبع المتعلمين عليها فهل نعجب والحالة هذه إن وجدنا المرأة مقصرة عن الرجل في هذه الحلبة لاسيما وهي لا تزال في فجر نهضتها يطلب منها كأديبة ناشئة أن تلم إلماماً صحيحاً بأحوال عصرها وتلاحظ ما يتعاوره من لمظاهر المتأخرة وتدرس ما قد يقع تحت حسها وعقلها من قضايا الحياة لتفهم بواعثه وأسبابه وتفقه أعراضه وآثاره وتدرك مراميه ونتائجه؟ وبعد فإني أسأل بحق هل أخذت المرأة من كل ذلك بنصيب يذكر حتى نريدها أن تعكف على الأدب العربي فتدرسه دراسة صحيحة فيها لذة ومسرة ومنفعة، وقد رأينا عناء الرجل فيه ثم تحدثنا عنه في لهجة المتفهم له لا ريب عندي أن انصراف الفتيات عن الأدب العربي يتأثر إلى حد بعيد بالعوامل التي ذكرناها آنفاً باقتضاب، وتقع فيما أرى تبعة ذلك على عاتق الرجل الذي هو قدوة المرأة في كل لون من ألوان الحياة، تجاريه في خطاه باعتباره أرسخ منها قدماً في ممارسة هذه الأمور فلو أحسن أعمال الترويج للأدب العربي ودرسه كما يدرس آداب الأمم التي تثقف في معاهدها واستمد من مواردها متداركاً ما يعتروه من بلبلة وتشويش تستبهم بهما معالم جماله ورونقه - لما وجدت الفتيات بعد أن يذقن ما فيه من روعة وبهاء - سبيلاً إلى الإعراض عن دراسته ولما يكن يفضلن عليه أدباً مهما يكن له من قيمة في نظرهن، وعلى ذلك فالجهل بقيمة الأدب العربي عامل آخر يصدر الفتيات عن تذوقه وترشفه بلذة وشوق والإنسان كما قيل

في الأمثال عدو لما جهل. خلاصة القول: إن الأسباب التي أدت إلى انصراف الفتيات عن الأدب العربي ترجع إلى عدة عوامل نقتصر على ذكر أهمها وهي: أولاً - أننا أمة شديدة الافتقار إلى مدارس وطنية للفتيات تعنى بالثقافات العالية ولا عبرة في المعاهد الأجنبية المنتشرة في الحواضر والعواصم فهي إن كانت تعنى بشيء من ذلك فهو طبعا لا يعدو حدود الترويج لآداب قومها وبث تعاليم أمتها في نفوس ناشئتها لأنها إنما وجدت للعمل على تحقيق هذه الغاية مهما كلفها الأمر من عناء وتضحية فتأتى عن ذلك هذا الضعف الظاهر في ميل الناشئة إلى الأدب العربي وكان حتما على الفتاة التي مابرحت في دور التكوين العقلي أن يكون لها نصبي في ذلك ثانياً - إن المرأة عندنا لا تزال في فجر نهضتها التي لا نستطيع إلا أن نسمها بالضعف والاضطراب لما بعثورها من عقبات كأداء تقتضي ردحاً من الزمن حتى تذلل وتكون سنة التطور قد فعلت فعله في تكوينها وتنظيمها كما ذلك من قبل في نهضة الرجل حتى أصبحت كما نراها اليوم دانية القطوف. ثالثاً - عدم توفر أسباب الدعوة والترويج والتنشيط للأدب العربي، والتعاون قولاً وفعلاً على إحياء معالمه وآثاره من قبل الحكومة والشعب. وهناك عوامل غيرها تأتي في الدرجة الثانية، كاندفاع ناشئتنا شباباً وشابات مع تيار التقليد، والتسامح المريب في الشؤون الوطنية والقومية وتسرب الأفكار المتطرفة والمبادئ الملتوية والأدب الماجن والفاسق إلى مختلف بيئاتنا. إلى غير ذلك مما تسهل مطالعته في الكتب والصحف والنشرات غير العربية. أما كيف نتلافى ذلك الجفاء الذي يجده الأدب العربي من الفتيات فأجمله بعبارة واحدة، وذلك أن نتعاون حكومة وشعباً على مكافحة هذه العوامل كلها في غير هوادة ولا رفق، وبديهي أن إزالة المسبب تؤدي حتماً إلى زوال السبب هذا رأيي في الموضوع أبسطه بإيجاز راجية أن أكون قد أحسنت تشخيص الداء ووقفت إلى وصف الدواء. وداد سكاكيني

الهندسة والزندقة

الهندسة والزندقة نادرة من أظرف النوادر لأبي حيان التوحيدي سمعت أحمد الطيب يقول: إن صديقاً لابن الكاتب أبي العباس يكنى أبا عبيدة قال له ذات يوم: إنك بحمد الله وأدبه ذو أدب وفصاحة وبراعة فلو أطلت فضائلك بأن تضيف إليها معرفة البرهان القياسي، وعلم الأشكال الهندسية الدالة على حقائق الأشياء، وقرأت إقليدس وتدبره؟ فقال له ابن ثوابة: وماكان إقليدس ومن هو؟ قال: رجل من علماء الروم يسمى بهذا الاسم، وضع كتاباًَ فيه أشكال كثيرة مختلفة تدل على حقائق الأشياء المعلومة والمغيبة، ويشحذ الذهن، ويدقق الفهم، ويلطف المعرفة، ويصفي الحاسة ويثبت الروية، ومنه ومنه افتتح الخط وعرفت مقادير حروف المعجم. قال له أبو العباس بن ثوابة: كيف ذلك؟ قال: لا تعلم كيف هو حتى تشاهد الأشكال وتعاين البرهان فقال: فافعل ما بدا لك. فأتاه برجل يقال له قويري مشهور، ولم يعد إليه بعد ذلك. قال أحمد بن الطيب: فاستظرفت ذلك وعجبت منه فكتبت إلى ابن ثوابة رقعة نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم. اتصل بي - جعلت فداك - أن رجلاً من إخوانك أشار عليك بتكميل فضائلك وتقويتها بشيء من معرفة القياس البر هاني وطمأنينتك إله، إنك أصغيت إلى قوله وأذنت له فأحضرك رجلاً كان غاية في سوء الأدب معدناً من معادن الفكر، وإماماً من أئمة الشرك، لاستغرارك واستغوائك، يخادعك عن عقلك الرصين، وينازعك في ثقافة فهمك المبين، فأبى الله العزيز إلا جميل عوائده الحسنة قبلك، ومننه السوابق لديك، وفضله الدائم عندك، بأن تأتي على قواعد برهانه من ذروته، وتحط عوالي أركانه من أقصى معاقد أسه، فأحببت استعلامي ذلك على كنهه من جهتك ليكون شكري لك على ما كان منك، حسب لومي لصاحبك على ما كان منه، ولأتلافى الفارط في ذلك بتدبير المشيئة إن شاء الله

تعالى. قال: فأجابني ابن ثوابة برقعة نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم. وصلت رقعتك أعزك الله وفهمت فحواها وتدبرت متضمنها، والخبر كما اتصل بك والأمر كما بلغك، وقد لخصته وبينته حتى كأنك معنا وشاهدنا، وأول ما أقول: الحمد لله مولى النعم، والمتوحد بالقسم، يرد علم الساعة وإليه المصير وأنا أسأله أيذاع الشكر على ذلك، وعلى ما منحنا من ودك، وإتمامه بيننا بمنه. ومما أحببت أعلامك وتعريفك بما تأدى إليك، أن أبا عبيدة لعنه الله تعالى بنحسه ودسه وحدسه، اغتالني ليكلم ديني من حيث لا أعلم، وينقلني - عما اعتقده وأراه وأضمره من الإيمان بالله عز وجل، وبرسوله (صلى الله عليه وسلم) موطداً - إلى الزندقة بسوء نيته إلى الهندسة، وأنه يأتيني برجل يفيدني علماً شريفاًََ تكمل به فضائلي، فيما يزعم. فقلت: عسى أفيد براعة في صناعة، أو كمالاً في مروءة، أو فخاراً عند الأكفاء، فأجبته أن هلم؟ فأتاني بشيخ ديراني شاخص النظر، منتشر عصب البصر طويل مشذب محزوم الوسط، متزمل في مسكه، فاستعذت بالرحمن إذ نزغني الشيطان ومجلسي غاص بالإشراف من كل الأطراف، وكلهم يرمقه ويتشوف إلى رفعتي ومجلسي غاص بالإشراف من كل الأطراف، وكلهم يرمقه ويتشوف إلى رفعتي مجلسه وإدنائه وتقريبه، ويعظمونه ويحبونه، والله محيط بالكافرين. فأخذ مجلسه ولوى أشداقه، وفتح أو ساقه، فتبنيت في مشاهدته النفاق، وفي ألفاظه الشقاق. فقلت: بلغني أنَّ عندك معرفة من الهندسة، وعلماً واصلاً إلى فضل يفيد الناظر منه حكمة وتقدماً في كل صناعة، فهلم أبدنا شيئاً منها أن يكون عوناً لنا على دين أو دنيا، في مروءة ومفاخرة لدى الأكفاء، أو مفيداً زهداً ونسكاً، فذلك هو الفوز العظيم، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فازوما ذلك على الله بعزيز. قال: فأحضرني دواةً وقرطاساً، فأحضرتهما إليه، فأخذ القلم ونكت نكتة، نقط منها نقطة تخيلها بصري وتوهمها طرفي كأصغر من حبة الذرة، فزمزم عليها من وساوسه، وتلا عليها من حكم أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهراً بفكه وأقبل علي وقال: أيها الرجل، إن هذه النقطة شيء لا جزء له. فقلت: أضللتني ورب الكعبة، وما الشيء الذي لا جزء له؟

فقال: كالبسيط. فأذهلني وحيرني وكاد يأتي على عقلي، لولا أن هداني ربي، لأنه أتاني بلغة ما سمعتها من عربي ولا عجمي، وقد أحطت علماً بلغات العرب وقمت بها واستبرتها جاهدا واختبرتها عامدا وصرت فيها إلى مالا أجد أحداً يتقدمني إلى المعرفة به، ولا يسبقني إلى دقيقة وجليلة. فقلت أنا: وما الشيء البسيط؟ فقال: كلله والنفس. فقلت له: أنك من الملحدين! أتضرب لله الأمثال والله يقولفلا تضربوا لله الأمثال أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون؟ لعن الله مرشداً أرشدني إليك ودالاّ دلني عليك، فما ساقك إلي إلا قضاء سوء، ولا كسعيك نحوي إلا الحين، وأعوذ بالله من الحين، وأبرأ إليه منكم ومما تلحدون، والله ولي المؤمنين، إني بريء مما تشركون، لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. فلما سمع مقالتي كره استعاذتي، فاستخفه الغضب فأقبل علي مستبسلاً وقال: إني أرى فصاحة لسانك سبباً لعجمة فهمك، وتذرعك بقولك آفة من آفات عقلك فلولا من حضر والله المجلس وإصغائهم إليه مستصوبين أباطيله، ومستحسنين أكاذيبه، وما رأيت من استهوائه إياهم بخدعه، وما تبنيت من تواز رهم، ولامرت بسل لسان التلكع الألكن، وأمرت بإخراجه إلى نار الله وسعيره، وغضبه ولعنته، ونظرت إلى إمارات الغضب في وجوه الحاضرين فقلت: ما غضبكم لنصراني يشرك بالله، ويتخذ من دونه الأنداد، ويعلن بالإلحاد؟ لولا مكانكم لنهكته عقوبة؟ فقال لي رجل منهم: إنسان حكيم! فغاظني قوله فقلت: لعن الله حكمة مشوبة بالكفر. فقال لي آخر: إن عندي مسلماً يتقدم أهل العلم! ورجوت بذكر الإسلام خيراً. فقلت آتيني به. فأتاني برجل قصير دحداح آدم مجدور الوجه، أخفش العينيين، أجلح، أفطس، سيء المنظر، قبيح الزي، فسلّم فرددت عليه السلام، فقلت مااسمك؟ فقال: أعرف بكنية غلبت علي. فقلت: أبو من؟ فقال أبو يحيى. فتفاءلت بملك الموت عليه السلام، وقلت اللهم إني أعوذ بك من الهندسة، اللهم فاكفني شرها فإنه لا ينصرف السوء إلا أنت. إلا أنت الحمد لله والمعوذتين، وقل هو الله أحد، وقلت أن صديقاً لي جاءني بنصراني يتخذ الأنداد ويدعي أن لله الأولاد، ليغويني فهلم أفدنا شيئاً من هندستك، واقتبسنا من ظرائف حكمت، ما يكون لي سبباً إلى رحمة الله ووسيلة إلى غفرانه، فإنها أربح تجارة وأعود بضاعة؟ فقال: أحضرني دواة وقرطاساً. فقلت: أتدعو بالدواة والقرطاس وقد بليت منهما ببلية لم تندمل عن سويداء قلبي؟ فقالت: وكيف كان

ذالك؟ فقلت: أن النصر أني نقط نقطة كأصغر من سم الخياط وقال لي أنها معقولة كربك الأعلى، فوا لله ماعدا فرعون وكفره وافكة فقال: إني أعفيك من النقطة، لعن الله قويري وما كان يصنع بالنقطة؟ وهل بلغت أن تعرف النقطة؟ فقلت: ستجهلن ورب الكعبة وقد أخذت بأزمة الكتابة ونهضت بأعبائها واستقللت بثقلها يقول لي لأتعرف فحوى النقطة؟ فنازعتني نفسي في معالجته بغليظ العقوبة ثم استعطفني الحلم إلى الأخذ بالفضل. ودعا بغلامه وقال له: ائتني بالتخت. فوا لله ما رأيت مخلوقاً بأسرع إحضاراً لهمن ذلك الغلام. فاتاه به فتخيلته هيئة منكرة ولم ادر ما هو، فجعلت أصوب الفكر فيه واصعده، وأجيل الرأي ملياً، واطرق طويلا لأعلم أي شيء هو؟ فإذا ليس بصندوق: أتخت هو؟ فإذا ليس بتخت، فتخيلته كتابوت فقلت: لحد لملحد يلحد به الناس عن الحق ثم اخرج من كمه ميلا عظيما فظننته متطبباّ وانه لمن شرار المتطببين. فقلت له: إن أمرك لعجب كله ولم أر أميال المتطببين كميلك اتفقا به العين؟ قال: لست بمطبب، ولكن أخط به الهندسة على التخت. فقلت له: انك وان كنت مبايناّ للنصراني قي دينه، أمؤازر له في كفره، أتخط على تحت بميل لتعدل به عن وضح الفجر إلى غسق الليل؟ وتميل بي إلى الكذب باللوح المحفوظ وكتبيه الكرام؟ إياي تستهوي؟ أم حسبتني كمن يهتز لمكايدكم؟ فقال: لست اذكر لوحا محفوظاً ولا مضيعاً، ولا كاتباً كريماً ولا لئيما، ولكني اخط فيه الهندسة، وأقيم عليها البرهان بالقياس والفلسفة. قلت له: اخطط. فاخذ يخط وقلبي مروع يجب وجيباً وقال لي غير متعظم: إن هذا الخط طول بلا عرض. فتذكرت صراط ربي المستقيم، وقلت له: قاتلك الله أتدري ما تقول؟ تعالى صراط ربي المستقيم عن تخطيطك وتشبيهك وتحريفك وتضليلك، انه لصراط مستقيم، وانه لأحد من السيف الباتر، وارق من الشعر وأطول مما تمسحن وابعد مما تذرعون ومداه بعيد، وهو له شديد، أتطمع أن تزحزحني عن صراط ربي، وحسبتني غراً غبياً لا أعلم ما في باطن ألفاظك ومكنون معانيك والله ما خططت الخط وأخبرت أنه طول بلا عرض الأمثلة بالصراط المستقيم لتزل قدمي عنه وأن تردبني في جهنم أعوذ بالله وأبرأ إليه من الهندسة وما تدل عليه وترشد إليه أني بريء من الهندسة ومما تعلنون وبئسما سولت لك نفسك إن تكون من خزنتها بل من وقودها وابعد لك فيها لأنكأ لا وسلاسل ولأغلالا وطعنا ذا غصة. فأخذ يتكلم فقلت: سدوا فاه مخافة إن يبدر من

فيه مثل مابدر من الضلل الأول، وأمرت بسحبه فحسب إلى اليم عذاب الله، ونار وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرونثم أخذت قرطاساً وكتبت بيدي يمينا آليت فيها بكل عهد مؤكد وعهد مردد ويمين ليست لها كفارة، إني لا أنتظر في الهندسة أبداً ولا أطلبها ولا أتعلمها من أحد سرا ولا جهرا ولا على وجه من الوجوه، ولا على سبب من الأسباب وأكدت بمثل ذلك على عقبي وعقب أعقابهم لا تنظروا فيها ولا تتعلموها مادامت السموات والأرض إلى تقوم الساعة لميقات يوم معلوم. وهذا بيان ما سألت أعزك الله فيما دفعت إليه وامتحنت به، ولتعلم ما كان مني ولولا وعكة أنا في عقابيلها لحضرتك مشافها وأخذت المتمني بك والاستراحة إليك. تمهيد على ذلك عذري فانك غير مباين لفكري، والسلام

رباعيات جديدة

رباعيات جديدة للشاعر الفيلسوف الزهاوي كذلك المنافق لقد رفعت كل التعالي تهانياً ... إلى الذئب إذ أمسى وصياً على الشاة كذلك في الأحياء كل منافق ... يكون مع الأيام في جانب العاتي إذا حاججته كل أمريء فله عقول جمة ... ولكل عقل فيه منها منطق الأرض عطشى إن السماء لتبغي ... ضحية من جديد وتحتها الأرض عطشى ... إلى دم من شهيد يبكي ويضحك أحبث الناس صديق ... عن نفاق يتحرك فمع المظلوم يبكي ... ومع الظالم يضحك بغداد جميل صدقي الزهاوي

ابكي عليه

ابكي عليه لما رأيتك لا تدوم لصاحب ... ورأيت ودك كالخيال الزائل أزمعت عنك تجافياً وتباعدا ... ونفضت كفى من غرور باطل قد يخدع الحر اللبيب كغيره ... فيرى الفضيلة عند غير الفاضل في كل يوم لي صديق راحل ... واحر قلبي للصديق الراحل ابكي عليه بعبرة مسفوحة=ونصاله مغروزة بمقاتلي حلب بدر الدين النعساني

الكرسي

الكرسي قوم بخلق للكرسي ضجتهم ... لولاه لم يحدثوا ذا الهتف والشغبا ما الهوا الخشب المصنوع منه هوى ... بحسن صنعته بل الهوا الذهبا لحكمة جعل الكرسي خالقه ... يعلو السماوات والأفلاك والشهبا حتى استقل عليه الله منفرداً ... لو كان كرسيه في الأرض لاغتصبا عز الدين التنوخي

من غبر عنوان

من غبر عنوان يامهبط الوحي ناج القوم إعلانا ... وجدد الوحي إنجيلاً وقرآنا قد اعرض الناس عن آي نزلت بها ... من معجز القول إبداعاً آمنت الله كم في الناس من شيع ... لايقبلون بغير السيف برهانا سبحان من جعل الإرهاب سنته=وألهم الخلق هذا النهج سبحانا أنا نرى الحق جهرا ثم ننكره=فالعقل يلهمنا والطبع ينهانا قادوا الحتوف وخاضوا الهول مصطلماً ... وأضرموا الكون باسم الله نيرانا حسب الأضاحي إذا الجزار ... جردها=أن لاتكون لغير الله قربانا قد يخفق المرء في أمر يحاوله ... وهو اللبيب فهات الزق ملانا ياساقي الشرب هات الكأس مترعة ... فالليل ولى ووجه الصبح قدبانا في نشوة الخمر شيء لست تدركه ... فطفف الكأس واحبسها إذا لانا واخفض صدى العودان الفجر يسمعه ... وأجمل القول فالميعاد قد حانا تاول الناس أمري، والظنون إذا ... تلاحقت تجعل الإيمان كفرانا قد كنت قبل اختبار القوم في سنة ... فصرت بعد اختبار القوم يقظانا عجبت للمرء يدعو الله مبتهلاً ... والصدر محتدم ينقد أضغانا كأنما الله شرطي يخادعه ... بظاهر القول تمويها وكتمانا أعوذ بالله من تلبيس نابتة ... تصور الملك العلوي شيطانا تغض منك لتخفي من فضائحها ... ما يجعل المنهل السلسال قطرانا صلى الإله على إبليس تكرمة=إن كان ما فعل الغوغاء إحسانا إربد الدكتور توفيق الحناوي

تحفة الأدبا وسلوة الغربا

تحفة الأدبا وسلوة الغربا عثر المحدث الكبير السيد عبد الحي الكتاني الإدريسي على كراريس من الرحلة الموسومة بتحفة الأدبا وسلوة الغربا للرحالة الأديب المحدث الخطيب بالمسجد النوري البرهان إبراهيم بن الشيخ أمين عبد الرحمن الخياري المغربي الشافعي المتوفى عام1083هـ. والرحلة هذه موجودة بكاملها في خزانة كتب شيخ الإسلام عارف حكمة بالمدينة ورآها السيد الكتاني فيها. والذي يهمنا نحن الدماشقة من هذه الرحلة هو وصف صاحبها لدمشق التي عرج عليها في طريقه إلى القسطنطينية وصفاً دقيقاً رقيقاً، تدل على أنه كان رحمه الله جيد الملكة في الأدب، مستملح السجع مليح النكتة، بليغ العبارة وبديع الاستعارة، وإليك نمطاً من إنشاءه العذب وسجعه الذي يجري مع طبعه، قال ما نصه في وصف رحلتهفإنها تحفة كل أديب رقَّ طبعه وخيمة، وكل لبيب أشرب بماء اللطافة والظرافة أديمه وأسرته الخدود والألحاظ واستعبدته الثغور الدرية بمنظومها ومنثور الألفاظ. وصار طعين قدود الجآذر والغيد رهين الخصور أثقلتها الروادف عن أن تمديد، وقد مادت تحت هاتيك الغلائل البدائع، مأمورة من السن المناطق بعد أن دارت على قلبها الضائع إلى أن يقول في تعليل تسمية رحلته: وإنما وسمتها بسلوة الغربة لأنني تعرضت فيها لكل منزل مررت عليه وأنزلته في ميسري الذي سرته، ومسلكي الذي سلكته، ذاكراً ما حواه من اللطائف، وما اشتمل عليه من الظرائف بأحسن عبارة وألطف إشارة ومن أوصافه الحسان ما يشنف ويقرط المسامع والآذانثم ينتقل إلى ذكر طريقة الراحلين في كتابة الرحلات بقوله: وقد توارد الفضلاء وتعاهد النبلاء على أن يجمع الواحد منهم رحلته إذا سافر إلى غايات وآماد وتعاهد البلاد، ثم اختلفوا فمن مخصد في رحلته ذكر الرجال الذين لقيهم، وآخر ذكر البلاد، وكلام الغرضين أمر مروم وقصد مأموم، فأحببت أنا أن أضم في جمعي هذين الأمرين وأنظم في سلكي العقدين، لما تقرر أن خير من العلم الواحد العلمين، وقد وقع لبعض شيوخنا (هو شهاب الدين الخفاجي) إنه لما ذكر من سماهم في رحلته لم يخص من لقيهم ولحظهم بعين البصر، بل زاد من لم يراه لتقدم عصره أو لبعد شقته، وأنا بخاري المذهب في مسلك التحديث فلذلك جريت فيمن أثبت اسمه على شرطه لعزته في القديم والحديث، فلم أذكر إلا من أثبت لي لقاؤه وتحلى سمعي بجواهره، كما تشنفت بلآليء كلماتي أذناه ولم أذكر من الرجال غير ذلك الإلهام إلا ممن يكون قد جرته القافية أو انجر

بالجوار أو كان من الأنبياء والصحابة والصلعاء الذين لهم في الطريق آثار اقتضى المرور على ذكرهم وشيخاً المشار إليه جاوز شرط البخاري ولم يقف ما شرط مسلم من اشتراط المعاصرة دون اللقاء ما معناه: إنّ فأتني الاجتماع بهم في الأندية والرحاب فلا يفوتني أن اجتماع أنا وإياهم في كتاب، وقال أن سماع الأوصاف إحدى الرؤيتين، وإنه يكتفي بالأثر لفوات العين. . . ولأصحاب الرحلة شعر رقيق منه ما قاله حينما نزل بمنزل يسمى القاع في طريقه إلى دمشق: بالله عزب هواً بالقاع قابلنا ... آثار كامل لوعاتي وأشجاني فقلت ريح دمشق فاح من كثب ... يا عين قوي فهذا وصلها دان وحينما بلغ أبواب دمشق قال: واستبشرنا برؤية أعلام دمشق، وانتشقنا من عرفها العقب أطيب نشق، فلم نزل نسير والشوق يتجدد والتوق يتأكد فمررنا بمحل يقال له القبة، به قبة حسنة الأوضاع، عجيبة الإبداع حتى انتهينا إلى محل يقال له باب الله (بوابة دمشق) فوجدناه مفتوحاً وقد ثبت أن الشام جنة فتذكرت قوله تعالى: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها، فقلت قاصد الكريم يدخل من بابه ويتعلق بمعظم أسبابه، فدخلناها فرحين مستبشرين ولسان الحال يقول: طبتم فادخلوها بسلام آمنين. وفي أثناء مرورنا نمر وأهل الشام قد انتشروا بالطريق جناحين، فكم أوقفوا من لحظ وكم أقروا من عين، فبعد الدخول من سورها، والنظر إلى ولدانها وحورها، فإذا مرأى يدهش الأبصار ويستوقف الأنظار، ويحار فيه الواصف ويضحى وجواد قلمه في ميدان (يشير لحي الميدان) الطرص واقف، إلى أن يقول في أهلها: وبالجملة فأهلها ينسون الغريب أهله، ويخصبون بلطافة أخلاقهم محله، فلقد قابلنا أجلائها وأعيانها بالتكري والتعظيم وعاملونا بما طبعوا عليه من شريف الخيم معاملة الصديق الحميم، فشكر الله له الأحسن إبقاءهم ما اختلف الملوان، فمن تشرفنا بمرآه من أعيانها وتيمنا باجتلاء محياه من عظماء سكانها - وهنا نذكر للتاريخ من اجتمع بهم في دمشق تباعاً مع حذف عبارات المدح والتعظيم -: السيد محمد الحسيني الحنفي (من آل حمزة) نقيب السادة الأشراف ونجله السيد عبد الرحمن، وكلاهما شاعر ساجل صاحب الرحلة في أبيات المدح، ومنهم مولانا أفندي المفتي بالشام الشريف فلقد سمعنا له بعض

مباحث في التفسير أجرى بها جياد ذهنه فكانت حسنة الموارد، وجلاها بتحقيقه وتدقيقه فقرب من أمدها كل متباعد، ومنهم الخطيب الأوحد من أن وعظ ألان القلوب لقاسية بزوا جر وعظه وأبان الأجياد حالية بجواهر لفظه وحلى الطروس بآثار قلمه مولانا الأمجد إسماعيل المحاسني الخطيب بالجامع الأموي، ومنهم المحقق المتين في سائر العلوم، حضرت مجلس درسه بالجامع الأموي للتشريف والاستفادة فرأيته بحر علم وهو الشيخ إبراهيم الدمشقي الفتال الحنفي، ومنهم قاضي الشام الحبر الأمجد السري القاضي أحمد البكري ومنهم المجدد للخلف ما أندرس من معاهد السلف الشيخ عبد القادر الصوفي الشافعي، ومنهم الأمير منحك باشا بن الأمير محمد المتهى نسبة إلى الجر اكس، اسمعني من لفظه العذب كثيراً من قصائده ومنهم الشيخ عبد الغني النابلسي ثم الدمشقي ذو التآليف. التي ضربت من الإصابة بسهم أنشني من فصيح لفظه أول ما لقيني للسلام علي، وقد عد ذلك كثير منهم خصوصية لنا، فإنه يمضي عليه العامان ولا يبرز من بيته ولا يجتمع به فيه من قصيدة، أبياتا منها: فأنت ووالدك يعد جد ... خيار من خيار من خياري وإجابة صاحب الرحلة بأبيات من البحر والقافية، ومنهم القاضي حسين العدوي الشافعي الصالحي وله شعر رقيق منه مانظمه في الخياري صاحب الرحلة: وما عاقني عن لثم أذيال مضلكم ... سوى أن عيني منذ فارقتكم رمدا فعاتبتها حتى كأني حبيبها ... فأبدت كلاما كان قلبي له غمدا وقد لغد كحلت طرفي بظرفه=فافتحها سهواً وأغمضها عمدا فأجابه بأبيات منها: أيا فاضلا أبدى لنا من نظامه ... لطيف اعتذار سكن الشوق والو جدا لئن كحلت بالظرف قد أسكرت بما ... إدارته من مقلوب أحداقها الشهدا ومنهم ذو المقام المنيف مولانا خليل بن الظريف ولقد قيل الألقاب تنزل من السماء، وصديقه هذا شاعر أديب أهدى إليه حلة بيضاء من أنفس ما يصنع بالشام مع أبيات منها: يا أيها المولى الذي بعلومه ... بين الورى تتفاخر العلماء أيقنت انك سوف تصعد منبراً ... شرفت بمنزلها به الخطباء

فبعثت نحوك حلة بيضاء قد ... رقمت فضول ذيولها الجوزاء كي ترتقيه بها فتصبح في الورى ... وعليه منك الراية البيضاء فأجابه بأبيات منها: يا سيدا مازال رائق وصفه ... يحلو لنا فكأنها الصهباء أحسنت فيما قد بعثت وحبذا ... ثوب به تتحمل الخطباء وافى إلي وقد بقيت على شفا ... فأتى الشفاء وزال عني الداء فكأنه ثوب ليوسف إذ أتى ... وكأنني يعقوب وهو شفاء زمنهم الشيخ زين الدين بن احمد البصروي (نسبة إلى بصرى) قال عنه انه جامع شتات اللطائف والعلوم، فمما شنف إسماعي من أبياته الغر ما بعثه لي في صدر كتاب وهو قوله: يا نسيما من ربوة الشام ساري ... عج على طيبة اجل الديار إلى أن يقول في صاحبنا الخياري: زره تبصر لديه كل جليل=من علوم ورائق الإشعار وحديث ألذ من نظرة المع ... شوق وافى قي غفلة السمار وسجايا كنكهة المسك والند ... وورد الرياض غب القطار قال وأهدى لي علبة مملوءة من قلب العشق وكتب عليها: لما تركت القلب عندكم ... وغدوت مشغوفا بكم صبا وخشيت أن تخفى مكانته ... صيرت ما يهدى لكم قلبا فأهديت له تمراً مدنياً وكتبت معه قولي: مذ صار قلبكم المكرم عندنا ... أنزلته بحشاشتي دون السوى وخشيت أن ينوي المرور تشريفا ... فبعثت حلواً سائراً مر النوى ومنهم الشيخ عبد الحليم ولم يذكر بسبته، اجتمع به في زيارة الشيخ الأكبر قال عنه وذاكرنا لطائف من العلوم وجارانا في ميادين المنطوق والمفهوم من المنثور، والمظلم، ثم سألته عن شيء بلغني عنه وهو انه ألف كتاباً ذكر فيه المشاهير من الناس بتراجمهم من الهجرة النبوية. فاخضر لي من ذاك الجزء الثاني فرأيته كامل المحاسن فائق الألفاظ بليغ المعاني

جامعاً لما تقدم من التواريخ، ثم أطلعني منه على الترجمة الخاصة بالشيخ محي الدين التي رقمتها في تفصيل أحواله فقرأتها بلفظي وهو يسمعها والحاضرون من أولها إلى آخرها ولقد أحسن فيها وأجاد، قال ثم عدنا من محله بعد زيارته لمحلنا النازلين به وهو منتزه سرت به منا القلوب وقرت النواظر وطابت النفوس وانشرحت الخواطر فأن الصالحية الذكورة جمعت محاسن دمشق: فيها قصور شامخات ومجالس عاليات وشهرتها تعني عن تفصيل أحوالها والمحال المشار إليه المسمى بالباسطية وهو من قديم عماراتها ونظم جواهرها وتبسم حياتها، يشتمل على إيوان جامع للمحاسن وعلى بحرة ماء تذكر سبيل الجنان، فلذلك ماؤها غير آنس، وقد حققت عند حصول البسط بها أن لكل شيء من أسمه نصبياً والى هذا يشير قول بعضهم: وكلما أبصرت عيناك ذا لقب ... ألا ومعناه إن فكرت في لقبه ولاحت مني التفاتة إلى بعض جهات الإيوان فرأيت مرقوماً على ذلك الجدار أبياتا كبيرة من الشعر منها ما هو منسوب للسيد محمد الحسيني القاضي بدمشق لما قال بالمحل الذكور سنة 1018 ما لفظه: ولله يوم البسط إذ تم انسنا ... بأحبابنا في باسطية شام بسطنا بساط الأنس من وصل مية ... وأسكرنا في بدون مدام فكتب تحتها الشيخ حسن البور يني شارح الدبوان الفارضي سالكا ذلك المنهاج: أنفحة مسك في الصباح عرفتها ... بعرف معان في رياض كلام وردت به في صالحية جلق ... موارد أنس فيه كل مرام لأدارك بسط الباسطة إنها ... لموطن إكرام وروض كرام ورأى تحت هذه الأبيات قطعة من البحر والقافية للمولى عبد اللطيف المنقاري ومثلها للعلامة مصطفى بن محب الدين ولم يذكر لنا نسبته، وقد ذكرنا شيئاً من شعر الرحلة بيانا لطبقة الشعر في ذلك العصر وفيه صنعة وركة كثيرة ومتانة ورقة قليلة، ولو ظفرنا بالرحلة كاملة لاخترنا منها مايهم التاريخ والأدب والدماشقه الغرب منها.

من أدب الغرب

من أدب الغرب الجندي شوايك في طريقه إلى السماء مقتبسة عن قصة للكاتب التشيوسلواكي هاتشيك (الجندي (شوايك) يصعد وحده إلى السماء ثم ينضم إليه (ماريك)، كلاهما باجنهة. على أبواب السماء كان ملك يقوم بالحراسة. وبعد برهة جاء جنديان انكليزيان.) الملك الحارس: - من هناك؟ فق. الجندي الأول (بالانكليزية): - وقعت في حرب (غاليبولي). الجندي الثاني: - قضيت من الجوع في سورية. جندي أفرنسي (ظهر فجاءه وقال بالا فرنسية): - تطايرت أعضائي في الهوء عند (فردون) (وأشار إلى رجله المقطوعة) الملك الحارس: - انتظروا قفوا بالترتيب فان الزحام شديد اليوم والجنود داخل المحل مكدسة بعضها إلى بعض (كالسردين). جندي آلماني: - غريق في غواصة. جندي طلياني (في هياج): - طار رأسي في (ايزونزو) جندي روسي: - أصيبت يدي ورئتي في (غاليسيا) الملك الحارس: - انتظروا جميعاً الألماني (مخاطباً الروسي): - يظهر أنه كان لك رئة حسنة، قوية أيها الرفيق. الإنكليزي: - رئة تصلح للرياضة البدنية الأفرنسي (مخاطباً الطلياني): - أسفاً على رأسك الروماني الجميل. الألماني (إلى الأفرنسي): سفاً على رجلك القوية الأفرنسي: - حقا لقد كنا جميعاً في رجلك القوية الملك: - أسكتوا لا تشاغبوا هنا (بين الجنود الكثيرين الذين يصلون زرافات ويتزاحمون على أبواب الجنة وأكثرهم بدون رأس كان يرى (شوايك) (وماريك) أيضاً. ومن بعيد كان لايزال يسمع صوت المدفع)

شواك: - أين نحن؟ لقد طال الوقت كثيراً. يظهر أن الأقدار رمت بنا مرة أخرى في سحن أو مكان رسمي لآخر في إدارة الحكومة الإمبراطورية - الملكية النمساوية - المجرية ماريك: - ولكن هناك بعض الفروق شوايك: - المحل الرسمي يبقى محلا رسمياً. انه دائماً نفس الشيء. من الإمام ترى الناس الذين يدخلون يدعو مظهرهم جميعاً إلى الاحترام ولكن من خلف تجدهم كلهم من الأنذال الساقطين. أنني أعرف جيداً هذه الدوائر الرسمية التي يقف على بابها حرس. ماريك: - ولكن أنظر يا شوايك إلى هذا الحارس، أن له أجنحة حقاً ونحن أنفسناً أيضاً. (ويأخذ كلاهما في لمس جسمه). شوايك: - صحيح مثل الإوز ولكن ماذا يضر ذلك. ويظهر أن السبب إنما هو لأننا أصبحنا من الأموات. ماريك (بغضب): أنهم قد لحقوا بنا، إذن، هؤلاء الأنذال. وأنا كنت أعتقد بأننا وفقنا للفرار. شواك: - لا تشغل فكرك، يا ماريك بما نالك من موتة الأبطال، فأنه لو لم نكن نحن لكان غيرنا من الكثيرين. ولا مندوخة من أن يسقط كل يوم بضعة آلاف في ساحة القتال. لأنه بدون ذلك لا تسمى هذه الحرب حرباً حقاً ولا يمكن أن يبقى لها ذكر في التاريخ إلا بهذه الصورة. هكذا يجب أن يكون. ماريك: - إنني أحتقر الحرب. شوايك: - ولكن لاحق لك في الهياج والغضب بسبب هذا القليل من موتة الأبطال ماذا يلحقك من ذلك؟ لاشيء. (بينما الجنود يتزاحمون وصلت سيارة وفيها قائد في زي غريب مع سائقه) السائق: - نحن على أبواب السماء يا حضرة القائد. ومن الصعب أن نجتاز الزحام. وكل هؤلاء من الجنود. القائد: - هؤلاء الخنازير، يرون القائد ولا يفسحون الطريق ولا يقومون بالثحية العسكرية؟ السائق: - ذلك صعب عليهم لأن أكثرهم قد فقد رأسه. القائد: - لا تتأخر عن دهس أحدهم، فأنهم حينئذ لابد أن يحيوا عن الطريق. مالى الإمام دمن أكتراث. (تقدمت السيارة بين جمهور العساكر وفتحت في طريقها الأبواب. شوايك يقبض على يد ماريك ويقول له: - تعال معي ولا فأننا ننتظر إلى يوم القيامة وتعلق الاثنان بالسيارة) (في الساحة وراء أبواب السماء)

ضابط الملائكة: - لتمر السيارة ولكن كيف جاء هذان الجنديان إلى هنا. عريف الملائكة: - الأمر أعرف حقاً، كيف؟ شوايك: - أرجوكم يا حضرة الرئيس الملك لا تزعجوا نفسكم بالسؤال. إنني قد تعلقت بالسيارة لأننا ما كنا نريد الانتظار. والبقاء ساعات طويلة في قبر مزدحم بالأموات ليس مما يدعو إلى السرور يا حضرة الملك. وكان يجب أن تجربوا ذلك مرة بنفسكم قبل أن تخاطبونا بهذه اللهجة القاسية. حقاً أنه لم يحدث شيء ذو بال ولقد كنا في حاجة إلى هذا القليل من البعث بعد الموت الذي كان واعظ الجيش (كاتس) يتقن وصفه لنا في أحسن الصور. والجندي (ماريك) لا ذنب له في الأمر فقد أخذته أنا معي. الضابط الملك: - يا عريف، خذ الاثنين إلى المحكمة العليا سنريكم البعث آيها النذلان. (السير في السماء) ماريك: - صه ذلك مالا يمكن معرفته كنهه. شوايك: - لقد تعلمنا ذلك منذ أيام المدرسة، يا ماريك اعدم معرفتك هذا. إن أوامر السماء وأعمالها لا يجوز البحث في كنهها. وهذا مثل أمر النظامفي العسكرية فانه إذا لم يعرف أحد لماذا أمر بعمل ما، قيل له هذا هو النظام الذي لا يجوز البحث فيه. وكذلك كل شيء في السماء. العريف) وقد مر على زمرة من الجنود الملائكة. فصاح في وجه أحدهم وأخذ يضربه ويقول له:) ياثور أفتح فمك جيداً وأصرح (هاله لويا) هل في فمك حجرة أي ثور أدخلك إلى الجنة، يا حمار، يا بليد أصرخ مرة أخرى. الجندي الملك يصرخ) هلا له هلويا. العريف: - يقولون ها له لويا يادب لماذا تجعر هكذا، يابغل مرة أخرى الجميع سوية. ماريك: - حقاً أنها نفس الحالة المؤسفة مثل عندنا. شوايك: - أن هذا يعجبني جداً يجب أن يكون الأمر هكذا في غاية الانتظام. (يخاطب العريف (إلى أين نذهب الآن العريف: - إلى القائد الأعلى. (غرفة يظهر فيها مثال القائد العام على حائط بكامله. رعد وبرق.) القائد الأعلى) بتكلم بآلة تصغير الصوت) الجندي جوزيف شوايك من الشاة رقم 91. والجندي ماريك. أيها الجندي شوايك، كيف تأتي إلى الحكمة العليا في اللباس العسكري الروسي وأنت جندي

نمساوي؟ بماذا تدافع عن نفسك؟ ماريك (متسائلا): - غريب جداً، كنت اعتقد دائماً أنه لا قيمة للزى الرسمي في السماء وأنه لا يوجد هنا إلا بشر لا تفريق بين قوميتهم. شوايك (مخاطباً ماريك): - ذلك لأنك من المتعلمين البهاء. (يخاطب القائد الأعلى) معذرة، يا حضرة القائد الأعلى، أن الرجل سمع محاضرات من الماسونيين قد أفسدت عليه فكره. (يخاطب ماريك) هل تتظاهر بالبلادة أم حقاً لأتعرف أن أحيانا تلك تتال الحظوة في السماء؟ ولذلك فقد كان الجميع من إنكلترا إلى اليابان يتسابقون في العبادة والدعاء بانتصار جيوشهم. أو لم تفهم لماذا يعتنون وتدريب هذه الجيوش من الملائكة في السماء، كما رأيتها قبل حين في الساحة؟ القائد الأعلى: - (وقد ظهر عليه بعض التردد) دعنا من هذا. أنك لأتفهمه. شوايك: - أفهم جيداً، يا حضرة القائد العام، أن ذلك مما لا يجوز البحث في كنهه وكفى القائد الأعلى: - قلت يجب عليك أن لا تتكلم في ذلك، يا شوايك. وألا فضل أن ننظر الآن في ورقة الضبط. (يتقدم أحد الضباط بالورقة ويقرأ عنوانها) مغامرات الجندي الصالح شوايك - أنك، إذن، قد سجنت في بلدية الحرب العامة لتفوهك بآراء تستشم منها الخيانة الوطنية. ولكن ظهر من بعد أن في الأمر التباساً وسوء تفاهم ثم دخلت في الجيش كرجل غير صحيح البنية وصرخت في طرقات (براغ): هيا إلى بلغراد مما كان السبب في اشمئزاز الجميع. على أنك في الحقيقة لم تقصد مخالفة الرأي العام بل كنت ترمي إلى غاية وطنية. ثم سرقت كلباً - ولكن حباً في قائدك. ومرة شددت على آلة الخطر - وإنما سهواً منك. وأخيراً فتشت على كتيبتك ولكنك لم تجدها. أليس كذلك؟ شوايك - إن ذلك صحيح. فأنني لم أستطع، مع كل ما أعطيته من شجاعة أن أتقدم إلى جبهة الحرب. القائد الأعلى: - أنت تعترف، أذن بكل شيء ولا تمتنع عن التوقيع على ورقة الضبط. شوايك: - أمراً سيدي إذا أردتم جلالتكم فأنني أوقع بكل سرور. ولكنكم إذا قلتم: يا شوايك، لا توقع على الورقة وتمسك بالأفكار فأنني أصر، حينئذ، على النكران ولا أرجع عن رأيي ولو رأيت الشيطان. أنني أعمل كل ما يطلب مني. القائد الأعلى: - يأبني شوايك، قل أنك جندي صالح ورغم ذلك فقد حدثت لك كل هذه

المصائب. إنك دوماً كنت تعمل غير ما تريده، فكيف ذلك؟ شوايك: - يا حضرة القائد، ذلك يؤلمني ويحزنني جداً ولكنني منذ الصغر كنت قليل الحظ. كنت دائماً أقصد الخير ولكن النتيجة كانت تأتي على العكس على أن هذا يحدث مع الجميع. وأرجوك، يا حضرة القائد أن تقول لي بشرفك أليس الأمر معك أنت أيضاً كذلك؟ ماريك: - مرحى لك، يا شوايك، لقد أحسنت وعرفت كيف تفحمه. أنه قد حدث معه ذلك في خلق هذا العالم وإدارته. شوايك: - أسكت، أيها الفوضوي الساقط إنني لا أقصد ذلك أبداً. القائد الأعلى: - الآن أيضاً أرك تقصد إلى غير ما تقوله. يجب أن تحسن التعبير عن التفكير بوضوح. أنه لا تقبل منك هنا معاذير وأهمية. ومن السهل أن أصبح شديداً، مخيفاً للغاية. أنك لا تعرفني وسوف تعلم عني شيئاً كثيرا، يا شوايك. ماريك: - أنه يتكلم مثل الضابط (بيكر) تماماً. شوابك: - (يصفعه على وجهه) كيف تجسر على ذلك. حقاً إن هذا لعجيب. (يخاطب القائد الأعلى) يا للفضيحة انه لا يؤمن بكم، يا حضرة الأميرال. وهو لن يتأخر عن إنكار كل السماء لو أستطاع إلى ذلك سبيلا. وأنا كنت دائماً أقل له: لماذا أنت لست مؤمناً مثلي ألا ترى أن أوعظ الجيش يحق له أن يحبسك كأنه ضابط. وهذا يكفي ليثبت لك أنه يجب أن يكون هناك دين. وإذا سجنت ثلاثة أسابيع لتغيبك عن الصلاة فأنه يمكنك حينئذ، وقد أقصر طعامك على الماء والخبز أن تفكر في الدين. ثم لماذا يأتي البشر إلى العالم ويقضون نحبهم في البؤس والفقر يفتك بهم السرطان والسل وغيرهما من الأمراض الجميلة ولماذا تقوم الحروب وتع الكوارث الطبيعية الأخرى من الزلازل والمجاعات والإنفجارات لو لم السماء لمجازاتنا. أنه يجب فرض العقوبات علينا ولهذا وجدت السماء. أليس كذلك أيها القائد الأعلى؟ إنني لا أتزحزح عن عقيدتي وإيماني ولا أتأخر عن تقطيع جسمي أرباً في سبيل الله والإمبراطور. ومهما جرى فأنني لا أحيد عن القول، رغم ما تكتبه الصحف بأنه ليس جميلاً أن نرى بعض الناس منغمسين في الترف يلتهمون كل شيء دون أن يقوموا بأي عمل بينما يشتغل ويكد الآخرون حتى تنهكهم الأمراض من كثرة الشغل دون أن يتمتعوا

بشيء من ملذات الحياة ويقتصر نصيبهم على قليل من السل إنني لا أفتأ بوجود عدالة سماوية. القائد الأعلى (وقد تزعزع موقفه): - يا شويك، كيف تخاطبني؟ شوايك: - كإنسان بسيط. القائد الأعلى: - لو كنت في مكاني، أتراك تدير العالم أحسن مني؟ ماذا كنت تعمل ياشوايك؟. (استراحة. رعد.) شوايك: - إن ذلك بسيط جداً، أيها القائد الأعلى. وقد تذكرت الآن قصة الحداد (دوبراقا) الذي سعى لانتخابه رئيساً للبلدية في (بوموستى) ثم لم يعرف ماذا يعمل وأخذ الموظفون من سكان المدينة وكاد الرجل يفقد عقله وأخذ يشعر بأن العجلات في دماغه تدور كأنها محركات طيارة فإنه طلب مشورتي ونصيحتي وسألني ماذا كنت أفعل لو كنت في مكانه؟ لقد أجبته قائلاً: إنني لو كنت مكانك لما زاحمت أحداً على الوصول إلى هذه الوظيفة. ماريك:= (بإعجاب)، نعم، هكذا هو الأمر. إنني لا أعترف بالعدالة السماوية بل أنكر السماء كلها وأنكر نظام العالم. وأنكر كل شيء. شوايك: - هذا ما يليق بك يا حمار! لماذا النكران؟ إنه لا يسبب لنا إلا وجع الرأس ومشاكل كثيرة. إن النظام لا بد منه ولا أرى ما يمنعني من السعي لأتمتع في السماء بالراحة كما فعل القائد نفسه. فإذا تم كل شيء حسب المراد فيها. وإذا فسد كل شيء فإنه يقول في نفسه: ماذا يهمني أمركم؟ القائد الأعلى) وقد صغر مظهره) إن ماريك رجل ملحد ولكنه شريف وصالح. يسمح له بالبقاء هنا. أما شوايك فيجب أن يخرج. أرجعوه إلى الأرض يجب أن يظل حياً، يعيش إلى الأبد ولا يسمح له بالدخول إلي فإنه ربما يفسد علي نظام السماء أيضاً. تعريب كامل عياد

ابتسامة واحدة

ابتسامة واحدة - إذاً فعائلة حميد بك تقضي هذا الصيف في المريجات لا في بلودان كما في العام الماضي. قال ذلك علي بك الشاب المتأنق لصديقه حسن أفندي بينما كانت السيارة التي تقلها من دمشق إلى صوفر تطوي المراحل الأخيرة من سهول البقاع ومروجه وقد أوشكت شمس العصر أن تتوارى وراء هضاب لبنان الخضراء الموشاة بما انتثر على قممها وفي أطرافها من تلك الدور البيضاء ذوات التيجان الحمر. والتفت حسن أفندي إلى رفيقه الذي يحاوره فقال: نعم ولقد وجدت ابن عمك الذي قضى بضعة أيام من هذا الشهر في المريجات كثير الإعجاب بجمال شهيرة ابنة حميد بك بسفور ابنة حميد بك فقد وفق لأن يراها ويتحدث إليها. قال علي بك إني لا أعرف كيف يرضى حميد بك بسفور ابنته كأنما لم يتصل به بعد ماتردده الناس من الأحاديث عنها وعن تفرنجها، فهي لا تحجم كما سمعت عن التحدث إلى كثير من الشبان ومعاشرتهم ويقولون أيضاً إنها لا تتأخر عن شرب قدح من الشمبانيا إذا دعيت إلى ذلك ويقولون أيضاً أفظع من هذا. . ثم توقف عن الجري في حديثه كمن يود أن لا ينقل ما سمعه من أخبار السوء فقال حسن أفندي لا تصدق كل ما يقولون فأنت تعرف أن الناس عندنا يبالغون في النيل من كل فتاة خالفت شيئاً من التقاليد القديمة ولقد آن لنا أن ننصرف عن معاكسة سنن التطور فنترك لهؤلاء الفتيات المتعلمات في العصر العشرين عصر المدينة والنور شيئاً من الحرية في انتخاب أزواجهن لا أن نحسبهن في البيوت حتى نبيعهن بيع السلع كما كان يفعل أجدادنا من قبل. قال علي بك دعني من هذه الفلسفة العمياء التي لا أعرف شيئاً أضرَّ بنا منها فإذا كانت نتيجة تعليم الفتيات أن يصرن إلى ماصارت إليه شهيرة هذه من حرية وسفور وفرنجة فأنا أفضل أن يبقين جاهلات. شهيرة هذه من من حرية وسفور وفرنجة فأنا أفضل أن يبقين جاهلات. وإن كانت نهضتها لا تأتينا إلا عن هذا الطريق كما يزعم الكثيرون فأنا أفضل أن نبقى حيث نحن فلا نتقدم خطوة واحدة. فتنحنح حسن أفندي في مجلسه من السيارة وقال لرفيقه ضاحكا: يخيل لي أن في نفسك على شهيرة شيئاً من الحقد والموجدة، فأنت تبالغ كثيراً في نقل ما تذكر أنك سمعته من الناس عنها فهل وقع لك معها من الحوادث ما دعاك إلى ذلك؟ ورأى علائم الغضب تبدو على وجه صديقه فأخذ بيده واستمر في حديثه دون أن ينتظر جواب سؤاً له وقال: أما أنا فقد رأيتها مع الكثيرات من رفيقاتها في الصيف الماضي في

منتزهات الزبداني وبلودان حيث كانت تسير سافرة الوجه فلم أجد في سلوكها وفي أوضاعها ما يدل على كل ما سمعته أنت عنها. قال علي بك وقد تكلف الهدوء والتؤدة: أي موجدة تريد أن أحمل في نفسي على فتاة لم أرها قط؟ فتفرنجها لا يهمني بشيء لولا أني أغار على سمعة العائلة التي تنتسب إليها، ثم أخشى أن تكون شهيرة هذه مثالاً لبقية فتياتنا من بنات العائلات في سوء تصرفها بهذه الحرية التي منحها إياها ذووها. . فأنا إذا اندفعت في القول فما ذلك إلا حرصاً على روابط العائلة وحباً بالمصلحة العامة. ورأى حسن أفندي أنه قد آن لهما أن ينصرفا عن الحديث إلى غيره فنظر إلى ساعته وهو يقول: هاهي الساعة السادسة ولعلنا نصل صوفر أبكر مما حسبنا. قال علي بك، مجارياً رفيقه فيما أراده: مابرحت على أن نعود إلى دمشق في الصباح الغد فتكتفي بقضاء الليلة في صوفر؟ قال لقد اتفقنا على هذا وليس بوسعنا أن نتأخر عن عملنا غداً في ديوان الوزارة ويخيل لي أن السهرة في الفندق الكبير ستكون مطربة تنسينا أعباء السفر. خرج الصديقان من قاعة العشاء في الفندق الكبير في صوفر متأخرين، وهما أشد ما يكون تأنقاً في ملبسهما وزينتهما وبعد أن تجولا في البهو والحديقة وتحدثا إلى الكثيرين من معارفهما دخلا إلى ساحة الفندق حيث انتشر جمهور من الناس والرجال حول مناضد متفرقة يصغون لنغمات الجوقة الموسيقية الجديدة التي شاء صاحب الفندق أن يتحف بها زواره في تلك الليلة. ولم يكد القادمان يأخذان مجلسهما حول المنضدة التي أسرع الخادم بإعدادها لهما حتى التفت حسن أفندي إلى رفيقه وكأنما فوجئ بما لم يكن يحسبه وقال له: هاهي شهيرة ابنة حميد بك. انظر إليها فهي بالقرب منا وهاهي تنظر إلينا. وتكلف علي بك الرصانة وقال لرفيقه دون أن يلتفت وهل هي وحدها، قال لابل معها سيدتان مسلمتان وأخرى مسيحية ولعلهن جئن من المريجات ليقضين السهرة هنا. والتفت بعد قليل علي بك إلى الجهة التي أومأ صديقه إليها ولم يكد يمر ببصره على السيدات الجالسات هنالك حتى عرف شهيرة وكانت أبرز الجالسات مظهراً وأكثرهن جمالاً ونضارة. ورأته يطيل النظر إليها فانصرفت إلى إحدى رفيقاتها تسألها عنه وقد ذكرت أنها كثيراً مار أته من وراء نقابها في شوارع دمشق وعرفت الكثيرات من قريباته، ولعلها عمت عنه ما زاد اهتمامها به فألقت عليه نظرة فاحصة مترددة، ورأى منها ذلك وهو جريء ما اعتاد أن يحجم في مثل

هذا الموقف فنظر إليها نظرة إعجاب وهو يبتسم، فلم تتمالك هي بدورها من أن تبتسم له وقد أوشك الحياء أن يورد وجنتيها، ورأى حسن أفندي ما كان بينهما فأراد أن يصيبه ما أصاب رفيقه لكن راعه حينما رآها لا تأبه لشأنه فتنصرف بنظرها عنه إلى علي بك ثم تعود إلى حديثها مع رفيقاتها ضاحكة طروبة. كانت الشمس قد ارتفعت عن مشرقها حينما أخذت السارة التي تعود بالصديقين إلى دمشق تنساب في وادي بردى فتنقل لراكبيها نسمات عطرة تثير ما كمن في النفوس من وجد وذكرى. وأهوى علي بك بيده على عضد رفيقه وهو يقول له: أنها أجمل وأرق بكثير مما كنت أظن. قال حسن أفندي وقد تجاهل ما رمى إليه صديقه: ومن هي هذه التي رأيتها أجمل مما كنت تظن؟ أجاب شهيرة. وهل رأيت بالأمس أجمل وجهاً وأرشق قامة وأسمى قدراً منها بين جميع من كان حولنا من النساء؟ ثم ولا أخفي عنك فقد أعجبتني كثيراً هذه الرصانة البادية على محياها وتلك الدعة في نظراتها الفاتنة التي تدل على ما انطوت عليه نفسها من شرف الخصال وكرم الخلق وحسن التربية. فبلغ حسن أفندي ريقه وتكلف عدم الاكتراث بما يسمع ثم قال: لا أكتمك إنه لم يرق لي كثيراً أن أجدها سافرة في مثل هذه الأماكن وليس معها إلا رفيقات لا أعلم من أين جاءت بهن. معاذ الله أن أكون من المحافظين المتعصبين ولكن يؤلمني جداً أن يتقول الناس عنها أقاويل شتى وهي تنتسب لعائلة شريفة أغار عليها وعلى سمعتها. ثم لا أعلم إلى أين ستفضي بنا وبنسائنا هذه الحرية التي بدأ الآباء يمنحونها بدون وزن ولا حساب لبناتهن المتعلمات علماً ناقصاً. وكأن هذه الكلمات أثارت حماسة علي بك فاندفع يقول وفي لهجته شيء من الحدة: أما أنا فلم أجد في موقف شهيرة بالأمس ما يمس بسمعتها أو بسمعة عائلتها كما تدعي ولقد آن لنا أن نخرج من هذه الظلمة التي نحن فيها فنعدُّ للمستقبل أمهات عارفات بشؤون الحياة لا غريبات عن العيش الذي نعيشه. ثم ماذا يمنع نساءنا أن يسفرن ويحضرن معنا الحفلات ويستفدن من مل ما نستفيده نحن. وإني لأفضل زوجة كشهيرة متعلمة راقية عارفة بحوادث الأيام وتصاريفها على فتاة غبية لم تر في حياتها إلا جدران منزل أبيها ولا تصلح إلا لما اعتدنا أن نراه من خصائصها. ثم إن الأمر لا يتعلق بشخص شهيرة الذي لا يهمني بل إن هنالك مصلحة عامة هي التي أعنيها في حديثي فلا نهضة لنا ترجى ولا خير يؤمل منا إذا

لم نعلم فتياتنا ونترك لهن حريتهن أسوة بغيرهن من نساء الأمم القوية الحية. فقهقه حسن أفندي وكأن ضحكته هدأت ماثار في نفس رفيقه الذي أردف يقول وهولا يستطيع إخفاء ما تبدى من تقلبه: وماذا يضحك؟ قال أرى أن ابتسامة الأمس قد غيرت مبادئك وآراءك في حرية المرأة وفي المصلحة العامة. أجاب وأنت؟ أليست ابتسامة الأمس نفسها هي التي غيرت مبادئك أيضاً؟ وأخذ الرفيقان بأيدي بعضهما واستمرا يقهقهان في ضحكهما. . ومضت السيارة في طريقها على ضفاف بردى متجهة إلى مدينة دمشق ذات الأنهار السبعة والظلال الوارفة حيث كثير من المبادئ العظيمة تغيرها ابتسامة واحدة.

الكتب والصحف

الكتب والصحف سلسلة الكشاف الأدبية أبو نواس اطلعنا على القسم الثاني من المختارات شعر أبي نواس لمؤلف هذه السلسة الأدبية الأستاذ الأديب البارع عمر فروخ، فرقنا ما فيها من حسن لاختيار والتعليق على ما في المختارات من ألفاظ غريبة والإشارة في رؤوس المقطوعات إلى أسباب قولها وما يعين على فهمها، دع عنك الطبع الجميع على الورق الثقيل، فهو مما حليت به هذه السلسلة، ولولا هفوات في ضبط بعض الأبيات لبلغت هذه السلسلة الكمال بين إخواتها، ومن تلك الهفوات الصغيرة نذكر على سبيل المثال: في الصفحة 5: 48 (دجلةٌ همي وفكرتي وبها)، والصواب حذف التنوين من دجلة ليستقيم الوزن. أو لعل الأصح و (فكري) بدل وفكرتي التي لم تكن مستعملة مأنوسة في عهد أبي نواس. وفي الصفحة 7: 60 (ولونٌ من الماءُ كالعَصفر)، والصواب جر الماء والعصفر، وزان قنفذ لاعنتر. وفي الصفحة 7: 65 (كيف النزع عن الصهباء والكاس: قس ذا لنا يا عادلي بقياس) والصواب الذي يمرج البحرين فيلتقيان: كيف النزع عن الصهباء والكاس لأن الصدر من بحر والعجز من بحر، وليس في السهو من غضاضة على الإنسان ولا لون. عز الدين التنوخي الرثاء عند أبي تمام والبحتري وأبي الطيب للسيدة أديبة فارس بحثت رسالة السيدة أديبة فارس عن الرثاء في شعر أبي تمام والبحتري والمتنبي. يقول الأصمعي لأحد الأعراب: ما بال الرثاء أشرف أشعاركم فأجابه لأننا نقوله وقلوبنا مجروحة. إن جرح القلب في حوادث الأحزان يتفاوت ويجب أن ننظر في تفاوت هذا الجرح في قلوب هؤلاء الشعراء ليطيعنا الرأي الحق في الحكم على أيهم أشعر في الرثاء في قصيدة.

أبو تمام يرثي ولده فكان رثاؤه من هذه الجهة جرحاً من جروح القلب والبحتري يرثي المتوكل وقد عاش في رفه نعمته. إنه يرثي خليفة قد انحدر منذ موته تاج العروبة عن هاماتها فكان رثاؤه كذلك جرحاً. والمتنبي يرثي جدته وقد تركها لطلب الرزق لها ولخفق في الدنيا والتجول في كسب الجاه فأخفق وعاد لرؤيتها فماتت قبل أن تراه فقال: طلبت لها حظاً ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت بها قسما فأتى في قصيدته برثائها على خواطر من الحزن والفجائع ما كانت لرفيقيه أبي تمام والبحتري. فإذا قرأ الناس رثاء حبيب لولده لم يتأثروا كلهم إذ ليس لكل الناس أولاد. ولن تفعل قصيدة أبي عبادة فعلتها في كل امرئ لأن فيهم من ليس له نزعة العروبة ومحبة الملوك وأما من قرأ مرثية المتنبي أياً كان أثرت فيه أي تأثير لأن كل امرئ له أم وجدة. من هذا النحو في المقارنة كان ينبغي لصديقتي أديبة فارس أن تتكلم وأن تفضل مرثية أبي الطيب على مرثيتي رفيقيه. ومع ذاك فأنها أحسنت غاية الصنع في دراستها لمراثي هؤلاء الشعراء ومن رأيها أن البحتري يتأخر عن رفيقيه في البراعة بهذا الباب وأما الفوز في حلبته فإنما يتنازعه الشاعران الآخران أبو تمام والمتنبي. المحامي زكي المحاسني ابن خلدون أصدر الأستاذان الدكتور جميل صليبا والدكتور عياد كتاباً جمعا فيه منتخبات من مقدمة ابن خلدون رتباها وفقاً لبرنامج شعبة الفلسفة في المدارس التجهيزية. والكتاب يقع في 112 صفحة. ولا يمكن أن يقال أنه جيد الطبع وعلى الأخص طبعة النصوص المنتخبة فهي لا تغري بالقراءة كثيراً. وقد صدَّر المؤلفان هذه المنتخبات بمقدمة مطولة أجملا فيها حياة ابن خلدون وفلسفته ونظرياته التاريخية والاجتماعية وقد استمدا أكثر ما أورداه في هذه المقدمة من نفس النصوص التي انتخباها حتى أنه يمكن لمن قرأ هذه المقدمة القيمة أن يستغني عن النصوص. وقد اشتركا في كتابة المقدمة اشتراكاً أفقدها وحدة الأسلوب والإنشاء وكنا نود لو انصرف كل منهما لكتابة قسم منها، وقد قابلا ما انتخباه من النصوص بنسخ عديدة فصححا وشرحا كثيراً من كلماتها وعباراتها وكان كل ما انتخباه من أهم ما يحتاج الطلاب لطالعته. وعلى الجملة فإن كتاب الصديقين كتاب جزيل الفائدة والنفع لا يفي بحاجة التلامذة

فحسب بل تلذ مطالعته لجميع من يريدون أن يصلوا من أسهل الطرق وأقصرها إلى فكرة عامة صحيحة عن حياة ابن خلدون وفلسفته وآرائه التي يجب على كل عربي مثقف أن لا تفوته معرفتها. المسائل الرياضية وضع الأستاذ السيد أحمد جودت الهاشمي والسيد محمد رشدي بركات كتاباً في المسائل الرياضية اللازمة لتلاميذ الصف الثاني من المدارس التجهيزية ولطلاب البكالوريا الأولى والثانية وهو يحتوي على 410 مسائل من أسئلة البكلوريا وغيرها مع الحل. يجد التلميذ فيه جميع المسائل التي أعطيت في السنين الأخيرة في البكلوريا السورية. ويحتوي على أسئلة في الجبر والهندسة والميكانيك والمثلثات والحساب وهو من خيرة الكتب التي ألفت في اللغة العربية لهذه الغاية لأنه يمرن الطلاب ويكسبه ملكة في حل المسائل الرياضية مهما اختلف نوعها. الهدى صحيفة عربية أسبوعية تصدر في سنغابورة (جاوة) وهي أكبر الصحف العربية في ماليزيا وابلغها تأثيراً، ينشئها السيد عبد الواحد الجيلاني العلوي، العامل على نشر لغة العروبة في تلك الأقاليم النائية عن جزيرة العرب، وهذا ما أثلج صدورنا وابتهجنا له الابتهاج كله. عز الدين التنوخي ملاحم الصليبين تأليف الدكتور أنور حاتم ألف الدكتور أنور حاتم أستاذ الآداب الفرنسية في مدرستي التجهيز والمعلمين هذا الكتاب للحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة باريس وهو من أحسن الكتب التي ألفها الشبان السوريين في عاصمة الفرنسيين لأنه يدل على جهود عظيمة بذلها المؤلف في إتباع الطريقة التاريخية حتى توصل إلى ما لم يتوصل إليه أحد قبله من البحث عن حقيقة الملاحم الصليبية وذكر مؤلفيها وتحليلها وبيان أصولها. يبدأ الكتاب ببيان نشوء الحروب

الصليبية والجهاد المقدس ثم يرجع إلى البحث في الحركة الأدبية في ممتلكات الصليبيين بسوريا. وقد حلل الدكتور حاتم ثلاث ملاحم مشهورة وهي ملحمة أنطاكية، وملحمة اوروشليم، وملحمةالضغاء (والضغاء هم الأسرى المسيحيون الذين وقعوا في يد المسلمين) ولم يقتصر في درس هذه الملاحم الثلاث على طبعتها القديمة بل اعتمد على مخطوطاتها المحفوظة في المكتبة الوطنية بباريز وغيرها من خزائن الكتب فجاء كتابه مثالاً للتحقيق العلمي والتنقيب التاريخي. كانت هذه الملاحم الصليبية قبل ظهور كتاب الدكتور حاتم مزيجاً من الحقيقة والوهم فلا يعرف قارئها أبن ينتهي التاريخ وأين يبتدئ الخيال فبين لنا المؤلف قيمة كل ملحمة من الوجهة التاريخية وخصوصاً ملحمة أنطاكية لأنها أقرب إلى الحقيقة التاريخية من ملحمة أوروشليم وملحمة الضغاء ولعل أول نص تاريخي لملحمة أنطاكية هو من نظم (ريشارد لو به له رن) أي ريشارد الحاج وهو من الحجاج الذين رافقوا الحملات الصليبية الأولى إلا أن هذا النص الأول قد تغير وأضيف إليه أناشيد عديدة. ومن أحسن ما جاء في نشيد أنطاكية وصف حصار الصليبيين لها وموتهم جوعاً وأكلهم لحوم الحيوانات ولحوم البشر ثم انتصارهم على المسلمين ودخولهم أنطاكية ثم حصار المسلمين لهم ووصف الشجاعة والإخلاص والتضحية واحتقار الموت في سبيل الخلود، كل ذلك بروح شعرية تدل على أثر الشرق في نفوس أولئك الشعراء الذين جاؤوا مع الصليبيين إلى سوريا المقدسة. قال الدكتور حاتم: لقد جاء على أثر الحروب الصليبية كثير من العائلات الفرنسية إلى سوري. ولا نشك في أن الأناشيد التي نبحث عنها الآن ربما كانت من أحسن الشواهد الدالة على حياة تلك العائلات ومغامراتها. . . عاش هؤلاء الفرنجة بين المسامين وأخذوا بعاداتهم وتقاليدهم وتعلموا لغتهم وتأثروا بروح المدينة الشرقية التي أعجبوا بها. وهذا ما يجعل للبحث في هذه الملاحم قيمة تاريخية خاصة لأنها تدل على الحركة الأدبية التي كانت منتشرة في سوريا. وقصارى القول إن كتاب الدكتور حاتم يبين لنا بوضوح أن الملاحم الثلاث تولدت في جو سوري من وحي فرنسي وأنها من أهم الوثائق التاريخية التي تبين لنا كيف اتصل الغرب بالشرق وكيف تأثر بحضارته وكيف انصرف الأوربيون بعد هذا الاتصال إلى نقل حضارة العرب إلى بلادهم ونسجوا على منوالها في علومهم

وفلسفتهم وآدابهم حتى عصر النهضة. مجلة المغرب في بلاد المغرب العربية نهضة أدبية جديدة تبشر بمستقبل زاهر. ولا تقتصر هذه النهضة اليوم على الاهتمام بالعلوم والآداب والسعي لاقتباسها بل قد تعدتها إلى الإنتاج الأدبي الناضج حتى بدأنا منذ سنوات نرى المؤلفات القيمة والصحف الراقية تظهر وتنتشر بكثرة. ومن الأسف أننا فسوريا لا نعرف إلا النزر واليسير من هذه الحركة الفكرية في البلاد الشقيقة. ولذلك لابد أن يأخذ منا الإعجاب كل مأخذ إذا اطلعنا على بعض المؤلفات أو الصحف التي تصدر في إفريقيا الشمالية. وهذه (مجلة المغرب) مثلاً التي وصلنا العدد التاسع من سنتها الثانية قد بهرنا إتقان طبعها وحسن تبويبها وجمال صورها وغزارة مواضيعها وتنوع مباحثها الجيدة، الدقيقة. وهي تصدر في الشهر مرة بالرباط من أعمال مراكش، رئيس تحريرها: الأستاذ محمد الصالح ميسة.

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب النظام الاجتماعي بين الحق والقوة ألقى الدكتور كاظم الداغستاني في أواسط الشهر السابق، بناء على دعوة جمعية يقظة المرأة الشامية، محاضرة في بهو مدرسة دوحة الأدب موضوعها النظام الاجتماعي بين الحق والقوة وحضرها جمهور من السيدات المتعلمات في دمشق. وقد بدأ المحاضر بتعريف النظام الاجتماعي فبين الفوارق بين صفات الفرد وصفات الجماعة وشرح ما للحياة الاجتماعية من تأثير على الفرد في العقائد التي يعتقدها واللغة التي يتكلمها والتقاليد والعرف والعادات التي يجري عليها متطرقاً من ذلك إلى الصعوبة التي يلقاها علماء الاجتماع بسبب هذا التأثير في وضع نظم اجتماعية ثابتة يمكن أن تقوم مقام النظم الاجتماعية الحالية التي كثيراً ما تتحول وتتبدل بالنسبة لعاطفة الجماعة وأحوالها وأغراض الأفراد ومصالحهم الشخصية ثم ذكراهم العوامل التي تعمل في تحول النظام الاجتماعي مبيناً كيف أن عوامل القوة كثيراً ما تتغلب على عامل الحق ممثلاً على ذلك بقضية الرجل والمرأة في سوريا وفي سائر أقطار الشرق العربي وقد شرح بالأمثلة كيف أن عوامل القوة المسيطرة على الحق تخلق للرجال أعذاراً يبررون بها أنانيتهم واحتفاظهم بما تركته لهم التقاليد والعادات القديمة من سلطات يسترونها بسائق غرائزهم تحت ظواهر مختلفة ينسبونها إلى الشرف تارةً وإلى الدين مع أن الشرف والدين هما بريئان مما يريدون أن يلصقوه بهما. ثم أورد أمثلة كثيرة ذكرها علماء الروح والكتاب والفلاسفة عن انخداع المرء بكثير من عواطفه والشعور بها على غير حقيقتها قبل تحليلها وتفهمها على أنه لا يكفي للرجل أن يعرف الحق حتى يعترف به وقد أوضح المحاضر بأن تاريخ تطور القضية النسائية في الغرب وفي جميع أقطار الشرق يؤيد بأن الرجال لم يعطوا شيئاً للنساء من حقوقهن ولكن النساء هن اللواتي أخذن هذه الحقوق بما بذلته من المفاداة والتضحية. ثم تطرق المحاضر من ذلك إلى بيان القوة التي أمكن أن يتذرع بها النساء للوصول إلى ما هو من حقوقهن التي لا تنافي الشرف والدين مبيناً أن القوة قوتان مادية ومعنوية. المادية في جسم الإنسان وعضله والمعنوية في عقله وفكره وعلمه وعواطفه. والقوة المعنوية هي أعظم القوى وكثيراً ما تسير القوة المادية وتخضعها لإرادتها وهي تنشأ في الناس من

إيمانهم بأنهم مهضومو الحقوق وأنهم على حق فيما يطالبون به داعياً السيدات في النتيجة لأن يعتقدان أن نظامنا الاجتماعي فيما يتعلق بحقوق المرأة مابرح يتراوح بين الحق والقوة فتغلب فيه القوة الحق على أمره وأنه نظام كيفته وفسرته إرادة الرجال ومصالحهم الشخصية كما شاءت فتحكمت القوة الغاشمة فيه وهضمت الحق الصراح منه ذاكراً ما للمرأة السورية من الذكاء وحدة الفكر وقوة العقل إذا قيست بالنساء الغربيات وعلى الأخص بشقيقاتها شرقيات البلاد العربية، شارحاً كيف أنه على نهضة النساء لتوقف أكثر دعائم نهضتها الاجتماعية وكيف أن التربية القومية تعلو وتنحط بالنسبة لرقي نساء الجماعة وتقدمها وكيف أن نساء الجماعة هنّ دائماً مرآتها تنعكس عليها مبلغ حضارتها وما قطعته من مراحل في سبيل نطورها وتقدمها لكن الأنانية وحب الذات كثيراً ما يمنعان الرجال أن يعطوا ما لم يجهروا على إعطائه وقد ختم المحاضر كلامه بقوله: لا تنتظرن منا يا سيداتي شيئاً إلا متى غلبت قواً كن المعنوية نظامنا الاجتماعي وما بأيدينا من سلطات، نظن أنها حق من حقوقنا. فالحرية التي تطلبها الحقوق التي تطالبن بها هي كبقية الحقوق والحريات في هذه الحياة الدنيا وكلها لا تعطى إعطاء بل تؤخذ أخذاً. كيف يجب التدخين كتب الطبيب الألماني الشهير (فريدريك فون موللر) رئيس أحد المستشفيات في جامعة (ميونخ) مقالاً طويلاً عن التبغ ومضرات (النكوتين) الذي يحتوي عليه وبحث في أحسن الطرق لاتقاء هذه الأشرار. يقول (فول موللر) أنه قد ثبت بأن ليس هناك أية علاقة بين لون التبغ وبين مقدار ما يحتويه من النكوتين. فقد يوجد بعض أوراق التبغ القاتمة اللون التي يقل فيها مقدار النيكوتين وعلى العكس من ذلك في بعض الأنواع الناصعة. وقد تحقق بأن لذة التبغ إنما هي ناشئة عن وجود مادة (النيكوتين). فإذا أزيلت هذه المادة أو لم يترك منها في التبغ إلا كمية صغيرة جداً تنقص عن الواحدة في الألف لم يبق لتدخين التبغ من لذة. وكذلك النكهة تفقد بإزالة (النيكوتين). وهكذا فإن المدمنين على التدخين لا يمكنهم أن يرضوا عن التبغ الطبيعي بديلاً. إذن ما هي الوسيلة لاتقاء مضرات التدخين؟ لقد ثبت أن كمية النيكوتين الموجودة في التبغ لا تنتقل كلها مع الدخان بل إن قسماً كبيراً منها يضيع بالاحتراق. ودليل ذلك أنه إذا أكل إنسان (سيكاراً) كبيراً واحداً فإن النيكوتين

الموجود فيه يكفي لخنقه بينما لا ينجم عن تدخين هذا (السيكار) ضرر محسوس. وقد أظهرت التجارب أن مقدار النيكوتين الذي ينتقل مع الدخان لا يبلغ (20) في المائة من مجموع السيكارة. ثم تبين من جهة أخرى أن النيكوتين يكون قليلاً جداً في أول التدخين ويزداد في آخر السيكارة لأنه يتراكم أثناء التدخين في القسم الأخير من السيكارة. ومن الحقائق المهمة التي كشفت عنها التجارب أن كمية النيكوتين تزداد بمقدار سرعة التدخين. ولذلك فإن ضرر التبغ يقل كثيراً إذا نحن التزمنا التأني والتمهل في التدخين. وينصح الأستاذ (فون موللير) جميع المدخنين الذين يريدون العناية بأمر صحتهم أن يحاذروا السرعة والعجلة في التدخين فإنه كلما كان التدخين بطيئاً كان ضرره قليلاً. عمر الوالدين وصحة الأولاد مازالت المباحث تدور منذ القدم حول معرفة العلاقة بين عمر الوالدين وبين حالة الأولاد الجسمية والروحية. وقد اختلفت آراء العلماء في هذه المسألة التي لها أهمية كبرى سواء من الوجهة الصحية أو الوجهة الاجتماعية. وقد قام أخيراً الطبيب (بنهولد - تومسن) في (مونيخ) بمباحث دقيقة لمعرفة إذا كان لتقدم الوالدين أو أحدهما في السن من تأثير في حالة الأولاد الصحية والروحية. ظل (بنهولد - تومسن) مدة عشر سنوات تقريباًمن1920 - 1929مننقطعاً إلى درس هذا الموضوع فكان عدد الأطفال الذين استطاع فحصهم في مستشفى جامعة (مونيخ) 13516وقد قسم مباحثه إلى عدة مواضيع فرعية مثل (1) تأثير تقدم الوالدة في السن، (2) تأثير تقدم الوالد في العمر، (3) تقدم الوالدين سوية في العمر، (4) تأثير الفرق الكبير بين عمر الوالدين، (5) درجة الطفل في الولادة أي هل هو أول ولد أم الثاني أم الثالث وتأثير ذلك، (6) فرق المدة بين مولود وآخر. وإذا بحثنا في كل واحدة من هذه المسائل نرى آراء العلماء لا تزال في اختلاف شديد فيما يتعلق بتأثير عمر الوالدة في الطفل. وبينما يقول البعض أن (30) سنة تعتبر متأخرة لولادة النساء يدعى غيرهم أنه حتى سن الأربعين أيضاً لا ينشأ عنها أضرار للمولود وقد

كان بين الأطفال الذين فحصهم الأستاذ (بنهولد - تومسن) 382طفلاًمصابين بمختلف الأمراض التي يبلغ عددها (98) أما عمر الوالد، فإن بعض علماء الإحصاء يدعى أن الذين يبلغون40 - 50سنة من العمر لا يخلفون إلا أولاداً ضعفاء غير صالحين للحياة. ويظهر هؤلاء العلماء كثيراً من الشك في تصديق نسبة بعض الأطفال الصالحين للحياة إلى آباء تزيد أعمارهم عن الستين. على أن بعض الباحثين يقول أن السبب في ضعف أولاد الرجال المتقدمين في السن لا يرجع إلى التقدم في العمر بل إلى سهولة تعرض هؤلاء الرجال إلى مختلف الأمراض أكثر من الشبان فتنتقل أمراضهم إلى أولادهم وتضعف مقاومتهم لصدمات الحياة. وفي النتيجة يقرر (بنهولد - تومسن) أن أحسن وقت للتوليد هو عندما لا يزيد مجموع عمر الوالدين سوية عن (45) سنة وذلك يكون الرجل بين20=28. والمرأة بين18=25، إنما يجب القول أن تقدم الوالد في السن لا يسبب أضراراً بقدر تقدم الأم في العمر. الأخوان مونغولفيه بمناسبة مرور150عاماً على اختراع المنطاد الناري أقيمت في فرنسا في 5حزيران احتفالات كبيرة لتكريم ذكرى الأخوين مونغولفيه، صاحبي هذا الاختراع ولد الأخوان جوزيف واتيه في بلدة أنوناي بفرنسا حيث كان والدهما يشتغل بتجارة الورق. وكانت تظهر على الطفلين منذ الصغر آثار العبقرية وحب الاكتشاف والاختراع. وقد أنهى الأخ الأكبر (اتيه ن) دراسته في باريز وكان تلميذاً للبناء الشهير (سوفو) الذي وضع تصميم معهد الحقوق في باريز. ثم عاد إلى بلدته حيث توصل إلى اكتشاف سر الورق الصقيل الذي كان مجهولاً في فرنسا يستجلب إليها من الخارج. أما جوزيف فقد كانت له نزعات غبر معتادة تراه منقطعاً إلى الاطلاع على مختلف العلوم والبحث فيها وكان قد اكتشف لنفسه دساتير فكرية خاصة يستعين بها على حل الحسابات المستعصية. وهو قد فر من المدرسة منذ الثالثة عشرة من عمره وعاش متشرداً في الشوارع يبيع (الأزرق البروسياني) الذي كان يصنعه بنفسه. ثم انتقل إلى باريس حيث انصرف إلى العلوم يدرس منها ما يتفق مع ميوله وأهوائه وبعد أن عاد إلى بلدته اخترع بالاشتراك مع أخيه الأكبر المنطاد الأول. وقد تم لهما هذا الاختراع بصورة غريبة وذلك أن الأخوين كانا يفكران في إيجاد غيوم

اصطناعية يجمعانها ضمن كرة من الورق. فأحرقا لذلك تبناً رطباً وصوفاً مندوفاً؟ وبعد عدة تجارب لم تتحقق غايتهما من إيجاد الغيوم الاصطناعية ولكن كرة الورق طارت إلى ارتفاع بضعة أمتار وأوحت إليهما بفكرة اختراع المنطاد. . . وقد علل الأخوان ارتفاع المنطاد بالقلوية أو السيالة الكهربائية الناشئة عن الاحتراق ولكن العالم (سوسور) أثبت بالبراهين العلمية أن سبب الطيران خفة الهواء الساخن بالنسبة إلى الهواء البارد. الفيتامين في التمر ظهر من مبحث العالم (راؤول لوقوق) أن تمر النخيل، الغني بالمواد السكرية، يفوق في قيمته الغذائية أنواع السكر المعتادة وذلك لاحتوائه على مختلف أنواع الفيتامين (أ) و (ب) و (د). هل اكتشف جرثوم السرطان أذاع الطبيبان (غلوفر) و (نكل) من المعهد الصحي الوطني في الولايات الأمريكية المتحدة أنهما قد وفقا إلى تلقيح السرطان في نوع من الفيران بحقنة مزروع جرثومي أخذ من مريض مصاب بالسرطان. وهذا الحادث يدحض رأي العلماء الذين يدعون أن السرطان ليس من الأمراض الجرثومية. لون النجوم جاء في تقرير قدمه العالمان (دوفاي) و (سوبين ليو) إلى المجمع العلمي الفرنسي أن النجوم المتشابهة كلما ازدادت بعداً عن عالمنا الأرضي ازداد لونها احمراراً

العبقرية والثقافة

العبقرية والثقافة قد نشعر عند النظر في آثار الشعراء والموسيقيين والمصورين والعلماء والفلاسفة بشيء من الاستحسان والإعجاب البسيط دون أن ندهش أو نتحير، وقد تعورنا عند النظر في بعض آثار الفن والعلم هزة نفسية عميقة فلا ندري كيف تم لصاحبها هذا السحر وكيف تأتى له هذا التركيب حتى خرج عن المعتاد. فإن كان الأثر الفني بسيطاً وضعناه في جنس الأشياء المألوفة ولم نحفل به، وإن كان عظيماً لم نجد له جنساً ندخله فيه بل تحيرنا ودهشنا بصفاته التي لا يمكن إرجاعها إلى أي نوع من الأنواع المعروفة. والمبدع الذي يبدع آثار الفن، وعجائب الصناعة، وحقائق العلم، ومذاهب الفلسفة نسميه عبقرياً. ونسمي صفته هذه بالعبقرية. إذن فالعبقرية هي القدرة على إبداع الآثار العجيبة في الفن والعلم والفلسفة. كأن الناس لا يعترفون بالعبقرية إلا للرجل الذي لا يقيم معهم في كهف الحياة الضيق ولا يمشي معهم في طريق الحياة العملية، بل يعلو إلى أفق غير أفقهم ويكون من طور غير طورهم. فلا يحرك الشعر نفوسهم إلا إذا احتوى على موسيقى جديدة وروح حديثة لا عهد للشعراء بها من قبل. ولا يفتنون بصورة من بدائع التصوير إلا إذا بعثت هذه الصورة في نفوسهم نسمات اللانهاية. فكأن في الأثر الفني الجديد شيئاً لا يدركه الخيال ولا تكشف عنه الذاكرة، وكأن تحقيقه يحتاج إلى جهود لا طاقة لنا بها. نعم إن بين العبقري وعامة الناس صلة إعجاب، ولولا هذه الصلة لما أدركوا وحيه، ولا فهموا لغته ولكن المسافة التي بينهما لا تقاس بمقياس معروف. ولذلك كانت صلة الناس بالعبقري لا تقتصر على الإعجاب فحسب بل تنقلب إلى احترام وحب والرجال كما قال (شامفور) أشبه بحجارة ألماس، كلما عظم حجمها واشتد لمعانها، ازدادت قيمتها وقد يزداد حجمها فيبلغ درجة لا مجال فيها إلى تقدير الثمن، إذ هي باهظة لا يستطيع أحد أن يدفع ثمنها وهذا معنى قةل ابن سينا عن نفسه: لما عظمت فليس مصر واسعي ... لما غلا ثمني عدمت المشتري وكثيراً ما يبتعد المعجبون بآثار الفن عن العالم المحسوس فيصيبهم غيبة من شدة التأمل والتلذذ بالجمال. لأن حياة العبقري لم تتألف مما هو متبدل محسوس بل نسجت من أحلام الناس ونزوعهم إلى الخلود وتطلعهم إلى المثل العليا. لا أريد الآن أن أبحث في صفات العبقرية وأطوارها وأنواعها بل أريد أن أذكر شيئاً من

العناصر التي تبني عليها. لاشك في أن البحث عن عناصر العبقرية يحتاج إلى نطاق أوسع من النطاق الذي حددت به هذا الموضوع. ولذلك تراني مضطراً إلى حصر البحث في عنصرين أساسيين وجدت بينهما وبين حياتنا علاقة حقيقة. وهذان العنصران هما الغريزة والثقافة. فما هي الغريزة؟ الغريزة هي ميل فطري للقيام بأعمال مشتركة بين أفراد النوع تبلغ درجة كمالها منذ تولدها ومن غير أن يتعلمها الفرد. وهي ذات تعلق بالشروط المحيطة به إلا أنها ثابتة لأن الفرد يقوم بها على نمط واحد وهي فاعلية عمياء لا تدل على أن الفرد شاعر بالغاية التي يسعى وراءها. فالنحلة تنسج أقراص العسل بالغريزة لا بالعقل والطير تبني أوكارها بهذا السائق الطبيعي لا بحكم التأمل العقلي. فهل يهتدي العبقري إلى صور الفن كما تنسج النحلة أقراص العسل، وهل يبني المهندس بناءه كما تجمع الطير عيدان القش وأوراق الشجر وترتبها موافقاً للغاية التي تقصدها أو بعبارة أخرى هل العبقرية فاعلية عفوية لا أثر للجهود العقلية والعمل الإرادي والكسب في تكوينها؟ قال (لامارتين): ياصاحبي! لم يكن غنائي إلا كتنفس الطفل وتغريد الطير وهبوب الريح وخرير الماء الجاري ومعنى ذلك أن الإبداع إنما يكون بالطبع أي بالملكة الأولى التي لا أثر للكسب فيها. مثال ذلك أن كثيراً من الشعراء لا يعرفون من أين يأتيهم الوحي ولا يدركون كون كيف يتوصلون إلى الإبداع فكأنهم يتكلمون بلغة الملأ الأعلى وكأنه لا إرادة لهم فيما يفعلون. وقد قال (شوبنهاور) إن أول الصفات الدالة على العبقرية هي قوة الحدس في الكشف عن حقائق الأشياء، فبينما يحتاج الإنسان الاعتيادي إلى المحاكمة والبرهان تجد العبقري يدرك بالحدس ما يحتاج غيره في إدراكه إلى زمان فكأن العبقرية خارجة عن نطاق الزمان في وصولها إلى الحقيقة. وكأن الإبداع نتيجة عفوية لما في طبيعة الإنسان ومزاجه واستعداده من العوامل، ومن الصعب أن نرجع هذا الحدس وهذا الاستعداد الطبيعي إلى عمل غريزي، لأن الغريزة فاعلية عمياء، لا تجديد فيها بحسب الظاهر ولا إبداع بل هي على نمط واحد. انظر إلى النحلة إنها لم تغير نسج أقراص العسل منذ آلاف السنين، وإذا كان في الغريزة شيء من التغير فهو خفيف جداً لا قيمة له إذا نسب إلى إبداع العقل وإشراق

الحدس. وكثيراً ما بحث الفلاسفة في مزاج العبقري واستعداده الطبيعي واستدلوا على عبقريته بصفاته الجسدية كحجم الدماغ وشكل بطونه ونسيجه ونسبته إلى الجسد وتأثير الغدد الداخلية وغير ذلك من الظواهر الدالة على صحة البنية وتعلق الأحوال النفسية بها. أنا لا أنكر أن للمزاج والدم والاستعداد الطبيعي وتركيب الجسد وصحته تأثيراً قوياً في تكوين العبقرية. وربما كنت أميل إلى الاعتقاد أن تأثير الفطرة في الفرد لا يقل عن تأثير الكسب إلا أن هذا الكسب لا يتم إلا تحت تأثير المبادئ العقلية. ومن الصعب أن نضع المبادئ العقلية في موضع الغريزة. والفطرة لا قيمة لها إلا إذا صقلت وحسن استعمالها وهل يكون إنتاج الأرض التي لم تحرث معادلاً لإنتاج الأرض التي عني صاحبها بحرثها وفقاً لطرائق الفن الحديثة. وليس سر النجاح في حسن استعمالها. ولو سمح لي القارئ باستعمال الاصطلاحات المدرسية لقلت أن هذه الاستعدادات الطبيعية هي الشر الضروري لا الشرط الكافي لوجود العبقرية وهي لا تنحل إلى غرائز عمياء أما العبقرية الحقيقية فلا تنبثق إلا تحت تأثير الثقافة. وفي الحق أنك إذا استعرضت حياة بعض العبقريين وجدتها مثالاً للدرس المنتظم والعمل الإرادي والجهد الشعوري وأدركت أن الإبداع لا يكون من العدم وأن الغريزة والاستعدادات الطبيعية والإلهام والاتفاق والمصادفة لا تكفي لتعليل ما ينتجونه من بدائع الفن وحقائق العلم. نعم إن المخترع كثيراً ما يكتشف عن الحقيقة بدافع عفوي فلا يدري كيف أشرق عليه النور ويظن نفسه في بحر عميق حتى لقد قال غوته: كتبت آلام فرتر وأنا مستغرق في سبات عميق غير شاعر بما كنت أفعل ولشد ما كان عجبي عظيماً حين قرأت ما كتبتوظاهر القول يدل على أن انبجاس الوحي لم يكن بتأمل وإرادة إلا أنك إذا عرفت العمل الإرادي قد سبق الإشراق العفوي، وإن الحياة اللاشعورية لا تنتج بنفسها شيئاً بل تخمر العناصر التي أودعتها الحياة الشاعرة فيها، وأن هناك تأملاً إرادياً وتفكيراً منتظماً، وصبراً وجهداً مؤلماً، مثال ذلك أن كبلر لم يكتشف إهليلجية الأفلاك إلا بعد أن جرب تسع عشرة فرضية وأن باستور شاهد بنفسه أو بواسطة مساعديه (50000) دودة من دود الحرير فدرس أحوالها ودقق فيها قبل أن يكتشف أسباب أمراضها. كل ذلك يقتضي أن يكون العالم حسن الانتباه الإرادي قوي التأمل والإمعان. وقد قيل كلما كان العالم أوسع

معرفة وأحسن ثقافة كانت مشاهدته أكثر ضبطاً وأصح نتيجة. ولو أن التفكير كان مجرداً عن الثقافة التي يكتسبها الإنسان من بيئته الاجتماعية ولغته وزمانه وما انتقل إليه من طرائق البحث وصناعة الفن لقلنا أن هذا الإبداع إنما حصل بسائق طبيعي مجرد عن الكسب ولكنك إذا رجعت إلى العبقريين وجدتهم يستفيدون من بيئتهم وزمانهم ومصطلحات فنهم. وأكثرهم نبوغاً أقواهم إرادة وأدومهم سعياً وراء الغاية التي أوحى بها القلب وصورها الخيال. وقد فطن نيتشه إلى هذا الجهد الإرادي الذي يجب على الرجل السامي أن يبذله حتى يتغلب على الغريزة فذكر في كتابه (زرادشت) المراتب التي يجب على المعتزل أن يمر بها حتى يصبح إنساناً كاملاً وكلها تدل على تغلب الإرادة على الإلهام العفوي والوحي الباطني. ولعل السبب في احتقار نيتشه لروسو استسلام هذا الأخير سواء أكان في كتاب الاعتراف أم في كتاب (هلويز الجديدة) أم في حياته إلى تقلبات الطبيعة وأهواء النفس ولم يعجب (ستندال) بنابليون لإتباعه غريزته والهامة بل لقوة إرادته وسعيه وانتظامه. ولعل الذين يستسلمون كلامرتين وروسو وجورج ساند لشياطين الوحي يتبعون في سرهم طريقة منتظمة لا تدل عليها حياتهم المشتتة. فكأن وراء الكسل الظاهر عملاً باطنياً منتظماً وراء التشويش سعياً دائماً. من هذا يتبين لنا أن العبقرية إنما تنسج بآثار البيئة وأحلام الجماعة ومصطلحات الزمان سواء أكان ذلك في العلم أم في الفن فالعرب مثلاً لم يتجردوا عن الثقافة الإسلامية عندما أخذوا بفلسفة اليونان بل اقتبسوا تلك الفلسفة الأجنبية وأنضجوها وألبسوها حلة عربية وسعوا للتوفيق بينها وبين الدين وهذا أبو نواس وأبو الطيب وأبو العلاء هل تجردوا عن ثقافة البيئة التي نشئوا بها. لاشك أن إعجاب المتنبي بأبي تمام أثر في شعره تأثيراً حسناً وقد كان تأثير ابن سينا والفارابي في ثقافة الغزالي عظيماً جداً. ثم هل تجرد فغنر وبيتهوفن عن مصطلحات الموسيقى أم هل أهمل شكسبير وهوغو ما تقتضيه صناعة الشعر من الممارسة. وهل توصل ديكارت وباسكال وليبنز إلى ما وصلوا إليه دون أن يقتبسوا من الثقافة زمانهم. لكل عبقري أستاذ ينحو نحوه ومثال يقلده وهذا التقليد ضروري له إلى أن ينتقل من أفق التقليد إلى أفق الإبداع. على أن هذه الثقافة لا يجوز أن تبقى خارجية سطحية بل يجب لأن تمازج اللحم والدم وتصبح ذاتية. إذ هي مشتركة بين الجميع

وإذا اقتصر الفرد على اكتساب ما ينقله إليه المحيط دون تمثيله كان مثقفاً بالعرض لا بالذات وهذا مخالف لشروط العبقرية لأن العبقرية يجب أن تكون ذاتية فردية وهذه الصفة الذاتية تدل دلالة واضحة على أن المسافة بين العبقرية والغريزة شاسعة جداً لأن الغريزة صفة مشتركة بين جميع أفراد النوع أما العبقرية فهي صفة ممتازة لا يشارك صاحبها فيها أحد فالغريزة والفطرة والمزاج والاستعداد والإلهام كل ذلك ضروري للنبوغ أما العبقرية فلا تنمو إلا بتأثير الثقافة. لقد حلني على البحث في العبقرية من هذه الوجهة ما وجدته عند بعض كتابنا وعلمائنا من إهمال الثقافة عامة كانت أو خاصة. إذ يظن بعضهم أن الاستسلام للحدس وإطلاق العنان للخيال وحرية الإلهام كل ذلك كافٍ للإبداع ويظنون أن ما جاءوا به إنما هو وحي جديد وإلهام خاص بهم في حين أنه كثيراً ما يكون تكراراً لما قاله غيرهم قبلهم. ولو اطلعوا على ما جاء قبلهم لأعانهم هذا الاطلاع على الإتيان بأشياء جديدة إلا أنهم يستصغرون الذي ينقب في بطون الكتب ويكثر من الاستشهاد وذكر المصادر وقد خفي عنهم أن لكل زمان ثقافة وأن لكل فن صناعة وأن من واجب كل زمان أن يطلع على ثقافة الأزمنة السابقة ويزيد عليها. وقد تجد في العلماء من يجهل آداب ما يجري في العلم والفن في البلاد الأجنبية كل ذلك يدل على نقص في الثقافة. ولعل هذا النقص من أهم الأسباب الداعية إلى تأخر الإبداع في آدابنا وعلومنا، ولكننا لا نزال مغرمين باستعدادنا الطبيعي فندرس بدون طريقة وننتج بدون غاية. ولو استسلم الناس لهداية الطبيعة لكانت حياتهم في الغالب عبارة عن تكرار دائم لأحوال ثابتة ولامتنع التقدم والتطور ولبقي الإنسان حيث كان من ظلمات الغريزة وشبهات المادة. جميل صليبا

صفحة من شعر

صفحة من شعر سقى الله. . . يامن يعيد ليالينا التي سلفت ... بما شاء من الأعوام من أجلي إذا خلونا جعلنا شرط ليلتنا ... من نام، نبّهه اليقظان بالقبل فكنت أنوم من فهدٍ بيقظتها ... كيما تقبلني علاَّ على نهل فإن غفت أو بدت في عينيها سنة ... أهويت ألثمها - والشرط أملك - لي فيا لها ليلةً معسولةً ضمنت ... أن لا تزال من التقبيل في شغل كلهم شعراء أصبح القوم كلهم شعراء ... من نساء وصبية ورجال لا أغالي بما أقول إذا هم ... قنعوا من حياتهم بالخيال اللغة الجديدة تغير مدلول الكلام فعاذر ... إذا نحن لم ندركه حين يردد فكل بذيء ناقد ذو بصيرة ... وكل سخيف من مقال تجدد. . . خليل مردم بك

مائة نقلة

مائة نقلة من كتاب نقل الأديب وهي ألف نقلة مقتطفة من ألف كتاب مؤلفة محمد إسعاف النشا شيبي الشاكر والصابر في الجنة نظرت امرأة عمر بن الخطاب يوماً في المرآة، وكانت من أجمل النساء، فأعجبها حسنها، ونظرت إلى عمران وكان قبيحاً فقالت: أبا شهاب، هلم فانظر في المرآة. فجاْ فنظر إلى نفسه وهو إلى جانبها كأنه قنفذ، ورأى وجهاً قبيحاً فقال: هذا أردت؟ فقالت: أني لأرجو أن أدخل الجنة أنا وأنت. قال: بم؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت. الشاكر والصابر في الجنة. كتاب أمير المؤمنين لا يكون ملحونا. قال ابن الخطيب البغدادي: كتب المهدي إلى عبيد الله بن الحسن العنبري (وهو قاضي البصرة) كتاباً فقرأه عبيد الله فرده فحمل عبيد الله إلى المهدي فعاتبه فكان فيما عاتبه به أن فال له: رددت كتابي. فقال عبيد الله: يا أمير المؤمنين أني لم أرد كتابك، ولكنه كان ملحوناً، وكتاب أمير المؤمنين لا يكون ملحوناً. فصدق المهدي مقاتله، وأجازه، ورده إلى عمله. حتى لا تقول حلقة، حلقة؟ قال ابن عساكر: كان زريع على عسس بلال فقال له يوماً: يا بني، إن أهل الأهواء يجتمعون في المسجد ويتنازعون، فاذهب فتعرف ذلك. فذهب ثم رجع إلي، فقال: ما وجدت فيه إلا أهل العربية حلقة حلقة فقال: إلا جلست إليهم حتى لا تقول: حلقة، حلقة؟ أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة؟ قال ياقوت الحموي: سأل بعض الأكابر من بني طاهر أبا العباس ثعلباً أن يكتب له مصفحاً على مذهب أهل التحقيق فكت (والضحى) بالياء. ومذهب الكوفيين أنه أذا كانت كلمة من هذا النحو، أو الهاضمة أو كسرة كتبت بالياء - وإن كانت من ذوات الواو - والبصريون يكتبون بالألف. المبرّد في ذلك المصحف. فقال: ينبغي أن يكتب (والضحى) بألا لف لأنه

من ذوات الواو. فجمع ابن طاهر بينهما. فقال المبرد لثعلب: لم كتب (والضحى) بالياء؟ قال: لضمة أوله. قال: ولم إذا ضم أوله - وهو من ذوات الواو - تكتبه بالياء؟ قال: لأن الضمة تشبه الواو. وما أوله واو يكون آخره ياء، فتوهموا أن وله واو. فقال المبرد: أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة؟ مهداً، ثلثداً، أسطوط قال ابن حزم: إن الذي، وقفنا عليه، وعلمناه يقيناً، أن السريانية والعبرانية، والعربية التي هي لغة مضر وربيعة - لا لغة حمير - واحدة، تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام لغة الأندلس ومن الخراساني إذا رام نغمتهما. ونحن نجد من سمع لغة أهل (فحص البلوط) وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول: إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة. وهكذا في كثير في البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلاً لا يخفى على من تأمله. ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً. وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى، ولا فرق. فتجدهم يقولون في العنب: (العينب) وفي السوط (أسطوط) وفي ثلاثة دنانير: (ثلثداً) وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال (السجرة) وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاءً فيقول: (مهمدا) إذا أراد أن يقول: محمدا ومثل هذا كثير فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية يقن أن اختلافها من نحو ما ذكرناه من تبديل الفظ الناس على طول الأزمان. واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل. إن لم تكف عن هذا الكلام بارت قريتك قال السبكي: ذكر الزبير بن بكار أن بعض التعقرين كتب إلى وكيل له بناحية البصرة: أحمل إلينا من الخوزج والكنعد الممقوريين والإوز الممهوج، ولحم مها البيد ما يصلح للتشرير والقديدفكتب إليه وكيله: إن لم تكف عن هذا الكلام بارت قريتك فأن الفلاحين ينسبون من ينطق بهذه الألفاظ إلى الجنون. التخصص بمعرفة التلصص

قال الثعالبي: سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: أنشدني الصاحب نتفه له، منها هذا البيت: فأن هو لم يكفف عقاب صدعه ... فقولوا له: يسمح بترياق ريقه فاستحسنه جداً حتى حممت من حسدي عليه، وودت لو أنه لي بألف بيت من شعري. قال الثعالبي: فأنشدت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي هذا البيت، وحكيت هذه الحكاية في المذاكرة فقال لي: أتعرف من أين سرق الصاحب هذا لبيت؟ فقلت لا والله. قال: إنما سرقه من قول القائل، ونقل ذكر العين إلى ذكر الصدغ: لدغت عينك قلبي ... إنما عينك عقرب لكن المصة من ريقك ... ترياق مجرب فقلت: لله در مولانا الأمير، فقد أوتي حظا كثيراً من التخصص بمعرفة التخصص. على أنه قيل في الوقت. قال أبو المستهل: دخلت يوماً على سلم الخاسر، وإذا بين يديه قراطيس فيها أشعار يرثي ببعضها أم جعفر، وببعضها جارية غير مسماة، أقواماً لم يموتوا. وأم جعفر، يومئذ باقية فقلت له. ويحك! ما هذا؟ فقال: تحدث الحوادث فيطالبونا بأن نقول فيها ويستعجلونا، ولا يخمل بنا أن نقول غير الجيد فنعد لهم هذا قبل كونه، فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه على أنه قيل في الوقت. ذاك لمن لا يسخف إلى بيت الزراجين. قال عامر بن هشام القرطبي: قالوا: الكفاف مقيم. قلت: ذاك لمن ... لا يسخف إلى بيت الزراجين ولا يبلبله هب الصبا سحراً ... ولا بلطفه عرف الرياحين ولا يهيم بتفاح الخدود، ورمان ... الصدور وترجيع التلاحين تستعين به على صيانة جمالها، ورونق بجتها قالت سلمى بنت القراطيسي من أهل بغداد وكانت مشهورة بالجمال: عيون مها الصر يم فداء عيني ... وإيجاد فداء جياب أزين بالعقود، وأن نحري ... لأزين للعقود من العقود

ولا أشكو من الأوصاب ثقلا ... وتشكو قامتي ثقل النهود وبلغت هذه الأبيات المقتفي أمير المؤمنين فقال: أسألوا هل تصدق صفتها قولها؟ فقالوا: ما يكون أجمل منها. فقال: أسئلوا عن عفافها؟ فقالوا: هي أعف الناس. فأرسل إليها ملا جزيلا وقال: تستعين به على صيانة حمالها ورونق بهجتها. ألا نسيم الصبا والقوم أغصان. حضر الشاعر ابن القيسر أني مرة في سماع، وكان المغني حسن الغناء، فلما طربت الجماعة، وتواجدوا، قال: ولله لو أنصف العشاق أنفسهم ... فدوك منها بما عزوا وما هانوا ما أنت حين تغني في مجالسهم ... ألا نسيم الصبا، والقوم أغصان إسعاف النشاشي

الصف الفني

الصف الفني لعز الدين التنوخي الوصف لغة ذكر الشيء بحيلته ونعته، فالوصف والنعت لدى علماء اللغة مترادفان، وعند علماء الكلام متباينان، وبلغة المجاز يدل الوصف على الكشف والبيان. ومنه حديث عمر، رضي الله تعالى عنه، في الثواب الرقيق تلبسه الغانية وإن لا يشفّ، فأنه يصف إي أن ثوبها يصف برقته جسمها فيظهر منه حجم الأعضاء فشبه ذلك بالصفة كما يصف التاجر سلعته، والزارع غلته، والخاطب مخطوبته، والمفارق محبوبته. والوصف الأدبي قديماً لا يختلف عن الوصف اللغوي كثيراً، فكان في النثر يجتزأ بذكر الموصوف ببعض حلاه ونعوته، وكان في الشعر يقتصر - كما سنورده على التشبيه غالباً، وإن كان هذا لم يمنع بعض أئمة الأدب من أشباه الجاحظ من الاهتداء أو المقاربة مما ينبغي أن يكون عليه الوصف، وهذا أبو هلال العسكري يقول في الصناعتين: أن أجود الوصف ما يستوعب معاني الموصوف حتى كأنه يصور الموصوف لك فتراه نصب عينيك. ولكن السواد الأعظم من أدبائنا وشعرائنا لم يهتدوا لأصول الوصف، ومن ترك الأصول، حرم الوصول، ولذلك كان ما يستهوي القلب ويمتع العين من آثارنا القديمة قليلاً لا يروي غليلاً، ولو نضج فن الوصف على عهد استبحار حضارتنا، نضجه في الأدب الغربي اليوم، لعرفنا من تلك الحضارة السامية الفخمة ما لم نعرف ولرأينا من الصور الفتانة والمشاهد ما لم نشاهد، لأن الوصف الصادق من عوامل التبيين، لا من وسائل التزيين. أجل كان الوصف في الشعر والنثر من وسائل التزيين، وكان قوامه التشبيه ولو كان المشبه أوضح من المشبه به حين لا تدعو حاجة إلى محاكاة وتمثيل، ولم ينجم في عصرنا هذا من الوصافين البارعين نظير الأديب الكبير عبد العزيز البشري إلا باطلاعهم على أدب الغرب وآيات النابغين الناهبين فيه، ولو لم يطلع أديبنا البشري على أوصاف لابرويار فيسجاياهلما كتب له التوفيق بإتقان ووصفه البالغ فيمراياه. ولولا بعض من أجاد الوصف من رجال الصحافة لضاعت على تاريخنا القومي والوطني حقائق جمة، ولخفيت صور مشاهد خطيرة ومع ذلك فنحن مقصرون كل التقصير في

وصف كثير من مشاهد التاريخ في دمشقنا المحبوبة، ومنبض فؤاد العروبة فمن ذا الذي وصف لنا نثراً خرائب حمام القاضي والميدان، وصفاً صادقاً يثير كوامن الأسى والأشجان، ومن الذي صورنا نحن الدماشقة في مرابع لهونا من الفوطتين، ومجامع أنسنا في النيربين، أو في مقاصف مصائفنا من الفيجة والزبداني ومضايا وبقين وبلودان؟ وأية لوحة وصفية خالدة لنا تصور جامع أمية قديماً، أو قصر أمية أخيراً أو تصور لنا هذه المدرسة العادلية الكبرى التي تضم ضلوعها على الملك العادل على المجمع العلمي وردهة محاضراته، وعلى دار الآثار وروائع طرفها. إن الوصف في لغتنا العربية لا يزال معظمها بعيداً عن التخصيص والتمييز فهو لا يصور لك الموصوف تصويراً يميزه عن سائر أشباهه ونظائره فتراه كما يقول صاحب الصناعتين نصب عينيك، ما بين يديك، فماذا سمعت شاعراً يصف لك دمشق مثلاً، ولم يذكر لك اسمها، تحار في الموصوف فتحسبه يصف لك القاهرة أو بغداد أو طهران، لجواز اتصاف المعزية، أو مدينة السلام أو طهران العجمية، بأوصاف دمشق العربية، كذلك إذا سمعت من ضروب الوصف مديحا أو رثاء أو هجاء ولم يذكر لك الممدوح أو المجروح، لم تعرفه مهما حذقت الكهانة، لأنه لم يوصف بالأوصاف الخاصة، والفوارق المميزة، التي تخرجه من زمرة أشكاله وأمثاله وهلم جراً من الموصوفات في لغتنا التي لا يخصصها ما اختصت به من سمات، ولا يميزها عن أشباهها ما امتازت به من صفات، وإنك لترى الشاعر أو الناثر إذا أكثر من الأوصاف المزوقة لا المحققة جمح به الوصف إلى الغلو والإحالة، مما يذهب ببهجة القول، ويطفأ نور الحق، ويبطل سحر البيان، خذلك مثلاً على ذلك قول الطغرائي يصف محمد بن ملكشاه السلجوقي، وقد عثرت على هذا القول اتفاقاً: لجلال قدرك تخضع الأقدار ... وبيمن جدك يحكم المقدار ولك البسيطة حيث مدَّ غطاءه ... ليلٌ وما كشف الغطاء نهار . . . . . إلى أن يقول: عم البرية والبسيطة عدله ... فالخلق شخص والبسيطة دار شكراً فقد أتاك ما لم يؤته ... أحد سواك الواحد القهار أصحيح ذلك؟ وهل يقول الحق إذ يقول:

تعظي وتمنع من تشاء بإذنه ... فبكفك الأرزاق والأعمار تتفاوت الأقدار ما بين الورى ... فإذا ذكرت تساوت الأقدار وأسوت جرح الحادثات وطالما ... كنا وجرح الحادثات جبار فهل صدق ليت شعري الطغرائي بهذه الصفات التي من جملتها أسو جرح الحادثات أم أن أعذاب الشعر أكذبه، وأعجبه أغربه؟ وإذا خطر لكاتب أن يصف بلدة قال مثلاً: بلدة ترابها عبير وحصباؤها عقيق وهواؤها نسيم وماؤها رحيق، كوكبها يقظان، وجوها عريان، يومها غداة وليلها سحر، وما أشبه ذلك من التفاهة والهذر، وتراه في وصف الحصن يقول: حصن كأنه على مرقب النجم، ومجير من القدر الحتم، يحسر دونه الناظر، ويقصر عنه العقاب الكاسر، يكاد من علوه يغرف من حوض الغمام، انتطق بالجوزاء وناجت يرجوه أبراج السماء، ونحو ذلك من الخرطوالهراء، هذا والحصن طبقة أو طبقتان من البناء، فكيف وماذا ليت شعري نقول لو أردنا أن نصف نواطح السحاب من الأبنية الأمر بكية وهي طبق، وقد تبلغ أو تتجاوز حد الأربعين من الطبقات فتنطح بالفعل الغيوم، وتكاد تصعد لتتحلى بالنجوم! ثم إذاهم بوصف دار سرية لم يستعمل من التعابير إلا ما لا معنى له مما يخصص دارا، ولا يصور منها شرفه ولا جدارا ولا يذكرها حيا ولا جوارا، كقوله مثلا: دار تخجل منها الدور، وتتقاصر لها القصور، هي دائرة الميامن ودارة المحاسن قد أخذت أداة الخنان وضحكت عن العبقري الحسان، يخدمها الدهر، وياويها البدر، ويكتفها النصر وهلم جرا. وإذا أخذ في وصف روضة صورت فيها يد المطر أبهج الصور قال: روضة كالعقود المنظمة، على البرود المنمنمة، نشرت طرائف مطارفها، ولطائف زخارفها، فطوي لها الديباج الخسرواني، ونفي معها الوشي الأسكندراني كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد: كلام طلي مزخرف معسل، ولكنه لا يبلغنا من الوصف المأمول! هذه هي تعابير الوصف قديماً في النثر، وأما في الشعر فاسمع مثلاً ما يقول أبو الحسن اللامي تلبية لطلب عضد الدولة بن بويه في وصف شعب بوان، وانظر كيف ينطبق قوله هذا على غوطتنا الفيحاء وأشجارها وأطيارها وأنهارها: أمرر على الشعب وأنزل روضة الانفا ... قد زاد في حسنه فازدد به شغفا

إذ ألبس الهيف من أغصانه حللا ... ولقن العجم من أطياره نتفا وانظر إليه ترَ الأغصان مثمرة ... من نازع قرطا أو لابس شنفا والماد يثني على أعطافها أزراً ... والريح تعقد في أطرافها شرفا ويقول شاعر آخر في شيراز ما ينطبق على دمشق وبغداد، وبرلين ولينينغراد: إن شيراز بلدة لا يكاد ال ... طرف يأتي - وان تناهى - عليها ليس تدري سكانها أسرور ال ... نفس يأتي من خلفها أم يديها لو رآها امرؤ وأدخل عدنا=سأل الله أن يرد إليها وبما أن في دمشق ودمشقنا هذه الفيحاء مهوى أفئدة الشعراء، وفيهم من يقول فيها: الشام شامة وجنة الدنيا كما ... إنسان مقلتها الغضيضة جلق وبما أن المتقدمين كانوا يعدون نزه الدنيا وجناتها أربعا وهي: غوطة دمشق ونهر الأبلة وصغد سمرقند وشعب بوان، ويضربون بكل منها المثل في الحسن والطيب وجمال المنظر، ويقول أبو بكر الخوارزمي: قد رأيتها كلها، فكانت غوطة دمشق أطيبها وأحسنها، ولم أميز بين رياضها المزخرفة بالأنوار والأزهار وغدرانها المغمورة بطيور الماء التي هي أحسن من الدراريج والطواويس، لذلك كله وبعد أن سمعنا ما قيل في وصف شعب بوان، المعدود من نزه الدنيا الأربع، وما سمعناه في مدينة شيراز المجاورة تغزل شعرائنا بالفيحاء، كقول ابن حمدان التغلبي فيها، ولولا ذكر أسمها في آخر مدينة ذات أشجار تجري من الأنهار: جمعت مآرب كل ذي أرب ... فيها ونخبة كل منتخب فهواؤها تحيا النفوس به ... وترابها كالمسك في الترب تجري بها الأمواه فوق حصى ... كرضاب ثغر بارد شنب من كل عين كالمرأة صفا ... أو جدول كمهند القضب يشتق أخضر كالمساء له ... زهر كمثل الأنجم الشهب هذا ومن شجر تعطفه ... يحكي الغطاف الجرد العرب في فتية فطنوا لدهرهم ... فتناولوا اللذات عن كثب ماشئت من جود ومن كرم ... فيهم ومن ظرف ومن أدب

متواصلين على مناسبة ... بالفضل تغنيهم عن النسب فالوصف على ذلك عندنا لا يقصد من أكثره على الغالب إلا الثناء والإطراء أو الإزراء والهجاء، لا تخصيص الأشياء وتميزها عن أشباهها تمييزاً يزيل كل لبس، ويرد الراحة إلى النفس، على أن لكثير من نوابغنا من الوصف الدقيق الروائع ما يكاد يستوفي شرائطه فيمثل الموصوف لعين القارئ فيصدق عليه انه أحدى الرؤيتين، وسنأتي من مثل هذا الوصف بأروع الوصف العربي معززة بروائع الصف الغربي من فرنسي وايطالي وإنكليزي وألماني وأمريكي، فان في المقابلة بين نماذج الوصف الفني في الأدبين العربي والغربي، وفي أنعام النظر في خصائص كل منها، ما يجلو لنا الفرق بينهما إي جلاء، وبضدها تتميز الأشياء. عز الدين التنوخي

تاريخ السل

تاريخ السل للدكتور مرشد خاطر قد أطلت الكلام عن ابن سينا وأسهبت في تعليل بعض المستحدثات التي جاء بها عن السل ومن أحق منا بإظهار ما أوجد جدودنا القدماء وبإبداء فضائلهم ورفع الستار عن علومهم التي استنار بها الغرب حين كان يتسكع في دياجير الجهل فإذا نحن طمسنا فضلهم فمن تراه ينطق به. إن الواجب يقضي علينا بأن نرفع راية الجدود وألا نكتفي بالفخ بهم بل أن نتخذهم مثالا حياً لنا نتبعه في نهضتنا العلمية فنبني بعلومنا أسس استقلالنا المنشود. أما الآن وقد ختم ذلك العصر المجيد عصر العرب فلنر التطور الذي تطوره السل بعد أن أنتقل الطب إلى الغرب. لم تجل عدوى السل جيداً ولم يكتب عنها في التاريخ الطبي شيء صريح إلا في القرن السادس عشر إذ جاء فرا كستور من فارونا في إيطالية وألف ثلاثة كتب أسماها: العدوى والأمراض المعدية ومعالجتها سنة 1546وهي مؤلفات جزيلة الفائدة حددت بها العدوى وأعلن فيها مبدأ جديد عن أسباب الأمراض السارية قال فراكستور في ذلك العهدالحميات تنجم من بذور لا تستطيع حواسنا إدراكها وهي لا تحدث هذه الأمراض فحسب بل تنقلها أيضاً إلى الآخرين فالعدوى هي انتقال هذه البذور أو العفونة من المريض إلى السليم وإحداثها في السليم مرضاً شبيهاً بالمرض الذي كان مصدراً لها وتنتقل هذه البذور باللمس أو المساكنة أو عن بعد أياً كانت واسطة انتقالهاوقال أيضاًلكل من الجدري والحصبة والطاعون والجرب والرمد الصديدي والكلب والإفرنجي والسل بذور خاصة به تنقلها إلى الآخرينوهو أول من قال عن السلإنه ينتقل بمساكنة المسلول ولبس أثوابهوقد ذكر في مؤلفهإن أثواب مسلول كانت السبب في نقل السل إلى سليم ارتداها بعد موت صاحبها بسنتينلعمري لابد من الإقرار بفضل هذا المفكر الكبير فكم في كلامه من حكم وكم في نظراته من حقيقة لأننا لو بدلنا كلمة بذور بكلمة جراثيم لكانت لنا الحقيقة الناصعة التي جاء بها باستور بعده بثلاثة قرون فهو قد نظر بعين بصيرته الثاقبة قبل أن تكون له تلك المجاهر المكبرة إلى تلك الخلائق المتناهية في الصغر فقال عنها بذور وإن حواسنا لا تستطيع إدراكها وعرفها قبل أن يراها ولم يكتف بهذا بل عرف أن لكل مرض بذرة خاصة

وإن البذرة الواحدة لا تسبب أمراضاً عديدة فهو قد أوجد فكرة الجراثيم ووضع فكرة الاستقلال الجرثومي. وبعد أن لفظ فراكستور مبدأه هذا عن عدوى السل بقيت هذه الفكرة منغرسة في إيطالية فقد تكلم عنها بولس زكياس في مؤلفه المسمىالأسئلة الطبية الشرعية وقد تساءل فيه عما إذا كان يحق للمرأة السليمة أن تهجر زوجها المسلول. وفي آخر القرن السادس عشر جاء مار كوليالي فعدل بعض التعديل فكرة فراكستور وأقر بعدوى السل وانتقال الأمراض حسبما ذكر فراكستور غير أنه خالفه في أمر تلك البذور وقال أنها نوع شبيه فعله بفعل السموم. وفي نظر هذا العالم الإيطالي كثير من السداد فهو لم يقنعه أن بذوراً تدخل وتحدث ما تحدثه الأمراض الفتاكة بل لأن هناك أمراً أعظم من هذا، أن هناك شيئاً من السموم يلقى ويسمم البنية وكأنه يقول أن تلك البذور أو الجراثيم اليوم لا تؤثر بدخولها للبنية فقط بل تفعل أيضاً بمفرزاتها أو زيغاناتها (تو كسينها) فيا له من نظر ثاقب بعيد المرمى. واشتهر في القرن السابع عشر بين الأطباء الذين عنوا عناية خاصة بالسل ريشار مورتون الانكليزي (1698) وكان اكليريكيا في بدء حياته ومن أسرة شريفة غير أنه ترك الثوب إلى تعلم الطب فقد نسب سل الرئة إلى عقيدات تلتهب وتتقيح وكان يظن أنها تنجم من دمٍ متخثر وكان يعتقد أيضاً بعدوى السل فقد قال عنهأنه يعدي الأصحاء الذين ينامون والمسلول في فراش واحد كما تعدي الحمى الخبيثةولكنه كان يعتقد بالوراثة خاصة وقد قسم السل ثلاث درجات: الابتدائية والوسطى والانتهائية وهي درجة اليأس. والثانية تناسب تكون العقيدات والثالثة التهاب الرئة وتقيحها. وقد روي حادثة سل استمرت خمسين سنة: حادثة اللورد هارت وحادثة أبيه مورتون الطبيب الشهير الذي قضى حياته كلها وهو يسعل ومات سنة 1658. وقد عني مورتون بالسل خاصة لأنه كان ابن طبيب مسلول وكان يخشى الوراثة وانتقال هذا المرض بها إليه، وقد اهتم اهتماماً جزيلاً بكثرة التغذية والأمور الصحية. فمورتون جاءنا بأمرين جديدين: الدر نيات الرئوية التي لم يذكرها أحد قبله وقد أثبت الطب الحاضر تكونها في الرئة ودرجات السل الثلاث التي لا نزال نذكرها. وفي القرن نفسه قام لازار ريفيار (1589 - 1655) في فرنسا ووضع مؤلفاً سماه الممارسة الطبية لا يخلو من الفائدة ذكر فيه بضع مئات من المشاهدات بينها العدد الوافر عن عدوى السل ومنها مشاهدة غريبة في

بابها وهي أن أحد المرضى بعد أن سل كان يستطب برضع ثدي امرأة فسلت بدورها وماتت بعد أن نقلت العدوى إلى أختها التي غالبت المرض فغلبته وشفيت غير أن المريض المنكود الحظ الذي كان السبب في تفشي الداء وموت تلك المرأة البائسة لم تجده المعالجة نفعاً فقضى ضحية دائه الوبيل. وفي آخر القرن السابع عشر وبدء الثامن عشر جاء باليني الإيطالي (01643 - 1704) فكان أول من ذكر التوسط الجراحي في سل الرئة. وقد برز في القرن الثامن عشر فون سوتين (1700 - 1772) الهولندي المولد النمساوي الإقامة. اضطهد هذا الطبيب الشهير في بلده لأنه كان كاثوليكياً فرحل إلى انكلترة ومنها إلى فينة حيث نال شهرة سريعة. ولم يكتب عن السل شيئاًَ جديداً سوى أنه أشار باستعمال خزام العنق في السل الرئوي وبخزع الرغامى في الحالات الخطرة. وفي العصر نفسه قام في إيطالية مورغاني (1682 - 1771) الشهير وكان يخشى السل خشيته للأفعى حتى أنه لم يكن يجسر على تشريح جثة المسلول خوفاً من انتقال العدوى إليه فأيد فكرة فراكستور بعدوى السل ولم يكتف بهذا بل أنه وصف قبل كل أحد التهاب السحايا السلي وأورد عنه مشاهدة جزيلة الفائدة: ابنة في الثانية عشرة متوقدة ذكاء فقدت أختها وأخاها بالسل وأصابها هي نفسها بعد سنة من فقدهما التهاب في الرئة اليسرى ثم اعتراها صداع فوق الوقب ولم يمر عليها يوم واحد على ظهور هذا المرض حتى أخذها الهذيان وثبتت عيناها واعتراها الإقياء وحركات تشنجية عقبها نوع من السبات كانت تتخلله آونة بعد أخرى نوب تشنج شديدة وزلة (ضيق نفس) ثم قضت وبعد أن فتحت جثتها بدا في قاعدة الدماغ مهل (أي مصل صديدي) نسب إليه المرض. وظل الشعب في إيطالية يخاف السل خوفاً شديداً ويرتعد متى ذكر اسمه لما زرعه الأطباء في قلوب العامة عن سرعة عدواه فقد كتب رولن (1708 - 1784) ما حرفه: متى ثبت إصابة شخص بالسل كان يرقن فراشه وأغطيته وأثوابه وأدوات طعامه وشابه وجميع ما يستعمله ومتى مات يحرق هذا الأثاث ويتلف وقلما كان يسمح باستعماله بعد تبخيره. أما الغرفة فنقشر جدرانها وتطلى بطلاء جديد وتغسل أرضها وتفتح نوافذها وأبوابها وتبقى معرضة للشمس والهواء سنة كاملة قبل أن يسمح بسكنهاوقد استولى الرعب على قلوب الإيطاليين استيلاءً غريباً وبلغ منهم الخوف من السل مبلغاً بعيداً فإن شيريلو وكوتونيو

بعد أن استرشدا بإرشادات اسكوبار (1776) وهو أول من أشار بتعقيم تفلات المسلولين وقعاً في نابولي على ذلك القرار التاريخي الشهير في20أيلول سنة 1782وأذيع على الملأ بأمر الملك فرديند في الشوارع بعد النفخ في الأبواق تنبيهاً للشعب وخلاصتهأن يعزل المسلول بعد أن يتحقق مرضه وأن كل طبيب يعاين مسلولاً ولا يعلن أمره يغرم في المرة الأولى غرامة كبيرة وإذا عاد إلى اقتراف هذا الجرم ينفى عشر سنوات وقد تغلبت فكرة بوسكيون في فرنا وبعض أجزاء أوربة حتى الربع الأخر من القرن التاسع عشر إذ كشفت عصيات كوخ لأن اختبارات فيلمن عن التلقيح بالسل لم تثبت في البدء عدوى هذا الداء. ومن الوجوه الساطعة في القرن الثامن عشر برسيفال بوت (1713 - 1788) الذي وصف سل الأجسام الفقرية فسمي باسمه داء بوت وكان يعالجه بكي الأقسام الناتئة من العظام المصابة وقد وصف أيضاً الشلل المرافق له ونسبه إلى تخرب النخاع الشوكي فقد قال تتنخر أجسام الفقار ويخرب القسم الغضروفي بينها فيضغط النخاع الشوكي ويصاب بالتبدل وشل المريضونسب هذا المرض إلى الداء الخنازيري ونفى علاقته بالمرض وقد كتب عنه ما حرفهإن المرض الذي يحدث هذه الأحوال في النخاع الشوكي والأقسام المجاورة له هو الداء الخنازيري أعني به المرض نفسه الذي يكتنف الشفة العليا ويضخم عقد العنق وتحت الذقن ويحدث سعالاً جافاً متعباً وضخامة وتنخراً في العظام الأخرى فإذا كان أبقراط قد وصف سلي المفاصل والعنق ولم يعلم سببهم بل وصفه لهما ذلك الوصف الجميل كان ينطبق على ما نشاهده اليوم من أعراضهما فإن برسيفال بوت قد بين علاقة تنخر الفقار بالسل أو بالداء الخنازيري فلا أحق منه بأن يسمى هذا الداء يبقى اسمه خالداً تردده من بعده السنة الأطباء أيد الدهر. نصل الآن إلى القرن التاسع عشر وهو القرن الذي كشف به النقاب عن السل فبدا أمره جلياً. نرى في بدء هذا القرن غسبار لورن بايل (1774 - 1816) الذي درس السل الرئوي درساً دقيقاً وبين أن الدرنية الرئوية تتلين وذكر أنه كان يرى في جثث المسلولين درنيات عديدة مشابهة للدر نيات الرئوية في الأعضاء الأخرى الكبد والكلية والماساريق وغيرها غير أنه لم ير منها في الدماغ وقد نسب جميع هذه الدر نيات إلى سبب واحد حتى

أنه لفظ هذه الكلمة التأهب السلي. يتبين لنا من هذا أن الأفكار بدأت تتجه منذ بدء القرن التاسع عشر إلى توحيد المظاهر المختلفة التي يظهر بها السل وإن أطباء ذلك العصر بعد أن رأوا في العقد البلغمية والأحشاء والرئة درنيات متشابهة كل التشابه خالجهم الشك في أن هذه المظاهر جميعها ناتجة من سبب واحد. وجاء في الربع الأول من القرن التاسع عشر ذلك النابغة الكبير لنياك (1781 - 1826) الذي فاق معلمه كورفيزار وسلح الأطباء بسلاح ماض في تشخيص أمراض الرئة والقلب وقد عني لنياك خاصة بالسل وأثبت وحدته بقولهأياً كان الشكل الذي تظهر به المادة السلية فهي في بدئها مادة سنجابية شفافة بعض الشفوف ولا تلبث أن تعود صفراء ظليلة قاسية جداً ثم أنها تلين وتميع ميعاً متجانساً شبيهاً بقوام الصديد فتتفرع في العقبان تاركة تجاويف تسمى قبلا قروح الرئة أما نحن فنسميها كهوف الرئة فهل أجلى من هذا التصريح عن وحدة السل في ذلك الزمن الذي لم يبد فيه المجهر لعالم الوجود اكتشافاته العجيبة وأننا فقد ورد في كتابه ما نصه: لا يخيل ألي أن الأثواب الصوفية وفرش المسلولين التي يحرقونها في بعض البلدان ولا يكادون يغسلونها في فرنسة قد نقلت السل إلى أحد. مع أن من قلب تلك المؤلفات الطبية العديدة التي نشرت فبل عهد لنياك وقد استقينا منها الكثير من شواهدنا التاريخية يرى فيها المشاهدات المثبتة لعدوى السل وأظن أن الشك كان يخالج ليناك في صحتها وأنه كان ينتظر مشاهدة العدوى بعينه ليقر بها فلم يتح له ذلك لأن السل نفسه حصد بمنجله هذه الغرسة النضيرة. وقد أقر لنياك بالتلقيح إذ قال متسائلاً أيحدث التلقيح سلاً أو على الأقل سلاً موضعياً وأجاب عن هذا السؤال بقوله: ليس لي سوى حادثة واحدة أقدمها برهاناً على صحة التلقيح بالسل وهي وإن تكن مفردة جديرة بالذكر. وقد كنا نتمنى لو أن تلك الحادثة لم تقع إذن لكانت طالت حياة هذا العالم ولكانت البشرية استفادت من علمه الجم وقد عني لنياك بتلك الحادثة المفردة نفسه لأنه وهو ينشر فقار مسلول سنة 1806جرح سبابته اليسرى وقضى نحبه في13 آب سنة 1826. مات هذا العلامة ضحية الواجب فعرف العالم قدره وهبت بلاده الفرنسية منذ سبع سنوات فاحتفلت

بذكرى مرور مائة عام على موته وكثيرون هم الذين يموتون هذه الميتة الشريفة فتبلى أجسادهم وأعمالهم معاً لأن الأمة التي ينتسبون إليها لا تكرم علماؤها. وما أن انتصف القرن التاسع عشر حتى بدا إلى الوجود ذلك العلامة الألماني الكبير الذي كشف النقاب عن سبب السل فسكتت الألسنة وحسم الجدال وكان لاكتشافه الضجة الكبيرة في أقطار البسطة أعني به كوخ (1843 - 1910) الذي لم تمر على موته أكثر من اثنتي وعشرين سنة. توصل هذا العلامة سنة 1882 إلى كشف عصية السل فأثبت وحدة السل ونوعيته وعدواه. وكان كشفه أكبر برهان على صحة الفكرة التي جاء بها لنياك أو سداد الفكرة الفرنسية وانصع دليل على فساد الفكرة الألمانية المنافية لها وهي فكرة فيرخوف وريندهارت القائلة بعدم وحدة السل ورأي أمبيس الذي كان يعد السل الدخني مرضاً خاصاً لاعلاقة له بالسل. ولم يعد مجال للشك في عدوى السل هذه العدوى التي قالت بها الأجيال السالفة حتى إلى لنياك فنفاها وكان نفيه لها كما ذكرنا خروجاً على الحقيقة. إنني أقف عند هذا الحد بعد أن استعرضت الأجيال جيلاً جيلاً منذ الهنود إلى القرن الماضي وبعد أن أوضحت تطور السل فيها وما أدخله كل قرن منها من الأمور الجديدة. أما تطور السل في القرن العشرين ولاسيما بما هو عائد إلى معالجته فإنني أضرب صفحاً عنه لأنه حديث العهد وقليلون هم الذين تفوتهم هذه الأمور الحديثة. مرشد خاطر

باقة أفكار

باقة أفكار الخير والشر والصلاح والفساد والطهارة والخبث إنما حصلت من امتزاج النور والظلمَة ولو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم وهما يتقاومان ويتغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة والخير الشر. ثم يتخلص الخير إلى عالمه والشر ينحط إلى عالمه. زرادشت. الإنسان مقياس الأشياء بروتاغوراس إياك أن تكون تكيسك وتبرزك عن العامة هو أن تنبريء منكراً لكل شيء فذلك طيش وعجز، وليس الخرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعد جليته دون الخرق في تصديقك ما لم تقم بين يديك بينة، بل عليك الاعتصام بحبل التوقف وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما لم تتبرهن استحالته لك فالصوب أن تسرح أمثال ذالك إلى بقعة الإمكان ما لم يزدك عنه قائم البرهان واعلم أن في الطبيعة عجائب وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب - ابن سينا (الإرشادات). الفضيلة هي محبة الناس - قونفوشيوس - الرياء دليل على احترام الرذيلة للفضيلة. - لاروشفو كولد (الحكم) لماذا نغضب من صاحب المنطق الفاسد ولا نغضب من الرجل الأعرج؟ ذلك لأن الأعرج يعرف أنك تمشي مستقيماً، أما صاحب الفكر الأعرج فيزعم أننا جميعنا عرج ولولا ذلك لأشفقنا عليه ولم نغضب منه. - باسكال (الأفكار)

كيف ينظر إلينا الغربيون

كيف ينظر إلينا الغربيون للأستاذ نافذ الغنام اعتدنا نحن الشرقيين أن نسيء الظن بالغربيين وننظر إلى جميع أعمالهم نظر الحذر والارتياب. لا أريد أن ابحث في هذا المقال عما إذا كنا محقين في ارتيابنا المطلق من الغربيين أو إذا كنا مخطئين. فلربما كنا محقين ولربما كنا مخطئين. إنما أريد أن أتناول ناحية أخرى من البحث وهي: هل ينظر إلينا الغربيون كما نتوهم نحن؟ وهل نحن بهذا التوهم مصيبون؟ فلأجل اصطياد الحقيقة التي نتوخاها لا بد لنا من تقسيم الغربيين الذين يحتكون بنا، حسب ماهيتهم ومآربهم، إلى عدة أقسام. 1 - أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية هذا القسم من الغربيين مقيد في نظره إلينا بمصالحه، فهو معذور إذا صورنا كما تشاء له مصالحه. على أن ذلك لا يعني أنه يجهل حقيقتنا. فلربما كان أعرف منا بمزايانا ونقائصنا، وأكثر إطلاعاً على مواطن الضعف القوة من نفوسنا ومن أوضاعنا. غير أن مهمته تقضي عليه بنهج الطريق المؤدية إلى تحقيق أمانيه، أكان ذلك بإنكار ملا يسعه أنكران أم كانً بإثبات ما ليس له وجه من الصحة. فانا أستغرب من بعض الشرقيين كيف يطلبون إلى هذه الفئة من الغربيين أن تخالف مبادئها وتسير على عكس الخطة التي خطتها لها سياستها. فإذا كان لنا ما ندعيه فعلينا نحن - لا عليهم - إثبات ذلك وبرهانه. ولا أعتقد أن الحيلة تعوز الفتى أن نجيب أو الشعب المنظم. 2 - العلماء والمدققون هذه الفئة من الغربيين أقرب من الأولى إلى معالجة الحقائق الراهنة. غير أن نظرها إلينا يختلف أيضاً باختلاف غايتها. فإذا كانت غايتها سياسية فهي أقدر العناصر الغربية على تسخير العلم لخدمتها. ون عادتها أن تقول كلمتها بصراحة غربية وجرأة تقشعر ها الأبدان. وأما إذا لم تكن غايتها سياسية لكانت خالصة لوجه العلم والحقيقة رمقتنا عندئذٍ بعين الصدق والإنصاف. فإذا شكت كانت شكايتها صادقة وإذا نقدت كان نقيضها، على مرارته صحيحاً وإذا هفت أو أخطأت فإنها أحسن ما تكون إصغاء إلى النقد والاعتراض وأسرع ما تكون مبادرة إلى

تصحيح خطأها مع الاعتذار. هؤلاء ينبغي علينا أن نحيطهم بالتجلة والاحترام، وأن نزوده بكل ما نستطيع من المعلومات الصادقة دون زيادة أو نقصان لا كما تشاء مبالغتنا للأمور. إلا إذا كانت غايتنا الدعاية على شرط أن تكون هذه مرتبة أحسن ترتيب. هذا النفر من العلماء والمدققين يتخذون من المعلومات التي نزودهم بها أثناء مكوثهم أو مرورهم ببلادنا أساساً يبنون عليه آرائهم وأفكارهم. فإذا كان ثمة شيء من النقد الجارح فأغلب ما يعود ذنبه علينا من جراء المبالغة وتشويهنا الحقائق. أتى قبل مدة إلى دمشق بحاثة غربي درس أحوال المدينة من أكثر وجوهها ثم أراد أن يختم درسه ببحثه عن منازل دمشق. فاعتمد في تنفيذ خطته هذه على بعض الدمشقيين الذين طافوا به على أجمل وأعظم منازل المدينة فحسب. ثم طلب بعد مدة من أحد سكان الصالحية مساعدته على زيارة بعض منازلها فأراه هذا نماذج من بيوت الفقراء ومتوسطي الحال والأغنياء. فسر الرجل لذلك وقال لصاحبنا: أشكرك على أمانتك وسلامة طويتك. لقد أردت أن تعطيني صورة صادقة عن أحوال بلادك ولكن أتدري ما الذي فهمت من زيارتي منازل دمشق؟ - لا - فهمت أنه لا يوجد في دمشق فقراء. لأن جميع المنازل التي زرتها كانت على جانب من الأبهة والزينة، يعيش سكانها في بحبوحة زائدة. أراد البحاثة أن يشير بهذه الكلمة الأخيرة إلى أن الشبان الذين قادوه إلى زيارة منازل دمشق خدعوه مع أن مثل هذه الخديعة لا تنطلي على أبسط الناس. تلك هي إحدى النقائص المستحكمة في نفوسنا. نخدع في غالب الأحيان أنفسنا من حيث نحاول خدع الآخرين. والأغرب من ذلك أننا نكابر بالمحسوس ونعتقد أن هذه المكابرة التي شفت أنفسنا ستشفي نفوس الغربيين وتستدل الستار على ما نتصف به من الجهل والضعف. إننا لا نحتمل أن يقال لنا: أنكم جاهلون متأخرون. يغيظنا ذلك فننشط في الحال لنفي هذه التهمة بأسلوب خاص بنا ومنطق غريب فنقول: لا فرق عظيم بيننا وبين أرقى الأمم الأوربية ولكن شاء الحظ أن نكون محكومين. هذه جامعتنا تخرج لنا في كل سنة عدداً من خيرة الأطباء والمحامين والأدباء. وهذا مجمعنا العلمي يضم بين أعضائه أكبر أدمغة العالم العربي. وه نحن أصبحنا لا نختلف بأزيائنا وملابسنا عن الغربيين. ونضيف على ذلك: إن السوري أذكى من الغربي حتماً فقد شهد

بذلك أكبر العلماء ويعجب بنبوغنا الأميركيون. بعد وصوله بمدة قليلة إلى أمريكا يبز السوري أقرانه من سائر الأمم الأوربية حتى الأميركيون أنفسهم إلى ما هنالك من الأقوال التي يقولها السواد الأعظم من المتعلمين. لقد اعتدنا أن ننحي باللائمة على هذه الزمرة من علماء الغرب ونتهمهم بالتعصب لأننا ننفر من النقد ولا نحب مجابهة الحقيقة. يكفينا أن نرى في أحد الكتب الباحثة عن سورية صورة جمل شد إلى الصمد مع بقرة هزيلة حتى نقول: أن صاحب هذا الكتاب يريد إهانتنا وتشهيرنا في بلاده. ألم ير في كل سورية صمداً كدن عليه زوج من البقر المعلوف؟. لا أرى في هذه الصورة قصداً للحط من كرامتنا إنما أراد صاحب الكتاب أن يشير إلى درجة فقر الفلاح السوري الذي لا يقوى في أغلب الأحيان على شراء زوج من البقر. إن أمثال هؤلاء الغربيون لا ينظرون إلينا في بعض الأحيان كما نريد ولكن ينظرون إلينا في غالب الأحيان أحسن مما نريد. إن السوري لا يزال أعجز من أن يدرك حقيقة نفسه. 3 - الأدباء والفنانون هؤلاء الغربيون ولاسيما المصورون منهم والرسامون الموسيقيون والأثريون والفلاسفة والمؤرخون والاجتماعيون ودققوا خصائص البلاد ومزاياها هم حملت الروح الجميلة والنفوس البسامة والقلوب النقية هؤلاء هم القوم الذين لا يحق لنا أن نسيء بهم الظن بوجه من الوجوه. بل ينبغي لنا أن نبادر إلى خدمتهم ونتقرب منهم لاقتطاف أعظم الفوائد الممكنة. إنهم أشبه شيء بأشعة الشمس الوضاءة لا يهمها إلى كساء البدائع المستترة ثوباً من البهجة والألوان القزحية والأنغام. نعم قد يسوؤنا أن يضمن أحد الأدباء الحياديين كتابه شيئا من النكات أو الصور الجميلة التي لا ظل لها من الحقيقة في بلادنا أو التي لا تنطبق على الواقع. ولكن هل الذنب ذنبه إذا كانت جمعيتنا موصدة الأبواب وإذا كانت أجمل صفحات حياتنا محتجبة وراء أسوار بيوتنا العالية، وكانت أسرار حياتنا المنزلية الساخطة على العالم الخارجي تخشى أن يلامسها شعاع من أشعة البحث والتدقيق. أما المصورون والرسامون وسائر الفنانين فسأل السوريين أن لا يظنوا بهم إلا أجمل الظنون. يرى هؤلاء الفنانون في بلادنا من الجمال ما لا نستطيع أن نراه. فقد تكامل ذوقهم إلى درجة لا يستطيع أن يدركها المجتمع السوري. فهم أشبه شيء بمن قال:

من كل معنى جميل اجتلى قدحاً وكل ناطقة في الحي تطربني لا تسيؤوا الظن برسام جالس على كرسيه الوطيء في زاوية من زوايا الأزقة المظلمة يرسم على صحيفة النسيج قوساً متهدماً مهشماً أو داراً بالية من دور أحيائنا القديمة. فالرسام الغربي لا يريد تزييفنا ولا يريد أن يشير بهذه الصورة إلى درجة تأخرنا في الحضارة ولكته ينشد البديع الغريب الذي يحسن تصويره، من شأن هذه الحضارة العصرية أن تسوي بين جميع الأشكال من بناء وملبس ومنظر. فهي بهذه الصورة تقودنا إلى وحد النسق التي تزهق أرواحنا باطراد ألوانها وتشابه أشكالها. فأعذروا الرسام الغربي الذي يلجأ إلى هذه المغاني التي يرفرف فوقها ورح البلى ممزوجاً بمعاني الشعر والخيال. ولا تستريبوا من مصور غربي يصور بآلته السائلين، يتجولون في الطرق بثيابهم الممزقة والفلاحين، والفلاحات، بملابسهن التي تظنونها غير مدنية. فهم لا يريدون أن يشهروها ف بلادهم للتنديد بنا والإشارة إلى تأخرنا، ولكن ليثبتوا على الشريط صوراً حيةً يبتهج لرؤيا ها أرباب الذوق الغربي. ولربما كانت مدعاةً لزيارة كثير من ثراة الغرب بلادنا وإنفاقهم أموالاً طائلة على التجول في أنحائها الغنية بالآثار. وهؤلاء الفنانون يتكبدون عناء عظيماً في بلادهم للعثور على المناظر الغيبة والأماكن التي أعفت رسومها يد البلى وجار عليها الزمان وألبستها الفاقة ثوباً من التواضع والخشوع والهجران. وهل نستطيع أن ننكر فضل هذه الفئة علينا، وأثرها في تطور ذوقنا الفني. منذ عهد قريب بدأ السوريون في أكثر مدن سورية الداخلية والساحلية يبنون أبنيتهم على أحدث الأطرزة الغربية التي تلاءم شرائط بلادنا الطبيعية، أو على الطراز العربي - لاسيما الفاطمي ولمملوكي منه - بعدما أدخلوا عليه شيئاً من التعديل الموافق لشرائط الذوق والترتيب العصريين. ناهيك عن اهتمامنا في الوقت الحاضر بالأثاث والتحف والأدوات الشرقية التي كنا نجهل قيمة ودقة صنعها لولا أن مسح عليها هؤلاء الغربيون بآية من شعاع عبقريتهم ودقة التفكير. أخذت أكثر هذه الصناعات الشرقية وأخص منها الشامية تعود إلى الحياة بأشكال مأنوسة ووجوه باسمة يألفها الذوق العربي ويتعشقها الغربي. نافذ الغنام

نظرات في الشعر الرمزي

نظرات في الشعر الرمزي للدكتور منير العجلاني . . في آخر حدود الإنسانية، في وادٍ كثير الأرائك، تحيط به الجبال من كل جانب ولا تنفذ إليه أشعة الشمس إلا من بين أوراق الشجر، كان يعيش الشاعر الأمريكي (أدغاربو) مع بنت عنته أيليونور. ولدا في الوادي وترعرعا فيه، لا يعرفان من البشر غير نفسهما، ولا من الطبيعة غير الوادي، وكان يجد كل واحد منهما في رفيقه سلوى لروحه وأمنا. ولكن أيليونور، التي بدأ أبن عمثها يفهمها ويحبها، أصيبت بمرض شديد لو أصيب به غيرها لتمنى الموت وناداه: ياموت، خذ ماأبقيت الأيام والساعات مني بيني وبينك خطوة إن تخطها فرجت عني! وأما أيليونور، فلم تشأ إن تموت، لا حباً بالحياة الوجيعة، المحمومة، ولكن لأمر لم تبح به لأبن عمتها إلا في اللحظة الأخيرة من العمر، فالفكرة التي كانت تخافها هي أن خالتها الوادي بعد موتها ويعشق فتاة غيرها من السواد! قالت ذلك للشاعر، فركع عند قدميها، ووعدها أن يبقى محباً لها إلى الأبد أميناً على ذكراها حتى النفس الأخير، فالتمعت عينا أيليونور بنشوة الظفر وتنفست الصعداء كأنما أزيح عن صدرها غم جاثم، ورجفت، وذرفت دمعاً لاهباً، ثم أطمأنت في سريرها، وقالت للشاعر وهي تموت: إنها تقديراً لما صنعه في تلطيف مرضها، وتهوين آلام الموت عليها، سنسهر عليه، وهي روح في السماء وتزوره في الليالي، وإذا أبى الله عليها أن تزوره بشخصها، فستمثل له في زهرة يأخذه جمالها وتتنهد قرابه كلما بزغ الفجر وتطيب النسمات التي ينشقها بعطر تستعيره من مباخر الملائكة! فالت هذا وصعدت آخر أنفاسها أما (أدغاربو)، فعاد يتصور إن في الزهرة والنسيم والماء والعشب في كل ذرة من هذه العناصر شيئاً من بنت عمته، وغرامها ولهوها، وبالجملة مظاهر مختلفة لبنت عمته: على هذه الأوهام شيدت مدرسة الشعر الرمزي. فشاعر الرمز يغوص إلى أعماق الأشياء ويتخل لكل جمالشخصيةولكل جمال روح انه لا يشغف بهذه التشابيه - وأكثرها سمج أو مبتذل - التي شغفت بها طائفة كبرى من شعرائنا، فراحت تشبه العيون بالسيوف، والحواجب بريش الغراب، والقامة

بالخيزران، أنه لا يحفل بالتشبيه لأنه مقارنة بين صورتين (خارجيتين) ولكنه يعنى بالروح، يعنى بالرمز، وهو في الفلسفة، صلة بين لحظة من ديمومة الذات ولحظة من ديمومة الأشياء. يقول (البارناسيون) أن وظيفة الشعر هي أن يشبه ويصف. فالشعر عندهم (رسم ناطق)! وأما الرمزيون فيتخذون الشعر وسيلة لنقل القارئ إلى مثل العالم الذي عاشوا فيه لما نظموا قصيدتهم ولذالك يعنون كثيراً بالعنصر الموسيقي، ولكنهم لا يسمون الأشياء بأسمائهاحتى لا يفقد القارئ لذة الحزرولا يحللونها لأن التحليل يهدم الجمال، ولا يصفونها ولكنهم يصفون أثرها في نفوسهم. ومن ها هنا نشأ غموض الشعر الرمزي، لأن شاعر الرمز يخلع روحه على الأشياء، ويجب عليك أنت، لتذوق شعره، إن تتفهمه من خلال روحه، من خلال عبقريته، من خلال شاعريته التي لا تشبه شاعرية الآخرين. يقول (أريسطوفان): إن الرجل والمرأة كانا في بدء الكون مخلوقاً واحداً، ولكن آبولون قسمهما ذات صباح. فالحب هو سعي كل جزء من هذا الجسم إلى الجزء الذي يتممه، فلا يتوهمن أحدهما إن الرجل يبحث عن (الجمال المطلق) ويحبه، كلا، إنه يبحث عن جمال خاص يتمم به جماله، فيا رب امرأة تبدو لك لطيفة ويكرهها غيرك: ذلك لأن الجمال ليس له مقياس مطلق، فأنت تحب جمال امرأة معينة، لأنها تظهر مزاياك وتمم نقائصك وبكلمة أخرى أوجز لأنك تعتقد أن بها يكملنظامك. وهكذا شعر الرمز، يهوى الشاعر جمالاً خاصاً، فلكي يشركك في هواه يملأ قلبك بمثل مشاعره ويهدهدك بمثل الأنغام التي طرب لها، وهو لو وصف لك امرأة مثلاً بأسلوب الطبيعيين، أو وضع تمثالها بين يديك، ربما كنت لا تبالي بها!. الرمز والمدارس القديمة لا تفيد هذه التوطئة إلا إذا ذكر أن مدرسة الرمز مذهب حديث من مذاهب الخيال، فهي إذاً تخالف جميع المدارس التي تقدمها، وأكابر شعراء فرنسا اليوم رمزيون ومن ليس منهم رمزياً فهو متأثر بالرمزية إلى حد بعيد. تخالف مدرسة الرمز 1 - النظمية من السخر أن نسميها مدرسة! - أن النظامين يعرفون الشعر كما عرفه بعض قدماء العرب بأنهكلام مقفى موزونوهذا تعريف أضاع قيمته، فما كل كلام منظوم يسمى

شعراً، ولا كل شعر يجب أن يكون كلاماً مقفى موزوناً. يفخر أبو الهلال العسكري في صناعيته بالشعر العربيلأننا لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقايعها إلا من جملة شعرها، فالشعر عنده كما ترى هي عناصر النثر وهذا خطأ فاحش نبه إليه (أريسطو) في كلامه على (التراجيديا) إذ جعل الشعر يأخذ مادته من الفلسفة، بمعناها الواسع. أما التاريخ والعلوم فيأخذان مادتها من تفاصيل الحياة! لما يدرس نقادنا الشعر تنصرف أذهانهم إلى اكتشاف ما فيه من بلاغة ولكنهم لا يفكون في الصورة الشعرية وقديماً قال (فيرلين): (خذ البلاغة وقط عنقها) فما شيء أقتل للشعر من هذه البلاغة التي يهيمون بها! 2 - ثم هي تخالف المدرسةالبر ناسيةالتي ألممنا بها، لأن هذه المدرسة كادت تحشر الشعر بين فنون النحت والتصوير وتقتصر وظيفته على الوصف، حتى أنك إذا سمعت بعض قصائدها استطعت أن تأخذ ريشة وترمم بأوصافها صورة حقيقية! نعم نحن لا نقول مع مهدمي هذه المدرسة أن أنصارها يشبهون القردة لا عمل لهم إلا التقليد، فهذا إسراف، لأن الفن يزين الصورة الطبيعية وينبهك إلى نواح منها كان يمكن أن تجهلها، حتى أنه يروى عن مادام ده ستال أنها قلت: أحب الرسم ولكن من فم لشعراء. ذلك لأن الشعراء يصفون الأشياء على شكل يثير اللذة لما يذيبون فيها من روحهم شاؤوا أم أبوا. على أن مأخذنا على هذه المدرسة هو ضيق آفاقها ومحاربتها الخيال ثم تقييدها نفسها بقواعد الشعر القديمة، تقييداً شديداً خانقاً. 3 - وهي تخالف المدرسة الإبداعية رومانتيك لأن شعراء هذه المدرسة الذين يقول خصومهم في شيء غير قليل من الحق، أن نصف قصائدهم إشارات تعجب واستفهام ونقط. . يسرفون في استغلال العاطفة، ويكثرون من المبالغات السخيفة، ومن زعماء هذه المدرسة (لامارتين) الذي أضاع كثيراً من سلطانه في وقتنا الحاضر لأن البارنسيين لا يجدنه يعنى بالجمال كما يعنون، ولأن الرمزيين لا يجدون في شعره ما يحبون بل يعتقدون أنه بكاء، مبتذل المعاني. الشعر والرواية والمدرسة وظاهر بعد، أننا إذ نأخذ على المدارس القديمة ضعفها إنما ننظر إليها بأعين المجددين فما زال في أوربا (بشر) كثير لا يفهمون شيئاً عن مدرسة الرمز ويتغنون دائماً بالشعر القديم

الذي أفرغه معلموهم في صدورهم وهم على مقاعد الدرس، ثم عاشوا لا يعرفون شعراً غير هذا الشعر ولا يتذوقون سواه! ومن الصعب جداً إن تغير ذوق المدارس التي تبقى في مؤخرة الحركات الأدبية، لأن المعلمين درسوا القدماء ولا يجدون من الرأي إن يقذفوا بكتبهم القديمة إلى النار ويأخذوا في دراسة الأساليب الحديثة. ولذلك قال (ره مي دوغورمون): إن المدارس مصانع شهرة، تغمر الأسواق ببضائع قديمة دائماً! طوبى إذاً للشاعر الذي دخل أسمه في مناهج المدارس، مهما يكن سخيفاً، لأن ألف ناقد لن يستطيعوا إن يخرجوه منها بعد أن درسه المعلمون وفهموا وألفت فيه الكتب المدرسية! ولكنك قد تقول: إن السر في تقهقر. . وإن تيس من الحكمة في شيء إن يتخالف الشعراء ويتفرقوا شيعاً وأحزاباً. فيدال منهم للناثرين. ما في كلامك هذا شك. بل وأنني أعرف حادثاً نادراً يؤيده: كان (أوغوست دورشان) مؤلففن العروضشاعراً عتيقاً ولكنه قليل الحظ من السهرة وكان يكره الرمزيين والمجددين ويفضل عزيف الجن على سماع قطعة من الشعر الجديد. خرج ذات صباح يهيم على وجهه، في شوارع باريس، ينزه عن نفسه، فمرت به سيارة مستعجلة فخلفته على الأرض صريعاً فاقداً كل حس وتجمع الناس حوله فعرفوه، ثم تبينوا السائق الذي دهسه بسيارته فإذا هو القصصي الفرنسي المشهور (جان تارو)! فما ملك أحد المتجمهرين نفسه عن أن يصبح: حكمة أليمة: القصة قتلت الشعر!. . وفي الواقع، إن المطابع تخرج لنا كل يوم عدداً لا يحصى من الروايات، وكثير من الروايات يعاد طبعها أكثر من خمس مئة مرة في خلال أعوام قلائل. . بيننا كتب الشعر يغلفها الغبار بغلاف يحفظها من لمس الأيدي! ولكن الشعر الذي ضاع هو الشعر المنظوم، وأما الشعر، بالمعنى الواسع، فلم يضع ولكنه ذاب في قالب جديد هو الرواية! على أن هذا التقهقر الذي مني به الشعر لم يكن من شأنه أن يضعف قوة الرمزيين، لأنهم لا يكتبون للشهرة ولكن للذة أنفسهم وللخلود الذي يطمعون به لما يتفهم الناس جمال شعرهم العميق. طائفة من مزايا المدرسة الرمزية ليس أحفل من الرمزيين بالموسيقى، وقيمة الحروف الغنائية، حتى أنّ بعضهم إذا أراد أن يصف وثبة أسد على حيوان وديع ليفترسه، جاء البيت الأول من قصيدته فخماً ضخم

مخارج الألفاظ والبيت الذي يصف به الحيوان الوديع من أرق الشعر، فكأن البيت الأول يفترس الثاني! بل أن من شعراء الرمز من يعتقد أن للحروف ألوانا، فلا يصح أن توصف الألوان إلا بحروفها. وعلماء الرمز يقولون أن القصيدة (قطعة موسيقية)، ويدرسونها كذلك وكل ما يخشونه من المغنى هو أن يكون مبتذلا أو رديئاً بحيث يهدم ما في القطعة مناختلاف منسجم. متى عرفت ذلك هان عليك أن تفهم لماذا لا يلزم الرمزيون أنفسهم بالبحور والقوافي فليس صحيحاً أن بحراً معيناً لا يصلح إلا لأنواع من الشعر معينة، ليس ذلك في فن الموسيقي، وهو ركن الشعر الرمزي. الرمزيون هم الذين بشروا بعد (بالشعر الحر) فخدموا الشعر بذلك كثيراً، ولم يكتفوا بالتمرد على البحر والقافية من حيث اصطناعهما في أغراض مختلفة من الشعر، ولكنهم تمردوا كذلك على التقاطعوالمواقف، حتى إن منهم من يعتقد أن البيت يقف حيث يقف نفس الشاعر! وإن التقاطيع جد خادعة، فقيمة قراط طراق مثلاً تساوي قيمةريمي - لتهما مؤلفان من تقطيعين سيلاب - والفرق بينهما، في الواقع، يلمس باليد! ومن طبيعة هذه المدرسة الغموض، لأن الشاعر لا يعطيك إلا طرفاً من الشيء ويترك لك أن تكتشف بقيته، هذا إلى أنه يبدع عالماً جديداً، فيجب عليك أن تقضي وقتا في تفهمه وربما اكتشفت فيه بعد كل قراءة ناحية خافية فزاد إعجابك بتنوع مناحيه. ويذكر النقاد الأوربيون مستشهدينبسانت بوفإن العبقرية في نظر الرمزيين تشبه الجنون، فكما أن المجنون الذي يقبض في يده على قذى يخيل إليه أنه ممسك بشعاع من نور، كذلك الشاغر الرمزي يستطيع إن يقول مع المجنون: في يدي شعاع من النور. . . مسمياً الشيء لا باسمه، ولكن بالخيال الذي أثاره في نفسه. وهنا يحسن أن تقول أن الرموز غير الكناية، فالكناية نوع من الأعيب الكلام ووصف الشيء ببعض مظاهره وأما الرمز فهم الرمز إلى الشيء بصورة نفسية والشاعر على كل حال لا يستنفذ الرمز بكلمة أو بيت كما يستنفذ الكناية فالرمز لا يتم في الراجح إلا مع القصيدة لأنه وصف عالم كامل مستقل، عاش فيه الشاغر زمناً ما وكذلك يختلف الرمز عن التشبيه، فإنك تستطيع أن تقول مثلاً: هذا الشيخ يشبه القبر. تريد بذلك أنه متهدم الجسم مثل قبر عتيق. فهذا تشبيه صورة خارجية بصورة خارجية ولكنك

إذا سمعت (بودلير) يقول: أنا قبر. . أو (فيرلين) يقول: أنا باخرة إلخ. . عرفت أنهما يشبهان حالة نفسية بصورة خارجية، فبودلير إنما أراد أن يقول أنه لما انحنى على نفسه، كما يقول الغربيون، وطاف في أعماقها، وجد أنه قبر يزخر بالموتى. و (فيرلين) رأى نفسه في لحظة ما باخرة يسيرها الريح على ما يشتهي! هذه أمثلة ما كان يصح لنا أن نسلخها من صورها وننتزعها من (إطاراتها) ولكننا أقدمنا على ذلك لنقرب الرمز من فهم القارئ العربي الذي لم يدرس الحركة الجديدة في أدب الغرب، ولنمهد بهذا لبحوث قابلة ندرس فيها طائفة من القصائد الرمزية ونستعين بها علىتنويرعالم الرمز، هذا العالم الثائر علىالتحليل. . مثل ثورة الفتاة التي يقول فيها (بودلير) يجيب الشيطان الذي سأله عن أحب شيء فيها إلى قلبه: ما دامت كلها كنعنعة الماء فلست أفضل بعضها على بعضإنها تسحر كالفجر وتسلي كالليل. . نفسها يخلق الموسيقى وصوتها يبعث العطروالحق أن سحر الشاعر الرمزي أقرب إلى سحر الموسيقى منه إلى سحر القول، والشاعر يتخذ العالم وسيلة لإنماء أنانيته الطيبة المباركة ودرسها ليس غير، فهو في ذلك يشبه نبع أوسكار وايلد ولكن في غير صلف. . . . أتعرف قصة النبع؟ لما ماتت النرجسة، حزنت عليها أزهار الحقل كثيراً، وراحت إلى النبع تسأله قطرات من الماء تبكيها بها. فقال النبع: لو كانت قطرات مائي كلها دمعاً، لما كفتني وحدي، لأنني كنت أعشقها. فأجابت الأزهار: نفهم يانبع أن تحبها، بل ما كانت لك مندوحة عن حبها لأن النرجسة كانت بارعة الجمال. قال النبع: وهل كانت جميلة حقاً؟ فأجابت الأزهار: ومن يعرف ذلك أكثر منك وأنت الذي كانت تنحني على موجك ويتراءى جمالها كل يوم في مائك الرقراق؟ قال النبع: أنا إذا أحببتها فذلك لأنني كنت أرى في عينيها وهي تنحني علي صورة جمالي! هكذا شاعر الرمز. يرى في الأشياء صورة نفسه وحياة قلبه. . وقيمة الأشياء بما أودع فيها الشاعر من سره وهذا السر هو ما يجب أن نراه!. . . وحده! منير العجلاني

الخطر الأبيض

الخطر الأبيض يقول المؤرخ الألماني الشهيرأوسوالد شبنكلرفي كتابهتدهور الغربالذي أحدث ضجة عظيمة في العالم حين صدورهإن الفضل في توحيد حضارة الشرق يرجع إلى انتصار الإسلام الذي خضع له المسيحيون واليهود والعجم دون اختيارهم فتطوعوا في خدمتهوبتأثير الإسلام تطورت الحضارة العربية التي عندما كانت في أوج كمالها الفكري كان برابرة الغرب مدة فترة قصيرة يشنون الغارات وينهالون في قطعان لا تحصى على القدس فكيف كان العرب ينظرون إلى هذه الغارات الهمجية؟ لا شك في أن رجال السياسة العربية لم يكونوا يبحثون في أحوال بلاد الفرنج إلا بكل ازدراء واحتقار. وظل الأمر كذلك في القرن السابع عشر. فإنه في أيام حرب الثلاثين سنة التي كانت من وجهة نظر الشرق محتدمة في مجاهلالغرب البعيدعندما حاول السفير الإنكليزي في استانبول تحريض المسلمين العثمانيين على آل هابسبورغ لاشك في أن جميع العالم الإسلامي كان يعتقد أن الخلافات بين هذه الدول الهمجية الصغيرة التي يغزو بعضها بعضاً دون انقطاع في أقاصي حدود المملكة الإسلامية لا تستحق شيئاً من الاهتمام في سياسة الإسلام من مراكش إلى الهند. بل من المحقق أن الكثيرين كانوا لا يزالون بعيدين عن التنبؤ بالمستقبل القريب حتى بعد قدوم نابليون إلى مصر. . . حقاً لم يكن من السهل قبل عصر واحد فقط معرفة مدى التطور الصناعي الذي ساعد الأوروبيين في القرن التاسع عشر على اجتياح كل العالم والاستيلاء على معظم البلاد الإفريقية والآسيوية. ولايمكن المؤرخ المدقق أن يشبه هذه الغارة السريعة الواسعة إلا بفتوحات المغول والتتر في القرنين الثالث عشر والرابع عشر إنما تتضارب الآراء في تقدير نتائج هاتين الغارتين هل تكون الثانية كالأولى أي مقتصرة على زمن محدود يتغير بعده مجرى التطور التاريخي أم أن هناك فروقاً في تأثير كل واحدة منهما في حضارة البشر المستقبلة. فإن الأوروبيون ما برحوا يحاولون تصوير الوضع التاريخي الحاضر كأنه النظام الأبدي للكرة الأرضية ويكاد جميع الناس يعتقدون بأن الغربيين هم الذين وقع عليهم الاصطفاء ليسودوا العالم إلى الأبد دون منازع وهذا ما دفع إليه البشرية وإنه لا حياة لهم إلا بالاندماج في هذه الحضارة والخضوع لنواميسها. ولكن في الشرق اليوم حركة جديدة أخذت تشعر بما يهدد كيان الحضارات الشرقية من

أخطار إذا هي تجردت عن مقوماتها واندحرت أمام هجمات الدول الغربية ويرى رجال هذه الحركة أن سيادة الغرب الحاضرة وسيطرته على جميع العالم في العصور المتأخرة لا ينبغي أن تكون أكثر من فترة تاريخية تنقضي بعد أجل محدود ربما كان ليس بعيداً. ولا يستبعد هؤلاء انتقال القيادة في خدمة الحضارة البشرية إلى الشرقيين من جديد كما كانت لهم قبلاً مدة عصور طويلة، ثم هنالك كثير من الغربيين والشرقيين يقولون متفقين، أنه ليس في خير البشرية أن تزول الحضارات المختلفة وتقوم مكانها حضارة واحدة وعلى الأخص حضارة مثل الحضارة الغربية التي تتسكع في طريق الرأسمالية القذرة وتتخبط في ظلمات المادية الدنسة والتي لا ينكر حتى أشد أنصارها تعصباً أنه يشوبها كثير من النقائص وأنها تلازمها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية منذ ولادتها إلى يومنا هذا الذي انتشرت فيه الفوضى وساد الاضطراب وعم البؤس بسبب فساد هذه الحضارة. وأخيراً فإن التطور التاريخي منذ أول القرن التاسع عشر قد زاد في شقة الخلاف بين الشرق والغرب ويمكن أن ندعي أن الأوروبيين هم الذين اختلقوا هذه الفروق بينهم وبين الأمم الأخرى في آسيا وأفريقيا بعد أن عمدوا إلى جميع الوسائل للقضاء على كيان هذه الأمم ومحو آثار حضارتها القديمة فكان من الطبيعي أن يظن بهم الشرقيون أسوأ الظنون ويروا سيطرة الغرب مداهماً يهدد الشرق. . . . لنستعرض قليلاً أقوال بعض الرجال البارزين في أوروبا عن علاقة الشرق بالغرب. فهذا الشاعر الانكليزي الشهير (رديارد كيبلنغ) يقول في أبيات مشهورة إن الشرق والغرب عالمان متباينان لا يمكن أن يلتقيان. وهذا اللورد (كرومر) ثم حاول إثبات الاختلاف بين الشرق والغرب بذكر بضع نكات وفكاهات تافهة. فأدعى مثلاً الشرطة الهندية، إذا رأى في الطريق قطعة من الورق ربما يلتقطها ولكن بأصابع رجليه بينما زميله الإنكليزي يقبض عليها بيده وإن الشرقيين يسترون آذانهم قبل كل شيء إذا أشتد البرد بينما يسعى الأوربيون لإخفاء أنوفهم الحمراء. ربما كان في هذين المثالين شيء من الفكاهة تختلف الأذواق في تقديره ولكن الذي يصعب على أكثر العقول معرفة هو كيف يمكن الاستبدال من هذين المثالين وما شابههما على تباين الشرق والغرب في الحضارة. وهناك كاتب آخر يستشهد به اللورد (كرومر) وهو

السير (قورنوال لويس) فقد جمع قائمة من السخافات يعتقد أنها لإثبات وجود هوة سحيقة يستحيل اجتيازها إلى أبد الآبدين بين الغرب المتمدن الكامل والشرق المتوحش المتأخر. إن الإنسان يكاد لا يصدق صدور مثل هذه الأقوال السمجة عن رجال معروفين في الحياة الأوربية العامة فإن (لويس) يدعي أن الشرق يختص بالحكم الاستبدادي المطلق وتعدد الزوجات والرقيق والعقوبات القاسية والثياب الفضفاضة والشعر والتصوف وأما الغرب فيمتاز بالحكومة الحرة والزوجية الواحدة والحرية والفردية والعقوبات الخفيفة والثياب المنطبقة على الجسم وكتابة النثر التوصيفي إن مثل هذا الخليط من السخافات لا يمكن البحث فيه بحثاً جدياً ولا بد أن يتساءل المرء عند قراءة مثل هذه الأفكار الأوربية أليس أقرب إلى الحكمة منها تلك الكلمة الصينية المأثورة التي تقول أن دين البشر واحد في كل محل وإنما شكل العبادة الظاهري يتبدل حسب الظروف والأمكنة. إن الإنسان في حقيقته واحد دائماً وليس من تباين بين أعمق الأفكار والآمال والأماني البشرية سواء في الشرق أو الغرب أما مظاهر الحياة فإنها يجب أن تتبدل حسب تأثير الشروط الخارجية ولكن رغم تبدلها لا يصعب أن نتبين من ورائها عمل الإنسان الذي يبقى دوماً هو نفسه. كثيراً ما نعثر لدى بعض الكتاب على كلمةروح الشرقدون أن نعرف ماذا يقصد منها تماماً فكأنه في استطاعتنا أن نقسم الشعوب إلى طائفتين مختلفتين وأن نميز الشرق عن الغرب في حين أن الخلاف بين الياباني والهندي مثلاً أعظم بكثير منه بين الياباني والفرنسي. وهذا اللورد كرزم الذي عاش مدة طويلة في الشرق يقول أن الاختلاف بين الشعوب الآسيوية نفسها ابلغ منه في أية قارة أخرى فأن التركي مثلاً يختلف عن الألماني والياباني عن الفارسي أكثر من اختلاف البروسي عن الأسباني والهولندي عن اليوناني ونقدر أن ندعي أن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تصطبغ بلون القارات بل إن تنوع مظاهرها تابع لظروف كثيرة في كل قارة. ويمكن أن تتفق الشروط والظروف في بقعتين من قارتين مختلفتين فتتشابه الأحوال البشرية فيهما ولذلك لا يجوز أن نستعمل جزافاً اصطلاحات مثل روح الشرق أو الفكرة الآسيوية لأن في ذلك من التعميم والإطلاق السريع ما لا يتفق مع الواقع. ولكن يظهر أن بعض الكتاب السياسيين يروق لهم لغايات معروفة زيادة شقة الخلاف بين الشرق والغرب ولهذا تراهم لا ينفكون يتكلمون عن تباين الأقوام. ماذا يريد هؤلاء الكتاب

من تأكيد الاختلاف بين ما يسمونهروح الغربوروح الشرق؟ ولماذا لا يلتفون إلى مثل ما كتبه طالب صيني في أحدى المجلات الإنكليزية إذ قال، مخاطباً الغربيين: تذكروا إننا نحن الشرقيين أيضا بشر وإن الفرق بين الشرق والغرب إنما هو فرق في درجة التطور لا في أصل الطبيعة أو الخليقة. ونحن من أهل الشرق لا نفهم لماذا يستحيل علينا أن نقوم بالأعمال التي يقوم بها الأوربيونويكفي أن نذكر اليابان لنتيقن من صدق هذا القول. فإن هذه الأمة الشرقية قد أصبحت في برهة قصيرة جداً في عداد العالم العظمى تزاحم الغربيين ليس في ساحات الحرب والسياسة فقط بل في ميادين الاقتصاد والعلم والفن أيضاً. على أنه مما يدعو إلى التأمل أن يقوم بعض رجال السياسة الغربيون، على أثر انتصار اليابان على الروس وطرد الصينيين لبعض الفضوليين من جماعة المبشرين فيخترعون كلمةالخطر الأصفرلأجل التهويل وتحريض الجماهير. لقد خاف هؤلاء الساسة من بزوغ نهضة شرقية تقضي على مطامعهم في السيطرة على العالم وإخضاع جميع الأمم لسيادتهم فأخذوا يدعون أن توحيد صفوف الدول الغربية للقضاء على آثار الحياة والنشاط التي بدأت تظهر في مختلف أنحاء الشرق وردد كثير من الكتاب كلمةالخطر الأصفر وكان إمبراطور ألمانيا ويلهلم الثاني لا يترك فرصة دون أن يذكر الأوربيين بهذا الخطر العظيم الذي يهدد العالم وهو لا يقصد من وراء ذلك إلا نيل مساعدة الدول في إبقاء (كياتشاو) لألمانيا. حينئذ تنبه الشرقيون، على اختلاف بلادهم، إلى مقاصد الساسة الغربيين الحقيقية وعرفوا أن هذا اللغط المستمر بذكر التباين بين الشرق والغرب لا يقصد منه سوى إثبات فضل الأمم الغربية على غيرها وتفوق حضارتها كما أيقنوا أن ترديد كلمة الخطر الصفرإنما يراد منه تحذير الدول الغربية من نهضة الشعوب الشرقية وتشكيل جبهة واحدة لمناوئة هذه النهضة. لم يكنالخطر الأصفرفي الحقيقة إلا وهماً وهما اختلقته رجال السياسة. ولكن التمسك به هو الذي دعا بعض المفكرين في الشق إلى المقابلة بالمثل فقاموا يذكرون الجماهير بالأخطار التي تهدد حضارات الشرق من سيطرة الغربيين. ولما أخذ الشرقيون يبحثون في المسألة من وجهة نظرهم ظهر لهم أنهم ما زالوا منذ منتصف القرن التاسع تجاه خطر عظيم يهدد كيان حضاراتهم ويكاد اليوم يقضي عليها وهذا الخطر هو ما يمكن أن نسميهبالخطر الأبيضجرياً على اصطلاح الغربيين أنفسهم الذين يحشرون الأمم الأخرى جميعاً تحت

اسمالأقوام الملونة. وهذا الخطر حقيقي لم تنتبه إليه الأمم الشرقية في حينه ولم تقم بالوسائل اللازمة لاتقاء شره قبل أن يستفحل أمره فوقعت الآن بين براثينه وأصبحت مهددة بالموت والاضمحلال. إن هذا الخطر مما يقلق راحة جميع الآسيويين إليه كغول مرعب يهدد الشعوب الشرقية في أعز الأشياء لديها: في استقلال بلاد أجدادها وفي عاداتها الموروثة وفي عقائدها وتقاليدها وفي آدابها وفنونها وجميع مظاهر حضاراتها الخاصة. ولاتقاء هذا الخطر قامت حركة الجامعة الآسيوية الجديدة التي يقول عنها الكاتب اليابانيأوتوسوكه وأكاميا) أنها ترمي إلى الوقوف في وجه النفوذ الأمريكي والأوروبي وجعل آسيا للأسيويين فإن الأسيويين يطالبون باستقلال الحضارات الأسيوية وتنميتها لتستطيع الانتصار على الحضارة الغربية التي جميع الظواهر على إفلاسها وتدهورها. وفي برنامج جمعية آسيا جاءت هذه الكلمات: أن آسيا تفوق جميع القارات الأخرى في اتساع مساحتها وكثرة عدد سكانها وغزارة منابع الثروة الطبيعية فيها. ولذلك فإن جميع الحضارات الراقية قد نشأت في آسيا كما أن جميع الحكماء العظام قد ولودوا في هذا القسم من الكرة الأرضية. ويمتاز الآسيويون بالعادات النبيلة والتقاليد الشريفة وسمو العقيدة، إنه في خير البشرية وحضارة العالم أن ينهض الآسيويون ويعلموا يداً واحدة لهذه الغاية. . .

منتخبات

منتخبات من مفكرة المرحوم أحمد شاكر الكرمي في سنة 1925 طبقات كتابنا ينقسم كتابنا اليوم إلى ثلاث طبقات قدماء ومجددون وسوقيون. فالقدماء هم الذين درسوا الأدب القديم واقتصروا عليه والمجددون هم الذين درسوا مع الأدب القديم أدب لغة من اللغات الحية. أما السوقيون فهم الذين لم يدرسوا فنون الأدب العربي درساً قانونياً بل اقتبسوا من مطالعة الصحف والمجلات مادة ضعيفة نزرة هي كل رأس ما لهم الأدبي. ويمتاز رجال الطبقة الأولى بألفاظهم المنتقاة ومعانيهم الضئيلة. ويمتاز رجال الطبقة الثانية بمعانيهم الرفيعة وأساليبهم الرائعة. أما رجال الطبقة الثالثة فيمتازون بكل شيء سخيف. الدعوة إلى القديم في المدينة اليوم دعوة ترمي إلى الرجوع للقديم ونبذ كل البدع العصرية في المأكل والملبس وفي التعليم والسلوك. يقول أهل هذه الدعوة للناس: صلوا صلواتكم الخمس جماعة. وارجعوا إلى السنة في ملبسكم وافعلوا الخير واتركوا الشر ثم أهملوا كل ماعدا ذلك. وهذه الأمور سهلة يستطيع كل إنسان أن يقوم بها. ولكن هل تكفي هذه الأمور في عصر كعصرنا وفي أحوال كأحوالنا المعروفة؟ إن الانصراف الأمة إلى العبادة وحدها في مثل هذه الأيام أمر لا يقبله ولا يرضى به مخلص فإذا كان رجال تلك الدعوة مخلصين حقاً فإنهم ولا شك بسطاء يريدون إن يقودوا الأمة إلى الموت من حيث لا يشعرون، وكثيراً ما كان الإخلاص وحده جالباً لأكثر الأخطار وأعظم الشرور. اللهم نجنا من شر كل إخلاص لا يصاحبه علم وخبرة ومعرفة بتصاريف الدهر وأحوال الحياة. ببركة غلاظتهم كانت العامة - ولا تزال - تعتقد أن الصراع ينشأ من فعل الجن والشياطين ويقولون عمن يصابون به قدركبه الشيطانوقد اتفق أن رجلاً أصيب بذلك الداء ففزع أهله إلى شيخ من الشيوخ وطلبوا منه أن يداوي ابنهم بعزائمه وتعاويذه فجاء سيدنا الشيخ، وجلس فوق رأس الصريع وأخذ يتلو عزيمة استهلها بكلمةياومط هذه الكلمة مطاً استغرق نهاراً كاملاً، فلما

انتهى النهار ولم تنته كلمة الشيخ تحرك الشيطان وقال يخاطب الشيخ: أنا ذاهب ياسيدنا، ولكن ببركة غلاظتك لا بفضل قداستك! ونحن نخشى إذا استمر الحشو يون في دمشق على إصدار منشوراتهم السخيفة، وتصويرهم الدين فيها على غير حقيقته أن يخرج الناس من دينهم، وأن يقولوا لساداتنا المحترمين ما قاله ذلك الشيطان لزميلهم ببركة غلاظتكم. . . العبقرية كان كارلايل الكاتب الانكليزي الحكيم يقول: إن العبقرية هي استعداد غير محدود لاحتمال الآلام. ولا يريد بهذا أن ذلك الاستعداد هو كل مايلزم للعبقري فلو كان الأمر كذلك لكانت كل حيوانات البر والبحر وخصوصاً الحمير المشهورة بالصبر من طبقة ساداتنا العبقريين ولكنه يريد أن يقول أن الاستعداد لاحتمال الآلام والاتصاف بالصبر العظيم هو أهم ركن من أركان العبقرية فليس في الدنيا عمل لا يستطيع صاحب الصبر إنجازه - كما يقول رابلي - فالصبر أساس كل علم، ومحال أن يكون الإنسان عالماً عظيماً أو فلكياً شهيراً أو كاتباً مبدعاً أو شاعراً نابغة أو سياسياً محتكاً إلا إذا كان له استعدا غير محدود لاحتمال آلام الدرس. الكاتب والجمهور يكتب الكاتب لنفسه أو لصديق من أصفيائه فلا يبالي بتطرفه في الرأيأو خروجه على عقيدة موروثة أو مجاوزة من الحدود التي فرض المجتمع على الناس الوقوف عندها ولكنه لا يستطيع أن يسلك هذا السبيل فيما يكتبه للجمهور. إن الجمهور عدو في ثياب صديق، فهو يطرب لما يكتبه الكاتب، ويظهر له الحب والإعجاب وقد يتولع به وبعبده أيضاً ولكنه لا يتسامح معه البتة بل تراه على استعداد دائم للانقلاب عليه وإسقاطه عندما يشتم منه رائحة الخروج على عقائده أو عاداته فهو يحاسبه على أتفه الأمور ويحكم عليه أحكاماً قاسية لا تقل الهفوات، والأنكى من هذا أنه لا يقبل في أحكامه استئنافاً ولا تمييزاً. إن أغبى الكتاب وأشدهم عمى وحماقة، هو الذي يخدعه رضى ذلك المولى الأحمق الذي يسمونه (الجمهور)

الفلاح وحبات القمح

الفلاح وحبات القمح هل نظرت على الفلاح، عند غروب الشمس، كيف يرفع يده إلى السماء وهو يبذر حبات القمح؟ إن يده لترسل إلى الأفق الأعلى ظلال الأمل، وتطبع على هام الأفلاك صورة العمل. أنظر إليه أنه يطأ بقدميه تراب الأرض، ويغير بأحلامه مجرى الأرض، ويغير بأحلامه مجرى النجوم. لم يدفن حبات القمح في بطن الأرض إلا ليحييها. فكأن الأرض قبر تنبعث منه الحياة وكأن الفلاح حاكم تخضع العناصر لأمره. أنظر إلى الشمس كيف هبطت إلى الأفق. إنها تكاد تغيب من وراء الجبال. ها إن ظل الفلاح صار عظيماً. أنه أعظم من الأرض، لأنه قد ستر السماء. كلما قربت الشمس من الجبل عظمت ظلال الأشياء، وتغيرت ألوانها، وتقرب الناس من نهاية العمل. لقد غمرت الشمس سطح الأرض بموج من الذهب فأصبح الفلاح غنياً، لأن معوله وآلته وكيسه وثيابه قد انقلبت إلى إبريز خالص. ألم تر كيف رفع رأسه وشمخ بأنفه ونظر بعينيه المطمئنتين إلى الأفق؟ أنه شاعر بقيمة العمل الذي أنجزه. إنه عالم أن حياة الملايين من الناس متوقفة على نتيجة جهوده ونجاح أعماله. لم أجد في صورة المساء أجمل من الفلاح، لأنه أجمل من الشمس، أجمل من سنابل الذهب، لا بل أجمل من السماء المظلة والأرض الساكنة ليس الفلاح ابن الطبيعة، بل الطبيعة بنت الفلاح، لأنه قد قلب الأرض، وغير صورة الأشياء. نعم إن الإنسان لم يبدع العناصر ولم يرتب الإكوان ولكنه أثر في تركيبها وتبديها ونقلها من طور إلى آخر حتى كاد كل ما في الطبيعة يحمل أثراً من عمله واختراعه. فكم أرض فقراء قلبها إلى جنة غناء، وكم رابية حولها إلى سهل فحفر فيها الأنفاق والترع، ثم غرس فيها الأشجار فأتت كلها ولم يحفل بالراسيات من الجبل، بل تسنم الأطواد والأعلام وجعلها سهلة المرتقى، فأنشأ فيها المسالك والمجاري وبنى الحصون والمعاقل ثم سخر اليم كما سخر الأرض والجو وتغلب على الطبيعة. وهذه الأكوام الذهبية من القمح، إلا تدل على قوة الإنسان وسلطانه، ألا تدل على الجهود التي بذلها الفلاح في تسخير الطبيعة؟ تقول الأساطير أن الناس تعلموا زراعة القمح من (أوزير يس) إله المصريين ومن (سيرس) ابنة زحل، لأن هذه الآلهة الشقراء تسهر على حصاد القمح كل أيام السنة. ولو بحثت عن تاريخ القمح لما تبينت له في ظلمات الزمان ابتداءً. فهل زرعته (سيرس) في حقول (الأنا) في سيسيليا، أم هل أنبته (أوزير يس) على

ضفاف النيل لأول مرة. لم ينبت القمح بقوة أوزير يس ولا بعناية سيريس بل نبت بقوة الفلاح. ولست تجد على وجه الأرض قمحاً ينبت بنفسه على الحالة الطبيعية، بل كل حقل من حقول القمح يحتاج إلى جهد إنساني عظيم. ولا تتحسن زراعته إلا إذا كان العمل دائماً. ولعله أحسن النباتات دليلاً على ضرورة استمرار الجهود وسرعة الإنتاج. فمن فلاحة الأرض إلى بذر القمح إلى حصاده ودرسه كل ذلك يقتضي عملاً سريعاً دائماً. ثم إن الفلاح يرسل القمح على أجنحة البخار السريعة، إلى أقصى مناطق الأرض. فيملا به المخازن والمعامل. إن اختلاف الأقاليم، وتنوع صناعات البشر وحاجة بعض البلدان إلى القمح قربت المناطق بعضها من بعض فتولد من ذلك كله تجارة دولية ومصالح مشتركة عديدة. وربما كانت هذه المصالح أساس السلام العالمي لأنها وحدت عواطف الأمم. إلا أن القواد لا يزالون يتطاحنون في سبيل الأسواق التجارية ويحولون أكوام الذهب إلى رماد، والفلاح غير عالم بمصير القمح الذهبي الذي باعه لعملائه. ولو بعث اليوم أهل العصر الزراعي لتحيروا مما وصل إليه الفلاح في عصر الصناعة الكبرى من الرفاه والراحة. لماذا هجر الفلاح حقله واستبدل به المعمل؟ لم يأت إلى المدينة باحثاً عن مصير حبات القمح، بل جاء يطلب الرفاه هارباً من الجوع والفقر والألم. ولو وجد الرفاه في القرية بالقرب من أكوام الذهب لما ترك الحقل. فإذا أردت أن يبقى الفلاح في حقله فاقلب قريته إلى مدينة، وابنِ في حقله معملاً وجهزه بكل وسائل الرفاه، واستبدل جمال الطبيعة الساذج بجمال الفن الساحر. إن الفلاح الذي يسير الآلة أعظم من الفلاح الذي يبذر القمح بيده. والقمح في المعمل لا يقل جمالاَ عنه في الحقل لأن الجمال الحقيقي هو جمال الإنسان لا جمال الطبيعة. أن الجنة لا تدخل بطن الأرض ألا بقوة الإنسان وإيمانه. ولم تكس أكوام القمح بهذا اللون الذهبي إلا لانتقال آثار الحضارة من جيل إلى جيل. كل حبة من حبات القمح تدل على عمل الإنسان وجهوده وإيمانه بالحياة والقوة والتقدم. فهو يثق بصناعته ويؤمن بنفسه وبالمستقبل ويعتقد أن الأرض التي قلب ترابها ستخضع للقيود التي قيدها بها. فالقمح لا ينبت بقوة الطبيعة، بل ينبت بقوة الفلاح. والفلاح لا يستفيد من قوة الأرض، بل من قوة الصناعة الإنسانية التي خبأتها الأجيال في التراب فكأن المخترع الذي أخترع المحراث لات يزال اليوم إلى جانب الفلاح يحرث الأرض معه. وكأن المدينة كلها موجودة

في كل حبة من حبات القمح. جميل صليبا

مديح القمح

مديح القمح نموذج من الأدب التركي. ترجم لنا الأستاذ نافذ الغنام هذا المقال بعد أن كتبنا المقال السابق فأحبنا أن نثبته إلى جانبه في أواخر القرن التاسع عشر بدأت نهضة حديثة في آداب اللغة التركية أدت إلى نشوب حرب جديلة بين هواة الأدب القديم واتباع الأدب الحديث. انتهت هذه المعركة بفوز المجددين على المحافظين، وأخذت الآداب التركية، من ثم، تتقدم بخطى سريعة نحو الكمال العصري، تجاري آداب الأمم الغربية في كل مضمار. ظهر من هذه الفئة المجددة كتاب أداء وشعراء نابغوا الذكر كعبد الحق حامد، وتوفيق فكرت، وجناب شهاب الدين، وسليمان نظيف، وأحمد جودت، وعاكف، وأحمد هاشم، ورجائي أكرم، وعلي أكرم، وحسين جاهد، ورفيق خالد، وجلال نوري، وخالدة أديب وكثير غيرهم من فطاحل الأدب التركي. وألفوا في الرواية والقصة والتمثيل والوصف والبحث والنقد، ونقلت بعض آثارهم إلى اللغات الأجنبية ولكن لم تلبث أن بارت بضاعة أدبهم، على رونقها، بعد الحرب العامة نظراً لتغير شرائط الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في تركيا. كان أدب هؤلاء الأفاضل غذاءً كافياً لروح العالم التركي في عهد السلطنة العثمانية ولكن لم يعد في الظروف الحاضرة يفي بأغراض الجمعية التركية الحديثة. فظهر في هذه الأيام أدباء حديثون مثل فالح رفقي، وفاروق نافذ، وناظم حكمت، وأور خان سيفي، وعمر سيف الدين، وصدي أدهم، وياشار نابي، ووالا نور الدين، وصلاح الدين أنيس، وسلامي عزت، ونجيب فاضل وكثير غيرهم من الأفذاذ الذين يحاولون أن ينفخوا في صدر العالم التركي روحاً جديداً، ويرشدوا النشء الحديث إلى أهداف الأمة السامية، ويجرؤون على اقتحام ساح الجد والجدال. غير أن قسماً من أدباء الدور العثماني لا يزالون يتمتعون بالشهرة التي يستحقونها ولا تزال تجد آثارهم عيوناً محملقة لمطالعتها وقلوباً واعية لجمالها. أذكر منهم جلال نوري بك، وحسين جاهد بك، وخالدة أديب خانم، ولاسيما رفيق خالد بك نزيل سورية منذ بضع سنوات واحد محرري جريدة (وحدت) التي تصدر باللغة التركية في حلب، وصاحب المقال المنشور أدناه.

ورفيق خالد بك هو من مشاهير الأدباء الرمزيين له كثير من المؤلفات التي تعد من أمهات الآثار الأدبية مثل (كيربينك ديدكلرى) أي ما قالته القنفذ، و (صاقين آلدانما أينانما قانما) أي إياك أن تنخدع أو تصدق أو تنع، و (برآووج صاجمة) أي قبضة خردق، و (برايجيم صو) أي شربة ماء وكثير غيرها. ترجمت مقالته الآتية (مديح القمح) إلى اللغة العربي، حين ظهورها، في جريدة (وحدت) منذ شهرين على التقريب لما فيها من الحقائق العلمية التي أحصاها لنا الأديب وقرب بين مختلف صورها البهية وألوانها الزاهية بحذاقة ورشاقة نادرتين. نافذ الغنام مديح القمح يسترعي الآن نظري حقل القمح الوسيع متوقداً تحت أشعة الظهر توقد الكؤول الذي لا يظهر لهيبه في واضحة النهار. يدأب ههنا الحاصدون مجدين في بحر من النور والنيران كأنهم حشرات حقيرة سقطت في مياه غالية، تضطرب فيها وتختبط دون أن تستطيع منها خلاصاً. إن ناراً باطنية يذهب دخانها إلى جوف الأرض، لا إلى عنان السماء، صقلت الزرع صقلاً جميلاً بعد ما أذوته وحمسته، وقد كان أمس غضاً طرياً. تؤذي العين بين آونة وأخرى، إيذاء الأميال الحامية، لمعات من المناجل تلعب بالزرع وتميله أكداساً على الأرض. أنظر إلى هذه البوارق الخلابة تشع في حقول القمح الصفراء وأنا أفكر: منذ أحقاب بعيدة لم يضبطها التاريخ عاش الناس خدماً وعبيداً من أجل القمح لا أذكر مادة كالقمح تثير بقلتها أو بكثرتها الثورات. القمح هو ثالث حاجات البشر بعد الماء والهواء. القمح هو الأقنوم الثالث الذي لا تتم بدونه معرفة الحياة. إن للقمح أثراً في أسباب الحرب والصلح والفتن والمعاهدات. القمح في حياة الدول كأصابع النساء، تبدو من تحت جميع المسائل والمشاكل، أعتقد أننا لا نعير البحار والموانئ والمخارج والموارد أهمية إلا من أجل القمح. تختبئ حبة القمح تحت أغلفة أكثر الأمور. بحبات القمح تكتب تواريخ الأمم. لا يوجد بين رجال الدولة من يضاهي القمح بأهميته. لو كان في خزائنه قمح لنجا لويس السادس عشر بنفسه وأنقذ عرشه بدون ريب. إن لانبار القمح من ألأهمية ما للثكنات. إن الزروع تحمي الخيام كما تحميها الجيوش. تحتاج الجيوش إلى أكياس القمح قدر

احتياجها إلى الجند. خلاصة القول: الحرب تعنى القمح كما تعنى البارود. وأزيد على ذلك بأن القمح يعني الثبات والتقهقر والغلبة أو الانكسار. بنظرة واحدة إلى مختلف الطرق المتبعة في زراعة القمح وحصده وطحنه وخبزه نستطيع أن نحكم بإصابة على استعداد أي أمة وعلى درجة تقدمها في الصناعة والحضارة. ليست الثياب وحدها هي التي تفرق بين القروي والمدني ولكن رغيفه وكيفية قضمه الرغيف أيضاً. إن أول آلة ننشؤها في القرية هي الرحى، وأول معمل نبنيه في المدينة هو الطاحون. إن البلدة تفكر بقمحها قبل كل شيء. تطلب كسرة الخبز قبل الطعام. نعود أولادنا على احترام الخبز. ونصيحتنا إلى شبابنا هي أكسب خبزك. الخبز والقمح مختلطان بكل دين ولهما محل في كل عقيدة وإيمان. فهما أعظم قضية وأهم مسألة اجتماعية تقلب الدنيا رأساً على عقب. يسعى العالم بأسره وراء الحنطة والخبز. فكأن البواخر التي تمخر عباب الماء وتلاطم الأمواج، وكأن القطارات التي تخرق الجبال وتقفز من فوق الهاويات كلها وسائط مسخرة لنقل الحبوب. وكأن الأسلاك والسكك والمراكب التي تربط أطراف القارات ببعضها أنشئت من أجل أسواق القمح وتجارته. أظن أن عدد الناس الذين تشغلهم في الأرض زراعة القمح وحصاده وخبيزه يكادان يساوي عدد سكان الأرض جمعاء. لا يوجد في الأرض عمل أو صناعة تبدل في سبيلها هذه الهمة ويمارسها هذا العدد من الناس. لا يوجد عامل أو زارع أو صانع يحترم قدر الفلاح. حتى زوج الفدان الذي يجر المحراث محترم في نظرنا أكثر من سائر الحيوانات. القمح يعز الأرض التي يبذر فيها، ويدر البركة على اليد التي تلامسه ويبهج التراب الذي ينبت فيه، ويجعل لعام إقباله شأناً وصيتاً. قد تنتظم الدنيا بدون ذهب ولا فحم ولا كتاب ولكن لا دنيا بدون قمح. إن في امتداد السهول الخضراء التي تصافح زروعها الآفاق معنى من معاني السلام وإن السنبلة المحمرة الملأى زينة وزخرف وأثر على جانب من الدقة والظرف. وهي كما تدل على البحبوحة والبركة لتدل أيضاً على الثروة والقوة والأمن. يستطيع الناظر إلى السنبلة أن يتخيل عالماً وسيعاً. إذا تأملنا حياة القمحة انجلت أمام أعيننا صور حقيقية شتى نألفها في هذه الحياة: في أواخر أيام الخريف الصاحية، بعد هطول

الأمطار المدرارة، فلاحة الأرض بين صياح ونداء. تنقل الغربان شتاءً في حقول القمح المغطاة بالثلوج. وأخيراً خضرة الزروع تتموج برياها في الربيع. ثم نضوج الزرع واصفراره تحت أشعة الشمس المحرقة، فالبيادر فالدراس، كل هذه المناظر تعيش في مخيلتنا الواحدة تلو الأخرى. الأفران التي يلعب لهيبها الأحمر في بقعة هادئة. الخبازون بسوقهم وسواعدهم العارية. الأرغفة المصفوفة سخنة طرية إلى الفروش. أما أشد ارتباط هذه الصور بحياة الإنسان وما أكثر تكررها على ناظريه في كل يوم إن طواحين المياه لكثيرة الضوضاء وهي ظليلة وطيئة. وطواحين الهواء لكثيرة الصرير مستنيرة عالية. وإما الطواحين البخارية فكأنها قلوب الأرض التي هاج بها هائج، تحقق في صميمها وهي تدور مولولة صارخة. إن الناس يتأملون المناظر التي لها مساس بالقمح تأملا لا يفوقه تأمل. وتراهم يشغلون ويلهجون بأدوار حياة القمحة في كل عام. حتى الصعلوك الذي لا يملك زراع أرض أو صاع قمح يسألك باهتمام، كيف الزرع؟ فالقمح هو قريبنا جميعاً، وقريب كل مقطوع، ومشغلة تشغل حتى أغبى الأغبياء. خلاصة القول: لا يجود في الأرض مسألة كمسألة القمح نشبت بشغاف القلوب وكما أن أصل الحضارة في حقل القمح فإن مخلب الحرب الدامية في مخزن القمح. الذين يتخيلون الأرض فوق قرن الثور مصيبون على شرط أن يكون ذلك زوج فدان. رفيق خالد

رباعيات جديدة

رباعيات جديدة للشاعر الفيلسوف الزهاوي الله للعصفور الله للعصفور من=بلواه ليس له مفر في الجو صقر ذو أطا=فير وفوق الأرض هر المكان والزمان بين القديمين في عن ... صر الوجود قران فللمكان زمان ... وللزمان مكان قلت للشاعر قلت للشاعر والشا ... عر ذو سهم بطيش أنت أن عشت تمت جو ... عاً وإن مت تعيش أنا وهي قد تغنينا بالشجي من الش ... عر وأجهشنا بعد ذاك التغني أنا أبكي وأمسح العين منها ... وهي تبكي وتمسح العين مني

مونتاين والهنود الثلاثة

مونتاين والهنود الثلاثة بمناسبة مرور (400) عام على ولادة الكاتب الفرنسي ميشيل دومونتاين (1533 - 1592). كان عام1562مفعماً بالزوابع قد استولى فيه القلق على النفوس وأخذ الإفلاس يهدد كل الحكومات الأوروبية التي كانت الجيوش المأجورة تجتاحها ويؤلف فيها الفلاحون، وقد احترقت مزارعهم ومساكنهم، عصابات همها النهب والسلب وأصبح قتل الملوك مذهباً شائعاً وتقتيل الرعية عادةً مألوفةً. وفيما وراء البحر الإطلانتيكي كان المستعمرون، الذين لا يعرف جشعهم حداً يتسابقون في سفك الدماء لإبادة سكان أمريكا الأصليين. فلم تنقض مدة قصيرة حتى أخذت قبائل الهنود الأمريكية في الاضمحلال وقلت الأيدي العاملة منهم لخدمة المستعمرين. حينئذ وجهت الحكومات الاستعمارية أنظارها إلى إفريقيا وبدأت تجارة الرقيق الأسود في أشنع صورها، ويمكن أن نعتبر سنة 1562تاريخاً لافتتاح تجارة الرقيق من قبل الإنكليز تحت قيادة (جون هركنس). وفي هذا الوقت كانت الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت محتدمة في فرنسا حيث كان الملك شارل التاسع، وهو صبي في الثانية عشرة من عمره، تحت وصاية والدته كاترينا دي مديتشي المشهورة بالمكائد والدسائس. وكانت هذه إذ ذاك تدبر الأسباب لمذبحة (سن بارتيملي) التي تعد من أفظع حوادث التاريخ وأشنع مثال للتعصب الديني. وقد كان جنود الملك يحاصرون البروتستانتيين في مدينة (روئن) التي استولوا عليها في26تشرين الأول 1562وكان الملك الصبي حاضراً مع الجيش وفي حاشيته كثير من الإشراف بينهم (ميشيل دو مونتاين) عضو البرلمان في (بوردو) الذي كان في التاسعة والعشرين من العمر. وبعد مدة طويلة، لما انزوى مونتاين، الشيخ الشاعر في قصره وأخذ يكتب مذكراته لم يجد في حوادث الاستيلاء على (روئن) ما يستحق التدوين سوى ملاقاته مع ثلاثة من ضيوف المدينة الغرباء. فقد صدف أن كان هناك ثلاثة من الهنود الأميركيين، الذين يقول عنهم (مونتاين) أنهمأناس شرفاء انقادوا، يا للأسف، إلى دافع حب الاطلاع فتركوا الفقر في بلادهم ليشاهدوا آثار رقي مملكتنا في يوم من الأيام بحرمان ما كانوا يتمتعون به من هدوء وسعادة. وكان الملك الصبي قد سمع عن الهنود الثلاثة فطلب إحضارهم إلى مجلسه وتحدث إليهم عن أمور تافهة أجابه عليها أكبرهم سناً بكلمات بسيطة صريحة. وقد اهتم

(مونتاين) الذي كان حاضراً في المجلس، بهؤلاء الهنود كثيراً ورغب إلى ضابط شاب من مواطنيه أن يرافقه إلى مقابلتهم في منزلتهم البسيط. وقد خاطبهم (مونتاين) قائلاً: - يا أصدقائي الأعزاء، إنكم قد شاهدتم بلادنا وعرفتم بعض عاداتنا وأنظمتنا التي تختلف بلا شك عن عاداتكم وأنظمتكم. فما هو أغرب ما رأيتموه لدينا؟ ظل الهنود الثلاثة صامتين برهة يفكرون ثم رمى أكبرهم سناً نظرة فاحصة إلى رفيقيه كأنه يريدان أن يتأكد من اتفاقهما معه في الرأي ثم قال: - مما استرعى شديد تعجبنا قبل كل شيء أن رأينا حول الملك عدداً كبيراً من الرجال الأقوياء الأشداء وكلهم قد استدل الشعر على ذقنه واستصحب معه أكثر ما يمكن من الأسلحة. يرضون بالخضوع والانقياد إلى صغير يطيعون أوامره بذل. فلماذا لا يتفق هؤلاء على انتخاب أحدهم رئيساً يعهدون إليه بالقيادة؟ كان الضابط الشاب عند سماع هذا الجواب، قد استولت عليه الحيرة، لا يعرف هل ينبغي عليه أن يسترسل في الضحك أم أن يشير إلى هذا الرجل الغريب الناشئ في حضن الطبيعة بالاحتراز من ارتكاب مثل هذه المعاصي الكبيرة. على أن (مونتاين) الذي كان يحمل معه في الحرب أيضاً، كتاب (بلوتارك) والذي كان معجباً بكتاب الجمهوريات القديمة شجع الهنود في الدوام على الحديث فقال أكبرهم سناً: -. . . ثم قد لا حظنا أن عندكم بعض أشخاص يملكون كل وسائل الراحة والرفاه بكثرة ويتمتعون بجميع الخيرات والملذات دون حساب بينما معظم الناس الآخرين يعيشون في منتهى الفاقة ويتضورون من الجوع ويستولون أمام بيوت الأغنياء فإننا لا نستطيع أن نفهم كيف يرضى مثل هؤلاء المعدمين المساكين بهذا الظلم ولا يهجمون على الأغنياء المترفين ويمسكون بحلاقيمهم ويحرقون قصورهم. . . لم يكد الضابط الشاب يسمع هذه الكلمات حتى قام مذعوراً من مكانه وقال لنذهب فليس لدينا متسع من الوقت. إنه كان لا يريد كان سافر إلى العالم الجديد وتعلم لغات عدة قبائل هناك وكان الآن مستخدماً في بلدية (روئن). وقد لاحظ (مونتاين) ذلك أيضاً ورأى من الأدب أن لا يكثر الأسئلة على الضيوف الغرباء فقام وشكرهم على أجوبتهم ثم انصرف مع الضابط وسارا في الطريق صامتين كل واحد منها غارق في أفكاره. . . وقبل الوصول إلى المسكن انطلق لسان (مونتاين) بالكلام فقال

يخاطب الضابط الشاب: - إن هؤلاء الهنود الأميركيين، ياصديقي العزيز، بعيدون عن الحضارة. بل لا شك في أنهم متوحشون ولكن بالمعنى الذي نستطيع أن نسمي به ما تنتجه الطبيعة نفسها من ثمار وحشياً. إنما أليس الأولى أن تتصف بالوحشية الفواكه التي نستحصلها نحن البشر بالطرق الصناعية ونبدل طبيعتها الأصلية. ومن المؤسف أن أفلاطون لم يكن يعرف شيئاً عن هؤلاء الهنود. فأنه لو وصله خبرهم لعلم إذن أنهم أمة لا أمل للحصول على مكاسب التجارية فيها ولا محل فيها الألقاب والغنى والفقر ولا لزوم للمعاهدات والحقوق الوراثية وأنظمة ولاية العهد أنها أمة لا تعرف إلا السعادة في الحياة الطلقة. . . هنا تحركت في الضابط الشاب النعرة العسكرية - المسيحية فاعترض على مونتاين قائلاً: - ماذا أفادت كل الفضائل هؤلاء الناس الذين تطنبون في مدحهم والذين تريدون البحث عنهم مع السيد أفلاطون الذي ذكرتموه والذي لم أتعرف إليه، بل ماذا أغنت عنهم جميع المزايا إزاء هجمات الأبطال الأوروبيين؟ ألم تستطع فئة صغيرة من جنود المسيحية الشجعان إخضاع تلك البلاد الشاسعة لحكمنا؟ نعم ياصديقي العزيز. إننا بفضل قوتنا وشدة سطوتنا قد تغلبنا على هؤلاء القوم ولكننا لم نستطع استمالتهم إلينا بالعدل. إننا بتجردنا عن الحلم والكرم والوفاء والصراحة قد أخضعنا سكان (المكسيك) و (بيرو) الذين تتمثل فيهم هذه الصفات في أجلى مظاهرها. ولا شك في أن هذه الصفات هي التي كانت السبب في هلاكهم! هناك رجل في أسبانيا يقارب عمره التسعين اسمه (لاس قازاس) كنت أود لو تستطيعون الاجتماع به فتسألونه عن الوسائل التي استخدمها الأوروبيون لإخضاع أبناء الطبيعة في أمريكا، أن ما تسمعونه من هذا الشيخ الجليل الذي شهد الحروب هناك لا يدعو إلى الفخر. إنكم جنود اليوم لا تعرفون إلا الفتح والاستيلاء. ولكن ما هي الوسائل وما هي الغاية؟ فإنه ليس كل من قدرت له الغلبة يستحق لقب الفاتح المنتصر. إن الأعمال التي تظهر بعد الاستياء هي المقياس والأساس. وليس ما تسمونه اليوم سلماً سوى صفحة أخرى للحرب ولكن بأسلحة غير أسلحة القتال في الميدان. كم كان العالم يتقدم نحو الإصلاح لو كانت أعمالنا تستحق أن تصبح قدوة ومثالاً في الفضيلة لتلك الأقوام! إن الواقع على عكس ذلك. فإننا قد استثمرنا عدم معرفة هؤلاء الناس واستفدنا من قلة تجاربهم فسهل علينا دفعهم إلى

الخيانة والتهتك والطمع والخساسة والنذالة والظلم والقسوة والنفاق على مثالنا نحن أنفسنا. . . فهل تعادل الفوائد التجارية التي يمكن أن نجنيها من العالم الجديد هذا الثمن؟. كان الفارسان قد وصلا غايتهما. فافترق الضابط الشاب عن (مونتاين) الذي لازم غرفته يتصفح في كتاب (بلوتارك). وفي تلك الليلة التي تهاجمت فيها الأفكار على (مونتاين) قرر أن يصبح كاتباً ليقول إلى الناس ما يجول بفكره ويشرح لهم تجاريبه وما يعتقد صحته وفائدته من الآراء ويصور لهم العالم كما يراه ويتخيله. وكان (مونتاين) يعرف الصعوبات التي سوف تعترض طريقه في كشف الحقيقة والتبشير بها ولكنه قال في نفسه: يكفي أن أكون مخلصاً وصريحاً للقيام بالواجب ولم ينته من تأليف كتابه التجاريب ونشره إلا بعد انقضاه ثمانية عشرة عاماً من تلك الليلة. . . كامل عياد

حديث باطني

حديث باطني من يومية رجل يقيم على حدود العقل . . . كنت ابن خمسة عشر إذ ذاك، وكنت مغرماً بفتاة أخذتها وحدها من بين جميع بنات الحي مأخذ ملاك طاهر لأنها كانت ذات شعر كأمواج النور وعينين كسماء أيار. لكن اللعوبة لم تبال بحبي إذ كنت بحترياً دميماً، أميل إلى الإنفراد وأقطع الساعات حالماً. ولعله كان يحق لها أن تحب فؤاداً وتعرض عني. فقد كان هذا الشاب، ممشوق القامة، بهي الطلعة، ضحوك السن، طريف الحديث. ثم إن أباه كان، يملك بضعة آلاف عثمانية، مما جعل المستقبل، الذي يكشر لي مدبراً، يبسم لفؤاد ويضحك مقبلاً. إن قلت عبدته لم أكذب. ومن أحق بعبادة فتاة طموح تزين لها المخيلة أن الحياة حفلة راقصة وألعاب؟ لكن موقفها آلمني؟ فكنت أحس برجلها الصغيرة مدسوسة في قلبي. وما لبثت الأحلام العسلية إن انقلبت ذات مرارة وبشاعة فتاكتين. منذ ذلك الوقت، يوم خسرت الشيء الوحيد الذي كنت أملكه وهو حبي، أصابني داء يسميه الناس بداء الأرق. أصبحت ليلي جحيماً. وغدوت في أيامي أشعر برأسي دوَّراراً كدوار الأبله. كم كنت أود في ذلك الحين أن يعطيني الخالق أذناً كي أهمس بها ناصحاً بأن يجعل عذابه أرقاً لا ناراً. وكنت، إذا خطر لشيطان دائي أن يحل عني ساعة، ادخل في غفوة مضطربة تشبه شريطاً سينمياً لا يزال يعرض علي الحلم المزعج يليه الحلم المزعج حتى ينتهي الأمر إلى كابوس غليظ مرت سنوات وداء الأرق هذا على حاله مني. لكنني لم ألبث بعد مدة أن ألفته كما تألف الدنيا النوم. بل أصبحت وأنا في يقظتي المستمرة أحكي الغارق في سبات عميق لذلك خف علي هم دائي وبت أحاول أن أجعل لي فيه مسلياً متبعاً بأمانة المثل الحكيم: إذا لم يكن ما تريد فأرد مايكون. وفعلاً أصبحت أجد شيئاً من اللذة في أرقي. فقد أكسبني هذا الداء عادة لا بأس بها، ذلك أنه تملكني غرام التفكير. كنت أفكر مستمراً، فغدوت لا أراني إلا والخاطرة في رأسي تدفع الخاطرة، ولآراء والأفكار والملاحظات تجول داخل جمجمتي ومن حولها كما تجول قبائل النحل حول جرارها وإن لذة الفكر - وكل من ذاق هذه الفاكهة يعلم ذلك - لمتعة لا تعدلها متعة أخرى. هي لذة الفكر التي وهبت سقراط صبراً على اكسانتيب ودارون روحاً طويلاً على مرضه. وهي نفسها التي حببت إلى إديسن العمل في مختبره ليلة زفافه، ساهياً عن

عرسه وما تحوي برادها من سعادة. ثم إن هذه الليالي الساهرة أكسبتني توسعاً في أفق خيالي، فأصبح في مقدور هذا الخيال أن يصفر الكبير ويكبر الصغير. أن يخلق لنفسه عالماً يستقل به، فيتربع على عرش رفيع، في حاشية من العرائس وغرائب المخلوقات. وهي عوالم لم يحلم يمثلها شاعر أو نبي. وحدث في إحدى هذه الليالي إن فكري وقف عند المعضلة الإنسانية الكبرى. لم تعجبني القضية في بادئ الأمر لأني كنت أتخوف من المسائل الكبيرة موقناً بأنها ثقيلة على طاقتي. لكن فكري الخبيث لم يكن ليتزحزح عن تلك المعضلة بل تشبث بمكانه فلا السوط كان يردعه ولا التمليق يسكته. لقد حرن كالحمار ومتى حرن الفكر قل: أعوذ بالله! فلما يئست أطعته، وأركبته رأسي، وأطلقت له الزمام كي يعمل في حل المعضلة الإنسانية على حسب هواه. وقد كنت أعتقد أن هذه السياسة أفضل ما يصح معه، لأنه فوق العنيد إذا عوند، وإذا ترك لنفسه قتله تذبذبه، بيد أنه في هذه المرة خالف القاعدة وبقي مكانه مأخوذاً بهم واحد: هو المعضلة التي أمامه. فكان تارة يداعبها، وتارة يرفسها ويلطمها، كالهرة إذا وضعت بين يديها كبب الخيوط. دام الأمر كذلك حتى انفرجت أمام الفكر كوة في جدار المعضلة فوثب وراح يركض في الحقول. فكان من نتائج هذه الواثبة إن خطرت لي نظرة فريدة في تلك المعضلة نفسها فخرجت من سريري على الفور صائحا: وجدتها! وجدتها! كما فعل الشيخ أرخميدس. وإذا كان هذا الشيخ قد أكتشفالثقل النوعيفي الحمام فأنا قد وصلت إلى أغرب وأروع ما يتصوره إنسان في الفراش. رحت أدون الإلهام الذي جاءَني به فكري تلك الليلة في الحال، خوفاً من أن يشرق الصباح فيكون ما اكتشفته قد طار مع أبخرة الليل. وعند الفجر جعلت من مدوناتي مقالة أرسلتها إلى مجلة معروفة. لكن يظهر أن تلك الصحيفة البلهاء لم تفهم سر اكتشافي. فطرحته في وعاء من قصب يسمونه سله المهملات إذ أن الأيام لحقت بعضها بعضاً دون أن يظهر له أثر أو خبر في تلك المجلة الرقيعة. لم يثبط هذا الحادث من عزيمتي، بل كان له في نفسي رد فعل غريب. لقد تدفقت علي فعالية هائلة. كنت لا أنام في الأربع والعشرين ساعة أكثر من ساعتين. غصت في الورق إلى أذني. رحت أكتب وأكتب حتى بريت قلمي. وأصبحت أصابعي سوداء. أرسلت إلى

الجرائد والمجلات بعجائب خاطراتي. ثم أخذت في تأليف الكتب حتى غدوت في النهاية أديباً ومفكراً كبيراً تستبق الصحف ودور النشر إلى شراء مقالاتي وتآليفي بالأثمان الباهظة التي ما كنت أحلم في ليالي قلقي بعجيبة تشبهها بل أن الفراديس التي كنت أرفع معالمها في طبقات الهواء ماحوت عجيبة أبعد عن التصديق من هذه الحقيقة الجميلة. على أن من يتمعن فلسفة الحياة في ترتيبها الحاضر يجد أن هذا أمر جد طبيعي، إذ ما من تقدم إلا ويخرج عن تأخر، وما من زيادة إلا وتصدر عن نقص، وما من عظمة إلا وتسبقها حطة. ولقد ادعى بعضهم أن النبي قد قال: كل ذي عاهة جبار. حتى الجبروت تنفرج عنه العاهة، فهذا عندك الإلهأو دينأو لم يكن أعور؟ وهذا نبوليون ألم يك قزماً مجنوناً؟ إما أنا فقد كنت أنطوي على مجموعة من العاهات. فغدا من الطبيعي إذن أن أصبح معادلا لمجموعة من الجبابرة: كل جبار بعاهة! بيد أن الغنى الذي أصابني من مؤلفاتي قد أخذ مني جل عاهاتي، وبالتالي قد كاد يجعلني مسخاً. كنت دميماً فأصبحت مقبولاً تمدحني الحسان. كنت تاعساً فغدوت سعيداً. كنت جائعاً (وأظن سبب دائي القديم كان لتقاعس بطني من قلة المؤونة) والآن أجدبي تخمة دائمة. على إني لا أبالي إن كنت فقدت عاهاتي وتضاءل جبروتي لأني الآن أعيش. ألم أكن وحيداً عازباً ليس في العالم قلب يحنو على قلبي؟ ثم لا أجدني اليوم متزوجاً بفتاة حسناء غرها في الأول مالي ومكانتي حتى مرًّ وقت فما لبثت أن فهمتني وأحبتني؟ أليس عندي بيت مريح آري إليه فترن في أذني سأسأة ملاكين صغيرين ينثران في رحاب روحي الفارغة بهجة وحلاوة؟ على إن الإنسان لا يقبض في جهة حتى يدفع في جهة. أجل لقد خلصت من داء الأرق بعد أن امتلأ بطني، لكنني ابتليت بداء آخر هو النوم. النوم والكسل يحرقاننى في هذا الوقت. وكثيراً ما تعاودني ذكرى سبابي فأتمنى لو ترجع بي السنون القهقرى فأقطع مرحلتي الصغيرة من الوجود في قلق من الحلم والفكر بدل أن أموت ثلثي عمري راقداً. أتمنى هذا - لكن بشرط. والشرط هو أن لا تعمر وجودي خيالات تلك الشيطانة التي كادت تقتلي إذا أورثتني كآبة الخيبة ويأسها زمناً طويلاً - إلى أن خلصني الفكر والجوع. هذا وبخصوص اكتشافي الذي تكلمت عنه، فهو أعظم وأجدى منحجر الفلاسفةأوأكسير الحياةولو صحت أوهامها. وما يفيد حجرهم؟ هل ينبع عنه الذهب؟ إن هذا الإله الصفراوي لينحط حتى

يداني التراب فيما لو تحققت تلك الفكرة السخيفة. ثم أين هي قيمة هذا المعدن؟ أيؤكل؟ أيلبس أو يفترش؟ أم إن رباً شريراً أوجده ليحمس البشر في تمثيل مهازلهم؟ أليس من الجنون الكامل أن يأكل الإنسان الإنسان عبر ستين قرناً من أجل الغبار؟ وهل تجد البشر يبحثون كل تاريخه القاتم إلا أبلغ في الجنون به من كل وقت قبل: فلا يزال الناس يبحثون عن الحجر المفقود، لا يزال وسواسهم يصور لهم اللمعة كأنوار الفراديس، فيواروا في اللحد وظمأهم إلى سمهم أقتل لهم مما كان. ثم ما اكسير الحياة؟ ولم يطلبون هذا الأكسير بينما هم يعشقون الموت ويحكمونه في رقاب أنفسهم ورقاب أبنائهم؟ أما اكتشافي فلا شبه بينه وبين هذهالخنفشاريات. ليس له نظير. على أني قد عولت على أن لا أنشره بين الناس، لأنه إذ رفضوا النظر فيه لما قدمته لهم عفواً وغيرة، أصبح الأمر يتعلق بكرامتي، فمن أحسن إلى آخر ورفس إحسانه حق له أن يغضب، وحق له أن يمتنع عن بذل نعمته إذا طلبت فيما بعد. لكنني إذا مارأيت العالم سيبقى ممعناً في طيشه، وإذا كان الناس سيظلون يبسمون لبلهاء الساسة، يمدحون أصحاب المال، يصفقون ويقهقهون كالسعادين كلما سمعوا رعود المدفع وطقطقةالرشاش، وإذا كانت الأرض ستبقى حاملة مشعوذين يلبسون السواد والمزركش ويحتكرون التوسط بين الناس والأصنام - بالمختصر المفيد إذا ظل قول شكسبيرأي حمقاء هؤلاء الناس يكونونهو الحقيقة الباقية التي تهددني وبيتي بالدمار، أطفالي بالموت الأحمر وصوابي بالذهاب - إذا دام الحال على المنوال أن يسعني السكوت أكثر مما سكت، بل إنني أبادر إلى نشر اكتشافي لحل المعضلة الإنسانية الملعونة. أما الآن فأكثر ما أصرح بشأنه أنه سهل التطبيق جداً، وقد اقتبسه من أستاذي الكبير الدكتورأومنوبيلولعلك تجهل هذا الدكتور على شهرته في بعض الأوساط المختصة، كبلاط ذلك الأثيني العبقري المعروف بالأميرتيمون. لو راجعت التاريخ الكبير الذي ألفه أحد شذاذ الإفرنج وجمع فيه أخبار جزيرة يقطنها أناس من الطيور البحرية لوجدت أن الدكتور أو رومنوبيل رجل قبع في غرفته ستين عاماً يدرس الكتب. وبعد ذلك نظر إلى حاله فرأى أنه لم يزل ركيك العلم. فقرر، لإصلاح هذا النقص، أن يقوم بجولة يجوب بها نواحي الكرة الأرضية. ولما قضى في ذلك عشرين عاماً أخرى ارتد إلى صومعته ليقطف ثمرة علمه. جلس إلى منضدته وأمامه الكتب والدفاتر،

بعضها مقنطر فوق بعض، مستعمرات للغبار والفراشات الصفراء التي كانت تحوم حول رأسه والقنديل في ليالي الدراسة. وضع رأسه في يديه وراح يفكر. كان يفكر. كان بحزن. جمع علمه واستخلص حاصله، فوجده هكذا: أن دام الحال على هذا المنوال فليس من مخرج للبقية الباقية من العقلاء سوى أن يلموا كل ماتصل إليه أيديهم من اختراع صديق السلامنوبلذلك الاختراع المشهور بالديناميت، ثم أن يشقوا في الأرض حفيراً عميقاً كبيراً يحشونه بتلك المادة السلمية. ومن بعد - فلتقطر الأرض في طبقات الفضاء ذرات منسية، وليسترح ضمير الكون من حشرة اسمها الإنسان! لاشك في أنك تلحظ خللاً في فكرة الدكتور. فهيعمليةليست بعملية: تصح أن تكون حلماً يراد منه الخير ولكن لا يأتي عنه، كالرؤى التي يستعرضها بعض العلماء والشبان عندنا، وهم أناس لا يعرفون من الخير سوى النية. لكن اكتشافي أمر ميسور. هو حل فذ لا أشبهه، بغير طريقة الفتى المقدوني المجنون في فك العقدة التي كبل بها الملك جورديوس نير العجلة، بعد أن قدم ثيرانه ذبيحة للآلهة. سليم و. خياطه

الكتب والصحف

الكتب والصحف رحلة إلى بلاد المجد المفقود بقلم وريشة فروخ ومصدر بمقدمة للأستاذ عمر فاخوري وهو وصف للرحلة التي قام بها الأستاذ الفنان فروخ من باريز إلى طليطلة وقرطبة واشبيلية وغرناطة، بلاد المجد المفقود. وقف المؤلف بإطلال الأندلس يبكي مجد العرب المفقود فأوحت إليه تلك المشاهد الساحرة بعقد من الأفكار والعواطف التي تحول الأشياء المحسوسة إلى أحلام لذيذة. فيخيل إليك وأنت تطالعه أنك في اشبيلية مدينة الطرب أو في قرطبة دار العلم، ثم ينتقل بك الخيال إلى غرناطة كعبة الفن العربي ويطوف بك، في الحمراء، من ساحة الأسود إلى غرفة العدل ومن دار الريحان إلى غرفة السفراء. فتشر في هذا الجو بمأساة التاريخ وتود لو أتاح لك الزمان زيارة تلك الآثار الخالدة لتلمس بيديك أعمدة المرمر وتسكن ما احتدم في قلبك من الحنين إلى الماضي. ولا غرو فالأستاذ فروخ نابغة من نوابغ المصورين في القطر الشامي جمع إلى سحر التصوير الفني قوة الوصف الأدبي فجاءت رحلته هذه مثالاً لوحدة الأدب والتصوير ومزج العاطفة بالإحساس لأنه مايصف لك ما يشعر به في نفسه فينسيك المشاهد الحسية ويمزج لك عواطفه وأحلامه بالأشياء التي يراها فتشعر أنك في جو من العاطفة لا في حقيقة محسوسة من الحفر والرسم والنقش والترصيع. من ذلك قوله في وصف جامع قرطبة. ص - 73هناك في بعض زواياه الحالكة بدت بعض شموع شاحبة كنفس أمضها الداء فهي في حشرجة الموت، هي كنزاع الفن الجميل البائس في قلب هذا المكان، وقد سالت من تلك الشموع بعض فضلات هي أشبه بعبرات الثكلى وانتشر دخان امتزج مع زفرات الشموع وبدت هناك بعض أشباح قاتمة، فتكون من ذلك منظر مرعب كله حزن وكآبة قتل كل ما كان فيه من ألوان وأنوار وجمال وقوله في وصف ساحة الأسود: ماذا شعرت في تلك البرهة؟ لا أدري إنما جل ماكان دمعة حارة جادت بها عيني على ضريح الفن والجمال ساعة لا ولن أنساها ما حييت، هي كل الحياة، في تلك الدقيقة فهمت الحياة ونعمت بالجمال وحظيت بالفن السامي وشمعت من طي جدران هذا المكان وزواياه شذا الحب والعز والترف والعظمة البالغة. . . . وقوله في

وصف ساحة الأسود أيضاً: وكيف ماالتفت المرء لا يسمع سوى خرير مياه انسابت بين أعمدة رخامية تشبه بكثرتها ووعها غابة من النخيل، فكنت هناك أشعر كأنني أسير في وسط غابة طبيعية بين صوت مياه ومنظر أشجار ورائحة أزهار وترديد طير وفاكهة متدلية وعبير وزهر وظل ظليل. إنما هذه غابة من المرمر هذبها الفن فردها جنة غناء تذهل العقول. على أن المؤلف لم ينفرد وحده بهذه العاطفة التي ولده سحر الحمراء في نفسه لأن كل الذين زاروا قصور غرناطة تحيروا في وصف آثارها العجيبة. ولعل دراسة آثارها بصورة علمية دقيقة يحتاج إلى الإقامة فيها وقاتاً طويلاً كما فعل الفنان (رينول) وهذا ليس بوسع كل زائر. فرحلة الأستاذ فروخ إلى بلاد المجد المفقود ليست رحلة عالم بل هي حلة فنان أو هي رحلة عاطفة من العواطف النبيلة ازدانت من الوصف والنقش والوشم وتضمنت شيئاً من الالتفات إلى الماضي. ونعتقد أن هذه النظرات التاريخية التي ضمه إلى وصفه الفني وعاطفته الإبداعية شوهت جمال الفن الذي جاء في الكتاب كما شوهت بعض آثار شار لكن جمال الفن الأندلسي. وحبذا لو اقتصر الأستاذ فروخ على هذا الوصف الفني الذي امتاز به وأعرض عن ذكر ما لا يهم القارىء من سياحته كسفر القطار من باريز ووصوله ودخوله المطعم وحديثه مع صاحبة الفندق وغير ذلك مما لا حاجة لنا به. زكنا نود أيضاً لو دقق الأستاذ في لغة الكتاب قبل طبعه لأن هناك هفوات لا تخفى على القارىء. ج. ص الشيعة تأليف السيد محمد صادق الصدر يقول أحد المستشرقين أن الشرقيين بعيدون جداً عن كل فكرة تاريخية. والمقصود من الفكر التاريخي أن نسعى لفهم الوقائع الماضية من روح العصر الذي حدثت فيه وأن نتجرد عن جميع الصلات التي ربما كانت لا تزال تربطنا بتلك الوقائع الغابرة. ويضرب هذا المستشرق مثلاً بين السنة والشيعة فيقول أن الناس في الشرق لا يستطيعون حتى يومنا هذا البحث في خلافة علي بن أبي طالب وفي النزاع بينه وبين معاوية بن أبي سفيان ثم في مقتل الحسين بن علي دون تصعب وانحياز إلى أحد الطرفين. وحقاً إنه لمن الغريب

في هذا العصر أن يحتدم الجدال وتثور العواطف وتضطرب الأفكار بسبب أمور انقضى عليها أكثر من ثلاثة عشر قرناً. لا شك في أننا نحتاج إلى فهم تاريخنا والاستفادة من تجارب أجدادنا - ولكن ليس معنى ذلك أن نتسابق إلى حفر الأجداث بقصد إثارة الفتن وإيغار الصدور. ونحن، مهما أردنا التزام الحياد فأننا لا نقدر أن نعتبر كتاب الشيعة الذي أصدره مؤخراً السيد محمد الصدر والذي احدث ضجة عظيمة، أنموذجاً للبحث التاريخي المجرد عن المقاصد المذهبية. ليست الغاية من هذا الكتاب شرح مذهب الشيعة وتوضيح تعاليمه لخدمة أهل المذهب أو لتنوي العلماء الباحثين في التاريخ بل أن المؤلف قد غضب على الأستاذ أحمد أمين لبعض ماجاء في كتابهفجر الإسلاممن أوصاف الشيعة فهب المؤلف، مع الأسف، عند حد المدافعة، كما يدعي في مقدمته ولا نظن أن اتهامه أهل السنة بالتجسيم والجبر وبنسبة النقائض إلى الأنبياء مما يقصد من المدافعة فقط. وكذلك نعته أبا هريرة وعبد الله بن عمر بالكذب ووضع الأحاديث ثم تهجمه الشديد على عائشة بنت أبي بكر ليس من شأنه تقريب الشقة بين السنة والشيعة. ومن السهل أن ينسب أهل السنة مثل هذه التهم وأكثر منها إلى الشيعة - وقد حدث كثيراً - إنما لا يملك المخلصون أنفسهم من التساؤل: ماهي الفائدة من مثل هذه الكتب؟ ك. ع الطرائف سلسة دروس في أئمة الأدب تبحث الحلقة الأولى منها عن بشار بن برد وهي بقلم الفاضل حنا نمر أستاذ الآداب العربية في كلية حمص الأرثوذكسية. وقد تصفحناها تبحث عن حياة بشار ومحيطه وأثره في نفسه وأخلاقه ومعيشته ودينه، وعن هجائه. ورثائه وغزله ومدحه وفخره إلى غيرها من الأبحاث المفيدة لولا هفوات طبع تكاد لا تخلو صحيفة منها نذكر على سبيل المثال في: صفحة6 سطر3 (ثم رمي به في البطيخة) والصواب البطيحة كما في الأغاني وغيره وقوله: أنا من خراسان وبيتي في الذرى ... ولدى المسعاة فرعى قد سحق

والبيت مكسور يصح وزنه بحذف أنا من أوله لذي كان يقرع به المسامع وبسحر بيان كان يأخذ بمجامع القلوب: ختم الحب لك في ومقام الحسن البصري من الفرق الدينية معروف والحسن لم رئيس فرقة ولا صاحب مقالة دينية، بل كان من أعاظم التابعين في العلم والدين، وقد امتاز على أقرانه ببلاغة وعظه عنقي=موضع الخاتم من أهل الذمم وصواب البيت لها لا لك ولا شك في جودة هذا البيت وتحلقه في سماء البلاغة ولعل الصواب وتحليقه، لأن التحلق تفعل من الحلقة يقال: تحلق القوم كما في اللسان جلسوا حلقة، وتحلق القمر صار حوله دارة كما يقال حل الطائر تحليقاً إذا ارتفع في الهواء واستدار ومن ذلك قول النابغة: إذا ما التقى الجمعان حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب ويوم كتنور الإماء سجونه ... وأوقدن فيه الجزل حتى تضرما والصواب سجرانه من سجر التنور إذا وقد فيه الحطب، وبعد هذا البيت: رميت بنفسي في أجيج سمومه ... وبالعيش حتى بض منخرها دماً والصحيح وبالعيس أي الإبل وهي التي تبض مناخرها وما في أجيج السموم ولا معنى للعيش هنا. هذا بعض ما عثرنا عليه، وعسى أن ينظر المؤلف إلى طرائفه بعين عنايته فتخلو منها هفوات الطبع ولاسيما أنها مما يستعين به الطالب على فهم الأدب ودرس لغة العرب. التنوجي

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب ترجمة دائرة المعارف الإسلامية ورد إلى بعض العلماء والأدباء والمفكرين في دمشق كتاب من الأستاذ الفاضل أحمد أفندي الشنتناوي سكرتير لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية في مصر هذه نسخة: بعد الاحترام - تعلمون أن هيئة من كبار المستشرقين تقوم منذ ربع قرن بتأليف دائرة معارف أسلامية كبرى تجمع خلاصة أبحاثهم في مختلف الشؤون الإسلامية من تاريخ وأدب وفلسفة وتشريع ودين. . . الخ. وكتبت هذه الدائرة بأمهات اللغات الأوربية (الانجليزية والفرنسية والألمانية) ولقد تكونت أخيراً لجنة من خريجي الجامعة المصرية لترجمة هذه الدائرة الكبرى وإخراجها في أجزاء دورية وبدأت هذه اللجنة عملها منذ شهر يناير عام1933 وسيظهر العدد الأول في شهر أكتوبر القادم. لذلك يسر اللجنة كثيراً إن تعلم رأيكم في أهمية نقل هذه الدائرة إلى اللغة العربية. فنرجو أن تتكرموا بموافاتنا كتابياً برأيكم السيد في هذا الموضوع. إن تقل هذه الدائرة إلى اللغة العربية عمل إن لم يكن أجل ماستقوم به مصر من الأعمال العلمية فهو بلا ريب من أجلها فنرجو للجنة الفاضلة أطراد العمل الموفق. لماذا ليس لفرنسا رجل مثل شكسبير يتساءل الكاتب الأفرنسي المعروف (ادمون جالو) في أحد مباحثه الأخيرة عن السبب في عدم وجود عبقري أفرنسي عظيم يمثل الروح الانكليزية ويعترف له الجميع بهذه المكانة السامية يقول (جالو) أنه مما يدعو إلى العجب أن تستطيع فرنسا قبل غيرها ومنذ زمن طويل تحقيق وحدتها السياسية والإدارية والتاريخية بينما هي لا تزال حتى اليوم بعيدة عن الوحدة الفكرية. فأن هناك روحين في فرنسا يتنازعان منذ القدم: روح (مونتين) من جهة وروح (باسكال) من جهة أخرى، ثم راسين يختلف عن فولتير، وكذلك (رابليه) بعيد جداً عن (لامارتين). هذا الاختلاف والتضاد كان السبب في فقدان عبقري واحد يعترف له الجميع بالإمارة في عالم الفكر. وقد حاول البعض أن يرشح (مولير) لهذا المقام ولكن هناك كثيراً من خصائص الروح الأفرنسية لا أثر منها عند (مولير). أما (فيكتور هوغو) فإله في صميمه أبعد الناس عن

تمثيل الروح الأفرنسية ولو أعتنى (بالزاك) بجمال الأسلوب وحسن التعبير لكان من المحتمل ترشيحه ليكون ذلك الرجل لأنه يجمع في نفسه شيئاً كثيراً من الخصائص والقوى الأفرنسية المختلفة. ولكنه مع الأسف رغم قدرته الزائدة قد أنقاد إلى أغلاط أهل عصره ولم يسلم من نقائص أسلوبهم المتعددة. وأخيراً ربما كان (مونتين) أقرب رجل إلى نيل المقام الأول بين كتاب فرنسا لولا فقدان كل شعور ديني لديه وهذا ما يمنعنا من اعتباره ممثلا لروح أمة اشتهرت بعنعناتها الدينية. معرض ميشيل دومونتين افتتحت مدينة (بوردو) معرضاً خاصاً بالكاتب الفرنسي ميشيل دومونتين بمناسبة مرور أربع مائة عام على ولادته والمعرض يحتوي على كثير من المجموعات الخاصة بهذا الفيلسوف الريبي وهو يحتوي على صور وكتابات بخط مونتين نفسه، هذا فضلا عن آثاره ونماذج عديدة من الطبعات القديمة والحديثة لكتابالتجاريبوهي محلاة بتوقيع (مونتين) وإهدائه الكتاب وغير ذلك من الآثار والمخطوطات التي لها علاقة به ومثل هذه المعارض التي تقام تذكاراً للرجال العظام كثيرة في بلاد الغرب الأدب الأفرنسي ومكانته الحاضرة في العالم كتب الأديب الأفرنسي (جان ريشار بلوق) بعد رحلة ساقته إلى معظم البلاد الأوربية 0بحثا في مجلة (أوربا) عن مكانة الأدب فرنسي اليوم في العالم وقد تحدث (بلق) إلى كثير من أصدقائه الأدباء في هولاندا وألمانيا والتشيكوسلوافيا واستمع إلى أرائهم في الأدب الأفرنسي. وخلاصة الرأي أن الجميع يعترفون للكتاب الأفرنسيين بالحذق والمهارة في الإنشاء وفي تأليف الروايات وذلك بفضل التقاليد والأساليب الموروثة منذ عصور طويلة. وليس من أحد ينكر على النثر الأفرنسي مايمتاز به من سهولة ورشاقة وخفة روح وحسن تهكم وجمال ودقة وصف. ولكن، مع الأسف، الجميع متفقون على انه من حيث المعنى لا قيمة كبيرة له. إن الروايات الأفرنسية جميلة، خفيفة بديعة الأسلوب متقنة الترتيب وبعكس ذلك الروايات الإنكليزية والأمير كآنية والألمانية، أنها طويلة جداً، قليلة الترتيب ثقيلة، صعبة ولكنها - وهذا هو المهم - تتكلم عن أمور تسترعي اهتمام العالم اليوم فهي تبحث في شؤون البشر الحيوية وتحاول الجواب عن المسائل الكبيرة العويصة. أنها قليلة الصنعة

ضعيفة الإنشاء، كثيرة البساطة ولكنها تدل على شجاعة أدبية وتفكير عميق لا تزال الروايات الأفرنسية تقتصر في مواضيعها على الأسرة والزواج ومشاغل الموظفين والنواب الحقيرة كما في عهد (الفونس دوده) و (غي دوموباسان) كأن العالم لم يتبدل منذ ذلك الوقت. إن هذه المسائل لم يعد لها أية قيمة في العالم خارج فرنسا بل قد نشأت معضلات اجتماعية وفكرية حديثة يريد الناس من الأدباء أن يحاولوا الجواب عليها. المدرسة التركية الحديثة كتب الأستاذ (قورتين)، الذي قام بمهمة التعليم عدة سنوات في أحدى المدارس التجهيزية التركية، مقالا في مجلةالتعليم العامالأفرنسية عن غايات الكماليين في التربية والتعليم. وقد لخص رأيه في المدرسة التركية الحديثة التي تسير حسب مزيج من المناهج التربوية السويسرية والمبادئ الوطنية الكمالية فقال: كانت الحكومة الوطنية تعرف، منذ أول الأمر أن نجاح الثورة الكمالية يتوقف على تنمية الروح القومية - التركية وقد كان على المدرسة، بعد استتباب السلام أن تعلب دوراً هاما في هذا المضمار. إن غاية التربية في تركيا هي تكوين رجال عصريين وقبل كل شيء رجال أتراك من صميم فؤادهم. والحكومة تنتهز كل فرصة وتستخدم جميع الوسائل لتحقيق هذه الغاية الوطنية سواء في داخل المدرسة أو في خارجها مثل استعراضات الكشافة وحفلات الرياضة البدنية والأعياد الكبيرة. وقد نظمت دروس التاريخ والجغرافيا والأدب التركي والمعلومات المدنية بصورة تساعد على استثمارها السياسي وجعلها وسيلة لزرع بذور حب التضحية والعمل في سبيل الوطن. العراق والحضارة العربية نشرتالمجلة العصريةالإنكليزية مقالا بقلم (ريشا رد كوك) عن مهمة العراق في خدمة الحضارة العربية جاء فيه مايلي: يستطيع العراق، بعد أن نال الربة في إدارة نفسه بنفسه وزال عنه الخوف من مداخلة الأجانب في شؤونه الداخلية، أن ينتهز هذه الفرصة النادرة ويصبح المركز الحقيقي للحياة والحضارة العربية. وقد كانت مصر هي القائمة بهذه الهمهمة التاسع عشر ولكن من المحتمل أن عهدها هذا قد أنقضى. فإن العراق أقرب إلى الدم العربي وهو متصل رأساً

بجزيرة العرب عدا أنه بعيد عن النفوذ الأجنبي يتمتع بحرية واستقلال أوسع. أما مصر، فأنها أبت أو أرادت، مرغمة على أن تكون بحكم وضعها الجغرافي (ملحقاً) لأوروبا. وقد كان العراق قبلاً مهداً للحضارة ولا تزال بذور حضارتها القديمة مدفونة في أرضه. والثقافة العربية والعلوم أنما ازدهرت في العراق وظلت نامية هناك مدة خمسة قرون. ولا تزال ذكرى تلك العصور حية وتدل جميع الظواهر على إمكان ازدهار حضارة العرب في العراق من جديد تحت تأثير الآراء والمبادئ الحديثة وفي ظل الحرية السياسية. صدى الأدب العربي في الصحافة الفرنسية خصصت صحيفةالأخبار الأدبيةالتي تصدر بباريز صفحة خاصةبالأدب المصرية - كما تقول - تحتوي على مقالات للأساتذة إدغار جلاد وجورج دوما ني وأحمد راسم وأنطون الجميل تكلموا فيها عن وفاة أمير الشعر أحمد شوقي وعن تأسيس المجمع العلمي العربي وغير ذلك من المباحث فما جاء فيها عن أمير الشعراء إنه أحب مصر وأحبه الشعب حتى صار شعره دليلاً على الروح القومية، وإن وطنيته لمتكن ضيقة مفعمة بالأنانية بل كانت واسعة تشمل كل البلاد العربية فهو قد أحب مصر كما أحب العراق وأحب سوريا كما أحب لبنان وفلسطين والحجاز. ومنها أمير الشعراء لم يتغزل غزلاً حسباً شهوانياً بل تغنى بالعائلة ومحبة إلا ولا فكان من هذه الجهة شبيهاً بفكتور هوغو ومما جاء في هذا الصدد أيضاً أته من الصعب تعيين المذهب الفلسفي الذي أتبعه شوقي لأن فكره لم يجر على خط مستقيم بل كان كثير التبدل على أنه كان يرغب في الحياة ويريد اقتناص اللذات على شريطة أن يحافظ على شبابه ويتمتع به ويريد أن يتدرع بالسلاح الضروري للجهاد لأن الحياة جهاد دائم. ومما جاء في هذه الصفحة الأدبية كلمة مقتضبة عن تأسيس المجمع العلمي في مصر وتاريخ هذه الفكرة وصداها في العالم العربي قال الكاتب عن تاريخ هذه الفكرة أن أصلها يرجع إلى أسواق العرب في الجاهلية وأن قصور الخلفاء كانت شبيهة بمجامع علمية. وأن فكرة إحداث مجامع علمية ليست حديثة وإن مصر لم تسبق غيرها من الممالك العربية إلى تأسيس مجمع لغوي فقد تأسس قبلاً في دمشق وبيروت وبغداد مجامع علمية مختلفة ولكنها إذا استثنينا منها، على دعوى الكاتب، مجمع دمشق - لم تنتج شيئاً حتى الآن. والمجمع العلمي الذي تريد مصر إن توسسه على ضفاف النيل مختلف بوسائله

وسعه نطاقه عن المجامع العلمية السابقة وهذا ما يدعو إلى الأمل في توحيد ألإصلاحات العلمية وتطور اللغة الغربية والقضاء على المستولية الآن عليه. وقد ذكر الكاتب نبذة من قرار تأسيس المجمع العلمي المصري وزين مقاله بصورة وزير معارف مصر حلمي عيسى باشا، كل ذلك مما يدل على أن إدارة (الأخبار الأدبية) لم تقدم على تخصيص هذه الصفحة الأدبية بمصر وقبل أن يوجد مجمعها العلمي بالفعل إلا لأسباب سياسية - لا نقول مالية - ولكن يسرنا على كل حال أن يكون للأدب العربي صداه في بلاد الغرب. السلامة بالعلم نشرت صحيفة الأخبار الأدبية مقالا للكاتب المفكر (جوليان بندا) عن تأثير العلم في حال المعضلة الكبرى قال فيه، رداً على الأستاذ (لا نجفن) أنه ليس بوسع العلم أن يخلصنا مما وصلنا إليه من الانحطاط الأخلاقي والبؤس المادي. وفي الحق أن المسيو (لا نجفن) قال في أحدى مقالاته السابقة أن العلماء قادرون على إيجاد حل للأزمة الحاضرة، ثم قال في أحد جلسات جمعية الاتحاد في سبيل الحقيقة التي تضم كثيرين من أساطين العلم كجان برن وأميل بورل ولئون برونشويك إن الإنسان استطاع بواسطة العلم أن يتوصل إلى الرفاه والسعادة المادية وليس في طبيعة العلم ما يمنع الإنسان من إيجاد حل نهائي للأزمة الحاضرة ويمكن الوصول إلى ذاك بقليل من الحكمة والتعقل. على أن المسيو (جوليان بندا) يرى عكس ذلك ويقول ليس من شأن العلم أن يولد في نفوس الناس هذه الحكمة وذاك التعقل الذي يتكلم عنهما الموسيو (لا نجفن). وقد قال الأستاذ (إميل بورل) إن شقاء الناس ينشأ في الغالب عن حسدهم ورغبتهم في أن يكون لهم ما لغيرهم لا عن حاجة مادية حقيقية. فقد يكون الإنسان غنياً وقد يكون صحيح الجسم ولكنه مع ذلك شقي النفس لأنه لا يقنع بما عنده فيريد أن يكون أغنى الناس وأقواهم فعلة شقاء الإنسان معنوية لا مادية والمعضلة الاجتماعية الكبرى ناشئه عن أسباب نفسية ولا يمكن إصلاح حال المجتمع إلا إذا غير الناس ما بنفوسهم. ولا يغير الناس ما بنفوسهم إلا بواسطة التربية والتهذيب لا بواسطة العلم المجرد عن كل غاية علمية. على أن الموسيو (جوليان بندا) لا ينكر شأن العالم في التربية والتهذيب، لأنه يستطيع أن يهدي المربي ويهيئ له أحسن الطرق التي يجب أتباعها في إصلاح النفوس ولا يمكن إصلاح الواقع إلا بمعرفته إلا أن وظيفة العام

تنتهي حيث تبتدئ وظيفة المربي فالعالم يخبر والمربي يدبر وينظم ويهذب ومن المؤسف أن يعرض العالم عن الاهتمام بالمسائل العلمية لأنه وحده يستطيع أن يدل المربي على المناهج الصالحة التي يجب عليه أتباعها في سبيل تأمين سعادة البشر إلا أن الروح العلمية لا علاقة لها بهذا الاهتمام العلمي وإذا اهتم العالم ببعض المسائل العلمية فذلك لجمعه روح الإصلاح الاجتماعي إلى الروح العلمية وهذه الروح العلمية ليست متولدة كما يظن البعض من محبة الناس بل من حب الاطلاع، لآن حب الناس شيء وحب الحقيقة شيء آخر. معرض كبير في لوندره من حوادث شهر تموز المهمة في لوندره افتتاح معرض كبير للكتب أسمه أي بريطانيا في الكتب وهو يحتوي على ثلاثة أنواع من الكتب1 - كتب المصادر والإسناد 2 - كتب المباحث العامة وخصوصاً التي تبحث في حياة الطبيعة 3 - كتب الأدب الكبرى. أضف إلى ذلك طائفة من الألواح الأدبية التي تشبه الألواح الجغرافية من حيث تعيينها محل ولادة كل كاتب ومحل طبع الآثار الأدبية وانتشارها وقد كان لهذه الألواح الجغرافية الأدبية نجاح عظيم في المعرض. أعمق بقعة في البحر إن أعمق بقعة في البحر أمكن العثور عليها وقياسها حتى اليوم تقع بالقرب من (بورتوربقو) إحدى جزائر الآنتيل الكبرى بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية ويبلغ هذا المكان (13500) متراً وكان أعمق مكان نعرفه قبل الآن في الحر المحيط الكبير لا يزيد عن (10800) متراً وذلك بالقرب من جزائر الفيلبين تم قياسه في سنة 1927 من قبل السفينة الألمانية الحربية (أمدن) ومثل هذه الحفر العميقة في البحر قد نشأت عن حوادث بركانية ولذلك فأنها توجد دائماً بالقرب من الشواطئ الجبلية. القهوة نشر الدكتور (بول كولوليان) في مجلة الحوليات مقالاً عن القهوة والتبغ ذكر في المضار التي تنشأ عن استعمال هذين المنبهين. فمما جاء في هذا المقال عن القهوة أن أوروبا وحدها تستهلك أكثر من ثلاثمائة مليون كيلو غرام من قهوة في السنة. وإن كل مائة غرام من القهوة تحتوي على ثلاثة غرامات ونصف

من الكافئين. أن الفنجان الواحد من القهوة القوية يحتوي على 30سنتيغرام من الكافئين. أما الكمية المعتدلة فهي أن يحتوي فنجان القهوة على 12 سنتيغرام من الكافئين أو على 16 غرام من القهوة. إن هذا المقدار الأخير معتدل وهو منبه للقلب والأعصاب معاً. ولكنه إذا تجاوز هذا الحد صار مضراً جداً فإذا شرب الإنسان مثلاً ثلاثة فناجين تحتوي على 36 سنتيغرام من الكافئين أحدثت هذه الكمية فيه دوخة وإذا شرب أربعة فناجين ازدادت ضربات قلبه وأصيب بهزات جسدية، وفوق هذه الكمية تولد القهوة فيه (التتانوس) والتبريد. فالمقدار المعتدل من القهوة قليل الضرر لأنه منبه ملائم فيعدل الدورة الدموية ويحرك الفاعلية الذهنية فيبعث ألذة والراحة. قال (ميشيل لفي) إن الأذهان البطيئة الجامدة تجد في القهوة واسطة لتسهيل أعمالها. القهوة لا تخلق الفكر في الدماغ الأبله ولكنها تحرك ملكات الإنسان الذكي، فتوسع خيال الشاعر، وتحيى ذاكرة الأستاذ وتجعل القلم سيال المعاني والشفاه متدفقة الألفاظ على أن هذا المنبه المعتدل ينقلب بالتكرار إلى عادة واحتياج فيصعب على الإنسان إذ ذاك أن يباشر أعماله اليومية مادية كانت أو معنوية دون قليل من القهوة.، وإذا أصبح شرب القهوة حاجة طبيعية انقلبت فائدتها إلى مضرة، وأصبحت سماً قاتلا يفسد الأعصاب ويشوش ملكات العقل. قال الأستاذ (شارل ريشة) الإفراط من القهوة تفريط في ملكات العقل. فالقهوة توقظ الفاعلية وتقوي الإرادة وتدفع المرء إلى العمل ولكنها تمنعه من العمل العقلي الهادئ فلا يستطيع أن يقرأ ولا أن يكتب بصورة طبيعية. فهي تقوي الإرادة وتدفع الانتباه والذاكرة إلى العمل الشديد الدائم. إلا أنها تخدر في النهاية فعل العقل، لأن الذي يرغب في الكثير يقع في القليل. وكلما زاد تهيج الإرادة خفت قوتها وتناهى فعلها، فكأن القهوة تحدث في الجسد والنفس ما يحدثه الكحول من التخدير. وإذا استمر الإنسان على التسمم بالقهوة أصيب ببعض الأمراض النفسية والجسدية منها تهيج ملكاته النفسية بصورة مشوشة، فيزداد الاضطراب وتكثر الحركات وتهتز الأعضاء ويتكرر الخفقان ويصبح التنفس صعباً ويتولد القلق وتضعف الذاكرة ويظلم الخيال ويصاب الجسد بالنحول والتعب. فالقهوة غذاء جيد إذا مزجت بشيء من الحليب ولكنها تصبح سماً قاتلاً إذا تجاوزت حد (الفناجين) في النهار. أين بدأ عمران الأرض

كيف وأين بدأت الحضارة فأخذ الإنسان يحرث الأرض ويزرعها ويستثمر خيراتها، إن الحفريات الأثرية التي أجريت حتى أيامنا هذه تدل على أن مهد العمران كان في العراق أو في محلات قريبة من العراق. ويقدر العلماء حسب الحفريات التي في العراق ومصر أن الإنسان قد بدأ يستثمر الأرض بالزراعة قبل عشرة آلاف سنة تقريباً. فإن تاريخ مصر يرجع إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد. وقد كان المصريون في ذلك الوقت يحرثون الأرض الأرض ويزرعونها ويظهر أن العراق قد تقدمت مصر في الحضارة. فإن مدينة (أور) التي تم حفر آثارها في المدة الأخيرة كانت قائمة قبل الميلاد بأربعة آلاف سنة. ولا يمكن لمدينة كبيرة مثل هذه أن تعيش دون أراضٍ واسعة حولها للزراعة تقوم بحاجاتها وكذلك لا بد من وجود قوانين مرعية لتأمين التجارة وللمحافظة على الأرواح والأموال. ومن الاكتشافات الهامة التي وصل إليها التاريخي إنه كانت هناك علاقات تجارية بين المدن العراقية القديمة والمدن الهندية في حوضة نهر (السند). وكانت منتوجات الهند تنقل الغرب كما ظهر من الحفريات في بلاد الحيثيين بالأناضول. مثل هذه الحياة المدنية لا يمكن أن تكون إلا نتيجة تطور طويل مضى عليه آلاف السنين. ويقدر العلماء لذلك مبدأ عمران الأرض والزراعة قيل عشرة آلاف سنة من تاريخنا الحاضر. وقد انتقلت الزراعة بعد ذلك من آسيا إلى أوروبا وتدل الظواهر على أن هذا لم يحدث إلا متأخراً قبل ثلاثة آلاف سنة من الميلاد. التقلبات الجوية هناك عقيدة عامة بأن ليس لتقلباتالطقسقاعدة ثابتة وإن أحوال الجو لا تعرف شيئاً من النظام والاطراد في تبدلها. ولكن التدقيق المستمر والبحث العلمي يثبتان أن تبدلات الحالة الجوية أيضاً لها قوانين مقررة. فإن ثبات الجو وتقلباته تسير حسب نظام خاص ولو أنه كثير التركيب والتعقيد. وهكذا نرى علم أحوال الجو قد تخلى عن العقيدة التي تجعل الجو تابعاً لمجرد الصدف وأخذ رجال هذا العلم يسعون الآن لتقرير قوانين وقواعد لجميع المظاهر الجوية. ولاشك في أن هذا العمل يحتاج إلى جهود علمية وفنية كبيرة. وقد وضع العلماء في المدة الأخيرة بعض نظريات ومبادئ عامة لمعرفة تقلبات الطقس منها نظريةتنفس الفضاءالتي تقول أن القارات إذا بردت تنكمش الطبقات الجوية العالية فوقها ويهجم عليها الهواء من البحار. في هذه الأثناء يبقى الجو ثابتاً على حالة واحدة لا تتغير

مدة أسابيع ولما تبلغ كمية الهواء المقياس إلا على تضطر الطبقات الهوائية القريبة من الأرض للانتقال إلى المحلات الحارة وبذلك ينقلب الطقس فجأة وتبتدئ دورة جديدة تدوم أياماً كثيرة. وتنفس الفضاءهذا يتكرر في جميع الفصول. . وحقيقة أخرى تلعب دوراً هاماً في معرفة تبدلات الجو هي تأثير النظام الشمسي والأجرام السماوية الأخرى في أحوال أرضنا. فقد ثبت أن تقلبات الطقس عندنا تكون سريعة ومتنوعة في أدوار ازدياد حركة الشمس أي عندما تكون الشمس مستورة بالشوائب التي تعتريها من حين إلى آخر. أما في أدوار هدوء الشمس فإن تطورات الجو تكسب صبغة الاستمرار والاطراد. وهذا دليل واضح على تأثير أحوال الشمس في تطور الجو. وفي الحقيقة أن أرضنا تابعة في جميع أحوالنا إلى نظام الكون العام وهي ليست سوى حلقة صغيرة في ساعة العالم. . هل يمكن رؤية الدماغ بأشعة رونتجن اكتشف الطبيبان الرومانيان المقيمان في بخار ست راد فيس ومللر واسطة جديدة لمشاهدة الدماغ بواسطة أشعة رونتجن. ومن العلوم أن أشعة رونتجن لم تستعمل أولاً إلا لرؤية الهيكل العظمى ثم إنها استعملت في السنوات العشرين الأخيرة لمشاهدة الأحشاء الداخلية كالمعدة والأمعاء والزائدة الدودية والمثانة وغير ذلك، وصار تصوير هذه الأعضاء الداخلية ضرورياً لمعرفة حقيقة أمراضها. أما الدماغ والنخاع الشوكي فقد استعصت رؤيتهما على أشعة رونتجن حتى هذه السنوات الأخيرة. نعم إن داندي الأمريكي اكتشف منذ خمس عشرة سنة طريقة لمشاهدة الدماغ - لا مجال لذكرها الآن - ولكن هذه الطريقة التي يستعملها الجراحون لا تخلو من الخطر. والطريقة الجديدة التي اكتشفها رادو فيس ومللر ربما كانت أفضل من الطريقة السابقة وقد قدما للمجمع الطبي الفرنسي رسالتهما في سنة 1932ونشرا اكتشافهما في كثير من المجلات الطبية الفرنسية والألمانية وهي عبارة عن حقن الجهة القذالية من القحف بمادة (التوريوم) بحيث تبقى معلقة في السائل الذي يفصل الدماغ عن الجدار العظمى المحيط به. وقد استعملت هذه الطريقة في مشاهدة دماغ الأرانب والقطط والكلاب والقردة واستحصل المجربون بواسطتها على صور واضحة تظهر فيها حدود التلافيف الدماغية بخطوط سوداء. أما الحيوان الذي طبقت عليه هذه الطريقة فلا يصاب بسوء ويبقى حسن الحال ثم تزول هذه المادة التي أدخلت إلى السائل الدماغي شيئاً

فشيئاً. ثم إن الأطباء أخذوا يطبقون هذه الطريقة على الإنسان أيضاً ولكن الغشاء الذي يفضل دماغ الإنسان عن السائل المحيط به ليس ذا مقاومة كافية ولذلك وجد الأطباء اليوم إنه من الضروري تعديل قوة مادة (التوريوم) التي يحقنون بها رأس المريض وإذا تم للأطباء ذلك فإن العلماء سيتمكنون من رؤية جميع أحوال الدماغ والخلل الذي يطرأ عليه في أحوال المرض وهذا سيدعو إلى تقدم معرفتنا بأسباب الأمراض العقلية. بين الحياة والموت هل يوجد بين الحياة والموت حدود فاصلة وهل هنالك واسطة حقيقة للتفريق بين الحياة والموت. كثيراً ما يخطئ الأطباء في حال المريض فيقررون أنه مات في حين أنه لا يزال حياً. وكثيراً ما يكفن المريض ويوارى في التراب ثم يفيق من غيبته وهو في القبر. هذه الحوادث حملت كثيرين من الأطباء على البحث في الحدود التي تفصل الحياة عن الموت وقد كان الأطباء يستعملون في السنوات الأخيرة طريقة تدعى طريقة إيكارد وهي عبارة عن حقن (الفلورئسين) إلا أن هذه الطريقة لم تنجح تماماً لأنها لم تمنع الأطباء من الوقوع في الغلط حتى قال بلين نحن رجال العلم لا نزال ألعوبة في يد الآلهة فلا ندري كيف نفرق بين الحياة والموت، ولا كيف نقول أن هذا المرض لا يزال حيا وأن ذاك قد مات الطب الأفرنسي في العالم نشر الموسيوش أشار في مجلة العالمين الأفرنسية مقالاً ذكر فيه تأثير الطب الأفرنسي وانتشاره في البلاد الأجنبية. وقد بين علاقة انتشار الطب الأفرنسي بانتشار اللغة الفرنسية وقال أن أكثر أطباء العالم يتكلمون الفرنسية إلا في بلاد اليابان لأن أكثر أطباء اليابان وأساتذة المدرسة الطبية في طوكيو وتلامذتها يعرفون اللغة الألمانية ويدرسون على أساتذه ألمانيين وقد بحث الكاتب عن انتشار الطب في الشرق الأدنى فقال: إن تأثير ثقافتنا في الشرق الأدنى آخذ بالتناقص مع أن اللغة الفرنسية هي اللغة الوحيدة التي كان الشرقيون يطلعون بها على بضاعة الغرب. أن تركيا الحديثة تبتعد عن ثقافتنا وتريد أن تكون تركية محضة وبالرغم من أن مصر تحترم الطب الأفرنسي فأن النزعة السائدة فيها هي التخلص من كل تأثير أوروبي. إن لغتنا الأفرنسية منتشرة على ضفاف النيل، وأنه لما يثلج الصدر أن يسمع السائح الفرنسي وهو عائد من الشرق الأقصى اللغة الفرنسية في بورت سعيد

والأسكندريه القاهرة فيخيل إليه أنه في بلاد، لأن أسماء الطرق والإعلانات كلها مكتوبة بالغتين العربية والفرنسية. أنا عالم أن المصريين لا يحبون لغتنا إلا لأنهم يبغضون الدولة الحامية. ولكن فرنسا على كل حال تشغل في مصر المركز الأول من حيث التأثير المعنوي. ثم ذكر الكاتب ضرورة إسعاف المؤسسات الطبية الموجودة في مصر وقال إن في الإسكندرية مستشفى لموسوليني يضاهي أعظم مستشفيات أوربا بتنظيمه وأنه لا يوجد بين المؤسسات الأفرنسية والمصرية ما يعادله. ثم بحث الكاتب في حالة الطب الأفرنسي في طهران وأصفهان من بلاد فارس وانتقل إلى الكلام عن سوريا ولبنان فقال: الطب الأفرنسي يدرس في لبنان في كلية يديرها الجزويت في بيروت. وهي تمنح تلاميذها شهادة الدكتوراه وكثيرون من خريجيها يمارسون الطب وفقاً لمبادئ التعليم الفرنسي. إلا أن لهذه الكلية مزاحماً قوياً في كلية الطب الأميركية لأن هذه الكلية أحسن مورداً وأقوى مادة رغم أنها لم تحصل بعد على المنزلة التي حصلت عليها كلية الجزويت. وقد أسست فرنسا في دمشق جامعة عربية لأنها تريد أن تعيد لهذه المدينة شهريها القديمة يوم كانت مركزاً عظيماً للثقافية في الإسلام. ولكن يظهر أن سكان دمشق لا يريدون الاعتراف لنا بهذا الجميل. عندما زرت دمشق كانت كلية الحقوق متوقدة حنقاً علينا أما كلية الطب التي يدرس فيها أربعة أطباء فرنسيين فقد كانت أقرب متناولا وأحسن استعداد وهذا ما يدعو إلى شكر تلاميذها وأساتذتها. وقد ذكر لي أحدهم أن طائفة من التلاميذ جاؤوا يوم الثورة أثناء تدمير المدينة إلى بيت أحد أساتذتهم الأفرنسيين وقالوا لزوجته أنه لا خطر على زوجها وأنهم يحمونه من كل أذى اعترافا بفضله وعلمه. مما لا شك فيه أن تأسيس جامعة عربية تلقى فيها الدروس وتؤلف الكتب باللغة العربية دليل واضح على ما في الروح الفرنسية من حب الحرية. وسيكون لتأسيس هذه الجامعة العربية تأثير بعيد.

تقديم

تقديم لعبت المجلات الثقافية العربية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى اليوم، وخصوصاً في فترة ما بين الحربين الأوربيتين العالميتين في القرن العشرين، دوراً ريادياً تنويراً وتثقيفياً في المجتمع العربي. فقد كانت هذه المجلات هي الفضاء التي تفاعلت فيه التيارات والعقول والأفكار النهضوية الحديثة في المجتمع والثقافة العربيين قبل شيوع وسائل الاتصال والثقافة والفنون الحديثة من تلفزيون وانترنيت. . الخ. بل ربما كانت أكثر تأثيراً من الكتاب نفسه، فقد عرفت هذه المجلات الناس على الأفكار الحديثة، مثلما عرفتهم بعضهم ببعض، خالقة بذلك ما نسميه: وحدة الثقافة المعاصرة، على تعدد اتجاهاتها ورؤاها، أما بالنسبة للكتاب فقد كان على الكاتب أن يقدم نفسه أولاً في إحدى المجلات المعروفة، أو السيّارة على لغة ذاك العصر، قبل أن ينال اعتراف القراء، وقبل أ، يغامر القارئ باقتناء كتابه. كانت مجلات: المقتطف والجنان وروضة المدارس والهلال والجامعة والمنار والضياء. . الخ. هي طلائع الوعي العربي الجديد منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، مثلما كانت تؤسس للتيارات الفكرية التي ما تزال متفاعلة في المجتمع والثقافة العربيين، فقد كان المقتطف تؤسس للوعي العلمي، وكانت الجنان تؤسس للوعي العلماني، بينما أسست المنار للوعي السفلي، أما الجامعة فقد كانت مع الهلال، تؤسس للنهوض الثقافي العام، وكما هو معروف فإن تيارات وأفكار هذه المجلات ما تزال تيارات وأفكاراً فاعلة ومتفاعلة في الوعي العربي، وما تزال الثقافة العربية تسير في الدروب التي شقتها هذه المجلات. أما في سورية (الحالية) فقد تأخر وجود الصحافة الثقافية المحلية ذات المستوى المتطور والمؤثر لأسباب أهمها إلى أن الموجه الأولى من المثقفين السوريين (الشوام) هاجرت إلى مصر، فأسست هناك مجلات السوريين ودور نشرهم المعروفة (الهلال - المقتطف - دار المعارف - البابي الحلبي - الخانجي - البيان - المكتبة السلفية. . الخ). أما الموجه الثانية من المثقفين السوريين فقد أعدم أكثرها في السادس من أيار 1916، وربما كانت مجلة الحقائق 1910 السلفية الطابع لصاحبها عبد القادر الاسكندري، أول مجلة ثقافية سورية شاملة، ثم أتت مجلة الرابطة الأدبية أوائل العشرينات، وبعدها أتت أهم مجلة ثقافية سورية في تلك المرحلة وهي مجلة الحديث (1927 - 1958) لصاحبها سامي

الكيالي - وقد كانت تمثل الجناح السوري للمدرسة اللبرالية المصرية) خصوصاً المدرسة الملتفة حول السياسية الأسبوعية في مصر، ومعروف أن هذا الاتجاه المصري - السوري، إنما اشتد ساعده على أثر معركتي كتابي: الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرزاق وفي الشعر الجاهلي لطه حسين عامي 1925 و1926. بعد مجلة الحديث ظهرت في دمشق، ولمدة عام واحد مجلة ثقافية رفيعة المستوى، لتعبر عن الجبل التنويري الثالث في سوريا، وهو جيل أقرب إلى الاتجاه التنويرية الراديكالي، وقد بدأ يعلن عن نفسه أوائل الثلاثينيات، جبل يتألف من شباب تلقى معظمهم العلم في الجامعات الأوربية، أو تأثر بالثقافة الحديثة عموماً، ومن هنا فقد كانت نظرته الثقافية متسعة الأفق، مضافاً إليها ثقافة عربية تقليدية قوية، ولهذا تبدو كتابات واهتمامات المجلة، بل وآراء كتابها، متوازنة ما بين الغربي - الوافد - الجديد، وبين العربي - التقليدي. للمجلات الثقافية العربية سلاسل أنسابها المتسلسلة، بل وأشجار عائلاتها الولود، فلكل مجلة عربية صدرت في القرن التاسع عشر سلسلة نسب استمرت في مجلات صدرت بعدها، وبعضها ما يزال يصدر، فنحن نستطيع أن نقول مثلاً أن مجلة الآداب - 1954 البيروتية هي خليمفة مجلة الرسالة 1933 القاهرية، وأن مجلة الجامعة 1898 في مصر ونيويورك لفرح أنطون، أورثتنا مجلة العصور 1927 في القاهرة وأن مجلة العصور ولدت مجلة الدهور 1931 في بيروت وأن مجلة الدهور ولدت الطليعة 1935 في دمشق وأن مجلة الطليعة ولدت مجلة الطريق 1940 وربما نستطيع أن نقول أن مجلة الثقافة 1933 في دمشق تمت بصلة لمجلة الحديث 1927 في حلب فمجلة الثقافة حلقة في سلسلة المجلات الثقافية العامة ذات الأفق المفتوح لكل الاتجاهات التنويرية. وقد بدأت مؤخراً حركة لإعادة نشر بعض هذه المجلات، وخصوصاً في مصر. ضمن هذه الجهود تساهم وزارة الثقافة في سورية بنشر مجلة الثقافة السورية ومجلات أخرى قريباً. أصدرت مجلة الثقافة مجموعة من الكتاب الشباب هم: 1 - خليل مردم بك 1895 - 1959: من أسرة دينية دمشقية - تلقى العلم في دمشق وبريطانيا، شاعر ومدرس للآداب، سياسي تقلد مناصب دبلوماسية ووزارية. محقق لكتب التراث وشاعر.

2 - جميل صليبا 1902 - 1976: دكتور في الفلسفة مدرس جامعي، درس في دمشق وباريس حقق وألف كتباً فلسفية وتربوية كثيرة. 3 - كاظم الداغستاني: 1901 - 199؟ درس في لبنان وفرنسا وسوريا، حقوقي دكتور في العلوم الاجتماعية وقانوني عمل في الدولة. له كتاب بالفرنسية وكتابان بالعربية صدرا في أواخر حياته. 4 - كامل عياد 1901 - 1986: مولود في ليبيا. هاجر أبوه إلى تركيا إثر احتلال الطليان لبلاده. درس في تركيا وسوريا وألمانيا، حصل على الدكتوراه إثر رسالة عن ابن خلدون في ألمانيا عام 1929. مدرس جامعي للتاريخ والفلسفة والتربية صدرت له كتابات مختارة عن وزارة الثقافية في دمشق. نعيد إصدار مجلة الثقافة والتي صدر منها سنة واحدة في عشرة أعداد فقط خلال عام 1933، في مجلدين ضمن سلسلة إعادة إصدار بعض المجلات الهامة في عصر النهضة العربية، تقديراً لأهمية هذه المجلة التي ما تزال موضوعاتها راهنة وتحية لجهود جيل عربي تنويري كان تحرر البلاد وتقدماه وثقافتها هدف حياته الأول. محمد كامل الخطيب

فقيد العرب فيصل

الثقافة تشرين الثاني 1933 فقيد العرب فيصل للتاريخ والذكرى بقلم الفريق رضا باشا الركابي رئيس وزراء الملك فيصل في سورية لقد مات فيصل شهيداً في سبيل واجبه وإعلاء شأن أمته فأحدث موته فراغاً في العالم العربي من الصعب إملاؤه وحزنت عليه الأمة العربية حزناً شديداً وبكته والعالم الإسلامي بكاء مراً ورئته بما أوتيت من فصاحة وبلاغة حتى لم يبق من زيادة لمستزيد ولعل الجراح التي أصابتني بفقد جلالته هي أكبر وأعظم من أي جرح أصاب غيري وذلك لما كان بينه وبيني من الروابط الوثيقة منذ أمد بعيد قبل الحرب العامة وفي عضونها وبعد فقد كنا من أعضاء (الجمعية العربية الفتاة) نشتغل سوية في تجديد الكيان العربي بما يتفق مع ماضي الأمة العربية المجيد وكنت على اتصال دائم به يوم قلدت منصب الحاكم العسكري العام على المنطقة الشرقية (سورية الداخلية) في البلاد العربية ويوم قيامي بمنصب رئاسة الوزارة في أوائل ملكه على سورية مما جعلني أن أكون في مقدمة المطلعين على نواياه الحسنة ومساعيه الجبارة في سبيل تأسيس مملكة عربية عامة لها شأنها ومركزها بين الممالك كما أتيح لي أن أكون في طليعة الواقفين أيضاً على أخلاقه الرضية ومزاياه الشريفة التي قلما اجتمعت في بشر غيره مهما علت منزلته والتي من أهمها أنه كان رحمه الله ينظر كلل فرد من أفراد الأمة العربية نظره إلى أخوته وأبنائه ويعتبر البلاد العربية كلها وطناً له فيبحها ويضحي في سبيلها أعز شيء لديه لذلك كله اعتقد أنه من واجبي أن أقدم لقراء العربية هذه السطور أذيع فيها بعض الحقائق خدمة للتاريخ وتوطئة لمذكراتي التي سأنشرها فيما بعد. لقد أدمى موت فيصل العرب رمز الأماني القومية قلوب جميع أبناء أمته على أن هنالك حتى بين الباكين عليه أناساً ممن لا خلاق لهم كانوا يضعون العراقيل في طريقه لا يجوز أن يبقى أمرهم بعد الآن مكتوماً فإن نجاح الأمة في مستقبلها يوجب إماطة اللئام عن حقيقة

تلك الأعمال الخفية أو الاكتفاء بالإشارة إليها ليظهر ما اتصف به رحمه الله من شريف الخصال وحسن النية وما امتاز به من كرم الخلق وبعد النظر وعلو الهمة. لقد بلغت الأمة العربية قبل الحرب العامة مبلغاً كبيراً من التأخر والانحطاط بعد أن كانت في عصورها الغابرة مثالاً للعظمة والمجد بما اتبعته من حسن السياسة ومشت عليه من قواعد الحرية والعدل والمساواة ولقد ساقها ما تسرب إلهيا من الوهن والضعف والهرم إلى الجمود والتدهور في هاوبة فساد الأخلاق فجثت على نفسها بنفسها وبلغت ما بلغته بتقصيرها وتقاعسها فكانت مصادقاً لقوى تعالى (وما كنا لتلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). وما زالت وهذا شأنها حتى أراد الله إنقاذها مما هي عليه فأدركها برحمة منه وقبض لها رجلاً منها هو أمير الحجاز آنئذ جلالة المغفور له ساكن الجنان ملك العربي الحسين بن علي يساعده على العمل أنجال الكرام وفي مقدمتهم فقيدنا العظيم فيصل العرب الذي لا بد لنا قبل الاسترسال في الموضوع من ذكر نبذة عن تاريخ حياته المملوء بجلائل الأعمال في سبيل هذه النهضة العربية الجديدة. فقيد العرب فيصل ولد رحمه الله بمكة المكرمة سنة 1302 هجرية ودرس وأخوته مبادئ العلوم على أساتذة خصوصيين في قصر والدهم تبعاً لعادات أشراف مكة وقد كانون يتمرنون أيضاً على ركوب الجياد وممارسة ما تتطلبه الفروسية من استعمال السيوف وقذف الرماح وإطلاق النار فترعرع وهو يحسن الرماية والفروسية وحينما عين والده عضواً في مجلس الشورى في الآستانة صحبه معه وكان له من العمر إذ ذاك ست سنين ثم لما تعين والده أميراً على الحجاز في سنة 1908 عاد معه إلى مسقط رأسه وله من العمر خس وعشرون سنة وبالنظر لما فطر عليه من الذكاء والشجاعة فكثيراً ما كان يوليه والده القيادة لإخضاع المتمردين من قبائل الأعراب فذاع صيته واشتهر اسمه بعد أن أصبح قائداً مدرباً خبر الأيام وعركته الوقائع. ولقد كان من جملة الأهداف السياسية التي رمت إلهيا الحكومة العثمانية في أواخر عهدها وعلى رأسها جمعية الاتحاد والترقي القضاء على القوميات غير التركية وبصورة خاصة على القومية العربية التي بدأت تنمو وتتجدد ومن المعلوم أن

سورية هي دماغ جزيرة العرب المفكر وعرقها النابض ولذلك فقد كانت البلاد العربية وفي مقدمتها سورية تكابد وتتحمل من المظالم أنواعها وأشدها ومن المؤسف جداً وجود من عملوا على ترويج سياسة الحكومة العثمانية وتحقيق برنامج جمعية الاتحاد والترقي بشأن قتل الفكرة القومية ذلك البرنامج القائم على قاعدة (فرق تسد). ولما ضاقت الأمة العربية ذرعا بهذه السياسة الغاشية وذهب مساعيها في سبيل تخفيف ويلاتها سدى أرسلت في 1913 وفداً من منوريها وقادة الرأي فيها إلى باريز لتقرير الخطة الواجب اتباعها والعمل لأج ذلك في جو مشبع بالسكون والحرية مع السعي لدى الدول العظمى لتخفيف ما يكابده العرب من مظالم الحكومة العثمانية وإيصالهم إلى ما يبتغونه من الاستقلال على الشكل الأمر كزي تبعاً لبرنامج الجمعية العربية الفتاة. وقد خشيت الحكومة العثمانية أمر استفحال هذه الحركة وخافت جمعية الاتحاد والترقي سوء نتائجها فأرسلت إلى باريز من يفاوض الوفد ويتمكن من إقناعه وتعليله بالأكاذيب لاعتقادها أن ذلك يؤمن عودة الوفد إلى البلاد وقد أرادت الحكومة أن تقدم البرهان على حسن نواياها وصدق وعودها المقطوعة فشرعت بتولية معظم أعضاء الوفد وظائف مختلفة كبيرة فانخدع الوفد وذهب إلى أن الحكومة العثمانية قد بدلت خطتها وأحسنت نيتها بشأن العرب ولذلك فقد انفض المؤتمر وعاد أعضاءه إلى البلاد ليتولوا الوظائف التي عينوا لها ولله في خلقه شؤون. وظلت الأمة العربية تنتظر تحقيق الوعود التي قطعتها لها الحكومة العثمانية غير أن هذا الانتظار لم يأت بشيء وظلت الحكومة العثمانية على ما كانت عليه من اضطهادها للعرب وهضمها لحقوقهم المشروعة ودام ذلك حتى دخلت غمار الحرب العاملة إلى جانب الألمان مغتنمة هذه الفرصة لتنفيذ غايتها الأولية من الفتك برجالات الأمة العربية والقضاء على أحرارها وقادة الرأي فيها، ولقد كان في شدة حذر جلالة المغفور له الملك حسين بن علي أمير الحجاز حينئذ وخوفه من دسائس الحكومة المركزية بشأن العرب ولهذا السبب فقد عين المغفور له الملك فيصل سنة 1909 نائباً عن لواء جدة من أعمال الحجاز في مجلس النواب العثمانية في الآستانة التي كثيراً ما كان يمر بطريقه إليها على دمشق وقد تعرف في دمشق خلال تردده إليها بكثير من رجالها ووجهائها وعلمائها وفي مقدمتهم دعاة الجامعة العربية من أبناء البلاد السوريين وبعد أن خاضت الحكومة العثمانية غمار الحرب أراد

جمال السفاح الذي عين قائداً عاماً للجيش الرابع في سورية المباشرة في تنفيذ الخطة التي رسمتها له الوزارة الثمانية بالقضاء على زعماء العرب ومحو فكرة القومية العربية والفتك بالحسين وأنجاله وهذا ما دعاه لأن يبذل العسكري لإقناع المرحوم الملك فيصل بأن يقبل فيبقى بجانبه كموظف كبير في الجيش الرابع وغايته من ذلك الاحتفاظ به كوديعة منتظراً سنوح الفرص لتنفيذ الخطة المرسومة التي كان اهتمامه بها أعظم بكثير من اهتمامه بالشؤون الحربية وأمور الجيش وإدارته، وكان الملك فيصل لا يترك فرصة تمر إلا وينتهزها لتخفيف وقع ما يحاول ذلك الطاغية إنزاله بأبناء العرب ورجالهم من ويلات ومصائب على أنه لما تحقق أنه لم يبق من فائدة من بقائه إلى جانب جمال السفاح وأنه أصبح من اللازم مغادرة سورية إلى الحجاز للعمل هنالك والتوسل بما يجب لخلاص أبناء قومه مما يعانونه من ظلم وجور، توفق لإقناع القائد التركي بلزوم السماح له بالسفر ليتمكن من جمع عدد كبير من متطوعي العرب وجعلهم تحت أمرة الجيش التركي في سورية وعوناً له وقد أرسل جمال السفاح يستأذن الحكومة المركزية في الآستانة بشأن سفر الملك فيصل إلى مكة فلم تتردد الحكومة بالموافقة على ذلك بعد أن أقنعها الملك حسين الذي كان علي صلات سرية مع ولده في دمشق بأنه مستعد لن يقدم لها عداً وافراً من المتطوعين لينضموا على الجيش التركي وقد أرسلت إليه أيضاً مالاً وسلاحاً احتفظ به مستعداً للطوارئ ومنتظراً سنوح الفرص. ولم يكد الملك فيصل يصل مكة ويقص على والده ما عرفه وشاهده من المظالم التي يوقعها جمال السفاح بأبناء العرب في سورية من نفي وقتل وتعذيب حتى ثار ثائرة وصمم النية على القيام وفي وجه الحكومة التركية ومناوئتها العداء انتصاراً لأبناء قومه. ومن حسن الحظ أن الحلفاء كانوا حينئذ بأشد الحاجة لمن يساعدهم وينضم إليهم ضد الأتراك وحلفائهم فبدأوا بمفاوضة الملك الحسين الذي وجد في ذلك فرصة سانحة لم يشأن أن يضيعها فدخل الحرب إلى جانبهم وذلك بعد أن ربطهم بمواثيق وأخذ منهم عهداً يتضمن اعترافهم باستقلال البلاد العربية ووحدتها وعلى هذا الأساس أعلن الثورة ضد الأتراك وذلك في النصف الأول من سنة 1916 وعهد إلى ولده الأمير فيصل بقيادة الجيش العربي المتجه إلى سورية وقد أبدى من المهارة الحربية والمقدرة والشجاعة ما كان داعياً لنصرة جيشه وتمام الظفر للعرب ولقد كان هذا النصر أحد الأسباب لهامة

الداعية لتقهقر الجيش التركي وتقلص ظل الجيش الألماني والنمساوي في جميع الجهات الحربية في البلاد العربية وهنا يجب أن لا ننسى الأعمال الجليلة الهامة لتي أبدت هذا الظفر والتي قام بها إخوان الملك فيصل جلالة الملك علي وسموا الأمير عبد الله في الجهات الحربية الشرقية والغربية وكذلك شقيقه الأمير زيد الذي كان لجانبه في أصعب الموافق الحربية ولقد شاء الله أن يكون ظفر العرب مستمراً في تلك المواقع فتقدمت الجيوش العربية من الجهة الغربية والشرقية على أن الجهة الشمالية التي يقودها الملك فيصل كانت سريعة في تقدمها مما زاد في أمله وجعله يطلب أن ينضم إلى جيشه أفراد العرب الذين وقعوا أسرى بأيدي الحلفاء من الجيش التركي والذين جيء بهم إلى مصر فأرسل وفداً لهذه الغاية مؤلفاً ممن كمان يظن بهم الإخلاص والأمانة من أفراد حاشيته وذلك بعد أن جهزهم بما يلزم من الأموال والوسائل التي تسهل عليهم سبيل المهمة التي انتدبهم إليها بشأن انتخاب من يتوسمون فيه الكفاءة والإخلاص غير أن هؤلاء لم يوفوا الأمانة حقها بل نكثوا العهد وبدلاً من أن يقوموا بعملهم بإخلاص فقد حاولوا أن يقنعوا الحلفاء في مصر بلزوم أبعاد الملك فيصل عن القيادة واستلام مركزه مؤكدين أنهم هم أنفسهم جديرون بهذا العمل وأهل له أكثر من سواهم. . غير أنهم باءوا بالفشل وكان مسعاهم وبالاً عليهم فعادوا دون أن يحسنوا القيام بما كلفوا به وائتمنوا عليه ولقد كان من مزاياه رحمه الله ومما اتصف به من كرم الخلق ورحابة الصدر أن أحسن مثواهم ووفادتهم بعد عودتهم ولم يفاتحهم بشيء مما علمه عنهم واتصل به من أخبارهم ولم تكن هذه المصاعب مما يفل في عزيمته رحمه الله فما برح يحارب بكل ثبات وإقدام فتتقدم جيوشه تباعاً نحو الشمال حتى بلغت الوجه وتبوك ثم العقبة ووادي موسى ومعان وبلاد شرق الأردن ودرعا ولقد كان جميع من مرت بهم جيوشه من أعراب ومتحضرين ينضمون إليه مندفعين إلى ذلك بما قام في نفسهم من حبه واحترامه لما رأوه منه من الجشاعة والإقدام والصدق والإخلاص والكرم والحفاوة في سبيل نهضة الأمة العربية وإعلاء شأنها وما زال وهذا شأنه حتى اضطر الأتراك إلى التقهقر والانسحاب من دمشق أيضاً وذلك في أواخر شهر أيلول 1918 ثم من جميع البلاد السورية في الداخل والساحل فدخل الجيش العربي بقيادته إلى دمشق ظافراً وكذلك جيوش الحلفاء التي كان يقودها إذ ذاك الفيلد مارشال اللورد اللنبي الإنكليزي. وقد

تألفت عقب ذلك في سورية ثلاث مناطق: المنطقة الجنوبية ومركزها القدس وحاكمها انكليزي والمنطقة الغربية ومركزها بيروت وحاكمها أفرنسي والمنطقة الشرقية ومركزها دمشق وحاكمها عربي الأمر الذي دل على نية الحلفاء منذ دخولهم سورية والغاية الت يرموا إلهيا - وفي العشر الأول من شهر تشرين الأول سنة 918 أرسل المرحوم الملك فيصل قسماً من جيشه نحو الشمال فاحتل هذا الجيش حمص وحماه ثم حلب وما جاور هذه المدن في البلاد العربي وهكذا فلقد تقلص ظل الأتراك عن جميع الأقطار العربية التي كانوا فيها وبدأت المساعي بتأسيس مملكة عربية مستقلة في سورية يكون ملكها المرحوم الملك فيصل وتأسيس ممالك أخرى في فلسطين والعراق يتولى شؤونها أشقاؤه على أن يكونوا جميعهم على صلة وارتباط بملك العرب المرحوم جلالة الحسين. فود جلالته تأمين هذه الغاية فسافر من دمشق إلى أوروبا لحضور مؤتمر الصلح ولم يستقر به المقام هناك حتى طلب من الحلفاء أن تكون بلاد العرب مستقلة على الصورة التي ذكرناها وأن تؤخذ سياستها الخارجية على أن يساعد حكوماتها في وضعها الجديد خبراء من رجال الحلفاء، فأعجب أعضاء المؤتمر بزيه العربي وجرأته الأدبية وبلاغة بيانه وصراحة طلبه فعلق هو أيضاً بدوره مستقبل البلاد وتحقيق أمانيه على هذا العجاب، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، لأن فرنسا وانكلترا كانتا متعاهدتين سراً منذ سنة 1916 ومتفقتين على تقسيم البلاد العربية إذا تم لهما الظفر. فكليكيا والموصل وسوريا لفرنسا والعراق وفلسطين وسائر الشرق العربي لانكلترا. كل ذلك قبل إن يدخل جلالة الملك حسين والعرب معارك الحرب فلما دخل العرب الحرب تحت قيادة المرحوم صاحب الجلالة عدل الحلفاء عن تقسيم البلاد واستبدلوا به سياسة الانتداب. غير أن انكلترا أخذت تسعى بعد أن وضعت الحرب أوزارها لإخراج الموصل من نصيب فرنسا وإلحاقها بالعراق لتكون تحت سيطرتها وذلك لاحتوائها على ينابيع البترول وكنوز وثروات مختلفة لا تقدر. فوجدت أن اتفاقها القديم مع فراسنة يحول بينها وبين هذه الغاية ففكرت في الأمر واحتالت له وأوجدت في مؤتمر الصلح فكرة استفتاء العرب عن الانتداب ورغبتهم في الاستقلال التام وأرسلوا إلى سورية بعثة أميركية حيادية برئاسة المستر (كراين) فأتى إلى سوريا وباشر الاستفتاء.

ولم يصعب على انكلترا أن تكيد لفرنسا في الخفاء وأن تحمل رجالها وعيونها من السوريين على جعل سكان البلاد يطلبون الاستقلال التام الناجز، دون حماية ولا وصاية، فقالوا لهم الاستقلال قبل كل شيء، وإذا لم يكن من الانتداب بد فأميركا أولاً، وإن لم تكن أميركا فانكلترا أما فرنسا فلا ترضى بها أبداً، بل ترفضها رفضاً باتاً. وقد وافق هذا الكلام هوى من نفوس السوريين فقبلوه وأصغوا إليه واتبعوه في الساحل كما في الداخل. وهكذا فقد ألحق الموصل بالعراق واعترفت الأمة السورية بالانتداب من حيث لا تشعر إلا أن هذا الانتداب أسند إلى فرنسا خلافاً لرأي السوريين فلم يعبأ برأيهم بل كان بعض رجال السوريين آلة صماء بيد الانكليز فسيروا الاستفتاء حسب رغائبهم. ولما كان جلالته بباريز اتصل بالمسيو (كلمنصو) رئيس الوزارة الإفرنسية فلقى منه احتراماً ومحبة فأطلعه المرحوم على رغبته في إعلان استقلال البلاد السورية تحت الانتداب الإفرنسي فوافقه المسيو كلمنصو على اقتراحه وعقد اتفاقاً سمي اتفاق فيصل - كلمنصو. ولما تم هذا الاتفاق غادر رحمه الله فرنسا وكان في طريقه إلى سوريا يثني الثناء الجميل على المسيو كلمنصو ويصرح للجماهير التي كانت تستقبله أنه يجب على العرب عامة وعلى السوريين خاصة أن يعتمدوا على فرنسا التي مافتئت تظهر استعدادها في مختلف الظروف لمساعدة العرب وتحقيق أمانيهم. ولم ينتشر الاتفاق المذكور حتى قام بعض رجالات لبنان الذين أعمتهم النعرة الطائفية - وربما كان هناك إيعاز خارجي - يسعون للتفريق بين الساحل والداخل، فازدادت الصعوبات والمشاكل في طريق جلالته ولم يفتر عزمه ولا تقاعست همته بل بقي مع ذلك محافظاً على خطة السلم مع فرنسا كما بقيت هي مثابرة على مجاملته. وكان المؤتمر السورية المنتخب من بعض وجوه الداخل والساحل وفلسطين والعراق مجتمعاً وقتئذ في دمشق فنادى بالأمير فيسل ملكاً على سوريا فوافقته فرنسا على ذلك ولم تمانعه رغبة في المحافظة على ولائه. فاستدعاني يوم عرض عليه هذا القرار واستشارني فقلت له هل من ضرورة لهذه المجلة وبينت له أن الحكمة تقتضي الانتظار وتدعو لأن يؤجل إعلان التتويج إلى أن تمهد السبل هنا وهناك فقال لي رحمه الله إذا كانت الغاية من هذا التأجيل التفاهم إلى أن تمهد السبل هنا وهناك فقال لي رحمه الله إذا كانت الغاية من هذا التأجيل التفاهم مع الإفرنسيين فقد

اتفقت معهم على ذلك. فأعلن الملك وأقيمت حفلة التتويج يوم 8 آذار سنة 1920 وحضرها ممثلو فرنسا بصورة رسمية. ولم يمض على حفلة التتويج إلا بعضة أسابيع حتى بدأ الأتراك بالتعدي على حدود سوريا فقرر الجنرال غورو أن يوجه إلى الشمال قوة من الجيش الإفرنسي المرابط في الساحل عن طريق الخط الحديد بيروت - رياق - حلب - قطمة وأوعز إلى ممثليه في دمشق أن يطلبوا من حكومة جلالته المساح للجيش الإفرنسي بالمرور في سوريا، فاستدعاني جلالته إذ كنت رئيساً للوزارة، وسألني رأيي فعرضت عليه الموافقة على أن نضم نحن أيضاً قسماً من جيشنا إلى القوة الفرنسية لأن الدفاع عن سوريا يقع في الدرجة الأولى على عاتق السوريين ولولا أن تعدى الأتراك على سوريا يقع في الدرجة الأولى على عاتق السوريين غير كافية لما سمحنا لفرسنا بالدفاع عن بلادنا ولكن فرنسا قد أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن بلادنا كحليفة لنا أو منتدبة علينا فوجب علينا والحالة هذه أن نشكر لها صنيعها ونشاركها في الدفاع بضم قسم من جيشنا إلى جيشها، وربما أدى هذا الأمر في المستقبل إلى حفظ صلاة المودة وروابط الصداقة بيننا. فأظهر سروره لرأيي وارتياحه لفكري. ولكنه أراد في الوقت نفسه أن يستشير بعض رجال السياسة فلما استشارهم أشاورا عليه بعشك ما رأيت وأصروا عليه وتعصبوا لرأيهم فاعتمد رحمه الله على أمانتهم وصدقهم ورفض ما طلبه الإفرنسيون منه فاضطر الجنرال غورو إلى نقل الجيش بحراً إلى شمالي اسكندرون وإلى نقله من هناك براً إلى منطقة الحرب. فانقضى الوقت بدون فائدة ولذلك اضطررت الدولة الفرنسية إلى حل الخلاف بينها وبين تركيا بصورة سلمية على أساس التفاهم فأرسلت معتمدها المسيو (فرانكلين بويون) إلى انقره لينفق مع الأتراك على حسن الجوار فما كان منهم إلا أن أملوا إرادتهم على الفرنسيين فخسرت سوريا بعض بلدان المنطقة الشمالية وتبدل شكل الإدارة في لواء اسكندرون. إن ثقة جلالته برأي الذين استشارهم وإيمانه بصدقهم واعتماده على حسن نيتهم كل ذلك أدى إلى توتر العلاقات السياسية بينه وبين الإفرنسيين. فازدادت العقبات في سبيل تحقيق أمانينا ووصلنا إلى الوضع الحاضر الذي نحن فيه. ثم أن توتر هذه العلاقات السياسية جعل الفرنسيين، توطيداً لنفوذهم في الداخل، يطلبون من

حكومة جلالته تعيين ضباط للمرابطة في الأقضية الأربعة بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا. ولم ينشر هذا الطلب حتى قام رجال السياسة يسعون لدى جلالة المرحوم لإخراج الإفرنسيين من الداخل والساحل بالقوة تأميناً للاستقلال التام الناجز على زعمهم. وقد طلبني صاحب الجلالة في ليلة من ليالي شهر مايس الأول سنة 1920 بعد إعلان الملكية بشهرين تقريباً وكان وقتئذ مقيماً بدار المفوض السامي اليوم فملا دخلت عليه وجدت عنده جماعة من السياسيين وهم يلحون عليه بطلب إخراج الإفرنسيين من البلاد بالقوة. ولما طلب مني رأيي في الأمر ذكرت أنه قبل شهرين عند ما شرحت لجلالته ضرورة التروي في إعلان الملكية كان أجابني بأنه على تفاهم مع الحكومة المنتدبة مما يدل على وجود صداقة متبادلة. فماذا حدث في هذه المدة حتى انقلبت الصداقة إلى عداوة دون علم مني؟ ث قلت له أنه من مقتضى العقل والمنطق أن نقارن بين قوة الخصم وبين قوتنا فنحسب ما يملكه الإفرنسيون من جيوش وأسلحة ومدافع وذخائر وأموال وتعرف من جهة أخرى ما لدينا من معدات وعتا ولكن بعض الحاضرين قام وصاح يقول: أننا سنقدم قبل انقضاء أسبوعين ما يكفي من الأموال ونحشد جيشاً جراراً. ولما كنت أعلم أن مثل هذه الأقوال إنما يقصد منها خداع جلالته وإبهامه حتى يكون وسيلة للوصول إلى غايات خفية ويفسح المجال لتنفيذ خطط مرسومة وبما أني رأيت أيضاًَ أن الفوضى ضاربة أطنابها عزمت على اعتزال اعمل وقدمت استقالتي من رئاسة الوزارة. وقد تألفت وزارة جديدة قائمة على فكرة إخراج الإفرنسيين من البلاد. فأصدرت هذه الوزارة أوامرها بحشد القوات العربية أولاً في مجدل عنجر المشرفة على سهل البقاع ثم ارتأت نقلها إلى ميسلون وهناك التقت القوة العسكرية التي أرسلتها المفوضة الإفرنسية مع القوة العربية وكانت موقعة ميسلون المشهورة عقبها دخول الإفرنسيين إلى دمشق مما اضطر جلالة الملك إلى ترك عرشه بعد البقاء فيه مدة أربعة أشهر فقط. وعلى أثر هذه الحادثة المؤلمة انكشف الستار عن الخطط السرية المدبرة التي كانت ترمي إلى خلق الأسباب لفصل بلاد شرقي الأردن عن سوريا وإلحاقها بمنطقة الانتداب الانكليزي وتشكيل حكومة خاصة هناك كما انتزعت في الوقت نفسه الأقضية الأربعة عن سوريا

وضمت إلى لبنان الذي كان ألحق به قبلا طرابلس وعكار وصيدا وصور ومرجعيون فسمي لذلك الآن بلبنان الكبير ثم أعقب ذلك تقسيم آخر جعل جبل الدروز وجبل العلويين بشكلهما الحاضر. وتدل جميع الظواهر دلالة واضحة على أن الذين وضعوا تلك العراقيل في سبيل المرحوم الملك فيصل حيثما كان يجاهد ويسعى لإعلاء شأن الأمة وتأمين استقلالها ووحدتها - إنا كانوا مدفوعين إلى ذلك بمسائق الجهل أو بإيعاز وتغرير غير عائبين بنتائج أعمالهم الهدامة. ومن الغرائب التي وقعت في ذلك الحين هو أن أعضاء الوزارة التي ألفها المرحوم عند مغادرته البلاد قطعوا له العهود على أنفسهم بانهم لن يأتوا أي عمل دون الاستئذان منه وصدور إرادته بصفته مليك البلاد الشرعي وبأنهم سيسعون جهدهم لإزالة سؤ التفاهم بينه وبين السلطة الإفرنسية معربين عن أملهم القوي في التوفيق لذلك. ولكنهم هم أنفسهم أسرعوا، بينما كان المرحوم لا يزال في طريقه إلى درعا وأمروا متصرف حوران وقائدها أن يبلغا جلالته لزوم مغادرته سوريا في الحال دون أي توقف في درعا وأن يعيدا جميع الأشخاص السوريين من حاشيته إلى دمشق. وأغرب من ذلك وأدعى إلى الأسف الذين كانوا يعيشون في نعمته وتحت ظله لم يتأخروا، عندما شعروا بما وقع بينه وبين الإفرنسيين من سوء التفاهم عن تنظيم العرائض يطلبون فيها من الإفرنسيين إخراج جلالته من البلاد لأنه غريب عنها وفي هذا العمل ما فيه من سوء الأخلاق ودناءة الطبع وقد صدق من قال: اتق شر من أحسنت إليه. وقد غادر جلالة المرحوم درعا إلى مصر ثم إلى أوروبا وصادف آنئذان قامت ثورة خطيرة في العراق ضد الانكليز فطلبت حكومة لندن من جلالته الذهاب إلى العراق تهدئة الثورة فقبل بذلك واقترنت جهوده بالنجاح فنودي به بعد إعادة النظام في آب 1921 ملكاً على العراق. وهناك ظهرت مزاياه السامية وثبتت مقدرته الكبيرة وتمكن في زمن قصير من تأسيس مملكة مستقلة في العراق الذي ارتفع عنه الانتداب أخيراً وأصبح عضواً في جمعية الأمم. أراد، رحمه الله، أن يعيد مجد الأمويين في سوريا فأبت الحظوظ عليه ذلك ولكنها ساعدته

في العراق لإعادة مجد العباسيين. وتجاه ذلك أليس هم السوريين الذين ينبغي عليهم أن يندبوا حظهم؟ وقد ظل جلالته، رغم ما لقيه من المعاكسة في سوريا لا يترك فرصة إلا ويعرب فيها عن حفظة لذكرى هذه البلاد التي كان يقول أنه لا ولن ينساها وأنه سيسعى جهده لخدمتها مهما اعترضه من الموانع وذلك لعلمه بأن سوريا هي قلب البلاد العربية النابض ودماغها المفكر. وقد كان وهو على عرش العراق يعمل جميع ما في استطاعته لإزالة سوء التفاهم بينه وبين الإفرنسيين حتى وفق أخيراً بالفصل لتحسين علاقاته معهم. وكانت فكرة توحيد القطرين من أكبر الشواهد على رغبته وسعيه في خدمة سوريا. وقد حصل التفاهم بينه وبين كبار الساسة الإفرنسيين على هذه الفكرة عندما زار باريس رسمياً في سنة 1931. ولأجل تحقيق هذه الفكرة رأى الطرفان أنه من الضروري المباشرة في تمهيد الطريق وتهيئة الوسائل لها في القطرين. وأخذ جلالته رحمه الله، على نفسه القيام بهذه المهمة في العراق. وعهد بأمر سوريا إلى الرجال السوريين الذين كانوا حوله إذ ذاك في أوروبا والذين كان يظن فيهم الإخلاص والأمانة. على أنه بينما كان هؤلاء يحبذون من جهة فكرة جلالته ويقطعون العهود بالدعوة إليها إذا بهم من جهة أخرى يسعون في سوريا لمعارضتها وبذلك اقترفوا سيئة جديدة لا تغتفر تضاف إلى ما سبق لهم من الأعمال في معاكسة جلالته ووضع العراقيل والموانع في طريقه. كان رحمه الله متشبعاً بالفكرة العربية وروح النهضة وظل رغم الحوادث التي مر ذكرها والعراقيل والموانع التي صادفها يعتري همته الوهن ولا يتسرب إلى قلبه اليأس. لقد كان شديد العزيمة، ثابت العقيدة، قوي الإيمان كبير الأمل يعمل بكليته للوحدة العربية ويسعى لتذليل جميع الصعاب التي تعترض هذه الغاية الشريفة. وكانت جميع أعماله تتم عن إخلاص وجد وحسن نية، وكان يعتبر عرش العراق ليس إلا كواسطة لتحقيق فكرة الوحدة العربية. وإن أنسى لا أنسى اليوم الذي استدعاني فيه جلالته قبل سنتين إلى عمان بعد عودته من

أوروبا وهو في طريقه إلى العراق فلما حظيت بالمثول بين يديه بادرني بتعداد الخطيئات التي ارتكبت في سوريا وكانت سبباً في اعتزال رئاسة الوزارة. قائلاً أنه لا يزال يذكر بألم عظيم قيام بعض زعماء البلاد الذين وضعوا العقبات فطريقه، وإن هذا الألم كان أشد وقعاً عليه من الصدمات التي تلقاها من الغرباء فقلت له أن الحياة دروس وعبر فلا يأس بمثل هذه الصدمات. وقد أجاب على ذلك قائلاً أن الدرس الذي تلقاه في سوريا قد نفعه كثيراً في العراق وأنه يأمل من إخوانه السوريين أن يكونوا بعد الآن على أتم الوفاق والاتحاد واليقظة في أعتمالهم وليعلموا أن الشعب وديمة الله في أيدي زعمائه وقادة الرأي فيه وأن هؤلاء، مسؤولون عن هذه الوديعة التي يجب أن يحسنوا الخدمة لها والاحتفاظ بها حتى لا يقعوا رمة ثانية في هوة سخيفة، ثم صرح جلالته أنه رغم ما صادفه من المعاكسة سيظل يبذل كل جهده لخدمة سوريا وفكرة الوحدة العربية على قدر طاقته. وقبل أن أختم هذه الذكريات أريد أن أقول أن موت فيصل فقدان عظيم للأمة العربية وضربة مؤلمة لأمانيها القومية ويجب أن لا ننسى أنه رحمه الله، كان أعظم شخصية في العرب وأكثر الزعماء نباهة وفطنة كما أصبح بعد ممارسته السياسة ردحاً غير قليل من الزمن ذا حنكة سياسية كبيرة يفضل ماله من الذكاء الطبيعية وقد شهد له كبار رجال السياسة الأجانب أيضاً أنه رجل مخلص وجندي صادق وصديق وفي وسياسي قدير شديد العزيمة كثير الحزم ذو شخصية جذابة. وبهذه المزايا قد استطاع أن يصبح رمز الاستقلال وممثل النهضة العربية ورسول وحدتها وداعية السلام في الشرق. أنه عاش للشعب ومات شهيداً وضحية في سبيل القضية العربية. والألم العظيم الذي أصابني لفقد جلالته يدفعني لدعوة بني قومي إلى الانتباه واليقظة ويجب أن يعلموا أن الأمة العربية حبة لن تموت تطلب منهم العمل بإخلاص وعزم وحزم وجرأة وتضحية في سبيل القضية العامة متمسكين بالمبادئ السامية التي سار عليها المرحوم فيصل والخطط القويمة التي رسمها والقواعد القيمة التي وضعها. وينبغي أن يكون رائدهم مصلحة العرب فقط فلا يخشون إلا حساب التاريخ ولا يعتمدون إلى على الله وعلى

أنفسهم. بذلك تتحقق آمال فيصل الكبير وتطمئن روحه الكريمة في مرقدها الأخير رحمه الله رحمة واسعة وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الركابي وافتح بالشباب من جيلك ... الوثاب عصر المغامرين القشاعم يتفانون تحت راية (غاز) ... عبقري للمجد لا للغنائم الأخطل الصغير

مائة نقلة

مائة نقلة من كتاب نقل الأديب وهو ألف نقلة مقتطفة من ألف كتاب مؤلف محمد إسعاف النشاشيبي حق الطبع والنشر ونقل شيء من هذا النقل محفوظ أهدي مائة النقلة هذه إلى مجلة (الثقافة) 35 - إن حضر فبالأول وإن غاب فبالثاني قال خالد بن صفوان لخادمته: اطعمينا جبنا، فإنه يشهي الطعام، ويدبغ المعدة، ويهيج الشهوة. فقالت: ما عندنا. فقال: ما عليك، فإنه يقدح في الأسنان، ويلين البطن، وهو من طعام أهل الذمة. فقال بعض أصحابه: بأي القولين نأخذ؟ فقال: إن حضر فبالأول، وإن غاب فبالثاني. . 36 - إن الحديث مع الغناء حرام قال أحمد بن علويه الكرماني: حكم الغناء تسمُّع ومدام ... ما للغناء مع الحديث نظام لو أنني قاض قضيت قضيةً ... أن الحديث مع الغناء حرام 37 - سلها تخبرك قولي يا صغيرة قال ابن أبي الحديد: قد يقع الأخبار عن الغيوب بواسطة إعلام ذلك الغيب إنساناً آخر، لنفسه بنفس ذلك المخبر اتحاد أو كالاتحاد: وذلك كما يحكي أبو البكرات بن ملكا الطبيب في كتاب (المعتبر) قال: والمرأة العمياء التي رأيناها ببغداد، وتكررت مشاهدتنا لها منذ مدة مديدة، قدرها ما يقارب ثلاثين سنة. وهي إلى الآن تعرض عليها الخبابا فتدل عليها بأنواعها، وأشكالها، ومقاديرها، وإعدادها، قريبها ومألوفها، دقيقها وجليلها، تجيب على أشر

السؤال من غير توقف ولا استعانة بشيء من الأشياء إلا أنها كانت تلتمس أذيري الذي يسأل أبوها أو يسمعه في بعض الأوقات دون بعض، وعند قوم دون قوم، فيتصور الدهماء أن الذي تقوله بإشارة من أبيها. وكان الذي تقوله يبلغ من الكثرة إلى ما يزيد على عشرين كلمة إذا قيل تصريح الكلام الذي هو الطريق الأخصر. وإنما كان أبوها يقول إذا رأى ما يراه من أشياء كثيرة مختلفة الأنواع والأشكال، في مدة واحدة - كلمة واحدة، وأقصاه كلمتان، وهي التي يكررها في كل قول ومع كل مايسمع ويرى: سلها، وسلها تخبرك، أو قولي له، أو قولي يا صغيرة. قال أبو البركات: ولقد عاندته يوماً وحاققته في ألا يتكلم البتة، وأريته عدة أشياء. فقال لفظة واحدة. فقلت له: الشرط أملك. فاغتاظ وأحتد طيشه عن أن يملك نفسه، فباح بخبيئته. فقال: ومثلك يظن أنن أشرت إلى هذا كله بهذه اللفظة. فاسمع الآن، ثم التفت إليها وأخذ يشير بأصبعه إلى شيء وهو يقول تل الكلمة، وهي تقول هذا كذا، وهذا كذا، على الاتصال من غير توقف، وهو يقول تلك الكلمة لا زيادة عليها، وهي لفظة واحدة، بلحن واحد، وهيئة واحدة حتى ضجرنا، واشتد تعجبنا، ورأينا أن هذه الإشارة لو كانت تتضمن هذه الأشياء لكانت أعجب من كل ما تقوله العمياء. قال أبو البركات: ومن عجيب ما شاهدناه من أمرها أن أباها كان يغلط في شيء يعتقده على خلاف ما هو به فخبر هي عنه على معتقداتها كأن نفسها هي نفسه. قال أبو البركات: ورأيناها تقول ما لا يعلمه أبوها من خبيئة في الخبيئة التي أطلع عليها أبوها، فكانت تطلع على ما قد علمه أبوها وعلى ما لم يعلمه أبوها وهذا أعجب وأعجب. قال أبو البركات: وحكاياتها أكثر من أن تعد، وعند كل أحد من الناس من حديثها ما ليس عند الآخر لأنها كانت تقول من ذلك على الاتصال لشخص شخص جواباً بحسب السؤال. قال: وما زلت أقول: إن من يأتي بعدنا لا يصدق ما رأيناه منها. فإن قلت لي: أريد أن تفيدني العلة في معرفة المغيبات هذه قلت لك: العلة التي تصلح في جواب لِمَ في نسبة المحمول إلى الموضوع تكون الحد الأوسط في القياس. وهذه، فالعلة الفاعلة الموجبة لذلك فيها، هي نفسها بقوتها وخاصتها. فما الذي أقوله في هذا؟ وهل لي أن أجعل ما لي علة علة؟؟؟. . .

38 - قبل أن تكدره الخلائق بأنفاسها كانت امرأة من العرب تأتي بصبيبة لها كل يوم قبل الصبح فتقف بهم على تل عال، وتقول: خذوا صفوا هذا النسيم قبل أن تكدره الخلائق بأنفسها. 39 - وهل اقتتلوا إلا على الخبز والبقل قال البلاذري: قال كثير بن شهاب يوماً: يا غلام، أطعمنا. فقال: ما عندي إلا خبز وبقل. فقال: وهل اقتتلت فارس والروم إلا على الخبز والبقل؟؟!! 40 - أفضل الناس بعد رسول الله أتى شيعي وسني أبا نواس، فقالا: أي الناس أفضل بعد رسول الله فقال: أفضلهم بعده يزيد بن الفضل. فقالا: ومن يزيد بن الفضل؟؟!! فقال: رجل يعطيني كل سنة ثلاثة آلاف درهم. . . 41 - ما الذي نستعمله مما تبيحه الشريعة؟ كان الأمير قرواش ناباً وهاباً جارياً على سنن (العرب) قيل: إنه جمع بين أختين في النكاح فلامته (العرب) على ذلك. فقال: أخبروني ما الذي نستعمله مما تبيحه الشريعة؟؟ 42 - فإذا رقية الخبز أطول منها قال خلف الأحمر: كنت أرى أنه ليس في الدنيا رقية أطول من رقية الحية فإذا رقية الخبز أطول منها (يعني ما يتكلفه الإنسان من النظم والنشر والتآليف والخطب لطلب المال). 43 - أينما كانت انتفعنا بها، ولم يزدني على ذلك فعجبت من عقله. 44 - لم تبلغ قدريتي هذا كله حدث المبرد: أخبرني الميثمي قال: قال رجل لثمامة (القدري، المعتزلي) أنت إن شئت قضى فلان حاجتي. فقال ثمامة: أنا قدري، ولم تبلغ قدريتي هذا كله. إنما قلت. إن شئت فعلت، ولم أقل: إن

شئت فعل فلان. . 45 - لولا الفول لطاروا قال أبو الحجاج البلوي: كنت اقرأ على الحافظ بالإسكندرية جزءاً من تآليفه فمررت فيه بحديث يرويه عن أشياخه عن الشافعي قال: القول يزيد في الدماغ والدماغ يزيد في العقل، وأهل تلك البلاد ينقطون الفاء بواحدة من فوق، وينقطون القاف باثنتين من فوق أيضاً. فلم ألق بالي، وحسبت الفاء قافاً فقرأ: القول يزيد في الدماغ فضحك وكان حلواً ظريفاً، وقال لي: القول يفرغ الدماغ. فقال له: القول عندي في الكتاب. فقال: إنما هو الفول. فاعلمني بمذهبهم في النقط فقلت له: كيف يزيد الفول في العقل، ونحن نقول في بلادنا بخلاف ذلك؟ فضحك وقال: سألت عن هذه المسألة شيخي فلاناً: فقلت له: كيف هذا؟ وطبرستان أكثر بلاد الله فولاً، وأهلها أخف الناس عقولاً. فقال لي: لولا الفول لطاروا. . 46 - دعوني أصف ربي بما يستحقه قال إعرابية في دعائها: يا عريض الجفنة، يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه. فزجرها رجل. فقال: دعوني أصف ربي بما يستحقه محمد إسعاف النشاشبي

المرأة والأدب

المرأة والأدب للآنسة وداد سكاكيني عفا الله عن أبي العلاء المعري حين قال: فحمل مغازل النسوان أولى ... بهن من اليراع مقلمات وليسامحه الله على قوله: إن نشأت بنتك في نعمة ... فألزمنها البيت والمغزلا فقد شاءت طبيعته المتشائمة أن لا يكون للمرأة من المثل العليا إلا هذه الصورة الوضيعة التي يرسمها في مطاوي لزومياته الخالدة، وهي التقلب على فراش النعمة والانصراف إلى تدبير المنزل وشغل فراغ وقتها في حمل المغزل لكي لا تبقى لديها فرصة للتفكير فيما عدا ذلك من قضايا الحياة التي لا بد أن تلمع في ذهنها وتقع في خلدها. والواقع أن المعري كان شديد الحذر م الناس لا يتعفف عن إساءة الظن بأحد منهم، ونحن نعلم أن ظنونه السيئة كانت نتيجة تلك الطبيعة المتشائمة التي استبدت بعقله الكبير فجعلته قاسياً في نقمته على الحياة ينظر إليها بعين السخر والوجل فيراها مليئة بالبؤس والغناء وتطغى في نفسه موجة السخط عليها فينطلق لسانه الذرب بذمها وهجائها والتنديد بزخرفها الباطل، وينكر على الناس تدافعهم للارتماء في بركانها النائر فبوسعهم نقداً وتقريعاً وتهكماً ثم تأخذه الرأفة بهم فيبكيهم في حنو وإشفاق: تعب كلها الحياة فما ... أعجب إلا من راغب في ازدياد كان يرى الحياة بحراً من الدموع تطفو على سطحه سفائن التعس والعذاب وألواح الهم والشقاء وأن الناس ينطوون على قلوب مريضة تزخر بالخبث والطمع والرياء فلا صديق يخلص إليك سراً وعلانية ولا حبيب ينهالك عليك إلا ليقضي حاجة له، بل الناس عنده سواسية لا يفضل بعضهم بعضاً فكل منهم يسعى لنفسه ويحاول جر الماء إلى غرسه ولو أدى ذلك كان يرى الحياة بحراً من الدموع تطفو على سطحه سفائن التعس والعذاب وألواح الهم والشقاء وأن الناس ينطوون على قلوب مريضة تزخر بالخبث والطمع والرياء فلا صديق يخلص إليك سراً وعلانية ولا حبيب يتهالك عليك إلا ليقضي حاجة له، بل الناس عنده

سواسية لا يفضل بعضهم بعضاً فكل منهم يسعى لنفسه ويحاول جر الماء إلى غرسه ولو أدى ذلك إلى إنزال المصائب بالآخرين فيحذرك م الانخداع بمظاهر صداقتهم صائحاً بك: فظن بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن على سر فؤادا وكان طبيعياً وقد امتدت نقمته إلى كل شيء وتناول الدين والدنيا بسخره الممزوج بالشك - أن يصيب المرأة رشاش من تلك النقمة والسخرية فيود أن يحجز عابها في البيت حيث تعمل في مغزلها ويهيب بالرجل أن يباعد بينها وبين القراءة والكتابة. علموهن النسيج والغزل والر ... دن وخلوا قراءة وكتابة فصلاة الفتاة بالحمد والإخ - لاص تجزي عن يونس وبراءة ويظهر لنا من كلامه أن كان يعتقد أن تعليم المرأة مدعاة لفسادها وضلالها وأنه شر يجدر بالرجل أن يتقيه قبل نزوله، وإذا كان لا بد من وقوع هذا الشر فيتول مهمة تعليمها أما شيخ فإن وأما عجوز بالية ليأخذن التلاوة من عجوز ... من اللائي فغرن مهمات ولا يدنين من رجال ضرير ... يعلمهن آياً محكمات سوى من كان مرتعشاً يداه ... ولمته من المنثغمات إذن فدق بلغ منه سوء الظن أنه لم يكن يعتقد العفة بأحد من الناس ولذلك نراه يدعو إلى منع الغلام اليافع من الدخول على النساء إذا بلغ الوليد لديك عشرا ... فلا يدخل على الحرم الوليد وقد لا نفتري على الحقيقة إذا قلنا أن المعري من الشعراء الخالدين الذين تركوا في آثارهم صوراً نواطق بحوادث عصورهم وأحوال بلادهم وأخلاق أمنهم فقد عاش في عصر كان يزخر بألوان الرفه والترف وإحداث التفازع ولا أراني بحاجة لأن أحدثك عن حياة البذخ والترف في بغداد أيام الرشيد وفي عهد من جاء بعده من الخلفاء لأنك عليم بذلك وتعرف أن اختلاط الغارب بالأعاجم وتمازجهم ذلك التماذج الشديد قد أحدث الفوضى في أخلاق الناس وآدابهم العامة، فتسرب شيء غير قليل من الوهن والاستهتار إلى أخلاق النساء حمل بعضهن على خلع العذار، ولا مراء في أن أخبار هذه الفئة الماجنة قد وصلت إلى أبي العلاء وهو في محبسه ووقف بنفسه على بعضها في رحلته إلى عاصمة العباسيين

فكان ذلك بالإضافة إلى طبيعته المتشائمة حافزاً لقوله بحرمان المرأة من طلب العلم والاختلاف إلى مجالس الأدب ومنعها عن الظهور في الشوارع والتشدد في الحجاب. تهتك الستر بالجلوس أما ال - ستر إن غنت القيان وراءه والمعري حين يقول هذا ينظر إلى الصورة التي رسمها للمرأة في ذهنه وأنت تراها صورة مشوهة وضيعة تستحق منه تلك النقمة التي كان يصبها عليها، ولعي لا أظلم هذا الشاعر الفيلسوف إذا قلت أن رأيه السيئ في المرأة هو إحدى هفواته الكبرى، ويكفي للدلالة على فساد نظره وسوء ظنه أن نتذكر جهود الرجل في عصرنا هذا للنهوض بالمرأة إلى المستوى الذي يليق بكرامته وكرامتها على السواء، فهو الذي يمهد لها سبل التعلم والتثقف ويعاونها على تشييد صرح نهضتها الحديثة لتؤدي واجبات الأمومة ومطالب الأسرة وحاجات جنسها على الوجه الأكمل وهل يتسنى لها ذلك كله إذا لم تكن مهذبة مثقفة، وهل الثقافة شيء يعدو دائرة هذه الأشياء؟ وبعد فمالنا ولأبي العلاء الناقم على الحياة والناس أجمعين فمهما تعمقنا في درسه لم نجد عنده مثقال ذرة من العطف على المرأة فلنتركه للمتشائمين فهم أولى به منها ولنعطف على غيره من أدباء العرب الأفذاذ فربما وجدنا حاجتنا عندهم. ذكر الجاحظ في كتابه المحاسن والأضداد في أواخر كلامه على فضلا الكتاب والكتابة ما يلي: قال الزهري الأدب ذرك لا يحبه إلا الذكور من الرجال ولا يبغضه إلا مؤنثهم فهل نفهم أن كان يرمي بذلك إلى الأدب من صناعات الرجال وإن إتقان فنونه وتجويد أساليبه من مزاياهم ومقاصدهم وإنه إذا أعرض رجل عنه فلأن طبائعه محشورة في طبائع النساء وسجاياهن؟ ما أظن أنه قد قصد ذلك وأن يكن هو ما نفهمه من معناه البارز لقد رمى الزهري بالتخنث من مال عن الأدب من الرجال تعييباً وتقريعاً، ولكن الأدب لم يكن قط من حظ الذكور على حقيقته وليس هو مما يقتصر على الرجال كما يقول الزهري إذا أخذنا قوله بمعناه الظاهر، وما ألفينا أحداً من أعلام الأدب المتقدمين والمتأخرين يعيب في كتبه ومصنفاته على النساء نزوعهن إلى الأدب أو ينسج على منوال المعري فيحظره

عليهن وينصح بحرمانهن من التعلم والتفقه فالجاحظ صاحب هذه الرواية يحشو كتبه ومؤلفاته أخباراً عن النساء المتأدبات ويحدثنا بها عن البارعات منهن في فنون الشعر والحكمة والغناء، ولا يستنكف من القول في أواخر وسائله: وسلنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل أن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر. . إذن فهذه الشهادة يدلي بها شيخ أدباء العرب جديرة بالتقدير والاعتبار والحق أنه ليس من الأنصاف أن تهم المرأة في قلة المقدرة والعجز عن الوقوف والرجل على قدم المساواة في إتقان فنون الأدب ومعرفة مداخله ومخارجه والتغلغل في مدابه ومخوافيه. لمعت في ذهني هذه الآراء وأنا أفكر بجهل النساء عندنا أدب لغتهن المجيدة وتخلف المتعلمات منهن في مضمار الإنتاج الأدبي وصدوف الفتيات عن الثقافة العربية وعقوقهن لها، وفي الوقت نفسه تذكرت أن علماء الاجتماع يعزون بلوغ الفردسنام العلم والفضل إلى طبيعة الزمن الذي يعش فيه والبيئة التي يطوي فيها بساط عمره حتى تتفتق أكمام مواهبه فيكون ذلك الأديب النابه أو الشاعر البارع. فالناس في عصر المأمون الذهبي كانوا يتنفسون الأدب الرفيع في كل شيء تقع حواسهم عليه وكانت نهضة النقل والترجمة تضطرهم إلى العناية بأدبهم فكان ذلك موجباً إلى ارتفاع مجد الأدب العربي وتألق نجمه في العصور التي تقدمت فترة الانحطاط. ولقد حدثنا أصحاب الأخبار في ثنايا كثير من المصنفات القديمة. إن إقبال الناس على اقتناء الجواري المثقفات كان أشد منه على الجميلات منهن، وكان ثمن الجارية يقدر بنسبة حظها من العلم والمعرفة وليس على قدر نصيبها من الحسن والجمال. وأبو الفرج صاحب الأغاني ذكر كثيراً من أخبار عنان مع أبي نواس وغيره، وقد كانت عنان هذه جارية الناطفي صديقة للشعراء وكانت من أجمل الناس وجهاً وأحسنهن أدباً وأوسعهن معرفة بفنون الشعر وألوان الكلام. قيل أن أحدهم دخل عليها وكان عندها رجل إعرابي فقال له: يا عم لقد أتي الله بك فقال: وما ذاك؟ قالت دخل علي هذا الإعرابي قائلاً: بلغني أنك تقولين الشعر فأنشديني شيئاً فقال لها: انشديه فقال: قد أرتج علي فقل أنت أولاً فانشد: لقد جد الفراق وعيل صبري ... عشية عيرهم للبين زمت

فقال الإعرابي: نظرت إلى أواخرها ضحيا ... وقد بانت وأرض الشام أمت فقال عنان: كتمت هواكم بالقلب مني ... ولكن الدموع علي نمت كان الأدب في عصر المأمون الذهبي وفي العصور التي تلته يرن صوته في مختلف الأرجاء، يغر أنه لما ضعفت الأمة العربية وتضعضع كيانها السياسي كسد سوق العلم والثقافة وقل أنصار أهل الأدب والمعرفة وتضاءل شأن العلماء، وقد وجد بنيهم. من يستجدي في شعره كابن التعاويذي وابن الخياط الدمشقي وأبي اسحق الغزي القائل: قالوا تركت الشعر قلت ضرورة ... باب الدواعي والبواعث مغلق لم يبق في الدنيا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح يعشق ومن العجائب أنه لا يشترى ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق وهكذا ظل يتفاقم الاضطراب السياسي والأخلاقي حتى أجناح المرأة فتركها خائرة النفس حائرة الروح سقيمة القلب، تبدو في أعمالها رخاوة تشف عن فساد أخلاقها وقد لمس ذلك كله أبو العلاء المعري فإذا بهذا الشاعر البصير الضير يصوره لنا أشنع تصوير وصيحوا بالناس أن جنبوا المرأة تعلم القراءة والكتابة واحجروا عليها في البيت وأشغلوا فراغ وقتها بالنسج والغزل فذلك خير لها من حمل القلم وأبقى. وزبدة القول أن أعراض المرأة في أيامنا هذه عن الأدب يجب أن يعود إلى حال عصرنا فنحن في أوائل نهضة علمية وأدبية قد ذر قرنها قليلاً فإذا مشت بنا الأيام وعم التعليم بين الجنسين رأينا الأدبيات كثيرات، وقد أقبلن على الأدب وتدافعن على فنون وألوانه بلذة وشغف كأسراب الطيور العطاش حين ترد الماء أو تلتقط الحب المذرور. إن الزمن هو صاحب هذه الرهائن. وهو جنان يتعهد مغارس القطن حتى تثمر في منابتها بيد أني أتلمس علاجاً ربما كان ناجعاً وهو ممن يحبب الأدباء الأدب إلى النساء، أن يقربوه إلى مداركهن ويغروهن بالمطالعة الجدية وأن يكتب كثير من الأدباء صور النساء فيه حتى يرين هذه الصور فيدخل الأدب بها على قلوبهن لأن أجمل ما عند المرأة وألذ أن ترى نفسها بمرآة الرجل.

لقد كان عمر بن أبي ربيعة يحبب الشعر إلى قلوب الناس بما ذكر فيه من صورهن وطبائعهن وأحاديثهن وأذواقهن فكان شعره في العصر الأول الهجري ألحان أهل الحجاز ومزاميرهم ومرآة تتجلى فيها حالة المرأة. قيل مرت ظبية، مولاة فاطمة بنت عمران بن مصعب على عبد الله بن مصعب ومعها دفتر تتأبطه فنادها ما هذا معك يا ظبية؟! فقالت شعر بن أبي ربيعة يا سيدي فأجاب: ويحك تدخلين على النساء بشعر ابن أبي ربيعة، أن لشعره لموقعاً في القلوب ومدخلاً إلى النفوس ولو كان شعر يسحر لسكان هو. والأدب في حقيقته وطبيعته لا ينال عنوةً وتكلفاً وكرهاً قال الأستاذ لانسون الأدب لا يعلمه المرء علماً ولا يدرسه دراسة وإنما يمارسه ويحرثه ويحبه فإذا حبب الأدب إلى الفتاة استخلصته لنفسها وتيقظ فيها الشعور بمحاسن الآثار ومقابحها فتتخذه مثقفاً لطبعها ومهذباً لذوقها وهي إذا تعلمت في مستهل دراستها روائع من منثورة وبدائع من منظومة فيها سهولة وجمال وفيها عاطفة ووصف انبسط أمامها أفق الأدب الفسيح واستفاضت في خواطرها لذته ومتعته ونمسرته فتنهل من موارده السائغة ولا ترتوي. ولا بد لأدبنا العربي من علماء يخلصون المحبة له ويعنون بيت الثقافة الأدبية واستهواه النفوس إليها وحينئذ تهواه المرأة وتراه وحده ثقاف عقلها وصقال روحها وفي سموها ورفعتهما جمالها وجلالها. وأي فضل أعظم من فضل العلم والأدب على الناس فقد قال ابن عبد ربه: العلم والأدب قطبان عليهما مدار الدين والدنيا وفرق ما بين الإنسان والحيوان وما بين الطبيعة الملكية والطبيعة البهمية وهما مادة العقل وسراج البدن ونور القلب وعماد الروح. وسأل منصور بن المهدي الخليفة المأمون: أيحسن بنا طلب الأدب؟ قال: والله لأن أموت طالباً للعم والأدب خير لي بأن أعيش قانعاً بالجهل، قال فإلى متى يحسن؟ قال: ما حسنت بك الحياة. ويكفيني المؤونة في ذكر فضل الأدب ما قال ابن الرومي الذي مات وبقلبه حسرة أليمة على ضياع آدابه في عصره: إن امرءاً رفض المكاسب واغتدى ... يتعلم الآداب حتى احكما

ثقة برعي الأكرمين حقوقه=لا حق ملتمس بأن لا يحرما بيروت: وداد سكاكيني

رباعيات جديدة

رباعيات جديدة للشاعر الفيلسوف الزهاوي كنت باسمك اقسم لما بدا لي أن قلبك ملني ... وعلمت أن هناك مالا أعلم أقسمت أن لا أورد اسمك في فمي ... لكنني قد كنت باسمك أقسم قرابة الأفكار إن الغريب يعن فكرك فكره ... أدنى إليك من القريب الزاري ما إن رأيت قرابة تدنى الفتى ... من غيره كقرابة الأفكار في الكرّ إذا حال عجز المرء دون انتقامه ... يحاول بطشاً بالمسيئين في الفكر لعلك من فرسان قوم إذا دعت ... وغى ركبوا متن الخيالات في الكر الراعي والذئاب لا يخاف الراعي ذاباً تعاوى ... من بعيد ملحة في الطواف إنما خوفه إذا الليل أدجى ... من ذئاب تندس بين الخراف حتى أموت انقضت ظهري الحياة فلا أد - ري متى أرمي عبئها المقوتا سأقاسي الشقاء ما دمت حيا ... وأذم الحياة حتى أموتا إلى ثم إلى اسألي الناس يا حقيقة إن ... يحموك ممن يجيء فيك فريا وإذا ما يئست منهم جميعاً ... فتعالي إلي ثم إليا رفعت مذودتي نقدت قريضي ثلة ... لا تعرف الأدب اللبابا فرفعت مذودتي أذب بها=عن الأدب الذبابا بغداد:

جميل صدقى الزهاوي

صلاح الصبح

صلاح الصبح لمارى عجمي هلل الروض للصباح وكبر ... ياله شاعرا تغنى فاكسر هب والدهر في الغلالة يشدو ... ما احيلى الصباح - الله أكبر صاح وافق مواكب النور تجلى ... زاهرات لها القصائد تتلى أين ما شع من ضياء الثريا ... كوكب الصبح؟ هل توارين خذلا شهد الفجر أرودع الآيات ... إن حب النهوض سر الحياة فار العزم قم من النوم وانظر ... إنما الفجر معرض المعجزات من زهور تفتحت أقماراً ... ونجوم تضمنت أسراراً ودموع أسألها الفجران ال ... بين صعب ولو عهوداً قصاراً ما ترى الأزرق الخضم يبين ... يعتريه عند الشروق سكون صالح طالت يد الزمان علينا ... فمتى يا صبح الأماني تكون ما لخضر الظلال في النهر نشوى ... تتهادى ما بين بث وشكوى هل غدا الماء في الجداول راحا ... أم أمال النسيم عطفك نجوى أخلع النعل فالمكان محرم ... مال المصلى منه بأنقى وارحم فهنا الطل للجبين وضؤ ... وهناك الصفصاف صلى وسلم وزكاة الرياض ظل وخمر ... وخفيف الأوراق آي وذكر وثغاء القطعان في الحقل شكر ... وأريج الريحان طي ونشر وهتاف الورقاء أذكى تحية ... تغمر الأفق بكرة وعشية أين ورقاء هل تساوى هديل ... كان شجواً أو نشوة سحرية هل صدود الحبيبي يعني اتصالا ... بحبيب سواه ما القلب مالا وإذا لم يكن من البين بد ... فعلام السهاد يمسي اكتحالا وكذا العمر يقظة ورقاد ... ورجاء وخيبة وجهاد غير أن الأنوار أقوى نفوذا ... في ظلام تحوكه الأضداد يا حبيباً سبى العقول هداه ... وجزيلاً في العالمين فداه

كلما ردد اسمك العذب ذكر ... رجع القلب في الخفاء صداه أنت تجلو عن العيون الظلاما ... أنت تذكي نفوسنا الهاما أنت أوحيت بالعبادة شعراً ... وأقمت الهزار فينا أماما أنت أودعت في القلوب لهيباً ... وبعثت الجماد زهراً وطيباً من لتلك الأسرار غير صباح ... كنت منا يارب فيه قريبا

الكحول

الكحول كلمة (الكحول) بمعنى السبيرتو كيف تولدت في اللغة العربية للأستاذ المغربي كان عرب الجاهلية يعرفون (النفط) ويطلون به أبلهم الجربى كما يطلونها بالقطران. والنفط سائل معدني عرفوه الأقدمون ممزجاً بالشوائب ولم ينعموا تصفيته كما أنعهما أهل زماننا وهو الذي سميناه بالكاز وبزيت الكار وبالبترول. والبترول كلمة إفرنجية مركبة من (بترو) بمعنى صخر و (أويل) بمعنى زيت فمعنى الكلمتين زيت الصخر أو الزيت الحجري لأنه يتفجر من بين الصخور والأحجار. وعرف أبو حنيفة (اللغوي) النفط بقوله (والنفط حلابة جبل في قعر بئر توقد به النار). يريد أن يقول أن النفط سائل يتحلب من مرتفعات الجبال ويتسرب إلى قرارات الأرض فيستنتقع فيها حتى إذا امتلأ مكانه تفجر وخرج ينابيع بنفسه أو أخرجه الناس بالحفر كما يفعلون اليوم. وكان الأقدمون يستعملون النفط في إيقاد النار كما قال (أبو حنيفة) ويسمون الأرض التي يوجد فيها النفط (نفاطة). وكذا السراج الذي يوقدون به النفط الاستضاءة سموه نفاطة. وليس هذا فقط بل إنهم اتخذوا إناءً من نحاس يوقدون به النفط ويلقونه على العدو كما تطلق المدافع اليوم. ويسمون ذلك الوعاء أو المرماة النحاسية (نفاطة) أيضاً. ويظهر أنهم كانوا يستعملون النفط علاجاً فقد قال صاحب القاموس (والنفط محلل مذيب مفتح للسدود والمغص قتال للديدان الخ. .). وكل هذا لا يهمنا وإنما يهمنا أن نعرف كيف اهتدى عرب الجاهلية إلى وضع كلمة (الكحيل) التي حرفت (الكحول) للدلالة على المادة الكيماوية التي تسمى بالإفرنجية (سبيرتو) - أولئك العرب الذين كانوا يراقبون الأشياء التي تقع تحت حواسهم بيقظة وانتباه ثم يميزون بين خصائصها ويضعون لكل شيء ذي صفة خاصة به اسماً يناسب تلك الخاصة ومهما كثرت الأشياء وتعددت الخواص فأنهم واجدون لها من لغتهم الخصبة الطيعة كلمات للدلالة عليها.

وهكذا هم أزاء النفط مذ وجدوا بعضه سائل أبيض وهو أحسن أنواعه وبعضه سائل أسود بسبب امتزاجه بشوائب زفتية سوداء وقد تتراكم هذه الشوائب وتتكلل فتخرج النفط عن رقته وسيلانه فيصبح غليظاً خائراً يسيل بصعوبة أو لا يسيل قط فيسمونه حينئذ زفتاً أو قاراً أو قيراً. وكما كان العرب يستعملون الفطران في شفاء جرب أبلهم استعملوا النفط السائل أيضاً. فكان أحدهم يتناول قليلاً منه ثم يصبه بلباقة على نقبة بعيره (يعني على كثرة الجرب التي ظهرت أول أول في جلده) كما يصب الكحال الكحل في العين الرمداء ولا يلزم أن يكون الكحل مسحوقاً بل يكون سائلاً أيضاً فقد قال صاحب (المحكم) الكحل كل ما وضع في العين يشتفى به. فلما استعمل العرب (النفط) علاجاً للنقب أو لبئور النقب كالعيون في جلود أبلهم وأوا في النفط كحلاً نافعاً ككحل العيون فلم يرضوا أن يحافظوا على اسمه القديم وهو النفط بل وضعوا له اسماً جديداً باعتباره كالكحل فقالوا (كحل) وأدخلوا عليه لام التعريف حتى كادوا لا يستعملونه من دونها فقالوا (الكحيل) قال القاموس وشارحه (والكحيل كزبير النفط يطلي به الإبل للجرب وهو مبني على التصغير لا يستعمل إلا هكذا). وقال صاحب لسان العرب ما نصه (والكحيل مبني على التصغير هو الذي تطلى به الإبل للجرب لا يستعمل إلا مصغراً. قال الشاعر (مثل الكحيل أو عقيد الرب) أهو قوله مثل الكحيل الخ أي كالنفط أو كمعقود الرب. إذن صار للنفط اسم جديد في اللغة العربية وهو (الكحيل) وقد جاءته هذه التسمية من كونه أسود ككحل ألا تمد الذي اشتهر بسواده أو من كونه تعاج به بنور الجرب فيكون كحلاً لها ككحل العين الذي يكون مائعاً كما يكون مسحوقاً. قال القاموس وشارحه (والكحل كزبير النفط يطلي به الإبل للجر بوهو مبني على التصغير لا يستعمل إلا هكذا). وقال صاحب لسان العرب ما نصه (والكحل مبني على التصغير هو الذي نطلي به الإبل للجرب لا يستعمل إلا مصغراً. قال الشاعر (مثل الكحل أو عقيد الرب) أهـ - قوله مثل الكحل إلخ أي كالنفط أو كمعقود الرب.

إذن صار للنفط اسم جديد في اللغة العربية وهو (الكحل) وقد جاءته هذه التسمية من كونه أسود ككحل الأثمد الذي اشتهر بسواده أو من كونه تعالج به بثور الجرب فيكون كحلاًَ لها ككحل العين الذي يكون مائعاً كما يكون مسحوقاً. . ثم على تمادي الأيام أصبح (الكحل) من اسمه النفط وتنوسى فيه سبب الوضع والتسمية. وقد تخطى العهد الجاهلي والعهد الأموي حتى بلغ عهد العباسيين الذي اشتغل فيه علماء العرب بفنون الطب والفلك والكيمياء والتجارب فيها وبلغوا من هذه العلوم مبلغ الاكتشاف من ذلك اكتشافهم مادة كيماوية سائلة بيضاء اللون تشتعل بسرعة ولما رأوا هذه المادة تشبه النفط الأبيض النقي أطلقوا عليها اسماً من أسمائه المعروفة في الجاهلية وهو (الكحل) وصاروا في كتبهم الكيماوية يستعملون كلمتين كلمة (النفط) مريدين بها الزيت المعدني المعروفة وكلمة (الكحل) مريدين بها مادتهم المكتشفة الجديدة. ووصلت كتب العرب في الكيمياء إلى علماء الإفرنج فعرفوا لهم فضلهم في اكتشاف هذه المادة العجيبة النفع وقد سموها هم (سبيرتو) لكنهم مع هذا رأوا من وفاء الذمم أن يحافظوا على اسمها العلمي العربي الذي اصطلح عليه كيمايو العرب وهو (الكحل) لكنهم حرفوه إلى ما يناسب وطانتهم فقالوا (الكحول) أو (الكؤول). وخلاصة القول أن علماء الكيمياء العرب سموا روح (السبيرتوا) باسم من أسماء النفط وهو (الكحل) وذلك مذ رأوا الشبه تاماً بينهما من جهة البوعة وبياض اللون الضارب إلى زرقة أو صفرة وقابلية الاشتعال. أما الذهاب على أن الكحول في كتب الإفرنج محرفة عن الغول الواردة في قوله تعالى في صفة الآخر لا غول فيها فهذا يستدعي أن يكون كيمايو العرب استعملوا في كتبهم كلمة الغول القرآنية ثم أخذها الإفرنج عنهم ورأوا عليها حرف الحاء فقالوا الفحول ثم الكحول مع أن العرب لم ينقل أنهم استعملوا كلمة الغول بالغين كما أن الإفرنج لا يوجد في لغاتهم حرف الحاء فضلاً أن يخترعوها ويدسوها في كلمة الغول. المغربي

فلسفة سبينوزا

فلسفة سبينوزا قامت الجامعة العبرية الفنية في القدس خلال العام الفائت بإحياء ذكرى الفيلسوف سبينوزا لمرور ثلاثة قرون على ولادته، كعظيم من عظماء الأمة اليهوندية رفع اسمها عالياً في كل ناد تشع فيه أنوار الحكمة وتسيطر على نفوس أبنائه موحيات العقل. ولكن الرجل المفكر ملك للإنسانية جمعاء. سبينوزا هو أحد أولئك العظماء الذي تنكشف الغلائل عن سر عظمتهم كما تقادم العهد وكرت السنون. وقد تضاربت آراء معاصريه فيه ولم يشعر بعظمته وقوته غير الخاصة فبعضهم كان يعتبره عالماً في البصرات وأستاذاً محققاً يتصف بالزهد الذي يلازم أرباب التحقيق وآخرون كانوا يتميزون من الغيظ إزاء ماديته وإلحاده ويبنون بين جمهرة قرائه شروحاً غامضة لفلسفته ولذا كان العصر الذي عقب وفاته عصراً امتلأت فيه النفوس بالنقمة عليه ولم يعمد فيه المفكرون إلى دراسة آرائه وتمحيصها بهدوء، فهيوم الفيلسوف الإنكليزي، مثلاً، كان يكثر من الكتابة عن المشاعر التي جعلت سبينوزا ممقوتاً وعن فرضيته المخيفة. والإثم الذي اقترفه سبينوزا - في نظر أولئك الناقمين - ناتج عن إنكاره للأسباب النهائية والمقاصد التي تعزى إلى الطبيعة، وخلود النفس، وحرية الإرادة والمسئولية الخلقية في معناها العادي الشائع. ولقد حسبوا هذه الآراء مادية صرفة وجحوداً إيجابياً مخيفاً بزج الإنسانية في بحران روحي، وزاد في نقمتهم أن فيلسوفنا كان يرى في الله والطبيعة اسمين لمسمى واحد، وكان يعتقد أن جميع الأشياء التي يراها الإنسان صالحة أو طالحة، نبيلة أو دنيئة هي أجزاء لا تنفصل عن الكل الإلهي. وفي ذلك يقول، إن الفكرة التي تقول بأن ثمة حوادث تجري خلافاً لإرادة الله وأن بعض رغباته لا تتحقق، أو أن ذاته منطوية على نزعات تشبه ما يختلج في نفوس أبناء الغناء، إذ يعطف على أشياء ويمقت أخرى هي فكرة خاطئة تسبغ على الآلة كل صفات النقص وقد أضاف إلى ذلك في موضع آخر قائلاً ليس في الطبيعة جمال ودمامة أو نظام وفوضى. بل صور وصفات تعكسها مخيلتنا. هذه النظرة الشاملة التي تمثلها (البانته ثيزم) أو وحدة الوجود رفعت شأن سبينوزا في عيون شعراء الإنكليز المثليين ك - (شلي) و (وورد سورث) ولفيف كبير من إبداعي (رومانتيكي) الحرمان، ذوي النفوس الشاعرة الطليقة المولهة بحب الطبيعة حتى أن

زعيمهم (نوفاليس) كان يدعو سبينوزا (ثملاً بالله). وقد رأت تلك النفوس (الفاوستية) الظامئة في العلم بالمفهوم النسبي لفكرتي الخير والشر خلاصاً من وساس الشك. فطفل الحضارة الذي يحبو يمكنه أن يتخلص من ولادته الحيوانية ليعيش كما تلهمه الطبيعة فيكتسب سعة في التأمل تجعله حراً في تفكيره مستقيماً في نظرته. ولقد يظن البعض أن التحرر من قيود التقاليد هي النعمة الوحيدة التي حبتنا إياها نظرية سبينوزا، وهذا خطأ إذ أن (البانته ثيزم) أو وحدة الوجود ولدت في أرباب الفكر روحاً جديداً وأظهرت لنا أن الإنسان البعيد النظر المتجرد عن الأنانية الضيقة يجتاز نطاق الخير والشر الإنسانيين إلى الضرورة السامية التي يرى فيها مقياساً رفيعاً يتفوق على ذينك الاعتبارين المحدودين. ومن الواجب الاعتراف بأن الكون ليس إنسانياً، وأن كينونة الإنسان هي كينونة نسبية. دع الإنسان يعمل للتغلب على الفزع الذي يعتريه حين يفكر في (تناهيه) فتصبح فكرة التناهي مقهورة، سلسة القياد. وثمة جزء من نفسه يتصل باللانهاية فيكتسب منها دستوره الذي يتحكم في كيانه. إن الميزة الرفيعة التي يتجلى بها الإنسان هي مقدرته على احتقار نفسه فإذا أدرك هذه الدرجة السامية فقدت الأشياء التي يراها لونها الحالك المشؤوم بالرغم من احتفاظها بشكلها وتأثيرها الماديين. وفي هذه الحال يرتبط الجزء العقلي والجزء الديني في الإنسان بروابط السلامة ووشائح القربى مع الكون. لا ترتكز هذه الأحكام الذي قد تبدو متناقضة على شيء من سوء الفهم لأن فلسفة سبينوزا، بالرغم من طابعها العقلي الخاص الذي تتسم به تبدور دائماً في مظهرين مختلفين لصنفين من الناس، ولكي نلمس سر هذا المظهر الثنائي وجب علينا أن ندرس الآثار العنصرية والعقلية التي تسلسلت إليه بالوراثة وأن نستعمق في تفهم مزاجه واتجاهه الذهني في ميدان التأمل. كانت حياته بسيطة قصيرة تتفق مع مذهبه الذ يرى في الأشياء المتفرقة مظاهر ضئيلة إذ تقارن بالكون الشامل. ولد في أمستردام سنة 1362 من أبوين يهوديين من أفراد الجالية البرتغالية المنفية، وعندما بلغ العشرين من عمره، أصدرت الهيئة الدينية اليهودية أمراً بحرمانه من إجراء الطقوس المعتادة ودخلوا المعابد واختلاطه بأبناء دينه، بسبب الأفكار (الضالة) التي بثها وخلاصتها: أن الله هو الكون الشامل، وأن الملائكة هي أشباح وهمية

مركزها في المخيلات المريضة، وأن التوراة لا تتضمن أية إشارة لخلود النفس. ولما وجد نفسه منبوذاً من الجمهير الجامدة وأدعياء المعرفة أخذ يشتغل ويقتات من صقل عدسات المجاهر والآلات البصرية، وينمي ملكاته ومواهبه ويزيد في معلوماته حتى أصبح محققاً نهابهاً هل الأنظار والأسماع وقد بنى فلسفته على ثلاث دعائم (1) اليهودية العقلية (2) منهج ديكارت (3) ومذهب (هوبس) في السياسة. ولما دعته جامعة هيدلبرغ لتدريس الفلسفة فيها أبى واستنكف محتفظاً بحريته التامة بأوقات فراغه يتصرف بها كيف يشاء، وآثر أن يعيش عيشة القناعة والانفراد بعيداً عن سخف الناس وهذرهم. ولكن هذا لم يكن حائلاً دون تعرفه على كثير من الأفراد النابهين الذي شاركوه في نزعته العقلية فكان في علاقاته يهم محدثاً لبقاً ووطنياً مخلصاً وجاراً ودوداً يشيد دائماً بذكر السعادة التي تملأ جوانب نفسه وهي سعادة حقيقة تصدر عن إيمان عميق. في ركن من بيت الطبيعة العظيم أقام، شاعراً بوضاعة الإنسان، راغباً أن يؤدي به هذا التأمل إلى الهدوء وراحة البال. كان هذا البيت العظيم معبداً يقدس فيه مظاهر العظمة والنظام الدقيق غير حالم بإصلاحه أو زيادة شيء عله لا يقبل التحيز فيه. وكان يعمل في تنفيذ الواجبات الواقعة على عاتقه والسرور يملأ قلبه. ولم يك هذا السرور عاطفة جامحة بل إدراكاً نيراً وحصافة لا يقطع مجراهما إلا الموت. ونحن نلمس هذه التقوى الشاملة التي تصطبغ بها حياته في كثير من العبارات التي تتضمنها مؤلفاته موصوفة بجرأة التفكير لا يمازجها اعتقاد بوحي غيبي. وهذه العبارات لا تصدر عن غاية خفية سيئة أو عادة راكدة مستقرة في ثنايا النفس بل هي دليل ناصع على شعور منظم وعقل دقيق. لا جرم أن انتماء سبينوزا على اليهودية بهذا الوضع الغامض قد أثار اهتمام المحافظين من المذاهب الأخرى لا سيما المسيحيين الذين عاصروه، وليس هذا فحسن، بل إن انفصاله عن الهيئة الدينية اليهودية كان مما دعا إلى استقلاله في حياته وتفكيره ومهد أمامه كل سبيل لدراسة الفكرة والتقاليد العبرية التي كانت مجهلة لدى الكثيرين من كتاب عصره وهكذا أصبح سبينوزا أول واضع لتفسير التوراة التاريخي أونقده العالي. وليس من السهل أن ندرك تأثير هذه الدراسة في عقل سبينوزا. وإن نفيس بالنطاق الذي يصل إليه إحساسه

الديني من جرائها، فهو قد جاء بآراء كثيرة لا تزال سائدة بين كثير من الباحثين، كرأيه في المصادر التي استقت منها أسفار موسى الخمسة في التوراة، وتبيانه للحدود الإنسانية الانتربوومورفيه فيما كتبه بعض القديسين وأظهروه من فكرات وميول متباينة. ولكنه كان يتكلم ويكتب في بعض الأحايين بلهجة تم عن قبول للتقليد وإيمان بالنقل. فهو يفرض دون جدل أن الكتاب المقدس كلمة الله وأن اليهود شعب الله المختار وقد وصف المسيح بأسلوب غريب في صدوره عن يهودي ومفكر حر فقال وليس المسيح نبياً فحسب بل هو لسان الله الناطق أرسله للعنصر الإنسان كله لا لليهود فقط. وليس من الموافق أن تقتصر دعوته على إرضاء الفكرة اليهودية والاندماج بها، بل على الاستجابة للفكرة والتعاليم الرئيسية التي تنتظم الإنسانية جمعاء بها - فتؤدي هذه الدعوة إلى استقرار الأفكار الشاملة الصادقة في أذهان البشر. ولكن البصير يلمح وراء هذه اللهجة الورعة الظاهرة غاية فلسفية تدل دلالة صادقة على أن سبينوزا إنما يعمد في قوله السابق إلى الغوص في أعماق العقل بعيداً عن ملابسات الوحي وغوامض الإلهام. وفي هذا لم يستطع أكثر النقاد المتأخرين ميلاً إلى الإصلاح من التفوق عليه. وليس الآلة في نظر سبينوزا سوى هذا الكون الشامل في امتداده وسائر تفاصيله، ولذا فعل الله ليس هو الله نفسه، بل صفة من صفاته ومظهر من مظاهره منتشرة في المكان وملابسة للزمان. بل هي هذا الوعي الذي ينفذ إلى كل شيء فيملؤه حياة وقوة وقولنا أن عقل الله قد تجلى لموسى أو ظهر في المسيح كقولنا أن روح الموسيقي قد تجلت لباخ أو لبيتهوفن ليست النبوى سوى فكرة تخيلية، والخيال لا يكون صادقاً إلا إذا قادته البصيرة إلى التنبؤ عن اتجاه الحوادث المرتبطة بالطبيعة بأوثق الأواصر وأوضحت له المبادئ الخلقية الملائمة لتطور الجماعة وكل ما في الكتاب المقدس من قوة - في نظر سبينوزا - يعزي إلى مبادئ الفضيلة الحقيقة التي ضمها بين دفتيه. وما نسميه منحة من الله إنما هو رغباتنا ومطامحنا التي نصبو إلى تحقيقها ونتمكن من الحصول عليها بأنفسنا. أما المعجزات فهي حوادث خارقة تلائم ظروف الدعوة وتلابسها وأسبابها الطبيعية المعقدة تحمل الأفهام الضيقة على النطوح في مهاوي الخدس ودياجير التأويل وقد حالو سبينوزا أن ينجز العمل الذي بدأ به الأنبياء بعد أن عمد إلى تفسير تعاليمهم وأصبح نبياً ذا رسالة.

ولقد أراد أن يبث مبدأ التسامح الواسع بين الأمم والطوائف الكبيرة مشيراً إلى الينبوع المشترك للإلهام والتفكير، ولسبينوزا تفسير لمبادئ الحرية على أعظم من جانب من الدقة ونفاذ البصيرة، فقد قال وعندما تغدو الأعمال أساساً ترتكز إليه المحاكمات الجنائية، ويسمح للآراء والكلمات أن تصبح طليقة حرة يتجرد الشر الحقيقي من كل صور التزكية والتبرير الظاهرة ويتفصل عن المناقشات المجردة البريئة بحاجز صفيق. إن الباحث الذي يدرس آراء سبينوزا السياسية في نور الفكرة الديمقراطية الحديثة يراها لأول وهلة شبيهة بآراء نتشه في إرادة القوة كما أن معاصريه كانوا ينعتونها با لمكبافيلية غير أن دفاعه عن المبدأ الذي يستند إليه الحق - في نظره - خلو من كل أثر للميول الاستبدادية الارستقراطية بالمعنى الشائع. وهو في كل أقواله يستمد المواد الأولية من التاريخ الطبيعية وفي ذلك يقول حاولت أن استخدم الوسائل الرياضية في استقصائي لأسباب هذا العلم الخفية، فبذلت جهدي بالابتعاد عن السخر من الأعمال الإنسانية والنواح عليها، أو الإشادة بذكرها أنظر إلى العواطف المختلفة كالحب والبغض والغضب والحسد والطموح والشفقة وجميع خوالج النفس في ضوء النقائص التي تتصف بها الطبيعة الإنسانية بل كخواص لا صفة بها لصوق الحرارة والبرودة والعاصفة والرعد وما شابهها بالطبيعة الجوية بواسطتها أن نفهم طبيعتها، وحينما ينظر إليها العقل نظرة مستقيمة مضبوطة يشعر بغبطة مماثلة للغبطة التي يشعر بها في فهمه للأشياء التي تتناولها الحواس المختلفة، ويقول في موضع آخر أن قانون الطبيعة الذي درجت البشرية في كتفه، ولا تزال تحت خطاها مستظلة بظلاله ليس سداً مانعاً تصطدم به الرغبات الإنسانية أو معاكساً للبغض ليست هي القوانين العقلية الإنسانية التي ترمي إلى المحافظة على كيان العنصر الإنساني وتتوخى فائدته ومنافعه الخاصة بل هي قوانين أخرى لا نهائية تؤلف النظام الخالد للطبيعة الشاملة، وليس الإنسان في هذه الطبيعة وتركيبها الدقيق سوى ذرة ضئيلة للغاية. وتقضي الضرورة التي يستلزمها هذا النظام أن يصبح وجود الأفراد وعملهم محدودين. ولذا فكل شيء نراه مضحكاً وسخيفاً أو شرير في الطبيعة إنما هو كذلك لأن معرفتنا للأشياء هي معرفة جزئية، ولأننا نجهل ارتباط أجزاء الطبيعة بعضها ببعض لكل شامل، ونود أن نرى الأشياء منظمة بموحيات عقولنا، مع أن ما يراه عقلنا شراً لا يكون

شراً بالنسبة لقوانين الطبيعة الكبرى بل بالنسبة لقوانيننا الشخصية. يمكن للاهوتي أن يرى في تضاعيف هذه العقيدة فكرة عقلية علوية تتفوق على التفكير الإنساني العادي، ووجهاً للمشابهة بينها وبين نظريته المتفائلة ولكنه لا يعبر فيها على ما يكمن في نظرته اللاهوتية من سفسطة وأكاذيب لطخت الضمير الإنساني لأنها تظهر لنا بكل جلاء نسبة الخير والشر إلى المنافع الخاصة المحدودة ولا تحاول أبداً أن تجعل الشر النسبي خيراً مطلقاً والفارق الرئيسي بين الخير والشر ينعدم بدون ريب، في القياس المطلق، لا جرم أن ثمة كائناً لا يتناهى، وراء منافعنا الإنسانية ومثلنا المحدودة، وهذا الكائن يراه العقل المتأمل متحلياً بصفات السمو والرفعة، لأنه عظيم، ولكن هذه العظمة ليست خلقية إنسانية ونعتها بالخير ليس هو الحق الأسمى بل تخويف وهذيان. لا يعرف اللامتناهي ضرورة ولا يخضع لقياس. يقول سبينوزا لا حق لإنسان أن يلوم الآلة لأنه يحوز على جسم مريض أو نفس ضعيفة، وكما أن من السخف أن تشكو الدائرة أمرها إلى الله لأنه لم يزودها بخصائص الكرة أو بتأفف الطفل المصاب بالحصاة المثانية لأن الله لم يهبه جسداً صحيحاً، كذلك لا يمكن لإنسان ضعيف في عقله أن يلوم الله لحرمانه من الخلق القوي والمعرفة الصحيحة ومحبة الله، أو لأن طبيعته ضعيفة لا يستطيع لإزاءها أن يقمع شهواته أو يخفف من حدتها. إذ كل شيء حادث في الطبيعة يصدر عن سبب خفي ملائم له، وليس من الموافق أن يحوز كل إنسان على نفس عظيمة، وعقل نادر أو جسم صحيح. ولا يستطيع امرؤ أن ينكر هذا إلا إذا تغاضى عن التجربة وابتعد عن نطاق العقل. وأنت قد تقول أن البشر الذين يخطئون طبقاً لطبيعتهم معذورون ولكنك ملزم على إيضاح هذا القول. فهلا يغضب الله لفعلتهم؟ وهل استحقوا هذا الامتياز بعلم الله ومحبته فإن كنت تعني الأولى فأنا متفق معك بأن الله لا يغضب وأن كل شيء يجري بأمره. ولكنني أنكر أن يكون الناس سعداء دائماً في هذه الحالة. قد يعذر الرجل ولكنه قد يفقد مع ذلك سعادته ويعاني العذاب ألواناً. والرجل الذي يجن من عضة الكلب معذور، ومع ذلك فموته من الاختناق أمر طبيعي. والإنسان الذي لا يقوى على كبح جماح عواطفه ولا تقييدها بقانون معذور لضعفه النفسي ولكنه يظل غير قادر على التوفيق بين روحه وروح الله ومعرفته ومحبته ويبقى خاسراً

طيلة حياته. قد تبدو هذه الأقوال قاسية للرجل الذي دق إحساسه ورقت مشاعره حتى فقد كل تماسك ضروري للفهم المنطقي، ولكنه لا يستطيع إنكار صحتها أمام ظواهر التاريخ الطبيعي العلمية، لا سيما في هذا العصر الدرويني الذي تسيطر فيه روح المنافسة على جميع مناحي الحياة، فالشيء الذي يظفر بالبقاء في ميدان التنازع، حقيق بحيازة الفوائد الضرورية لكيانه، ومتى حاز عليها امتلك ناصية الحق. هذا وجه من فلسفة سبينوزا مزج فيه الأخلاق بالفلسفة الطبيعية وسنعود في مقال آخر إلى معالجة الوجوه الأخرى. صلاح الدين التقي المحايري

صيف في أوربا

صيف في أوربا إلى مجلة الثقافة بقلم الأستاذ جان غولميه تعريب كاظم الداغستاني 21 حزيران سنة 933 بيروت غادرت الشواطئ السورية على الباخرة ليمنوس وهي باخرة يونانية صغيرة جذابة وليست بالوسخة كثيراً. ولقد أقلعت في موعدها تماماً وساعة المساء تدق العاشرة وكانت الأضواء تتلاعب فوق مياه المرفأ الكثيفة فتتراجع منعكسة على صفحاتها بألف شكل. واجتمع نواتي الباخرة ليمنوس حول آلة للحاكي تردد معزوفة من نوع التانغو الإغريقي الشجي، ولا أدري إذا كانت هذه الموسيقى المضطرمة المحزنة هي التي أثرت في نفسي، ومهما يكن الأمر فإني أرحل عن بيروت وبين جوانحي من الكآبة ما لم أشعر بمثله من قبل. لقد فارقت سورية مرات عديدة دون أن يترك الفراق في نفسي ما تركه الآن وهذه هي المرأة الأولى التي أغادر معها هذه البلاد وكأني أغادر بلدي الذي ولدت ونشأت فيه تاركاً بين ربوعه شطراً من نفسي كما قال شاعر قديم. 23 حزيران: حيفا شاطئ جاف لا شجر فيه. شمس وذباب وسآمة. يشكو البحارة في المرفأ من كثرة اليهود المهاجرين الذين أخذوا يفدون من البحر زرافات بعد الحوادث الأخيرة في ألمانيا. لقد كان أحد هؤلاء البحارة فيما مضى جندياً في سوريا في جيش الملك فيصل ولقد تكلمنا معاً عن مدينة دمشق التي هي في نظره أجمل بلاد العلم. 23 حزيران: بور سعيد لقد عدت ورأيت في بور سعيد حركة المرفأ الذي تلتقي فيه شعوب العلم وشناعة تلك المدينة المحددة المخططة التي لا ماضي لها. تنتشر في شوارعها رائحة المقليات الحقيرة وتبدو لناظرها وكأنها أصدق صورة لمدن البحر الأبيض بذلك المخصوص الذي تتمشى متسللة في جوانبه عنزاته الناحلات. وهو حي يحظر على جنود صاحب الجلالة البريطانية الدخول إليه كما نصت على ذلك الإعلانات المعلقة على مداخله. شمس محرقة وحدائق

غناء ذات أشجار مثقلة بأزاهير وعناقيد أرجوانية. وعلى الشاطئ قامت منازل تحيط بها جنائن صغيرة تذكر الناظر بما في منازل أرياف المدن الإنكليزية من رفاه وراحة. على أنه ليس هنالك كما في كل مكان من هذه المدينة إلا السآمة والضجر. 27 حزيران: أثينة ها هي اثينة أمامنا بعد أن عبرنا البحر مارين بجزائر سيكلادس. مدينة بديعة بنيت على قياس وانتصبت أنيقة لبقة. حتى أن سمائها ليس فيها تلك الزرقة الغامقة الشديدة التي تصطبغ بها سماوات الشرق، فلونها أزرق باهت موشحة بخطوط رمادية من السحاب تمازجها حمرة خفيفة كأنها الشفق وهي يعيد للخاطر ذكرى سماء باريس. هنا أوروبا تتمثل الآن في هذه المدينة حيث يختلط القديم البعيد مع الخاطر الجديد. ففي رأس شارع ايلوس حيث تقوم فروع المخازن الباريزية الكبيرة وتزدحم جماهير الناس من باعة ومشترين بينهم جم غفير من النساء المتألقات الجميلات يظهر معبد البارتينون على هضبته الخشنة الجافة كذكرى مفاجئة لتلك العظمة القديمة. هنالك أيضاً مقاهي كمقاهي دمشق اجتمع فيها أناس يدخنون النارجيلة ويلعبون (الطاولة) النرد فيصمون الآذان بضوضائها. على أن هنالك أيضاً في باريز مكتبات عظيمة فخمة يمكن أن يحصل منها الراغب على آخر وأحدث ما صدر من المؤلفات في جميع اللغات الأوروبية. إن الإقبال على المطالعة في بلاد اليونان عظيم ولقد نشرت مجلة البلقان الشهرية التي تصدر في اللغة الفرنسية مقالاً قيماً أثبتت وأحصت فيه عدد الصحف والمجلات التي تطبع في بلاد اليونان فبلغت في سنة 927 - 442 منها 197 في مقاطعتي آتيك وبيئوثي فقط وأن أهم ما يلفت نظر الغريب في هذه البلاد هو ما انتشر بين سكانها من أثر الثقافة والآراء الفرنسية ويدل على ذلك انتشار اللغة الفرنسية بين المثقفين وعبارات المديح والثناء التي رددها من حدثوني عن مدارس البعثة العلمانية الفرنسية وما تلقاه هذه المدارس من الإقبال العظيم، ومما يؤيد هذا التأثير أيضاً ما يطبع في بلاد اليونان من الصحف الفرنسية كجريدة البيتي اتينيان مثلاً. ولقد لقيت حفاوة فائقة من جميع الذين تحدثت إليهم من اليونانيين سواء على سواء على ظهر الباخرة أو في بلاد اليونان ولشد ما أعجبني منهم سرعة الفهم وشدة الذكاء ولينة الفكر وسحر وجوههم الطلقة الباشة.

بلاد جميلة يؤلمها رزء عظيم. قال لي على ظهر الباخرة ليمونس أحد كبار أرباب المعامل في سلانيك ما يأتي: لقد كان باستطاعتنا أن نعمل رغم الأزمة بالخناق لو كانت السياسة تتركنا نتصرف للعمل وفي الحقيقة أن السياسة لم يتغير شكلها في بلاد اليونان منذ ذلك الزمن الذي كان فيه فيليب المكدوني يشجع بأمواله الخصام والنزاع في ساحات اثينة العامة ولقد حل اليوم محل النزال الذي كان قائماً إذ ذاك بين الخطيبين ديموستين واشين البراز بين الزعيمين تسلادريس وفنزيلوس. لقد أحرز في انتخابات شهر أيار الغابر حزب اليمين الذي يرأسه الزعيمان تسلادريس الملكي وقوانديليس الاشتراكي الوطني 136 مقعداً ضد 109 مقاعد نالها الأحرار الراديكاليون من أشياع فنزيلوس. ولقد كان في محاولة قلب الحكم من قبل القائد بلاستراس يساعده على ذلك كما قيل فنزياوس وفي مؤامرة الاغتيال التي أوشك فنزيلوس أن يكون من ضحاياها ما أهاج الرأي العام. وزاد في اضطرابه موعد أجراء الانتخابات في سلانيك الذي حدد في اليوم الثاني من شهر تموز وهي انتخابات ستكون حاسمة بشأن انحياز الأكثرية في مجلس النواب في اثينة إلى جانب حزب الشمال أو إلى جانب حزب اليمين. لم أكن أبغي البقاء طويلاً في بلاد اليونان ولكن حضور معركة انتخابية في سلانيك لا يخلو مما يفيد الإطلاع عليه. 29 حزيران: سلانيك كنا في سفرنا من اثينة إلى سلانيك بعد أن وقفنا حيناً من الزمن في خليج فولو الهادئ وفي مركز اديبوس الشهير بحماماته، كأنما نجتاز مضيقاً من المضائق وكأنما الباخرة التي تقلنا هي إحدى تلك السفن ذات المقاذف التي تمخر عباب الأنهر الكبيرة في أمريكا، فلقد كانت تحاذينا عن كثب وعن يميننا وشمالنا الشواطئ اليابسة ومنعرجات جزيرة أويه وكان على ظهر الباخرة جمهور عظيم يتزاحمون بالمناكب ويرددون أقوالاً جميلة وأناشيد فخمة وجميعهم مسافرون إلى سلانيك ليضموا أصواتهم إلى أصوات ناخبي فنزيلوس. وبدت لنا كلانيك من أعماق خليجها ببنائها الجميل الأنيق منبسطة على سفوح جبل أولمبيا الذي حجبت ذروته كتل الضباب، ولا يصعب على الناظر لهذا الطود الرهيب أن يعرف السبب الذي حدا الإغريقيين القدماء أن يجعلوا منه مقراً ومسكتاً لآلهتهم. لقد كان المرفأ مستقيماً قامت على جوانبه منازل حديثة غاية في النظام وحسن القياس ولا

تشبه بشيء منازل المدن الغريبة ذات المظهر المملوء بالغرور والعجرفة. ورأينا المدينة في هرج وهياج والمتنزهون يجتمعون زرافات حول صحيفة يقرأونها بلهفة أو حول لاصقي الإعلانات على جدران الشوارع أو حول بائعي الصحف الذين يملئون الفضاء بصراخهم. ولقد مررت بإحدى المراكز الانتخابية حيث يتجمهر الناس ورأيت رسوم رجال حزب اليمين مع زعيمهم تسالداريس وهو رجل تبدو عليه ملامح العامة ذو ذقن عريضة وشاربين أشعرين وعينين غلبت عليهما الصفرة تحيط بهما أجفان غليظة منتفخة. وفي مظاهر الرجل ما يشير إلى أنه ممن يعيرون أسماءهم وأنه سيعمل لإعادة الملكية القديمة إلى نيقولا أمير الإغريق. ولقد كان إلى جانب رسمه رسم قونديليس وهو يحارب كما قيل في الإعلان، لأجل حرية أخوانه في آسيا الصغرى. وقد لبس على رأسه قبعة كالتي يلبسها الشرطة وهو ذو عينين تدلان على قوة في الإرادة وملامح قائمة أشبه بملامح أبطال حرب الاستقلال وشار بين مصقولين منتصبين على الطراز الألماني. إن قوندليس هو مؤسس الاشتراكية الوطنية في بلاد اليونان وأن أكاليل الظفر التي يحملها موسوليني ومصطفى كمال وهتلر تمنعه من أن ينام هادئاً مستريحاً. ومن يدري فلعله هو الديكتاتور حاكم اليونان المطلق في الغد. 30 حزيران: سلانيك سيعقد في هذا اليوم اجتماع سياسي عظيم وصول فنزيلوس الذي سيتولى بنفسه الدفاع عن النظام الجمهوري ضد أشياع تسالداريس وقونديليس. ولقد كانت أفواج من الوطنيين المكدونييين وجميعهم من الجمهوريين العتيدين قد هبطوا المدينة من الجبل الذي يسكنونه يسيرون في الشوارع حاملين على أيديهم رسماً كبيراً لفنزيلوس. وعلى شاطئ البحر جمهور عظيم من الناس يبلغ عدده العشرة آلاف على أقل تقدير. وتتألف هذه الجماهير من جميع الطبقات والأوساط ما عدا اليهود الذين ينتسبون لحزب قونديليس ومن الغريب أن فنزيلوس وهو على ما هو عليه من البراعة في أساليب السياسة والإطلاع على دخائلها وخفاياها قد ارتكب خطيئة سياسية كهذه فترك رجال جيشه يجعلون من مناوءة العنصر السامي ومعاداته بنداً من بنود برنامجهم السياسي. كانت الساعة خمسة حينما نزل فنزيلوس من الباخرة تحييه الجماهير وتهتف له. إن

الشيخوخة لم تنل من هذا الرجل منذ سنة 1919 حينما رأيته وأنا ضائع بين الجمع الباريزي الحاشد يمر قاصداً مؤتمر الصلح حيث جاء موفداً لتمثيل بلاده. وهاأنذا أراه للمرة الثانية ولكن في بلاد اليونان. لقد وقف في إحدى الشرفات فحي الجماهير المتزاحمة المتراصة وخطب فيهم خطاباً استمر ساعتين من الزمن ولقد أظهر في خطابه الضرورة المبرمة للدفاع عن النظام الجمهوري والوقوف في وجه أخصامه وأعدائه مذكراً للناس بالحوادث الدامية التي أوشك هو نفسه أن يكون ضحيتها ثم انبرى كرجل خاض المعارك واختبر أسرارها وعرف روح الجماعات ونزعاتها الشعبية فأظهر للجمع الغفير شاردة الحزن التي أحاط بها ذراعه أحياء لذكرى رفاقه ممن ماتوا في سبيل الحرية. ولقد بلغ التأثر من نفس الجمهور مبلغاً عظيماً. فمهما قال أشياع تسالدرايس في هذا المساء وفي الغد فستكون محاولتهم عبثاً وأتعابهم سدى. لقد تمت الانتخابات منذ الآن ولقد تم النصر في هذه المرة أيضاً للسياسة الجمهورية في جزائر الإغريق على السياسة الوطنية الضيقة التي يقوم بها الوجهاء المعاكسون في اليونان كما كان شأنهم في ماضيهم القديم. قضيت المساء على شاطئ البحر مع رهط من الشباب اليونانيين ممن يشتغلون في الصناعة والتجارة وممن درسوا في البعثة العلمانية فأجادوا التكلم باللغة الفرنسية وهم أشياع تسالداريس والمنضمين لحزبه لما يخشونه من محاذير النظام الجمهوري وتبعثر سلطة الحكم فيه. ولقد بينت لهم ما اعتقده من ظفر الحزب الجمهوري في الغد لكنهم لم يريدوا أن يشاركوني الاعتقاد بذلك. لقد كنا نتحدث على شاطئ الخليج في وادي الفردار وعلى الشاطئ الثاني حيث تتراكم قطع الليل كان القمر العظيم يعلو متثاقلاً في صعوده مصبوغاً بلون الدم الأحمر. 1 - تموز: على حدود بلاد الصرب عزمت أن لا أتأخر أكثر مما تأخرت في سلانيك وأنه من العبث أن انتظر نتائج الانتخابات فأنا أعرفها سلفاً رغم ما يرتأيه أصدقائي اليونانيون بشأنها. وددت السفر إلى مدينة صوفيا ولكن أخبار المساء في الأمس جاءت تنبئنا أن المدينة قد حوصرت عقب مؤامرة قام بها الشيوعيون من المكدونيين ولذلك فقد وليت وجهي شطر بلغراد وأوشك القطار أن يبلغ بنا الحدود الصربية دون أن أرى سوى ربوع سهل الفاردار

ذات المنظر الموحش والغلال التافهة الفقيرة بسنابلها الضعيفة ولقد قضينا الوقت منذ الطهر حتى الساعة الثالثة في محطة صغيرة من محطات القطار على حدود داوداليا ثم تابع القطار مسيره مجتازاً سهلاً قاحلاً تحيط به جبال قد أخضرت منها السفوح فقط. ولقد كان منظر الفقر والشقاء بادياً على أزياء وملامح الفلاحين الذين يشتغلون في الأرض، أما رجال الجيش فهم على الطراز الألماني غاية في حسن الهندام والانتظام. وبدأت المناظر تتنوع تدريجاً وأوشك الوادي الذي نعبره أن يكون ضيقاً بالقرب من دمير قابية فيصبح كممر أخضر تجري على جنباته سواقي غزيرة. وفي الفردار نواعير صغيرة تدور لم أكد أراها حتى هبت في نفسي ذكرى مدينة حماه وذكرى أصدقاء أحباء تركتهم فيها. لحماه منظر بهج يؤلف الآن قسماً من ذاتي فلن أنساه أبداً. ولرب صور بسيطة تعترضني في الآتي كهذه النواعير الصغيرة التي أراها فتحيي في أعماق قلبي عهداً غابراً محاطاً بالكآبة ومفعماً بالود والإخلاص. ما أشرق الصبح حتى كنا في بلغراد. يتبع جان غولميه

الديكتاتور

الديكتاتور كل حركة عبارة عن دائرة تتمركز في شخص كمحور لها، في قائدها. مبادئها مبادئه، صفاته صفاتها، سيرتها تندمج في سيرته، تنبعث منه وينخرط هو في صفوفها. أما الحركة والقائد، وهو نقطة المركز فيها، فتتجلى عنهما اتجاهات المجتمع وتصادم هذه الاتجاهات، كما تخرج الدائرة ونقطتها من الماء، وتتماوجان فيه بشكل يتقرر عند وقوع الحجر في الماء وتصادمه مع اتجاهه ومبلغه من العمق وأسلوب مجراه وسوى ذلك. يتمخض المجتمع فيلد الفكرة والفكرة تتجسم في توأميها: القائد والاتباع وهما اللذان يكونان الحركة هما قطبا الحركة، كلا الطرفين يمثلان الفكرة التي تسير بها، كلاهما نتاج الموجات المستديرة التي اندفعت من الماء على أثر وقوع الحجر في بحيرة المجتمع. القائد لا يختاره ابتاعه. بل تختاره مجموعة أوضاع نفسية واجتماعية وسياسية تتألف من شخصيته ومن الظروف، أو ما اسميه بشخصية الظروف المجتمعة، وأخيراً من الحد الذي تتوافق عنده الشخصيتان، ويختلف ما لهذين العاملين، أي الشخصيتين، من تأثير في خلق القائد. فتارة نجد لشخصية القائد المكان الأول وتارة تجد هذا المكان للظروف، وهو الغالب. لينين، مثلاً، جعلته شخصيته الخاصة (والشخصية مغناطيسية تخرج من تجسم الفكرة بمعناها الواسع - أو تجسم الخلق أو الراغبات - وتمركزها وظهورها في الفرد بقوة وتصلب) قائداً أكثر مما جعلته الظروف كذلك. لقد كان ليني قائداً قبل أن يحكم، كان القائد وهو بين مجموعة من أقطاب القيادة، ولد وهو قائد، أما الظروف الطارئة فقد ساعدت على تربية هذه الفطرة فيه، ومن جهة أخرى وضعته على رأس حركة معينة. لو ظهر لينين محاطاً بأية ظروف أخرى، وفي أي زمان آخر، لكان قائداً أيضاً ذلك لأن عقله - وفي العقل تتمركز فكرة هذا الرجل وشخصيته - لو جاء في أي مكان أو في أي وقت، وتحت أي اسم، لكان عقلاً يجمع بين الميل الشديد لهدم القديم والظالم وبين الحماس القوي لتشييد الجديد والعادل، عقلاً يطلع من الماضي لينفذ في المستقبل، عقلاً متطرفاً وكذلك قائداً سواء جعلت الظروف من لينين فناناً، أو عسكرياً، أو راهباً، أو طاهياً. ذلك لأن القابلية على الانطباع بأية فكرة تجمع بين الثورة والعدل هي الطبيعة في ها العقل. لهذا نجد أن أحد

الكتاب الأذكياء لم يخطئ كثيراً لما شبه لينين بسان جوست وبالراهب يواكم الفلوري لما غلب على هذين من فكرتي العدل والتطلع إلى المستقبل. (أما ما ذهب إليه رينه قيلوب ميللر النمسوي، في كتابه عن اليسوعيين، من تشبيه لينين بإيجنانيوس دي لوايولا فليس صحيحاً، لأن لوايولا كان ذا عقل ارتجاعي وديني. وهذان المظهران لا وجود فيهما لروح الثورة وطلب العدل، بل هما يختصان بالعقل الشرقي المشبع بفكرة الحاكم المطلق، المهمل للجماهير التي يختص بها العدل، وللمستقبل الذي ترمي الثورة إليه، فهو لا يطمح إلا بخلاص روحه الأنانية وحدها) إن شخصية لينين: أو بتعبير أفصح، أجمع لما شرحنا: إن عقله المنغمسة فيه الفكرة المازجة بين العدل والتجدد جعل منه في المكان الأول قائداً. أما الظروف فجعلته قائداً بلشفياً بدل أن يكون مثلاً نورياً أفرنسياً أو زعيم حركة كحركة الشعلة البافارية. إن نابليون خلقته الظروف لا شيء سواها، كما إن انعدام الشخصية فيه كفكرة ساعدت تلك الظروف بل كانت من جملتها. كذلك موسوليني أيضاً. فقد ترأس هذا الرجل الحركة الفاشستية بعامل الظروف أكثر مما ترأسها لشخصيته، فكان لها المكان الأول في تكوينه كقائد، إن شخصية موسوليني، مثل حال نابليون، ليست مظهراً لقوة الفكرة بقدر ما هي صفات خاصة أكثر اتفاقاً مع الفكرة العامة، الفكرة الفاشستية، من صفات غيره، وأبرع في التمشي مع أهواء أصحاب الفكر الحقيقيين والقيام بقيادتها الظاهرة، لذلك لو جاء موسوليني في وقت وظروف غير التي أظهرته لكان بقي في الزاوية، لكان قضى عمره وهون ذلك الأناني الصغير الذي ليس له أقل أثر في التاريخ فلم يكن قائداً، بل فرداً من أفراد الجماهير التي تحمل التاريخ على ظهرها ولكان مندمجاً، من عظمة الأنانية فيه، في ذلك القسم الصغير من الجماهير، ذلك القسم الذي لا يشعر بفداحة ووطأة ما يحمل والذي لا شعور له بالرابطة الكبرى في الآلام. قلنا أن القائد والحركة وشيء واحد. وكذلك موسوليني والفاشستية. وكون موسوليني ابن الظروف أكثر مما هو ابن الشخصية، وكونه ابن شخصية الطباع والرغبات الملائمة، لا شخصية الفكرة الفولاذية، كون موسوليني كذلك لا يعني أنه ليس شيئاًَ واحداً هو والفاشستية. لو لم يكونا كذلك لما التقيا ولما سارا جنباً إلى جنب. إن كل قائد مهما تكن

العوامل التي خلقته، لفلذة من فلذات الحركة. التقى الاتباع والقائد عند مفترق الطريق، كانت طريقهم واحدة فساروا عليها، إما صفين: في الأول رجل واحد هو القائد، في الثاني رجال عديدون هم الاتباع، وإما صفاً واحداً: القائد والجنود معاً، وهذه هي القيادة السامية. وكان سير القائد والاتباع - في الحالة الثانية - صفاً واحداً دون اهتمام بقشور الرسميات والعنهجيات الفردية. وسندرس في هذا الفصل بقدر ما نستطيع من الاختصار الحركة الفاشستية وقائدها موسوليني بصفتهما واحداً، ممتزجين أخلاقاً، نفسية وروحاً، غرضاً مادياً وأسلوباً، بصفتهما أداة تعبير لإرادة الأقلية السائدة في المجتمع. هذه الأقلية التي تحركهما كيف شاءت التي تمدهما بالمعونة المعنوية والمالية، والتي تنضم إلى صفوفهما وتعد نفسها من الاتباع، التي تضع في فمهما الكلمات والأوامر، التي خلقتهما: موسوليني والفاشستية معاً. ولد موسوليني في 29 يوليو سنة 1883 في دوفيا من مقاطعة فورلي، ببيت فقير. كان أبوه حداداً وأمه معلمة، وكانت طفولته بائسة، كطفولة أبناء الفقراء. كان يشعر بشقائه منذ تفتحت أنظار على الحياة. كان يتألم من وضعه الاجتماعي يشمئز من أبناء طبقته، ويطلب الخروج عنهم والارتفاع عليهم. قال للودفيغ في أحاديثه معه، وهو لا يزال متأثراً من قسوة تلك الأيام البعيدة عليه: على المائدة (مائدة المدرسة) كان التلامذة يتناولون طعامهم وهم ثلاثة أقسام. وكان عليَّ إن أجلس دوماً في الطرف الأسفل وإن آكل مع أشدهم فقراً. . كان يتعذب من فقره، ويحزنه وجوده مع الطبقة الثالثة من التلامذة بدل الطبقة الأولى. في شبابه مثل رواية عامل شقي مضطهد يكاد لا يجد خبزه. ويقال أنه مرت به أيام قضى عيشها معرضاً لذل السؤال. ابتدأ العمل بالتعليم، وهو ابن ثمانية عشر سنة، فكان يتقاضى أجراً ضئيلاً يبلغ عشر ما يتقاضاه معلمو الطليان اليوم على ضآلة أجورهم. لما مل التعليم، أو حدث له ما أجبره على هجره، ذهب إلى سويسرا، هناك كان يتعاطى مختلف الأشغال الجسدية الشاقة ولا يكاد يحصل على ما يربط الجسد بالروح. لكنه كان مجتهداً، وقد واظب على الدرس في جامعتي جنيف ولو زان إلى أن توصل للحصول على شهادة بتعليم الإفرنسية. قضى أغلب حياته في تلك الفترة مقيماً بين العمال عائشاً في بيئاتهم. وذلك لأنه

كان معاملاً مثلهم. كان في مشربه السياسي طوال هذه الامدة نورياً متحمساً. بيد أن أبيه الحداد اسكندر موسوليني كان أيضاً نورياً من قبله، وكان أبوه دولي العقيدة والنظرة، شديد العدواة للكنيسة والدين. لقد لعب دوراً لا بأس به في حركات العمل الإيطاليين. أما أمه روزا مالتوني موسوليني، فكانت معلمة بسيطة محافظة في ميولها وامرأة دينة. قد ترجع ذبذبة الطبع والرأي، التي ظهرت جلياً في أدوار حياته السياسية المتأخرة إلى هذا الاختلاف الذي كان بين والديه. في سويسرا كان معداً لا يملك ما يزيد كثيراً عن ستر جسمه. ونعتقد أنه لذا السب دخل صفوف الثوريين وعمل معهم بنشاط. كان يسعى في تأليف الترايديونيوس (جمعيات العمال النقابية) ويدعو للإضرابات، فطارده البوليس من ناحية إلى ناحية، ثم أخرج من الاتحاد السويسري جميعاً. رجع إلى إيطاليا والتحق بجيش البيرساحجلبيري (ما يقابل القناصة في الجيش اللبناني!) ثم لما ترك العسكرية عاد إلى التعليم ليأكل وثابر على المطالعة ليتعلم. وأخيراً انخرط في الصحافة الاشتراكية. كان طموحاً بعيد المرمى في أحلامه ومن كثرة ما خبر تأمر الغير به أصبح يرى التأمر لنفسه من اللذات المرغوبة. لما دخل في الصحافة الاشتراكية كان يضمر تحقيق أغراضه المتأصلة نفسه الفردية عن هذه الطريق، كان الحنين فيه إلى السيطرة قوياً بقدر ما كانت نفسه جموحة ومتكبرة، وبقدر ما كان يشعر به من رغبة في طمس صور الذل المخزية في صفحات حياته. ويظهر أنه في هذه ال أيام كانت معرفته بالحياة قد بلغت به إلى قول الطغرائي: وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رّجل وإلى قول المتنبي: ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالخلق روى رمحه غير زاحم ذلك لأن كتاباته في تلك الأيام، من صحيفة وأدبية، تتم عن نيتشوية زرادشتية شديدة التمسك بفرديتها، في أحاديثه مع لودفيغ يصرح بحقيقته هذه مرات عدة، ويعترف بأن نيتشه كان دائماً معلمه، وأنه كان دائماً تلميذه. وقد كان في زمان شبابه شبه فوضوي أكثر

بكثير مما كان اشتراكياً. والفوضوي في عرف موسوليني هو ديكتاتور بالناقص، أي دكتاتور غير منصوب. وبالتالي الفوضوي فوضوي لأنه ليس بدكتاتور. ونرى كذلك أنانية موسوليني وحبه للسيادة في ناحية الانتقام التي تنطوي عليها نفسه فإن حب الانتقام طبع يرافق الأثرة، وتحترق له شعلة أكّالة في قلب من رفع هيكل عبادته أمام شهوات أنانيته الفردية. في سير الحركات المجموعية، التي تسير بجاذبية المثل الأعلى، لا نجد أثراً للانتقام الشخصي عند الأفراد القائدين لتلك الحركات. فالثورة الإفرنسية، مثلاً، وقعت فيها فظائع. بيد أن فظائعها ما كان لتتصف بأية صبغة أو شهرة مفترسة يضمرها إبطالها، كما وأنها لم تتصف بحب التعذيب الذي يرافق حب الانتقام، إن رجال الثورة الإفرنسية لم يقتلوا ولم يسجنوا أحداً. هي الثورة التي قتلت وسجنت والثورة كانت بحالة اجتياح، هو المثل الأعلى الذي قتل وسجن، ومع ذلك لم يكن في فظائع الثورة شيء من هذه الخلة الحيوانية، خلة التلمظ والتلذذ بألم لم يكن بألم الفريسة الضعيفة - غرام التعذيب. أما رجال الثورة الباروزن المتطرفون، فالمعروف عنهم أنهم كانوا أفراداً أنكروا نفوسهم لدرجة أن بعضهم - خصوصاً ماراً وروبسبير - أهملوا أكلهم وملبسهم وخصوصياتهم الصغيرة. كان الواحد منهم يبدو كأنه لا وجود له، وكان الوجود جميعه عندهم فكرة يجب أن تتحقق. مثل هذا يقال أيضاً في كرومويل وفي رجال الثورة الروسية. لكن بالعكس من ذلك، نلاحظ في الحركات التي لا ترافقها جاذبية من المثل الأعلى، والتي لا تتقدمها شخصيات وأغراض متلاشية في شخصية المجموع وأغراضه، إن الروح الانتقامية الفردية مع ما يلحق بها من حب التعذيب تكون فيها سائدة مديرة. من يدرس نابوليون يشعر أن حياة هذا الرجل كانت منذ أول ما ظهر وأول ما عمل سلسلة من حوادث الانتقام ابتدأت معه بصورة فردية صغيرة، ثم امتدت به وتوسعت حتى أدخلت جميع أوروبا في شراكها. كذلك موسوليتي، على بعد النسبة بين حجمه وحجم نابوليون، كان مسيراً بعاطفة الانتقام الملازمة للأنانية الطموحة اللامبالية المحضية كل شيء من أجل أنانيتها. كان يتكلم مع لودفيغ عن سجونه، عن أنه استفاد وسر من سجونه، وأنه قرأ فيها مرة قصة دون كيشوت وعندما سأله لودفيغ بنكتة:

لعل هذا هو الداعي لإرسالك أعداءك السياسيين إلى السجن، ترى حينما تصدر مثل هذه الأحكام، إلا توقفك عنها ذكريات سجنك؟ فأجاب موسوليني: قطعياً. إنني أجد هذه المعاملة جد منطقية. كانوا البادئين بزجي فيه. الآن جاء دوري لأزجهم فيه. سليم خياط

التعليم في سوريا

التعليم في سوريا أرسل أحد قناصل الدول الكبرى في بيروت إلى محمد جميل بينهم أحد عشر سؤالا تتعلق بالتعليم والمدارس في سوريا، وطلب القنصل الجواب على هذه الأسئلة. فلباه الأستاذ بينهم وخص هذه المجلة بنشر الأسئلة وأجوبتها. . السؤال الأول: وهي يجب أن يكون التعليم عاماً وإجبارياً مجانياً؟ 1 - الجواب: نعم. يجب أن يكون التعليم عمومياً وإجباريا ومجانياً. السؤال الثاني: - هل ترون من واجب الحكومة زيادة عدد مدارسها الابتادائية، أم من واجب المدرسة الأهلية توسيع نطاق جهودها في هذا السبيل؟ 2 - أرى أن تزيد الحكومة عدد المدارس الابتدائية في القرى ولا سيما حيث يكثر عدد الأميين كما في البقاع وجبل عامل. ويستحسن أن تقيم في كل قضاء درااً لتعليم الصنائع الأولية التي يحتاج إليها القضاء، وأن تنشئ لتعليم مبادئ الزراعة دوراً حيث تتوفر الزراعة وذلك محاربة للبطالة المتكاثرة، وأن يعنى في تلك المدارس بعلم الصحة والنظافة. وفي الوقت نفسه يجب تنشيط المدارس الوطنية الخاصة وتخصيص مساعدات حكومية لها حتى تتمكن الحكومة فيما بعد من الاعتماد عليها فيما إذا أرادت أن تجعل مدارسها مقتصرة على العلوم العالية والصنائع والفنون. السؤال الثالث - ما رأيكم في المدارس الأجنبية؟ هل تقدرون جهودها أم لا؟ ولماذا 3 - لا شك أن المدارس الأجنبية كان لها الأثر الواضح بتعجيل النهضة في هذه الديار ولكنها كما نفعت من حيث نشر التمدن الحديث فقد أضرت كثيراً بما كان لها من الأثر في التفريق بين أفكار أهل البلاد وأهوائهم ومقاصدهم تفريقاً أصبح مصدر مصائبنا السياسية ومن ثم صار السبب للكوارث الاقتصادية الحاضرة. السؤال الرابع - ما هي عيوب التعليم في هذه البلاد؟ 4 - يؤخذ على طريقة التعليم في هذه الديار أنها تكاد تكون مقتصرة على مبادئ العلوم مع التخصص للمهن الحرة دون اهتمام كلي بنشر الصناعة وتحبيب الزراعة ولذلك فقد أصبح خريجو المدارس كلهم طلاب وظائف ومحامين وأطباء. السؤال الخامس - هل ترون من الواجب تعليم البنات؟ وإلى أية سنة من العمر؟ 5 - نعم يجب العناية بتعليم البنات التعليم الناضج ولا سيما ما يفيدهن في تربية اولادهن

وإدارة منازلهن وتقوية روح العائلة بينهن ومن المفيد تعليمهن بعض الصناعات التي تزاول في دورهن وتدر الفائدة المالية بحيث يلجأن إليها إذا احتجن للكسب. ولا أرى أن تقيد إرادة اللاتي يرغبن في المثابرة على الدرس ولا أن تسد في وجههن ميادين الكسب العامة. فالحرية في كسب العلم ومزاولة العمل للجميع وليست خاصة في جنس دون آخر. السؤال السادس - أترون من الواجب أن يتعلم أولاد الطوائف المختلفة في مدرسة واحدة؟ 6 - نعم بل من الواجب المفيد السعي لزيادة الاختلاط في المدارس بين أبناء الطوائف المتعددة لما في هذا الاختلاط من الفائدة في تكوين رأي عام نحن محرومون منه. السؤال السابع - أمن المصلحة تعليم أصحاب الحقول الفلاحين)؟ 7 - ليس من المصلحة العامة نشر العلوم بين أرباب الحقول ولكن التعليم الابتدائي نعم يجب أن لا يحرم منها أحد من البشر. السؤال الثامن - هل يجب العناية بنشر التعليم الصناعي؟ وبأية صنائع تجب العناية؟ 8 - نعم، ونحن بحاجة لصناع وأصحاب مهن من مختلف الصنائع والأعمال. السؤال التاسع - كم هي النسبة التي ترونها واجبة في تعليم كل من اللغتين العربية والإفرنسية في المدارس الابتدائية والأولية والاستعدادية؟ 9 - أرى أن يكون التعليم كله باللغة العربية وإذا لم يكن هذا ممكناً في الحاضر فإني أود لو يكون هذا الأمر الهدف الذي نرمي إليه فنمهد له الأسباب تدريجاً على أن نباشر الآن في التدريس باللغة العربية ما يمكن أن نستغني به عن اللغة الأجنبية. السؤال العاشر - هل من انتقاد على مهمة الإفرنسيين التعليمية في البلاد؟ 10 - إن قبض حكومة الانتداب على زمام التعليم يجعلها مسؤولة عن الأضرار التي تصيبنا منه وعن المساوئ التي تلم به. فنحن نشكو من إهمال اللغة العربي وإهمال تاريخنا القومي وإهمال تاريخ وجغرافية البلاد إزاء اهتمام المدارس حتى الحكومية منها باللغات والتواريخ والجغرافيا الأجنبية. ونشكو أيضاً من اختلاف مناهج التربية والتعليم في المدارس. ونود لو أن دولة الانتداب تنهج نهج انكلترا في العراق فتترك للحكومة الوطنية الحرية الصحيحة لأجل توحيد برامج التعليم والتربية بين المدارس جميعها أجنبية كانت أم وطنية وتعتمد على اللغة العربية فيما يمكن وتنشر بين الناشئة المبادئ الوطنية والروح

الاستقلالية مستعينة في كل ذلك بنشر تاريخنا القومي وآدابنا الشرقية. وعدا ذلك فإني أود لو يحصر حق التعليم الابتدائي في المدارس والمعاهد الوطنية. السؤال الحادي عشر - لأية مدرسة ترسل أولادك؟ 11 - لو كان لي ولد لفضلت أن أعلمه في إحدى الكليات الوطنية. يمثل هذا التنشيط تبلغ هذه المدارس المستوى الذي نريده لها، ونبلغ بها أمنيتنا المنشودة.

نظرية ابن سينا في السعادة

نظرية ابن سينا في السعادة السعادة من الأمور التي فكر الإنسان فيها من القدم فهام بها وعشقها، ولا يزال اليوم يبحث عنها كما يبحث الجائع عن الطعام. ذلك لأن ارتقاء الصناعة والرفاه لم يحسن حالة الإنسان ولا قربه من البهجة التي ينشدها والسعادة التي يحلم بها. فالألم الذي كان يمزق الأحشاء ويضني النفوس في الماضي لا يزال اليوم يمزق أحشاء الملايين من الناس والغم الذي ساور نفوس الأقدمين زاد بازدياد حاجات الحياة وكثرة أسباب المعاش وتعقدها. نعم إن إنسان اليوم أحسن حالاً من الإنسان الأول ولكنك لا تزال ترى على وجه الأرض أنساً يتضورون جوعاً ويئنون تحت عبء البؤس والشقاء. لقد بحث الفلاسفة منذ القدم في الطريق التي يجب على الإنسان سلوكها للوصول إلى السعادة وهم اليوم لا يزالون يبحثون أيضاً عن طريقة يبددون بها ما يحيط بالإنسانية من الظلمات. لكل زمان فلاسفة ولكل فيلسوف أحلام وكل خيال حقيقة. كل فيلسوف يضع في مصباح الحياة ذبالة جديدة وترتيباً جديداً فأما أن يصبح نور الحياة واضحاً بهذا الزيت الجديد وأما أن يمسى ضئيلاً. فما هو النور الجديد الذي وضعه ابن سينا في طريق الوصول إلى السعادة؟ 1 - الخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرف أن رأي الشيخ الرئيس في السعادة تابع لرأيه في العناية الإلهية. وقد عرف ابن سينا هذه العناية الإلهية بقوله: العناية هي إحاطة علم الأول بالكل وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على حسن نظام ومعنى ذلك أن العناية هي علم الإله بكل ما في الكون من الأشياء وبكل ما يجب أن تكون عليه ليتم اتسق الوجود ويكون الخير فيه غالباً على الشر. وهذا يدل على أن ابن سينا كثير التفاؤل. فهو يعتقد أن الخير يفيض من المبدع الأول على هذا العالم. كأن الموجودات كلها سابحة في بحر من الخير، كل منها ينال من الخير ما هو جدير به وما هو لائق له. وهذا النظام هو احسن نظام يمكن أن يكون عليه الوجود، وهذا العالم هو أحسن ما يمكن أن يتصوره العقل ويدركه الخيال. ولكن كيف وجد الشر في هذا العالم وما هي حكمة الله من وجوده. كيف فاض الشر من المبدع الأول وهو خير مطلق. هو تتولد الظلمة من النور، أم هل ينشأ النقص عن الكمال.

الجواب على ذلك أن الشر ليس الغالب في الوجود لأن الخير، كما يقول ابن سينا مقتضى بالذات أما الشر فمقتضى بالعرض ومعنى ذلك أن الإله لا يريد إلا الخير، وهو ينفح الوجود بنسماته ولم يتولد الشر إلا من المادة ولذلك كان الشر غير موجود في الأفق الأعلى بل هو موجود دون فلك القمر أي في عالم الكون والفساد. ولكن لماذا وجد الشر؟ ألم يكن في وسع المبدع الأول أن يوجد خيراً مطلقاً مبرأّ عن الشر (نجاة ص 4710) ألم يكن في وسع المدبر الحكيم أن يبدع اللذة ولكن في غير هذا النمط من الوجود. إلا أن هذا العالم يقتضي وجود الخير مع الشر، وهو عالم القوة والفعل وحيث توجد القوة لا بد من وجود الإمكان والنقص أي لا بد من وجود الشر. إلا أن هذا الشر هو أقل ذيوعاً من الخير. ولو كان طبيعة الوجود، والشر من طبيعة العدم. فالخير الكلي يقتضي وجود الشر الجزئي ولا معنى للخير بدون الشر كما أنه لا معنى للنور يدون الظلمة. ولكن لماذا خلق العالم على هذا النمط؟ أليس من الممكن أن يكون الوجود كله خيراً مطلقاً. لا محل لهذا السؤال في فلسفة ابن سينا لأنه جعل الإنسان في فهم حقيقة الخير والشر قاصراً عن إدراك حكمة الخالق. قال (لو كان أمر الله تعالى كأمرك وصوابه كصوابك وجميله كجميلك وقبيحه كقبيحك، لما خلق أبا الأشبال أعصل الأنساب أحجن البرائن لا يغذوه العشب. فالإله لا يراعي ما نراعي نحن في حكامنا الضيقة وأحلامنا القاصرة بل ينظر إلى الوجود الكلي ونحن لا ننظر إلا الوجود الجزئي. 2 - السعادة ليست في اللذة الإنسان قادر بعقله أن يميز بين الفضيلة والرذيلة فيميل إلى الخير ويتجنب الشر ولكن ما هو الشيء الذي نبحث عنها جميعاً ونرغب فيه؟ الأحياء كلها ترغب في اللذة. ولكن هل يمكن أن يقال أن السعادة في اللذة؟ إن رأى ابن سينا في اللذة لا يختلف بالجملة عن رأي أرسطو القائل أن اللذة في الفعل. لكل فعل قوة تحدثه ولكل قوة من القوى النفسانية لذة تخصها. مثال ذلك أن لذة الغضب الظفر، ولذة الوهم الرجاء، ولذة الحفظ تذكر الأمور الماضية فالشعور بكل ما يلائم هذه القوى يولد لذة، وهذه اللذة هي إدراك الكمال. وكلما كان الكمال الذي تحصل عليه النفس

أتم وأفضل كانت اللذة التي ندركها أبلغ وأشد. على أن ابن سينا لا يرى السعادة في ابتاع كل لذة بل يراها في الكمال والخير يدل على ذلك انقسام اللذات عنده إلى عاليه وخسيسة. فالجاهل الذي لا يدرك اللذات العالية ولا يشعر بها أشبه بالأصم الذي لا يدرك الألحان اللذيذة والأكمه الذي لا يشعر بالألوان الجميلة. وكيف تقاس هذه اللذة العالية بتلك اللذة الحسية الخسيسة. نعم إننا في عالم المادة المظلم يمنعنا حجاب الحس من إدراك المثل الأعلى ولكنا إذا خلعنا ربقة الشهوة والغضب من أعناقنا وطالعنا شيئاً من تلك اللذة السامية، فحينئذ ربما تخيلنا منها خيالاً طفيفاً خفيفاً: (نجاة - 482). فاللذات المعنوية إذن أفضل من اللذات المادية. وكثيراً ما يفضل الإنسان الألم الفادح على اللذة السائحة. فإذا علم أن اللذة ستسوقه إلى افتضاح أو خجل أو تعيير أو شوق أعرض عنها. ولذلك كانت الغايات العقلية السامية أكرم على النفس من الشهوات الخسيسة التي يحتقرها العاقل ويستخف بها الحكيم. أما النفوس الخسيسة فإنها لا تدرك إلا القريب ولا تبتهج إلا بالمحسوس ولا تتطلع إلى ما في الأمور العالية لأن اللذات الخالدة قال ابن سينا: إذا كنت في البدن وشواغله وعلائقه ولم تشتق إلى كمالك المناسب أو لم تتألم بحصول ضده فاعلم أن ذلك منك لا منه (إشارات 94) يريد بذلك أن فقدان الاشتياق إلى الكمال وعدم التألم من الجهل راجع إلينا لا إلى المعقولات. لأن إشغال النفس بالشهوات واتصالها بالمادة يمنعانها من الالتفات إلى الملأ إلا على. قال: إن النفوس السليمة التي هي على الفطرة، إذا سمعت ذكراً روحانياً غشيها غاش شائق لا يعرف سببه وأصابها وجد مبرح ولذة مفرحة يفضي ذلك إلى حيرة ودهش. فالنفوس قادرة إذن بما فيها من الاستعداد والشوق أن تصل إلى شيء من السعادة في هذه الدنيا وذلك بالتأمل والتفكير في المبادئ الروحانية إلى الخلود. 3 - مراتب النفوس البشرية قسم ابن سينا النفوس إلى مراتب وقال أنها على اختلاف أنواعها قادرة على إدراك اللذة الحقيقية قبل الموت. إن أجل سعيد وأحسن مبتهج بذاته هو المبدع الأول ويتلوه في مراتب السعادة الجواهر العلوية التي تبتهج بذواتها وتتأمل خالقها. فكما كانت الجواهر قريبة من المبدع الأول كانت

أكثر كمالاً وأشد عشقاً واشتياقاً، وكلما ابتعدت عنه قلت سعادتها وخف كمالها. ثم يتلو مراتب الجواهر العلوية مرتبة العشاق المشتاقين فهم من حيث هم عشاق قد نالوا قسطاً من الكمال وهم بما حصلوا عليه من الكمال مبتهجون سعيدون. نعم انه قد يكون لهم أصناف من الأذى من حيث هم مشتاقون، لأن الشوق يولد العذاب إلا أن هذا الأذى الذي يصيبهم لذيذ، وهذا الشوق الذي يحرك نفوسهم عذب. ثم يتلو هذه النفوس نفوس أخرى بشرية مترددة بين جهتي الربوبيه والسفالة لا هي في المثل الأعلى ولاهي في الحضيض، بل تارة تسمو وتارة تنحط من درجة إلى درجة. ويتلو هذه المرتبة مرتبة أخرى هي في الحضيض الأسفل من المادة. قال ابن سينا: وهي مرتبة النفوس المغموسة في عالم الطبيعة المنحوسة التي لا مفاصل لرقابها المنكوسة وأصحاب هذه النفوس هم بدون شك أشقى المخلوقات وأكثرهم بؤسا وأسؤهم حالاً. 4 - مقامات العارفين ثم إن ابن سينا بعد أن ذكر أنواع ابتهاج الموجودات بكمالاتها المختصة بها عاد إلى ذكر أهل الكمال من النوع الإنساني فقال: إن للعارفين مقامات ودرجات يخصون بها وهم في حياتهم الدنيا دون غيرهم فكأنهم وهم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس ولهم أمور حفية فيهم وأمور ظاهرة عنهم يستنكرها من ينكرها ويستكبرها من يعرفها (إشارات، ص - 101). إن هؤلاء العارفين هم المتصوفون الذين يتوصلون بالرياضة إلى مشاهدات يعجز عن إدراكها الوهم والمتصوفون في رأي ابن سينا هم أهل البهجة والسعادة في هذه الحياة. وقد ذكر ابن سينا صفات العارف المتخلي عن شواغل البدن بألفاظ ساحرة فقال: العارف هش بش بسام يبجل الصغير من تواضعه كما يبجل الكبير وينبسط من الخامل كما ينبسط من النبيه. وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق وبكل شي يرى فيه الحق ولا فرق عنده بين الكبير والصغير ولا يعرف الطمع سبيلا إلى قلبه وهذا الخلق هو خلق الرضا والقناعة فلا يخاف العارف من هجوم شيء ولا يحزن على فوات شيء بل يفرح ويبتهج بما أدركه كما يبتهج العاشق بالوصول إلى حبيبه. العارف لا يعنيه التجسس ولا التحسس ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه

الرحمة. وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف معير وذلك لشفقته وحبه. العارف شجاع وكيف لا وهو بمعزل عن خوف الموت. وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل وصفاح للذنوب وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها ذلة بشر ونساء للأحقاد وكيف لا وذكره مشغول بالحق. العارف يفضل التقشف على الترف ولربما ارتاد البهاء في كل شيء وأصغى إلى الزينة وأحب من كل جنس أكرمه. العارف هو المنصرف بفكره إلى الأفق الأعلى والمستديم لشروق النور عليه. والزهد عند العارف تنزه والعبادة رياضة لا يطلب منها ثواباً ولا يتجنب بها عقاباً وهو يريد الحق لا بشيء غيره ولا يؤثر شيئاً على عرفانه به وتعبده له للعارف في الوصول إلى الملأ الأعلى درجات وهذه الدرجات تنقسم إلى قسمين درجات السلوك ودرجات الوصول. فأول درجات السلوك درجة الإرادة وهي ما يعتري المتطلع إلى العالم الروحاني من الرغبة في الاعتصام بالعروة الوثقى والاتجاه نحو الحق ويسمى صاحب هذه المرتبة بالمريد. ثم تأني درجة الرياضة لان المريد محتاج إليها وهي عبارة عن نهي النفس عن هداها وأمرها بطاعة مولاها (إشارات 115) ومنعها من الالتفات إلى سوى الحق ثم إذا بلغت الإرادة بالمريد حداً أعلى من الأول سنحت له خلسات يطلع بها على نور الحق وهي خلسات لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه وتسمى هذه الخلسات عند المتصوفين أوقاتاً. وقد يرتقي المريد إلى أكثر من ذلك في الرياضة فيرى الحق في كل شيء. ثم أنه لتبلغ به الرياضة مبلغاً يصير فيه المخطوف مألوفاً والوميض شهاباً ويتم له معارفة مستقرة كأنها صحية مستمرة. ثم يرتقي من مرتبة أدنى إلى مرتبة أعلى حتى يعبر درجة الرياضة ويقترب من الله فيتمثل فيه جمال المبدع وتقضي عليه اللذات الحقيقية. ثم انه ليغيب عن نفسه فلا يرى إلا المعبود ولا يلحظ إلا جمال الحق وينسى نفسه. وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة لا من حيث هي ذات زينة. وهذه المتصوفة إلى درجة المحو والفناء. غير أن ابن سينا لم يصف لنا هذه الدرجات بل قال: إن هذه الدرجات لا يفهمها

الحديث ولا تشرحها العبارة ولا يكشف المقال فيها غير الخيال ومن أحب أن يتعرفها فليتدرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة ومن الواصلين إلى العين دون السامعين إلى الأثر. (إشارات ص - 121) وهناك لا يبقى كما قال الطوسي واصف ولا موصوف ولا سالك ولا مسلوك ولا عارف ولا معروف أو كما قال الغزالي في المنقذ من الضلال، هناك درجات يضيق عنها نطاق العقل ولا يحاول معبر أن يعبر عنها بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول: وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر تلك هي مقامات العارفين الذين يرتقون من نطاق الطبيعة الضيق إلى فضاء العقل الواسع وكل ما ذكرته حتى الآن من أحوالهم دليل على أن النفس قادرة في مذهب الشيخ الرئيس أن تنال أوقاتاً من السعادة الحقيقية وهي في البدن. وذلك بتكميل قوتها النظرية بالعلوم وتهذيب قوتها العملية بالفضائل التي أصولها العفة والشجاعة والعدالة ليس بإتباع اللذة الحسية والشهوة العمياء بل بإيثار اللذة العالية المطابقة للحكمة. وهذا ما يرفع النفس ويبلغ بها درجات الكمال حتى لقد يصرفها عن هذا العالم الدنيء ويرتقي بها إلى الملأ الأعلى حيث تستطيع أن ترى الحق وتتصل به وتدرك من السعادة درجة لا يمكن وصفها. جميل صليبا

هداية القلوب إلى تجنب الذنوب

هداية القلوب إلى تّجنب الذنوب حدثني بعض أصحابي قال: - لي جار فيلسوف لا أحبه ولا اكرهه وإنما يسرني أن التقي به وألهو بمعرفة أخباره، فقد كان من أمره أمس انه وضع قمحاً في كيس ثم أحضر أحد الفقراء وقال له وهبتك هذا القمح فقبل الفقير يديه ودعا له. ثم سأله أن يسمح له بنقل القمح إلى داره فقال، وعيناه تقدان، لا تحمل هذا الكيس إني اشتريه منك بأحسن من ثمنه فبكى الفقير فرحاً وألقى بنفسه على الأرض وهو ذاهب العقل، واله النفس من شدة الفرح فطيب جاري قلبه وسكن روعته ثم أعطاه ثمن القمح وزاد عليه وخرج الفقير يتعثر بأذياله. فقلت لجاري الفيلسوف أفوهبت القمح لتشتريه بأغلى من ثمنه إن هذا لأمر عجاب. قال إن في أحد الأكياس قطعة من ذهب وضعتها فيه زكاة عن نفسي وعن أولادي. وقد استنبطت هذه الطريقة لاسترجاعها أما الفقير فقد كان كما رأيت قانعاً مسروراً بما حصل عليه. - قلت لصاحبي إن جارك رجل عجيب قال سأجمعك به في داري فلما التقيت به هناك سألته أن يشرح لي رأيه في هذه الطريقة. - قال إن هذه الحيلة حالة خاصة من نظريتي في هداية القلوب إلى تجنب الذنوب. قلت: وما هي هذه النظرية؟ قال: هي النظرية التي تحول الكذب إلى حقيقة!. إنك تستطيع بهذه النظرية أن تخفي الحقيقة من غير أن تعترف بالكذب. وهي على أقسام: أولها فلسفة الالتباس وهي أن تستعمل في إخفاء الحقيقة ألفاظاً مبهمة تحتمل معنيين أو ثلاثة، فتسوق محدثك إلى المعنى الظاهر وتقصد من اللفظ غير ما فهمه كقولك أني لم أره في حلب فيحسب سامعك انك تقصد مدينة حلب وأنت في الباطن تقصد معنى آخر له صلة بالحليب. - قلت وإذا لم يكن في المعنى التباس قال إننا نستعمل عند ذلك نظرية الحر الباطني وهي أن تقسم مثلاً أنك لم تفعل هذا الأمر في حين أنك فاعل له فتقول بصوتٍ عالٍ والله لم افعل ذلك ثم تمم قسمك قائلاً في داخلك: قبل أن أولد أو في هذا النهار أو أمس فيظن السامع انك لم تفعل ذلك أبداً في حين أنك حصرت قسمك في زمن دون آخر، وهذه الطريقة من خير الطرق الأدبية التي يصان بها الشرف وتحفظ الصحة ويكتسب المال. ثم أطرق صامتاً وقال:

بالأمس كنت عند احد التجار فهديته إلى طريقة يستطيع بها أن يربح مالا كثيراً وهي أن يبيع احد أصدقائه شيئاً من بضاعته بيعاً وهمياً بالثمن الذي يريده ثم يقسم أمام عملائه انه باع هذه البضاعة بثمن كذا، وإذا اقسم على هذه الصورة كان قسمه مطابقاً للحقيقة. - قلت ولكنك بهذا الكذب قربت البعيد وأبعدت القريب وقدمت صالحك على كل شيء. - قال لا تقولن هذا كذب، لأنك لم تقل إلا الحقيقة، ولا ضير عليك إذا انخدع سامعك، ولم يدرك حقيقة ما نطقت به. فالنقص في القابل لا في الواهب. وهناك واسطة ابسط من الأولى وهي أن تقسم على الكلام لا على الأشياء فتقول اقسم ثم تقول في داخلك أنني أقول وتتمم قسمك قائلا أنني لم افعل هذا الأمر. فإذا فعلت ذلك لم تقل إلا الحقيقة. - قلت: نعم، ولكنك تعلن الباطل جهراً وتكتم الحق في نفسك. لقد أخلفتني وخلفت حتى ... أخالك قد كذبت وان صدقتا ألا لا تحلفن عن كلام ... فأكذب ما تكون إذا حلفتا

القدم العارية

القدم العارية حاولت النهوض وهي تتمتم قائلة: إنه أرق السعادة إنما شعرت بذراعي زوجها النائم تحيطان بخصرها وتمنعانها من النهوض وبأنفاسه الحارة تملأ إبطها وتعبث بشعره الناعم. على المنضدة مصباح من الخزف الأغبر، خنيق النور، ينشر فوق السرير أضواء كدراء راجفة تكشف عن قدم عارية، قدم زوجها وقد برزة من الغطاء والتوت نحو الحائط وعليها كدرة قائمة. نظرت إلى هذه القدم العارية وبسمت ثم أخذت تسأل نفسها أهي سعيدة. .؟ أجالت ببصرها في أنحاء الحجرة وكأنما الغبطة تملأ فؤادها ونظرت إلى الأشياء المبعثرة هنا وهناك. . . أهي سعيدة؟ بلى، كلا. . . إن في قرارة نفسها حزة ألم، حزة يخالطها شيء من اليأس وخيبة الأمل. نظرت إلى زوجها الذي لم تعرفه إلا منذ عشرة أيام قضتها في داره وأخذت تعجب كيف أنها ترقد إلى جانب رجل. . لا مجال للشك أنها ترقد بين ذراعين عاريتين تجتذبانها إلى صدر اشعر يا لهذا الزوج ما أغربه! رجل لا تعرفه الفتاة: فإذا بها زوجة له. . . . زوج رجل تخجل أن تريه ساعديها قبل يوم وإذا بها بعد ليلة ترقد إلى جانبه عارية الساعدين مكشوفة النهدين. أطبقت عينيها وراحت تفكر كما هو شأنها منذ عشر ليال. لقد كانت كل ليلة بعد نوم زوجها إلى جانبها واستسلامه للكرى تطبق عينيها وتحاول إحياء الماضي إنما أنفاس الزوج الحارة تحول بينها وبين الرجوع إلى ما قرب من الغابر وتجعلها في دائرة ضيقة لا تتجاوز حدود عشرة أيام من الزمن فهي مهما حاولت أن تمضي بخيالها لا تتعدى ذكريات الزواج. ثم تفتح عينيها وتجيلهما في الحجرة وفي أثاثها الجديد أثاث غرفة الزواج أو الزوج. إن هذه الحجرة بما فيها من رياش ضخمة قائمة وما انعكس عليها من نور ضعيف لا تشبه بشيء الحجرة التي كانت تسكنها الفتاة العذراء منذ أيام فيخيل لها أنها في حلم أو أنها عروس تصفها إحدى قصص ألف ليلة وليلة فتطرب لهذا الخيال وتأرق من جرأته وها هي في هذه

الليلة العاشرة يعاودها الأرق رعشة مفاجئة في جسم الزوج وحركة في قدمه العارية. يحسن بي أن أطفئ المصباح. . . وقوست ظهرها ولوت خصرها وحاولت التسلسل من بين الساعدين المحيطين فما استطاعت فرددت في نفسها قائلة: كأنني في قفص. ورفعت رأسها عن الوسادة ثم أمالته ونظرت إلى القدم العارية. . . وعادت تقول في نفسها - ما أضخم هذه القدم قدم منتفخة العقد، بارزة المفاصل، بادية العروق مكتلة الأظافر تتلامع فوقها بضع شعرات تقرب من الشقرة والأضواء الراجفة تحمل ظلال هذه القدم نحو الحائط وتطبعها فوقه ضخمة غليظة يقشعر لها البدن. حاولت التملص أيضاً من بين ذراعي الزوج واستطالت نحو القدم العارية تحاول سترها وإنما رجفة أخرى بدت من الزوج اهتز لها جسمه الضخم وتحركت القدم من جديد وارتفعت وهبطت ومال الإبهام على الإصبع التي تجاوره. ودوى في الشارع بوق سيارة تمر وتجاوبت جدران الحجرة القائمة فتحرك جسم الزوج النائم وارتجف وانفرجت أصابع القدم العارية عن بعضها وظلت كذلك كأنها مخالب برزت من قنوبها ثم عاود جسم الزوج سكونه وأخذ يغط في نومه. خفت صوت البوق ثم تلاشى وعاد إلى الحجرة ما كان فيها من سكون ولانت الأصابع وتضامت وأشبهت القدم ضفدعة مفلطحة. فتمتمت الزوجة بصوت راجف: ما أقبح هذه القدم؟ أللقدم أذنان؟ أتسمع القدم؟ أتشعر. . .؟ أغضبت لان امرأة استقبحتها وكرهتها؟ انفرجت الأصابع الخمس دفعة واحدة ثم تقوست واحتجنت الغطاء فجذبته واستترت به وكأنها غاضبة خجولة. جلس الزوج إلى المائدة وشمس الصباح تلمس قدمه التي مازالت عارية وكانت الشعرات الشقراء التي عليها تتلامع كخيوط دقيقة: امسك بالسكين وقال:

أأقتطع لك قطعة من الزبدة؟ وما أن حرك يده حتى أفلتت السكين منها وسقطت فوق قدمه وعلقت بالفرجة التي بين الإصبعين. شعرت الزوجة برجفة من السرور تتسرب إلى نفسها وكأن السكين تنتقم لها من هذه القدم العارية التي أقلقت مضجعها ليلة كاملة. . . إنما تكتمت ورأت نفسها مضطرة للتملق فسارعت إلى القدم العارية تحيطها براحتيها وتجذبها إلى صدرها وتحنو عليها. . طرب الزوج معتزاً وتاه مفتخراً. ليلى. س.

بول بنليفه

بول بنليفه حملت إلينا الأنباء الأخيرة خبر وفاة العالم الكبير والسياسي المشهور بول بنليفه فكان لهذا النبأ وقعه العظيم في المحافل العلمية والأندية السياسية في الغرب عامة وفي فرنسا خاصة. ولد هذا العالم الكبير في باريز سنة 1863 وكان أبوه رساماً من عمال المطابع فدخل المدرسة الابتدائية وظهر استعداده للرياضيات وهو لا يزال في الحادية عشرة من سنه، قال عن نفسه: قد درسني أستاذي في المدرسة الابتدائية كل ما كان يعرفه من مبادئ العلوم فحصلت مواد البكالوريا العلمية وعمري إذ ذاك 11 سنة ثم انه دخل مدرسة المعلمين العليا سنة 1883 وعمره 20 سنة فلما خرج منها اسند إليه تعليم الرياضيات في جامعة (ليل) وعمره 23 سنة ثم درس الرياضيات في استوكهولم سنة 1895 ثم عين محاضراً في جامعة الصوربون وعمره لا يزيد عن الثامنة والعشرين ثم انتخب عضواً في المجتمع العلمي 1900 ثم أستاذا في الصوربون 1905 ثم رئيساً لمجلس إدارة الرصد في باريز ثم رئيساً لمدرسة الصنائع والفنون وأستاذا في مدرسة الطيران أما حياته السياسية فلم تكن دون حياته العلمية نشاطاً فقد انتخب لأول مرة نائباً عن باريز سنة 1910 فتنقل في مناصب الدولة من وزارة إلى لأخرى حتى صار رئيساً للوزراء ثلاث مرات ورئيسا لمجلس النواب مرتين ووزيراً خمس عشرة مره وكان أثناء الحرب العامة مكلفاً بتنظيم الاختراعات المتعلقة بالدفاع الوطني. 1 - بنليفه العالم لقد كان نبوغ بنليفه العلمي شبيهاً بنبوغ باسكال من حيث سرعة شدته فقد بدأ بالاختراع وهو لا يزال تلميذاً فذاع صيته وانتشر اسمه في النوادي العلمية قبل أن يخرج من المدرسة. ثم توالت اختراعاته العلمية حتى صار من أئمة الرياضيات في العصر الحاضر. فمن المباحث التي أبدع فيها مسائل المنحنيات والسطوح الجبرية ومعادلات التفاضل وتطبيقات الجمل المتصلة مع التوابع، وتوابع القطوع الناقصة وغير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره هنا وقد نشر من الكتب بديهيات الميكانيك، ودروس الميكانيك التي ألقاها في مدرسة الصنائع وكثيراً من الرسائل التي تبحث في التوابع ومعادلات التفاضل وهو صديق هنري

بوانكارة وزميل (بول آبل) وله بدا لامبر ولا غرانج صلة فكرية لأنهم جميعاً من مذهب واحد هو مذهب ديكارت ومذهب إقليدس. وهذا المذهب يقتضى أن يكون المكان متجانساً لا نهاية له. ولذلك كانت الهندسة التحليلية التي اخترعها (ديكارت) لا تخالف مبادئ إقليدس بل تتمها وحساب التفاضل لا يخالف مبادئ الجبر الأولى بل يوسعها. وقد ظن بنليفه أن معادلات التفاضل التي اخترعها تنطبق على الكون. فلما علم بنظريات (آينشتين) في النسبية ومخالفتها لمبادئ نيوتن وإقليدس وقف في وجهها وقفة المدافع الجسور الذي يود أن يحافظ على الكون الإقليدسي. ولم يخضع لنظرية النسبية إلا يوم جاء آينشتين إلى باريز وألقى محاضرته في (الكوليج دو فرانس) وجاء بنليفه إذ ذاك واستقبله لا باسم العلم فقط بل بصفة السياسة أيضا وكان شارع المدارس المؤدي إلى الجامعة غاصاً بمجي الاطلاع الذين لم يجدوا لأنفسهم محلا داخل المدرج وقد شاهد الحاضرون كيف احتدم الجدال بين (آينشتين) وبنليفه وكيف أن هذا الأخير كاد ينقض نظرية النسبية لولا أن الموسيو (هادمارد) قال له: (ألا ترى يا صديقي انك تخلط بين زائد ر وناقص ر) فارتعش الحاضرون لاعتراض الموسيو (هادمارد) وصفر احد الجالسين في شرفات المدرج ولم يدر هذا الذي صفر انه هدم بتصفيره عالم ديكارت وزمان نيوتن وانه لم يبق اليوم بعد بنليفه من يستطيع أن يدافع عن مفاهيم الطبيعة القديمة وصور الزمان المجرد والمكان المطلق. الم يقل هنري بوانكارة قبل آينشتينأننا لا نستطيع أن نصور العالم بمعادلات التفاضل ولكن بنليفه لم يأبه لكلام هنري بوانكاره بل حاول الكشف عن حقيقة الوجود بمعادلات التفاضل فقال فيه هنري بوانكاره (لما رأيت بنليفه سائراً في هذه الطريق وددت أن أقول له قف هنا ولا تتابع سيرك لان مطلبك صعب المرتقى ولأنك ستصادف في طريقك جداراً لا تقوى على هدمه وفي الحق أن بنليفه قد وصل إلى هذا الجدار ولكنه استطاع أن يهدمه ويتابع سيره فأوصل الرياضيات القديمة إلى غاية ما يمكن أن تصل إليه قبل ظهور نظرية النسبية بعشر سنين يوم نشر كتابه في تحليل معادلات التفاضل (1895) ولكنه بعد الاجتماع بآينشتين اعترف بمبادئه الجديدة وطويت بذلك صفحة من صفحات التاريخ. 2 - بنليفه السياسي ولعل لانصراف بنليفه إلى السياسة علاقة بعجزه عن إقامة الجدار الذي هدمته نظرية

النسبية، فانصرف إلى السياسة كما انصرف باسكال قبله إلى التصوف، واظهر في عالم السياسة نبوغاً لا يقل عن نبوغه في العلم ولولا وزارته التي ألفها قبل وزارة كلمنصو أثناء الحرب العامة لما تم لفرنسا الظفر فهو الذي ولى (فوش) و (به تن) القيادة العامة كما ذكر ذلك في كتابه: (كيف وليت فوش وبه تن قيادة الجيش) وهو الذي نظم صنع السيارات المصفحة وغيرها من الاختراعات الحربية ثم خلع قسطنطين ملك اليونان بواسطة الجنرال ساراي وحاصر ممالك أوربا الوسطى وساعد ايطاليا بعد موقعة (كابوريتو) وحمل انكلترا على تصريحها القائل أنها لن تتخلى عن فرنسا حتى نهاية الحرب واستخدم جميع ملكاته العلمية في نجاح سياسته فنظم الطيران في فرنسا بعد الحرب العامة ونظم الخدمة العسكرية وكان في جميع الوزارات التي تقلدها موضع إعجاب الذين عرفوه لجلده على العمل وشدة صبره حتى قيل عنه انه جبار لا يعرف التعب وقد رشحه الحزب الراديكالي سنة 1924 لرئاسة الجمهورية فلن يفز في الانتخاب لتكاتف أحزاب اليمين مع الاشتراكيين ضده وقد كان بالرغم من بعض أعماله التي أبعدت الاشتراكيين عنه ديمقراطياً محباً لبلاده ومحباً للشعب والإنسانية فلا عجب إذا قرر المجلس الوطني أن يدفنه في البانتئون مع العظماء هذا هو الرجل الذي فقده العالم في أواخر الشهر المنصرم وخلد اسمه تاريخ العبقرية مع الخالدين.

العائلة في أفريقيا الشمالية

العائلة في أفريقيا الشمالية ألقى الأستاذ مونيه المدرس في جامعة باريز محاضرة في اليوم الخامس عشر من هذا الشهر في مدرج الجامعة السورية الكبير في دمشق موضوعها العائلة في أفريقيا الشمالية ولقد بدأ المحاضر بتعريف العائلة في أفريقيا الشمالية وعلى الأخص في بلاد الجزائر التي أقام فيها زمناً طويلاً كما ذكر فوصف بعضاً من الأوضاع الاجتماعية لدى القبائل موجزاً البحث في الفوارق القائمة بين أهاليها وبين سكان المدن معتبراً أن الصفة الخاصة التي تمتاز بها العائلة في أفريقيا الشمالية هي السلطة الأبوية التي كانت تتصف بها العائلة الرومانية القديمة وضرب على ذلك أمثلة كثيرة ذكر التشابه بينها وبين ما يمكن ذكره من الأمثال في البلاد الإسلامية الأخرى أو جميع البلاد القائمة على شواطئ البحر المتوسط مستخلصاً من ذلك أن العائلة الأبوية التي تمتاز بسلطة الأب الذي هو رئيس العائلة وخضوع جميع أفراد العائلة وأولادهم وأحفادهم متزوجين أو غير متزوجين لهذه السلطة التي تؤلف في بلاد الإسلام الشكل العائلي الخاص بالأقوام الإسلامية وتختلف اختلافاً واضحاً عن العائلة الأوربية التي لم يبق فيها اثر لتلك السلطة الأبوية. ثم تطرق إلى البحث عن المرأة وخضوعها لحكم الرجل، ضارباً على ذلك أمثلة كثيرة شاهدها جميعها كما ذكر في بلاد المغرب وقد فسر هذه الأمثلة التي ذكرها فقال أنها ترمي جميعها لوجوب خضوع المرأة لزوجها خضوعاً تاماً مطلقاً وعلل ذلك بأن العائلة الأبوية تتطلب هذا الخضوع إذ أن النظام العائلي لا يتم في العائلة الكبيرة إلا بخضوع المرأة لزوجها وخضوع الزوج لأبيه أو لجده خضوعاً تاماً تنشأ عنه السلطة الأبوية المتمثلة في شخص رئيس العائلة الأكبر وحاكمها الفرد. وقد ختم المحاضر بحثه بعد أن أتى على ذكر صفات كثيرة تفرق هذه العائلة الإسلامية عن العائلة الأوربية ببيان الوحدة في الصفات المتشابهة بين العائلة الأوربية والعائلة الإسلامية معدداً أمثلة كثيرة على ذلك شاهدها وقرأ عنها في البلاد الفرنسية مستخلصاً من ذلك أن الفوارق وان تكن كثيرة فان هنالك من التشابه في النظام العائلي والعادات والأخلاق ما يسهل التفاهم بين الفريقين ويساعد عليه. هذا ملخص ما ذكره الأستاذ مونيه في محاضرته وان وجوه النقد على هذه المحاضرة كثيرة أتاح لنا أحد الاجتماعات التي حضرناها في جمعية مقايسة الحقوق في باريز منذ سنتين أن

نوجه أهمها إلى الأستاذ مونيه نفسه بعد أن انتهى من إلقاء هذه المحاضرة نفسها على جمع من أساتذة باريز والمتشرعين فيها. ووجوه هذا النقد يمكن تلخيص أهمها بما يأتي: إن الأستاذ مونيه وهو أستاذ في التشريع لا في علم الاجتماع لم ينظر إلى العائلة كوضع اجتماعي فيصف قبل كل شيء المراحل التي اجتازتها العائلة منذ القدم فهو يتكلم عن العائلة كما كانوا يتكلمون عنها قبل أن يكون لعلم الاجتماع قواعد وأسس مقررة لا محيد عن الرجوع إليها في درس الأوضاع الاجتماعية. فالعائلة الإسلامية كغيرها من العائلات اجتازت مراحل كثيرة في مختلف البلاد الإسلامية لابد لمن يعالج هذا البحث من الاطلاع عليها حتى لا يتسرع في حكمه تسرع الأستاذ مونيه، وهنالك فوارق كثيرة بين العائلة في المدن والقرى ولدى الإعراب المتحضرين والبدو الراحلين لابد من ذكرها أيضاً حتى يمكن وصف الصورة صحيحة كما هي فليس من الصحيح أن يحكم بان الصفة التي تميز العائلة الإسلامية عن غيرها هي السلطة الأبوية كما هو الحال في العائلة الرومانية القديمة، فالمرحلة الأخيرة التي اجتازتها العائلة الإسلامية في المدن حتى أصبحت تتألف من الزوج والزوجة والأولاد مستقلين عن العائلة الكبيرة لا تفرق بشيء عن العائلة الأوربية. وإذا وصلت العائلة الإسلامية إلى هذه المرحلة الطبيعية من مراحل التطور الاجتماعي فليس معنى ذلك أنها أصبحت غربية وغير مسلمة. والأغرب في محاضرة الأستاذ مونيه أن يذكر حادثاً من الحوادث الاجتماعية شاهده في شمال أفريقيا ثم لا يلبث أن يقول أن هذا الحادث موجود في جميع البلاد الإسلامية دون أن يؤيد ذلك بالأوضاع الاجتماعية الموصوفة في بقية البلاد الإسلامية المتعددة الأقطار المترامية الأطراف. لقد ذكر مثلاً أن ذبح الضحية قبل دخول العروس إلى بيت زوجها هو من التقاليد التي لا محيد عنها في بلاد المغرب وهكذا الأمر في بقية البلاد الإسلامية مع إننا لم نقع على أثر لهذه العادة عند المسلمين في سورية إلا عند قبائل البدو الراحلة أو عند بعض الأعراب الساكنين في المضارب وهنالك أمثلة أخرى ذكرها المحاضر الأستاذ مونيه وخصصها بالبلاد الإسلامية دون أن يتحقق منها فكانت مجالاً لعجب من حضروا محاضرته ولقد عجبنا مع من عجب ونحن نستمعها في دمشق كما عجبنا ونحن نستمعها في باريز كيف أنه يعمد إلى هذا التعميم السريع دون أن يؤيده بالحادثات الاجتماعية ويضرب عليه الأمثلة

الراهنة. يشكو علماء الاجتماع في هذا العصر وعلى رأسهم بوكله وفو كونه وليفي برول من أساتذة جامعة الصوربون مما يلقاه علم الاجتماع الصحيح من المصاعب بسبب هذا التعميم العاجل قبل التحقيق والبحث، موصين تلامذتهم في كل وقت وحين بإتباع قاعدة سلفهم دور كليم شيخ علماء الاجتماع، تلك القاعدة التي تحظر التعميم في الأبحاث الاجتماعية إلا إذا تقدمه الاستقراء الدقيق والأدلاء بالبراهين ووصف الحادثات المختلفة متشابهة أو غير متشابهة مع ضرب ما يؤيدها من الأمثلة الحسية الراهنة. ولا نعرف كيف يرضى الأستاذ مونيه أن يقدم في محاضرته على ما يشكو منه أساتذة علماء الاجتماع ويرون فيه كل الخطر. علي أن في إلقاء هذه المحاضرة في دمشق كثيراً من الفوائد العلمية والاجتماعية تدعونا لشكره على ما بذله من السعي في سبيل العلم والمتعلمين. ك. د

الكتب والصحف

الكتب والصحف رجال المال والأعمال هدية مجلة المقتطف في هذه السنة ما برحت مجلة المقتطف على ما كان عليه منذ نشأتها، أرقى مجلات الشرق العربي وأغزرها مادة وعلماً وما زال أصحابها دائبين السعي وراء تحقيق غايتهم الأولى من الدعاية للعلم الصحيح ومعالجته وتحبيبه لأبناء الأقطار العربية فالمنافع الاقتصادية ومشاريع المال التي تسير العالم في هذا العصر وتحكم في أقدار الرجال وتستحوذ على أرواحهم وهم لا يشعرون لتخضع ضمائرهم لأغراضها وتسخر جهودهم في الحياة، لغاياتها كما يقول الأستاذ غابريل بونور، لم تستطع بعد أن تغير وجهة الهدف الذي جعله أصحاب المقتطف نصب أعينهم منذ أسسوا مجلتهم من مصر وإن الثبات على المبدأ الذي حق للمقتطف أن تكون كمثال له في الشرق العربي لدليل جديد على ما يمكن أن يأتيه أبناء العرب من جلائل الأعمال رغم ما آلت إليه سمعتهم وما رماهم به الغرب من سؤ الظن بعد أن انصرفوا عن تبرير أعمالهم وتوفيقها مع مقاييس محدودة مقرره تخفي ما برز من سؤها وشناعتها شأن أخصامهم في بلاد الغرب وأقدموا على العمل كما توحيه إليهم نفوسهم وتلهمهم أرواحهم لا كما يتطلبه العراك في هذا العصر الذي قامت قوة المال فيه على الإرادة والإقدام لا على التسليم والرضى وتوقفت مشاريع المكاسب والمرابح بين أبنائه على ما يبتغيه البشر لا على ما يريده القدر. على أن عمل أصحاب المقتطف الذي ألهمتهم إليه نفوسهم الشرقية والذي لم تشوبه بعد شوائب المادة لم يمنعهم من دعوة أبناء الجماعة التي ينتسبون إليها للأخذ بما يتطلبه النجاح ويقتضيه الصراع والعراك في هذا العصر ولقد أرادوا أن يجعلوا هدية مشتركيهم في هذا العام مجموعة من تلك المباحث التي أصبحت في هذه الأيام أحاديث الناس في الشرق العربي وموضع اهتمامهم بعد أن أيقن الجميع ما للمال من السلطة في أي عمل كان من أعمال السياسة الأوروبية وما يتبعها من مشاريع الاستعمار والاستثمار والفتح، فقدموا لهم صورة نماذج من أشهر رجال المال والأعمال في الغرب مجموعة في كتاب واحد بعد أن درسوا بعضها في أجزاء مختلفة من المجلة فجاءت الهدية فريدة في بابها ثمينة في موضوعها جذابة بأبحاثها لا يكاد يعلق القارئ بأول صفحة

منها حتى تستهويه فلا يريد أن ينفك عنها إلى أن يأتي على آخرها ولقد صدرت إدارة المقتطف الكتاب بمقدمة عن رجال المال والأعمال واتبعتها بمقال قيم عن سلطة المال ثم أفردت لكل من الرجال الذي جعلتهم موضوع بحثها كجون كوك وهنري فورد ونور ثكلف وروتشليد وأسرته وسكورسكي وروكفلر وكروب وموزغان وغيرهم من مشاهير الأعمال والمال في الغرب فضلاً بحثت فيه عن نشأة الرجل ومولده والوسائل التي رجع إليها في جمع ثروته والخطة التي انتهجها في إدارة أملاكه ومصانعه ومعامله وإنماء ثروته مع تحليل ما ساعده على النجاح من الصفات والمزايا التي اتصف بها والظروف الطارئة التي اعترضته والمصاعب التي لقاها وذللها إلى غير ذلك مما لم يعد يستغني أبناء الشرق العربي اليوم من الإطلاع عليه في اجتيازهم هذه المراحل الصعبة التي يعانون مضضها ويقع الكتاب في مائة وثماني صفحات من القطع الكبير مزين بالصور ومطبوع على ورق جيد بأحرف جلية ومرتب باعتناء زائد شأن جميع ما تصدره إدارة المقتطف من الكتب القيمة زاد الله في توفيقها وجرى أصحابها عن جهودهم خيراً. ك. د فلسفة مناهج العلوم ترجم الدكتور كامل نصري أستاذ علوم التربية والجغرافيا في مدرستي التجهيز والمعلمين في دمشق كتاب الأستاذ فليسيان شاللاي في المبادئ العامة للعلوم. وقد عني بتعريبه كما قال تعريباً صادقاً، حتى غدا فوق ذلك أفضل معين لأستاذ الترجمة في شعبتي الفلسفة والرياضيات. وقد رجح حضرته التعريب الصحيح على التأليف الملتقط، فجاء كتابه أنموذجاً في صناعة التعريب الحر في حتى تكاد تشعر بالأصل الفرنسي خلال الترجمة العربية لولا أن المعرف حرف أحياناً أمثلة المؤلف واستبدل بها أمثلة حسية مشخصة موافقة لمدارك التلاميذ كقوله (ص - 5): فمثلاً بعد أن أرى نصب ساحة الشهداء بدمشق، الذي أقيم تذكاراً لمد السلك البرقي بين دمشق والحرمين الشريفين، احتفظ بصورته البصرية. وبديهي أن الموسيو شاللاي لم يذكر هذا المثال في كتابه، بل هو من وضع الدكتور نصري فلولا رغبة المعرب في تقريب المباحث من أذهان التلاميذ لما سمح لنفسه بهذا التحريف

البسيط. وكل من مارس الترجمة قليلاً عرف ما في تعريب الكتب العلمية من العناء. وقد وفق الدكتور نصري في تعريبه إلى وضع بعض الاصطلاحات الفلسفية الجديدة ولكنه خالف بها كلام فلاسفة العرب هذا فضلاً عن أن بعضها لا ينطبق على المعاني الأصلية كقوله الحس العضلي في ترجمته) بدلاً من حسن الحركة، وكقوله في ترجمة عبارة ' لا علم إلا من العام بدلاً من أين يقول لا علم إلا بالكليات وفقاً لكلات العرب الذين نقلوا عبارة آريسطو هذه إلى اللغة العربية قبل أن ينقلها الأوربيون إلى لغاتهم. وكقوله الرصد بدلاً من الملاحظة في ترجمة كلمة - وكقوله سوقراط بدلاً من سقراط، وكقوله علم الحكمة بدلاً من علم الطبيعة أو (الفيزياء) وكثير من مثل هذه الألفاظ التي لا يمكن ذكرها هنا. وقد أكثر الدكتور نصري من ذكر الاصطلاحات الفرنسية إلى جانب الاصطلاحات العربية حباً بالمحافظة على الأصل، فوقع في كثير من الأغلاط المطبعية التي لا يمكن تجنبها لجهل عمال المطابع اللغة الفرنسية وقد صحح في الخطأ والصواب كثيراً من هذه الأغلاط المطبعية إلا أن هناك بعض الأغلاط التي خفيت على المصحح كقوله (ص - 8) بدلاً من وقوله (ص - 17) بدلاً من ونحن وإن كنا لا نوافق الدكتور نصري على مذهبه في الترجمة فإننا نشكره على هذه الجهود التي بذلها في المحافظة على الأصل حتى أخرج هذا المؤلف القيم إلى اللغة العربية. وتعتقد أن الترجمة الحرفية تضيع المعنى وتشوش الفكر وتزيد الغموض وها نحن ننقل للقراء مثالاً من هذه الترجمة الغامضة التي تدل على أنه خير للمعرب في بعض الأحيان أن يتصرف بترجمته تصرفاً قليلاً من أن يحافظ على الأصل محافظة عمياء. فمن هذه القطع الغامضة قول الدكتور (ص14) يجب أن نفهم أن الغاية الأساسية الحقيقية من تمحيص الطبيعة هي جعلها خاضعة لعلم البشري، لأن معرفة قوانين الحادثات التي تساعدنا أبداً على تنبئها، تستطيع وحدها أن تصل بنا في الحياة الفعالة إلى تعديل حادثة باخري، حسب ما تقتضيه مصلحتنا. وإن وسائلنا الطبيعبو والمبشارة المؤدية لتكييف الأجسام التي تحيط بنا هي ضعيفة جداً وغير متناسبة بوجه من الوجوه مع احتياجاتنا، فلا نوفق للقيام بعمل كبير، ما لم تسمح لنا معرفة القوانين الطبيعية بإدخال بعض العناصر

المعدلة في عداد حالات معينة تؤثر في حصول الحادثات التي مهما كانت ضعيفة بذاتها، تكفي في بعض الحالات لتعديل النتائج القطيعة الناشئة عن جميلة أسباب خارجية وجعلها تلائم مصلحتنا. وبالرغم من هذا الغموض فإننا لا نستطيع أن نخفي إعجابنا بالجهود التي بذلها الدكتور نصري لإخراج هذا الكتاب القيم إلى اللغة العربية. والكتاب جيد الطبع حسن الورق يجدر بكل من يريد أن يطالع على الحركة الفلسفية في سوريا أن يطالعه ويقتنيه. الورد الأبيض مجموعة أقاصيص مصرية قال عنها مؤلفها الأديب محمد أمين حسونه أنها صور من الفن القصصي الحديث وقد صدرها برسمه الشمسي وعدد في الصفحة الأولى منها أسماء المؤلفات التي وضعها فبلغت ثمانية ذكر أن اثنين منها قد طبعاً ونفذت طبعتهما أما الستة الباقية التي لم تطبع بعد فسيظهر بعضها كما قال في يناير وبعضها في اكتوبر وبعضها سيظهر قريباً. وفي مطلع الكتاب تصدير للمستشرق المستر باكستون تكلم فيه عن القصة ومكانتها في الأدب وختمها بشكر المؤلف على جهوده وقدم الكتاب للقراء الأديب محمود تيمور بعد أن تلكم عن القصة المصرية وتطورها تاركاً للقراء أن يزنوا الاعتبارات التي ذكرها فيقدروا معه العمل الفني الخالد الذي يعمل المؤلف في سبيله. والكتاب يحوي على ثلاث عشرة قصة صغيرة يخيل لمن يقرأها أنها نقلت عن لغة أوربية حافظ المعرب كثيراً على الأصل في نقلها فهي لا تفرق عن الأسلوب الغربي إلا بأسمائها المصرية وكثيراً على الأصل في نقلها فهي لا تفرق عن الأسلوب الغربي إلا بأسمائها المصرية وكثيراً ما يضطر المؤلف جرياً مع هذا الأسلوب وتسهيلاً لتأليف الحوادث أن يرسم صوراً شاذة من صور العائلة المصرية المسلمة فيكاد لا يترك فرقاً بينها وبين العائلة البرايزية الحديثة مثلاً إلا بأسماء الأشخاص فقط ويعتقد الأديب حسونه في كثير من قصصه أن وصف الواقع كما هو وبأي صورة كانت يكفي لأن يؤثر في نفس القارئ فهو يحاول أن يقص القصة كما وقعت أو كما تخيل أنها وقعت لا كما يجب أن تقص لتثير الإعجاب وتدعو لاهتمام القارئ حتى يخيل إليك وأنت تقرأ بعض قصصه أنك التقيت في سفرك في القطار بشخص لم تعرفه من قبل فجلس إليك يحدثك عن حوادث عادية وقعت له لا يعنيك أمرها ولا يهمك

شأنها ويستمر في حديثه حتى توشك أن تضيق به ذرعا. وحرص الأديب حسونه على وصف الواقع كما هو في بعض قصصه كثيراً ما ندعوه للتصريح بأسماء أشخاص وأطباء وأصحاب فنادق حتى تصبح القصة وكأنها صفحة إعلانات في الجريدة أو تقرير رسمي وضعه أحد مأموري الشرطة. هذا ونظن أنه لا يخفي على الأديب حسونه أن جمال الفن الروائي ليس هو في وصف الواعق فحسب بل في اختيار ما يجب وصفه للقارئ من هذا الواقع ولولا ذلك لما بقي فرق بين القصة التي يقصها أحد عامة الناس وبين القصة التي يرويها كاتب عبقري أو شاعر فنان على أن في المجموعة كثيراً من القصص الممتعة التي تخالف هذا النقد القاسي الذي ما كنا نوجهه إلى الأديب حسونه لولا ما رأيناه في مجموعته من بوادر العبقرية الفنية التي سيكون لها شأنها في تاريخ تطور القصة المصرية إذا تعهدها واستمر على ما يبذله من جهود كثيرة وفقه الله. ك. د مقالات في التربية والتعليم تأليف واصف بارودي بيروت 1933 يصرف الأستاذ واصف بارودي مفتش المعارف في لبنان، جهوداً كبيرة لخدمة التربية والتعليم نرى من الواجب أن نشكره عليها ونعرب عن تقديرنا لها. فإن فن التربية والتعليم لا يزال متأخراً في البلاد العربية رغم أننا في أشد الحاجة إلى إصلاح مدارسنا وتنظيمها على أسس قوية تضمن لنا نشر المعارف والعلوم بصورة سريعة وصحيحة. لا شك في أن بلادنا بحاجة ماسة إلى زيادة المدارس لمكافحة الأمية القتالية ولكن لا شك أيضاً في أن المدارس الموجودة ناقصة جداً لا تصلح لتربية النشيء وتعليمه كما ينبغي. فمدارسنا كما قال الأستاذ واصف بارودي، بحاجة شديدة إلى التجدد وإلى نبذ الطرق القديمة العقيمة وإلى اعتناق المذاهب التربوية العلمية الحديثة التي تتفق مع ما تتطلبه كل أمة تنفض عن نفسها غبار الخمول والجمود وتنزع للحياة الصحيحة. . . . ولا رقي لأمة إلا برقي معاهد التربية والتعليم في بلادها. . . .

والأستاذ بارودي يعالج في رسالته الصغيرة مقالات في التربية والتعليم وبعض شؤون المدارس مثل المدرسة الابتدائية وإعداد الدروس وتعليم اللغة العربية وغير ذلك من الموضوعات النافعة. الصحافة الحديثة قدمت مجلة الهلال في هذه السنة هدية إلى قرائها رسالة صغيرة عن (الصحافة الحديثة) يقتصر الكلام فيها على تنظيم دار الهلال والمجلات التي تصدرها. والغاية من هذه الرسالة ظاهرة وهي الدعاية لمطبوعات دار الهلال التي لا ينكر أحد اتقانها وتأثيرها في الجمهور. ولكن كان ينتظر من إدارة الهلال الغنية أن تخرج إلى قراء العربية شيئاً من الكتب القيمة والرسائل المفيدة وهي إذا قصدت ذلك لم تعجز عنه كما يبرهن العدد الممتاز الأخير من الهلال الذي جعلت موضوعه حياتنا الجديدة واستكتبت له طائفة كبيرة من مشاهير كتاب العربية. الجغرافية العامة الحديثة تأليف سعيد الصباغ صيدا 1933 أهدانا الأستاذ سعيد الصباع في صيدا الجزء الأول من كتابه في الجغرافية العامة وهو يحتوي على مباحث أوروبة وآسية وافريقية وفيه فصول مطولة عن جميع الأقطار العربية. والكتاب يطلب من المؤلف أو من مطبعة العرفان في صيدا وقيمته (40) قرشاً سورياً فقط فتحض الطلاب على اقتنائه كواكب في فلك قصائد ومقالات شعرية وأبحاث اجتماعية وسياسية ألفها الأديب توفيق وهبه وجمعها في كتاب واحد بعد أن نشر بعضها في الجرائد السورية والمصرية. وللأديب توفيق وهبه أسلوب خاص في الكتابة يمتاز بالسهولة والرقة وهو ممن يقيمون في باريز ويكتب في أغلب الأحيان منها وعنها ولذلك فإنك تجد في شعره ونثره ما يجمع بين

الفصاحة العربية وتلك اللياقة البرايزية التي تكاد تلمسها بين سطور الكتاب الذي هو أشبه بمجلة جمعت مباحث مختلفة في موضوعات متنوعة، فهنالك المبارزة ودرسها من الوجهة الاجتماعية والتاريخية والقانونية ثم خطاب عن الموسيقي وحديث عن الزهاوي ووصف مصر في باريز وحظ شاعر وأكبر الكائنات وحديث عن شكري غانم، ثم غرام وهيام، ثم مغامرات، ثم شعر وورد ثم سياسة ثم كواكب وأفلاك ثم حدائق وأنهار إلى غير ذلك مما يستهويك ويستلهيك فلا يدع سبيلاً الملل أن يتسرب إلى نفسك سواء قرأت الكتاب من أوله إلى أوله رغم ما قد تجد فيه من بعض الأبحاث التافهة بالنسبة لغيرها من أبحاثه القيمة ويقع الكتاب في مائة وأربعين صفحة مطبوع طبعاً متقناً على أرواق غاية في الجودة يجد بمن يود اللهو والاستفادة في آن واحد أن يطالعه ويقتنيه. ك. د

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب إلغاء كلية الآداب في دمشق كان الناس منذ أربع سنوات يوم افتتحت كلية الآداب من محبذي هذه الفكرة فلما ألقيت أول محاضرة فيها هتفوا لها فرحاً وعلقوا على تأثيرها في الشبيبة أعظم الأماني ولكن ولم يلبثوا قليلاً حتى رأوا الشبيبة تعرض عنها وتتصرف إلى سواها، لأنها لم تجد فيها ما كانت تتطلع إليه من ينابيع الحكمة ووسائل النجاح في الحياة. ولو أن حاملي شهادة هذه الكلية كانوا يجدون من وراء شهاداتهم نفعاً مادياً، لا قبل الطلاب عليها ورضوا بما فيها من النقص، ولاستبدلوا بالعلم نتيجة مادية. إلا أن هذه الكلية لم تهيئ طلابها للحياة بل حصرت علومها في الأدب العربي ونصوص اللغة وغير ذلك من البضاعة البالية. فلا غروا إذا أعرض الشبان عنها وهم يرغبون في تثقيف أفكارهم، لا في زيادة ألفاظهم. وهم، مهما تكن درجة ثقافتهم يعلمون أن كليات الآداب في بلاد الغرب تعني بتعليم الأدب كما تعني بتعليم الفلسفة والاجتماع والتاريخ والتربية وغيرها من العلوم المتممة للأدب وتعود طلابها طريقة البحث العلمي والانتقاد والتحليل والاستقراء والمقايسة وتمرنهم على التتبع الشخصي وحرية الفكر وغير ذلك من الدروس التي توسع المدارك وتهذب الشعور. أضف إلى ذلك أن دروس الأدب العربي في هذه الكلية لم تكن كاملة فلم تتناول محاضراتها سوى أفراد من الأدباء ولم يرتفع مستواها عن مستوى الدروس الثانوية، حتى أن بعض دروسها كانت دون مستوى التعليم الثانوي من حيث النقد والتحليل والتتبع الشخصي دون إشارة إلى تطور الأدب عامة وتطور الأدب العربي خاصة مع دراسة نواحيه المختلفة وفقاً للطرائق الحديثة المتبعة في الجامعة الغربية. ولعل لضعف التلاميذ الذين تابعوا دروس كلية الآداب أثراً في ضعف مستوى الكليلة فقد أدخلوا فيها بادئ بدء كثيراً من التلاميذ الضعفاء الذين لم ينهوا دروسهم الثانوية فكان الأساتذة يضطرون في تعليمهم إلى السير معهم أضف إلى ذلك جهلاً بطرائق التعليم العالي وتنظيم العمل. إذن فلا غرو إذا فشلت هذه التجربة وقررت الحكومة إلغاء الكلية، لأنها كانت من عجائب

الأوضاع التعليمية وقد قالت الحكماء كل عضو لا ينفع فمصيره الزوال وقالوا أيضاً لا يصح إلا الصحيح ولا يبقى إلا الأنسب. على أننا كنا نود لو عمدت الحكومة إلى الإصلاح دون الإلغاء، فإن العضو المريض لا يداوي دائماً بالبتر، ونعتقد أن فساد تنظيم الكلية وعدم عنايتها بالدروس الفلسفية والاجتماعية هو السبب الحقيقي الذي أدى على مرضها ومنعها من البقاء. كم يمكن أن نعيش دون أكل وشرب إن حوادث الإضراب عن الطعام ومسابقات الجوع قد ساعدت على قيام العلماء بتجاريب ومباحث علمية لمعرفة المدة التي تستطيع أن نعيشها دون طعام مقتصرين على الشرب. ولكن لم يفحص العلماء - ما عدا مرة واحدة - الحالات التي يبقى فيها الإنسان دون طعام وشراب معاً. وقد أجريت أخيراً بعض التجاريب على الأرانب فثبت أنها عاشت مدة 15 - 17 يوماً دون أي شيء من الطعام أو الشراب. ويقول الأستاذ (يونكر سدورف) أنه ليس لدينا من حجة تبرهن على أن الإنسان يستطيع أن يعيش أكثر من هذه المدة. التداوي بالحمى ظهر للأطباء في السنين الأخيرة أن ارتفاع الحرارة في الحمى ليس فيه من خطر على الجسم بل إنما الضرر ينجم عن التسمم بالمواد المرضية الموجودة في الجسم وليس الحمى في الحقيقة سوى محاولة دفاعية من جسم المريض لمكافحة أسباب التسمم. وكذلك تبين من ملاحظات أخرى أن الحمى كثيراً ما تكون لها نتائج حسنة في الأمراض السارية المزمنة. ومن هنا نشأت فكرة التداوي بالحمى. وقد نجحت هذه الطريقة في معالجة الأمراض العقلية بالمالاريا فإن الحمى الشديدة التي تتولد من التلقيح الصناعي بجراثيم المالاريا تفيد فائدة كبرى لمداواة الاختلال الزائد في العقل. الزلال الاصطناعي أذاع البحاثة الأوسترالي (فرانسيس) في المجمع العلمي في (كوينسلاند) أنه قد توصل إلى صنع الزلال من حامض الفحم ومن أملاح غير عضوية وسيكون لهذا الاكتشاف، إذا صحت دعوى الأستاذ (فرانسيس) تأثير كبير في التطور العلمي لأننا بذلك نكون قد وفقنا

إلى قلب المواد غير الحية في الطبيعة إلى مادة حياتية مثل الزلال الذي يتألف منه الجزء الأكبر من الجسم الحيواني والنباتي. وفي الحقيقة فإن الأستاذ (فرانسيس) قد وضع منذ الآن نظرية جديدة عن نشوء الحياة. ولكن قبل أن نقبل بهذه النظرية ينبغي أن نتحقق من صحة تجاريبه لصنع الزلال بصورة اصطناعية. . الشعر وتعيين العمر تدل التدقيقات العلمية بالمجهر على أن شعر الإنسان يتألف من حلقات يختلف عددها حسب التقدم في العمر، كما هي الحال في الأشجار التي تعرف أعمارها من عدد الحلقات في جذورها. وهكذا فإننا نلاحظ في شعر شخص يبلغ العشرين من العمر ست حلقات مقابل اثنا عشرة في شخص عمره أربعون سنة. ويقال بأنه قد اكتشفت علائم أخرى في الشعر يمكن الاستدلال منها بكل دقة فيما إذا كان الشخص يدخن التبغ أو يدمن الخمر أم لا هل يساعد البرد على النمو؟ لاحظ بعض العلماء أن أصغر الأنواع لكثير من الحيوانات إنما تعيش في البلاد الحارة مثل أفريقيا الشمالية وأوستراليا وكاليفورينا الجنوبية. بينما من جهة أخرى نرى أن الحيوانات التي تعيش في المناطق القطبية تفوق بجسامتها جميع الأنواع من فصيلتها في البلاد الأخرى البعيدة عن القطب. وهذه الأسماك مثلاً في البحر المتجمد الشمالي لا يمكن مقايستها في الضخامة والثقل مع الأسماك من جنسها في البحر البلطيقي أو بحر الشمال. ويظهر أن الحرارة التي تساعدنا على النمو تحول دون كماله والوصول إلى غايته. .

الثقافة وعلاقتها بعبقرية الشعوب

الثقافة وعلاقتها بعبقرية الشعوب للفيلسوف رضا توفيق تعريب جميل صليبا من المسائل ذات البال التي تعد في أيامنا هذه في الدرجة الأولى من الخطورة مسألة أوحى إلي بها اسم هذه المجلة الراقية فكتبت مقالي الأول فيها ولم ألم بأطراف البحث إلا قليلاً. لم يكن مقالي إلا إشارة أولى لتوجيه انتباه الشبيبة العربية المفكرة إلى جملة من المسائل التي تعرض للباحث عند أمعان النظر في أمور الثقافة. ومن عانى هذه الأمور أدرك أن صور الثقافة تختلف بحسب الأدوار التاريخية الأساسية التي قطعتها البشرية في تطورها وبحسب الظروف التي امتازت بها هذه الأدوار على غيرها، هذا فضلاً عن اختلافها بالنسبة إلى المحيط الطبيعي والاجتماعي أو بالنسبة إلى العبقرية والذوق الفني والمزاج القومي. إن كل مسألة من هذه المسائل الأساسية تكتشف عن جملة من المسائل العويصة، لم يبحث فيها أحد - فيما أعلم - لا الغاية أو لغرض. ولو عالجها العلماء بصورة علمية لما تأخر حلها إلى أيامنا هذه. وهي بالرغم من ذلك تتطلب حلاً - ولو مؤقتاً - لأن لها خطورة عملية ومنفعة حيوية واسعة النطاق. وكلما خطرت هذه المسائل ببال المرء وتصورها بوضوح شعر بضرورة الاهتمام بها اهتماماً شديداً. ولكن المفكرين لم يدركوا خطورة هذه المباحث ولم يشعروا بأهميتها إلا في الآونة الأخيرة. إن درس الثقافة درساً منظماً يكشف عن كثير من العلائق المشتبكة بغيرها من العوامل المستعصية والحوادث الهامة التي ساعدت على انتشار الحياة الفكرية بين الأفراد والمجتمعات وعلى ذلك فالبحث والتدقيق في هذه الأمور التي لم يعرف موضوعها ولم يحدد نطاقها بعد، يقود الباحث - إذا خضع لمنطق الحوادث - إلى هذا النوع من القضايا. وأني له أن يفهمها إذا لم يتصل بتاريخ الشعب ويألف عبقريته التي أبدعت هذه الثقافة. أقول على الباحث في هذه المسائل أن يعرف فضائل الشعوب وآدابها ومذاهبها الفلسفية

وعقائدها الدينية وأمانيها ومثلها العليا، وإن يجاريها في ذوقها الفني، ويمازج على قدر طاقته أحلامها. ولكن كيف السبيل إلى متابعة البحث بالنزاهة الفكرية اللازمة المكشف عن الحقائق المستترة وراء هذه المعضلات؟ إن العواطف الشخصية والميول القومية تمازج هذه الحوادث وتعمل على تبديلها. وهل يمكن التجرد من تأثير العطف والنفور عند البحث في هذه الأشياء الإنسانية التي نطلق عليها اسم الثقافة؟ إذ كثيراً ما يكون تأثير العواطف في البحث العلمي قوياً، بحيث لا يمكن التغلب عليه، فيمنع الباحث من إدراك غايته المجردة ويؤثر في نتائجه أسوأ تأثير. ليس للعواطف شأن في دراسة العلوم الصحيحة المجردة كالرياضيات، ولذلك كان البحث عن حقائقها سهلاً جداً. انظر إلى الأعداد والدساتير المجردة، أنها بعيدة عن أهوائنا وليس لها علاقة بحياتنا الاجتماعية ولا بآبائنا القومي أو عقائدنا المقدسة أو أوضاعنا القديمة وتاريخنا الماضي ورغباتنا الحاضرة وآمالنا. أما أمور الثقافة فإن الباحث لا يستطيع أن يتجرد فيها عن عواطفه لأنها تدل على كياننا الروحي وقيمتنا الأخلاقية وثروتنا الفنية والأدبية. لذلك اختلف العلماء فيما بينهم لا بل ناقض بعضهم بعضاً عند البحث في هذه المسائل. لأنهم كلما ساقهم البحث إلى النظر في أمور الثقافة عجزوا عن التغلب على عاطفته القومية واصطدموا لا محالة بقضية الجنس. ولكن كيف التراجع أمام هذا (الاسفنكس)، دون الجواب بصورة صحيحة عن الأسرار التي يلقيها علينا؟ الفكر يتردد تحت تأثير هذا الميل الأعمى ويظن أن قومه فوق كل قوم وأنه نقي خالص من كل شائبة أجنبية شائنة. إن هذا الصلف يفسد حكم الباحث بالأدلة السفسطائية التي تقوم عليها محاكماته البعيدة عن المنطق الصحيح وعند ذلك تجد المناقشة قد انتقلت من البحث في أمور الثقافة إلى البحث في أفضلية القومية وامتياز جنسية الباحث على جنسية غيره. وتجد الباحثين إذا أرادوا ركز فرضياتهم السريعة التي خاطروا بها على الحوادث المشخصة يستقون أدلتهم من العلوم التي لم تثبت حقائقها بعد كعلم فراسة الرأس وعلم الأقوام وعلم وصف الجماعات وعلم منشأ اللغات وعلم الجغرافيا التاريخية وعلم الأساطير وغير ذلك من العلوم التي لا أدري ما اسميها.

أني أتابع منذ ثلاثين سنة تقريباً هذه الحركة الفكرية فأوصلتني دراستي الطويلة وتأملاتي العميقة إلى نتيجة لابد لي من الجهر بها. وهي أن النتائج التي نتوصل إليها بأحكامنا الباطلة التي أفسدها الصلف وشوهها الإعجاب بالنفس أو أوحت بها العصبية القومية لا يمكن أن تكون إلا رأياً من الآراء أو فرضية من الفرضيات، لا حقيقة علمية يقينية. ومما يؤسف له أن هذه الفرضيات المتناقصة التي تبحث في منافع الأمم الحيوية وكيانها الوطني تزيد الخلاف الزمني بينها وتولد النفور وتمنع شفاء الأحقاد وإعادة السلام والنظام والتعاون والاتساق إلى عناصر هذا العالم المتمدن. ولو كانت هذه الفرضيات حقائق علمية راهنة لكانت النتيجة على عكس ذلك. أنا أعرف جيداً أن العلم لا يستغني عن الفرضيات، لأن الفرضية هي ظل الحقيقة والعالم يسعى جهده لأن ينير هذا الظل ويجعله واضحاً. ولكن أحسن الفرضيات بناء يتهدم بسرعة إذا تقتضيه حادثة واحدة. إذن لسنا بحاجة إلى قبول هذه الفرضيات الوهمية في علم ليس له من الصحة نصيب وافر كتاريخ المدينة والثقافة، لأن هذه الفرضيات الوهمية قد يصدرها أصحابها بسرعة أو لغاية قومية فيرضون بها كبرياءهم أو تفوق أجناسهم. ومما لاشك فيه أن خير وسيلة لمعالجة هذا النوع من المباحث وأول شريطة يجب تحقيقها هي أن يتفق العلماء على ملاحظة الحوادث. ولكننا نصادف في هذا النوع من البحث مشاكل نكاد لا نستطيع التغلب عليها، وذلك أن الحوادث التي يبحث فيها تاريخ الثقافة أو فلسفة التاريخ ليست حوادث بسيطة كالحوادث التي تدرسها الكيمياء أو يبحث فيها علم الطبيعة (الفيزياء) لأنها حوادث نفسية واجتماعية تدل بإحدى صورها على أحلام النفس البشرية ورغائبها وعقائدها وتعبر عن النية والذوق والإرادة، ولا يمكن تفهم معنى هذه الحوادث إلا بالتأويل. وهذا التأويل هو غاية فلسفة التاريخ. المهندس الذي يريد إقامة البناء يهتم بحساب مقاومة المواد التي بين يديه ويكتفي بمعرفة خواصها، أما الاجتماعي والمؤرخ والفيلسوف فأنهم لا يقتصرون على المواد التي بين أيديهم. ولذلك ربما كان من الممتع على حقائق علم الاجتماع والتاريخ وغيرهما من العلوم المشابهة الوصول إلى يقين العلوم الوضعية الثابتة. إن هذه الملاحظة الهامة جديرة بأن تحفظ.

لم أجعل موضوع مقالتي هذه البحث في الثقافة وعلاقتها بعبقرية الجنس إلا لآتي بمثال بين أثبت به صحة هذه الملاحظات الأولية التي قدمتها كتوطئة. وسيتضح للقارئ أثناء البحث أن الاستناد إلى علم باطل أو بالأصح إلى علم لم يتوصل بعد إلى الطور الوضعي قد يدفع الناس في بعض الأحيان إلى بعض الغرباء كما هي الحال الآن في بعض ممالك العالم المتمدن، وخصوصاً عندما تكحون أحكام هذا العلم مشوهة بالعواطف الواهية المنبعثة عن مسألة العصبية وهي مسألة لا يزال العلماء يتنافسون فيها من كل حدب وصوب منذ أوائل هذا العصر. لست استطيع أن أمنع نفسي من ذكر لمحة تاريخية عن هذه الفكرة العظيمة، ولكنني سأجعل هذه اللمحة التاريخية مختصرة جداً. نحن نعلم أن القدماء كانوا يعدون الحرب أمراً مشروعاً وكانوا يعتبرون الرق حقاً من حقوق الغالب لأنه نتيجة من نتائج الحرب حتى أن الفيلسوف العظيم أرسطو جعله وضعاً من أوضاع الحياة الاجتماعية. ونعلم أيضاً أن الأمم الغالبة كانت تعد نفسها أعلى طينة من الأمم المغلوبة، وإن امتيازات الخاصة كانت مؤسسة على حق الفتح. ومما لاشك فيه أيضاً أن بغض الأجانب واحتقارهم أمر يرجع أصله إلى مبادئ التاريخ. إن بعض الكتابات الهيروغليفية تثبت لنا ببداهة أن فراعنة مصر القدماء كانوا يسمون الحثي والعربي بالأسيوي الدنيء، وما ذلك إلا لأن الأسيوي كان يزعجهم ويؤلمهم في دارهم. ومن الغريب أن هذه الأمور لم تتغير كثيراً منذ ذلك الوقت. وبالرغم من التقدم العظيم الذي حققته البشرية في حظيرة المدنية والثقافة فإنك لا تزال ترى اليوم أن صفة الأسيوي لا تزال مدعاة للاحتقار والازدراء. إن فلسفة التاريخ تثبت لنا أن الحرب كانت منذ القدم الشرط الأساسي لحياة البشر الأولية حيث كانت جموع أجدادنا الأولين تهيم على غير هدى تحت تأثير الجوع الدائم. وربما كان الصواب في قولنا مع سبنسر أن حالة الحرب هذه كانت القدم العامل الأساسي في تنظيم الجماعات وتأسيس الحكم. ولا أشك في أن الحرب قد أثرت ولا تزال تؤثر في تطور البشرية وأنها تصهر الشعوب المختلفة لتولد منها أنواعاً جديدة تصلح لمعترك الحياة ومؤالفة البيئة.

ومما لا شك فيه أيضاً أن الحرب كانت السبب في هجرة القبائل، فأثرت في توزيع الشعوب على سطح الأرض. واستوطن الأراضي الخصبة الممتلئة بالأحراج والصالحة للصيد أعظم الجماعات قوة وأكثرها شجاعة ونشاطاً وأحسنها تنظيماً وأغناها سلاحاً. لم يتغير شيء من ذلك الآن لأن أعظم الأمم قوة وأحسنها مدنية تستثمر اليوم منابع النفط ومناجم المعادن لأن هذه المواد الأولية ضرورية للصناعة الكبرى كما هي ضرورية لمدنية الآلات ومعدات الحرب. إن تغير عدد السكان أمر هام بذاته، لا يزال العلماء يبحثون فيه منذ عصر تقريباً، ولكنهم لم يتوصلوا بعد إلى التعبير عنه بدستور علمي ثابت لأنه تابع لأسباب مختلفة لا يمكن جمعها في قانون واحد. إن عدد السكان قد ازداد في الجماعات الأولية بصورة بطيئة ولكنه من الصعب حصر العوامل التي أثرت في ازدياده، ومما يبعث الحيرة والعجب أن هذه الجماعات اليائسة كانت في حرب دائمة مع الحيوانات الضاربة المحيطة بها. وكانت معرضة للجوع والحرب والمهاجرة وغير ذلك من الأوبئة فازداد عددها بالرغم من ذلك شيئاً فشيئاً حتى اتسع سلطانها وانقادت لها ممالك الأرض. وربما قيل أن ازدياد عدد السكان قد تولد من تكامل الأدوات الحربية شيئاً فشيئاً وامتياز الإنسان على الحيوان باختراع الأسلحة التي صنعها للحصول على غذائه والدفاع عن نفسه في مقاتلة أعدائه الطبيعيين. على أنه من الممكن أيضاً أن يكون ازدياد السكان ناشئاً عن انقطاع الحرب ورجوع الهدن التي تحفظ الحياة وتهيئ أسباب الراحة وتساعد على تربية الحيوانات النافعة وحراثة الأرض. ولا أشك أبداً في أن عدد السكان يزداد بازدياد وسائل الراحة والرفاه وشمول الأمن أي بازدياد الحضارة. إن أكثر المتعلمين يعرفون منذ زمان غير بعيد قريب هذه الأفكار ذات النتائج العملية ويعرفون كثيراً من الأفكار المشابهة لها حتى لقد صارت أساساً لفلسفة السياسيين في أوروبا. أما رجال السياسة في الشرق الأدنى فقد كانوا يجهلون هذه الأفكار تماماً. ولقد رأى (توماس روبر مالتوس) أحد علماء الاقتصاد البريطانيين الذين ظهروا في أوائل القرن التاسع عشر أن يبحث في هذه المسائل بصورة علمية فأصدر كتابه مبادئ السكان فذاع صيته بسرعة وشغل الناس به كثيراً وبالرغم من أن كثيراً من المفكرين الذين تربطهم

عواطفهم وميولهم الإنسانية بالمبادئ الخيالية انتقدوا هذا الكتاب وعدوه مخالفاً للأخلاق فغنه استرعى انتباه الجميع وأثر في تاريخ الفكر الحديث تأثيراً عظيماً. ولقد أصاب مالتوس في استنباط ملاحظاته من علاقة السكان بالغذاء الضروري للحياة. ولا غرو إذا هو رغب في تثبيت هذه العلاقة بدستور علمي يدل عليها. أنه حاول قبل شيء أن يبرهن على أن عدد السكان يزداد بنسبة هندسية وفقاً للسلسلة: (2 2: 4)، (4 4: 16)، (16 16: 256)، وإن الغذاء لا يزيد إلا بنسبة عددية تبعاً للسلسلة (1 + 1: 2)، (2 + 2: 4)، (4 + 4: 8) الخ. . ولكن غضب المنتقدين من كتاب (مالتوس) لم ينشأ عن هذه الاعتبارات النظرية بل تولد من النتائج المنطقية التي استخرجها هو نفسه من هذه الاعتبارات. ولا شك أن عدد السكان إذا ازداد بهذه النسبة المخيفة فلا يبقى - بعد قليل من الزمان - غذاء يكفي الجميع ولا أرض تصلح لهم. لأن القسم الذي يمكن أن يسكن من الأرض لا يزيد عن الربع، ولأن العمران لا يمكن أن يمتد إلى المناطق الشمالية والجنوبية، أو يصل إلى الصحارى العظيمة في أفريقيا وغيرها من القارات الأخرى. فماذا يحصل إذ ذاك؟ أن النتيجة الطبيعية لازدياد السكان هي التطاحن فلا يزال الناس يفترس بعضهم بعضاً حتى يهبط عدد السكان بعد هذه المذابح إلى مستوى الشروط الطبيعية التي يمكنها أن تؤمن حياة جماعة بشرية في نطاق معين من الأرض. ولا شك في أن الشعوب القوية هي التي تفني الشعوب الضعيفة في هذه الحرب التي لا هوادة فيها ولا رحمة، لا بل في هذه الحرب الحيوانية التي يضرمها الجوع وتحركها الغريزة. وهكذا فالحرب حق من الحقوق المشروعة لأنها وظيفة من وظائف الحياة الطبيعية. وهي كما يقولون نافعة للبشرية لأنها وسيلة من وسائل الاصطفاء الطبيعي الذي يؤدي إلى زوال الشعوب الضعيفة ويفسح المجال للشعوب القوية الصالحة للبقاء. إن في الشفقة ضعفاً وانحرافاً عن مجرى العواطف الطبيعي لأن الطبيعة تجهل الشفقة ولا تعرف للحنان معنى. هذه خلاصة من الأفكار الجديرة بالإعجاب التي استنتجها مالتوس في كتابه مبدأ السكان واتبعها أصحاب المذهب الحربي وهي التي جعلت كثيرين من المفكرين يقولون عن آرائه أنها مخالفة للأخلاق. وسوف ترى بعد قليل أن هذه الأفكار لم تتهدم بالانتقادات القاسية التي

وجهت إليها، بل نمت وتنظمت في جملة متسقة من الآراء التي تقوم عليها اليوم أسس فلسفة التاريخ والسياسة في بعض ممالك أوروبا. إن هذه الفلسفة تبلبل اليوم حياة المنيا وتولد الاضطراب في سياستها وتحدث شيئاً من الحمى في نفوس قادتها. إن الذين يلاحظون مثلي بهدوء وسكون هذه العاصفة الهوجاء من الأفكار، ويدرسون بصورة مجردة النتائج التي تنشأ عنها يجدون في هذه التجربة الحادثة اليوم في منطقة واسعة من مناطق العالم المتمدن درساً نافعاً في الفلسفة الاجتماعية. وذلك أن مفهوم الأمة إذا ارتكز على فكرة الجنس الواهية - وهي كلمة مجردة غامضة لا تعريف لها - بدلاً من أن يبنى على الثقافة الجنسية والمصالح السياسية والاجتماعية التي تقوم عليها حياة الجماعة المنتظمة (الأمة)، فإنه يؤدي بالضرورة إلى أضرام العواطف الوطنية العمياء. ويكون للخوف من الغرباء، إذ ذاك، كلمة مسموعة في الوطنية الكاذبة. ولا حاجة بنا إلى القول أن في هذا التعصب الذي هو أكثر شراً من تعصب الأديان خطراً - لا محيد عنه - على حسن اتفاق الدول واتساق مصالحها المشتركة ومنافعها المتقابلة. أضعف إلى ذلك أن الأمم المتمدنة مركبة من عناصر قومية مختلفة الأجناس وإن هذه الأجناس، التي يزعمون أنها خالصة، مركبة هي أيضاً من عناصر أخرى. إن العناصر البسيطة لا وجود لها حتى في الكيمياء. الأمة المتمدنة هي الأمة التي استطاعت دائماً أن تمثل بثقافتها العالية التي لا تقاوم جميع العناصر الغريبة عنها. هكذا كان العرب في أوج مدنيتهم الزاهرة. وإذا استثنينا دولة الأمويين بدمشق أمكننا أن نقول أن العرب لم يبغضوا الغرباء أبداً ولم يخافوا من ازدياد عددهم. فلم ينقرض سلطانهم لضعف سياستهم بل لأسباب عديدة منها الانحطاط والهرم الطبيعي وبغض الأخوة وعداوة الأرحام التي أثارت الطمع وولدت الميل إلى الغلبة والسلطان بين السلالات المالكة. إن الأمة ذات العبقرية القادرة على إبداع ثقافة عالية لا تلجأ إلى بغض الغرباء في حفظ بقائها وصيانة استقلالها. فبينما تجد كثيراً من الأمم المتمدنة في أيامنا هذه مصابة بخوف الغرباء تجد فرنسة قد تركت أبوابها مفتوحة دون أن تخاف من الانحطاط تحت تأثير الغرباء واختلاطها بهم.

إن ثقافتها العالية قادرة على تمثيل هذه العناصر الجديدة قبل نقلها إلى الجيل الآتي. ولنا في تاريخيها أكبر شاهد على ذلك. انظر إلى سويسرا، أننا لا نعرف أمة أحسن منها سكوتاً وأحسن منها نظاماً واتساقاً، وهي مع ذلك مركبة من ثلاثة أجناس من فرنسيين، وإيطاليين، وألمانيين قد حافظوا على هوياتهم القومية. ومهما يكن الجنس عالياً، خالصاً من كل شائبة فإنه لا يكفي لبقاء الأمة، بل الأمة إنما تؤسس على اتحاد المصالح وارتقاء الثقافة وسموها. إن الثقافة تسود العالم وتتغلب على كل شيء فتبقى بعد زوال الأمة التي أبدعتها ولنا في ثقافة اليونان القديمة أحسن مثال يدل على ذلك. لقد أطلت البحث، وأجدني مضطراً إلى الوقوف بالمقال عند هذا الحد. وسأنتقد في مقالي الآتي آراء مالتوس واستعرض أفكار بعض العلماء والفلاسفة ورجال الفن غيرهم من العظماء الذين كان لهم أثر في نمو هذه الفلسفة السياسية الطبيعية المتبعة اليوم. وأرجوا أن أوافق إلى البرهان على أن هذه الفلسفة وطيئة لا قوة فيها ولا جمال. الدكتور رضا توفيق

التربية الفرنسية والثقافة العربية

التربية الفرنسية والثقافة العربية للأستاذ غابريل بونور تعريب جميل صليبا المربي الفرنسي في الشرق الأدنى رسول يقضي عليه الواجب أن يبحث عن الصفات الخاصة التي تتصف بها مسائل التربية وعلائقها بالهيئة الاجتماعية، إن هذا البحث ضروري لتعيين حدود تبعته وجهة جهوده ونتائجها. إن للعمل الذي انتدب نفسه إليه تأثيراً قوياً في تطور هذه البلاد، غير أنه ليس مرتكزاً على أساس اجتماعي بل هو اضطراري أرغمته على القيام به حوادث التاريخ وظروفه الخاصة. إن الثقافة التي ينقلها رجال التعليم الفرنسيون إلى الشرق الأدنى ليست ظاهرة من ظواهر الحالة الاجتماعية فيه، ولا هي ثمرة طبيعية متولدة من شرائط وجود الشرق، ولا من شعور الشرقيين بالحياة. ليست هذه الثقافة من إبداع المجتمع الذي تتوخى إصلاحه، بل هي قد حملت إليه من الخارج مفعمة بالصفات الغريبة. وهي من إقليم غير هذا الإقليم لا تدل على تقاليد الشرق، ولا تحمل آثار ماضيه، فهي إذن ليست من نتاج هذه البلاد ولا هي قومية بل هي آتية من الخارج. وبالرغم من ذلك فإن صفتها الخارجية لا تمنعها من تبديل النفوس والأخلاق وتغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. إن الثقافة الأوروبية أو الأميركية التي استولت على هذه البلاد ترغم الشعب السوري كغيره من الشعوب الآسيوية على الأخذ بمنتوجات الصناعية وأساليب تفكير الغرب وآرائه وعواطفه، ولذلك فهي تطرح على بساط مسألة لا يمكن الأعراض عنها. إن هذه البلاد قديمة جداً، وقد أورثها الماضي ثقافة غنية وجملة مركبة ودقيقة من الاعتبارات الخلقية، وهي تقاليد محترمة وأدب بديع سواء كان دينياً أو غير ديني، وهي أيضاً ذات صناعة وفن وأخلاق، ولها في الحياة البشرية مثل أعلى سام كونته مصائب الحرب وأعمال السلم وهيأه المفكرون العظام في وحدتهم وسكونهم. فليس ينقصها أذن شيء مما تقوم عليه الحضارة العالية والمدنية الروحية الجميلة. وقد نشأ عن ذلك حال معقدة تلقى على المربي الفرنسي كثيراً من الأسئلة الخطيرة فكيف

السبيل إلى جعل الثقافة التي جاء بها تنفذ إلى قلب البيئة فلا تبقى سطحية ولا تحدث انقساماً في ثقافة الشرقيين، ولا خللا في نفوس الأفراد أو اضطراباً في الكيان السياسي والنظام الاجتماعي، كيف السبيل إلى منع هاتين الثقافتين من المنافسة الضارة التي قد تسوق أحداهما في المستقبل إلى القضاء على الأخرى، كيف السبيل إلى إيجاد الاتساق بين هاتين التربيتين الغريبتين اللتين يكاد يتعذر التوفيق بينهما؟ أننا نطمع في أن نكون مرشدين ونود أن نكون قادة العمل الفكري العظيم الذي يرمي إلى تجديد الثقافة في الشرق، إن الشروط التي تساعد على تجديد المدينة العربية الزاهرة متوفرة اليوم، فهناك نخبة من الطبقة المتوسطة مستقلة من الوجهة الاقتصادية قد شعرت بامتياز تقاليدها وخصائصها القومية، وهناك شعور بالماضي حي وقوي، وظهور للقوى القومية، وثروة من الأساطير والحكايات والأهازيج الشعبية بالنشاط والحياة، وهناك شعور قوي بالألفاظ وقوة دلالتها، وهناك لغة قديمة غنية مشخصة تركيبية لا تزال مسيطرة على اللغة التحليلية الحديثة التي أخذت تتوسع وتتكيف وفقاً لدلالات الفكر المجرد - إن الإبداع الفني والفكري الذي ازدهرت به عصور المجد العربي قد تولد من هذه العناصر المختلفة ومن الوحدة العميقة التي يربطها بعضها ببعض. فيمكننا إذن أن نشارك الشبيبة السورية المثقفة في آمالها وأن نتوقع انبثاق الآثار الفكرية القيمة وظهور الأعمال العظيمة في بلاد العرب. إن في وسع الثقاف6ة الفرنسية أن تكون عنصراً مغيراً لا يتغير في دور التحضير والتنشئة، لأنها تحمل معها مثال الحرية الفكرية الناضجة وصورة من المنهاج القويم الذي أبدعته آدابها القديمة. ولكن الفرنسي ربما كان مبالغاً في الظن أن ثقافته ذات نطاق عالمي واسع وإن قيمتها لا تجاري، فلنلق إذن نظرة على الصعوبات التي يلاقيها المربي الفرنسي في تأدية رسالته والعمل بها. إن تجدد الثقافة الذي نتوقعه يلاقي صعوبتين أساسيتين: أولاً: إن الحاجة جعلت تجديد اللغة أمراً ضرورياً ولذلك فقد تعددت التجارب الناجحة في القاهرة كما في بغداد وفي بيروت كما في دمشق لتغذية اللغة.

ثانياً: من الضروري أن تؤدي العلاقات المتتابعة بين الشرق والغرب إلى تعويد الشرقيين طرائق التفكير والعلم وتدريبهم على أساليب الصناعة والاختراع الفكري الحديث. إن تجديد اللغة العربية يتعلق بالشرقيين وقدرتهم واجتهادهم وإبداعهم واتحاد جهودهم، ولكن ليس في وسعهم أن يبقوا بمعزل عن التربية الفكرية العالية التي وضعها الغرب لنفسه، أننا مستعدون لنقل هذه التربية لهم بروح التعاون المجرد عن كل غاية وبقلب نقي خالص، ولكن الغرب لم ينقسم أبداً كما هو منقسم اليوم في معرفة حقيقة حاله، ولا كان أكثر قلقاً مما هو اليوم في نقد مثله الأعلى وقواعد عمله وتصوره لحقيقة الإنسان، إن وضع مسألة التربية في الشرق على بساط البحث يحتوي على هذه الشكوك: الشرق يقتبس هذا القلق منا ويعيده إلينا، وكثيراً ما يولد في نفوسنا هذا القلق، إن ألمانيا مثلاً تتردد اليوم بين الثقافة العقلية القديمة على طريقة الفرنسيين وبين عدم تقيد الأساليب الحديثة التي توصي بها معاهد التربية والتعليم ورجال التربية الحديثة - يلخص هذا الخلاف بالتباين الموجود بين أفكار (كورتيوس) وأفكار (بيكر) ولكن آسيا لا تجهل هذه المباحث والتجارب ولا هذا الخلاف. والمربون الذين يريدون أن يطبقوا نتائج دراستهم لأحوال الطفل النفسية على تسيير حياة الصغار وتنشئة نفوس الأحداث تجدهم في الصين والهند كما في العالم العربي كثيري العدد. ولئن كانت ألمانيا مترددة بين الروح الفرنسية المدرسية وبين طرائق التربية الروسية فالعلم العربي منقسم بين تقاليد العقل في البلاد المحيطة بالبحر المتوسط وبين الأفكار التي حملت الجمهورية الصينية على إبداع المدارس التجريبية الحديثة. فلم ينقض العام الماضي حتى شاهدنا بلدين عربيين، هما العراق وسوريا، اللذان تربطهما نزعات وميول واحدة في رفع مستوى الثقافة، أقول رأينا هذين البلدين يعملان على إصلاح التعليم الرسمي ويقايسان لهذه المناسبة بين الطرائق الفرنسية والطرائق الأميركية. (لها تتمة) غابريل بونور

غوطة أمس وغوطة اليوم

غوطة أمس وغوطة اليوم للأمير مصطفى الشهابي أنحبس الغيث عن الشام سنتين متواليتين فغاضت الينابيع وشحت مياه الأنهار وأغبر أديم الأرض وجالت أشعة الشمس اللذاعة خلال النبت المريض الذاوي فلم تدع بقلاً إلا صوحته، ولا زرعاً حدثته نفسه بأن يستأسد إلا أردته، ولا زهرة نضرة إلا أذبلتها ولا عشبةً مسكينةً متواضعة إلا أيبستها. وراقت صفحة السماء فمل الناس زرقتها واختالت ذكاء في جبروتها دون أن يحجبها عن الأرض حاجب حتى لكأن الغيوم أسماء في المعاجم لا مسميات لها في السماء. فأين الطخارير ترنق الجو بخيوطها البيض القطنية، والنيرات السحاب كأنها أمواج الخضم المتدافقة، والمكفهرات كالجبال ركاماً، والدجنات المعصرات الباعثات الغيث أنهاراً. لقد أنسينا كل هذه وهي بواعث الحياة فينا فلا سحاب يبكي ولا أرض تضحك وليس في الجو سوى الشمس المحرقة تضحك النهار من بؤس الفلاح وشقائه وبودها لو كانت الأرض غير مستديرة إذن لضحكت منه ليلاً. . . وأصيبت مياه بردى بداء العقاد فلصقت بالأرض تتمور وتترجرج كأنها ترتقب من يدفعها إلى جنات الغوطة دفعاً وهي التي كانت بالأنس صخابة جرافة لا يعترضها عارض في تيارها. وتهامست الأشنة والطحالب بأنها فرصة يجب اهتبالها فراحت تفرش في عرض النهر بساطها السندسي وأليافها الخضر الحانئة أرائك يترفق عليها البعوض واليعاسيب وحواجز تمنع قطرات الماء أن تسيل. وكلما أستأصلها الأكارون عادت فنمت واشتبكت بين ليلة وضحاها هازئة بمجرفة الفلاح ومره كأنها تثأر لنفسها من ظلمه وظلم الماء معاً. وتباشرت الضفادع وتنادت قائلة: حيّ على رغد العيش وهناءة الرزق وهيا إلى فتح الفتوح في قاع الجداول والمجاري وراح قويها يستنفر ضعيفها فما هي إلا أيام قلائل حتى كانت مملكة الماء في قبضة يدها فأعرست بالرفاء والبنين وأنجبت خير نسل ملأ الفضاء نقيقاً. . . . وراسل ملك الضفادع في بردى خدينه في قويق يلاحيه البيتين الآتيين زاعماً أنهما إنما يجب أن توصف بهما محامد الجفاف في نهر دمشق والغوطة لا في نهر حلب وهما: إذا ما الضفادع نادينه ... قويقٌ قويقٌ أبلى أن يجيبا تغوص البعوضة في قعره ... وتأبى قوائمها أن تغيبا

فيجيبه دهقان الضفادع الحلبية بأن المساجلة لا تغنيه فتيلاً ولا نقوم على زعمه دليلاً. فأنهار دمشق ما برحت مضرب الأمثال في غزارة مائها لدى أبناء آدم فهي لا تصلح لأبي هبيرة وأولاده وأنه إذا استرسل في العناد أحاله على ذلك الآدمي الرومي المعروف باسم الياقوت الحموي الذي رأى أن بردى أنزه نهر في الدنيا أو على آخر من نوعه يطلقون عليه اسم البحتري فقد وصف دمشق بقوله: فلست تبصر إلا واكفاً خضلاً ... أو يائعاً خضراً أو طائراً غردا وهذه الصفات لا سبيل معها إلى المساجلة. دع أشعار رجل مصري قريب العهد بنا يسميه أبناء آدم شوقي ويقولون: أنه شاعر فحل ما أنجبت الكنانة مثله منذ قرون. فهذا الإنسان جعل الغوطة لأبناء جنسه جنة الله في أرضه. أفبعد هذا يستطيع جلغوم بردى أن يوطد ملكه على أسس موطدة أم ترى إن هذا الملك الرجراج سيطوح به أول شؤبوب بنهل من السماء ودقا وينبجس من الأرض غدقاً!. ويقف فلاح الغوطة الحزين ساهما يستمع إلى هذه الأهكومة وقد أسقط في يده ويسرح الطرف في مسوق الشجر العظام من زيتون ومشمش وجوز وتفاح وخوخ وغيرهما فإذا بها لهبى لوحها العطش، إن أرسلت جذورها متغلغلة في التراب لم تلق فيه إلا ذراتٍ جافة لازبة مستحصفة، وإن فتحت مسام أوراقها للندى لم تستقبل في الهواء سرى الريح السموم ويبتسم الفلاح بسمة صفراء وينادي صاحب البيت الآتي: يا نسيماً هب مسكاً عبقاً ... هذه أنفاس ريا جلقاً يناديه ليتحسس معه أنفاس هذه السنة الجدباء ويتنشق بدلاً من رياً الغوطة لوافح الصحراء. ثم يجول المسكين في الأرض فلا فواكه يجنيها ولا يقول بقطفها ولا زروع يحصدها ولا كلأ يعلفه مواشيه الجائعة. لقد تبدلت الأرض وتبددت الأحلام فالسعيد من أصاب رغيفاً من الذرة قوتاً لعياله ومن أدرك حملاً من التبن علفاً لماشيته ومن سلمت له أرضه فلم تكن من نصيب الصيارفة والمرابين. وقد كان هذا الفلاح نفسه بالأمس يربى الخيل العراب ويركبها ويؤم أسواق دمشق يبتاع العقود والأقراط لامرأته وبناته، والبسط والسجاد لدار ضيافته، وغالي الكوفيات والعباءات

لنفسه ولأولاده. وكنت تراه أحياناً يرتاد حدائق دمشق وملاهيها وآثار النعمة فاشية فيه وبادية على محياه الطلق وهو ينفق بحساب أو بدون حساب مما أغله تراب الغوطة المخصاب. وكان إذا حل جابي بيت المال في القرية تلقاه أهلها ببشر فأطعموه وعلقوا على دابته ونقدوه الضرائب وصرفوه حامداً محموداً. أما اليوم فكأني بالجباة أنفسهم قد أصبحوا بائسين في خلقان من الثياب وكأني بجيادهم العراب قد تبدلت فصارت فسأكل من الأكاديش الهزيلة. . . . ولو ظل هؤلاء الجباة أياماً طوالاً يستقصون بيوت القرية وحقولها شبراً فشبراً لما وقعوا فيها على فلس يرضون به رؤساءهم. فلك الله أيها الفلاح المسكين ما أشقاك. مصطفى الشهابي

صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام

صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام - 1 - لما كنت مدير المدرسة الزراعية في سلمية في سني 1327 - 1341 هـ - كنت أعجب بحالة الأعراب الذين يكثر ترددهم على هذه البلدة النائية وتجوالهم في أعمالهم وتقيظهم في مروجها واجتماع رؤسائهم في مؤتمراتها. وكنت أرغب الإطلاع على أنسابهم وأحسابهم وطبائعهم، فأتسقط آثارهم واستطلع أخبارهم وأكتب ما أراه جديراً بالحفظ حتى اجتمع لي طائفة من ذلك. وقد وجدتهم ينقسمون إلى ثلاث طبقات: 1 - الأولى أعراب البادية أو البدو ويوصفون بالرحل، وهم أهل الخيام أو بيوت الشعر لسكناهم والخيل لركوبهم والإبل لكسبهم يقتاتون من ألبانها ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها ويحملونه أثقالهم على ظهورها ويبيعون ذكورها لا يدرون أهي خلقت لهم وقبلهم أم هم خلقوا لها وقبلها ولا يدفعون للدولة سوى ضريبة الودي، يتقبلون دوماً بين قفار البادية الحماد ومشارف الحاضرة المعمورة فراراً من حمارة القيظ تارة وصبارة البرد أخرى وانتجاعاً للمراعي الصالحة للإبل كالروثة والنيتون وغيرهما مما فيه ملوحة وحموضة. وهواهم في البادية وآفاقها الشاسعة وحريتها المطلقة، يحتقرون أهل الطبقة الثانية ويدعونهم رعية وشوايا لاقتنائهم الشياه والمعز يعدون ذلك من أكبر العار إذ تمنعهم عن التوغل في البيداء ومدافعة الأعداء ويمتهنون أهل الحواضر والقرى لسكناهم في بيوت الحجر واعتيادهم على الرفه وحماية الدولة، وهم لا يغشون هذه الحواضر إلا للضرورة في سني الظمأ أو لابتياع حاجاتهم وبيع جمالهم وأصوافهم. وكثيراً ما يلحق أهل الضياع والمزارع حين مرورهم بها مضرات من أفسادهم السابلة ورعيهم الزرع مخضراً وانتهابه قائماً وحصيداً ويتفاقم ضررهم حينما يرون من فوضى الأحكام ومسامحة ذوي السلطان فرصة. وهؤلاء في بلادنا قبائل عنزة ومنها في شمالي الشام في فيافي حلب وحماه وحمص الفدعان والسبعة والعمارات والحسنة وفي الوسط من فيافي دمشق وحوران الرولة والولد على وفي الجزيرة الفرانية شمر وطي. وسنذكر بطونهم وأفخاذهم ومنازلهم فيما بعد.

2 - الطبقة الثانية: أعراب الحاضرة أو عربان الديرة أو الرعية النصف رحل باصطلاح الإفرنج، وهم أهل الغنم والمعز ومستثمرو الأرضين بالحرث والزرع يرحلون في الشتاء إلى البادية انتجاعاً لمرعى غنمهم ودفئهم ويعودون في الصيف إلى قراهم وضياعهم، ويأوون إلى الخيام بيوت شعر أو إلى القباب وبيوت الحجر حسب اللزوم والفصول، منهم من يتخذ الحمير في تشريقه وتغريبه أو تنقله من مكان إلى مكان آخر كأكثر بطون قبيلة الحديديين ومنهم من يتخذ الإبل والحمير معاً كبني خالد والنعيم والفواعرة وغيرهم ممن سنأتي على ذكرهم. وهم يشبهون في الجملة الطبقة الأولى في طباع البداوة والجفلة وانتهاك حمى الطبقة الثالثة وأهل الحاضرة عند سنوح الغفلة إلا أنهم يختلفون بأنهم لا يعاملون في عرف البادية معاملة أولئك فلا يردون النقا أي لا يشهرون عليهم الحرب ولا يحفظ لهم صحب أي لإيجار الملتجئ إليهم بل لما كانوا رعية يؤكلون ولا يأكلون. ويختلفون أيضاً بأن لهم استعداداً بارزاً للتحضر وعلائق جمة مع أهل مدن حلب وحماة وحمص ودير الزور يشاركونهم في تربية الغنم وتجارة السمن والصوف التي تدر عليهم وعلى شركائهم في سني الخصب ثروة غير يسيرة، وبأن لهم قرى وضياعاً يقطنون فيها ويستثمرون أرضها، وإذا شرقوا لا يبعدون كالطبقة الأولى فلا يتعدون جبل البلعاس وجبال تدمر وفيافيها وهم يدفعون للدولة عدا ضريبة الأغنام العشر عن الزروع والوير كوعن الأرضين فقط. وثمة قبيلة واحدة تدعى الموالي تشبه الطبقة الأولى والثانية معاً في بعض الأمور وتختلف في أخرى. فأعراب الموالي أهل أبل وغنم وقرى لكن أبلهم ليست من الوفرة بدرجة البدو وتربيتهم للغنم واشتراكهم مع الحضر واستثمارهم للقرى أقل أتقاناً من الرعية. ومشابهتهم للطبقة الأولى في أنهم يردون النقا ويعطون الصحب لأنهم أهل حرب وضرب وأقوال وأفعال. اشتهر أفرادهم بالفروسية والشراسة وأمراؤهم بكرم المحتد وعراقة النسب. وإذا اجتمع رؤساء قبائل الطبقة الأولى في المؤتمرات التي تعقد الحين بعد الحين في سلمية أو تدمر أو خلافها من البلاد التي على سيف البادية لفض الفتن التي لا تخلو من النشوب بين القبائل يحل أمراء الموالي صدور المجالس بينما رؤساء الطبقة الثانية عليهم الوقوف في أبوابها

والإصغاء والامتثال لما يقرر فيها. فالموالي إذن طبقة متوسطة بين الأولى والثانية لهم شؤون وطبائع خاصة طالما استرعت أنظاري. لا سيما حينما نشبت فتنة شعواء بينهم وبين الحديديين في سنة 1339 وقد كانوا على مصاهرة ومسالمة دامتا أكثر من نصف قرن عقيب فتنة مثل هذه جرت إذ ذاك بينهما. ففي سنة 1339 اقتتلوا اقتتالاً شديداً حول قرية عقيربات في سفح جبل البلعاس ثم انتقلوا إلى أماكن أخرى في شرقي حماة والمعرة وجنوبي حلب ودامت الفتن بينهم سبع سنوات تخبو نارها وتشب أخرى خاصة كلما وجدت من يوقد شرارها. حتى خربت من جراء ذلك قرى كثيرة في براري البلاد المذكورة وراح ما لا يعد من الصامت والناطق لأهلها. 3 - الطبقة الثالثة: الأعراب الفلاحون الذين تركوا الحل والترحال وشن الغارات وأيقنوا أن العيش الثابت خير من المتقلقل وأن من يلجأ لحمى الدولة أهنأ بالاً ممن يتكل في حمايته على نفسه وعصبيته فعمروا الخرب الدائرة وهجروا بيوت الشعر إلا قيلاً وقطنوا بيوت الحجر أو القباب وتوفروا على الحرث والزرع أكثر من تربية الماشية. منهم في شمالي الشام القاطنون في قرى أملاك الدولة في أقضية جرابلس ومنبج والباب وجبل سمعان وفي سقي الفرات في لواء دير الزور وفي جنوبي دمشق في قضائي القنيطرة والزويه وغيرهما مما سنذكره أيضاً. وكنت في سني إقامتي في سلمية كلما سنحت لي الفرص أتجول وأستقصي خرائبها الأثرية شأني في كل أرض حللتها فوجدت ذات يوم مسجداً يبعد عن سلمية خمسة كيلو مترات إلى الشمال له جدران متداعية وقبة من الأجر أكثرها متهدم. وفي قربه ضريح محاط بجدران وليس له سقف علمت بعد أنه لشيخ يدعى الشيخ فرج لا يعرف له أصل ولا خبر تزوره أهل القرى وأعراب تلك الديار لا سيما أهل عشيرة الجملان التي تدعي الانتساب إليه وتنذر النذور لاعتقادهم أنه مبارك وقد وجدت إذ ذاك في جنوب المسجد الخرب جبانة فيها قبور كثيرة منها القديم والحديث عثرت بينها على قبر له شاهدة زبر فيها اسم صاحبه محمد بن عبس بن مهنا وتاريخ وفاته رجب عام 724. وما أن لمحت هذا الاسم حتى ذكرت أنه مر عليّ كثيراً خلال قراءتي تاريخ الملك المؤيد أبي الفداء وتاريخ الأمير حيدر الشهابي، فأسرعت بعد هذه الزيارة لمراجعتهما فإذا بي أمام

طائفة من الحوادث أجراها أبو هذا الرجل وأخواه مهنا وفضل وأعقابهما في القرن السابع والثامن والتاسع من الهجرة، وأخرى مثلها أجراها قبلهم أقاربهم بنو الجراح في جنوبي الشام وشماليه في القرنين الرابع والخامس أدهى وأمر مما أتاه الموالي الحديديون في زماننا. وقد تبين لي منها ومن المصادر التي راجعتها بعد حين كصبح الأعشى للقلقشندي والعبر لابن خلدون أن عبس بن مهنا فخذ من آلف فضل من ربيعة من طي من كهلان من القحطانية. وأنهم كانوا في زمن السلاطين الأيوبيين سيما في دولة المماليك كما قال في صبح الأعشى رؤساء أكابر وسادات العرب ووجوههما ولهم عند السلاطين حرمة كثيرة يحلونهم فوق كيوان وينفقون لهم أجناس الإحسان. وتبين لي أن آل عبس خاصة كان لهم مداخلة في إدارة بلاد الشام وسياستها في تلك القرون وأثر عظيم في زوال عمرانها وانحطاط شأنها اللذين حصلا حينما اختلت الأمور في آخر دولة المماليك على النحو الذي أدركناه من أعراب زماننا عقيب زوال الدولة العثمانية. وساقني هذا الإطلاع لاقتفاء أثر آل عيسى وخاتمتهم ومعرفة العهد الذي انقرضوا فيه وكيف تم ذلك وهل بقي منهم في زماننا أعقاب، فوجدت الشهابي في حوادث القرن الحادي عشر يلقب بعض أمراء البادية بآل أبي ريشة وينعتهم بالحيارين كما نعت عيسى بن مهنا وأعقابه من قبلهم. وقد استدعى نظري هذا اللقب وتذكرت أن أمراء قبيلة الموالي في زماننا مازالوا يعرفون بآل أبي ريشة فصرت افتكر في هل أن هؤلاء هم من أعقاب عيسى بن مهنا أبو صاحب القبر الذي عثرت عليه شمالي سلمية وهل بالإمكان ربط سلسلتهم نتلك الأرومة. ولما سألت بعض هؤلاء الأمراء وبعض شيوخ القبائل المجاورة لهم وجدتهم يا للأسف في غفلة عن ماضيهم ومعرفة أنسابهم، يكاد أحدهم لا يعرف اسم أجداده ناهيك عن أسلافه البعداء وقليل منهم من يحفظ حديث أخبارهم وملامحهم وتاريخ وقوعها وأماكنها، والحافظون لذلك منهم تتضارب أقوالهم وتتشتت رواياتهم التي التقطتها على علاتها وسأذكر زبدتها فيما بعد. وفي الجملة فقد صرت شبه الموقن بأن فضيلة حفظ النسب وضبط الحسب ومعرفة أخبار السلف ضاعت من أعراب زماننا كما ضاع منهم كثير من الفضائل والمحامد التي كانت لأسلافهم في الجاهلية وصدر الإسلام وملأت كتب التاريخ

والأدب القديمة. ولما لم اكتف بما التقطته من أفواه هؤلاء رجعت أتحرى وأنقب صحائف التاريخ الباحثة عن كوائن بلادنا في العصور الأخيرة فلم أجد ما ينقع غلتي في تاريخ الشهابي وهو على علاته أوسع من دون أخبار تلك العصور التي زهد فيها أهلها بالتاريخ والتدوين لا سيما في ما يتعلق بأخبار الأعراب في زمانهم. فالشهابي لم يذكر اسم الموالي إلا مرة في أحداث سنة 1035 في خبر طلب الأمير فخر الدين المعنى منهم ذخيرة وتمنعهم ورحيلهم ولحاق الأمير بهم حتى عبرهم النهرين، ولم يعد لذكرهم ولا لذكر من كانوا أمراء البادية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كما ذكر من كانوا في الحادي عشر على ما سوف ننقله. وبينما كنت أقلب كتاب الجغرافية القيم المسمى بجهان نما لمؤلفه كاتب جلبي صاحب كشف الظنون المتوفي سنة 1068 والمطبوع بعد وفاته قي سنة 1142 في الأستانة عثرت بغتة في بحثه عن سلمية على ما تعريبه: وما برح هذا اللواء: يعني سلمية وقد كانت في أيامه مركز لواء: في حوزة أمراء الموالي. هؤلاء الأمراء ينسبون لآل الحيار من قبائل العرب وهم ينقسمون إلى فريقين آل حمد وآل محمد وتصل مناطق نفوذهم إلى ضواحي حلب والرقة. وفي رواية أن حمد أبا نعير أبلى مرة بلاء حسناً في معركة على عهد أحد سلاطين مصر وكان يضع على رأسه ريشة فدعي بأبي ريشة وأنعم عليه ذلك السلطان بمبلغ عظيم من الذهب فاشترى به ألف عبد ليقوى بهم على قومه فسميت أعقاب هؤلاء العبيد بالموالي وهؤلاء لا يكون منهم أمراء. اه - وما أن لمحت هذه الكلمات حتى خيل لي أنني وجدت ضالتي المنشودة، فقد استدليت مما ذكره كاتب جلبي أن اسم الموالي وصيت أمرائهم كانا معروفين في عهده أي في القرن الحادي عش، وقد وافق بذلك المؤرخ الشهابي الذي ذكرهم في أحداث سنة 1035، ووافقه أيضاً بنسبتهم لآل الحيار وبتلقيبهم بآل أبي ريشة وزاد عليه ببيان سبب هذا اللقب. إن هذا الاستدلال وبقاء لقب أبي ريشة لاحقاً بأمراء الموالي المعاصرين لنا حملاني على الظن بأن هؤلاء الأمراء هم من أعقاب عيسى بن مهنا آل الفضل الطائيين الذين كانوا ملوك البادية وأعظم ساداتها في عهد السلاطين الأيوبيين والسلاطين المماليك كما كان أقاربهم بنو الجراح الطائيون من قبلهم في عهد الخلفاء الفاطميين وهذا هو السبب في أن

أعراب زماننا يجهلون شأن هؤلاء الأمراء ويحلونهم الصدر الأول في المجالس والمؤتمرات التي يحضرها كبار مشايخ البادية ورؤساؤها. وقوى ظني هذا الذي لا يزال تشوبه ريبة تحتاج للإزالة ما نعرفه عن قبائل الأعراب من أن أسماءها تتبدل مهما عظمت في كل قرن أو قرنين تبعاً للمتآمر عليها وقد تسمى القبيلة باسم أميرها أو شيخها ثم باسم ابن هذا أو ذاك بعد وفاته إذا انفصلت عن الأرومة وتفرعت. فقد تغيرت أسماء القبائل التي كانت معروفة بد \ خول الإسلام الشام في القرن الثالث والرابع، وما عرف نمن أسمائها في القرن السادس والسابع تبدل في التاسع والعاشر. والأمثلة على ذلك كثيرة كما سوف يأتي. والإمارة أو المشيخة ترجع على الأغلب لمن كان له أصل قديم من بيته أو من كان أذكى قومه جناناً وأبسطهم بالكرم يداً وأشجعهم يوم النزال قلباً وأصلبهم في الحوادث عوداً ثم تنتقل بالوراثة حتى ينقطع العقب أو ينضب معين الكفاءة. ولما رجعت أنقب الكتب الباحثة عن أحوال العرب وأنسابهم وجدت الباحثين عن أحوالهم وعاداتهم كثيرين برز بين المتقدمين ابن عبد ربه الأندلسي المتوفي سنة 328 في العقد الف6ريد، وأبو الفرج الأصبهاني المتوفي سنة 356 في الأغاني وبين المتأخرين السيد شكري الألوسي في بلوغ الأرب في أحوال العرب المطبوع في بغداد سنة 314 في ثلاثة مجلدات خصها بشرح أخبار الأعراب وعاداتهم وأخلاقهم وآدابهم في الجاهلية والارشمندريت بولس سلمان في كتاب خمسة أعوام في شرقي الأردن المطبوع في حريصاً (لبنان) سنة 1719م شرح فيه آداب مدن شرقي الأردن في عهدنا وقضاءهم وديانتهم وعشائرهم، والسيد عارف العارف قائم مقام بئر السبع (فلسطين) في كتاب القضاء بين البدو المطبوع في القدس سنة 1933م شرح فيه أخبار أعراب بئر السبع في عهدنا أيضاً وطبائعهم وعاداتهم في القضاء والقتل والسرقة والمرأة والحيوان والرحيل والتجارة والطلب والعقيدة. أما الباحثون عما أنشده فقلائل برز بين المتقدمين ابن خلدون المتوفي سنة 808 في تاريخه العبر والقلقشندي المتوفي سنة 821 في كتابه الأول صبح الأعشى وكتابه الثاني نهاية الأرب في معرفة قبائل العرب طبع في بغداد وعنه أخذ أبو الفوز السويدي البغدادي في رسالته سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب المطبوعة على الحجر سنة 1280 وكتابه

الثالث قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان منه نسخة خطبة في دار الكتب الخديوية في مصر وقيل أن في أحد الأجزاء التي لم تطبع بعد من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري المتوفي سنة 748 ذكراً لمنازل العرب كما كانت في زمنه، وقيل أيضاً أن لابن حزم الظاهري المتوفي سنة 456 كتاباً اسمه جمهرة النسب في معرفة قبائل العرب مخطوط في دار الكتب الخديوية. ولم يسعدني الحظ بالوصول إلى هذه المخطوطات الأخيرة وإن كانت تشمل العصور البعيدة عن درسي وتنقيبي. أما المتأخرون إذا استثنينا الفاضلين الذين كتبا عن أعراب شرقي الأردن وبئر السبع، فقد أهملوا البحث عن قبائل الأعراب سيما ما كان منها في شمالي الشام ووسطه كما أهملوا كثيراً مما يتعلق بجغرافية البلاد الشامية ووصف بلدانها وخططها ومسالكها وسكانها وآثارها وصرنا في هذه المواضيع يا للخجل عالة على رحالة الإفرنج ومستشرقهم الذين استنفضوا كل بقعة من بقاعنا ومدينة من مدننا وبادية من بوادينا وأجادوا وأفادوا في وصفها من نواحي الطبيعة والتاريخ والآثار والعمران والأنساب وكتبوا فيها المجلدات الوفيرة، منها في الفرنسية مما يتعلق بموضوعنا وحده رسالة (بدو البلاد التابعة لحكومة دمشق) للكابتين رينو طبع في سنة 1921 وكتاب (في بلاد الشام مع البدو) للكومندان موللر طبع في سنة 1932، وكلا المؤلفين من عمال الإدارة الفرنسية الخاصة بقبائل البادية. أما غايتي في هذه العجالة فهي ذكر بعض ما فعله الأعراب خلال القرون الماضية في شمالي الشام وبيان أثرهم في أحداثه ومصائبه للاعتبار بما كان ولا يزال عليه هؤلاء ورؤساؤهم من حب الغارات واستباحة حمى المعمور من البلاد والاشتراك بكل انتفاض واغتنام فرصة كل فوضى والنوال من الغريب والقريب على السواء واستدرار المغانم والعطايا من أي نبع كان والخنوع أمام القوي والتنمر في وجه الضعيف، ثم للتوصل إلى معرفة أنساب من هم في عهدنا وأحداثهم التي تكاد تضيع لفقدان من يعنى منا بهذه الأمور التي عني الأسلاف والإفرنج أي عناية كما قدمنا وهي أمور في ظني لها شأنها وخطرها في تاريخنا الحديث، ثم للتمكن من ربط معاصرينا منهم بأسلافهم وأخص بالذكر أمراء الموالي بآل عيسى بن مهنا وأجدادهم آل الفضل وآل الجراح وآل ربيعة الطائيين، هذا

على الرغم من صعوبة الاتصال والاستعلام من أولئك الأعراب وقلة المصادر ونقص الوسائل التي تتيسر للغربيين أكثر منا نحن الذين نمت بالاسم إلى البادية بصلة الدين واللغة والقرابة والجوار. ولعله يأتي يوم فيتمكن أحد مفكرينا من استيفاء هذا الموضوع حقه، فأكون قد مهدت السبيل ولفت الأنظار وهما حسبي. وصفي زكريا

سكون الليل

سكون الليل سكن الليل والهواء فلا طير ... يغني ولا تحف غصون سكن الكون برهة وكأن الكل ... مصغ لما يقول السكون صرت أرنو للكائنات وترنو لي ... وكلي وكلهن عيون فهناك الكلام أصبح عياً ... وهناك السكوت نطق مبين ثم ألقت إلي بالوحي معنى ... هو عندي بالنطق ليس يبين ذاك سر للكائنات يبقى ... وهو بيني وبينها مدفون

قصيدة الوجود

قصيدة الوجود إن نفسي تروم نظم قصيد ... ليس يأتي باللفظ والأوزان منطق الطير لفظه العذب ... والوزن حفيف الأوراق والأغصان والبدايات بدء والقوافي ... لا نهايات عالم الإمكان والمعاني أسرار كون خفي ... دق حتى عن فهم أهل المعاني

قصيدة السكوت

قصيدة السكوت إن نفسي تبغي الغناء ولكن ... لست أدري بأي لحن أغني كلما رمت أن أغني بلحن ... صد عنه قلبي وأعرض عني فكأن الفؤاد يبغي غناء ... مبهماً لا يجيء في أي وزن لا يروق الغناء في سمع قلب ... إذنه لا تقاس في أي إذن لحنه من هواجس مبهمات ... وغناه مخالف كل فن فهو في مجلس الغناء تراه ... جامداً عادماً لبشر وحزن وهو في حالة السكون يغني ... ضاحكاً راقصاً على لحن جن صاح رحماك لا تقطع سكوتي ... ففمي ساكت وقلبي يغني أحمد الصافي

مائة نقلة

مائة نقلة من كتاب نقل الأديب وهي ألف نقلة مقتطفة من ألف كتاب مؤلفة محمد إسعاف النشاشيبي حق الطبع والنشر ونقل شيء من هذه النقل محفوظ أهدي مائة النقلة هذه إلى مجلة (الثقافة) 47 - رد الله عليك غربتك كان الصاحب بن عباد يقول: لم أسمع جواباً أظرف، وأوقع، وأبلغ من جواب عبادة فإنه قال لرجل: من أين أقبلت؟ قال: من لعنة الله. فقال: رد الله عليك غربتك. . . 48 - هناك والله قرارة اللوم وقف أعرابي فسأل قوماً. فقالوا: عليك بالصيارفة. قال: هناك (والله) قرارة اللؤم. 49 - إذا حضر فبالأول وإذا غاب فبالثاني قال خالد بن صفوان لخادمته: أطعمينا جبناً، فإنه يشهي الطعام ويدبغ المعدة، ويهيج الشهوة. فقالت: ما عندنا. فقال: ما عليك، فإنه يقدح في الأسنان، ويلين البطن، وهو من طعام أهل الذمة. فقال بعض أصحابه: بأي القولين نأخذ؟ فقال: إن حضر فبالأول، وإن غاب فبالثاني. . . . 50 - فإذن يوسف هم، وما تم قال أبو بكر بن العربي: كان بمدينة السلام إمام من الصوفية (يعرف بابن عطاء) فتكلم

يوماً على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه. فقام رجل من آخر مجلسته - وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة - فقال: يا شيخ، يا سيدنا، فإذن، يوسف هم وما تم. فقال: نعم، لأن العناية من ثم فانظروا إلى حلاوة العالم، والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله، والعالم في اختصاره واستيفائه. 51 - أسكت فإنك عن لسانه تنطق قال محمد بن سلام الجمحي: أتى الفرزدق الحسن البصري فقال: إني قد هجرت إبليس فاسمع. فقال: لا حاجة لنا بما تقول. فقال: لتسمعن أو لأخرجن فأقول: إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس. . . فقال الحسن: اسكت فإنك عن لسانه تنطق. . . . . 52 - الشيطان أصلح للشاعر قال الثعالبي: من ظريف أمر حسان أنه كان يقول الشعر في الجاهلية فيجيد جداً، ويغبر في وجوه الفحول، ويدعي أن له شيطاناً يقول الشعر على لسانه - كعبارة الشعراء في ذلك - فلما أدرك الإسلام، وتبدل بالشيطان الملك تراجع شعره، وكاد يرك قوله. هذا ليعلم أن الشيطان أصلح للشاعر، وأليق به، وأذهب في طريقه. . . . 53 - يا جامع شر أبويه قال خالد بن صفوان لرجل: أن أباك كان دميماً، وكان عاقلاً. وأن أمك كانت جميلة، وكانت رعناء. فجمعت دمامة أبيك إلى حماقة أمك فيا جامع شر أبويه. . . . 54 - حتى متى أرقعك قال أسماء بن خارجة لجاريته: اخضبيني. فقالت: حتى متى أرقعك؟؟!! فقال:

عيرتني خلقاً أبليت جدته ... وهل رأيت جديداً لم يعد خلقاً؟! 55 - وارتفع السجف فرأى شيئاً كرهه خطب إعرابي إلى قوم فقالوا: ما تبذل من الصداق؟ وارتفع السجف فرأى شيئاً كرهه فقال: والله: ما عندي نقد! وإني لأكره أن يكون علي دين. . 56 - التيس العلوي قال ابن الجوزي: اجتاز المرتضى أبو القاسم نقيب العلويين يوم الجمعة على باب جامع المنصور عند المكان الذي يباع فيه الغنم. فسمع المنادي يقول: نبيع هذا التيس العلوي بدينار. فظن أنه قصده بذلك. فعاد متألماً من المنادي، فكشف عن الحال، فوجد أن التيس إذا كان في رقبته حلمتان سمي علوياً نسبة لشعرتي العلوي المسبلتين على رقبته. 62 - فاخترنا قتله قال المنصور للمهدي: ما أيدت بما أيد به كان قلبي، أيد معاوية بزياد، وأيد عبد الملك بالحجاج. فقال المهدي: قد أيدت بمن فوقهما فقال: تعني أبا مسلم؟ قال: نعم. قال: قد كان كذلك، لكنه خيرنا بين أن نقتله أو يقتلنا، فاخترنا قتله. . . . . . . . 63 - الناصح، المكاشف، المداجي سمى عبد الملك أبناً الحجاج لحبه الحجاج بن يوسف وقال فيه: سميته الحجاج بالحجاج ... الناصح، المكاشف، المداجي 64 - المقادير تصير العي خطيباً قال الطبري: يحكى أن الحجاج ذكر عنده رجل بالجهل فأراد اختباره فقال: أعظامي أم عصامي (أراد أشرفت بآبائك الذين صاروا عظاماً أم بنفسك؟) محمد إسعاف النشاشيبي

بعض أبنية دمشق

بعض أبنية دمشق في أيام الوزراء العثمانيين بقلم عيسى إسكندر المعلوف عضو المجامع العلمية في دمشق وبيروت والقاهرة عن كتابه المخطوط (أبنية دمشق وآثارها) أبنية مراد باشا - هو أحد السناجق بمصر أي أمير قطر وكان للسنجق شعار ضفيرة واحدة من الشعر يسميها الأتراك (التوغ). والسنجق تركية بمعنى اللواء وتحته (البيرق) أي الراية. فكان أصحاب الرايات يجتمعون إلى اللواء. وعدة السناجق تؤلف بشاليق أي رئاسة أمارة والسنجقدار الذي يحمل السنجق وراء السلطان وهذا كله من اصطلاح الحكومة العثمانية كما في تواريخها. فتلقب مراد باشا في المناصب بين الحبشة واليمن وقرمان الشام ثم ولي أحكام حلب وديار بكر والروملي وأعيد إلى الشرق سنة 1016هـ - 1607. سرداراً لتمهيد بلاد أناطولي (الشرق) والفتك بالتفكجية أي البندقيين وهم حملة البنادق فأمن البلاد إلى اسكودار وعاد إلى القسطنطينية ثم سار إلى بلاد العجم ومرض برجوعه منها وتوفي في ديار بكر سنة 1020هـ - الموافقة لسنة 1611م واشتهر بعدله وإخلاصه للدولة العثمانية ووفائه وكان نائباً في دمشق نحو سنة 1001هـ - (1592م) وهو المعروف باسم مراد باشا القبوجي (أي الحاجب) وكانت له صلة مودة مع الأمير فخر الدين الثاني المعنى حاكم لبنان كما ذكرت التواريخ مفصلة وقائع هذا الوزير مدة حكمه للشام ولا سيما مع آل الفريخ في البقاع وآل سيف في طرابلس الشام مما لا مجال اليوم لسرده. ولقد وقفت في (ذيل الكواكب السائرة في أهل المائة العاشرة) للنجم الغزي الدمشقي من مخطوطات الخزانة الظاهرية في دمشق التي هي بإدارة مجمعنا العلمي على ذكر تلك الأبنية فنقلها عنه بالحرف وهي: مراد باشا بأني أسره قزل باش (وكانوا يسمعون الباشا خان) ولما خلص من الأسر ولاه السلطان مراد دمشق فعمر بها السوق الذي عند باب البريد والوكالة لصيقة وأمران تسكن تجار سوق السباهية فيه فنقلوا إليه برهة ثم مات وأعيدوا إلى السوق المعروف بهم الآن. ثم عمر إلى جانبه سوق آخر ونقل إليه تجار سوق الذراع وبقوا إلى الآن والمتولي له

عمارة السوق الأول والقهوة والوكالة الشيخ أحمد المغربي متولي الجامع الأموي المتقدم ذكره وكانت عمارته في سنة خمس بعد الآلف. وقال الأخ الشيخ أبو الطيب في تاريخه: هاك تاريخاً سما له ... بدر هالات الغزالة جملة الملك بهاء ... وسخاء وبسالة صح في آخر شطر ... ضمن القول مقاله ولي الشام مراد ... (فبني خير وكاله) و (الوكالة) اسم الخانة كما هو معروف في عرف المصريين وأهل دمشق يسمونه (قيسارية) والمتولي عمارة السوق الثاني له حسن باشا المعروف بشوريز حسن ووقف السوقين والقهوة على الحرمين الشريفين وقتل مراد باشا في توليته دمشق منصور بيك ابن الفرنج والأمير علي بن الحرفوش وصير الأمير فخر الدين بن معن صنجق وبقي نظره عليه ثم انفصل عن دمشق وصار وزيراً أعظم وسردار أعلى علي بن جنبلاط وسافر لقتال قرة سعيد من الخوارج ثم صار سردار على العجم وتوفي بديار بكر سنة 1020هـ - كلام الغزي. وقد رأيت في مخطوط بدمشق هذه الحاشية انقلها بحرفها وهي: مراد باشا القبوجي عمر سوق البريد وقبته وكانت أمام الجامع الأموي إلى الغرب وعلى جانبها الأيمن مكتوب قول علي بن رضوان: عرج ركابك عن دمشق فإنها ... بلد تذل لها الأسود وتخضع ما بين جانبيها وباب بريدها ... قمر يغيب وألف بدر يطلع وعلى الجانب الثاني: كل من تلقاه يشكو دهره ... ليت شعري هذه الدنيا لمن وقربه أيضاً: إذا ما رأيت الله في الكل فاعلاً ... رأيت جميع الكائنات ملاحا (انتهى) ما في المخطوط وكانت في سوق البريد حوانيت الكتبيين ولما احترق الجامع الأموي فبلاً وسنة 1315هـ -

(1897م) سقطت القبة وكشفت الأعمدة والطنوف التي فوقها كما هي الآن في غربي الجامع. أبنية سنان باشا - جاء في ذيل (الكواكب السائرة) المار ذكره ما نصه: يوسف بن عبد الله سنان باشا الوزير الأعظم قيل أنه أنشأ أربعين مسجداً جامعاً يخطب على منابرها في أقطار المملكة العثمانية غير الجسور والخانات وكان كلما مات مملوك له أو متولي حفظ ما يرثه منه أو يتناوله من بعده يعمر به مسجداً أو غيره. وعمر بدمشق (جامع السنانية) خارج باب الجابية وخارج دمشق جامعاً بسعسع وجامعاً بالقطيفة وجامعاً بعيون التجار وعند كل جامع مكتبة مضمومة إليه. وولي الوزارة للسلطان مراد خان ابن سليم خان وعزل عنها ثم أعيد ومات وهو وزير أعظم. وولي دمشق في أثناء ذلك في أوائل سنة خمس وتسعين وخمسمائة وفيها ابتدأ خارج باب الجابية عمارة السنانية وحضر تأسيسها وأحضر جمعاً من العلماء والمؤذنين وولي عمارتها وعمارة السوق عندها الأمير محمد بن منجك وجلال جلبي ابن الشيخ أدهم بن عبد الصمد وزين جلبي ابن عامر جاويش. ثم خرج من دمشق معزولاً ووليها بعده خسرو باشا الطواشي يوم الخميس. . . . سنة 996هـ - (1587م). ثم أعيد إلى الوزارة العظمى بعد عزل سياغوش بك وقتل محمد باشا روم أيليوباش دفتر دار في جمادى الأولى سنة 997هـ - (1598م) وعاد سنان باشا إلى الوزارة ومات فيها سنة 1004هـ - (1595م) (انتهى كلام الغزي) هذه عجالة في بعض أبنية ولاة دمشق مقتطفة من مقالات مطولة. عيسى إسكندر المعلوف

اندره جيد

اندره جيد أو من الشك إلى القلق كنت تلميذاً في دمشق دون الثامنة عشرة، أتهيأ لفحص البكالوريا وأكثر من قراءة المعري. وكما يحدث عادة عندما يدرس المرء كاتباً مدة طويلة أن يتقمص نوعاً ما في روح ذلك الكاتب وتتصل به بعض جريانات من كهربائية شخصيته، كذلك أصبحت بعد ملازمتي أبا العلاء أرى في الحياة رأيه، وأشكو منها شكاته، وصرت وأنا الفتى اليافع أحس بثقل السنين أجرها ورائي، ثم أعرض عن كل ما في الحياة من جمال في الصور وغنى في المشاعر، لألتفت إلى الموت وأتحين مفاجأته مذعوراً. وكيف أقضي ساعة بمسرة ... وأعلم أن الموت من غرمائي؟ وغدا شك المعري المبني على سعة العلم وبعد غور الفكر، ذريعة لي كي أهرب من التعمق والجهد، واكتفي بشك سطحي أقذف به العالم، وأرضي غروري وكسلي! اتخذ وجهي هيئة من عرف الدنيا واختبر كل شيء فيها فملها وعافها، وعثر على الجواب الشافي لكل سؤال: أما اليقين فلا يقين وإنما ... أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا وكنت لم أزل واقفاً على شاطئ الحياة!. . . قذفت بي الصدفة إلى باريس، فاصطدم المستنقع الذي كنت أحمله معي - حياتي القديمة - باوقيانوس خضم للحياة، أسلمت نفسي لأمواجه، عندما ذقت حلاوة لمسها وخفة دعابها. هناك على الشاطئ، وقدماي ما تزلان في تردد، وشبح الشيخ الأعمى يحول بيني وبين الشمس، لمحت ساحراً جديداً، قوي الجسم، طلق المحيا، غنائي هكذا! ناتانائيل! أروم أن أدخل سرك وأخاطبك كما لم يخاطبك بعد إنسان. في تلك الساعة من الليل، إذ تكون فتحت وأغلقت كتباً كثيرة، تسأل كلاً منها ما لم تجبك بعد عليه، وإذ تكون معذباً يشفك الانتظار، ويكاد حماسك ينقلب إلى كآبة لأنك لم تلق من يمسك بيدك. إني لا أكتب إلا لك، ولا اكتب لك إلا من أجل هذه الساعة. أريد أن اقترب منك وأن تحبني. ناتانائيل! ليست الكآبة إلا الحماس الخائب. هذا هو الصوت السحري الجديد الذي استهواني لأنه متصل بأعماق كياني وكيان كل

شاب. جوهر الشباب حماس ويقين، لا تعقل بارد، كما في المعري، وشك سقيم. يحب الشاب أن يثبت، ولو راح ينفي اليوم ما أثبته بالأمس، لأن الإثبات تعبير عن القوة والشك صورة للضعف والارتخاء. صرت أطرب بقول جيد: تمر بي أيام يكفيني أن أردد فيها أن اثنين مع اثنين مع اثنين لا تزال تساوي أربعة، حتى يمتلئ قلبي غبطة أو أن أرى قبضة يدي على المنضدة. . أو عجيب أن يلقى صوت جيد ذلك الصدى في قلوب الشباب وهو أول كاتب خاطبهم بتلك اللهجة، وأتاهم بدين جديد، دين الحماس، بعد أن انقضى القرن كله (التاسع عشر) بين نواح الروماتيزم وبردة الكتابات العلمية والروايات الواقعية؟ أنها موسيقى جديدة: ناتانائيل! لأعلمنك الحماس حياة مضطربة أجدر بك من حياة السكينة والراحة. أنا لا أشتهي راحة قبل راحة الموت، وأخاف من كل رغبة لم أروها، وكل قوة لم أجردها في حياتي أن تعذبني بعد الممات. يخطئ كل من يرى في هذا القول للانغماس في اللذات، بل إنما هي دعوة للانغماس في الحياة بكل ما فيها، هي عبادة متمادية للحياة وتقديس لكل ومضة من ومضاتها: ناتانائيل! سأحدثك عن اللحظات. أن أقصر لحظة في الحياة أقوى من الموت. ألا تعلم أن اللحظة لم تكن لتلمع ذلك اللمعان لو لم يحطها إطار الموت القاتم؟ آه لو تعلم أي جمال يخلعه قرب الموت على اللحظة من الحياة. . . . فأي فرق بين هذه النظرة ونظرة المعري الذي لا يهنأ عيشه ساعة لعلمه أن الموت غريم يلاحقه! وجيد رجل الحاضر، تشغله اللحظة الحاضرة، لا لينتهبها انتهاب إلا بيقوري المستخف بكل شيء سوى اللذة، بل لأنه يرى فيها الأبدية، لأنه يستجمع فيها كل إحساسه وفكره، وينسى فيها الماضي وينسى المستقبل، فيحقق بذلك أجد وأقوى حياة ممكنة لإنسان. كيف توصل جيد إلى فلسفته وفنه؟ من حياته. لا اعتقد أن هناك كاتباً مثلاً اتفقت حياته الأبدية مع حياته الخاصة هذا الاتفاق التام النادر. فكل كتاب من كتبه يدل على مرحلة جديدة من مراحل حياته. واحسب أنه أصبح ذلك الكاتب الكبير لأنه نسي أنه كاتب والتفت

إلى حياته كل الالتفات. نشأ جيد في بيت بروتستانتي شديد التمسك بالسنن الدينية والتقاليد الاجتماعية. وارتوت طفولته من منهلين: الكتاب المقدس وألف ليلة وليلة، فأنمى فيه الأول شعوره الديني وخوفه من الخطيئة خوفاً مرضياً، وفتح الثاني لخياله أبواباً على عالم العجائب واللذاذات. شاءت الطبيعة أن يكون شديد الشهوة الجسمية، فقضى من أجل ذلك حداثته غي جحيم من الحيرة والتردد بين مطالب جسمه وإيمان قلبه. كل ذلك نتيجة الهوة السحيقة التي حفرتها المسيحية بين الروح والجسد، والاحتقار السقيم الذي رمت به الجسد، فكان جيد في العشرين من عمره شديد الإيمان والشهوة معاً، وكان يتمزق تمزقاً من صعوبة موقفه. على أن اللذة التي سيجنيها عندما يتحرر من قيود الدين ويصغي لمطالب جسمه العادلة، لم تكن لترتدي تلك البرود الخلابة لولا تمسكه القديم بالدين وخوفه من الخطيئة. يقول أناتول فرانس إن المسيحية خدمت الحب أجل خدمة إذ جعلت منه خطيئة! ونستطيع القول هنا أن المسيحية خدمت أندره جيد بصورة لأنها كشفت لعينيه آفاقاً للذة ولجمال لم يعرفها قبله إنسان. إن الأرض التي تلقت عبادة جيد وحنت على غرامه هي أرض الجزائر، الشمس والصحراء. هناك بين عرس الطبيعة في الربيع، بين زهو النبات وذوبان النور صرخ جيد: ناتانائيل! لن أؤمن بالخطيئة بعد الآن! كلا، ليست الأرض ملعونة ولا جسم الإنسان حقيراً. . . وفي نفس الوقت الذي اكتشف جيد فيه اللذة وجمال الجسم الإنساني، اكتشف الساحر الذي سيكون له أكبر التأثير في حياته وفكره. نيتشه. فاتفقت نظرة هذين العبقريين في حب الأرض، ليس حباً شعرياً فحسب، بل حباً دينياً وعبادة صوفية. هدم نيتشه السماء وقتل سكانها، ورفع دين الأرض الجديد القائم على جمال الجسم وقوته، ونشاط الفكر وانطلاقه، وجعل غاية كبرى لهذا الدين: الفرح. ولم يكن جيد ليطلب أكثر من ذلك عش الخطر! تلك هي صيحة نيتشه، فكان لها سميعاً. وأي خطر للكاتب أكبر من خطر الفكر؟ هكذا وقف جيد في كل حياته على قمم الهاوية، وأطلق جناحيه مع رياح عاصفة. ليخضع غيره أمام سلطان الأخلاق وليحجموا عن المضي إلى نهاية الطريق التي يقودهم إليها الفكر، أما هو فلن يعيقه في سيره نحو الحقيقة عائق. وقبل

معرفة الحقيقة العامة يريد أن يعرف حقيقة نفسه. من هو؟ على أي شيء هو قادر؟ إنه قلق. كان جيد إذا جلس مع صديق له يقترب منه ملهوفاً ويسأله بصوت خافت: هل أنت قلق؟ وفي رنة صوته ما يفضح عذابات نفسه الحيرى. - ماذا رحت تنشد في البلاد النائية - لاشيء. . . . نفسي. ويقصد جيد من كلمة نفسي الجوهر الأساسي المختص بكل فرد، المعدوم عند أي فرد سواه. فبدلاً من أن يصل إلى هذه المعرفة عن طريق العلم، يعمد إلى ما يسميه أي هدم كل القشور التي أنبتها حول شخصيته الأولى العلم والتربية. فتخطر له فكرة السفر، وفي أسفاره الطويلة المتنوعة يجرب، بابتعاده عن منشأ تربيته، أن ينسى هذه التربية، فيهمل الدرس ويفتح حواسه لتأثيرات المشاهد الجديدة التي توقظ فيه طبيعته الأولى شيئاً فشيئاً. ناتانائيل! فرّ مما يشبهك. فمتى أخذ المحيط الذي تعيش فيه شبهك أو أنت أخذت شبهه، أهجره لأنه لم يبق لك منه جدوى. وليس أضر لك من عائلتك وغرفتك وماضيك!. ثم يقول في مكان آخر: ليس يكفني أن أقرأ أن رمال الساحل ناعمة ندية، بل أريد أن تحس ذلك قدماي العاريتان. ناتانائيل! متى نحرق جميع الكتب؟ بعد تلك الثورة النفسية غدا جيد وكأنه ولد في الحياة ولادة جديدة، فكل ما فيها يبهجه ويستثير دهشته. حتى الأعمال اليومية العادية التي يقوم بها سائر الناس بصورة آلية، أصبح ينتبه لجدتها ويقطف لذتها: أتساقطت بعض قطرات مطر على جلده؟ إن كل كيانه يرتعش لها. أم أكل ثمرة شهية؟ أنها مداعبة طويلة بين لسانه وبين تلك الثمرة. هو لا يريد أن يحيا إلا بالحب، الحب يدعوه إلى العمل، لا الواجب. وما هو ممن يباهون بالمشقة التي يجدونها في العمل، لأن المشقة لا تتفق مع الحب. يسعى جيد ليصل إلى ما هو فردي فيه ولكنه ما يقصد بالفردية؟ أن يهتم الفرد بما يفرقه عن غيره، فينمي هذا الفرق ويستغله. فالإنسانية الكاملة في نظره هي التي يتخصص فيها كل فرد ويقوم بما لا يقدر أن يقوم به سواه. يعتمد جيد على الفرد ويكاد يهمل المجتمع. يريد أن يحرر الشخصيات القادرة على التحرر والتي لا تحتاج إلا لمرشد يسدد خطاها

الأولي. يريد أن يحررها من الماضي الذي يعين لكل شخص حياته قبل أن يولد. كل إنسان مملوء بالممكنات العجيبة. ولو لم يعكس الماضي على الحاضر ظله الكثيف، لكان الحاضر طافحاً بالجديد. 0 ولكنه لا يعتقد أن الفردية نافعة لكل الناس على السواء، بل أنه يخشى منها على الناس الوضيعي الذكاء لآتها تبلبل خاطرهم وتفسد عيشتهم. لا يرى في الفردية جدوى إلا للشخصيات المبدعة التي إذا ثارت على نظامها وهدمته تستطيع إبداله بنظام جديد. أما أكثرية الناس، تلك القطعان التي اعتادت السير وراء راع لها فإنك تقتلها إذا ألقيت بينها بذور الفردية لأنها تحطم أصنامها ولا تستطيع خلق آلهة جديدة لها فتمسي شريدة ضائعة! وبعد، فهل وجد جيد نفسه؟ هل عرف كل ما هو خبئ في شخصه؟ كلا إنه لا يزال ينشد بقاياه. كلما تقدم في السن ازداد حماسة للسير نحو الكمال. ولكن سيره أصبح سيراً مطمئناً بعد أن كان قلقاً. لقد تخلص جيد من الصراع القاسي الذي نشب بين روحه وجسمه، فتوحدت قواه، وصار إذا التقى بصديق له يسأله بصوت فرح: هل أنت قلق؟ أما أنا فقد تخلصت من قلقي!. ميشيل عفلق

قالته الفارسية وتنكره العربية

قالته الفارسية وتنكره العربية (القتل أنفى للقتل) للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي كان كاتب اسمه أو لقبه (السيد) قد نشر شيئاً في جريدة مشهورة نسب فيه هذه العبارة (القتل أنفى للقتل) إلى العرب، وقال - كبرت كلمة تخرج من أفواههم -: إن بلاغتها نفوت بلاغة القول المعجز ولكم في القصاص حيوة يا أولي الألباب. وإن مجسر هذا المقتحم، باعثة مجهول - وستمسي الخافية علانية - وقد رد عليه بهذه المقالة القاصدة اليوم مغلغلة إلى دمشق الشام، لتظهر في مجلتها (النقامة). أجلّ العربية الرصينة المبينة أن تقول هذا القول: (القتل أنفى للقتل) وأنعى على (السيد) هفوة نسبته إياه إليها، أنها لا تعرفه، أنها تنكره. ولو قالته - وهو يبدو حكمة ومثلاً - لروته رواتها: فلا (الميداني) صاحب (مجمع الأمثال) عرفه - وقد جمع في كتابه أكثر من ستة آلاف مثل، ولا (ابن عبد ربه) سمع به، ولو نما هذا القول في (الجزيرة) لانتظمته (جوهرة أمثاله) ولا (أبو بكر الباقلاني) اشتمل عليه كتابه في (إعجاز القرآن) وجدناه فيه، وما قرأناه في (عيون الأخبار) ل (ابن قتيبة) أو (كامل أبي العباس) وما اجتليناه في تصنيف من تصانيف المائة الثانية أو المائة الثالثة. واترك كلام الذائدين عن (الكتاب) في إيراده معزواً إلى العرب وما سطروا. إنه لقول ما قالته العربية ولا مولدوها، وإنما هو كلام فارسي نقله الناقل - وربما أخطأ في الترجمة - ورائحتها فيه تكاد تفوح. ولو قالته العربية ما قالت (القتل أنفى القتل) وهي تعني أن القتل يزيل القتل أو يستأصله، أو يفنيه، ونفى القتل (أي أبعاده) لا يبيده. ونفي (المجرم القاتل) لا يربح الناس منه. ومادة (ن ف ي) كاشفة ما يلتبس. ولم تستعمل العرب هذه المادة - واللغة لغة والعرب عرب - في مثل هذا المقصد، وألفاظ القول لا تستقل بمعناه عند الباحث المحقق. ولو قالته العربية لجاز - أن جاز - أن نقول: (القتل أفنى للقتل) ومن بنى من مثل: (اختصر، وأعطى، وأولى الخ) اسماً للتفضيل بناه من أفنى. وهي العربية ولسانها تصرفه،

تجربه أني شاءت. ولو قالته العربية لجاز - أن جاز - أن تقول: (القتل أقتل للقتل). فينزل في البيت الأعشوي، الشلشي، أو بيت (المتنبي) القلقي الذي قلقل الحشا وتجيء ثلاث قافات خشنة، كل قاف كجبل قاف - كما قال أحمد بن الحسين الهمذاني - وإن جانب هذا القول الفارسي، أو العربي الدعي، القتل وتوسطه (النفي) أو (الفناء) ففيه، في كلمتين قافان قاتلان. وهو في مجال البلاغة والبيان مصروع ومقتول. قد يراد بهذا القول ما قصده الشاعر القائل: بسفك الدما (يا جارتي) تحقن الدما ... وبالقتل تنجو كل نفس من القتل أو القائل (وهو المتنبي) لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم. أو القائل (وهو أبو تمام): ما أن ترى الأحساب بيضاً وضحاً ... إلا بحيث ترى المنايا سوداً فهو - والحالة هذه - في وادٍ، والآية المعجزة في وادٍ. وأن عنى القول الفارسي ما تعنيه الآية فأين خبث الحديد من ذهب الإبريز والماس (أو الألماس) المشع الوهاج؟ وهل الأعجاز بالقلة؟ و (وطن النهى) في قول أبي تمام: كم صارم عضب أناف على فتى ... منهم لأعباء الوغى حمال سبق المشيب إليه حتى أبتزه ... (وطن النهى) من مفرق وقذال كلمتان، و (الراس) واحدة. وعند أبن الأثير (الأديب) تبيانها. وأن رمت الإيجاز مع الأعجاز فخذ من (الكتاب) في القصاص حيوة ولولا أنه القرآن لقلت: خذ يا (سيد): القصاص حيوة. (القتل أنفى للقتل) قول فارسي، نقله المترجم العربي، وفيه ضعف، معناه كريم، ولفظه، سبكه لئيم. قاله إزدشير الملك. ولكم في القصاص حيوة يا أولي الألباب قول عربي، قول معجز قرآني لا يستقل بوصفه - أن احتيج إلى وصفه - إلا بلاغة النبي، بل هو يصف نفسه، ويعلن فضله، وينادي على

أعجازه. وأنا أورد في هذا المقام ثلاثة أقوال لثلاثة أئمة في شأن القول المعجز، في إيرادها فائدة لمن يطلب الفائدة. قال الإمام (الزمخشري) في (الكشاف): (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) كلام فصيح لما فيه من الغرابة، وهو أن القصاص قتل، وتفويت للحياة وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة. ومن إصابة محز البلاغة تعريف القصاص وتنكير الحياة، لأن المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة! أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه فارتدع سلم صاحبه من القتل وسلم هو القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين. وقال الإمام الثعالبي في الإيجاز والإعجاز: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام (فمن ذلك) قوله ولكم في القصاص حيوة ويحكى عن إزدشير الملك ما ترجمه بعضهم أنه قال (القتل أنفى للقتل) ففي كلام الله (تعالى) كل ما في إزدشير. وزيادة معان حسنة منها: إبانة العدل بذكر القصاص، والإفصاح عن الغرض المطلوب فيه من الحياة، والحث بالرغبة والرهبة على تنفيذ حكم الله، والجمع بين القصاص والحياة، والبعد من التكرير الذي يشق على النفس، فإن في قوله (القتل أنفى للقتل) تكريراً، غيره أبلغ منه. وقال الإمام (عبد القاهر الجرجاني) في (دلائل الإعجاز): وينبغي أن تكون (موازنتهم) بين بعض الآي وبين ما قاله الناس في معناها كموازنتهم بين ولكم في القصاص حياة وبين (قتل البعض أحياء للجميع) - خطأ منهم (إلى أن قال): لولا أن الشيطان قد استحوذ على كثير من الناس في هذا الشأن وأنهم بترك النظر، وإهمال التدبر، وضعف النية، وقصر الهمة قد طرقوا له حتى جعل يلقي في نفوسهم كل محال، وكل باطل، وجعلوا هم يعطون الذي يلقيه حظاً من قبولهم، ويبوئونه مكاناً من قلوبهم - لما بلغ من قدر هذه الأقوال الفاسدة

أن تدخل في تصنيف. موازنة (السيد) بين تيك الجملة وتلك الآية تذكرنا بهذه الحكاية: نافر رجل من جرم رجلاً من الأنصار إلى رجل من قريش. فقال القرشي للجرمي: أبا لجاهلية تفاخره أم بالإسلام؟ فقال: بالإسلام فقال: كيف تفاخره وهم آووا رسول الله، ونصره حتى أظهر الله الإسلام؟! قال الجرمي: فكيف تكون قلة الحياء؟. . . . أيها (السيد)، قد عثرت، فتوبوا إلى بارئكم عسى الله أن يتوب عليكم. محمد إسعاف النشاشيبي

غانيمه د

غانيمه د قصيدة للشاعر الألماني الأكبر غوته جاء في الأساطير اليونانية أن الآله (زويس) هبط إلى الأرض في صورة نسر عظيم وخطف الأمير (غانيمه د) الذي أصبح ساقياً للآلهة. وقد صار هذا الأمير الشاب الجميل مثالاً للروح الإنسانية التواقة إلى السمو والطامحة في العلو. وقصيدة (غوته) تصف هذا الشوق في البشر ورغبتهم في الاتصال بالقوة الإلهية: أيها المحبوب، أيها الربيع الذي يغمرني بأنوار فجره المتلألئة والذي أشعر بلهيبه المقدس تتلاطم أمواجه على قلبي وتثير فيه كوامن الحب وملذاته المتنوعة. ما أجملك! يا ليتني استطيع ضمك بين ذراعي فأتمنع بالهناء على صدرك وأذوب شوقاً بلقائك فتتزاحم أزاهيرك وأعشابك على صدري ويطفئ في الصباح نسيمك العليل ظمأ قلبي المضطرم. هذا هو العندليب في السهل القريب يرسل إلي أنغام الحب تهيب بي: لبيك، لبيك ... إني لاحق بك! ولكن إلى أين؟ ... نعم إلى أين؟ إلى العلى، إلى العوالم السماوية يدفعني الشوق. وها هي السحب تحنو علي أنا الذي يتجاذبني الحب والشوق، أنا الذي أريد الصعود في أحضانها، تعانقني وأعانقها، فأسرع هائماً إلى صدرك أيها الأب المحبوب.

قصر الحمراء

قصر الحمراء قف على الحمراء وأندب ... مضر الحمراء فيه وأسأل البنيان ينبئك ... بأبناء ذويه ويحدثك حديث المجد ... والعيش الرفيه بكلام محزن اللهجة ... يبكي من يعيه فيقول القلب آهاً ... وتقول الأذن إيه صاح لو كان لذا الدهر ... حياء يقتنيه ما رمى العرب أباة الضيم ... بالخطب الكريه لا ولا جرّ بغرنا ... طة أذيال سنيسه حيث هذا القصر أمسى ... خالياً من مبتنيه فازدر الدهر وسفه ... كل من لا يزدريه وإذا كنت حليماً ... فأبك من دهر سفيه معروف الرصافي

صيف في أوروبا

صيف في أوروبا بقلم الأستاذ جان غولميه تعريب كاظم الداغستاني وصف الأستاذ في القسم الأول من رحليه التي أرسلها خصيصاً إلى الثقافة سفره من بيروت وما رآه في حيفا وبور سعيد ثم أتى على وصف اثينة وسلانيك وبلاد الصرب حتى وصل بلغراد وقد نشر هذا القسم في الجزء السابق من الثقافة والمقال التالي هو القسم الثاني من الرحلة، وسيليه القسم الأخير في الجزء القادم. 2 تموز سنة 1932 - بلغراد الغيث يهطل في هذا اليوم من تموز فنحن إذاً لا شك في أوروبا. خرجت من محطة القطار هائماً على وجهي تائهاً في أحياء المدينة ولقد رأيت فيها حدائق عامة غاية في البهجة والجمال، كثر الورد في جنباتها وتكاملت أغراسها بالزهر. وفي المدينة أيضاً تماثيل فخمة ولكنها جافة خشنة والمدينة جديدة وأنيقة تدل على ما بذل من جهود كثيرة في سبيل إصلاحها وأعمارها على الطراز الحديث، غير أن يوغسلافيا ينقصها الوحدة القومية فليس من رابطة تصل بين الكروات من أهالي زغرب وبين الصربيين القدماء من أهالي نيش أو أهالي اسكوب سوى أنهم أقاموا عليهم ملكاً واحداً ولكن ماذا نتج عن ذلك وعن هذا الاشتراك في الملكية؟ لقد زعمت معاهدة فرسايل أنها ستقيم العدل بين الأمم على أساس القومية. ولكن ألم تكن عظيمة المكر بذلك. ألم تقم هذه المعاهدة في يوغسلافيا سيطرة ملك الصرب الحالية مقام الاستبداد الملكي المجرى النمساوي الغابر؟ والشعب الكرواتي أليس هو الآن عبداً كما كان قبل الحرب عبداً لفينا؟. . وانحدرت في سيري حتى وصلت ضفاف نهر الدانوب الذي يشبه البحر بسعته وانفراج شواطئه فرأيت أمواجه الضخمة تتطاول هائجة إلى أن تتصل بالأفق تحت سماء غبراء. ولقد ذكرني ذلك نهر الفرات الكبير في ضواحي الرقة وهو يجري بين ضفتيه المتجهمتين، ولكن على ضفاف الدانوب قامت بدلاً من رمال الصحراء وأوحالها أرصفة عظيمة، ينقلون منها إلى السفن ومن السفن إليها، قطع الأشجار وألواح الأخشاب بلا انقطاع ولا كلل.

إن لمدينة بلغراد منظراً يبعث في النفس الكآبة، ولعل فيها من النظام والترتيب أكثر مما يجب وفيها يستنشق الزائر هواء الديكتاتورية ولا حكم المطلق ويشعر أنه محاط بجو ينم عن القلق والحذر وعن الإقبال على العمل بدون فرح أو غبطة. وأني عليم بحقيقة هذا الجو الضيق بعد أن شعرت بوطأته في استانبول مدينة مصطفى كامل وفي ميلان مدينة موسوليني. إن النفوذ الفرنسي عظيم جداً في الأوساط اليوغسلافية الرسمية لأن حكومة الملك الكساندر بحاجة للمال، ولكن هذا النفوذ لا أثر له بين أفراد الشعب ومع أني وجدت في مدينة يونانية صغيرة يبلغ عدد سكانها العشرة آلاف مثل مدينة فولو دارا للسينما يعرض فيها شريط سينمائي ناطق باللغة الفرنسية فأني لم استطع أن أجد في بلغراد في دور السينما الأربع عشرة غير شرائط سينمائية ناطقة باللغة الألمانية رغم أن هذه الشرائط هي من الدرجة الوسطى في الجودة. لقد علمت من الصحف الحوادث اليومية التي تقع على الحدود النمساوية الألمانية وأخبار مقاطعة السياحة إلى ألمانيا التي قررها الرئيس دولفوس انتقاماً من الهتلريين لقاء ما يقومون به من الجور والشطط. ولقد أكدوا لي أنه يستحيل علي أن أحصل في فينا على تذكرة سفر في القطار إلى مونيخ ولذلك فقد عزمت أن أسافر إلى فرنسا وسأقضي اليوم الرابع عشر من شهر تموز في باريس ثم أسافر منها إلى ألمانيا. 4 تموز - تريسته قطعنا في سفرنا من بلغراد إلى مدينة زغرب سهل يوغسلافيا الخصب الأخضر ولقد كان ما يحصد من الزرع جيداً رغم جور العواصف عليه. أن الأعمال الزراعية في هذه البلاد ما برحت على ما كانت عليه منذ القديم ولا يرى المسافر إلا قليلاً من الآلات الزراعية ورغم بعض مظاهر لا شأن لها فبلاد اليوغسلافيا ما زالت من البلاد المتأخرة. ها هي إيطاليا بألبسة الدرك العسكرية التي تدعو للهزء وها هي صور موسوليني في كل ناحية وفي كل مكان حتى على عربات بائعي شراب الليمون في محطات القطار ولا تغرب مدينة اوسينا عن النظر حتى يسير القطار وشاطئ بحر الأدرباتيك محاذياً للطريق الممتدة على ساحل خليج تريسته الأزرق البهيج وتريسته مدينة عظيمة فخمة يكفي لزائرها أن يمر

في شوارعها ليعرف ما بلغته الأزمة منها في هذا الزمن وهنا أيضاً كانت المعاهدات التي عقدت في سنة 1919 سبباً لأحداث ما لا ينطبق على المنطق الصحيح فلقد سلخت هذه المعاهدات عن أوربا الوسطى مرفأها الطبيعي كما سلخت عن تريسته البلاد المتصلة بها فلا ربحت الأولى ولا انتفعت الثانية من جراء ذلك. 5 - تموز - البندقية رغم ما توحيه هذه المدينة في نفس زائرها من ذكريات الشعر والرواية في كل خطوة يخطوها فهو يشعر بخيبة ما أمله خياله قبل أن يراها. نعم ومن الصحيح أن لطيور ساحة سان مارك وهي تطير فتؤلف أسراباً بيضاء تحت سماء رمادية منظراً جميلاً رائعاً ولكني ما استطعت أن أترك مجالاً لحماس الإعجاب في نفسي بمشهد هذه المدينة الشعرية الشهيرة التي بنيت في البحر ولا بمشهد ما يسبح في شوارعها من تلك الزوارق الأنيقة. إن كل ذلك تافه يختلف كثيراً عما ترسمه المخيلة عندما ترن في الأذن مقاطع كلمة البندقية بلد الرئيس القديم صاحب مجلس العشرة ومدينة الهوى والشباب. . . 6 تموز - ميلان بين البندقية وميلان تمتد حقول لومبارديا الفنية منبسطة بين نهري أديج وتيسان اللذين شهدا وقائع نابليون واشتهرا بانتصاراته، وهي حقول حسنة الإسقاء والإرواء غنية وعلى نمط واحد. ولم يطل بنا المسير حتى ظهرت لنا مدينة ميلان تحت الأمطار التي كأنها، وهي تتبعني من البندقية، تريد أن تنتقم مني لقلة إعجابي بمدينة العشاق والشعراء. ولميلان محطة عظيمة كأنها الكنيسة الكبرى. مدينة نشاط وعمل تدوي في أرجائها أصداء الهمة والجد. بيوت للعمال أشبه شيء بالثكنات وألبسة السكان ليست تلك الألبسة المسرحية التي تدل على لهو وخمول لابسيها من سكان الجنوب. وفي هذه المدينة يفهم الزائر حقيقة الجهود التي يبذلها الفاشستية في سبيل الإصلاح والأعمار بعيدة عن تأجج العاطفة وحماسها. 8 - تموز - باريس قطعنا، وذهب الأصيل ينعكس على زبرجد الماء، بلاد البحيرات الإيطالية وشهدنا مغرب الشمس على ضفاف بحيرة ماجور. وهنا أيضاً تبدو الخيبة فيما أمله الخيال. ولعل هذه

المناظر تظهر أكثر جمالاً للعائد من فرنسا، أما المسافر الذي غادر من أمد قريب مرفأ سلانيك فإنه لا يرى فيها غير أشياء بسيطة هي أشبه ما يكون بصور بطاقات البريد الملونة. ثم وفي مثل هذه المشاهد الشعرية يجب أن يكون إلى جانب نفس الناظر إليها نفس يأنس بها ليبثها ما يخامره من إعجاب بمرأى الطبيعة. لقد مر بهذه البلاد كثير من الأزواج جاؤها في ربيع العمر ليقضوا بين ربوعها شهور العسل حتى أن هواءها أصبح ملأن بالحنان الخفي ومشبعاً بالصبابة الناعمة وأنا أقطعها وحيداً أزعجني متاعب السفر الطويل فجعلتني صعب الرضى مر المذاق. عدت إلى باريس وكان العود أحمد سعيداً، لشد ما يشعر بالغبطة والهناء من تخلص من أعباء الضغط والتحكم في بلغراد وميلان وارتمى في أحضان باريس لينعم بما فيها من الحرية والديمقراطية. ولعل في باريس من التهامل وعدم الاكتراث أكثر مما في غيرها من تلك البلاد ولكن فيها الحرية، والحرية هي أعظم خيرات الدنيا وأثمنها. 20 تموز - كار لسروه قضيت عشرة أيام في باريس عزمت من بعدها على السفر إلى ألمانيا فاجتزت اللورين الغبراء التي نشرت الكآبة لواءها فيها تحت سماء حديدية اللون، وقضيت الصباح في هراسبوغ ثم اجتزت الحدود من موقع كيهل. وجاء رجال الجمارك فنزعوا مني صحيفة الجورنال التي كنت أحملها والتي يظهر أنه من المحظور إدخالها إلى ألمانيا دون أن أبرز هذا الجواز ولا أدري إذا كان في ذلك ما يدل على الفوضى في الإدارة الهتلرية. وبدت لنا في جو يلتهب بحرارة القيظ مدينة كار لسروه مركز الصناعة الكيماوية التي تؤلف المئات من مداخن المعامل فيها منظراً جهنمياً، ولكن الدخان لم يكن ليتصاعد إلا من بعضها. ويشعر زائر هذه المدينة بما فيها من البطالة والضيق الشديد ولعل سبب ذلك ما اتبعته ألمانيا من الأصول الاقتصادية بعد الحرب فلقد حذت في إنشاء المعامل والمصانع حذو أمريكا فبنت وأعدت أكثر مما يلزم حتى أصبحت لا تستطيع تصدير وبيع ما تنتجه من السلع والمحاصيل الصناعية التي تجاوزت بمبلغ إنتاجها الحد اللازم فلم تعد تأتي حتى بما بذل في سبيل إنتاجها من نفقات كثيرة أصبح جلها ديوناً على منتجيها. 21 - تموز - ستوتغارت

لقد رأيت من موقف القطار في هذه المدينة ساحة للألعاب الرياضية ازدحم الناس فيها، ورأيت في كل جهة من الجهات أعلاماً وستائر سوداء وحمراء، أو سوداء وبيضاء وحمراء مع إشارة الصليب عليها، فماذا هنالك؟ لقد عدلت عن متابعة السفر إلى مونيخ بعد أن استطلعت الأمر وتركت القطار الذي كنت أركبه فقصدت المدينة التي وقفنا فيها. 22 - تموز - ستوتغارت يصل هتلر في هذا المساء. وستقام أعياد رياضية بمناسبة قدومه. ولقد أكدوا لي أنه سيخطب طويلاً في ختام هذه الأعياد فرأيت أن الأمر يستحق أن انتظر قليلاً، يضاف على ذلك أن هذه المدينة الصغيرة هي من مدن الولايات الألمانية التي ينزل فيها الغريب أهلاً فتلقاه باشة ويجدها جذابة بأسطحة منازلها الحمراء ومناظرها الخضراء الجميلة وبما ساد في طرقها، ما عدا الشوارع الكبرى، من هدوء وسكينة لقد كنت خلال المسافة التي قطعتها من البلاد الألمانية في طريقي إلى هذه المدينة لا أشعر بالهتلرية إلا كأنها مهزلة صبيانية لم تستطع أن تشوه شيئاً من وجه ألمانية الجنوبية الضاحك التي تفرق كثيراً عن بروسيا. لا مشاحة أن هنالك رجالاً لبسوا القمصان الرمادية ووقفوا لجانب أفراد الشرطة والدرك في مواقف القطر ومفارق الطرق ولا نكران أنهم يتفرسون في وجه من يمر أمامهم فيلقون عليه نظرات فيها ما فيها من العجرفة ولكن كيف السبيل لاعتبارهم مجدين في عملهم غير هازلين وهم يلبسون تلك السراويل الجلدية القصيرة التي تكشف عن أفخاذ مستورة بالشعر ويضعون في ذروة رؤوسهم هاتيك القبعات الصغيرة المستديرة التي لا شيء من الأبهة فيها ويربطون أذرعهم برمز الصليب ربطاً شديداً. إن في ذلك كله ما يفرق كثيراً عن زي الجيوش الفاشستية القاتم وألبسة رجاله ذوي الوجوه الجهمة والقمصان السوداء الضيقة الملتصقة. وذهبت للنزهة في الحقول المجاورة للمدينة فألفيت الفلاحين على وشك أن يتموا حصاد الزرع وليس هنالك ما يدل على شقائهم ولكن الأرض لم يبق منها شبر واحد لم يحرث أو يزرع وهذا ما يؤيد، أكثر مما تؤيده الخطب، تزايد عدد المواليد في ألمانيا زيادة مزعجة تؤلف عذراً للطغيان الهتلري الذي ما هو في الحقيقة إلا عمل قام بدافع اليأس. حينما كنت

في ألمانيا في سنة 1925 لم يكن من أحد يهتم بهتلر أو ينتبه إليه ولم يكن للجريدة التي يصدرها من قراء أو مشتركين ولقد بلغ به الأمر أنه حاول إذ ذاك الانتحار ليلفت نظر الرأي العام وينبه الناس إلى عمله. في كل مكان، على ضفاف الأنهر وبين المروج وفي الشوارع والطرقات يمر الشبان بأجسامهم القوية التي هي أشبه شيء بأجسام المصارعين مرتدين ألبسة الاستحمام أو حاملين فوق ظهورهم حقائب السفر يتغذون من الهواء الطلق والرياضي أكثر مما يتغذون من الخبز وهم جميعهم مفتولو العضلات أقوياء السواعد تكشف أفواههم عن أنياب طويلة حادة. أن هذا الشباب الذي يدعو للحيطة والحذر يطلب مكانته تحت الشمس ويظهر أنه على استعداد دائم لنوال ما يطلب حتى ولو أدى به ذلك لأن يطرح أرضاً كل المبادئ الأخلاقية والدينية القديمة فيرجع إلى ما غبر من أصول المجوسية في القبائل الجرمانية الغابرة. إن أمر هؤلاء الشبان الرياضيين مضافاً إليهم الفتيات اللواتي يظهر أنهن لسن أقل شأناً في القوة والأقدام منهم هو الذي جعلني ارتجف خوفاً على مستقبل السلام أكثر بكثير مما أحياه في نفسي من الخشية والحذر ذلك الزي العسكري الغريب الذي يرتديه الهتلريون. لقد انتهت في هذا اليوم أعياد الألعاب الرياضية التي أقامتها المدينة والتي حضرها ملك أسبانيا السابق. وقد أشارات الإعلانات إلى أن حضوره للتسلية فقط وكان جالساً في مقصورة الرئاسة لجانب هتلر وفي ذلك دليل على أن هتلر يود أن يؤيد ما بنفسه من عواطف الرجعية ويظهر للجماعات الألمانية أخلاصه للنظام الملكي الذي لم تخمد شعلته في نفوس هذه الجماعات بعد إلا قليلاً. وفي حوالي الساعة الخامسة انبرى هتلر للخطابة فتكلم مدة ثلاثة أرباع الساعة وكانت الآلات المكبرة للصوت تنشر صدى كلامه وآلات الراديو تنقل هذا الكلام إلى كل جهات ألمانيا. وفي هذا الوقت كان ثلاثون مليوناً من الرجال على الأقل وهم نصف الشعب الألماني يصغون إليه كما يصغون لوحي الأنبياء. وهذه هي المرة الأولى التي أراه فيها عن قرب وأتفرس في ملامحه. ليس هو بالجميل ولا تناسب في تقاطيع وجهه. فهو ذو ذقن حليقة مربعة الشكل وشفتين رقيقتين وخدين منحدرين وقامة متوسطة وكتفين أحدهما أعلى من الآخر، لا أنه غير جميل وليس فيه ما

يشبه جلال موسوليني البارز ولا قامة مصطفى كمال الأنيقة وإن شاربيه القصيرين المقصوصين يقربانه بالشبه إلى شارلو الممثل المعروف ولكنه في الحقيقة يشبه شارلو الممثل المؤلم لا شارلو الممثل المضحك. على أن في شخص هتلر شيئين جديرين بالإعجاب وهما عيناه وصوته. أن عينيه غريبتا الشكل لهما نظرات سطحية تكاد أن تكون محزنة تحمل من القوة المغنطيسية ما يخيل لمنة تقع عليه أنها نظرات الإخلاص والحقيقة. نعم أن هذه النظرات لا تنفد إلى أعماق النفس ولكنها تذهب إلى أمد بعيد فكأنها تتصل بأرجاء وأهداف غريبة منيعة لا يتاح للرجال الوصول إليها. أما صوته فليس فيه الرنة الصلدة التي حواها صوت فنزيلوس ولا تلك النغمة الفاتنة التي كانت ترافق صوت بريان ولا تلك الشدة التي تمازج صوت هريو، بل في صوته كما في عينيه شيء لا يحدد ولا يمكن تعريفه تقريباً. صوت أجش ومقاطع هي حالة وسطى بين النحيب والاستغاثة، وعلى الجملة فهو كنغمة الأنشودة الشعرية المحزنة. ليس هتلر بالممثل البارع كما قالوا عنه كثيراً. بل كل ما في الأمر أنه يستطيع أن يبدي في أسارير وجهه ما لا يشعر به نفسه من العواطف. ولكن لا. أنه مخلص، غير أنه كرجل صوفي، وربما كرجل مجذوب. فهذا الصوت الساحر البديع ماذا يقول؟ أقوال غمرتها الظلمات. يقول أن الألمان يجب عليهم أن يجعلوا عضلات أجسامهم من حديد، وأنه يتحتم عليهم أن يذكروا أن قيمة الرجل في قوة ساعديه، لا في دماغه وأن الوطنية تتطلب إرادة من فولاذ لا عقلاً ولا ذكاء، وإن الذكاء ما هو إلا سلاح الضعفاء. ولهذه الآراء التافهة كانت الجماهير المحتشدة تهتف هتافاً هائلاً حتى أني أنا نفسي قد أوشكت أن تسكرني تلك العاطفة الهوجاء التي تضطرم في نفس الجماعات المتجمهرة فتجعلها تنتحب حماساً وأن أرفع ذراعي في الهواء وأصيح بدوري مع الصائحين (هايل هتلر. هايل. هايل.) ليعيش هتلر. ليعيش ليعيش. (البقية للعدد الآتي) جان غولميه

أميركا تفتش على الطريقة الثالثة

أميركا تفتش على الطريقة الثالثة للأستاذ شاكر العاص (نيورك) إن الأزمة المستحكمة في الولايات المتحدة منذ سنة 1929 تهيئ الأسباب لانقلاب عظيم في معظم شؤون الحياة. فقد حار في أمرها وتعليل أسبابها الاقتصاديون الذين يدينون بما آتى به (آدم سمث) واضع علم الاقتصاد السياسي. وقد تاهت التكهنات والنبوآت في تحديد أجلها وكيفية انفراجها. وتقمصت الأزمة فلم تعد طارئة لتزول بل تأصلت لتدوم. أما ما أحدثته في الحياة الأمير كية فهو من النوع الذي تحدثه الزلازل الشديدة والعواصف القوية. ألف الأميركيون مصابهم وأصبح جزءاً من حياتهم اليومية ولكنه ما يئسوا ولا استسلموا بل نشط الفكر في كل أنحاء البلاد يدرس مظاهر الأزمة وأسبابها البعيدة والمباشرة، ينظر في أطوارها المختلفة ويجمع الإحصاءات ليستعين بذلك على حلها والتغلب عليها. لم تنصرف الأفكار للسؤال والبحث والتدقيق في زمن من الأزمان كم انصرفت إليه الآن وقد بلغ من أمرها أن أخذت تشك في صحة كل المبادئ والأسس والمعتقدات التي قام عليها أبناء هذا المجتمع العظيم وهذه المدينة الخلابة وهي أمور كانت قبل أربع سنوات فوق الشك، إليها ينتهي الباحث وبها يهتدي الحائر. وكان من نتائج البحث النقدي والتحميص الدقيق أن أخذت تلك المبادئ والأسس والمعتقدات تتفرع آحاداً وجماعات وتتكدس جثثها تحت الأقدام. ليس الدور الذي تمر فيه أميركا دور تطور ونشوء يتبدل فيه القيم تبدلاً غير محسوس ويندمج معه الجديد فلا يكاد يشعر بذلك أحد بل هو دور يشعر فيه الإنسان أن الأرض تنهزم تحت قدميه فلا تجد مستقراً ثابتاً يركن إليه ولا نقطة جامدة يتعلق بها. عرف الأميركيون أكثر من كل الناس أن هذا العالم مستبدل وألفوا التبدل حتى أصبح جزءاً من حياتهم ولكنهم اليوم يعيشون في عالم ثائر. أن اليد غير المنظورة التي أقرها (آدم سمث) لتعمل على توجيه جهود الأفراد لتعود بالنفع على الجميع لم تعد غير منظورة فإذا هي لا تعمل لتحقيق النفع العام. ومبدأ التزاحم والتسابق الذي أقره أساساً لتقدم الحضارة وازدهارها ظهر في ثوب جلاد يهددها ويهيئ انقراضها. وظهرت مفاسد آراء (جيروم بنثام) شيخ النفعية التي جعل منها قاعدة للأخلاق

والتشريع. فقد ظهر أثر الزمان في المبادئ التي أقرها القرن التاسع عشر فإذا بها تنهار كما ينهار البناء القائم على أساس غير مكين. لم يبق في هذا العالم المنظور مجال لشيء غير منظور وحيثما اختلف الاستنتاج العقلي أو المنطق عن التجربة والواقع أهمل الناس الاستنتاج وتعلقوا بالتجربة والواقع. هذا جزء من كل يشير لعمق البحث وتشعبه لمعالجة هذه الأزمة الخطيرة. أمران خرجا سالمين من المعركة العلم والديمقراطية، والأميركيون يريدونه معالجة أزمتهم دون أن يخرجوا عن الإطار الديمقراطي الذي عاشوا فيه وهذا أمر هام إذ يحدث في الوقت الذي تعلن فيه أوروبا فشل الديمقراطية وفسادها كأساس للحكم حتى أن الإيمان بها أخذ يتضعضع في انكلترا ذاتها مهد الديمقراطية وحارستها. إن تعلق أميركا بالديمقراطية هو ما يحملها على البحث لإيجاد الطريقة الثالثة لأن الفاشستية والشيوعية ثورة على الديمقراطية ونقض لأحكامها. وقد تعددت الاقتراحات وتناوبت أهميتها صعوداً وهبوطاً ولكن الآراء لم تتفق على هذه الطريقة الثالثة فهي لا تزال سراً في صدر المستقبل. أهي (العهد الجديد) الذي ينفذه الرئيس الحالي روزقلت أم هي التكنوكراسيا كما اقترح كبار المهندسين أم هي رأسمالية الدولة؟ الكلمة في ذلك للغد. أما ما يعرفه الناس عن الطريقة الثالثة فهو أنها لن تكون الرأسمالية الطليقة - القائمة على الربح والتنافس إذ ظهر فسادها وضررها وأنها ستكون قائمة على أسس علمية صح0يحة تساعد على الاستفادة لأقصى حد ممكن من اختبار العلم ونتائجه والصناعة الحديثة فلا يكون هنالك مجال للخطة التي ترمي لتحيد الإنتاج الزراعي والصناعي بتحديد مساحة الأراضي التي تزرع وعدم استعمال المكائن الحديثة لإيجاد ندرة في الأسواق تسبب رفع مستوى الأسعار. فالحياة الاقتصادية المقبلة ستقوم على أساس الكثرة في الإنتاج لا الندرة كما في الماضي والأمر المستعصي حله هو توزيع الثروة لا إنتاجها. لماذا يتعصب الأميركيون للديمقراطية؟ ولماذا يرفضون الشيوعية والفاشستية؟ إن تعصب الأميركيين للديمقراطية قائم على شعور عميق بالتساوي بين الأفراد فكل أميركي يعتقد نفسه مساوٍ على الأقل لزميله أن لم يرجح عنه قليلاً. وهذا الشعور بالتساوي هو أول ما يصطدم به من يأتي لأميركا من بلاد غير ديمقراطية ولا يقف هذا التساوي عند

الرجال هو بين الرجال والنساء أيضاً وقد أصبح هذا التساوي جزءاً من نفسية الجنسين لا يثير بحثاً ولا يسترعي انتباهاً. وقد أخذ أثر المرأة في الحياة الأميركية يظهر بوضوح وجلاء. أن هذا التساوي بين الأفراد من الجنسين يقرب الديمقراطية الأميركية من الشيوعية ويجعلها تختلف عن الفاشستية القائمة على أساس وجود اختلاف بين الأفراد ووجود طبقة ممتازة صالحة للحكم وأخرى لأن تحكم. وتتفق الفاشستية مع الديمقراطية الأميركية التي يمثلها الآن الرئيس روزفلت بأمرين: الأول المحافظة على شكل الرأسمالية مع تبديل في التفاصيل والفروع والثاني عدم الرغبة بالتعاون الدولي والعودة للانفراد الاقتصادي. ومع ذلك فالاختلاف بينهما عظيم في الاتجاه والغاية. فالرئيس روزفلت جعل محور عمله وغاية جهوده رغد العيش والبحبوحة العامة. وهذه الكلمات ترد تقريباً في كل خطبه العامة ملحاً على لزوم توزيع الثروة توزيعاً عادلاً فلا يحصل أحد على حلوى أن يأكل الجميع خبزاً وهذه الأمور كلها كميات قابلة للقياس لأنها مادية أما الفاشستية سواء في ألمانيا أو إيطاليا فقلما تبحث عن البحبوحة الاقتصادية العامة بينما هي تثير الكبرياء القومية والحقد وعبادة بلاد الأجداد وهذه الأمور غير قابلة للقياس لأنها معنوية فالاختلاف أذن بين الديمقراطية والفاشستية هو خلاف بين المادية والفكرية ولا غرابة بذلك فالإرث الفكري والاجتماعي والاقتصادي في أميركا متأثر جداً بأصله البريطاني الذي يدين بالمادية ويرى فيها سعادة البشر وهناءهم. ويسيء الظن بالفكرية من النوع الذي تقول به الفاشستية إذ يرى فيها دماً وناراً وانحلالاً خلقياً. إن مادية الديمقراطية الأميركية تقربها أيضاً من الشيوعية التي تجسد المادية ومع ذلك فالاختلاف بينهما لا يزال كبيراً. فالشيوعية نظرية ثوروية بحتة وضع أسسها كارل ماركس وأنكلس لاستفزاز شعور العمال وحملهم على الكفاح ضد الرأسمالية للتغلب عليها والاستيلاء على الحكم لإقامة مجتمع لا طبقات فيه ولا مستثمر ولا مستثمر. وقد اعتنق هذا المبدأ عدد كبير من العمال في أوروبا حيث تأصل نظام الطبقات مع تبدل في الشكل كما هو معروف في التاريخ. ولكن أميركا لم يكن فيها طبقات قبل قيام الصناعة الحديثة. فقد كانت متساوية في ظروف المعيشة حينما كانت البلاد زراعية إذ يملك كل فرد جزءاً من الأرض ومن لا ارض له لا يصعب عليه أن يحصل على ما يريد ويستطيع تحقيق بغيته

بأن يهاجر للغرب. كان المجتمع في ذلك الحين آخذاً بالتوسع والامتداد وكانت الناس تتساوى أمام الطبيعة وتتساوى بحاجتها للتعاون على عدو مشترك ولما بدأت الصناعة الحديثة قام بأمرها أناس عبقريون لم يرثوا مالاً، ولذا كان الطريق مفتوحاً للجميع على التساوي. أن أثر ذلك لا يزال راسخاً في العقلية الأميركية بالرغم عن تبدل الظروف رأساً على عقب فكل أميركي يحلم أن يصبح في يوم من الأيام غنياً. فالعقلية الأميركية هي (بورجوازية) في تكوينها وأهدافها، ولم يمض على ما تم من التبديل وقت يكفي لتبدلها ولذا لن تجد الشيوعية أرضاً خصبة في هذه البلاد في الزمن الحاضر. ولا ينحصر سبب ابتعاد الأميركيين عن الشيوعية بما تقدم فالشيوعية ليست نظرية اقتصادية فقط بل هي اجتماعية وهي تحارب الدين حرباً لا هوادة فيها وهذا مما يزهد الأميركيين بها أيضاً ليس لأنهم أكثر تديناً من الأوروبيين بل لأن الدين تطور سريعاً في أمركا ولم يكن في يوم سلاحاً في يد الطبقة الحاكمة كما في روسيا أو فرنسا قبل الثورة. لم يقم في أمركا نحالف بين التاج والصليب. إذ لم يكن فيها تاج. ولم يجمد الدين في أمركا بل تجرد عن كثير من العناصر التي لا شأن لها بوظيفته الأصلية واقتصر أمره على الحياة الروحية التي تسمو بالإنسان فوق عالمه المادي وتقرب بين الإنسان وأخيه الإنسان. لمعرفة حدود التساهل الديني عند بعض الطوائف هنا اذكر حادثة استغربتها جداً إذ ذهبت صباح أحد لكنيسة فوجدتها مغلقة وقد ألصق على بابها إعلان يدعو الأعضاء المحترمين لحضور حفلة القداس في قاعة كبيرة وسط المدينة وقد جاء فيه اسم الواعظ وموضوع الوعظ فإذا هو: كيف ينبغي أن نفهم كارل ماركس. والأخير كما هو معلوم زعيم الشيوعيين الذين يقولون: الدين أفيون الشعب. وهناك خلاف آخر هو العائلة فالشيوعية خلقت نوعاً جديداً من العائلة لم يعرفه الإنسان من قبل وهو قائم على أساس التساوي التام بين الرجل والمرأة وسهلت الزواج والطلاق ومنع الولادة إلى أبعد الحدود. ولكن العائلة الأمريكية لا تزال تتمتع بالظاهر على الأقل بما يخلعه الدين عليها من روحانية وقدسية وقد تطورت كثيراً إذ أصبح الزواج مدنياً وكثر الطلاق حتى أنه يزيد عما يحدث منه في روسيا ذاتها فالعائلة الأمريكية فقدت القدسية القديمة ومع ذلك يحرص الأمريكيون على الشكل الذي عرفوه وألفوه.

وهكذا فإن الحل الذي يبحث عنه الأميركيون لا يتفق مع الفاشستية ولا مع الشيوعية بل هو طريقة ثالثة ما زالوا يسعون في الاهتداء إليه. شاكر العاص

فلسفة سبينوزا

فلسفة سبينوزا - 2 - كل حي، ذي خيال، مسير بقوة الحياة الحافزة يلمس في مساعيه الخاصة صفات الخير، ويرى الشر العميم في كل ما يخالف تلك المساعي، فكل عادة من عاداته وعاطفة من عواطفه تغدو حكما للأخرى، ثم تنضم هذه العادات في مجاميع مركبة وكلها تستقر في أعماق نفسه وتسيره في الوجهة المناسبة. ولكنها لا تلبث هناك هادئة بل يغمرها تيار المنافسة فتحاول أن تتنازع على السيادة وأن تقسر بعضها البعض لإرادتها. من هذه المنافسة بين عواطف الإنسان يتألف تاريخه الخلقي كما أن الاصطدام بين مصالحه الذاتية ومصالح الجمعية يرسم له هدفاً معيناً والخيال الذي يرى في لمحة عابرة هذه المصالح المتضاربة في مجموعها ويتأملها في تصادمها وتألفها، هذا الخيال هو العقل نشيطاً قوياً تتوفر وسائل النجاح وتسود الجرأة النفسية وتتلاشى أسباب السقوط والاضمحلال. وما السعادة في نظر سبينورا - غير قوة نفسية يولدها العقل فتنكر كل مستحيل وتقبل كل أمر ضروري واقعي. وقوام هذه القوة نواميس الطبيعة وإدراك نظامها، ولذلك يدعوها سبينورا - معرفة الله ومحبته. السعادة - بهذا القياس - هي الغاية المثلى التي ينشدها فيلسوفنا، لأنها تضع حداً للأطماع الشاردة وتحمل الناس على الخضوع للقوى الموجودة كونية كانت أم سياسية. أما الوهم والغرور الإنسانيان فأنهما الباعث الأكبر على الفوضى الصارخة والخوف الذي يساور النفوس من قوى الطبيعة الغاشمة وسبينوزا بالرغم من خضوعه للسلطة المشروعة التي تمثلها القوانين الطبيعية لا يعرف هوادة في قضايا الفكر فهو بكل شجاعة وثقة يهدد الحكومة التي لا تمثل قوة الجمعية المنظمة بالاضمحلال والدين الذي يحرف موحيات العقل والضمير الإنساني بالتلاشي. ولما حرمته الدينية القروسطية من الامتيازات التي كان يتمتع بها أبناء دينه عاد إلى آراء الأنبياء الأصلية ونهل من معين اليهودية الأول. منذ ذلك الحين أصبح مصلحاً فذاً يحمل إلى العالم رسالة إصلاح جديدة تدعمها روح ورع فعالة لا تعبأ بتقاليد البشرية العمياء. وقد وعد الذين يعتنقون تعاليمه بالحصول على سعادة دنيوية معقولة مستمدة من نواميس الطبيعة ونظمها الثابتة.

لاشك أن الله لا يفكر كما نفكر ولا يحتذي الأساليب التي نحتذيها. ولكن الإنسان الصالح الذي يعمل للخير في أوسع معانيه بأتباعه للسنين الطبيعية التي تمثل الله يغدو سعيداً هادئ البال. وبالعكس فإن طريق الإثم شاق عسير يملؤه القتاد. فالقوانين الطبيعية، إذن، هي المبرر السامي للخلق النبيل، وهذا الخلق لا يتمثل بالتضحية الظاهرة المسرحية ولا بالإيمان الخادع الذي تولده العقائد الخيالية بل هو نتيجة طبيعية للنواميس الكونية متصل بها بأقوى الأسباب وأوثق الأواصر. التفت العبرانيون المتأخرون، بعد اضمحلال شأنهم السياسي إلى التقوى الباطنية والشعور الرثائي النادب - كما نرى في المزامير - وقد وجدوا في القلب الكسير والنفس المصدوعة طريقاً جديداً للخلاص فحفن هذا (سبينوزا) إلى إضافة لون صوفي جديد للخلاص يضم إلى مزايا العملية: فقال أن الاحترام المجرد لإرادة الله والفهم الحقيقي لقوانين الطبيعة (والاثنان واحد في رأي سبينوزا) هما في ذاتهما ملك أثمن من الياقوت وأغلى من ألآلئ. والروح الفلسفية ليس لها وطن سوى بيت الله والمكان (الكون الشامل) الذي تستقر فيه عظمته، وكل ما في الطبيعة، هو بلا ريب، ومسرة للرجل الذي يدرك الضرورة الرياضية لجميع حوادث الكون. تبتعد فلسفة سبينوزا الدينية عن الروح اليهودية وتقترب من الفكرة الإغريقية حينما تعالج فكرتي الحرية والخلود. وهما لا تدخلان في طريقته التي شرحناها. كان سبينوزا جبرياً يرى في ظاهرات الكون حوادث مقدرة بكل دقة لا حيلة للإنسان في تسييرها وتبديل مجراها. فليس ثمة علاقات اجتماعية منفصلة، وجذب ودفع روائي بين الله والناس، كما يوحي إلينا التاريخ المقدس. وليس الله - في رأي سبينوزا - شخصاً في (درام) الوجود الشامل، بل هو الرواية بمؤامرتها وحركتها ومغزاها، وكل مظهر من مظاهرها. وقد كان سبينوزا يتخيل أن نفس الإنسان هي الوعي الذي يلازم حياته الجسدية. فإذا هلك الجسد بادت النفس بالضرورة. ولكنه بالرغم من ذلك كان يستعمل كلمتي الحرية والخلود في كل ما خطه يراعه ونضح به عقله. فما هما في نظره؟. الحرية - في رأي سبينوزا - مساوية للقوة، والإنسان الحر هو الذي تكون طبيعته موحدة الأجزاء منسجمة في كلها تحسن التعبير عن ذاتها بوضوح في الفكرة وصراحة في العمل.

الحرية هي الفضيلة في معناها القديم - أو هي الموهبة التي تقود الإنسان إلى العقل القوي النافع وفي هذه الفضيلة تكمن السعادة المنشودة فالحرية، إذن، لا تتمثل في الخلق المتردد ولا في الاختيار الفوضوي الذي لا يخضع إلى قياس ولا تلائم مع مكنونات النفس بل هي الكفاءة الخلقية، والمقدرة على إنجاز المهمة التي توحي بها السليقة والفطرة السليمة الخاصة. أما الخلود، فليس هو قضية زمنية معقدة أو وجوداً دائم الاستمرار، بل صفة من صفات الحياة لا تدخل في نطاق الزمن وقياسه. فليس طول الأيام وكثرتها مقياساً لخلود الإنسان بل الآثار الفكرية التي يبدعها عقله. فالروح تشترك مع الأشياء التي تتحد بها في مصيرها المحتم، والنفس المنغمسة في الأشياء العارضة هي نفس متلاشية. كما أن النفس التي تلابس الأشياء الخالدة خالدة مقدار خلود تلك الأشياء. ولكننا حين نتساءل بعد ذلك عن ماهية الأشياء الخالدة، يجيبنا سبينوزا بأن لا شيء خالد في ديمومته. فتيار التطور يجرف كل شيء أمامه سواء كان جسداً أم فكرة، فرداً أو جماعة. ولكن الأشياء، مع ذلك خالدة خلود الحق وإمكان الذي تشغله حادثة من حادثات التاريخ وقف لها لا يمكن استبداله، والصفة التي يصطبغ بها عمل من الأعمال وإحساس من الإحساسات صفة ثابتة لا تتغير. وليس العقل الإنساني، بنتيجة هذا القول، حيواناً صرفاً لا يشعر بغير الانتقال من حالة راهنة إلى أخرى مقبلة في مراقي التطور، بل هو جهاز تركيبي ذهني، تأملي، يستطيع أن يتطلع إلى السابق واللاحق، وأن يبصر العلاقات المتبادلة بين الأشياء المتعاقبة، ويراها في شكلها الخالد - على حد قول سبينوزا - ورؤية الأشياء في شكلها الخالد هي رؤيتها في حقيقتها التاريخية والخلقية لا كما تبدو في انتقالها السريع إلى حالاتها المتسلسلة، بل كما تظهر بعد أن تنتهي من رحلتها الشاقة. فحين تنتهي حياة الإنسان - مثلاً - تظل حقيقة وجوده فترة في عباب الزمن اللامتناهي، حقيقة لا تزول، ويظل صحيحاً أنه كان ذاتاً متميزة لا تتميز فيها ذوات أخرى مهما كانت عليه تلك الذاتية من الضآلة وتفاهة الشأن. يعكس لنا التاريخ في مزيجه وصفحاته هذه الحقيقة في لون ظاهر لا يتطرق إليه الشحوب ويرى الإنسان في نورها صفة الخلود التي تلازمه رغم حصول الموت ذلك لأن الحياة حين تنتهي حركتها تبقى حقيقتها وتخلد. فحادثة وجود الإنسان هي حادثة دائمة الارتباط

بمجموع الحوادث الأخرى التي لا تتناعى. هذا الضرب من الخلود يشمل جميع الموجدات في صورته السلبية. ولكنه يتمثل في عقل الإنسان بصورته الإيجابية أيضاً لأن العقل بنسبة إدراكه لخلود الحقيقة وتأمله لها، وهو حين يعني بالجزء الخالد من وجوده ينصرف عن العناية بالجزء الفاني. على أن هذا الخلود الذي تصوره سبينوزا هو قياس مثلي فقط. فالرجل الذي يحيا حياة الخلود لا تطول حياته سواء أكانت جسدية أم روحية. بل كل ما في الأمر يعمد في تلك الحالة التأملية إلى إسقاط المقاييس الزمنية من جعبته ويتنكر لها، وبذا يفقد الموت كل تأثير ممكن في نظره. ولا بدعة، بعد ذلك، إن قلنا أن هذه النظرة السامية التي تبدد حجب الوهم حين ينظر الإنسان بها إلى مصلحته تغدو منقذة له بابتعادها عن فكرة الغناء التي تتضمنها صور الزمان والمكان. والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي عرف أن الموت حق لا ريب فيه. ومعرفته هذه، قد رفعته فوق فكرة الغناء وأدت به إلى الاشتراك في استبصار الحقيقة الخالدة ثم وقف جانباً يشاهد تمثيل مأساته والعطف على العاصفة الثائرة يملأ جوانحه، ساداً أذنيه عن سماع استغاثة النوتي في المركب الحطيم. مع أن النوتي يمثل (ذاتيته) الخاصة. الحقيقة قاسية، ولكنها جذابة يهيم الكثيرون في حبها، وهي تعمل دائماً على تحرير أولئك المحبين. إن الجزء المهم من فلسفة سبينوزا في الدين والسياسة والأخلاق يستعد من (الفيزياء) أكثر مما يستمد من الغيبيات. فالفيزياء - نظر الأفلاطوني - هي علم غايته درس العلاقات التي تربط بين الظواهر فقط، أما المثل الإنسانية العليا عقلية كانت أم خلقية فهي مفتاح لعالم غبي غير طبيعي. ولكن سبينوزا يرى في المثل والمدركات الإنسانية صفة إنسانية لا تنطبق على غير علة الأصغر. أما التاريخ الطبيعي فهو - في نظره - الوسيلة الوحيدة لاكتشاف كل أمر جوهري وخالد وإلهي في كشف الطبيعة. ومما لا شك فيه أن إيضاح هذه الحقيقة بصورة تامة أمر متعذر لأن التاريخ الطبيعي لا يخرج في دوره عن نطاق النظرة الإنسانية مبتدئاً من النقطة العالية المشرفة التي يقف فيها الملاحظ المستقرئ. ولكن هذه النظرة الذاتية التي يبتدئ منها الدرس العلمي ليست عاملاً مهماً في ذاتها لأن غاية العلم ملاحظة كل أمر يقيني واقي، ولو كان هذا الأمر مزاجاً أو وهماً. وبهذه الطريقة نتمكن من لمس جانب من الوجود اللا نهائي. إدراك ناحية من الكون الحقيقي. فمهمة العالم الطبيعي

إذن، إن يعين الموضع الذي يحتل حادث من الحوادث في كتف الطبيعة وأن يحدد علاقته بالحوادث التي تحيق به فتصبح موضع درس يقيني أو فرض ضروري. هذه الطريقة هي (كلمة السر) التي فتحت مغاليق الحقيقة الكثيرة في وجوه الباحثين فولجوا إلى حديقتها الكبرى يتذوقون أطايبها ويتنشقون أزاهيرها العطرة ثم خرجوا مزودين منها بنماذج صحيحة التركيب يعرضونها على سمع الناس وأبصارهم وأذواقهم وسائر حواسهم ليحملوهم على الإيمان بالأساليب الموضوعية غير مشوبة بعاطفة أو نزعة ذاتية. يعتقد سبينوزا أن هنالك منطقتين يتصل فيهما العلم بالطبيعة، وهو يصفهما وصفاً جزئياً حقيقياً، وهاتان المنطقتان هما (الفيزياء) الرياضية والشعور الذاتي. وقد استمد فيلسوفنا صورتي (الفكر والامتداد) من فلسفة ديكارت وجعلهما حدين للطبيعة في إمكان الإنسان أن يلمس بعض أجزائهما فعلم سبينوزا يتلخص في وصف هذين الحدين ودراسة العلاقات التي تربطهما ببعضهما وتصور العلاقة التي تصلهما بالأشياء الأخرى. لا جرم أن تفاصيل هذا التأمل العلمي هل على جانب عظيم من السمو والاعتبار ولكنها عتيقة لا تقبلها الروح العصرية لأن منطقة (الفيزياء) الرياضية هي في نظر الناقد الفلسفي جد بعيدة عن منطقة الشعور الذاتي. والهم الجريء الذي وقر في ذهن سبينوزا أو حاول يشيد دعامته نظاماً وتناسقاً، هذا الوهم الذي يجد الوعي حيث يوجد الامتداد متناقض لا سبيل له إلى الذهن العلمي. غير أن الإيمان الذي يكمن في نفس فيلسوفنا والبصيرة الثاقبة التي يتحلى بها قد أديا به إلى اكتشاف فكرة عظيمة في قيمتها. وقوام هذه الفكرة تصور اللا نهاية المطلقة التي تشمل جميع الأجسام والمظاهر، متدرجة في تطور مستمر، سائرة في مدى لا يتناهى، وكذلك الإحساسات والمدركات التي ترافق ذلك التطور والتي تقرر إلفة العقل ضرورة وجودها، يضاف إلى ذلك مشاعر باطنية وأشياء أخرى لا يلمسها الفكر لبعدها عن نطاق التجربة ولكنها ممكنة الحدوث يشعر بها القلب وهي منسجمة من مجموعها وفي حيز طبيعتها الخاصة. جماع هذه اللا متناهيات بمختلف صفاتها وألوانها، منظومة في سلك واحد تؤلف الكون اللا نهائي المطلق. وما الإنسان في الكون بسائر أعماله وآثاره سوى حادث في حادث وجزء من جزء. ليس لدينا، في الواقع، برهان قاطع يحملنا على الاعتقاد باتساع الكون للدرجة التي تخيلها

سبينوزا ولا بضيقه أيضاً. ومع أن سبينوزا هو أبعد الفلاسفة عن تصور الله مخلوقاً على نموذج عقله، فقد كان تصوره لله محدوداً ب - (الامتداد والفكر) محاولاً بذلك أن يبتعد عن المقاييس الإنسانية ولكن الدكتور (ماتينو) قد نقض فكرة سبينوزا قائلاً لم تطرأ فكرة الامتداد على سبينوزا إلا في نظره إلى حالات جسمه الطبيعية، ولم ير أن الله فكرة إلا بعد أن نظر في خصائص عقله ولا ريب في أن الامتداد والفكر هما ظاهرتان أخص ما تتصف بهما الأجسام والعقول. ولكن فكرة سبينوزا كتصور لكون شامل بعيد عن الحدود الإنسانية ما أمكن، تظل، بالرغم من فقدان البراهين القاطعة والصفة الإنسانية التي تمثلها كلمتا (الفكرة والامتداد) عاملاً فعالاً في إيقاظ المذهبين المتعنتين الذين يصنعون لوجود الله قانوناً مماثلاً لحاجاتهم ومستمداً من تجاربهم الشخصية. هذه مبررات كافية تحملنا على الانحناء لهذا الذهن الجبار مرهفين إسماعنا إلى المفكر الفرنسي ربنان، عند إزاحة الستار عن تمثال سبينوزا حيث وقف يقول (ويل لمن يقذف هذا الرأس المفكر بالشتيمة عندما يمر أمام نصبه. لأنه سيعاقب عقاب النفوس المظلمة بالجهل والانحطاط وعدم القدرة على التصور الإلهي لهذا الكون. إن هذا الفيلسوف (مشيراً إلى سبينوزا) سيدل الناس جميعاً من قاعدة تمثاله على طريق السعادة الذي اكتشفه، وبعد مرور أجيال سيمر السائح المثقف بهذه البقعة قائلاً في قلبه أن أصدق تصور لله، قام في مخيلة هذا الرجل. حينما يقول لنا أنهم يمتلكون مفاتيح الحقائق في جيوبهم أو في قلوبهم، وبها يتمكنون من معرفة بارئ الكون وماهية الخلق ويدركون أن كل شيء هو مادة أو روح. حينئذ نقدم لهم نظرية سبينوزا في الكون اللانهائي والبانته ئيزم كعلاج واقٍ يبعد عنهم القلق ويمنعهم من الفوضى، ونقول لأولئك اللاهوتيين التائهين في صحراء الوجود: نحن لا نصدقكم ولا نؤمن بحدودكم الضيقة لأن الله عظيم. صلاح الدين التقي المحايري

رأي ابن سينا في السعادة

رأي ابن سينا في السعادة 2 لجميل صليبا 5 - السعادة بعد الموت أما في الحياة الثانية فإن النفس قد تدرك السعادة الحقيقية وقد تشقى شقاء مؤقتاًً أو شقياً أبداً، فسعادة النفس الحقيقية بعد الموت تنشأ عن تصور الإنسان للمبادئ الروحانية تصوراً حقيقياً وتصديقه بها تصديقاً يقيناً على الوجه الذي ذكره ابن سينا في مقالة المبدأ والمعاد، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون أكد العلائق مع ذلك العالم فصار له شوق وعشق إلى ما هنالك يصده عن الالتفات إلى ما خلقه، وهذه السعادة الحقيقية كما قلنا لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس. وإذا قايسنا بين أحوال الناس في الآخرة وجدناهم على ثلاثة أحوال. الحال الأول هو حال البالغين في فضيلة العقل والخلق مرتبة عالية فهؤلاء لهم الدرجة القصوى من السعادة. والحال الثاني هو حال الجهال إلا أن جهلهم ليس مضراً لهم فهم من أهل السلامة وإن كانوا ليس لهم ذخراً من العلم. والحال الثالث هو حال الذين كثر شرهم وعظم أذاهم في الدنيا والآخرة وهؤلاء ليسوا من أهل النجاة. فالنجاة ليست إذن مصروفة عن أهل الجهل، إن سعادة العلماء أعلى مرتبة من سعادة الجهال كما أن سعادة الجهال أفضل من شقاوة الأشرار، وخير للإنسان أن يكون جاهلاً من أ، يكون عالماً شريراً، لأن البلاهة العمياء أحسن من الفظاظة البتراء. فالذي يحصل العلوم ويعرف الكمال ويشتاق إليه من غير أن يتصف به أو يعمل به للوصول إليه أسوأ من أصحاب النفوس الساذجة لأن الجاهل غير عارف بالكمال غير مشتاق إليه، ولذلك كان العذاب أقرب إلى العالم الشرير منه إلى الساذج الصالح. فإذا كانت النفس شديدة الشوق إلى ما اعتقدته من أحوال الحياة زكية كريمة قليلة العلائق بالبدن فإنها إذا انفصلت عن الجسد اتصلت بكمالها الذاتي وتمتعت باللذة الحقيقية وتبرأت

عن النظر إلى ما خلفها وأدركت السعادة الحقيقية، وإن كان لها التفات إلى ما خلفته في الدنيا تأذت بالحسرة عليه، إن الالتفات إلى أحوال الدنيا وتذكر مقتضيات البدن هو شأن النفوس الرديئة التي تتخيل بعد الموت جميع أنواع العقاب الذي صور لها في الدنيا وتقاسيه بالصورة الخيالية التي لا تقل تأثيراً عن الصورة الحسية، إذن فابن سينا يعتقد أن الإنسان سيلاقي بعد الموت سعادة نفسانية وأن العذاب الذي سوف يقاسيه عذاب روحاني. 6 - سلامان وابسال ويجدر بنا وقد أوضحنا أسباب سعادة النفس في الدنيا والآخرة أن نستشهد بقصة (سلامان وابسال) التي ذكرها الشيخ الرئيس في كتاب الإشارات. لأن هذه القصة هي أحسن رمز لا بل أوضح صورة يمكن بها بيان سعادة النفس ودرجاتها وكيفية محاربتها للشهوات والتجرد عنها. والقصة التي نذكرها هنا ليست قصة سلامان وابسال التي قيل أن حنين ابن اسحق نقلها من اللغة اليونانية إلى العربية وترجمها المسيو (كارا - دوفو) في كتابه عن ابن سينا إلى اللغة الفرنسية، فإن القصة التي اخترعها أحد العوام كما يقول الطوسي، ليست من كلام الشيخ الرئيس ولا هي مطابقة لما ذكره في الإشارات. وأما القصة الحقيقية التي أشار إليها ابن سينا فهي التي أورد ذكرها أبو عبيد الجزجاني في فهرس تصانيف الشيخ الرئيس ونقلها عنه شارح الإشارات. وحاصلها أن سلامان وابسال كانا شقيقين وكان ابسال أصغرهما سناً وقد تربى بين أخيه ونشأ جميل الصورة عاملاً متأدباً عفيفاً شجاعاً. فعشقته امرأة سلامان أخيه وقالت لزوجها أخلطه بأهلك ليتعلم منه أولادك فأشار عليه سلامان بذلك وأبى ابسال مخالطة النساء فقال له سلامان أن امرأتي بمنزلة أم لك فرضي ابسال بذلك ثم أكرمته زوجة سلامان وأظهرت له عشقها في خلوة فانقبض ابسال من ذلك. ولما علمت زوجة سلامان أن ابسالا لا يطاوعها قالت لزوجها زوج أخاك بأختي ثم قالت لأختها أني ما زوجتك بابسال ليكون لك خاصة بل لكي أساهمك فيه. وليلة الزفاف جاءت امرأة سلامان بدلاً من أختها وبادرت تعانق ابسالا وتضم صدره إلى صدرها فلاح برق في السماء أبصر بضوئه وجهها فأزعجها وخرج من عندها وطلب من أخيه أن يعطيه جيشاً فتولى قيادته وحارب حتى فتح كثيراً من البلاد شرقاً وغرباً. ثم رجع إلى وطنه مكللاً بالنصر وهو يحسب أن امرأة أخيه

سلامان قد نسيته ولكنها عادت إلى حبها له ورجعت إلى معاشقته. فأبى ذلك وأزعجها ثم ظهر لهم عدو فوجه سلامان أخاه ابسالا إليه إلا أن امرأة سلامان فرقت في رؤساء الجيش أموالاً ليرفضوه في المعركة ففعلوا وظفر به الأعداء وتركوه جريحاً وبه دماء فعطفت عليه مرضعة من حيوانات الوحش وألقمته حلمة ثديها واغتذى بذلك إلى أن انتعش وعوني ورجع إلى سلامان وقد أحاط به الأعداء وأذلوه وهو حزين من فقد أخيه فأدركه ابسال وأخذ الجيش والعدة وكر على الأعداء وبددهم وأسر عظيمهم وسوى الملك لأخيه ثم اتفقت المرأة مع الطابخ والطاعم وأعطتهما مالاً فسقياه السم واغتم من موته أخوه واعتزل من ملكه وفوضه إلى بعض معاهديه وناجى ربه فأوحى إليه بحقيقة الأمر فسقى المرأة والطابخ والطاعم ما سقوا أخاه فماتوا جميعاً. وتأويل هذه القصة أن سلامان هو النفس الناطقة وابسالا هو العقل النظري أو هو درجة النفس في العرفان وامرأة سلامان هي القوة البدنية الإمارة بالشهوة والغضب وعشقها لابسال هو ميلها لتسخير العقل كما سخرت سائر القوى، وإباء ابسال هو تطلع العقل إلى عالمه وأخت امرأة سلامان هي الملكة العملية والبرق اللامع من الغيم المظلم هو الخطفة الإلهية التي تسنح للإنسان أثناء الاشتغال بالأمور الفانية وإزعاج ابسال للمرأة هو إعراض العقل عن الهوى. وفتحه البلاد هو اطلاع النفس بالقوة النظرية على الملكوت، ورفض الجيش له هو انقطاع القوى الحسية والخيالية عند عروج النفس إلى الملأ الأعلى، وتغذيته بلبن الوحش إشارة إلى إفاضة الكمال إليه عما فوقه من المبادئ والطابخ هو القوة الغضبية والطاعم هو القوة الشهوانية وتواطؤهم على هلاك ابسال إشارة إلى اضمحلال العقل في شقوة العمر وإهلاك سلامان إياهم ترك النفس استعمال القوى البدنية في أخر العمر، واعتزاله الملك وتفويضه إلى غيره انقطاع تدبير النفس الناطقة عن البدن ومفارقتها لهذا العالم. 7 - رسالة الطير ومن الرسائل التي تدل على هذا التجرد عن المادة وتدعو إلى ضرورة التطلع إلى المثل الأعلى رسالة الطير التي طبعت مراراً ونقلها الموسيو (مهران) إلى اللغة الفرنسية في مجموعة رسائل ابن سينا الصوفية.

يقول ابن سينا: هل لأحد من أخواني في أن يهب لي من سمعه قدر ما ألقي إليه طرفاً من أشجاني عساه أن يتحمل عني بالشركة بعض أعبائها. وهؤلاء الأخوان الذين سيحملون عنه بالشركة بعض أشجانه هم الأخوان الذين جمعتهم القرابة الإلهية وألفت بينهم المجاورة العلوية ولاحظوا الحقائق بعين البصيرة وجلوا الوسخ ورين الشك عن السريرة وهؤلاء الذين ألفوا المجاورة العلوية هم الذين انسلخوا عن المادة وتجردوا عن الشهوات بإيمانهم وعقلهم: ويلكم أخوان الحقيقة انسلخوا عن جلودكم (صفحة 115 جامع البدائع) ومن عجب أن الإنسان الذي نورت جبلته بالعقل لا يزال يبذل الطاعة للشهوات ويضيع على استئثارها صورته: ويلكم أخوان الحقيقة لا عجب أن اجتنب ملك سوءً وارتكبت بهيمة قبيحاً بل العجب من البشر إذا استعصى على الشهوات. وإليك بعض ما جاء في رسالة الطير: برزت طائفة تقتنص فنصبوا الحبائل ورتبوا الشرك وهيأوا الأطعمة وتواروا في الحشيش وأنا في سربة طير لحظونا فصفروا مستدعين فأحسسنا بخصب ما تخالج في صدورنا ريبة ولا زعزعتنا عن قصدنا تهمة فابتدرنا إليهم مقبلين وسقطنا في خلال الحبائل أجمعين، فإذا الحلق ينضم على أعناقنا والشرك يتشبث بأجنحتنا والحبائل تتعلق بأرجلنا ففزعنا إلى الحركة فما ذاتنا إلا تعسيراً فاستسلمنا للهلاك وشغل كل واحد منا ما خصه من الكرب عن الاهتمام لأخيه، وأقبلنا نتبين الحيل في سبيل التخلص زمانا قد انسينا صورة أمرنا واستأنسنا بالشرك واطمأنا إلى الأقفاص وهذا شأن النفس عند اتصالها بالجسد لأنها تألف كما يقول في قصيدة النفس مجاورة الخراب البلقع ويصدها الشرك الكثيف عن بلوغ غايتها، ثم أ، الطير الذي استأنس بالشرك ليلحظ مرة رفقة من الطير قد أخرجت رؤوسها وأجنحتها عن الشرك وبرزت عن أقفاصها تطير وفي أرجلها بقايا الحبائل فيقول فذكرتني ما كنت أنسيت ونغصت علي ما ألفته فكدت أنحل تأسفاً أو ينسل روحي تلهفاً ثم يناديهم ويناشدهم بالصحبة المصونة والعهد المحفوظ فلا يتقربون منه إلا بعد أن ينفى عن صدورهم الريبة ثم يغتنم النجاة ويطالبهم بتخليص رجله عن الحبال فيقولون له لو قدرنا عليها لابتدرنا أولاً وخلصنا أرجلنا وإني يشفيك العليل، إن هذه الحبال كما يقول بعد ذلك لن يقدر على حلها إلا عاقوها ثم يطير حتى يبلغ جبل الآله ثم يشرد على الراحة بعد

الانتباه ثم يطير حتى يبلغ المدينة التي تبوأها الملك الأعظم فيخرج من صحن ويدخل في صحن حتى يرفع له الحجاب ويلحظ الملك في جماله الذي لا يمازجه قبح وكل كمال بالحقيقة حاصل له وكل نقص ولو بالمجاز منفي عنه، وكله لحسنه وجه ولجوده يد، من خدمه فقد اغتنم السعادة القصوى، ومن صرمه فقد خسر الآخرة والدنيا وهكذا فإن السعادة القصوى هي في نسيان الشهوات وخدمة الأحد الحق، وقد ختم ابن سينا رسالة الطير بقوله: وكم من أخ قرع سمعه قصتي فقال أراك مسّ عقلك مس أو ألم بك ألم ولا والله ما طرت ولكن طار عقلك وما اقتنصت بل اقتنص لبك، أنى يطير البشر أو ينطق الطير، كأن المرار قد غلب في مزاجك واليبوسة استولت على دماغك وسبيلك أن تشرب طبخ الافثيبمون وتتعهد الاستحمام بالماء الفاتر العذب وتستنشق بدهن النيلوفر وتترفه في الأغذية وتستأثر منها المخصبة وتجتنب ألباه وتهجر السهر وتعل الفكر، فأنا قد عهدناك فيما خلا لبيباً وشاهدناك فطنا ذكيا ولله مطلع على ضمائرنا فأنها من جهتك مهتمة، ولاختلاف حالك حالنا مختلفة، ما أكثر ما يقولون وأقل ما ينجح وشر المقال ما ضاع. وقصارى القول أن هذه القصة كقصة حي ابن يقظان وقصة سلامان وابسال تدل على أن النفس لا تنال السعادة الحقيقية إلا بأعراضها عن الشهوات وتركها اللذات وتطلعها إلى المثل الأعلى، لأن لذة التفكير والتأمل تشبه لذة العبادة. أن مذهب ابن سينا في الخير مذهب التفاؤل ونظريته في اللذة نظرية الكمال ورأيه في التجرد عن المادة وشواغلها للوصول إلى السعادة الحقيقية هو رأي المتصوفين كأن سعادة الإنسان في الدنيا لا تكون بإعراضه عن الدنيا وعدم التفكير في أوهامها. إن فلسفة ابن سينا مضيئة بنور التصوف والتقشف ولا أظن أن هذا الضئيل قد أظلم في العصر الحاضر بل أن مدينة هذه الأيام قد تلوثت بأدران المادة، ولعل الأدران لا تزال إلا إذا انغمست ذبالة الحياة في شيء من زيت التصوف. ماذا يفعل البطالون؟ ماذا يفعل الجائعون؟ افيستمرون على عبادة المادة والمادة لا تغذيهم؟ ليرجعوا إلى الحياة الروحية، إلى الحياة الفكرية، لعل في الحياة الروحية غذاء لهم، وهذه الحياة الروحية لا تنافي التقدم والإنتاج والأخذ بأسباب المدينة، إن الشيخ الرئيس يؤمن بالعقل والعلم ويعتقد أن السعادة

القصوى لا تكون إلا عن طريق العلم، وهذا نتيجة طبيعية لمذهب التفاؤل، فلنرحب إذن بآراء هذا الحكيم الذي هام بالمثل الأعلى وآمن بالفكر وكان كثير الثقة بالفطرة الإنسانية. جميل صليبا

الكتب والصحف

الكتب والصحف الشرف عند العرب قبل الإسلام لم يدر في خلد أن للشرف أهمية كبرى في تاريخ الحياة الجاهلية وإنه كان الأساس الذي قامت عليه دعائم حياة العرب الاجتماعية والدينية والقومية حتى جاءت أطروحة السيد بشر فارس لجامعة باريس وفيها من طريف الابتكار وجيد التحليل ودقة الاستقراء ما جعل هذه الرسالة جديرة بكل مطالعة واهتمام. ولا شك أن هذه الأطروحة ستكون خير معوان لمن يريدون تفهم حياة العرب قبل الإسلام تفهماً علمياً صحيحاً. تتلخص الفكرة التي أراد المؤلف أثباتها بعد أن حلل العوامل التي تؤلف عاطفة الشرف عند العرب تحليلاً اجتماعياً علمياً - إن الشرف كان يقوم في عصور الجاهلية بدور يشبه تمام الشبه الدور الاجتماعي الذي تلعبه الأديان في عصرنا. وإذا فهمنا إن الدين هو عبارة عن مجموعة متوحدة لاعتقادات وطقوس لها مساس بالأشياء المقدسة أي أنها في معزل ومحرمة على الناس، وإن من أثر هذه الاعتقادات والطقوس أنها تجمع في محيط أخلاقي كل الذين يدينون بهذه الاعتقادات أيقنا أن الدين كان عاجزاً عن القيام بمثل هذا الدور الاجتماعي - الأخلاقي لأسباب أهمها: 1 - كثرة الأديان التي كانت شائعة في الجاهلية الوثنية في مكة والطائف، والمسيحية في ربيعة وغسان وقضاعة، واليهودية عند بني الحارث وبني كعب وكندة وأهل يثرب ووادي القرى وتيماء والمزدكية عند تميم وقد يرجح بعض المؤرخين وجود بعض الزنادقة والصائبة وعباد الملائكة والجن. 2 - على أثر اختلاف الديانات نشأت اختلافات في العقائد فقد اعتقد بعض الجاهلين التقمص وبعضهم خلود النفس وسموا بالدهرية وآخرون أنكروا البعث وغيرهم وجود الآله وذهب بعضهم إلى أن امتزاج عوامل الطبيعة هي التي تخلق الحياة وإن انحلال هذه العوامل هو الذي يؤدي إلى خرابها وقد اعتقد البعض أن الملائكة هن بنات الآله. 3 - ضعف العاطفة الدينية عند العرب فقد جاء القرآن أكثر من مرة مصدقاً هذا الرأي (الأعراب أشد كفراً. . . 0 الخ الآية). 4 - خلو أشعار العرب ومعلقاتهم من كل عاطفة دينية.

5 - إن الزهد كان مجهولاً تماماً عند العرب لأن الزهد كما يقول دور كهايم عامل فعال في كل الديانات ومن هنا نستنتج أنه لم يكن للعرب دين واحد ينضمون تحت لوائه ويقومون بشعائره ويتتبعون سننه وقوانينه كما نص عليه تعريف الدين الاجتماعي ولا يفهم من كل هذا أن الشرف كان دين العرب وإنما كان يحل مكان الدين من حيث دوره الاجتماعي ولا ريب أنه الشرف تضمن كل الصفات التي تتمتع بها الديانات الشائعة فكلنا يعلم أن الدين ينقسم إلى قسمين العقائد والشعائر أو الطقوس ولما كان من دلائل القوانين الأخلاقية صفتها الإجبارية وجب على العرب قبول الاعتقادات والقيام بالطقوس ذاتها ولم تكن عوامل الشرف إزاء انحلال العاطفة الدينية وكثرة الأديان الشائعة - إلا لتقوم مقام هذه الاعتقادات فأصبحنا مسوقين باعتبار أن الحرية والاستقلال اللذين كان يتمتع بهما العرب والمحافظة على عدد أفراد القبيلة وحرمة الديار وتحريم أسر المرأة والمحافظة على النسل وطهارة الأنساب وجودة الآباء وأعراقهم في الشرف هي بمنزلة الاعتقادات ومن جهة أخرى رأينا أن نفوذ السيد وحوله والثورة على الضعف والاضطهاد والأخذ بالثأر والشجاعة والوفاء وحماية الجار والجود والسخاء وواجب الضيافة وأخيراً الشعر والفصاحة بمنزلة الطقوس أو الشعائر. وصفوة القول أن عوامل الشرف كانت تؤلف في عهد الجاهلية مجموعة قوانين فرضتها الهيئة على جميع الأفراد وتولت الجمعية حمايتها وفرض العقوبات على من يجرأ على مخالفة هذه القوانين. ولهذا ترى أن الشرف كان العامل الأوحد في جمع العرب وتآخيهم حتى تمكنوا من تأليف هيئة اجتماعية لها أحكامها وقوانينها الأخلاقية. إبراهيم الكيلاني تقويم الهلال لسنة 1934 لا مشاحة أن مجلة الهلال وما تصدره دار الهلال من مطبوعات ممتازة أصبحت جميعها بإتقان الطبع وجودة الصور وحسن التبويب والتنظيم لا تقل بشيء عن أعظم مؤسسات الطباعة والنشر في مختلف العواصم الأوروبية. ولقد أرادت دار الهلال أن تقدم دليلاً جديداً على ما ذكرنا في هذه السنة تقويمها لسنة 1934 وجعلته، والحقيقة يجب أن تقال، خير نموذج لما بلغته مصر من نهضتها الحديثة في الطباعة التي كانت دار الهلال أول من حمل لواءها جليلاً في جميع بلاد الشرق العربي وقد صدرته بتواريخ المواسم والأعياد ونتيجة

سنة 1934 ثم درجت فيه حوادث السنة الغابرة مصورة فنشرت كثيراً من صور المواقع الهامة في مصر خاصة والعراق وفلسطين وسائر البلاد العربية عامة، ولم تذكر عن سورية ولبنان شيئاً ما نشرته في إحدى الصفحات من رسم الونت دي مارتل المفوض السامي الجديد وهنري بونسو المفوض القديم مع أن في سورية من الحوادث الهامة في خلال تلك السنة ما لا يقل شأناً عما أشارت إليه في بقية البلاد وفي هذا التقويم عدا ما بينا كثير من مواضيع مختلفة مزينة كلها بالصور الواضحة، وفكاهات مصورة وأبحاث شتى عن نهضة المرأة المصرية وعن الفن السينمائي وعن سجون النساء وغير ذلك من الأخبار والمعلومات التي جرت دار الهلال في ترتيبها وتبويبها على أصول التقويم الغربية الحديثة دون أن تتهامل في إبراز ما تمتاز به الروح المصرية والثقافة العربية من مميزات وطوابع خاصة. زاد الله في نجاحها ووفقها. ك. د دائرة المعارف الإسلامية لا جرم أن هذه المعلمة الإسلامية خزانة علم وأدب، تشتمل على جهود المستشرقين في حقبة من الزمن تزيد على قرن، بحثوا فيها عن العرب ولغتهم وعلومهم وآدابهم خاصة، وعن الإسلام ومدنيته وبلدانه وشعوبه وأحوالهم الاجتماعية والدينية والسياسية عامة، وأبحاث هؤلاء المستشرقين منها ما كان باعثه الشغف بالعلم والبحث عن الحقيقة، ومنها ما الغرض منه خدمة الاستعمار، ومهما يكن الحادي بهم إلى تأليف هذا المعجم الخطير، فإن الأمة العربية وسائر الشعوب الإسلامية لتنتفع به كل الانفاع بالإطلاع على أبحاثها الجغرافية والقومية والاجتماعية الممتعة، فيعرف المسلم العربي مثلاً من أحوال المسلم الصيني أو السوداني أو الاقيانوسي ما لا يجده في كتبنا التاريخية والجغرافية، ولم تقتصر أبحاثهم على علوم الإسلام الكونية فقد حاولوا بها أيضاً أن يتغلغلوا في صميم العقائد الإسلامية والأحوال الروحية، خذ لك مثالاً على ذلك التصوف وحقائقه، ووارداته ورقائقه، فقد كتبوا عنه فصولاً عديدة أصابوا في بعضها وحاموا الحمى في بعضها، ومن أعجب من بحث منهم عن التصوف الأستاذ ماسينيون بما كتبه عن الطرق الصوفية، فقد بحث لعمر

الحق عنها بحثاً دقيقاً ممتعاً توفرت له شرائط من العلم والجد وبذل المال وشد الرحال، فأطلعنا على ما ظهر من الطرائق قديماً واحتفى، وعلى ما بقي في هذا العصر منها، مبيناً لنا أصولها وفروعها وأماكن انتشارها مع إحصاء شيوخها المربين ومريديها السالكين، مما لا يعرف أكثره شيوخ الطرق أنفسهم، وفي هذه المعلمة من الكلام على العلوم الطبيعية والرياضية وعلى حكماء الإسلام والعرب وأطباءهم ورجال الهندسة والكيمياء والفيزياء منهم ما فيه تذكرة للغافل ودمغ لباطل الشعوبي المتجاهل، وفي خاتمة كل مبحث يجد المطالع ما يحتاج إليه من أسماء المراجع العربية أو الغربية مما لا يسع باحثاً جهله لا مؤلف كتاب ولا طالب علم وآداب. إن هذه المعلمة الإسلامية لا يقتصر الانتفاع بها على شعب إسلامي دون شعب فهي ملك الأمة الإسلامية جمعاء من حيث حاجة المتعلمين من أبنائها إلى مطالعة ما يهمهم منها، ولهذا يجب على كل من يقدر هذه المعلمة قدرها، ويجل الغية من تعريبها، ويكبر الهمة في الشباب المقدم على نقلها إلى العربية، أن يحرص كل الحرص على إتقان هذا العمل الجليل، ذلك الواجب هو الذي حملنا على كتابة الكلمة المشتملة على ما يتعلق بالمعنى والمبنى معاً. أما ما يتعلق بالمعنى فيحتاج التعريب، إلى دقة في التعبير تدعو إليه أمانة النقل وقد رأيت جل الناقلين إلى العربية أو الكاتبين فيها يصرفهم زخرف التعبير وطلاوة الأسلوب وجمال المعرض عن الإحاطة بالمعنى المراد، وعدم العناية بالتدقيق في التعبير مما جعل لغتنا العربية تتخلف على مرونتها ووفرة مادتها عن اللغات الغربية نثراً وشعراً، ولا نقصد بهذا القول أن تفقد العبارة حسن سبكها، فإن أكمل التعريب ما كمل وجمل مبناه، ولم تشم منه رائحة أجنبية، ولا يتوفق لذلك إلا من أحكم لغتي النقل: أي المنقول منها والمنقول إليها، وقد لاحظنا في بعض ما تنقله لجنة التعريب بعض الضعف في التعبير والدقة في التعريب ولولا خطورة هذه المعلمة لما بالغ الناقدون في نقدها لأن تعريبها لا يقل عما ينتقل إلى العربية في هذا العصر إن لم يزد على كثير منه في الإحسان والإتقان. ومما لاحظناه مثلاً في مادة الاباضيون تعريب ما يأتي:

بالعبارة التالية: زمن الطبيعي أن يعارض الاباضيون بشدة في اتهام أهل السنة لهم بالكفر ولو قيل مثلاً: ومن الطبيعي أن يعارض الاباضيون بشدة نبر أهل السنة بلقب الخوارج أو المبتدعة لا شك هذا القول أو يوافق الصواب فثمت فرق بين بين الكفر والابتداع، وانظر أيضاً إلى العبارة التالية: فقد نقلت إلى العربية هكذا: والمسلمون مضطرون اضطراراً إلى الاعتراف بوحدتهم، والتعبير عن هذه الوحدة بالقول والعمل وكان الأصح أن تعرب هذه العبارة بما يأتي: أن للتضامن بين المسلمين كافة فروضاً شديدة يؤدونها بالأقوال والأفعال إذ شتان ما بين الفرض والاضطرار والوحدة والتضامن من الفرق والتباين. ومما يعود إلى المبنى وحسن الصياغة مثلاً عبارة المعلمة الآتية: وجماعاتهم الدائمة الاتصال بعضها ببعض ولو قيل المتواصلة أبداً لكان أمتن وأبين. وحبذا لو يرجع بالأعلام الأعجمية في المعلمة إلى مسمياتها العربية، اضرب لذلك ما جاء في الجزء الثاني مثلاً من اسم طيسفون، في العبارة التالية: وتقول الرواية الشائعة: إن سيف بد ذي يزن ذهب إلى طيسفون حيث نجح في استمالة ملك الفرس وأي عربي يطالع المعلمة ويدرك الموضع المقصود من طيسفون، إلا من درس تاريخ الفرس بلغة أجنبية، فكان يحسن تسميتها باسمها العربي أيضاً، وهو المدائن ومن أطلالها اليوم في العراق طاق كسرى الباقي من إيوانه. هذا وقد اصطلح المستشرقين على اتخاذ علائم خاصة تشكل بها الأعلام العربية ليسهل عليهم لفظها على وجهها كما يلفظها العرب، فحبذوا لو جاريناهم في الاصطلاح على علائم خاصة تشكل بها الأعلام الإفرنجية ليسهل على من لا يعرف الهجاء الفرنسي مثلاً أن ينطق باسم نطق الفرنسيين فلا يلفظه هيوار كما جاء في المعلمة الإسلامية المعربة. وقد كان عالم الشام الشيخ طاهر الجزائري فكر في شيء من ذلك، ومثله الشيخ اليازجي وغيرهما، ولكن العلائم التي اتخذاها لم يكتب لها التعميم، ولعل من أحسن الوسائل لتعميمها أن تنتشر في المعلمة وتقيد بها أعلامها الإفرنجية كما قيدت المعلمة الإسلامية الأعلام

العربية. الكمال كما قيل معوز، ولدمع الحنكة وطول المعاناة، فكيف به في ابتداء هذا العمل الجلل، ولذلك نعتقد أن ما ينشر من الملاحظات والتنبيه، والنقد النزيه، لا يقل شيئاٍ من شبا عزائم الشباب، وإنما يزيد إقداماً على إتقان النقل، بتحري المعنى الدقيق والتعبير العربي البليغ، وعرض ما ينقل من العلوم قبل نشره على المختصين بها ممن قضوا أعمارهم في تمحيصها وتحقيقها، فإن من أفضل ما يعين على تجويد العمل وإدراك المأمول، أن تتعاون على تحقيقه العقول، ولعمري أن نقل هذه المعلمة الخطيرة إلى العربية إن لم يكن - كما قال صديقنا خليل مردم بك - أعظم عمل علمي قامت به مصر فإنه من أعظم أعمالها جزى الله لجنة التعريب أفضل ما جزى به مبتدي إحسان ومحيي لسان. عز الدين التنوخي نقد فلسفة مناهج العلوم المثل الأعلى في النقد لا يخفى أن نقد المؤلفات يكون بثلاث صور، تختلف باختلاف الروح التي تتجلى في النقد. فأما أن تكون روح الناقد مفعمة بحب المدح والإطراء، فلا ترى سوى الحسنات والمبرات وتتجاهل النقائص والزلات. ولا فائدة من هذا النوع من النقد، اللهم إلا مجاملة المؤلف وحث الناس على اقتناء مؤلفه، بل كثيراً ما ينشأ عنه مضار شتى وأما أن تكون روح الناقد مشبعة بحب القدح والذم، فلا تستوحي سوى السيئات والمتاعب وتعززها بما تشعر به نحو المؤلف أو المعرب من العواطف فتسرد لواذع ومهازل تتجلى بين طيات السطور. وضرر هذا النوع من النقد بيّن ظاهر يعود قسم منه، أن نقل جله، إلى الناقد نفسه فينسب إليه التحامل والتشفي والغايات وتنحط منزلة آرائه لدى القراء، والحقيقة تبقى ناصعة مهما حاول سترها. وأما أن يكون رائد روح الناقد إظهار الحقيقة الراهنة متحاشياً التحامل والتجامل، فيذكر الحسنة حسنة والسيئة سيئة بدون زيادة ولا نقص. وهذا هو النقد المثمر المنشود لذي تصبو إليه النفوس الأبية، وتستهدفه أرباب الأفكار النزيهة العارية عن الأغراض وهو

الذي يجب أن يكون المثل الأعلى في النقد. تفنيد النقد لقد حدا بي إلى كتابة هذه السطور ما قرأته في مجلة الثقافة الغراء في صفحتي 612و613 من سهام النقد التي سددت إلى كتابي (فلسفة مناهج العلوم) ولم تر المجلة لزوماً للتصريح باسم الناقد مع أنها لم تستتر في نقد الكتب الأخرى. فمما ذكرته في مقدمة هذا الكتاب العبارة التالية: هذا ولا يخلو مثلي من الوقوع في مهاوي الزلل ولذا فإني أتقبل الناقدين قبولاً حسناً مقروناً إلى شكرهم باسم العلم. . . الخ نعم، ولكن على أن يكون هذا النقد صحيحاً. أما إذا كان مغلوطاً فإنه يترتب علي طبعاً أن أفند مواطن الخطأ فيه، دفعاً لما قد يعلق في ذهن القارئ الذي لم يتح له مطالعة كتابي هذا من الأفكار المباينة للواقع ومنعاً لتشويش أفكار الطلاب الذين يدرسونه بلهف واعتماد. أجل إني رجحت التعريب الصريح ولم أقل الصحيح كما ذكرته المجلة سهواً، لأني أكثر تواضعاً من أن أدعي بالصحة في هذا الموضوع الحديث الدقيق (وهذه عبارة طواها أيضاً حضرة الناقد) على التأليف الملتقط. وقصدت من ذلك التعريب الذي يصرح معربه للملأ معترفاً بأنه تعريب لا أن يترجم أو يلتقط وينتحل ولا يعترف بهذه الترجمة وهذا الانتحال، بل لا يرى غضاضة في المباهاة بأنه هو المؤلف. نحن لا ننكر أن التأليف الحر حسن، على أن يكون حقيقة تأليفاً لا تعريباً ملتقطاً ملفقاً. وإني لا أزال أرى (ولكل رأيه) التعريب في العلوم الفلسفية الحديثة الدقيقة في نهضتنا الفتية، أفضل من انتحال التأليف المشوب بالنقائص والمقتصر على ما استطاع المؤلف فهمه، مهملاً ما لم يكن في متناول إدراكه. وليت شعري، هل المقالات المزخرفة والمواضيع العلمية المنقمة التي تسود في المجلات والكتب من وضع صاحب التوقيع وابتكار بنات أفكاره أبداً، أم جلها مترجمة منتحلة؟. وقد أخذ علي حضرة الناقد الصدق في التعريب، ومتى كان الصدق محطاً للملامة؟. أما قول حضرته: فجاء كتابه أنموذجاً في صناعة التعريب الحرفي حتى أنك تكاد تشعر بالأصل الفرنسي خلال الترجمة العربية فهذا قول مجرد لا يقوم عليه برهان، إذ التعريب الحرفي يكون على ما أفهم بصف الكلمات المنطبقة على الأصل جنباً لجنب، مما يجعل

المعنى متعذر الفهم تماماً. وربما صدر هذا الطراز من التعريب عن الحديثي العهد في الترجمة، لا عمن مارسها بين لغات شتى منذ عشرات السنين وعرب حتى الآن عدة كتب ومواضيع مختلفة مدرسية وسواها يفهمها صغار التلاميذ كل الفهم فضلاً عن كبارهم، وها هو كتاب (فلسفة مناهج العلوم) نفسه مائل بين أيدي طلاب دور المعلمين والمعلمات في دمشق وحلب منذ سنتين يدرسونه ويفهمونه ولم يشعر أحد منهم ولا ممن طالعه لنفسه (بالأصل الفرنسي)، بل يكفي لمن تصفحه قليلاً أن يرى، بعكس ما رآه الناقد، لغة عربية مصقولة وتعابير تحلو في الطبع وتستاغ في الأذن (كما قال أحد مقرظيه الأدباء الحياديين في جريدة الأيام عدد 36) مما يبرهن على أنه عرب تعريباً متقناً بتصرف غير مخل مع العناية الخاصة بتقريبه من الفهم وإقصائه عن التعقيد، الأمر الذي حمل حضرة الناقد على الاعتراف بأني أتيت بأمثلة لم ترد في الأصل الفرنسي (حسية، مشخصة، موافقة لمدراك التلاميذ رغبة في تقريب المباحث من أذهانهم). فأين هذا القول من صناعة التعريب الحرفي؟ ولو أنصف حضرة لا ناقد وأنعم النظر في هذا الكتاب وقابله مع الأصل الكثير التعقيد والإبهام، لقنع بالجهود التي بذلت في سبيل جعله عربياً خالصاً بعيداً عن كل مسحة فرنجية. ومن الغريب اعترافه أيضاً بأني وفقت في تعريبه إلى وضع بعض الاصطلاحات الفلسفية الجديدة، ولكنه ما لبث أن عاود خطة الملامة، فنسب إلي مخالفة كلام فلاسفة العرب في تعريب جملة ب - (لا علم إلا من العام) مفضلاً تعريبها ب (لا علم إلا بالكليات). نعم يمكن أن تعرب أيضاً بهذه الصورة، وإني لم أهمل تفسيرها بعد بضعة سطور بقولي: العلم، معرفة شاملة قائمة على كليات عامة وما أظن أني ارتكبت بذلك (مخالفة لكلام فلاسفة العرب). والتناقض الفكري الذي وقع فيه حضرة الناقد يظهر جلياً من ملاحظته على تعريبي (بالحس العضلي) وزعمه أن هذا التعريب لا ينطبق على المعنى الأصلي لهذا اللفظ. نعم أن التعريب (الحرفي!) هو (الحس الحركي) ولكن من الذي يفهم المعنى المقصود من هذا التعريب الحرفي؟ لأن كل أنواع الحس يتضمن شيئاً من الحركة ولذلك فضلت التصرف بالتعريب شأني في جميع المواطن الغامضة، على المحافظة على الأصل، حباً بالتوضيح

فقلت (الحس العضلي)، لأن هذا النوع من الحس لا يكون إلا بالعضلات. وهذه هي المرة الثانية التي يناقض حضرته نفسه ويلومني على تصرفي بالتعريب، بينما نجد نقده يحوم حول إظهاري شديد الولع بالمحافظة على الأصول محافظة عمياء (وكنت لا انتظر من حضرته أن يجيز لنفسه استعمال هذا النعت بحقي). فبعد هذا كله أينا أشد محافظة على الأصل؟ والأغرب أنه لم يحبذ تعريب لفظ بالرصد في معرض البحث الفلكي وغاب عنه أن المرصد الفلكي في باريس يدعى وإن (الملاحظة) لا تصلح لهذا اللفظ إلا في غير الشؤون الفلكية. كما أنه أخذ علي كتابة (سوقراط) بالواو، فإن أرباب الأفكار الحديثة لا يرون اليوم بأساً من كتابة الكلمات العربية نفسها كما تلفظ أي بزيادة حروف مد حيث يمكن، فكيف بنا والكلمات الأعجمية كسوقراط. وهل نحن من محبذي الوضوح أن الغموض؟ بحيث نجعل القارئ يتردد في قراءة (سقراط) بين حركات السين الثلاث. وكم نسب الأوروبيون إلى لغتنا القصور والغموض لخلو معظم كلماتها مما يدل على الحركات ويسهل القراءة؟ ومما لاحظه عليّ: تعريبي (بعلم الحكمة). نعم لقد اقتصرت نادراً جداً على لفظ علم الحكمة بدلاً من علم الحكمة الطبيعية ولكن ذلك كان عمداً مني طلباً للإيجاز، لأني أكثرت جداً من تكرار (علم الحكمة الطبيعية) في صلب الكتاب بحكم الضرورة. ثم لما اضطرت إلى استعمال النسبة مثل في (العلوم الحكمية - الكيماوية) إذ كيف كان يمكنني إضافة لفظ (الطبيعة) بعد الحكمية هنا؟ ولا أخال أحداً طالع هذا الكتاب وظنني عربت (بعلم الحكمة) فقط. أما الأمر الهام فليس هنا، لأنه لا يطلب تعريبها (بعلم الحكمة الطبيعية)، بل في نصحه إياي بتعريب (بعلم الطبيعة) أو (الفيزياء) وسها عن باله أن علم الطبيعة يتناول الحكمة الطبيعية والكيمياء وعلم الحياة وعلوم الحيوانات والنباتات والطبقات وكلها تسمى العلوم الطبيعية وبعضهم حصرها في العلوم الثلاثة الأخيرة. فكيف يريد أن أستعيض عن علم الحكمة الطبيعية وحدها (بعلم الطبيعة) الشامل المعنى؟ وفوق ذلك يفضل استعمال الكلمة

الفرنجية نفسها وهي (الفيزياء) مكان الاصطلاح المأنوس لدى الجميع وهو (الحكمة الطبيعية) فمن منا أكثر شغفاً ومغالاة بالمحافظة على الأصل محافظة عمياء، وقد بلغ به حب المحافظة على الأصل أن يستعمل الأصل نفسه لا تعريبه؟ وأين عناية الأتراك منا في تشذيب لغتهم الفقيرة من الألفاظ العربية والفارسية؟ وقد أردف بأن ثمة (كثيراً من مثل هذه الألفاظ الني لا يمكن ذكرها هنا) وأنا أرى أيضاً من الأصلح أن لا يذكر سوى إذا كان ما يود ذكره من هذا القبيل. ثم قال: (إن الدكتور نصري أكثر من ذكر الاصطلاحات الفرنسية إلى جانب الاصطلاحات العربية حباً بالمحافظة على الأصل) كلا يا سيدي، ليس هذا هو السبب، بل السبب هو أن الاصطلاحات العربية محدثة قد لا تكون مألوفة لدى القارئ ورغبة في إزالة الغموض. ثم قال (فوقع في كثير من الأغلاط المطبعية التي لا يمكن تجنبها لجهل عمال المطابع اللغة الفرنسية وقد صحح في الخطأ والصواب كثيراً من هذه الأغلاط المطبعية). إن هذا الكثير الذي صححته في جدول الخطأ والصواب هو لفظ فرنسي واحد وهو وصوابه فمتى كان يطلق على الواحد كثيراً؟ على أني أعترف أنه فاتني تصحيح ب - ب - ولم ألحظها إلا بعد الفراغ من الطبع ولكن أظن أنه لا يستشم من هذا الجهل باللغة لأني معرب ولست بمؤلف وكان النص الأصلي أمامي، فالخطأ مطبعي لا محالة. أما العبارة التي أوردها حضرته مثلاً للغموض وأشغل بها نصف صفحة من المجلة فلم يستصعبها التلاميذ. هذا وإن المواضيع الفلسفية جميعها لا تخلو من شائبة الغموض، لا سيما إذا كانت مترجمة، مهما بذل في سبيل توضيحها وصقل عباراتها من الجهود، ولي كلمة في بعض المؤلفات والمعربات الفلسفية من حيث تبادر عباراتها إلى الذهن عفواً أم بشق الأنفس أرجئها إلى مقال آخر. وبالختام أقدم شكري الجزيل لحضرة الناقد الكريم على تقديره الجهود المبذولة لإخراج هذا الكتاب إلى اللغة العربية ولا سيما على إطرائه الطبع الجيد والورق الحسن. الدكتور كامل نصري

الثقافة إن سرورنا برد الدكتور نصري على الانتقاد الذي وجه إلى كتابه (فلسفة مناهج العلوم) لا يقل عن إعجابنا بالجهود التي ذلها لنقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية. ولذلك نشرنا له مقاله كاملاً بحرية النقد، ولنا عليه تعليق نذكره حباً بالحقيقة المجردة فنقول: 1 - يسرنا أن نقول أحد مقرظي الكتاب من الأدباء أنه كتب بلغة عربية معتدلة وتعابير تحلو في الطبع وتستساغ في الأذن، كما يسرنا استشهاد حضرة الدكتور نصري بهذه العبارة للبرهان على أن الكتاب قد عرب تعريباً متقناً، فنحن لا نريد الآن أن نؤاخذ المعرب على لغة الكتاب، بل نترك الحكم في ذلك لعلماء اللغة. 2 - أما مخالفة المترجم لاصطلاح فلاسفة العرب فلم تظهر فقط في قوله لا علم إلا من العام بدلاً من لا علم إلا بالكليات بل ظهرت أيضاً - وهذا ما طويناه في التقريظ الأول - في قوله دائرة سقيمه (ص - 74) بدلاً من دور فاسد أو باطل في ترجمة وقوله (ص - 95) كان الأقدمون يشترطون في التعريف أن يكون بالجنس القريب والفرق المميز فترجم كلمة بالفرق والعرب تقول في هذا المقام الفصل أي التعريف يكون بالجنس القريب والفصل وترجم (صفحة 175) بالعينية والعرب تقول الهوية أو الهوهو. 3 - ولقد عجبنا لإصرار الدكتور نصري على تعريب بالحس العضلي بدلاً من حس الحركة. لا شك أن حضرته يعرف أن الحس العضلي يقابل باللغة الفرنسية وكيف نترجم هذا التعبير الأخير إذا سرنا على رأي الدكتور نصري؟ أليست ترجمة بحس الحركة أبعد عن الالتباس وأدل على المعنى وأقرب إلى الأصل؟ 4 - ثم أننا لا نفكر أن الدكتور نصري استعمل كلمة رصد في معرض البحث الفلكي أيضاً، لأن الفلكي يلاحظ حوادث السماء كما يلاحظ الطبيعي حوادث الطبيعة. على أن الأستاذ نصري قد استعمل هذا الفظ في معرض البحث عن العلوم التجريبية عامة كمرادف لكلمة ملاحظة، وهذا ما يدعو إلى الالتباس كقوله: الملاحظة (أي التأمل أو المشاهدة أو الرصد) (صفحة 68) وكقوله: المحاكمة التي تتطلب إدراكا سالماً لمنهاج التجريب هي مجموعة نظريات وملاحظات (رصدات) وتجاريب.

5 - ونقول في ترجمة أننا لم نعترض على ترجمتها بالحكمة الطبيعية بل اعترضنا على ترجمتها بعلم الحكمة (صفحة 39) ولم نقترح على الدكتور نصري كلمة (فيزياء) إلا لأن حضرته شجعنا على هذا الاقتراح باستعماله ألفاظاً غريبة مثلها كمتافيزيكية وفسلجة وميكانيك وقوزموغرافية وغير ذلك. 6 - أما قول الدكتور نصري: وأنا أرى معه أيضاً أن من الأصلح أن لا يذكر سوى ذلك إذا كان ما يود ذكره من هذا القبيل فقد دل على تأثره من هذا الانتقاد النزيه الذي وجه إلى كتابه بصورة مجردة، فنحن لم يدر في خلدنا أبداً أن ننقص من قيمة الكتاب ولا أن نحتقر الجهود التي بذلها العرب في نقله، بل غايتنا مجردة ولولا اعتقادنا أن في هذا الانتقاد نفعاً للمترجم وخدمة للحقيقة لما أقدمنا علي، ولو سمح المقام بذكر جميع ملاحظاتنا لفعلنا إلا أن نطاق المجلة لا يسمح بذلك. ونقتصر الآن على تذكير حضرة المترجم أن (صفحة 9) لا تطابق العقلي بل تطابق الوضعي أو الإثباتي. وإن (ص 174) لا تترجم بالعقل الفردي بالمذهب العقلي. وقد فسر حضرة المعرب كلمة باسكال المشهورة لو كان أنف كيلو باترا أقصر لكان وجه الأرض كله قد تغير بقوله (ص 121): أي لو كانت أقل عظمة وكبرياء وبديهي أن باسكال لم يقصد ذلك بل أراد الإشارة إلى جمال كيلو باترا وتأثيره في انطونيوس ولولا العلاقة الغرامية التي بينهما لما تعاقبت حوادث التاريخ على هذا الشكل. فالحوادث التافهة تؤثر في مجرى التاريخ. نحن لا نلوم الدكتور نصري على التصرف في التعريب لإيضاح الأفكار وجعلها قريبة من مستوى التلاميذ ولكن قد يكون التأليف في وضع الكتب المدرسية خيراً من التعريب، لأن الكتب المدرسية لا تحتوي في الغالب على إبداع بل تمتاز بعضها على بعض بأسلوبها وطريقتها. نعم إن الترجمة خير طريقة يمكن إتباعها في آثار الفلاسفة العظام كديكارت وكنت وشوبنهاور وبرغسون ولكن تأليف الكتب المدرسية خير من ترجمتها لأن لكل بلاد روحاً خاصة وحاجات مختلفة، ولو قابل الدكتور نصري هذا الكتاب الذي عربه بغيره من الكتب التي وضعت للبرنامج الفرنسي لما وجد بينهما اختلافاً في المادة والإبداع ونعتقد أنه كان بوسع الأستاذ نصري أن يجمع هذه المواد ويرتبها كما جمعها الأستاذ شاللاي نفسه.

ونحن لم نلم حضرة الدكتور نصري على ابتعاده عن الأصل وإتيانه بمثال حسي ذكر فيه نصب ساحة الشهداء بدمشق إلا لقوله في المقدمة إنه عني بتعريب الكتاب تعريباً أمنياً صادقاً، فنحن نفضل التأليف على التعريب ونفضل التصرف في تعريب الكتب المدرسية على تعريبها حرفياً لأن التصرف في عبارتها يسمح للمترجم بجعلها موافقة لأذهان التلاميذ. ومن العجب أن يعرف الدكتور نصري هذا الكتاب تعريباً أمنياً صادقاً ولا يذكر اسم المؤلف على الغلاف. ومهما يكن من أمر فإن عدم وجود اسم المؤلف على الغلاف لا يضيع قيمة الكتاب ولا يسعنا إلا شكر الدكتور نصري على إتحافه اللغة العربية بمثل هذه الكتب التي نحن بحاجة إليها.

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب ذباب سبب العمى جاء في بيان إذاعته وزارة الصحة في ماكسيكا في الشهر الماضي أن لدغات ذباب صغير أحمر سببي العمى لخمسة وأربعين ألفاً من الهنود في مقاطعة شياباس ولخمسة آلاف شخص في اوكساكا وأعراض هذه اللدغة تبتدئ بظهور ورم في رأس الملدوغ ثم يتفشى هذا الورم حتى يتصل بالعينين فيذهب ببصرهما. ومن جملة مظاهر هذا التسمم إن المصاب به يعمى في النهار أما في الليل فيبصر قليلاً وقد بدأت المكافحة في اوكساكا لإبادة هذا الذباب واستئصال بويضاته. ماء الثقيل لقد كان يظن حتى نهاية الشهر إنه لا يوجد غير نوع واحد من الماء الذي يتألف كما يؤيد ذلك التحليل، من عناصر ثابتة وخواص معينة لا تتغير وفي الحقيقة إن التحليل الكيماوي كان يؤيد إن الماء يتألف دائماً من كميتين: من مولد الماء هيدروجين ومن كمية واحدة من مولد الحموضة (أوكسجين) وإن هذه المقادير تبقى دائماً ثابتة النسبة وينتج عن ذلك أن طبيعة الماء تبقى أيضاً ثابتة لا تتغير، على أنهم قد اكتشفوا في هذه الأسابيع الأخيرة ماءً جديداً سموه الماء الثقيل يختلف بطبيعته وبماهيته عن الماء القديم وهذا الماء وإن تكن النسبة فيه ما برحت ثابتة لمنه يختلف عن الأول اختلافاً بيناً من وجهة خواصه الحكيمة والكيماوية ولقد أفردت مجموعة (له موا) الشهرية لتحليل هذا الماء الجديد فصلاً خاصاً شرحت فيه تلك الخواص وأنهت هذا التحليل بذكر الحقيقة المعروفة التي مآلها أن كل القوانين العلمية الحاضرة ما هي إلا فرضيات موقتة تقوم مقام ما سيظهر في كل يوم من قوانين علمية جديدة. النجوم الهاوية وقع ليل اليوم التاسع من الشهر الماضي تشرين الثاني في سماء أوروبا الغربية اضطراب عظيم في النجوم فكانت جميعها تتساقط هاوية كالأمطار وبدأ هذا التساقط في الساعة 18، 30 ولم ينته حتى الساعة 22 فأحدث رعباً عظيماً في كثير من بلاد البرتغال والتجأ أكثر السكان في الضواحي إلى الكنائس والمعابد مذعورين مدهوشي اللب، ولهذا الحادث الفلكي

ارتباط شديد بسير الكوكب الضال جاكوبيز الذي يتمم دورته في ست سنين وثلاثة أرباع السنة. ولقد مثل هذا التساقط في النجوم في اليوم التاسع من هذا الشهر نفسه في سنة 1926 على أن الكوكب الضال لا يبعد عن الأرض في هذه السنة إلا 1. 6 مليون من الكيلو مترات مما يوضح السبب في شدة التساقط وتزايد عدد الهاوي من النجوم. وفي نهاية كل سبعة أو ستة أعوام كلما اقترب الكوكب الضال في سيره منا فالأرض بالذرات المنتشرة فوق محيط هذا الكوكب وهذه الذرات التي تؤلف كتلا أما أن تضيء وتشع من جراء احتكاك ذرات الهواء بتقارب الكوكبين السائرين، أي الأرض والكوكب الضال، أو أنها تلهب الغازات التي تحملها طبقة الهواء المحيطة بالأرض فيرى سكانها تلك الشهب الهاوية في الفضاء. تبدل الإقليم تؤيد الدروس والتتبعات الجديدة التي قام بها في هذه السنة العالم الفلكي الياباني جانبو على جبال هاكودا إنه قد وقع تبدل جديد في النباتات اليابانية وكذلك في إقليم بلاد اليابان وفي طبيعة هواءها وهذا التبدل يتفق مع ما تحقق أخيراً وقوعه من تبدل الإقليم في أوربا وفي أمريكا الشمالية وينتج من هذا التحول ولا انقلاب أن فصلاً بارداً رطباً يعقب الآن على وجه الأرض فصلاً حاراً يابساً انقضى منذ ثلاثة أو أربعة عام.

الحركة الفلسفية المعاصرة

الحركة الفلسفية المعاصرة في مصر والشام للأستاذ المستشرق جان لوسرف تعريب عز الدين التنوخي تدل المطبوعات الحديثة على ولع أدباء العرب وجمهورهم بالمسائل الفلسفية. وليس تجدد هذا الافتتان بالفلسفة إلا نتيجة طبيعية للولع بالتعلم، ولجماع حركة الفكر المؤيد للعلوم الحديثة التي ظهر في طليعتها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، إذ لم يستطيع أحد مثله أن يبين بجميع أنواع البراهين السديدة تلك الضرورة والحاجة الشديدة إلى توسيع نطاق التعليم الشرعي واقتباس الأساليب الغربية، وذلك بفتحه الباب على مصراعيه لجميع العلوم والعادات والآراء والعادات والآراء الأوروبية. ودخول الآراء الحديثة يقتضي بالطبع إثارة اضطرابات نفسية، وإحداث انعكاسات شديدة من قبل العواطف والإحساسات الشرقية، وليس من العدل أن يؤاخذ الشيخ محمد عبده على قلة تبصره في نهجه هذا، إذ له الفضل الكبير بإدراكه لقوة تيار الآراء الحديثة، وانتباهه لوجوب رد فعل هذا التيار على الأجانب، فإن التقرير الذي أرسله للحكومة التركية باحثاً عن التعليم العام في سورية لا يدع أدنى ريبة في فكرة تنظيم التعليم ومحاربة الأجانب بأسلحتهم لأجل مقاومة المكاتب المسيحية فرنسة أو ألمانية أو انكليزية، وهي وطنية بالاسم أجنبية بالحقيقة والأستاذ يقترح إنشاء مدارس للحكومة في درجة لا تنقص عن مكاتب الأجانب في شيء00 وأن يكون أساسها إحياء الدين وحب الدولة. ويرى في تهذيب الشعب الرجوع إلى إدراك مدنية مبتكرة يجتمع فيها الإسلام بمجد الماضي القومي بوازنة حكيمة أي المحافظة على أساس القرون الوسطى مع الروح الحديثة، ولذلك كان الوجدان القومي الذي أراد أن يوقظه مهدداً بنفس الوسائل التي تتخذ لتكوينه والنهضة العربية تؤدي حتماً إلى إثارة جميع القضايا التاريخية والفلسفية. ومع ذلك فقد كانت الحاجة إلى التعليم تظهر بوضوح واحد لجميع كتاب هذا الجيل بدافع من عواطف مركبة ومتضادة. أنهم بادئ الرأي يشعرون جداً بضعف الشرقيين الحاضر في

معترك تنازع البقاء، وبياناً لذلك ننقل عبارة أديب إسحاق في مقالته ما هو الشرق؟ قال ما نصبه: على أن الأوروبيين وأن اختلفت آراؤهم في تعريف الشرق وتحديده، فقد اتفقوا على الاعتقاد بانحطاط الشرقيين عنهم في رتبة الوجود وتآلفوا على السعي في إذلال شأنهم وخفض مكانهم كما يدل على ذلك ما نسمع من أقوال خطبائهم، وما نقرأ من تصانيف علمائهم، وما نشهد من أعمال زعمائهم، فهم والحالة هذه عصبة على الشرقي من أي محتد وعلى أي مشرب كان، يصرفون عنايتهم إلى استخدامه واستبعاده ومحو استقلاله وفتح بلاده، فإذا اختلفوا فعلى تقسيم الغنيمة بين الفاتحين لا على وجوب الغارة (التمدينية) على القوم المتوحشين. إن هذا الانفعال يستلزم كنتيجة منطقية طلب العدل والكرامة والاستقلال والمساواة التي لا تتحقق إلا برفع المستوى الاجتماعي وترقية التربية والتعليم، فتقليد الأجانب هو على ذلك الوسيلة للصعود من وهدة الانحطاط، ويستنتج أديب إسحاق قائلاً: ولا يكون الاستقلال جديراً بالصيانة إلا أن يكون مقترناً بالحرية، ولا حرية إلا بالحق المعين ولا حد للحقوق إلا بالعلم، ولا علم إلا بالحقائق، ولا حقيقة إلا بالبحث المطلق، ولا أطلاق للمقيدين بسلاسل الأوهام. إن الشعور بالحاجة إلى العلوم الأجنبية هو شعور مبهم بين كتاب العرب، ومن هذه العلوم ما يحذر الأستاذ الإمام سوء تأثيره، وهي في نظر أديب إسحاق شرط للحرية، ولم يكتب شيء على الأنظمة الموروثة والتربية الشرقية أقسى مما كتبه الكواكبي على الاستبداد بقوله: إن المستبد لا يخشى شيئاً من علوم اللغة التي لا بطولة وراءها ولا بلاغة ولا يخاف من علوم الدين التي لا تثير في طلابها حب الاستطلاع، وإنما هو يخشى غائلة علوم الحياة الحقيقة، ومعرفة الطبيعة والفلسفة والسياسة والتاريخ00 وهكذا نرى أن إجماع الكلمة على الترقي العقلي كان يبطن اختلافاً شديداً في الآراء منذ بدء النهضة. أعني أن عمل التهذيب الشعبي الذي بدئ به في خاتمة القرن التاسع عشر كان يشعر بحركة الأفكار الحاضرة ويشتمل على بذور اختلافها. ويظهر هذا الاختلاف على الأخص بالتباين في الأقوال والأفعال. فإن أقوال الكتاب لا

تزال تعبر بعبارات مختلفة عن استيائها من عدم الأخذ بالأفكار الحديثة وأما الأفعال فإنها تبدي للملاحظ من الخارج مشهد سلسلة من الغفلات. إن المنطق بعيد عنها لأنها محسوسة، لذلك نرى أن حسن حسين هيكل يعتقد أن تعريب نظريات هيكل (الفيلسوف الألماني) في التكامل مفيد، ويعين بنفسه على نشرها وقد افتتح كتابه المعرب بمقدمة، تشعر فيها برد أديب يدل على إنكاره لآرائه، ولكن ذلك لم يمنعه من الاعتقاد أن نظرية النشوء والارتقاء قد أشير إليها في مقدمة ابن خلدون، فله إذن شرف الانتباه إليها، أو الملامة عليها؟ ومن البين أن المؤلف لم يستطع أن يطرح هذا السؤال الأخير، ولا أن ينتهي به الشعور الجلي، فقد أصبح غامضاً بالاشتباه الحاصل في القيم الأجنبية. إن الجهد المبذول لتوحيد القديم والحديث ينتهي إلى انعكاسين متباينين قد يعبر عنهما بعبارتين متضادتين: أولاً رأي حديث أجنبي متهم، ثانياُ وقال به مع ذلك القدماء. وكثيراً ما يظهر هذا التضاد المشهود عند اقتباس العادات الأجنبية فمسألة الاقتباس هي كذلك كثيرة التعقيد كمسألة الحجاب. فإنه لا يزال في الشرق يثير النضال بين أنصار القديم والحاضر، واستشهد على ذلك بمحاضرة الشيخ عبد القادر المغربي التي ألقاها في جمعية تهذيب الشبيبة السورية ببيروت عام 1928، وعنوانها محمد والمرأة ذكر فيها أنه بينما كان النبي (ص) يعامل النساء معاملة حرية ومساواة، كان مجمع (ماقون) بالاتفاق العجيب يبحث عما إن كانت المرأة إنساناً من البشر؟ وفيما فسر به الحجاب إبهام، يجعله حاجباًً للمرأة عن الابتذال. وأنه عادة الملوك والملكات والعظماء. ولا يزال الحجاب شأنهم إلى هذه الأيام، وإن التأثير الشعبي هو الذي ألجأ النبي إلى حجب النساء وهو المظهر الارستقراطي الوحيد الذي ظهر به النبي بتأثير مقتضيات الأحوال. وماذا يستنتج من ذلك؟ أن الكل قديم: حرية المرأة، ومساواتها بالرجل (بل امتيازها عليه) وحتى السفور فإنه قديم، إذن فليست العوائد مقتبسة وإنما هي متأصلة في الأمة. ونذكر المثال الآتي لبيان حكم المشارقة على مدنياتنا، وهو مقتبس من البيانات المنشورة في مجلة الهلال عام 1928. من الدكتور عبد الحق الأستاذ في جامعة حيدر آباد الدكن الهندية في طريقة إلى مؤتمر المستشرقين باكسفور ذاهباً إليه ليمثل جامعته العثمانية الموسوعة باسم حاكم الولاية نظام عثمان عي خان قال ما تعريبه: إن مواطنيّ لا يزالون

ينظرون شزراً إلى تركية هذه الأيام. إن الرابطة الوحيدة التي كانت تربطنا بالأتراك عي الإسلام، وقد قطعوه اليوم. إن الرابطة الشرقية ليست في درجة واحدة من الخطورة في نظر الهنود، ولو اهتموا بها لكان أحرى بهم أن يرتبطوا باليابان والصين. كان الهنود فيما سبق يحترمون الأتراك ويحبونهم مسلمين، أما اليوم فأنهم يشعرون لهم بالخصومة التي يشعرون بها للغربيين. نحن لا نأبى أن يتمدن الأتراك، ولا أن يقتبسوا عناصر المدنية الغربية، ولكننا نفضل لهم أن يحافظوا على الطابع الشرقي، وعلى أخلاقهم وعاداتهم القيمة أه -. إن مثال الأتراك هذا يؤخذ منه درس أخلاقي وفلسفي واضح في ظاهرة كل الوضوح: ما هو الفرق بين المدينة الشرقية والغربية؟ إن مدنية الغرب مادية، والمدنية الشرقية روحية إن نص كلام الدكتور عبد الحق لا يبين أسلوباً جديداً في سلوك الأمة ولا يعطينا بأنه بنفسه لا ينهج نهج الأتراك. . . وأود أن لا يرى القارئ في هذه الأمثلة نقداً للفكر الشرقي. إنا نعيد قولنا أن انكليزياً أو فرنسي أو غيرهما أحدهما بالارتياب عينه في كثير من هذه الظروف والأحوال، بيد أن التحولات السياسية والاجتماعية في الشرق تجعل الارتياب عملاً عاماً وظاهراً. إن خشونة الاتصال بالأجانب، وقوة الذكريات تجعل في الأفكار والمطالب نوعاً من التوتر والعناد الظاهر. إن شخصية الشرقي، بمقدار إيجابها الاستمرار مع الماضي، تدخل في نزاع مع آمالها الذاتية، وينتهي هذا النزاع بصور شتى، فتارة تبقى الرغبات المعاكسة، وطوراً تتموضع المعاكسة على بعض المسائل فيتكاثف الغموض من حولها. حيناً آخر تصيب الفكرة الوحدة والطمأنينة ولكن متباعدة عن العمل والحقيقة. هذه هي أشكال الارتباك الذي تمتاز به على ما يظهر عقلية البلاد السريعة في تقدمها وترقيها. وقد بقي علينا أن نبين المخرج. والحاصل إن حال المشكل يتوزع على نزعتين متطرفتين: إحداهما عصرية لا تترد في أن نصار الثقافة الأوروبية. والثانية محافظة تعتقد بوجوب الاستقاء من ينابيع التقليد الوطني، ونحن الآن لتحليل كل من هاتين النزعتين، ولكن هذه الرسالة لا يتسع صدرها للتفصيل وسنورد في العدد الآتي بعض الأمثلة على ذلك. جان لوسرف

ارنست رنان

ارنست رنان للدكتور أنور حاتم كتب عن أرنست رنان واضع تاريخ الشعب الإسرائيلي أكثر من ثلاث مائة كتاب ومقالة صدرت عن حياته وتآليفه في المجلات المنتشرة في جميع أنحاء العالم وقد عد في أواخر القرن الماضي نبياً بل إلهاً جديداً ليهدي الشرق والغرب إلى دين جديد. غير أن الذين آمنوا برسالته قليلون ولا يزال عددهم في تناقض حتى أيامنا هذه حتى ارنست بسيكاري وهدم مبادئ الوحي الذي جاء به فلم يتحقق من نبوته إلا قوله في كتاب العلم: سوف لا يقرأني المستقبل، إنني أعرف ذلك وابتهج فرحاً، ليهنأ المستقبل لقد خبا نور رنان العالم والمستشرق وأثبتت الأيام باطل أبحاثه فلم يبق منه في عصرنا إلا نثره الساحر وأسلوبه البديع. نعم أنه حاول أن يقلع من القلب البشري تلك العواطف السامية التي ترفع الإنسان إلى العلي وتجرده من طبيعته الضعيفة، ولكنه قد فشل في ذلك فشلاً عظيماً. فرنان أشبه بايكار ابن الذي تكلم عنه الشاعر اللاتيني اوثين في كتاب الاستحالات - فقد أراد ايدال أن يرتفع إلى السماء بجناحين اصطناعيين فحلق في الجو وطاول السحاب ولما تقرب من الشمس أحرقت الشمس جناحيه فسقط إلى الأرض ومات. ولد رنان في قرية من أعمال بريطانيا الصغرى. .

أنشودة محمد

أنشودة محمد للشاعر غوته نقلها إلى العربية الدكتور منير العجلاني انظروا إلى نبع الجبل، العذب الرقراق، كيف يولد من بين الصخور، كشعاع من النجم يسري في غيوم متكاثفات، تسهر عليه ملائك مكرمون،. وكيف يقفز من الفضاء، في خفة ورشاقة، إلى كتل المرمر، ثم يثب جذلان نحو السماء. وكيف يتغلغل في الطرائق الوعرة، فيطرد منها آلاف الحصى ويجر وراءه أخواناً من الينابيع! هناك في الوادي، تتفتح الأزهار تحت قدميه، ويعيش المرج من أنفاسه، ولكن لا الوادي الظليل، ولا الأزاهير تلتف حول ساقيه وتداعبه بنظراتها اللطاف، تستطيع أن تستوقفه. . . فهو ماضٍ، ماضٍ في رحلته العجلى نحو السهل. تتراكض الأنهار نحوه، ويدخل السهل متلألئاً فضياً. . . فيزدهي السهل به، وتقول له غدران السهل وأنهار الجبل، وهي ترقص من فرح: يا أخانا، خذ أشقاءك معك، خذهم إلى أبيك، المحيط الخالد، الذي ينتظرنا، مفتوح الذراعين! ولكن، واأسفا، إن ذراعيه تتفتحان عبثاً، لتلفا إلى صدره أولاده الذين يتألمون، ففي هذه الصحراء المحرقة، يتلفنا الرمل اللاذع، وتروي الشمس ظمأها من دمنا، ثم توقف مجرانا رابية ما، وتحيلنا مستنقعنا راكداً يا أخانا، خذ غدران السهل، خذ أنهار الجبل، خذهم إلى أبيك! - تعالوا جميعاً! هو ذا النبع يتسع ويكبر، في عظمة وجلال، ويحمل إلى العروش أمة بأسرها! يعطي البلاد، في رحلته الظافرة، أسماء، وتولد المدائن تحت قدميه، ولكنه، مع هذا، لا يتوانى في سيره ولا يقف قط،

ويترك خلفه، دائماً، مناور مضيئات، ومنازل من المرمر: صنع عبقريته الخصوب! يحمل الأطلس على كتفيه الجبارتين قصوراً من الأرز، وتخفق ألف راية على رأسه، في الفضاء، شاهدات على عظمته،. ويحمل، هو. أخوانه وأولاده وكنوزه، يحملها على قلبه، (وهو يهدر جذلان، إلى الخالق الذي ينتظره!. . . 0).

المسرح والمقصف

المسرح والمقصف بقلم الدكتور كاظم الداغستاني 1 - المسرح كتبت هذا المقال منذ عشر سنوات، فوصفت فيه المسرح القديم في دمشق المسمى (تياترو) وقد اتبعته في هذا الجزء من الثقافة بصورة المقصف الجديد في دمشق المسمى (بار). ولعل بين الصورتين القديمة والجديدة من الفوارق ما يدعو لاهتمام المولعين بهذا النوع من وصف الواقع. سأحدثك عن المسرح وعن الغناء والرقص وتمثيل أدوار الحب فيه، وأريد بكلمة المسرح ذلك المسرح المعروف في دمشق وأكثر مدن سورية الذي تستطيع مئات السنين أن تغير من أوضاعه القديمة شيئاً مذكوراً، ولعلني أكفيك في حديثي هذا، مؤونة ليال كثيرة تصرفها في مثل هذه الأماكن إذا أردت أن تقف على ما أريد أن أطلعك عليه من شؤونها. تغني الناس على الغالب، في هذا المسرح: امرأة يدعونها رئيسة الجوقة، يرافقها ثلاث نساء أو أربع يجلسن إلى جانبها بترتيب يجري على ما يقدره لهن صاحب المسرح من جمال أو براعة في الرقص والغناء، ويجلس إلى جانبها الآخر، جوقة موسيقية من الرجال تعينها في غنائها وتوقع الراقصات حينما ينتهي دور الغناء فيقمن للرقص الواحدة تلو الأخرى ويجلس المتفرجون من مختلف الطبقات أمام المسرح جماعات وأفراداً لا ترتيب في صفوفهم ولا انتظام في مواقع جلوسهم. ويأوي البعض منهم في المسارح القائمة في غير الحدائق، إلى مقاصير (ألواح) خاصة تشرف على المسرح، وكثيراً ما يختار العشاق هذه (الألواح) لجلوسهم لأنها أوقع في نفوس نساء المسرح وأحكم في لفت أنظارهن، ويحظر على نساء المسرح حظراً شديداً في دمشق أن يجلسن إلى الرجال من (المتفرجين) أو يحدثنهم، وكثيراً ما تشدد دائرة الأمن في هذا الحظر، حتى أنها تعاقب المرأة التي تجرؤ وهي صاعدة إلى المسرح أو نازلة منه على محادثة أحد المتفرجين، أو الوقوف معه ولو قليلاً، بأن تمنعها عن عملها أياماً تحرم فيها من أجرها، ولكنها لا تمنعها مهما اشتد أمر المنع، أن تبعث

بنظراتها وهي جالسة أو راقصة في المسرح إلى من تشاء وأن تبتسم وتومئ إلى من تريد وأن تتقبل زجاجات الشمبانيا التي يبعث بها إليها عشاقها، وأن ترفع كأسها فتشرب نخب من قدم هذه الهدية إليها. ويصعب أو يتعذر على العشاق محادثة هؤلاء النسوة، وقد تزيدهم هذه الصعوبة غراماً فيعانونها برغبة ولذة. ويغلب على المرأة التي تغني في مثل هذه المسارح أن لا يكون لها من الجمال والصوت والبراعة في الرقص ما يجعلها تستغني عن أن تمثل لعشاقها أدوار حبها وهيامها بهم، فهي تمثل دائماً وأبداً وتحوجها الإجادة في هذا التمثيل إلى استعداد فطري قد ينشأ معها وتمرين تعاوده أياماً طويلة وقد تجيد هذا النوع من التمثيل الإجادة كلها، ولكنها قد لا تنجح فيما تقصده من تمثيلها، لأنها تحتاج في هذا النجاح زيادة عن الإجادة في التمثيل، لأشياء كثيرة صعبة المراس، فهي لا تكتفي بما تحتاجه الممثلة لكي تجيد التمثيل، من الذهول عن نفسها وتناسيها ذاتها ليتسنى لها أن تتقمص الشخصية الجديدة التي يتطلبها الموقف بل يحوجها الأمر لأن تمثل لكل من عشاقها الدور الذي يلائم طبعه، وأن ننتخب لكل واحد منهم الموقف الذي يتفق مع مزاجه، وكثيراً ما يقضي غليها الأمر أن تختار من الأدوار ما تخلق أوضاعه خلقاً وترتجل فصوله ارتجالاً دون أن تكون قد فكرت فيه أو استعدت له من قبل. وكثيراً ما تحتاج أيضاً لأن تمثل من الأدوار ما يناقض بعضه بعضاً فتمثل الفرح لأحدهم وتشخص الحزن لرفيقه في آن واحد وتعاني في التوفيق بين هذا التناقض ما لا يمكنك أن تعرف شأنه ودقة الصنعة فيه إلا إذا رأيت تلك الأمارات المرسومة على محياها في موقفها هذا وهي تدل على إجهادها النفس وقسرها على ما ربما كان فوق طاقتها، وإنك إذا أطلعت على ما بين أمزجة عشاق هذه المرأة من التباين وما في مشاربهم من التفاوت وعرفت أنهم جميعهم، يحتشدون أمامها في ساحة واحدة، وإنها مضطرة لأن تقنع كلاً منهم بأنها عالقة به وحده وإنه لا مهرب لها من أن تهتم خلال ذلك في الغناء الذي تغنيه ما الرقصة التي ترقصها وتحافظ على مقاييس الأنغام لترضي بقية المتفرجين من غير العشاق أيقنت من عظيم الجهد الذي تبذله هذه المرأة وشدة الذكاء والمقدرة التي تحتاج إليهما فيما تعانيه من عملها الشاق، وأجدني متشوقاً لكي أؤيد لك ذلك، إلى أن أصف لك موقفها من عشاقها وموقفهم منها، وأذكر لك بإيجاز بعض ما يبدو للناقد وهو يراقب (المتفرجين) في هذا

المسرح فأطلعك على ما يمثل هنالك من أدوار قد يشترك في بعض فصولها أفراد الجوقة وصاحب المسرح وخدامه وكثير من العشاق والحاضرين أيضاً. فهنالك بين الجالسين أمام المسرح، ثلاثة رفاق لعلهم من أبناء وجهاء المدينة، جلسوا حول منضدة صفت عليها أقداح العرق وأطباق الفاكهة، وإذا عن لك أن تراقبهم علمت أن الأول من بينهم هو العاشق المتظاهر بحبه، وإذا أطلت نظرك إليه علمت أنه يعتقد بل يجزم بينه وبين نفسه بأنه الرجل الوحيد الذي اختصته هذه المرأة بحبها من دون الناس جميعاً، فهو لا يبرح يتعهد تصفيف شعره ويتفقد منديله الحريري المتدلي على صدره، ويرفع كأسه بين آونة وأخرى عندما تمر بنظرها عليه، فيشرب نخبها وتشرب نخبه من زجاجة الشمبانيا التي بها إليها. وتفهم من نظرات الرفيق الثاني إلى هذه المرأة وإغضائه عنها كلما التفت إلى رفيقه أنه لا يريد أن يقف من رفيقه موقف الخصومة في الحب فتجده يغتنم الفرص كلما سنحت ويبعث إليها بنظرة وابتسامة يحاول أن يمثل لها بهما حال العاشق المتألم الذي لا يبيح له الموقف أن يظهر ما تكنه جوانحه من بوارح الحب. وتنظر إليها فتجدها قد فقهت ما يريد أن يفهمها إياه، فرفعت كأسها وشربت نخب رفيقه متبسمة، ثم حولت نظرها إليه من طرف خفي، كأنها تشير إليه أن بين جوانحها أيضاً من آلام شغفها به أضعاف ما به لكنها لا تريد أن يطلع على تحاببهما هذا رفيقه الذي بذل لها من هداياه وشرابه الشيء الكثير. وترسل طرفك إلى الرفيق الثالث، فتراه وقد جلس جلسة الر جل الرصين المتظاهر بأنه أعرف بهذه الأمور وأعلم بحقيقة الطريق التي يجب أن يسلكها الرجل ليصل منها إلى قلب المرأة التي يحنها، وتجد \ ها وهي تمر بنظرها عليه قد علمت ما يريد أن يفهمها من أمره فتحاول أن تفهمه، يما تخلقه في محياها من علائم الإعجاب بأوضاعه أنه لا يعجبها من الرجل إلا رجاحة عقله ورصانته في مجلسه فلا يلبث أن يبتسم بينه وبين نفسه ابتسامة العاشق المنتصر على عذاله. ويضحك رجل جلس وحيداً وراء هؤلاء الرفاق الثلاثة ينظر إلى تلك المرأة بشغف ويسرع إلى رفع كأسه عندما يرى أحدهم قد رفع كأسه ليشرب نخبها فيشرب معه ومعها ويكتفي أن يسلك بغرامه هذا الطريق الخيالي الذي لا يكلفه شيئاً من المال. وتنظر إليها حينئذ فتجدها

تسعى جهدها لتبعث إليه برشاش من تلك الابتسامة التي وجهتها إلى غيره، وتعرف من أثار الغبطة الظاهرة على شفتيه أنه سعيد بما ناله يخيل إليه أن هذا الرشاش الذي أصابه هو بحر من الحب قد غمرته أمواجه. ويحزنك رجل من أرياف المدينة جلس غير بعيد من هؤلاء، تجده ينظر إلى هذه المرأة نظرة العشق الآمل، ويرفع كأسه كلما رآها ترفع كأسها فيشرب نخبها، وتراها لا تنظر إليه أبداً ولا تبتسم له قط، وإنك إذا شئت أن تبحث عن أمره تعلم أن خادم المسرح قد خدعه كما اعتاد أن يخدع الكثيرين من أمثاله في كل ليلة فأوهمه أن المرأة وهو يعلم من أمر شغفه بها ما يعلم، بعثت تطلب منه زجاجة من الشمبانيا، فأجاب طلبها، وإن شئت فقل طلب الخادم الذي تقاضى ثمن الزجاجة من عشاق كثيرين أيضاً ورأى هذا الرجل أن المرأة لا تنظر إليه ولا تشرب نخبه فخيل إليه أنها لا تريد أن تتظاهر بحبها له أمام عشاقها بعد أن اصطفته لنفسها من دونهم جميعاً، فطار في جو خياله سعيداً هانئاً. ونقد الخادم ثمن الزجاجة الموهومة التي لم تعلم هذه المرأة من أمرها شيئاً. وهنالك شابان متأنقان في ملبسهما، يظهر لك من أوضاعهما وشدة اهتمام خدام المسرح بهما أنهما من أبناء الأغنياء وموظفي دواوين الحكومة وتفهم من نظراتهما لنساء المسرح ومغازلة هؤلاء لهما أن الأول مولع برئيسة الجوقة يتظاهر لها بحبه وإن الثاني عاشق للمرأة التي تجلس بجانب الرئيسة، وتعلم من أمر الثاني هذا الثاني أنه غير قانع بحبه لهذه المرأة وحدها فهو يود لما يراه بنفسه من القدرة على معاناة هذه الأمور أن يظهر للرئيسة هيامه بها أيضاً فتجده يخالس رفيقه النظرات العميقة إليها مبتسماً. ثم ينقطه عن التبسم متصنعاً الإطراق والتفكير ليمثل دور المتردد في أي الحبين يختار. وتراه كأنما يريد أن يثبت للرئيسة أنه أرجح عقلاً من صاحبه وأعرف منه بشؤون المجالس، فينصرف إليه متكلفاً الإخلاص له وينبهه - بإشارات تفهمها الرئيسة - إلى أنه مخطئ في جلسته التي يجلسها، أو مخل بما يجب أن يراعي في مثل هذا الموقف، وينتبه رفيقه إلى ما يرمي إليه من نصحه فيكاتمه ما عرفه من أمره، وتلحظ جارة الرئيسة الدور الذي يريد أن يمثله عاشقها ليؤيد صلاته مع جارتها فتبتسم لرفيقه، وتومئ إليه أن ينتقم لنفسه من صاحبه فيغازلها هو أيضاً، فينصرف بنظره عنها كأنما يريد أن يفهمها أنه يأبى أن يكون متقلباً

كرفيقه، وتفقه الرئيسة ما دار بينهما من الحوار الصامت فتطرق مفكرة وقد انتشرت على وجهها غبرة من إجهاد النفس في سبيل الاهتداء إلى الدور الذي يجب أن تمثله بهذا الموقف لتنتصر على جارتها وتستأثر بالاثنين معاً. ويرى ضارب العود الجالس إلى جانبها إطراقها وذهولها وهو يعشقها ويتوهم أنها مولعة به، فتحدوه الغيرة لأن يظن أن مبعث إطراقها وتفكيرها هو شغفها بأحد عشاقها، فتنم أسارير وجهه على ما يخامر فؤاده من القلق، وينظر إليها نظرة التذكير بالحب، فتميل نحوه ميلة تتفق مع توقيع الأغنية التي تغنيها بتدريبه ومساعدته، وتتكلف الابتسامة له تكلفاً يظهر لك من خلاله أمر ما تعانيه في هذا الموقف من عمل شاق تكاد أن ترتبك فيه. وهنالك أربعة شبان لعلهم من طلاب المدارس العليا جلسوا قريباً من المسرح تفهم من مغازلة الرئيسة لهم أنها لا تأمل من وراء ما يظهرونه لها من الحب نفعاً كبيراً فتجدها تبتسم إليهم جميعاً ابتسامة واحدة تقسمها بينهم تقسيماً يدهشك ما فيه من مهارة في الصنعة وكثيراً ما تراها تبعث إليهم بهذه الابتسامة مشاعة فيتقاسمونها بينهم قسمة رضائية أو يختلفون عليها فيعتقد كل منهم أنها له وحده فيصفق لها ويحيها. ويسترعي اهتمامك رجل علت وجهه مسحة من طيب السريرة، جلس بين جمع من رفاقه وهو يميل إلى هذه المرأة لكنه يود أن يسلك في التعرف إليها طريقاً قليلة النفقة فيبعث إليها مع خادم المسرح بعلبة صغيرة من (الملبس) دون أن ينقد الخادم أجراً مقدماً على عمله، ويسرع أحد رفاقه، خفية عنه، فيرشوا الخادم ويومئ إليه أن يفهم المرأة أنه هو الذي أهدى هذه العلبة إليها، وتجد الرجل لا يكاد يرى المرأة وقد بدأت تلتفت إلى صاحبه متبسمة وتهتم به من دونه حتى تبدو على محياه علائم الاضطراب والغضب فيردد طرفه بين المرأة وبين صاحبه مستغرباً الأمر مرتاباً فيما وقع، ويستوضحها الأمر بنظراته وإشاراته فتحدق نظرها فيه وتجهد نفسها لتعلم ما يريده منها فلا توفق إلى ذلك. وهنالك رجل من ذوي النفوذ والسلطة جلس بعيداً عن المسرح وهو ولوع بهذه المرأة فتراه ينظر إليها مقطباً حاجبيه كأنما يريد أن يذكرها بماله من السلطة عليها وتجدها قد رزنت في مجلسها عند مجيئه واهتمت كثيراً بأن تظهر له أن ليس بين عشاقها من يشغلها عن الاهتمام به، وترى صاحب المسرح قد خف للقياه مرحباً به غير ناس أن يشير إلى المرأة

من طرف خفي ليذكرها أيضاً بما يجب أن تمنح من التفاتها لهذا القادم إليه بأنها عارفة بما يجب عليها. ويدخل القاعة شاب تعرف من مظهره وخيلائه كثرة ندمائه المحتاطين به أنه من كبار أغنياء المدينة، وترى هذه المرآة تنظر إليه باهتمام بعد أن رأته يطيل نظره إليها، فتلفتت إلى جارها ضارب العود فتسأله عن هذا القادم الجديد، وتراها تريد أن تفهم هذا الشاب أنها تسأل عنه لتظهر له أنها بدأت أن تكون شديدة الاهتمام به مذ رأته، وتجده حينئذٍ وقد أغواه ما أكتشفه من أمر سؤلها عنه قد أزداد تيها وعجباً، وتشعر هي بنجاحها في دورها الأول فتستعد لتمثيل الدور الثاني الذي اعتادت أن تستغوي به أمثاله لولا أن يزعجها حينئذٍ رجل من طبقة العوام جلس قريباً من المسرح، أطربه ما تغنيه فرماها بتفاحة كبيرة أصابت يدها ووقعت في حضنها. وتقدم الشرطي ليقبض عليه، فاحتاط به رفاقه يمانعون في أخراجه من بينهم، وأصر الشرطي على أخراجه فوقعت بينه وبينهم معركة صغيرة لم يكد ينتهي أمرها ويرجع مشاهدوها إلى مجالسهم حتى وقف ذلك الشاب متظاهراً بانزعاجه مما كأنه لم يعتد أن يراه. ثم لا يلبث أن يخرج مع أعوانه وندمائه مظهراً تأففه مما رأى. ولا تنهض هذه المرأة للرقص. وهي آخر من يرقص من نساء المسرح، حتى تكون الخمرة قد فعلت فعلتها في رؤوس المشاهدين. وكثيراً ما يحدث حينئذٍ أن يقف رجل يترنح سكراً فيطلب إليها أن تغنيه أغنية يحبها. ويصيح من الجهة الثانية رجل آخر فيطالبها بأغنية غيرها. ولا يلبث بعد قليل أن ينضم لكل من الرجلين رفاقه. ويسرع الشرطي لتلافي الأمر فلا يكاد يصل إليهم إلا وقد ابتدأت المعركة بينهم. وقد تستمر المرأة في غنائها ورقصها حينما تكون المعركة خفيفة الوطأة. ويتقدم الشرطي فيقود معه من يقود منهم ويعود الأمن إلى نصابه. وتلتفت فترى رجلاً بلغت منه الخمرة أشدها وقد أشجاه غناء هذه المرأة وهاج رقصها ما كمن في نفسه من شعور هيامه بها. فأهوى برأسه على عضد رفيقه يبكي وينتحب. وتمر بنظرها عليه فيضحكها بكاؤه. ويرى ضحكها رجل آخر جالس غير يعيد من الباكي. فيندفع صائحاً: يا لها من امرأة فاجرة لئيمة لا يضحكها إلا منظر الدموع التي تسكب قدميها، وينهض وهو يحاول أن يهاجمها في مسرحها. فيحول بينه وبين ذلك رفيق له لعله أقل سكراً منه.

وترمي بطرفك إلى جهة أخرى، فترى رجلاً يشتد به السكر فيهوي عن كرسيه ساقطاً إلى الأرض. فينهضه ويعيده إلى مجلسه. ثم يقدم له كأساً من الخمرة فيتعذر عليه شربها. لأنه لم يبق في أحشائه فراغ يستوعبها. ويرى رفيقه أن المرأة تنظر إليهما فيود أن يسترضيها فيستحلفه بها ويطلب إليه أن يشرب نخبها. فيحتسي الكأس مضطراً ثم لا تلبث أن تضيق أمعاؤه بد ذرعاً. فيعيدها وكأنما يعيد معها قطعاً من أحشائه. ولعلك إذا التفت إلى ناحية ثانية رأيت مناظر شتى لا تخرج عما يمثله السكارى من الأدوار التي يحزنك أكثرها وقد يضحك بعضها وإذا أردت مراقبة هذه المرأة أكثر مما راقبتها وانتظرت خروجها من مسرحها رأيتها حينئذ وقد أحاط بها جمع غفير من عشاقها وأكثرهم سكارى. فيتقدم الأول إليها باسطاً يديه يذكرها بعهده. ويعترضها الثاني في طريقها فيعاتبها ويسترضيها. ويحاذيها الثالث فيحاول أن يستغويها بمزاحه وهزله. وقد يهاجمها مشهراً خنجره بيده يريد أن يؤيد حبه لها بالسلاح الأبيض وتجدها في هذا الموقف أشد ما تكون ارتباكاً واضطراباً لا تعرف أيهم تجيب ولا أياً منهم تسترضي. ويزيد في همها أن الشرطي يسير غير بعيد منها يراقبها وينذرها من حين إلى آخر بمنعها عن عملها في المسرح. وكثيراً ما يؤنبها ويوجه إليها من كلماته ما يؤلمها ويغضبها وقد تظل في ارتباكها حتى دارها. وكثيراً ما ترى المعركة قائمة على بابها بين من سكروا في مسرحها وبين أفراد الشرطة. 2 - المقصف لا أعلم أن كنت أوفق بما أصفه لك في هذه العجالة من صور المقصف، لأن وصف الواقع وتمثيله باهتمام ورغبة يحتاجان لحالة خاصة من حالات النفس هيهات أن تبقيها السنوات العشر الغابرة على ما كانت عليه، على أني سأجرب وفي التجريب ما قد يدعو للتوفيق. سأحدثك إذاً عن المقصف في دمشق، وأريد بالمقصف ذلك الملهى الذي لا عهد لدمشق به

إلا منذ بضعة أعوام وهو نوع من الحانات يسميه المترددون إليه في سورية تارة (بار) وتارة (كازينو) ومرة (دانسينغ). ومهما تعددت أسماؤه واختلفت فهو قاعة من قاعات الليل يجد فيها من يغشاها شراباً وموسيقى ورقصاً وغناء ويفرق المقصف الجديد عن المسرح القديم أن جل ما في المقصف أوروبي، شرابه وموسيقاه، رقصه وغناءه. وفي المقصف راقصات فنانات (آرتيستات) يدفع لهن صاحب المقصف أجراً معيناً عدا ما يضيف إليه من الحصة التي تصيب كلاً منهن من ثمن الشراب الذي قدمه إليها العشاق أو اللاهون. ويبلغ عدد الراقصات الفنانات في المقاصف الكبيرة ثماني أو عشراً ندر أن تجد بينهن من تتكلم بالعربية فهن من الأوروبيات وأكثرهن من بلاد النمسا والمجر ورومانيا ويوغسلافيا واليونان. وقل أن تجد بين هؤلاء الفنانات من هي بارزة الجمال فاتنة المحيا ولكنهن جميعهن على الغالب أنيقات ذوات قامات هيفاء وخصور نحيلة وأجسام غضة متناسبة الأعضاء، وأكثرهن ماهرات في تمثيل اللهجة الصادقة، مثقفات بارعات في أساليب الحديث ومناهجه حاذفات في استطراد الحكاية وربط مقاطعها حتى في لغة لا يعرفن منها إلا الشيء القليل. ويسمح للرجال من المتفرجين في المقصف أن يرقصوا مع هؤلاء النسوة، على أنهم إذا جلسوا إليهن للحديث أو دعوهن للجلوس لموائدهم عليهم أن يقدموا لهن ما يطلبنه من الشراب. وثمن الشراب الذي يقدم للفنانات هو على الغالب ثلاثة أضعاف الشراب الذي يقدم لغيرهن. والفنانات قديرات على تحمل الشراب ماهرات في طلبه حتى أن بينهن من تستطيع أن تشرب في سهرة واحدة من الأقداح ما يربو عدده على الأربعين. ولا يوشك الثلث الأول من الليل أن ينقضي حتى تنهض كل من الفنانات بدورها للرقص في مسرح المقصف أو في ساحته التي يحتاط بها المتفرجون، وتختار من الراقصات ما تكون مارسته واتفقت عليه مع الجوقة الموسيقية من قبل وقد يشاركها في ذلك واحدة أو اثنتان من زميلاتها يلبسن جميعهن ألبسة خاصة بالرقص لا تستر في الغالب إلا قسماً قليلا من أجسامهن، وقد تجد بينهن من تبلغ في رقصها وإنشادها مبلغاً من الإجادة يحيي في النفس شيئاً كثيرا من هوى الفن وعاطفة الإعجاب بمظاهره. وتبعث الراقصة للمتفرجين بابتسامات مشاعة عامة وتختص عشاقها ومريديها بنظرات ذات مغاز ومعان تجيد في

تصويبها وتوجيهها فتمثل ما تريد أن تعلنه لهم تمثيلاً صحيحاً قد يصعب التفريق بينه وبين الحقيقة. وتنتهي الفنانات من رقصهن وتمثيل أدوارهن على المسرح فيعدن إلى مجالسهن بين المتفرجين وقد انتصف الليل وهو الوقت الذي يكثر من بعده إقبال زوار المقصف على دعوة الفنانات إلى موائدهم لمجالستهن والتحدث إليهن. ولا تلبث الخمرة أن يدب دبيبها وتتغلغل نشوتها في الرؤوس فيبدو للمراقب في المقصف من المشاهد والمواقف ما يلهيه ويسترعي اهتمامه. فهناك شاب متأنق متظرف لم ينل الشراب منه بعد إلا قليلا، جلس إلى فنانة صبوحة الوجه قدم لها من الويسكي شربته خلال مدة قصيرة من الحديث، وأخذت تدور بعينيها تفتش عن خادم المقصف لتطلب قدحاً ثانياً، وانبرى جليسها يحاول أن يستلهيها بحديثه ليصرفها عما تريد فلا يوفق، ثم لا يجد بدا من الإذعان، فيصبر على كره، ويوعز للخادم أن يجيبها إلى ما طلبت وهو حريص على ودها يأمل أن يصل إلى قلبها ويخشى إذا أبى عليها ما طلبت أن يسقط في عينيها سقطة لا مقبل له منها. فيحاول أن يكتمها ما في نفسه ويعود لمغازلتها متكلفاً الهناء والغبطة. وتراها قد اكتشفت سريعاً ما ود أن يخفيها من أمره وسجيته، وعرفت أنه من المعجبين بأنفسهم الذين يحاولون أن يستغووا مثيلاتها بنفقة زهيدة تافهة. فتنصرف إليه، متكلفة هي أيضاً الهناء والسرور، تمثل أمامه دوراً جديداً يتفق مع ما اهتدت إليه مع طبعه، فتأخذ بالثناء عليه، والإطراء على عذوبة حديثه وجمال وجهه وملبسه وتمثل في ملامحها ونظراتها ما تريد أن تقنعه معه أنها أصبحت وفي نفسها من الإعجاب به ما قد ينقلب بعد زمن قريب إلى هيام ووله. على أنه لا تلبث على شأنها إلا قليلاً حتى تراها وقد أخذت تقلب الطرف من جديد في جمهور الحاضرين وتستعرفهم فترسل نظرة استغواء عميقة وابتسامة عجلى لرجل ينظر إليها باسماً وقد جلس غير بعيد عنها في جمع من رفاقه. ثم تعود إلى حديثها مع جليسها، وتعزف موسيقى الجازبند مقطوعة من رقصة الرومبا فتنهض وإياه إلى ساحة الرقص مع الراقصين والراقصات وتستمر في تحدثها إليه وهي ترقص لكنها لا تصل في دورتها مرة إلى الناحية التي جلس فيها ذلك الرجل الذي ابتسمت له إلا

وتمنحه خفية عن الراقص معها، من التفاتها ما يجعله يتنحنح في مجلسه فيصلح من شأن ملبسه ويمر بأصابعه على ربطة رقبته يتعهدها بالترتيب ثم لا يلبث أن يكيل لهذه الراقصة على مسمع من رفاقه، من صيحات الثناء عليها وعلائم الإعجاب بجمالها ما قد لا يتفق مع ما كان يقوله عنها قبل حين. وقد لا يتسنى لك تتبع هذه الراقصة بنظراتك فتنصرف لمراقبتها دون سواها لأن بين جمهور الراقصين والراقصات من الأزواج ما يسترعي اهتمامك أيضاً، فقد تجد رجلاً قصير القامة مستدير الجسم يرقص مع فنانة طويلة جداً وتراه يتحدث إليها ويغازلها وهو كأنما ينظر إلى سقف القاعة. وقد تجد كهلاً سمحاً تجاوز الخمسين يرقص مع شابة فاتنة وهو يتكلف الرشاقة في حركاته وخطواته وترى راقصته تنظر خفية عنه إلى عشاقها والمعجبين بها الجالسين حول ساحة الرقص هازئة به بما تبديه في وجهها من ملامح وإشارات متعملة التأفف والضجر، وتراه هو منهمكاً في رقصه لا ينتبه إلى ما يجري حوله ومن وراء كتفه ولا يعرف شيئاً مما يدور بين راقصته وبين المتفرجين. وترى ركن من أركان القاعة فتى من أبناء الموسرين بدت في أسارير وجهه الجميل ملامح الغباوة والسذاجة جلس إلى فنانة روسية نحيلة الجسم سوداء العينين ذات شعور صناعية الشقرة وتجده جواداً كريماً في تقديم ما تطلبه من الشراب، وهو لا يحب هذه المرأة ولا يعشقها بل يهوى راقصة غيرها من راقصات المقصف رأى من جفائها له ما حاول من بعده أن يستثير كوامن الغيرة في نفسها فدعا لمائدته زميلتها هذه وأخذ يطارحها الصبابة والوجد. وليس من الصعب عليك أن تفهم إذا أمعنت النظر في أوضاعها ونظراتها إلى زميلتها تلك التي جلست تحدث رجلاً آخر، أن تعرف أن الاثنتين قد اتفقتا على الفتى. تعاقدتا على أن يتقاسما ما يصيبهما من كرمه. ويدعو اهتمامك رجل ثمل انتحى ناحية من القاعة مع راقصة قدم لها قدحاً من الكونياك وهي لا تعرف إلا اللغة الألمانية وبضع كلمات من الفرنسية وتسمعه يتحدث إليها بالعربية وعندما يرى أنه لم يستطيع إفهامها ما يود أن يقوله لها يعود فيمزج كلامه العربي بألفاظ تركية وتراها أوشكت أن تفهم بعض الشيء من حديثه فتجيبه بالفرنسية مستعينة على ذلك بإشارات الوجه والأصابع ويجري بينهما حوار متقطع مضحك يقع فيه بينهما من سوء

التفاهم ما يذهب بهما إلى غير ما يريدانه. ويجلس في جهة قريبة منك رجل يهوى راقصة رومانية فاتنة لا يعرف لغتها ولا اللغة الفرنسية التي تعرفها هي، وقد دعاه هيامه بها لأن يدعوها لمائدته فيقدم لها زجاجة من الشمبانيا ويستعين على محادثتها برفيق له يعرف الفرنسية وترى هذا الرفيق تأبى عليه نفسه أن يقوم بدور المترجم فحسب بل تراه لا يحجم أن يشارك رفيقه في مطارحتها عواطف نفسه وآيات إعجابه حتى أنه كثيراً ما يتصرف بالترجمة تصرفاً لا يتفق مع الأمانة في النقل ولا يلتئم مع مصالح من عهد إليه بهذه المهمة. وهنالك شاب لعله من موظفي الدوائر العامة أو من الموسرين أرباب المصالح الحرة في ملابس علية القوم وشمائلهم، دخل المقصف رصيناً رزيناً، وجلس مع رفيق له في زاوية من زواياه جلسة هادئة محتشمة، على أنه لم يشرب القدح الثاني من الوسكي حتى أصبح طروباً يكاد أن يكون عربيداً يرن صدى ضحكه في أجواء القاعة، وما هو إلا القدح الثالث حتى أطلق العنان لهوى نفسه فانبرى يصيح مع الصائحين ويرقص مع الراقصين مستسلماً لما تمليه عليه وتطلبه منه راقصة ايطالية رشيقة رعناء دعاها وجميع من يلوذ بها في المقصف إلى الشراب، وحام حول مائدتها العازف على القيثارة يسمعهم نغمة تؤجج أقصى ما في الأنفس من حنان ووله. فانهالت عليهم الأقداح تترى وضاعف خدام المقصف عددها وأثمانها في دفاترهم التي سيبرزونها عند الحساب. وفي ناحية أخرى رهط من الرفاق دعوا لمائدتهم غانية من غانيات المقصف قدموا لها قدحاً من الوسكي اتفقوا فيما بينهم على أداء ثمنه مساهمة وتجدهم محيطين بها يتسابقون في استجوابها واسترضائها بمختلف اللغات واللهجات فتكاد لا تعرف إلى أي منهم تتحدث أو أيهم تجيب. وإلى جانب هؤلاء جماعة من الغرباء الذين وفدوا من الغرب إلى الشرق، جلسوا يقصفون ويسمرون أو يتحدثون لفتيات المقصف ويراقصونهن وقد تجدهم في جلستهم محتشمين هادئين تارة وصائحين معربدين أحياناً. وهنالك فئة من الشباب وطلاب المدارس العليا اجتمعوا في حلقة علا ضجيجها حتى أوشكت أن تقلق صاحب المقصف وتراهم جميعهم يهتفون ويصفقون متكلنين فرح الشباب

وهناء الصبى، وتدلك غبرة من الكآبة انتشرت على وجوههم أن ليس في قرارة نفوسهم شيء من حقيقة الهناء والفرح. ويكاد المقصف لا يخلو في كل ليلة من فئة الرجال تجمعهم إلى بعضهم على مائدة واحدة وحدة الأذواق وغرابة الطبع، وهم لا يقصفون ولا يرقصون بل يجدون العزاء لأنفسهم عن ذلك باهتمامهم بكل شأن من شؤون سواهم من اللاهيين أمامهم فيعدون على كل منهم خطواته وحركاته ويأخذون عليه لهوة وقصفه، وكثيراً ما يختلفون في حكمهم ويطول بهم الجدل فيلجأون إلى ورقة ينشرونها بينهم يقيدون فيها دخل الرجل الذي ينقدونه ومكسبه الشهري أو السنوي وما يحتاجه من المال في ملبسه ومعاشه وإعالة ذويه، وكثيراً ما يستنتجون مؤيدين رأيهم بالأرقام أن الرجل أمسى وهو لا يملك سوى ما ينفقه في هذه الليلة أو أن مصيره الإفلاس والخراب بعد شهور أو أيام معدودات. ويحين موعد الانصراف من المقصف والساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل. . . 0 كاظم الداغستاني

عبقرية شوقي

عبقرية شوقي وعبقرية العرب للدكتور منير العجلاني ولد شوقي في مصر، فسكبت الشمس في صدره شعاعاً حاراً ينضج الفكرة في غير عناء وصبر، وأوحى إليه الهلال الذي يداعب كرمة=ابن هاني في ليالي القاهرة، الساحرة، أغاريد الحب، ولقنته الأهرام الحكمة، وعلمته الفراعنة الكبرياء، فشوقي - إذن - صنع مصر وصورتها! ولكن شوقي ليس مفخرة مصر وحدها، بل مفخرة العرب، في مشرق الأرض ومغربها، ذلك لأن نور مصر وأهرامها وفراعنتها وبدورها، ليست إلا خطوطاً فنية ألف شوقي ألوانها ورسم خطوطها على أسلوب المعلم الأكبر، (عبقرية العرب)، فكل رجل ينتمي إلى هذا المعلم بسبب يجد في شوقي صديقاً أو بكلمة أبرع يجد نفسه وشوقي من مدرسة واحدة، ويتذوقه، لأنه يتفهمه! لم يكن شوقي الشاعر العاشق اليائس، ولا الجمال العميق، بل كان كاتباً بليغاً ينظم نثره، وشاعراً وطنياً يزود الرجال بحكمة يرددونها، وأنة يصعدونها، وغضبة يهددون بها العدو العنيد، فهو من هذه الناحية وأرث الشعراء الإلى يفاخرون بعشائرهم وتفاخر العشائر بهم ويسير نظميهم في المضارب. ثم هو شاعر الأمراء، ولكنه لم يكن يجهل أنه هو كذلك أمير، فلم تكن نفسه تنزل من التواضع إلى الضعة، وكان يشفق على قصائده أن تضيع في المديح فيشحنها بالحكم، وهو، على جده وجلاله، لا تخلو مدائحه من دعابات مقصودة أو غير مقصودة. ألم يقل لأم المحسنين يستوقفها: أرفعي الستر وحيي بالجبين ... وأرينا فلق الصبح المبين!. . . 00 واتركي فضل زماميه لنا ... نتناوب نحن والروح الأمين إلى آخر القصيدة! فشوقي يداعب الأمراء ولا يغرب في ذلك. . . لأن من شعراء الهند من يداعب الآلهة، (كأن الآلهة تحب المداعبة) فلماذا لا يداعب العربي أمراءه وهم دون الآلهة منزلة؟ يقول طاغور إن جدياً شكا إلى (براهما) ذات يوم أن

القصابين لا يرحمون صغر سنه فأجابه الإله أنا نفسي لما أنظر إليك، اشتهي لحمك الطري!. . . فالآلهة نفسها فيها من العنصر الإنساني حس الضحك والميل إلى العبث! وليس هذا مما يعاب عليه شوقي. ينظم بعض شعرائنا قصائد نصفق لها، لا لأنها كما يقول نيتشه تصور لنا أننا عظماء وأننا أقوياء وإننا نستطيع أن نفعل كذا وكذا. . . فنعجب بها في الظاهر ونحن إنما نعجب في الواقع بأنفسنا، كمثل خطيب نصفق له لا لأنه إبداع وأجاد ولكن لأنه ردد كلمات معروفة ولكننا نحب سماعها، وكمثل كثيرين تهز أقوالهم أجسامنا، وتثيرنا بصورة الفاجعة لا ببراعة تصويرها، بالدموع لا بالآلام، وباللطم على الوجه لا بالإفهام! قد يكون في شعر شوقي شيء من هذا الشعر الذي يستمد قوته من غير العبقرية والفن، ولكن في شعر شوقي قطعاً إذا لم نسمها صوراً شعرية كاملة فهي قطع من أسمى الشعر وأعمقه، وهي كثيرة في شعره الوطني، وإن من الأبيات التي قالها في دمشق وغيرها ما لو أنشدت عند ميت لاهتزت في قبره عظامه! وهنا، أخيراً، شوقي الروائي، فمهما اختلفت أحكامنا في شعره المسرحي فأن المسرح العربي لا يعرف أحسن منها ولو عد بها في القدماء لكان أقربهم إلى المجددين! هذه طائفة من الأفكار خطرت ببالي وأنا أقرأ أشعاراً لشوقي، ذكرتها لأخلص منها إلى الرد على جماعة من الكتاب يدعون أنهم انتقدوا شوقي وعابوا شعره وهم في الواقع إنما ينقدون أسلوباً ولوناً من العبقرية00وهو الأسلوب العربي00 فنقدهم عاطفي شخصي وإن ألبسوه ثوب العلم. يذكر (فاغيه) - النقادة الفرنسي الكبير - في كلامه على الدراما القديمة والدراما الحديثة ثلاثة أساليب في عمل الروايات: اليوناني والانكليزي والفرنسي، ومن جملة ما يصف به كل واحد من هذه الأساليب قوله: اليونان عشاق جمال، فأوصافهم بسيطة لأن الجمال بساطة الخطوط ونبل المواقف. والانكليز عشاق حقيقة واقعة فأوصافهم معقدة لأن الحياة معضلة. . .

والفرنسيون عشاق مسائل الفكر، فأوصافهم مجردة لأن الوصف المجرد فكرة. . . فالشعور العام الذي تخرج به من رواية يونانية هو شعور مجموعة فنية جميلة، ومن الرواية الانكليزية هو شعور بصورة غنية لحياة الإنسان، ومن الرواية الفرنسية هو شعور بتفكير يقاد على أحسن أسلوب إلى نتيجة غير منظرة. فاللذة عند اليونانيين هي التروي في الجمال، وعند الفرنسيين حب الاستطلاع يغذيه المنطق وعند الانكليز الإحساس بالحياة. . . . فالآلهة اليونانية هي الجمال، والآلهة الانكليزية هي الحياة والآلهة الفرنسية هي الفكر. . . . وفي كل رواية يوناني نقاش، وموسيقى، ومغن، ومحارب. وفي كل رواية انكليزي مؤرخ ورسام طبائع وفيلسوف. وفي كل رواية فرنسي خطيب ومعلم أخلاق ومنطق! فنم هذا ترى أنه لا يفضل أسلوباً على أسلوب، بل هو يرضى عن الأساليب كلها ويتفهمها كلها، إذ لا غضاضة على أمة أن لا تكون لعباقرتها مزايا توفرت لعباقرة الأمم الأخرى، وليس يجب علينا إذا أعجبنا بلون من العبقريات الغريبة أن تنتقص عبقريتنا الوطنية ونرميها بالسخف والجمود بل يجب علينا أن نعجب بالصورة البارعة مهما يكن أسلوبها وإلى أية مدرسة ينتمي صاحبها. عندنا صور بارعة، ولكنها لا تنتمي إلى المدرسة اليونانية التي يكبرها بعض أدبائنا تقليداً لبعض أدباء الغرب. . فهل نرمي بها في البحر إكراماً لعيون المقلدين - المجددين؟ نحن أنصار الجديد، لا نصير له أكثر حماسة منا، ولكننا لسنا أعداء لعبقرية العرب، ونحن مؤمنون بما آمن به غوتي من قبل من أن أكثر الناس إنسانية هو الذي يعرف أن يستفيد من عبقرية وطنه! منير العجلاني

اللانهاية

اللانهاية أصبو إلى العدم الوسيع وفكرتي ... تأبى الوجود به تحيط حدود حتى وسيع الجو ليس بواسع ... روحي فها هو بالسما محدود إني سئمت من السماء كأنها ... سد مدى نظري به مسدود فلئن تصل يدي السماء قلعتها ... فإذا رميت اللحظ ليس يعود ولذاك أشتاق الظلام لأنه ... ما أن يحد محيطه الممدود سعد الضرير فليس دون خياله ... حد وليس لفكره تقييد أما البصير فكل مرئياته ... أبداً حدود جمة وقيود أحمد الصافي

يا طائرا

يا طائراً يا طائراً يهفو إلى كنه ... حنَ إليك الغصن يا طائر من هزه الشوق إلى أمسه ... ضاق به زمانه الحاضر الروض محزون فلا نجمه ... زاهٍ ولا نسيمه عاطر منقبض الصدر فلا روقه ... يوحي ولا جلاله باهر الزهر منكب على كمه ... يبكي عليه عوده الناخر بالأمس حط الركب في بابه ... واليوم لا غادٍ ولا سامر يا طائراً يهفو إلى كنه ... أين تولى الركب يا طائر يا ليت هذا اليوم حث الخطى ... كما طواها أمسه الجائر بين جناحيك استوت طعنة ... جف عليها دمك المائر يبعثها الشوق أسى كلما ... راح يناجي ناظراً ناظر وكلما حاولت كتمانها ... نم عليها دمعك الحائر يا طائراً يهفو إلى كنه ... متى توافي الكن يا طائر توفيق الحناوي

صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام

صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام تابع لما قبل للأستاذ وصفي زكريا ذكرت في العدد الماضي أن أمراء قبيلة الموالي الحاضرين في زمننا والمعروفين بأولاد أبي ريشة منحدرون من عيسى بن مهنا الفضلي الربيعي الطائي. وسأذكر الآن أدلتي على ذلك مبتدئاً بأصول آل عيسى ونازلاً نحو فروعهم مع بيان أحسابهم وقصص أحداثهم وحالات معاشهم ورفههم وأساليب الإدارة التي كانت تنفذ فيهم في دول الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، مستنداً إلى أوثق المصادر التي أتيح لي الوصول إليها، خدمة لهذه الناحية الغامضة من تاريخ الشام ودرءً لزعم أولئك الأمراء من أنهم عباسيون من أعقاب شقير بن هارون الرشيد وأنهم وانهم. إلى آخر ما سوف أرويه وأفنده، خصوصاً وأن في انتسابهم إلى عيسى بن مهنا وأعقابه الذين كانوا ملوك البادية وساداتها شرفاً منيفاً يغنيهم عن ذلك الزعم السخيف. ذكر القلقشندي في صبح الأعشى (ج1) ما خلاصته: إن العرب العرباء هم بنو قحطان، وإن من يعرب بن قحطان قبيلة كهلان بن سبأ الذين أخذوا الرياسة على العرب بالبادية بعد تقاصر ملك حمير، ومن أحياء بني كهلان طيء أخذاً من الطاءة وهي الأبغال في المرعى. وهم بنو طيء بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن أزد بن كهلان والنسبة إليهم طائي وإليهم ينسب حاتم الطائي المشهور بالكرم وأبو تمام الطائي الشاعر المشهور. قال ابن خلدون في العبر: وكانت منازلهم باليمن فخرجوا منها على أثر خروج الأزد عند تفرقهم بسيل العرم فنزلوا بنجد والحجاز على القرب من بني أسد ثم غلبوا بني أسد على جبلي أجا وسلمى من بلاد نجد فنزلوهما فعرفا بجبلي طيء إلى الآن ثم افترقوا في أول الإسلام زمن الفتوحات في الأقطار، ومنهم أمم كثيرة ملأوا السهل والجبل حجازاً وشاماً وعراقاً وهم أصحاب الدولة في العرب لهذا العهد (القرن التاسع) في العراق والشام ومصر. ومنهم بنو هناء بن عمروا وابن الغوث بن طيء. وكانت الرياسة على طيء في الجاهلية لبني هناء ومن ولده إياس بن قبيصة الذي أدال به كسرى ابرويز النعمان بن المنذر حين قتله وانزل طياً بالحيرة مكان لخم قوم النعمان وولى على العرب منهم إياساً هذا فكانت له

ولأعقابه الرياسة إلى حين انقراض ملك الفرس. ومن عقب إياس هذا بنو ربيعة بن حازم ابن علي بن مفرج بن دغفل بن جراح. ويزعم كثير من جهلة البادية من بني ربيعة أنهم من ولد سميع بن جعفر بن يحيى البرمكي وإن سميعاً هذا هو الذي ولدته العباسة أخت الرشيد بن جعفر المذكور وكانت سبب نكبة البرامكة زعم كاذب لا أصل له وحاشا لله من هذه المقالة في الرشيد وأخته وفي بنات كبراء العرب من طيء إلى موالي العجم من بني برمك وأمثالهم وكانت رياسة طيء في أيام الخلفاء الفاطميين لبني الجراح وكان كبيرهم مفرج ابن دغفل بن الجراح وكان من أقطاعة الرملة. وهو الذي قبض عليه سنة 368 على افتكين أحد قواد بني بويه الذي ولاه الدمشقيون عليهم لما رأوا من عسف عمال الفاطميين وكان الخليفة الفاطمي العزيز ابن المعز لدين الله خرج لقتاله وجعل لمن يحضر افتكين مائة ألف دينار، ولما كسر افتكين وانهزم طلب بيت صديقه مفرج بن دغفل الطائي فغدر به مفرج وأسره وسلمه إلى العزيز واستحوذ على الجعل وعلى إقطاع الرملة. ولما كثرت جموع مفرج وقويت شوكته شق عصا الطاعة وصار يعيث في فلسطين متغلباً على جنوب الشام يعيث ويصادر ويخرب إلى أن سير الحاكم بأمر الله عليه جيشاً لجباً في سنة 404 وقبل وصول هذا الجيش مات مفرج واتصل بأولاده قصد العساكر إليهم فذهبوا مع العرب إلى البرية وتخلوا عن الرملة وغيرها من البلاد التي غلبوا عليها. ثم تولى ابنه حسان ولما ضعف شأن الخلفاء الفاطميين والنقرض بنو حمدان وتقاسمت أمراء القبائل العربية بلاد الشام كان شمال من حصة صالح بن مرداس أمير بني كلاب ووسطه لسنان بن عليان أمير بني كلب وجنوبه لحسان بن مفرج الطائي. وقصد حسان الرملة سنة 415 ففتحها وأتى عليها حرقاً ونهباً وأسراً. وفي السنة 416 جهز الخليفة الظاهر جيشاً لقتال صالح بن مرداس وحسان بن مفرج فلاقياه عند طبرية فانكسرا فقتل صالح وانهزم حسان والتجأ إلى قيصر الروم. وجاء مع جيش الروم سنة 422 وعلى رأسه علم فيه صليب ووصل إلى أفامية وملك قلعتها المعروفة في يومنا بقلعة المضيق وغنم ما فيها (فتأمل). ويظهر أن بني طيء - وهم بيت القصيد في مقالنا - وجد بعضهم إذ ذاك في شمالي الشام فقد عدهم ابن خلدون في جملة القبائل التي كانت منتشرة في القرن الرابع ما بين الجزيرة

والشام في عدوة الفرات كبني كلاب وبني كعب وبني عقيل وبني نمير وبني قشير وكلهم من عامر بن صعصعة من العدنانية كانوا كالرعايا لبني حمدان أصحاب حلب يؤدون إليهم الإتاوات وينفرون معهم في الحروب. ثم استفحل أمرهم عند فشل دولة بني حمدان وساروا إلى ملك البلاد ففي سنة 344 اجتمعت القبائل المذكورة بعضهم في مروج سلمية وبعضهم في عين الزرقاء بين خناصرة وأسريا وتشاركوا ما لحقهم من سيف الدولة وتضافروا على حربه وهاجموا عماله وقتلوا بعض نوابه وكان مشغولاً عنهم بغزو الروم فزاد طمعهم وبعث ينصحهم فلم يرتدعوا فخرج إليهم من حلب إلى سلمية فواقعهم فيها وفتك بهم ولحق جموعهم وفلوهم إلى الفرقلس والغنثر وتدمر يقتل وياسر ويصفح وامتدحه يومئذ المتنبي بقصيدة جاء فيها ذكر سلمية منها: اقبلها المروج مسوملت ... ضوامر لا هزال ولا شيار تثير على سلمية مسبطراً ... تناكر تحته دون الشعار وفي قصيدة لأبي فراس الحمداني يفخر بتلك المواقع: سقينا بالرماح بني قشير ... ببطن الغنثر السم المذابا ثم استفحل أمر هذه القبائل لما انقرضت دولة بني حمدان في غرة القرن الخامس وضعف شأن الخلفاء الفاطميين فتقاسموا بلاد الشام على ما قدمناه وتحضروا وأنشأوا ممالك، فدام ملك بني مرداس الكلابيين في حلب وأعمالها سبعون سنة (402 - 372) إلى أن أخذ الملك منهم بنو عقيل أصحاب الموصل ومنهم شرف الدولة مسلم بن قريش كان له من الموصل إلى حلب، ثم دام ملك هؤلاء إلى أن قرضه نور الدين محمود بن زنكي سنة 564. أما بقية القبائل التي ظلت بادية فقد ضعف شأنها واضمحل فمنها من عاد إلى قلب الجزيرة العربية وضاع خبره من اندمج في بني طيء لما عظم شأنهم ونبه ذكرهم في شمالي الشام فتضاء اسمه وذاب جسمه في بيئتهم. وصارت الرئاسة في طيء إلى آل ربيعة. قالوا وكان ربيعة أمير عرب الشام في غرة القرن السادس في عهد الأنابك طغتكين ثم خلفه في إمارة ابنه مراء بن ربيعة الذي ذكر له أبو الفداء حادثة خطيرة مع الصليبيين. قال أبو الفداء: (ج2 ص243) وفي سنة 513 سار جوسلين صاحب تل باشر إلى بلاد دمشق ليكبس

العرب بني ربيعة، وأميرهم إذ ذاك مراء بن ربيعة فتقدم عسكر جوسلين قدامه فضل جوسلين عنهم ووقع عسكره على العرب وجرى بينهم قتال شديد انتصر فيع مراء بن ربيعة وقتل وأسر من الفرنج عدة كثيرة اه -. ثم انقسم آل ربيعة إلى ثلاثة أفخاذهم المشهورين ومن عداهم أتباع لهم وداخلون في عددهم ولكل من الثلاثة أمير مختص به. وهم آل فضل بن ربيعة وآل مراء ابن ربيعة وهو أخو فضل وآل علي بن حديثة بن عقبة بن فضل بن ربيعة. قال القلقشندي في نهاية الأرب: قال الحمداني هؤلاء سادات العرب ووجوهها ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة وصيت عظيم إلى رونق في بيوتهم ومنازلهم وفد منهم فرج بن حية على الملك المعزايبك صاحب مصر (648 - 655) ونزل بدار الضيافة وأقام بها أياماً فكان مقدار ما وصل إليه من عين وقماش وإقامة له ولمن معه ستة وثلاثين ألف دينار. قال واجتمع أيام الظاهر بيبرس جماعة من آل ربيعة وغيرهم فحصل لهم من الضيافة خاصة في المدة اليسيرة أكثر من هذا المقدار كل ذلك على يدي. قال ابن فضل الله العمري المتوفي سنة 748 في مسالك الأبصار: قال الحمداني هذا واستكثره فكيف لو عمر إلى زماننا ورأى إليهم إحسان سلطاننا (يعني السلطان الملك الناصر بن قلاوون) والعطايا كيف كانت تفيض عليهم فيضا من الذهب العين بمئات الألوف والخلع والأطلس بالأطرزة المزركشة وأنواع القماش المفصل لملوكهم بالسمور والوشق والسنجاب والبراطس واللمع والباهي والعنابي من السكندي والمصنوعات المجوهرة وأنواع المزركش لنسائهم والسكر المكرر والأشربة المختلفة بالقناطير المقنطرة إلى ما ينعم به على أعيانهم من الجواري الترك والخيل للنتاج والفحول للمهائر مع ما يطلق لهم من الأموال الجمة من الشام ويقطع باسمهم من المدن والبلاد ويملك لهم من القرى والضياع ويعطى علماؤهم ويجري للائذين بهم والنجاة بجاههم من المكافآت العالية والشفاعات المقبولة في استخدام الوظائف وترتيب الرواتب والإطلاق من السجون والمراعاة في الغيبة والحضور إلى غير ذلك من تجاوز أمثال الكفاية في الإنزال والمضيف لهم ولأتباعهم منذ خروجهم من بيوتهم إلى حين عودتهم إليها مع مواكلة السلطان في مدة أقامتهم بحضرته غداء وعشاء والدخول في المحافل والخلوات وملازمته في أكثر الأوقات. . . الخ.

فأما آل مراء بن ربيعة فقد كانت ديارهم من بلاد الجيدور والجولان إلى الزرقا والضليل إلى البصرى ومشرقاً إلى الحرة المعروفة بحرة كشت قريباً من مكة إلى شعباء إلى نيران مزبد إلى الهضب المعروف بهضب الراقي وربما طاب لهم البر وامتد بهم المرعى أو أن خصب الشتاء فتوسعوا في الأرض وأطالوا عدد الأيام والليالي حتى تعود مكة المعظمة وراء ظهورهم ويكاد سهيل يصير شامهم ويصيرون مستقبلين بوجوههم الشام. وقد تشعبوا إلى آل أحمد بن جحى وآل مسخر وآل نمى وآل بقرة وآل شما وبيت الإمرة فيهم في آل أحمد ثم صاروا يتقاتلون بقسمة الإمرة. ويدخل في حلفهم بنو صخر وزبيد حوران ويأتيهم من عرب البرية المفارجة وآل برجس والخرسان وآل حسين الشرفا وخثعم وعدوان وغيرهم. قال: وآل مراء أبطال مناجيد ورجال صناديد وأقيال قل كونوا حجارة أو حديداٍ لا يعد منهم عنترة العبسي ولا عرابة الأوسي إلا أن الحظ يحظ بني عمهم بأكثر مما يحظهم ولم تزل بينهم نوب الحرب ولهم في أكثرها الغلب. قال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: كنت في نوبة حمص في واقعة التتار (التي جرت سنة 680) جالساً على سطح باب الأصطبل السلطاني بدمشق إذ أقبل آل مراء زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسومة والجياد المنطهمة وعليهم الكزغندات الحمر الأطلس المعدني والديباج الرومي وعلى رؤوسهم البيض مقلدين بالسيوف وبأيديهم الرماح كأنهم صقور على صقور وأمامهم العبيد تميل على الركائب ويرقصون بتراقص المهارى وبأيديهم الجنائب التي إليها عيون الملوك صوراً. وورائهم الظعائن والحمول ومعهم مغنية لهم تعرف بالحضرمية طائرة السمعة سافرة من الهودج وهي تغني: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... ليالي لاقينا جذاما وحميرا ولما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جرداً للمنية ضمرا فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسر سقيناهم كأساً سقونا بمثله ... ولكنهم كانوا على الموت اصبرا وكان الأمر كذلك فإن الكسرة أولاً على المسلمين ثم كانت لهم الكرة على التتار فسبحان منطق الألسنة ومصرف الأقدار اه - قلت يظهر مما ذكره هذا الشيخ أن آل مراء بن ربيعة

اشتركوا في المعركة الهائلة التي جرت في حمص سنة 680 بين الملك المنصور قلاوون الصالحي والتتار - وكانت الدائرة على التتار - مع أبناء عمهم آل فضل ابن ربيعة على ما سوف نذكره. وقد سبق لجد آل مراء أن انتصر على الصليبيين سنة 513 كما قدمنا، لذلك ليس بمستغرب بعد هذه الانتصارات أن يجل الملوك الأيوبيين والسلاطين المماليك قدر أمراء الأعراب ويكرمونهم ذلك الإكرام الذي نوه به الحمداني والعمري ويداورونهم جلباً لمنفعتهم ودرءً لمفسدتهم فهم كانوا في بعض الأحايين عضد أولئك الملوك والسلاطين في الخطوب ورديفهم في الحروب أن بروا وأبلوا نصروا ونفعوا وأن نقضوا وختروا ضروا وافسدوا. وأما آل علي بن حديثة فهم وإن كانوا من ضئضيء آل فضل فقد انفردوا منهم حتى صاروا طائفة أخرى وديارهم مرج دمشق وغوطتها بين أخوتهم آل فضل وبني عمهم آل مراء ومنتهاهم إلى الجوف والجبابنة إلى تيما إلى البرادع. وإنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى عيسى بن مهنا وهم أهل بيت عظيم الشأن مشهور السادات إلى أموال جمة ونعم ضخمة ومكانة في الدول علية. وكان أميرهم رملة بن جماز بن محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثة وكان جده أميراً ثم أبوه، قلد الملك الأشرف خليل بن قلاوون جده محمد بن أبي بكر أمرة آل فضل حين أمسك مهنا بن عيسى ثم تقلدها من الملك الناصر أخيه أيضاً حين طرد مهنا وسائر أخوته وأهله. ولما أمر رماة كان حدث السن فحسده أعمامه بنو محمد بن أبي بكر وقدموا على السلطان بتقادمهم وتراموا على الأمراء وخواص السلطان وذوي الوظائف فلم يحضرهم السلطان إلى عنده ولا أدنى أحداً منهم فرجعوا بعد معاينة الحين بخفى حنين ثم لم يزالوا يتربصون به الدوائر وينصبون له الحبائل والله تعالى يقيه سيئات ما مكروا حتى صار سيد قومه وفرقد دهره آه. أما آل فضل فهم رأس الكل وأعلاهم درجة وديارهم من حمص إلى قلعة جعبر إلى الرحبة آخذين على شفى الفرات وأطراف العراق. قال ابن خلدون: هذا الحي من العرب يعرفون بآل فضل وهم رحالة ما بين الشام والجزيرة وبرية نجد من أرض الحجاز ينتقلون هكذا بينها في الرحلتين وينتهون في طيء ومعهم أحياء من زبيد وكلب وهريم ومذحج أحلاف لهم باين بعضهم في الغلب والعدد آل مراء ويزعمون أن آل فضل كلهم كانوا بأرض

حوران فغلبهم عليها آل مراء وأخرجوهم منها فنزلوا حمص ونواحيها ثم اتصلوا برجال السلطنة فولوهم على أحياء العرب واقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام والعراق فاستظهروا برياستهم على آل مراء وغلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريباً من التلول والقرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل وكانت معهم أحياء من أفار يق الأعراب يندرجون في لفيفهم وحلفهم. يتبع وصفي زكريا

صيف في أوربا

صيف في أوربا بقلم الأستاذ جان غولميه تعريب كاظم الداغستاني وصف الأستاذ في الفصلين، الأول والثاني، من رحلته التي أرسلها خصيصاً إلى الثقافة سفره من بيروت وما رآه في حيفا وبور سعيد وأثينية وسلانيك وبلغراد وتريسته والبندقية وميلان وباريز وكارلسروه وستوتغارت حتى وصل مونيخ، وقد نشرت الثقافة هذين الفصلين في الجزئيين السابقين والمقابل التالي هو الفصل الثالث الذي تختم به الرحلة. 28 تموز سنة 933 - مونيخ وجرى القطار يسير بنا إلى مونيخ ونحن نمتع النظر بما انبسط أمامنا من مناظر جبال الألب في بافاريا وما انتشر على سفوحها من تلك القرى البديعة التي استترت سطوح بيوتها ذات القرميد الأحمر بستار رقيق من النبت الأخضر. ولم نصل مونيخ حيث يقيم المستشرق الألماني العظيم بير غستروسر، حتى ذهبت لزيارته التي كانت كل ما ابتغيه من وقوفي في هذا البلد، وهو يسكن بيتاً في طريق هادئة ساكنة امتدت في قلب المدينة، ولقد تلقاني بأعظم ما يمكن من البشاشة والترحاب، وتحدثنا معاً عن سورية، وعن دمشق التي يعرفها جيداً، ويحن إليها كثيراً، لأنه لم يعد لزيارتها منذ أمد بعيد. وحاولت أن استدرجه للتكلم في السياسة فلم أفلح، وشعرت حينئذ أنه ليس من محبذي الحركة الهتلرية، ولكنه لا يستطيع أن يقول لي كل ما يعتقده. لا مجال للمزاح في بلاد الحكام المطلقين (الديكتاتوريين) ولعل الحذر من كل غريب نزل هذه البلاد هو واجب لا مندوحة عنه. لقد كانت مونيخ في هياج وضوضاء، فهي من جهة أولى تستقبل في هذا اليوم وفداً من الشباب الفاشيستي الإيطالي جاء يزور الشباب الهتلري، ومن جهة ثانية تعد العدة لعيد الصيف ومهرجانه الذي هو أيضاً أحد مظاهر الشعب القريبة من المجوسية التي أحياها هتلر ليقوي بها نشاط مريديه وأنصاره. فالشعب الألماني ينسى خلال هذه الأعياد الكبيرة أنه جائع، فينصرف إليها ويتلهى بها. 29 تموز - مونيخ ذهبت مساء أمس إلى دار البلدية حيث يستقبلون وفد الشباب الفاشيستي الإيطالي فرأيت

لوحات كبيرة علقت على باب كتب عليها أحرف كبيرة (دخول اليهود ممنوع). وقد تركوني ادخل دون أن أبرز تذكرة أو بطاقة دعوة ولكن كان على الباب اثنان من الهتلريين يحدقان النظر في وجه كل داخل ليتحققا من أن ليس في ملامحه ما يدل على أنه من اليهود. ولقد كان تفرس هذين الحارسين في ملامح كل داخل، ليريا إذا كان أنفه أقنى كأنف اليهود، أو شعر رأسه أجعد كشعر اليهود، ما يدعو حقيقة للضحك. ومن الغريب أن يرجع الهتلريون إلى هذا الأسلوب في معرفة اليهود وتمييزهم عن سواهم. لا مشاحة في أن الحماس بلغ أشده في ذلك المجتمع الحافل. فلقد ألقيت الخطب ورتلت الأناشيد الفاشيستية، وكذلك الأناشيد الهتلرية التي هي والحق يقال غاية في حسن النغمة وجودة التوقيع. إن ألمانيا لم تنس أنها بلاد الموسيقى. وعند انقضاض الجمع وخروج المجتمعين غصت أماكن الشراب والمقاهي بالرجال الذين أحوجهم صراخ الحماس لإطفاء الظمأ. عدت إلى الفندق في ساعة متأخرة من الليل، ورغم الحر الشديد لم أجد في الطرق إلا عدداً قليلاً من المارة، مع أن الطقس كان يحلو معه استنشاق النسيم في تلك الشوارع العريضة، وعلى ضفاف نهر الإيزار، وفي تلك الحدائق العامة المتسعة الجوانب. ولكن هتلر لا يحب أن يطرب الألماني أو يلهو مما ألجأ الكثير من أصحاب أماكن الطرب واللهو في الليل لإغلاق محلاتهم. والنساء الألمانيات لم يعد لهن الحق بالزينة والتبرج ثم أن هنالك ما يخشى الساري أن يتعرض له من الحوادث المزعجة، وقد يقع له أن يقوده إلى مخفر الشرطة رجال الحرس الهتلري الذين قد يبتغون من وراء ذلك إظهار نشاطهم ونفوذهم. لقد ذهبت في هذا الصباح إلى سوق الورد والزهر، فرأيت فيه أنواعاً كثيرة من الفواكه والأزهار جميلة ورخيصة جداً، وقد صفت جميعها في معارض من الزجاج تمثل سلامة الذوق وحسن الترتيب. وفي المقاهي المجاورة اجتمع الفلاحون الذين جاءوا إلى السوق بما أنتجته أراضيهم من الزهر والثمر، يشربون ويغنون أناشيد غرامية قديمة غمرتها العاطفة المضطرمة. ولقد احتفظ جميعهم بألبستهم القديمة التاريخية التي يلبسها سكان الجبال، تلك الألبسة العزيزة على قلب الشاعر الفريد دي موسه:

قبعة خضراء انتصبت عليها ريشة طائر، ورداء من المخمل. ولقد كانت تتمثل فيهم روح البافاري القديم المشبعة بالعاطفة والإحساس، وهم كأنهم غرباء عن الضجيج الهتلري لا تفقه القرى التي نشئوا فيها معنى الحركة العقيمة. ذهبت بعد ظهر هذا اليوم إلى السينما، ومما يدعو للاستغراب أن في مونيخ ما يقرب من الثلاثين داراً للسينما، تسعة منها يعرض فيها شرائط سينمائية ناطقة باللغة الفرنسية، وهي على الغالب من النوع الجيد، وأن في هذا الأمر ما يسترعي الانتباه ويؤيد أن الفكر البافاري في ألمانيا، رغم هتلر، مابرح على ما كان عليه من التساهل والتسامح. ثم ألم ألحظ كثيراً من الابتسامات ذات المغزى تبدو على شفاه بعض الوجهاء في مدينة مونيخ عندما تمر زمر الشبان المتحمسين التابعة لفرقة الهجوم. 30 تموز - مونيخ رأيت قبل أن أغادر مونيخ أن أذهب لوداع المستشرق بير غيستروسر. وقد بادرني وفي لهجته شيء من القلق سائلاً: والآن كيف وجدت مونيخ؟ فأجملت له ما تركته زيارة المدينة في نفسي من الأثر، مشيراً بصورة خاصة إلى الضيق الاقتصادي وبالأحرى إلى الشقاء الذي استرعى اهتمامي ممثلاً بأشياء كثيرة كعدد الدرجات العظيم في المدينة وقلة عدد السيارات وابتسامات الاستخفاف التي رأيتها تبدو على وجوه السكان. نعم. نعم أجاب مفكراً بير غستراسر وهو يهز رأسه، ولقد عدت للحديث فختمته بقولي يجب أن نأمل انحلال هذه الأزمة أجاب نعم لا بد من الأمل ثم أضاف على ذلك بصوت منخفض وهو يرفع كتفيه قائلاً: ليس في هذه الحال التي نحن فيها ما يسر. آب - فرانكفور يجتاز المسافر من مونيخ إلى فرانكفور طريقاً نظيفة متقنة التعبيد وقليلة الحركة. وكنت وحيداً في غرفة القطار وهي من الدرجة الثانية. مع أن الازدحام كان شديداً في عربات الدرجة الثالثة. وفي كل المظاهر ما يدل على أن الشعب الألماني يتخبط في ضيق اقتصادي عظيم، وأن الإحصاءات المؤيدة للظفر التي تنشرها الصحافة الهتلرية زاعمة تناقص عدد البطالين، كاذبة. وإن الكارثة النازلة بالعمال شديدة الوطأة، فبدلاً من أن يعطي هتلر لكل واحد من العمال البطالين ماركين اثنين كإعانة فهو يدخله في عداد الجيش ويدفع

له المبلغ نفسه، وعلى هذه الصورة فإن عدد العمال المقيدين في سجلات البطالين قد قلّ عن ذي قبل، ولكن أليس في ذلك أصول مصطنعة لا تخفف من شقاء البلاد الحقيقي شيئاً؟ لقد كنت شديد الحرص على البقاء قليلاً في فرانكفور لأحج إل قبر الشاعر غوثه. أو ليس من الإنصاف في وسط هذه العاصفة التي يثيرها هتلر فيثير معها غرائز الشعب الهوجاء أن أتقدم فأردد ذكرى أعظم رجل في ألمانيا، ذكرى رجل عظيم لا نستطيع إلا أن نسامح في كل شيء البلاد التي أتاح لها الحظ أن تعده من أبنائها، وأما ذلك البيت البسيط الصغير الذي احتفظوا به كأثمن ذخر وتعهدوه باحترام بقرب من العبادة، وقفت أذكر عبقرية غوثه وسمو خياله. ولقد سألت نفسي: كيف يكون رأيهم لو بعث حياً اليوم في ألمانيا وهو الذي تجرأ فقال: أني أفضل الظلم على الفوضى ثم أي شقاء يستولي على نفس الناظر إلى هذه البلاد الألمانية البديعة حينما يراها غارقة من كل الوجوه في دياجير الشدة الهمجية. هنا كما في بلغراد وكما في تريسته لم أستطع إلا أن أفكر أيضاً في المعاهدات التي عقدت سنة 1919 وهي عهود لم تلجئ الأحوال للدفاع عنها والسعي في تأييدها إلا لأنها أخر معقد يمكن التوسل به للسلام في أوربا. وفي محطة فرانكفور لم لأتمالك من الضحك وأنا أنظر إلى أحد الإعلانات لنوع من الكاكاو سموه كاكاو قانت (الفيلسوف الألماني) ولإعلان أخر لنوع من الشوكالاته سموه شوكولاته فوهر، فهل يخطر ببال تجار الإعلانات في فرنسة أن يسموا نوعاً من الكاكاو، كاكاو ديكارت (الفيلسوف الفرنسي) وأن يسموا نوعاً من الشوكالاته، شوكالاته دلاديه السياسي الفرنسي؟ على أن هذه الدعاية التجارية الساذجة المستترة بستار الوطنية هي أيضاً مما يدل على نوع خاص من العقلية. 4 آب - كولونيا: وبعد مقام قصير حميد في مايانس حيث عدت أنظر إلى نهر الرين كمن ينظر صديقاً مواطناً بعد غياب طويل في بلاد بعيدة، وصلت مدينة كولونيا التي سكنتها سنة 1925، وما أسعدني أن أعود فأرى هذه المدينة التي لم يتغير فيها شيء يذكر، ولقد دخلتها والغيث يهطل كما في صيف سنة 1925 فرأيت ألبسة النساء ومظاهر زينتهن فيها على غاية من الجمال، كما كنت أراها من قبل، ولقد زاد جمال منظرهن في عيني إني قريب عهد

بمغادرة بافاريا حيث النساء ضخمات الأجسام غليظات القامات لا يعرفن انتقاء ألبستهن وأزيائهن يضاف إلى ذلك أن لا شيء من الذوق في زينتهن وتبرجهن. لحظت أن الحركة في الشوارع أخف من ذي قبل. أن ما أصاب بروسيا الواقعة على ضفاف نهر الرين من وطأة الأزمة الألمانية هو أقل مما أصاب البلاد الألمانية الأخرى وبالرغم من ذلك فإن هنالك أيضاً ما يدل على الضيق والشقاء الاقتصادي والأخلاقي، ولعل السبب في ذلك مبعثه الديكتاتورية والحكم المطلق لا غير. يكفي الإنسان أن يشعر في بلد من البلاد أنه يسير مقيداً غير طليق ترقبه الأعين وتتبع خطواته الأنظار، وأنه من الملحوظ في كل حين أن يقاد إلى أحد مراكز التحقيق، حتى تذهب من نفسه لذة العيش وتتبعها نشوة الفرح بالحياة التي يحيياها. وإن سكان كولونيا يعرفون من ذلك الشيء الكثير بعد أن رأوا سنة 925 رئيسهم النشيط المخلص آدينوير يعزل من منصبه ظلماً وعدواناً ويلقى في غياهب السجن رغم الخدمات العظمى التي أداها لمدينتهم. لقد بت لا أعلم هل هي الهتلرية، أم هي الأمطار المستمرة في تهطالها، لقد جعلت أفق المدينة مكفهراً في نظري، وجوها مفعماً بالكآبة. ولقد قام في نفسي فجأة أن أهرب منها رغم ذكرى أيام سعيدة غابرة عشتها فيها هانئاً مغتطباً، وأعود إلى أهلي ووطني حيث الديمقراطية والحرية. جان غولميه

مارسيل بروست

مارسيل بروست اعتاد الناس أن يطلبوا التضحية من الكاتب فيريدون أن يضحي الكاتب بكل شيء في سبيل فنه، براحته ورفاهيته، بشهرته، وحتى بحياته، يريدون أن يكتب الكاتب بدمه. أما القارئ فمن يجسر على مطالبته بشيء من هذا؟ على أني كنت أتمنى لو أن القارئ يقبل بتضحية واحدة: بعادات فكره. كما يتعود اللسان نوعاً من الأطعمة، والجسم إقليماً خاصاً، كذلك الفكر، أنه أسرع إلى التعلق بالأشياء امن الجسم وأميل للراحة والجمود. فهو إذا سار على طريق، يؤلمه الانحراف عنها والمجازفة في طرق مجهولة. يطلب الناس من الكاتب جديداً، ولكن ما النفع من هذا الجديد إذا كانوا لا يرونه ولا يسمعونه إلا بأعين وآذان قديمة؟ إني قلما أقدر الذي يكتسب هذه الصفة دون مقاومة وصراع عنيف. وقد لا يكون الجديد في أغلب الأحيان إلا صدى لملل القراء. أما الجديد الحقيقي فيظل مجهولاً زمناً حتى ولو صفقت له الجماهير، لأنها في الواقع تصفق لتلهي نفسها. ومارسيل بروست من هذه الفئة التي تصطدم بما في الفكر البشري من عادات سقيمة فتذوق من العذابات أقساها في صراعها مع بلادة الناس، ولكنها ترقى إلى سماء الخلود على سلم هذه العذبات. الأديب كالنبي، لابد أن يضطهد من أجل رسالته، لولا فرق بينهما يميز الأديب على النبي وهو أن هذا يحمل في جديدة بذور الموت إذ أنه يجيء بجديد يفرضه على المستقبل ويحرم عليه التجدد، في حين أن جوهر الأدب حرية لا نهاية لها. إن حماقة الناس لا تفتأ منذ القديم في ندم متواصل على أخطاء متواصلة ومنذ القديم لا يزال الناس يتعاملون عن العبقرية إذ تكون ماثلة أمامهم، ثم يعودون فيندمون على جهلهم، ولكن بعد ابتعادها عنهم، مثل الناظر إلى لوحة تصوير فإنه لا يستطيع تقديرها ما لم يبتعد عنها بضع خطوات. أليس من المشجي أن نرى مارسيل بروست، وقد أنهكته الأمراض، وأحس بالموت يدنو منه حثيث الخطى، يستعطف أصحاب المكاتب والناشرين، ويتقرب من الأدباء يطلب رفقهم برسالة يحسها كامنة في فؤاده ويخشى عليها الضياع في جسمه المريض العاني إذا هي لم تنقل إلى ملجأ أمين، وتودع في صفحات كتاب؟! ولكن الأدباء حتى أكابرهم لم يفهموا معنى تلك الرسالة، والناشرين حتى أحقرهم لم يرضوا أن يفسحوا مطابعهم لأفكار

بروست، ولم يجدوا فيها ما يستحق النشر والبيع! قضى بروست بضع سنين في يأس قتال من الصمت الذي أحاط كتبه عندما توصل أخيراً إلى نشرها. فهو كان يفضل لو يلقى من ينتقده وينهال عليه بالذم والشتم على أن يبقى الناس في ذلك الوجوم، ويتجاهلوا وجود كتاباته كأنه لم يأت بفن حقيق بالذكر. ولكن القدر شاء له أن لا يموت قبل أن يستمتع بقسط من الظفر الذي يستحقه، وأن يطمئن على مصير فنه. فقد توصل سنة 1919، بمساعي بعض أفراد فهموه، لنيل جائزة غونكور، فمدت شهرته جناحيها على أوروبا بسرعة البرق. ولكنه لئن سره أن يرى بعض المفكرين قد فهموه وقدروه، فلقد تألم كثيراً من مرأى تلك الجماهير التي غدت تصفق له اليوم بدون أن تقرأه، مثلما كانت تتجاهله بالأمس، وهي في الحالتين تسير مستعبدة للتقليد والجمود! إذا لقي بروست في فرنسا من المقاومة أشكالاً وألواناً، فلا احسب حظه يكون أوفر في البلاد العربية، بل أني أتوقع له فيها مقاومة أشد. لأن الأصنام التي انتصبت أمامه ومنعت عنه معبد الأدب حيناً، هي نفس الأصنام التي تقف في بلادنا حائلاً دون كل تجديد: عادات الفكر، وطرق الإنشاء. توسط صديق لبر وست عند أحد الناشرين من أجل طبع كتبه، فأجابه الناشر: لابد أن يكون الله ضرب على عقلي غشاوة فلا أفهم كيف يخصص كاتب ثلاثين صفحة يصف لنا فيها تقلبه في فراشه قبل أن يوافيه النوم! إن هذه الصفحات الثلاثين من أجمل ما قرأت من حيث بلاغة الوصف ودقته، ولكن ذنبها أنها لم تكتب بالأسلوب السهل الواضح الذي تعوده القراء واختصت به اللغة الفرنسية، بل هي معقدة لكون الموضوع معقداً، ولأن بروست ضحى السهولة والوضوح في سبيل الإخلاص والصدق في التعبير لأن السهولة والوضوح لا يتفقان دائماً مع التفكير الجديد والصور الجديدة فوصف الحالة المتوسطة بين النوم واليقظة، بما فيها من تمازج عويص غريب بين الحقائق والأوهام، ثم الانتقال السريع من عالم النوم إلى عالم اليقظة، وكيف يقفز المرء في مدة ثانية أو ثانيتين من فوق أجيال وعوالم عديدة مجهولة ليعود شيئاً فشيئاً إلى رابطته بالعالم الحقيقي، ويسترجع مركزه من هذا العالم في المكان والزمان، كل هذا يضطر الكاتب إلى تناسي قواعد البيان ليؤدي رسالة الفكر الصحيح. قضى بروست حياته في الأوجاع، وظهرت فيه أمراض عصبية قاسية وهو لا يزال ابن

تسع سنين، فكان يعيش من جرائها عيشة غريبة محجوبة، يجعل جدران غرفته من الفلين لأن أقل صوت يزعجه، وإذا سافر ونزل في فندق، يستأجر، علاوة على غرفته الخاصة، الغرف الأربع المحيطة بها من كل جهاتها حتى لا يسكنها أحد يقلقه بضجيجه! لا يستطيع احتمال النور ولا رائحة العطور. يسد النوافذ بسجوف كثيفة، ويهجر غرفته ليعرضها ثلاثة أيام متوالية للهواء إذا زاره فيها صديق في جيبه منديلاً معطراً. إن هذه الحساسية الدقيقة الشديدة أثرت في أدبه، وخلقت خاصة من أهم خواصه هي: إحياء الماضي بالإحساس الحاضر. كان بروست قد نسي أكثر ماضي طفولته وحداثته، ولم يحفظ منهما سوى خيالات مبهمة، ولطخٍ من النور مبعثرة على ظلام وسيع، فإذا به يذكر هذا الماضي بصورة قوية حية كأنه يعيش فيه للمرة الأولى، وكل ذلك لأنه أكل قطعة من الحلوى بعد أن أغمسها في كأس من الشاي، فأعاد إليه طعمها تاريخ سنين طويلة، ملأى بالحوادث طاجة بالإحساسات، لأنها ذكرته بنفس الحلوى المغموسة بالشاي التي كان يأكلها صباح كل أحد عند عمته في صغره. إن هذه النقطة فتح جديد في الفلسفة والأدب لأنها تبتكر طريق جديدة في التذكر بواسطة الحواس. فتذكر الماضي بواسطة العقل جامد ميت لا يوحي لنا شيئاً ولا يهز نفوسنا لأننا، كما يقول باسكال في الموت، نعلمه ولا نؤمن به، نشعر أنه غريب عنا ومنفصل عن شخصنا، كأنه عضو ميت في جسمنا لا نستطيع بتره ولا إحياءه! ولكنه يكفينا أن نسمع أنغاماً شاردة، أو يهفو نحونا عبير ضائع أو نذوق طعماً أو نلمس شيئاً، حتى نشعر بكل كياننا يرتجف، كأن برقاً اخترق داخلنا فأضاء فينا قسماً من حياتنا التي كنا حسبناها قد فقدت منا إلى الأبد، فإذا بها تعود إلينا بدمها وحرارتها، بأدق تفاصيلها. دخل بروست حياة الأدب وهو مسلح بقوتين بلغتا عنده أقصى حدودهما: الإحساس والذكاء. وقد رأينا إلى أي ابتكار قاده إحساسه العجيب. أما ذكاؤه فأوصله إلى عمق في التحليل لم يستهدف له كاتب قبله. مثلما غاص في بحر الماضي بإحساسه. انظر إليه كيف يغوص بذكائه: لماذا تردد عشيقته البرتين أبداً هذه الكلمة: أصحيح هذا؟ بمناسبة وبغير مناسبة؟ أتكون كلمة من جملة الكلمات التي يتعود الناس تكرارها دون أي قصد آخر؟ كلا، لأنها لو

كانت كذلك لرددتها البرتين بصورة آلية وبدون شعور بمعناها. ولكنها ترفقها بلهجة سؤال صادقة وبشيء من الغنج. أذن ماذا؟ أيبلغ النسيان بها أنها تحتاج الاستفهام والتأكد من كل ما يقال؟ غير محتمل. ولكن بروست يتغلغل في ظلمات ماضي عشيقته المجهول ويتصور زمناً كانت فيه البرتين عشيقة لغيره، وكان ذلك العشيق يقول لها: أتعلمين أني لم أر امرأة حتى اليوم تدانيك في الجمال أو أتعلمين أني أكن لك حباً كبيراً؟ فتجيبه بشيء من الدلال: أصحيح هذا؟، وتملكت منها العادة حتى غدت الآن تسأل نفس السؤال بنفس اللهجة لمن يقول لها: لقد غفوت أكثر من ساعة. يقول بروست: كل حياة فيها سر ومجهول تستهوينا، كي نهتك سرها ونعريها من جمالها. في هذه الفكرة خلاصة حياة بروست وأدبه. وهي أول صلتي وتعلقي به لأني قرأت فيها حقيقة نفسي المرة، وحقيقة كل نفس تضم بين جوانحها وحشاً هداماً، يجمع بين رقة الشاعر وقسوة الجلاد. ترى مثل هذه النفوس تعشق الحياة، تهيم بمظاهرها المتنوعة وألوانها الشتيتة، تثمل من أدق طعم لها وتهفو مع أخف نسائمها. ولماذا؟ ألحب الحياة المجرد ولتعبدها تعبداً صوفياً؟ كلا. بل لتهدم مظاهرها وبواطنها، لتحل ألوانها وتفسد طعمها، لتوقف الحركة، لتسلب الحياة من الحياة!. . . وحش هدام أو طفل ساذج قاس، هكذا أرى بروست، والحياة دمية أمامه لا يهدأ له روع إلا إذا فككها وهتك سرها وأرجعها أجزائها البسيطة، بعد ذلك، كالطفل أمام دميته المحطمة، يقف بروست أمام الحياة وقفة اليائس المشدوه! ويلذلي تشبيه فنان كبر وست بفاتح وحشي كجنكيز، يمشي على ملايين الجماجم والإطلال، ويجيل فيها نظرة انتقام أخرس وتشفٍ بلا سبب! لماذا أسال جنكيز من الدم أنهاراً؟ وهو نفسه لا يدري. لماذا أنهال بروست على أصنام الحياة فأظهر للملأ فراغها؟ إطاعة للفن الذي في نفسه. أفيكون الفن، وهو ابن الحياة، ابناً عاقاً بها؟ يحب بروست المرأة، فتراه يقترب منها وكله إجلال وعبادة. يحب امرأة، فيخالها تختلف عن كل النساء غيرها، يراها فياضة بالأسرار، غنية بالغرائب، ثم يتابع اقترابه منها، لا يزال يدنو خفيف الخطى كاللص، وفي كل خطوة يسرق سراً من أسرارها، يمزق برقعاً من براقعها، إلى أن يصحو لنفسه فلا يرى أمامه إلا امرأة عادية، لا يلوح لها فكر أو يبدو منها عمل إلا ويعلم كنهه وعلته، فينصرف عنها قانطاً لأنه لم يعد لنفسه فيها غذاء.

أولع بروست منذ صغره بالعالم الارستقراطي، لما يحيطه من الأسرار ويحول دون الوصول إليه من العقبات، وكانت طفولته قد نفذت من مطالعة أخبار هذه الطبقة وتاريخها العجيب، فغدا إذا لمح امرأة ارستقراطية مارة بمركبتها في الطريق أو جالسة على مقعدها في الكنيسة، ازدحمت مخيلته بكل الصور والقصص التي قرأها وحسب أن هذه المرأة تضم في شخصها، في القبعة التي تلبسها والثوب الفضفاض الذي تجرره وراءها، ثروة لا متناهية من العجائب والغوا مض تجعل منها كائناً فوق منزلة البشر. ظل هذا الشوق اللجوج يذكى خياله حتى استطاع دخول المعبد الارستقراطي، وهناك بدأ زحفه البطيء على فريسته، مازال يتحبب إلى جماعة الإشراف من رجال ونساء، يحضر حفلاتهم ويسايرهم في نزهاتهم، يصغي بتعبد لأحاديثهم ويشخص إلى حركاتهم وتحياتهم وشكل مشيهم وقعودهم، ينساب كالأفعى في مشكلاتهم الشخصية والعائلية، حتى انبرى بعد بضع سنين وهو يحمل في يده صك إعدامهم، لأنه أزاح عنهم القناع فإذا هم آلات مسكينة تسيرهم تقاليد حقيرة، فيخضعون لها خضوع النعاج، وإذا بتلك العظمة الظاهرية تستر فراغاً في النفس وجفافاً في الشعور. لقد رفع الكاتب لنا الستار عن العالم الارستقراطي فإذا بنا أمام مرسح تمثيل يلعب فيه الشريف الدور الذي تمليه عليه طبقته ولقبه، وينسى شخصه، بل يقتل شخصه من أجل دوره. انه دوق أو كونت قبل أن يكون إنساناً، إنه ومن قبل أن يكون حقيقة. فمهما بلغ حب ارستقراطي لشخص من غير منزلته لا يمكن أن يظهر له التقرب أكثر مما تسمح له قوانين طبقته. انظر كيف يحلل لنا بروست أشكال التحية عند الأشراف: إذا اضطرت مدام دي كورفوازيه أن تحيي شخصاً أدنى من طبقتها فإنها تحني نحوه رأسها والقسم العلوي من جسمها بمقدار زاوية 45 درجة. ولكنها لا تلبث أن ترجع هذا القسم العلوي من جسمها فجأة إلى الوراء بمقدار يقرب من المسافة التي انحنت بها في البدء كأنها تريد أن تسحب تواضعها الموقت الذي تظاهرت به أمام ذلك الشخص! على أن الرجال الارستقراطيين يعكسون هذه الخطة فيبدأون سلفاً بسحب ما سيظهرونه لك من احترام موقت: فالدوق دي غير مانت يبدو لأول وهلة عازماً على أن لا يحييك ثم يمد إليك ذراعه بكل

طوله كأنه يقدم لك سيفاً للبراز، ويده تبعد عنه إلى حد أنه تصعب عليك، عندما يحني رأسه، معرفة ما إذا كان يحييك أم يحيي يده! وهناك فلسفة غزيرة للتحايا: تحية الجمود الرفيع والإهمال السريع وتحية الذي تمتد يده لمصافحتك عندما يسمع اسمك، كأنها بالرغم منه دون أن يشاركها نظره أو أي حركة من جسمه. ثم تحية الدوشيش دي غير مانت التي تحيي الزائرين بأن تشع في عينيها لهيباً ذكياً فإذا كان ثمة حفلة عيد كبرى فإنها تشعل عينيها طوال الليل!. أدب بروست أوسع من أن يلم به كله في مقال. لذلك اقتصرت على بعض الخاطرات التي عرضت لي عند قراءته. وقد ألححت على نقطة لم ينتبه إليها أحد من نقاد هذا الكاتب وهي التأثير السلبي الذي يحدثه أدبه. فأسلوبه ليس أسلوب الإيحاء الذي يعطيك أكثر مما في محتواه بما فيه من موسيقى تغنيك فتفكر، تغنيك فتعمل، بل إنه لا يوحي لك شيئاً لأنه يقول لك كل شيء، بل ربما أوحى لك اليأس لأنه بذكائه العجيب قد استنفد كل معاني الموضوع فأتى على كل جهاته، ونزل إلى أظلم دفائنه، وحلق في أبعد أجوائه حتى تركه أمامك جثة هامدة. ولعل خير دليل على نظرتي هذه هو أن بروست بقي وحيداً فريداً في فنه، ولقد صرخت كاتبة انكليزية شهيرة، بعد أن أنهت قراءته، صرخة إعجاب ويأس: كيف يمكن للمرء أن يكتب بعد قراءة أديب كهذا؟! ميشيل عفلق

مائة نقلة

مائة نقلة من كتاب نقل الأديب وهي ألف نقلة مقتطفة من ألف كتاب مؤلفه محمد إسعاف النشاشيبي حق الطبع والنشر ونقل شيء من هذه النقل محفوظ أهدي مائة النقلة هذه إلى مجلة (الثقافة) 60 - قالوا مسيلمة، وهذا أشعب قال الثعالبي: قد تظرف من قال في كذب مسيلمة، وطمع أشعب وتقول لي قولاً أظنك صادقاً ... فأجيء من طمع إليك وأذهب فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلس ... قالوا: مسيلمة، وهذا أشعب 61 - انتظر حتى تجوع ببطن غيرك قال سهيل بن علي: كنت ألازم خير بن نعيم القاضي وأجالسه وأنا يومئذ حديث السن، وكنت أراه يتجر في الزيت فقلت له: وأنت أيضاً تتجر؟! فضرب بيده على كتفي ثم قال: انتظر حتى تجوع ببطن غيرك. فقلت في نفسي: كيف يجوع إنسان ببطن غيره. فلما ابتليت بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم. . 62 - كلنا ذلك الرجل قال الحوبي: قال الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي: رأيت بعض الفقهاء في النوم في رؤيا طويلة فسألني كيف حالك مع أهلك؟ فقلت إذا رأت أهل بيتي الكيس ممتلئاً ... تبسمت ودنت مني تمازحني وإذا رأته خلياً من دراهمه ... تجهمت وانثنت عني تقابحني فقال لي: صدقت كلنا ذلك الرجل. 63 - محتاج إلى عقل تام قال الأحدب الصوفي: سمعت مطار بن أحمد يقول: رأيت النبي في المنام فقلت: يا رسول

الله اشتهي لحية كبيرة. فقال لي لحيتك جيدة، وأنت محتاج إلى عقل تام. 64 - ليتنا نخرج منه كفافا سئل الشعبي: هل يجوز أن يؤكل الجني لو ظفر به؟ فقال: ليتنا نخرج منه كفافاً لا لنا ولا علينا. . . 65 - وآباؤنا أفعال غيرنا أتي ضرار المتكلم بمجوسي ليكلمه فقال: أبو من أنت؟ فقال: نحن أجل من أن ننسب إلى أبنائنا، إنما ننسب إلى آبائنا. فورد على ضرار ما لم يكن في حسابه، فأطرق ساعة ثم قال: أبناؤنا أفعالنا، وآباؤنا أفعال غيرنا. 66 - اسمه أبو العتاهية تكلم بعض القصاص قال: في السماء ملك يقول كل يوم: لدوا للموت وابنوا للخراب فقال بعض الأذكياء: اسم ذلك الملك أبو العتاهية. . . 67 - هون عليك رأى أبو الحسن بن فارس بعض أصحابه يفرط في الجزع على ثوب سرق منه فقال: هون عليك، فليس بقميص يوسف، ولا بردة النبي، ولا كساء أهل البيت، ولا ديباجة الوجه، ولا رداء الشباب. 68 - يخاف أن أعلم عليه قال الفتح بن خاقان: ما رأيت أظرف من ابن أبي دؤاد: كنت يوماً ألاعب المتوكل بالنرد، فاستؤذن له عليه، فلما قرب منا هممت برفعها، فمنعني المتوكل وقال: أجاهر الله بشيء واستره عن عباده، فقال المتوكل لما دخل: أراد الفتح أن يرفع النرد. قال: يخاف - يا أمير المؤمنين - أن أعلم عليه. فاستحليناه، وقد كنا تجهمناه. 69 - لقد صغرت عظيماً صغرك الله

سأل رجل خالد بن صفوان فقال: هب لي دنينيراً فقال خالد: لقد صغرت عظيماً - صغرك الله -. الدينار عشر العشرة والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف ديتك. . . 70 - ما جاء إليه أحد قال الزمخشري: قال مؤذن: حي على الصلاة، والناس يتبادرون إليه. فقال رجل: لو قال: حي على الزكاة ما جاء إلي أحد. . . 71 - أرقص للقرد في زمانه قال ابن خلكان: لما ولي شرف الدين الوزارة دخل عليه ابن القطان الشاعر. والمجلس محتفل بأعيان الرؤساء، وقد اجتمعوا للتهنئة، فوقف بين يديه، ودعا له، وأظهر السرور والفرح، ورقص. فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره: قبح الله هذا الشيخ، فإنه يشير برقصه إلى ما تقول في أمثالها أرقص للقرد في زمانه. 72 - وجدت ما استغنت به عنكم قال الراغب الأصبهاني: لما ضربت الدراهم والدنانير صرخ إبليس صرخة، وجمع أصحابه فقال: قد وجدت ما استغنيت به عنكم في تضليل الناس، فالأب يقتل ابنه، والابن يقتل أباه بسببه. . . 73 - علمني كيف صناعة الفضة قال رجل لآخر: إني أعرف صناعة الفضة، وأريد أن أعلمك ولكن احتاج إلى ألف درهم للآلات. فأعطاه فمضى ولم يعد. فقيل له: قد خدعك وكذب عليك. . قال: لا لأنه علمني صناعة الفضة أي أخذها، وكيفية الحيلة، فأن شئت أن أفعل مثله فعلت. 74 - فصلحت نيته لأهل دمشق قال أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي: في سنة (236) وثب أهل دمشق على نائب دمشق: سالم بن حامد، فقتلوه يوم الجمعة على باب الخضراء. وكان لما ولي أذل قوماً

بدمشق، لهم وجاهة ومنعة. فندب المتوكل لإمرة دمشق أفريدون التركي، وسيره إليها. وكان شجاعاً فانكا ظالماً. فقدم في سبعة آلاف فارس وأباح له المتوكل القتل بدمشق والنهب ثلاث ساعات فنزل أفريدون ببيت لهيا. وأراد أن يصبح البلد. فلما أصبح طلب الركوب فقدمت له بغلة فضربته بالزوج فقتلته فدفن مكانه ورد الجيش الذين كانوا معه خائفين. وبلغ المتوكل فصلحت نيته لأهل دمشق. 75 - فاستفدت التاريخ قال الفقيه المقري: أنشدت يوماً الإبلي قول ابن الرومي: أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه ... وبكحله الأموات والأحياء فإذا مررت رأيت من عميانه ... أمماً على أمواته قراء فاستعادني حتى عجبت منه، مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر وانفعاله، وظننت أنه أعجب بما تضمنه البيت الأول من غريب اللف والنشر المكرر الذي لا أعرف له ثانياً فيه. فقال أظننت أني استحسنت الشعر؟ فقلت: مثلك يستحسن هذا الشعر؟ فقال: تعرفت منه كون العميان كانوا في ذلك الزمان يقرؤن على المقابر فإني كنت أرى ذلك حديث العهد فاستفدت التاريخ. 76 - فأما البخاري وكافر فما سمعناه قال عبد الحي بن العماد الحنبلي: كان عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الكيلاني عارفاً بالمنطق والفلسفة وغير ذلك من العلوم الردية وبسبب ذلك نسب إلى عقيدة الأوائل. رأى عليه والده يوماً - وكان كثير المجون والمداعبة - ثوباً بخارياً فقال: والله هذا عجب، مازلنا نسمع (البخاري ومسلم) فأما البخاري وكافر فما سمعناه. . محمد إسعاف النشاشيبي

الكتاب والعالم

الكتاب والعالم للكاتب النمساوي شتيفان تسوايغ كنت في سفينة طليانية تتنقل بنا في البحر الأبيض المتوسط من جنوا إلى نابولي ومن نابولي إلى تونس ومن تونس إلى الجزائر. وكان مقرراً أن تدوم هذه الرحلة أياماً طويلة ولما رأيت السفينة تكاد تكون خالية من الركاب فقد اضطررت إلى الدخول في الحديث مرات عديدة مع أحد البحارة وهو شاب يعاون الخادم فيكنس الغرف وينظم الممشى ويقوم بما يشبه ذلك من الأعمال التي تعتبر حقيرة بين الناس. كان في مقتبل العمر يتدفق بهجة وسروراً يبهر منظره الناس ويستلفت أبصارهم بلونه الأسمر الجميل وعينيه السوداويين البراقتين وأسنانه البيضاء اللامعة. وكأن الشاب شعر بعطفي عليه واقتصار حديثي معه وحده من بين جميع البحارة فأخذ يسترسل في الكلام معي ولا يكتم عني شيئاً من الأسرار وهكذا لم ينقض يومان فقط حتى أصبحنا مثل صديقين أو رفيقين قديمين. ولكن على أثر حادث طفيف شعرت فجأة كأن سداً منيعاً ارتفع بيني وبينه. فقد كنا في مرفأ نابولي ثم غادرت السفينة بعد شحن الفواكه والخضر وأخذ الفحم والركاب والبريد وأصبحنا نرى السحب فوق بركان (الفيزو) من بعيد كأنها دخان سيكارة يتبدد في الهواء. وإذا بالشاب يقترب مني على حين غرة وضحكة سعيدة مرتسمة على شفتيه وأعطاني كتاباً استلمه، على ما يظهر، قبل برهة صغيرة في نابولي وطلب مني أن أقرأه له. لم أفهم في بادئ الأمر ماذا يقصد. وذهب بي الظن إلى أن (جوفاني) وصله كتاب بلغة أجنبية، بالفرنسية أو بالألمانية، وعلى أكبر احتمال من فتاة، لأنه كان طبيعياً أن يحظى هذا الفتى الجميل بعطف النساء وميلهن، فيظهر أنه يريد مني ترجمة الكتاب إلى الطليانية. ولكن لا. لقد كانت الرسالة بلغة (جوفاني) إذاً ماذا يريد؟ هل اطلاعي على ما جاء فيه فقط؟ كلا أجابني مكرراٌ قوله بشيء من الشدة والضجر، بل أرجو أن تقرأه لي لأسمعه. وفجأة أدركت كل شيء: إن هذا الشاب الجميل الذي يظهر عليه من الطبيعة العقل والأدب

واللطف لا يعرف القراءة فهو أحد الأميين الذين تقول الإحصاءات أنهم يبلغون 7 - 8 في المائة بين أفراد الأمة الطليانية. . أنه أمي. ولم أكن في تلك اللحظة أذكر أنني حادثت من قبل أحداُ من الأميين الذين يكاد ينقرض أثرهم في أوروبا. إن (جوفاني) هذا كان أول أوروبي صادفته لا يعرف القراءة، فلا عجب إذاً أنا نظرت إليه في تلك اللحظة بكثير من الاستغراب ولا غرابة إذا أنا لم أعتبره حينئذ صديقاً ورفيقاُ كما في السابق بل أعجوبة. على أنني بطبيعة الحال قرأت له الكتاب الذي كان مرسلاُ إليه من خياطة اسمها (مارية) أو (كارولينا) ولا يخرج مضمونه عما اعتادت الفتيات أن تكتبه إلى الفتيان في جميع البلدان وبكل اللغات. كان (جوفاني) أثناء القراءة لا يحول أنظاره عن فمي وكنت ألاحظ عليه آثار الانتباه الشديد ليلتقط كل كلمة، فكانت عضلات جبهته تتجمد وملامح وجهه جميعها تتوتر من الجهد الذي يبذله لسماع الرسالة وحفظ كلماتها بالتمام، وقد قرأت له الرسالة مرتين قراءة بطيئة، واضحة لئلا تفلت منه أية جملة أو كلمة فأخذ يظهر عليه الرضى والسرور المتزايد وبدأت عيناه تلمعان وانفرج فمه كأنه وردة تتفتح. ورأينا من بعيد أحد ضباط السفينة قادماُ فأسرع (جوفاني) واختفى لمتابعة عمله. هذا هو الحادث بتمامه. إنما لا يمكن تقدير أهميته إلا بعد سرد ما أعقبه في نفسي من التصورات ومعرفة ما جال في خاطري من الأفكار تحت تأثيره المباشر. فإنني لما بقيت وحدي اتكأت على مقعد طويل وسرحت نظري في سماء الليل الهادئ الرقيق، ولكن كنت أشعر أن هذا التصادف الغريب قد آثار نفسي في أعماقها وبعث فيها الشيء الكثير من القلق. أنها المرة الأولى التي التقيت فيها برجل أمي، هو فوق ذلك من الأوربيين تعرفت إليه قبل أيام فألفيته عاقلاً، ذكياً وتحدثت إليه كصديق ورفيق والآن أخذ أمر هذا الرجل يشغل بالي، لا بل يزعجني ويدفعني إلى التفكير في حل هذا اللغز ومعرفة كيف يتمثل العالم في مثل هذا الدماغ الذي لم تنطبع فيه آثار القراءة

لقد حاولت أن أتصور حالة من لا يستطيع القراءة وجربت النفوذ إلى نفس هذا الرجل، إنه يتناول صحيفة فلا يفهمها، ويمسك كتاباً فيحس به في يده كشيء أخف من الحطب أو الحديد، شيء مستطيل ملون لا فائدة له فيعود ويضعه مكانه دون أن يعرف ماذا يصنع به. . يقف أمام مكتبة فيرى هذه الأشياء الجميلة الصفراء والخضراء والحمراء والبيضاء بجلودها المذهبة ولا فرق عنده بينها وبين زجاجات العطور الملونة التي لا سبيل إلى استنشاق عبيرها من وراء البلور، أنه لا يستطيع أن يتصور البهجة العظيمة التي يمكن أن تنفجر فجأة من سطر واحد في هذه الكتب كما ينبثق القمر الفضي من السحب المظلمة الميتة، هذا المسكين إنه لا يعرف الرعشة التي كثيراً ما تهزنا إذا قرأنا وصف حادثة من حياة شخص يتخيله الكاتب فلا تملك أنفسنا من أن نعيش معه ونشاركه في مقدراته، فهو يعيش منفرداً كأن جداراً يحيط به لأنه لا يعرف شيئاً من الكتب ويقضي الحياة في ظلمة وجمود، وقد سألت نفسي كيف يمكن احتمال مثل هذه الحياة دون أن نختنق وكيف نستطيع البقاء دون أية صلة بالمجموع؟ كيف يمكن الصبر على عدم معرفة شيء سوى ما نبصره ونسمعه بالتصادف وكيف يمكننا التنفس دون استنشاق هواء العالم الذي يتدفق من الكتب؟ لقد حاولت بجهد متزيد أن أتصور حالة عدم معرفة القراءة وأتخيل موقف من لا صلة له بعلم الفكر وسعيت كثيراً لأتمثل في ذهني حياة مثل هذا الرجل كما يسعى العلماء بتنقيب آثار العصور الحجرية القديمة أن يتمثلوا معيشة الإنسان الابتدائي ولكنني لم استطع الرجوع بنفسي إلى ذهنية رجل أوروبي لم يقرأ كتاباً أبداً وتيقنت استحالة ذلك وإنني في هذه الحالة لا فرق بيني وبين أصم يحاول تصور الأنغام الموسيقية. . . على أنني بعد أن عجزت عن فهم ذهنية الرجل الأمي رأيت أن أحاول تصور حياتي الذاتية منفصلة عن الكتب، فبدأت أسعى للتجرد ساعة عن كل ما اقتبسته من الكتب ولكن منذ أول الأمر تيقنت من استحالة ذلك لأنني رأيت أن ما أسميه ذاتي وما يتكون منه مفهوم (الأنا) سوف يذوب ويتحلل ولا يبقى منه شيء أبداً أذا حاولت تجريده من جميع ما اقتبسته عن الكتب من علم وتجربة وقوة وعاطفة ومن معرفة بالعالم وشعور بالذات أي شيء حاولت أن أفكر فيه كنت أرى الذكريات والتجارب التي استفدتها من الكتب ترتبط به وكل كلمة تخطر لي كانت تثير بالتداعي مالا يحصى من آثار القراءة والتعليم، إذا فكرت مثلاً

أنني أسافر الآن إلى الجزائر وتونس فإن ألافاً من الأفكار تتداعى بسرعة البرق وتتبلور حول هاتين الكلمتين فأتذكر قرطاجنة وعبادة (بعل) وسالامبو والمنظرة التي يصف فيها المؤرخ ليفيوس تلاقي سيبيون مع هانيبال في (زاما) ومرت أمام مخيلتي الصورة البديعة التي رسمها (دولاقروا) ووصف رائع لتلك البلاد في كتب (فلوبير). وغير ذلك آلاف التفرعات التي قامت حية في ذاكرتي ومخيلتي بمجرد تلفظ كلمتي تونس والجزائر - لقد تذكرت البلدتين منذ آلاف السنين والحروب التي قامت فيها وتزاحمت علي جميع المعلومات التي كنت قرأتها وتعلمتها منذ أيام الطفولة. حينئذ عرفت أن من يقتبس ما في الكتب من تجارب غيره ويتعلم ما تشرحه من أحوال جميع البلدان والعصور والأجيال هو وحده الذي يحصل على نعمة الإحاطة بالعالم في فكره ويمتاز بهذه القدرة النادرة، العجيبة التي تجعله يشرف على الكون من جميع الجهات وقد شعرت بقشعريرة عندما تصورت عكس هذه الحال إذ يضيق العالم وتنحصر حدوده في نظر من لا علاقة له بالكتب. تذكرت مواقف حاسمة من حياتي كان لما قرأته في الكتب من الآراء أكبر الأثر فيها وخطر لي كثير من الساعات الماضية التي انقطعت فيها إلى قراءة بعض الشعراء القدماء فكانت هذه الساعات أثمن وأعز لدي من بعض الاجتماعات بالأصدقاء والنساء، وكلما أمعنت في التفكير ازداد يقيني بأن عالمنا الفكري يتألف من ملايين من الذرات التي تبقى من انطباعاتنا المتوالية وأن عدداً صغيراً جداً من هذه الذرات يرجع وحده إلى تجاربنا ومشاهداتنا الخاصة بينما جميع القسم الأخر وهو المجموع الذي عليه العمدة إنما جاءنا من الكتب، مما نقرأه ونتعلمه. وكل من انكشفت له هذه الحقيقة وعرف قيمة الكتابة والقراءة وأهمية التفاهم الفكري بمعناها الواسع، لابد أن يبتسم ساخراً من الخنوع والذل الذي استولى اليوم على الكثيرين من أصحاب القلم والفكر. فهم يبثون الشكوى من أن عصر الكتب قد انقضى وأن السيطرة الآن للصنعة والاختراعات الفنية ويقولون إن الغراموفون والسينما الناطق والراديو قد أخذت تزاحم الكتاب في نقل الكلام والأفكار بصورة أدق وأسهل ولذلك ربما لا يمضي زمن حتى يفقد الكتاب أهميته في الحضارة ويصبح من الآثار التاريخية.

ولكن ما أقصر مثل هذا النظر وما أضيق مثل هذا الفكر! هل استطاع العلم والفن الصناعي منذ آلاف السنين إيجاد شيء يفوق اختراع الكتاب، بل يضاهيه؟ فإن الكيمياء لم تكتشف مادة مفرقعة تقرب من الكتاب في تأثيره البعيد المدهش، ولم تصنع من صفائح البولاد والشمنتو المسلح ما يزيد في المتانة والبقاء على هذه الحزمات الصغيرة من الورق المطبوع ولم يتوصل الفن إلى إبراز شعلة كهربائية يضاهي نورها ما ترسله بعض المجلدات من أنوار. ومن الصعب أن نقايس بين أعظم التيارات الكهربائية الصناعية وبين الهزة التي تعتري النفس عند تماسها ببعض الكتب. ليس من خوف من جانب الصناعة والفن على الكتاب الذي لا يبيد ولا يبلى ولا يتغير على ممر الأيام والذي يجمع أعظم قوة ممكنة في أصغر وأبسط حيز ممكن بل أليس الصناعة الفنية نفسها إنما يمكن تعلمها وتطورها وتقدمها بالكتب؟ فالكتاب هو كل شيء ليس في حياتنا الخاصة فقط بل في جميع الأمور وهو المبدأ والمنتهى في كل معرفة وعلم. كامل عياد

التربية الفرنسية والثقافة العربية

التربية الفرنسية والثقافة العربية للأستاذ غابريل بونور تتمة تعريب الدكتور كامل نصري أذاعت البعثة الأمريكية، التي انتدبتها جامعة كولومبيا برئاسة الأستاذ مونرو لدرس مناهج التربية العامة في العراق ونقدها وإعداد خطط لإصلاحها، نتيجة تتبعها واستقصائها سنة 1922. فجاء هذا التقرير شديد اللهجة نحو أصول التربية الفرنسية. أبان واضعه آثار النفوذ الفرنسي التي ظلت مسيطرة على التعليم الرسمي العراقي، مبدياً أسفه وملاحظاً أنه تراث النظام المدرسي العثماني. قال البروفسور مونرو: إن جميع وصايانا مستوحاة من أساليب التربية الآنغلو ساكسونية التي تسلك طريقاً أكثر حرية وأكثر خدمة لنماء الشخصية، بخلاف قواعد التربية اللاتينية التي تنهج منهج الشدة والتقيد بالظواهر. وفي موضع آخر نقد برنامج التدريس الابتدائي والأولي الذي هو أكثر شبهاً ببرامج أوروبة الغريبة منه بالبرامج الأكثر حرية والأقل شروطاً المستعملة في جهات كثيرة من الدول المتحدة الأمريكية وفي روسية السوفيتية وفي بعض أنحاء ألمانية والنمسة وقد ورد الجواب على هذا النقد فوراً من قبل مرب ذي مواهب فائقة ومقام سام ليس في العراق فحسب، بل في سورية أيضاً، حيث خلف لفيفاً من معاونين قدماء وتلاميذ أنصار، وهو ساطع بك الحصري مدير معارف العراق الأسبق الذي دافع عن صنيعه باثنتي عشرة رسالة، كان لها دوي عظيم في الأوساط التربوية السورية. وبها طرحت في دمشق قضية غايات التربية ومناهجها على بساط البحث، في زمن كان يعني فيه بإدخال إصلاحات هامة على التنظيمات المدرسية. إن روح التربية الفرنسية العقلية السائدة في تعليمنا التقليدي ذات صلة وثيقة بجوهر الثقافة والذهنية العربيتين، فلا يسوغ أن تعتبر في الشرق غير ملائمة وغير مثمرة: وفي الحقيقة يرى فيها الشرقيون روحاً تنطبق على روح عرقهم. إذ أن إيمان الفرنسيين الراسخ بلغتهم التي هي ثروة الفكر والجمال، وثقتهم بالنصوص الممتازة المقروءة جيداً والمحللة جيداً، يعرب عن كافة الأصول وعن مستقبل مصير الحياة الفرنسية وعن الخصائص

العقلية والبديعة الكائنة في تعليمنا الثانوي الذي يجمع أبداً بين الجمال والحقيقة باعتبارهما غير منفكين، وهذا هو الذي يسر أفئدة الأقوام الشرقية وينفذ إلى أعماق عواطفهم. فالشرقي رجل لم يولد أمس، فهو يغتاظ عندما يسمع القول، باسم النفع والفائدة العلمية، إن الأدبيات القديمة في التعليم العربي جوفاء لا تعبأ إلا بالظواهر. لأنه يشعر بأنها على عكس ذلك ممتلئة وغنية، ويحس كالفرنسي المتوغل باللغات والأدبيات القديمة، بميزة عظيمة في شرح النصوص القديمة الكبرى. فرحمة باللغة الوطنية التي تمنح معرفتها الدقيقة الأفكار الفردية كل النبل المندمج في حضارة قديمة العهد! وليس هذا تقديساً للكلمة، بل إيماناً بأن جميع أسرار الأجيال القديمة والعرق ماثلة في الصيغ اللفظية وينكشف عنها الحجاب لمن يتقن القراءة حقيقة. ولن يتسنى يوماً للشعوب العربية أن تحظى بثقافة أوروبية أخرى تتفق مع غرائزها الأصلية وتلقى هوى خلابا من نفوسها بدرجة هذا النوع من الثقافة. ومن المعلوم أن أرقى الأفكار في سورية تستأنس بالثقافة العقلية القديمة بكل سهولة أي بثقافة تطلق الحرية وترفع الشأن مستندة إلى الكنوز القديمة. وهذه الثقافة تصلح لصوغ رجل العقل والرجل العالمي، وليست أقل شأناً من ذلك في غرس حب الوطن فيه، إذ يرى صورة نفسه، أبان مطالعة الآثار النفيسة في لغته، وهو وارث حضارة روحانية مستقلة. إن هذه الخاصة المزدوجة تتفق تماماً مع أماني الشعوب العربية، أي مع شغفهم الخاص في إنماء العقل وحاجاتهم الحالية المبرمة إلى تحقيق مراميهم الوطنية ومع التناوب بين الفكرة العالمية والفكرة الخاصة الذي هو أحد الأوصاف المميزة الثابتة للروح السامية. ففي دمشق، كما في بغداد، يكره العربي مبدأ الحرية السابقة لأوانها، الذي قد يكون ممتازاً لإخراج اختصاصيين ولكنه لا يصلح لتثقيف ما هو جوهري في الإنسان. إن روح تعليمنا الثانوي تتلاءم هنا مع إحدى خصائص التربية التقليدية العربية، التي كانت تعد الطفل لحياة اجتماعية ودينية بجعلها لغة القرآن موضوعاً درسياً أساسياً لانسجام الأفكار في العالم الإسلامي. بيد أن ميولاً حديثة أخذت تنمو في الحال الحاضر. فيرغب أن يكون طفل اليوم أحد أفراد وطن يندمج بعضه في بعض غداً. وحقاً، لا يرجح شيء على درس لغة الأم بتعقل وإمعان، من أجل إيقاظ الشعور الوطني، فهي ذخر مشترك وزبدة قرون وثمرة

أصول وهبة قرائح وابتداع الجميع معاً وكل فرد على حدة. لقد لاحظت مرات شتى انعقاد تعاضد طبيعي بين سوريين وفرنسيين، عندما ينقد التعليم النفعي خصائص درس الأدبيات البيانية والأدبية والاصطلاحية مستنكرين خطتنا العقلية التقليدية وخطة المدارس العربية التقليدية معاً. وحينما يعرض على الشرقيين تطبيق الطريقة النفعية، التي تستهدف بالدرجة الأولى إعداد فنيين عمليين، فإنهم يسيئون الظن بمن يعرض هذه الطريقة ويخيل لهم أنه يرمي من ورائها إلى إدامة استعباد الشرق وعلى عكس ذلك يشعرون بأن في مناهج تعليمنا مزية إنماء الاستعداد لبلوغ الحقيقة وقوة الحكم المستقل الجريء في كل فرد وهو أول وأنقى أنواع التحرير. قال كاتب شاب حديثاً في بيروت أن ثمرة حرب المارن في نظر الشرقيين هي السماح لهم بالاحتفاظ بديكارت. ومع ديكارت جميع أدبياتنا القديمة وجميع مناهج درسنا والبديعية التي يصبو إليها الشرق بشغف خالص عميق. إن حب الوحدة الشديد ومذهب الخيال المجرد اللذين توحيهما الآثار الفرنسية الكبرى يلائمان ولا ريب الميول الأساسية للروح العربية. هوى الوحدة والخيال المجرد. ويمكن أن يستساغ القول من غير أن يستغرب. أن روايات راسين التمثيلية مثلاً التي قليلاً ما تستطاب من قبل الأجانب، ألفت لتلقى هنا شعباً متأهباً للشعور بالصفاء النقي والنبل الفردوسي. ولذا يتراءى لي أن منهاجنا في الثقافة العقلية القديمة يلائم هذا القطر كل الملائمة. وهو الذي جعلنا أبداً معلمين للشعوب الحرة، وقد عهد إليه بتمثل الدور نفسه في شعوب الشرق الفتية. على أنه يجب الحذر من أن لا تستهدف تربيتنا سوى الرجل النظري، بتوجيهها جل عنايتها نحو الرجل الخيالي. فسواء في أوروبة والعالم الجديد أو في آسية يزداد اهتمام المربين يوماً فيوماً بالتتبعات التي تستقصى في مؤسسات التربية وبالجهود المبذولة في سبيل استقراء المبادئ لتربية حديثة، من عالم أساطير الأطفال وألعابهم، تكون أكثر ملائمة لحاجات العروق الخاصة والشعوب والبيئات الاجتماعية، لأن هذه التربية الحديثة أكثر عناية بإيقاظ الخصائص الفردية وإنمائها. إن معالي ساطع الحصري ينتسب إلى نفس المذهب الذي يخضع إليه المربون الحديثيون في الجمهورية الصينية، باعتباره الطفل

مركز التربية شأناً وغاية، بدلاً من أن يعتمد على تنمية ما في الطفل من خصائص الراشد. فعوضاً عن أن يعبأ بتقوية عقله وصحة حكمه قبل الأوان، يعنى بإنماء قابليته للعمل الحر وتخيله التلقائي وإرادته العفوية والخصائص الغريزية من حساسيته. وباتقاء التقاليد التي تبغي إنماء مواهب الطفل الفكرية كالراشد وبنبذ وسائل الضغط والشدة، يعتقد بأنه يمكن أن يطلق العنان لقوى التشبث والابتكار التي تساعد الطفل عندما يبلغ أشده أن يعرب، في البيئة التي يعيش فيها، بوضوح جلي عن الفكر الخاص الذي يمتاز به عرقه وتقاليده. وعندما يراد تنظم برنامج تربية لأجل المشاريع الفرنسية في قطر عربي، لا يسوغ إهمال الثمرات المقتطفة في الشرق من هذه المناهج التي تكافح الثقافة العقلية القديمة، انتصاراً لثقافة تباينها مستوحاة أحياناً من أسلوب خيالي حديث. وكثيراً ما تتراءى تقاليدنا القديمة لدى الشعوب الحديثة في أسيا مكفهرة بالية في نظر المربين العصريين الذين اجتذبهم علماء الاجتماع والتربية الحديثان. وهم يوقعون من غير ما تردد على حكم كالذي يلي مقتبس من تقرير مونرو: لابد من تكامل فردي أكثر حرية، لنماء المبادئ الوطنية الجديدة في العراق بصورة حرة وسريعة. إن لهذه المناهج في التربية الجديدة، المطبقة على حالة الفرد الواقعية، من شؤون نفسانية عميقة أو استعدادات أساسية، اعتبارين في التربية: أولهما سلطة العلم الذي يوصي بها، وثانيهما، العاطفة الوطنية التي تروج استعمالها. فينتظر منها، أحياناً بسذاجة وأبدا بقناعة تحض على حسن استثمار رأس المال البشري. تحقيق تام، مبتكر وقوي لفرد وطني. ماذا يستخلص من هذه الملحوظات السريعة؟ أولاً: لا يجوز لنا أن نجحد صيغ الفكر الفرنسي التقليدية، بل يجب أن يبث هنا ما في تربيتنا التقليدية من مبادئ سامية نقية، وأن لا يتظاهر الفرنسيون بأن إيمانهم بالمنهاج الفرنسي أضعف من الأجانب، وأن لا يتناسوا ديكارت في الوقت الذي يشكر الطلاب اللبنانيون والسوريون في تجهيز بيروت جنود المارن على صنيعهم لأنهم احتفظوا لهم (بالمقال في الطريقة). ثانياً: يجب أن لا ندع مجالاً لأن توجه إلينا الملامة بأنا لا نهذب سوى الفكر. فقد صرح اللورد قبل الحرب بهذا الحكم الجدير بالتأمل، مشيراً إلى النتائج التي اكتسبها الهنود في

المدارس الانكليزية: لقد ثقفنا عقولهم من غير أن نهذب سجاياهم. فبجانب هذا التتبع العلمي والأدبي الذي يمنح الفكر أسمى وضع وأعظم دقة، يترتب علينا أن نتدبر كيف نستثمر هذه التربية التي تنمي الخصائص الفردية وحرية الإدارة لدى الطفل. والشرقيون يبالغون بمكانة العقل لدرجة أنهم يدعون غالباً قوة الشخصية تتضاءل في سبيل الفكرات. وكثير منهم من يشعر بذلك ويرغب لولده تربية تقوم على القوة والنظام، ثم يجب أن لا ندع الاعتقاد يسود أن تربيتنا تؤسس على نفسية عامة جداً أو على نفسية فكرية خالصة وبسيطة وأن جل ما أتمنى رؤيته مطبقاً بمقياس واسع في مدارس لبنان وسورية التجهيزية هو: حدائق أطفال منظمة حسب أحدث الأساليب العصرية وصفوف ابتدائية مؤسسة وفقاً لمبدأ العمل الحر ورقي واسع للتربية الجسمية وألعاب وتمارين رياضية مفيدة حتى يتسنى لنا أن نضيف إلى مزايا طريقة الثقافة العقلية القديمة، التي لا ينكر فضلها، قوة فعل المناهج الحديثة التي ترى فيها الشعوب الشرقية الآخذة بالنهوض ثانية إمكان إعداد شخصيات متينة تلائم حضارة تبعث من جديد. غابريل بونور

القارة المفقودة

القارة المفقودة للأستاذ صادق النقشبندي كتب الكولونيل (جيمس شيرشوار) الضابط بالجيش الانكليزي وهو أحد المشتغلين بعلم الآثار يقول أنه عثر في الهند على (125) صفيحة عليها كتابات قديمة وأنه ترجم هذه الكتابات بمساعدة بعض علماء البوذيين واستخلص مما حوته أن مهد البشرية لم يكن في العراق ولا في الأناضول كما كانت العقيدة السائدة قبلاً بل في قارة كانت على خط الاستواء تدعى (مو) وهي في الأفيانوس الباسفكي قبل (15) ألف سنة وزاد على ذلك أن الكتابات التي عثر عليها تشير إلى أنها كانت آهلة تماماً قبل (13) سنة ومما قاله الكولونيل المذكور في مقاله عن هذه الاكتشافات أن حضارة مملكة (مو) كانت أعظم من جميع الحضارات التي عرفها البشر فيما بعد فقد كان لأهلها قبل (13) ألف سنة اختراعات ذهب سرها مع الزمن وكانت جيوش (مو) مجهزة بطيارات كبيرة تسع الواحدة منها (20) جنديا وتسير بمحركات بسيطة مستخدمة لقوى الطبيعية التي يسعى العلم الآن إلى الاستفادة منها في هذه الأيام وقد جاء في الكتابة المكتشفة أخيراً أن القائد (رمنسدر) من قواد حكومة (مو) طار من عاصمة سيلان إلى الهند الشمالية دفعة واحدة وأن جنوده كانت مجهزة بأسلحة نارية وأن البارود كان معروفاً في ذلك الحين ولكن وقوع زلزلتين إذ ذاك دمر تلك القارة وابتلعت مياه الاوقيانوس سكانها وقصورها ومدنها وآثارها. أما أسباب الزلزلة فقد وصفت في الكتابات القديمة التي اكتشفها الكولونيل المذكور كما يلي: كانت قارة (مو) تحتوي على تجاويف مملوءة غازاً وإنه بركان فانفجرت النار في هذه التجاويف ونسفت القارة إلا بعض أنحاء منها تعرف اليوم باسم جزر هاواي. وقد زعم بعض العلماء بأن جزيرة ماداغسقار والهند واستراليا كانت متصلة بعضها مع بعض وبينها قارة تسمى (ليموريا) ويجب أن تكون هي (مو) التي سبق الكلام عنها. وهذه القارة غارت بطغيان البحر عليها ويؤيدون زعمهم هذا بعدة براهين من جملتها وجود نقوش على بعض صخور جزيرة (يستر) وهي جزيرة في الأقيانوس الباسفكي على بعد (2400) ميل من غربي سواحل أميركا الجنوبية نعثر فيها على مئات من النقوش والتماثيل المتقنة الصنع تمثل رؤوساً بشرية لا يفوقها في دقة الصنع أجمل تماثيل اليونان القدماء وفي تلك الجزيرة الصغيرة أيضاً دلائل كثيرة على

حضارة بائدة وأهالي هذه الجزيرة اليوم لا يتجاوز عددهم بضع مئات يتناقلون قصة الطوفان أباً عن جد. أما جزيرة ماداغسقار التي لا تبعد عن سواحل أفريقيا أكثر من (300) ميل فإن بين حيواناتها وحيوانات قارة أفريقيا بونا شاسعاً وهي موطن حيوانات كثيرة لم تكن في موضع آخر من العالم ومنها الزحافات الهائلة من فصيلة الضب وعدا هذا الاختلاف الظاهر بينها وبين أفريقيا فأنها تشبه قارة آسيا بعض الشبه في حيواناتها رغم بعد الشقة بينهما وقد حاول بعضهم تعليل ذلك بقوله: إنه كان في الحقب الغابرة قارة في الاقيانوس الجنوبي تتصل بآسيا وقد أطلقوا عليها اسم (ليموريا) أي بلاد الليمور وفيها نشأ هذا الحيوان أي تلك الزحافات الهائلة وبتمادي الأحقاب غارت ليموريا في قاع الاوقيانوس وبقيت فصيلة الليمور في جزيرة ماداغسقار. وذكر أحد العلماء حديثاً عن القارة المزعومة أن بعثة برياسة السيد (جون مري) قامت تنقب في بحر العرب فاكتشفت سلاسل من الجبال تغمرها مياه البحر ومناطق غربية وتدل الحالة العامة للمنطقة الممتدة بين خليج عدن والشاطئ الهندي على قاع البحر كان فيما مضى منطقة أرضية كبيرة فيها واد عميق كان حوضاً لنهر يدعى (اللابراهم) الذي كان يجري في الهند من الشمال الغربي وستساعده هذه التنقيبات والنظريات لمعرفة شيء عن القارة المفقودة التي يطلقون عليها اسم (ليموريا) وعلى ذكر هذه القارة المزعومة أقول أن كثيراً من الكتاب والمؤرخين يعتقدون أن جغرافية العالم القديمة كانت تختلف عن جغرافية هذا الزمن وإنه كان ثمة قارات وبلاد ضاعت لأن مياه البحر طغت عليها. ومن ذلك قارة (آتلنتيس) وقد أشار إليها أفلاطون قديماً وكان الأقدمون بوجودها وراء أعمدة هراقليوس في المحيط الأتلانتيكي ويزعمون أنها من قارة آسيا ولا يزال بعضهم يعتقد ذلك ولعل ما يكشفه الزمن وتميط عنه الستار الأيام يشفي الغلة ويذهب ظمأ المتشوقين لمثل هذه المباحث ويخطو العلم في طريق حلها خطوات واسعة تقربنا من الحقيقة. محمد صادق النقشبندي

حكمة غندي

حكمة غندي أو طفولة المهاتما اقتبست هذه المقالة من كتاب قيد الطبع للكاتبة اليونانية (البنى ساميوس) تصف فيه حياة المهاتما غندي المقدسة بأسلوب شعري جميل لا أزال أذكر وجه أمي الكئيب المطرق فوق سريري. فقد كان على جبهتها دائرة تلمع كأنها كوكب خافق في الظلام الحالك. وكان من عادتها أن تنهض من النوم قبل الفجر، وقبل أن يستيقظ أحد من الناس. فتقف كسائر النساء الهنديات، صامتة واجمة مفكرة، مدة نصف ساعة، كأنها تخشى أن تعكر سكون الصبح. وكانت مولعة بزينتها فإذا انتهت من ذلك عانقتنا وطلبت من كل واحد منا أن يردد في نفسه. إنني حر، إنني شجاع، إن لساني لا ينطق بغير الحقيقة لم تكن سني تتجاوز الرابعة يوم كنت أقول: لا أريد أن أضر أحداً، أريد أن أتعود فعل الخير. لقد علموا والدتي يوم كانت صغيرة كثيراً من الأشياء التي يعلمونها اليوم لأخواتنا. لقد علموها أن تمشي رويداً فإذا مشت كتفت وخطرت في مشيتها بلطف كما تخطر اليمامة، ولا أذكر أنني سمعت خطواتها أبداً. لم تفارق الابتسامة شفتي والدتي أبداً، فكانت كثيرة الصبر، لا تعرف التعب وما كنا نسمعها تفتح أو تغلق باباً، ولولا صلصلة الحلي فوق ثوبها الفضفاض لما كان أحد يشعر بمرورها أبداً. كان النساء يلتقين كل يوم في الساعة الثالثة بعد الظهر في صحن المعبد الكبير. فإذا انتضد عقدهن في ظلال الشجر تحدثن عن كل ما جرى معهن في النهار، ثم أغرقن في الضحك والثرثرة، ولا يعدن إلى سكونهن وتأملهن إلا بعد سماع جرس الكاهن، وإذا قرع الجرس قرأ الكاهن بصوته الحزين بعض ملاحمنا المعروفة، ثم تبعه الناس مرددين ما يقول بصوت غضٍ خفي لأنهم كانوا يحفظون تلك الملاحم غيباً.

آه. كم كنت أحب سماع هذه الأناشيد. لقد كانت نفسي معجبة بهؤلاء الأبطال الذين لا يغلبون والذين توصلوا بشجاعتهم إلى التغلب على قوى الشر فغلبوا تارة ملك الحيات وأخرى ملك القردة. وكنت أحب أن أنظر من قريب إلى الفقراء والحجاج الذين كانوا مقيمين في صحن المعبد. ولقد صادفت الحكمة غير مرة تحت أثوابهم البالية. لا أزال أذكر رجلاً من هؤلاء الفقراء المتسولين. فقد كان طويل القامة صلب الوجه، لأن الشمس والأمطار قد جعدت غضونه ولكن الشرف المتدفق من عينيه وملامحه المتسقة كانت تدل على أصله الشريف دلالة واضحة. لقد أدرك سكان مدينتنا حقيقة سره لأن غضون جبهته لم تكن تخفى عن الناظر إليها إن صاحب هذه الجبهة المتجعدة شريف النسب قد هجر ثروته وأولاده ليكسب بهذه الحياة البسيطة الحكمة السامية. لقد كان لهذا الفقير صوت جميل، وكنت اسمعه ينشد على قيثارته قصائد أحسن شعرائنا: نحن نهيم منذ طلوع الفجر على وجهنا سائرين دائماً إلى الأمام لا نقف إلا حينما يخيم الظلام ويزول النور، صديق الجميع. نحن أولاد القدر الأحرار مالنا وللثروة وللعظمة والقوة والمجد والسلطان قد يهبنا الدهر منزلاً أو ثياباً وقد يحرمنا منها. وقد يهبنا خبزاً أو ذهباً وقد يحرمنا من ذلك كله. أما نحن فلا نتغير

بل تبقى قلوبنا سعيدة. الدهر أشبه بالعاصفة الهوجاء والمستقبل زهر لم تنشق عنه أكمامه ليت شعري هل نحيا لنجني ثماره نحن نسير دائماً متجمعين لا نخاف من شيء حاملين عصا الحرية في يدنا تائهين حائرين من بلد إلى آخر حتى نصادف الليل الذي يوصل الملوك كما يوصل الفقراء إلى نهاية أسفارهم كلها ما أعظم اللذة التي كنت أشعر بها عند سماع هذه الأنشودة الحماسية. تعلمت من هذا الفقير أسطورة جميلة وذلك أنه لما كان ذات يوم واقفاً في الطريق تجمع حوله أولاد المدينة وأخذوا يسألونه قائلين: - ماذا يجب على الإنسان أن يفعل إذا أراد أن يكون صالحاً؟ فأجاب الحكيم: - أيها الأولاد، كان فيما سلف من الزمان رجل حكيم فاضل قضى حياته في إقامة الصلاة وفعل الزكاة فلما جاءه هادم الحياة صعدت روحه إلى السماء فوجدت باب الجنة مغلقاً. فطرقت الباب حتى سمع الله صوتها - وكان واقفاً وراء الباب - فقال لها: - من الطارق فقال الرجل الصالح: - أنا أيها السيد افتح لي باب جنتك فأجابه الله: - أنك لا تستطيع الآن أن تدخل الجنة، عد إلى الأرض ولا تأت إلي إلا بعد أن تجد

الحكمة العلوية. فرجع الرجل الصالح إلى الأرض وعاش فيها مرة ثانية، وتصدق بكثير من أمواله على الفقراء، وزار كثيراً من المعابد والأماكن المقدسة فلما جفت ذبالة حياته أخذ لدخول الجنة أهبته. فقال له الله من جديد: - من هذا؟ قال الرجل الصالح: - أنا أيها السيد افتح لي باب جنتك. أنا، أنا ابنك الصالح، لقد عدت من الأرض. فقال الله: - والآن أيضاً لا تستطيع أن تدخل الجنة، ارجع إلى الأرض ولا تعد إلا بعد أن تجد الحكمة العلوية. فرجع الحكيم مرة ثالثة إلى الأرض وهجر منزله وزوجته وابنه الوحيد واعتكف في الحج زماناً طويلاً للبحث عن الحكمة العلوية فوجد الحقيقة بالتأمل والاتحاد ثم انقضت الأعوام أثر الأعوام واظلم سراج حياته فحمل عصاه وصعد إلى السماء وقرع باب الجنة. فسأله الله من وراء الباب من أنت؟ فقال الرجل الصالح: - أنت، أنت أيها السيد، أنت أما أنا فقد نسيت نفسي، وأتحدث بذاتك فقال الله: - أدخل يا بني، الآن عرفتك ثم فتح له باب الجنة. لقد كانت حياتنا نحن الشرقيين في الأزمنة الماضية جميلة جداً، لأننا كنا في غنى عن هذا الوحش الضاري الذي يسمونه الآلة. وكنا نجد من الوقت متسعاً للتأمل، فنفكر في الصباح والظهر والمساء، عند اشتداد الحر في ظلال الأشجار أو في صحن دارنا الصغيرة. وكثيراٍ ما كنا نغني ونحن بقرب المغزل أو عندما نحرث الأرض فنعمل بنشاط وفرح

رافعين نفوسنا نحو الجمال والحقيقة. وكان أخواتنا ينسجن ضفائر الزهر ويعلقنها في قرون البقر. لم يكن معنى الزمان في بلادنا كما هو عند الأوروبيين في أيامنا هذه. لم يعلمنا حكيم من حكمائنا هذا المبدأ اللعين القائل: الزمان من ذهب. لأننا لا نحب الذهب ولا نريد أن نضحي بالزمان في سبيله. العمل عندنا هو إبداع الجمال، ورفع النفس إلى الأفق الأعلى حيث تقيم الآلهة. لما كنت صغيراً ذهبت مع والدي ذات يوم لرؤية الأولاد الصغار الذين يحتفلون بهم لاعتناقهم حرف والديهم. لا أزال أذكر أن الولد ذهب قبل كل شيء إلى النهر واغتسل فيه ليجعل جسده نقياً كنفسه، ثم جاءت به والدته إلى الهيكل حيث كان والده وعقلاء القرية ينتظرونه حول النار المقدسة فسأله أبوه إذ ذاك قائلاً: - هل تريد أن تعتنق مهنتي وتحافظ على أسمي، هل تريد أن تصبح حداداً فتمتم الصبي قائلاً وهو مضطرب: - نعم يا أبتاه ثم أقسم قائلاً: - أقسم بالنار وبوالدي، وبالله الحي القيوم أنني أرغب في أن أكون حداداً وأريد أن أبدع للناس كل جمال وخير. ثم عرفه بالأدوات التي رافقته في أيام الإنتاج بأمانة وإخلاص، فتقرب الشاب من هذه الأخوات الصغيرة على الملقط والمطرقة والمنفخ وقميص الجلد وعانقها بحنان كأنه يعانق أحياء ثم أتم قسمه قائلاً: - أقسم أنني سوف لا ألوث هذه الأدوات، وأشهد أنني لا استعملها إلا لإبداع الجمال والخير. لقد مر بي زمان كان فيه النساجون يصنعون شالات الكاشمير ويعدون لذلك من رجال الفن كالنقاشين والمصورين. فكانوا يصفون المبتدئين حول المغزل فيمسك هذا خيطاً أزرق وهذا خيطاً أصفر وذياك

خيطاً أخضر. وكان رئيسهم يرفع في كل صباح عصيته قبل الابتداء بالعمل فيخيم السكون المطلق. ثم يفكرون ويتأملون ويصلون جميعاً ويبتهلون للإله أن يساعدهم على نفع الناس وإبداع الجمال عل وجه الأرض. ثم ينقسمون بعد انتهاء الصلاة فرقتين وينشدون قائلين: ماذا تنسجون؟ ننسج السماء بالنجوم ماذا تنسجون؟ ننسج الأرض بالأزهار ماذا تنسجون؟ ننسج البحر بالأسماك والسفين وكان كل واحد من المبتدئين يدخل خيط الصوف بحركات متسقة، وكان معلمهم يجلس بينهم فينظم نبراتهم ويزن نقراتهم ويقود بعصيته التي تشبه عصية رئيس الجوق الموسيقي حركة خيطان الصوف. وكان العمال ينسجون بأناشيدهم خيوط الصوف الحمراء والصفراء والزرقاء ويولدون بعملهم هذا أنغاماً متسقة من الأصوات والألوان. ثم أنهم يتابعون عملهم كل يوم في الصلاة والإنشاد فإذا انقضى عليهم ثلاثة أسابيع أنهوا صنع الشال فيأخذه كل عامل بيده وينظر إليه بإعجاب. إن هذا الشال هو عمل الجميع، أنهم يحبونه كما يحبون الأحياء. ليس لحبهم ثمن لأن كلاًّ منهم قد وضع فيه شيئاً من نفسه. أنهم معجبون به. كل عامل يضع يده عليه بلطف وبود أن يبقى إلى جانبه فيقول لهم سيدهم: لننتخب له الآن أسماً. ماذا ترى يا (دانوبه). فيجيب العامل قائلاً وهو يحك رأسه: - أود لو نسميه شقيق الشمس فيقول الآخر: - أو نسميه الوحيد أو الأحد

ثم يقول النساج: - لا بل نسميه السرور. ألم ننسجه ونحن في جو من السرور والمحبة. فيصفق الجميع له ثم يودعون هذا الشال الغالي الثمن ويرسلونه إلى أقصى مناطق الأرض ثم يعودون بعد ذلك إلى عملهم ليتعاونوا على إبداع أثر جديد من آثار الفن ينشرون به الجمال وينفعون به البشر. جميل صليبا

ارنست رنان - للدكتور أنور حاتم

ارنست رنان - للدكتور أنور حاتم بقية المنشور في الصفحة 738 في فرنسا مقاطعة الأحلام والتأملات، بعيدة عن العالم، منفردة في الجنوب، تلامسها أمواج البحر الاطلنتيكي وتتراكم في سمائها الغيوم، حزينة قاحلة تمتد على شواطئها الصخور ويغشاها الضباب، ينشأ سكانها في ذلك الإقليم الكئيب فتساورهم الكآبة ويقضون حياتهم في وحشة وجود غير الذي نحن فيه فتثور عواطفهم ويتسع خيالهم ويتولد في قلبهم اليأس. بريطانيا الصغرى وطن شاتوبريان ولامونيه اللذين تتغلب فيهما دقة الحس على قوة العقل - هي أيضاً وطن ارنست رنان. ترعرع رنان بين والدين تقيين وقد ظن نفسه أهلاً للرهبنة فانقطع إلى مدرسة اكلير كية ولكنه بعد أن تعلم وأنهى تحصيله شعر بأنه أضاع إيمانه بالدين فرفع تحت تأثير أخته هنرييت ثوبه الأسود ورجع إلى تلك الدنيا التي هجرها بدون تفكر ولكنه لم يعتم أن شعر بعدم مؤالفته لحياة الناس كأن هناك هوة عميقة تفرقه عن أقرب الخلق إليه. فانعزل عن الدين والدنيا وانكب على العلم وقد قال وهو في مقتبل العمر التفكير والحس هما كل نفسي، هما ديني وهما ألهي. أراد رنان أن يداوي اضطراب نفسه بالدرس والمطالعة. فتش عن حقيقة الأديان فلم ير إلا أفكاره المضربة وأخلاقه اليائسة وأراد أن يورد لنا صورة صادقة للشعوب البائدة فمثل لنا ما أنتجه خياله التائه الحائر. لم يك لرنان رفيق غير نفسه وقد أبدع لنفسه عالماً وهمياً عاش فيه واسكن فيه الأشباح التي أبدعها وفهم موسى والمسيح ومحمداً لا الذين عرفهم التاريخ ولكن الذين وصفهم ارنست رنان نفسه. إن الخيال ضروري في التاريخ فالخيال يهب الحياة للأجيال الميتة ينعشها فينهض أبطال الماضي من غفلتهم ليعيشوا أمامنا كأنهم أبناء عصرنا ونشعر بأنهم رجال مثلنا يفرحون ويتألمون كما نتألم ونفرح، لهم عيوب وفضائل وأجساد ونفوس. قاوموا الأيام كما نقاومها نحن فتارة فشلوا وتارة فازوا وطبيعة الإنسان واحدة لا تغيرها الأزمان، والعاطفة ضرورية لكتابة التاريخ إذ يستحيل على أن يتجرد عن عواطفه مادام إنساناً ولكن العواطف لا تمنع العدل في الحكم ولا يضل المؤرخ إن كان مخلصاً عن

البحث النزيه والتنقيب بين الوثائق التاريخية. ولكن ارنست رنان أساء استعمال الخيال والعاطفة في تأليفه فلم تكن أحكامه نتائج بحث ولكنها تولدت في عقله قبل أن يشرع في البحث فحرقت من آرائه وقادته إلى طريق الضلال. كانت نفسية رنان قريبة من نفسية الشعوب السامية وقد باشر صغيراً في درس اللغات السامية عندما كان يستعد للحياة الاكليركية في سان سولبيس وأول من علمه اللغة العربية مستشرق يدعى (لوهير) ولوهير على زعم رنان عالم بالعبقرية والسريانية ولكنه ضعيف بالعربية فلهذا السبب لم يتمكن رنان من حفظ أصول هذه اللغة وعند خروجه من سان سولبيس أكمل دراسة اللغة العربية على رينو في المكتبة الملوكية (المكتبة الوطنية) و (كوسان دي برسفال) مؤلف تاريخ العرب قبل الإسلام ودرس الفارسية على الأستاذ كاترمير المعروف بشراسة أخلاقه واللغات الهندية على الفيلسوف برنوف واهتم بالدروس الصينية تحت تأثير الأستاذ ستانيسلاس جوليان ورافق العالم الأثري الفرنسي مارييت باشا في أحدى رحلاته لمصر ليدرس معه اللغة والآثار المصرية. درس جميع هذه اللغات ولم يبرز في واحدة منها ولم يظهر كفاءة في مادة من مواد تلك اللغات. أقام سنة كاملة في سوريا (من تشرين الأول 1860 إلى تشرين الأول 1861) لاكتشاف الآثار الفينيقية وقد فتش طويلاً في بيروت وصيدا وجبيل وعمشيت (حيث توفيت أخته هنرييت ودفنت) وطرطوس وأم العواميد عن الآثار فلم تأت رحلته الطويلة بفائدة علمية تذكر وقد أثبتت رحلات من عقبه من المستشرقين قلة اطلاعه وقد أطنب أصحاب رنان بذكر طول باعه في اللغة العبرية ولكن علماء اليوم هدموا كل ما بناه رنان بالأمس فيما يتعلق بالتاريخ الإسرائيلي وكل من درس اليوم كتب رنان يعرف تأثير شتروس وهرددر وكروزر وهيفل من كتاب الألمان في مذاهبه المبتكرة. وقد أظهر عداوة غريبة للعرب والإسلام، وحدث صهره جان بسكاري بأنه لما كان رنان صغيراً وضع قصائد عديدة مطلعها جميعها: اسحقوا الأتراك وأنكر على العرب علومهم وفلاسفتهم ونسب النهضة العربية في بغداد والأندلس إلى اليهود والروم. وتحمس للشعر الجاهلي من دون أن يدرك معانيه وزعم أن الفرس ضحية العرب والإسلام مع أن الفرس متمسكون بالإسلام أكثر من العرب أنفسهم. أما سوريا فقد سحر برقة جبالها

وديانها ومياهها العذبة وحاول أن يسند إلى مناظرها الفتانة أسباب انتشار المسيحية في نواحيها بعد وفاة المسيح وبدأ يكتب حياة المسيح أثناء إقامته في سوريا ويظهر من كتبه إلى صديقه برتلو إنه لولا زيارته لسوريا لكان غير رأيه في الديانات السامية فسوريا مسؤولة إذاً عن روايات رنان وأحاديثه وأوهامه فالذنب كل الذنب على تلك البلاد الجميلة التعيسة!! وإذا أردنا أن نحلل مذاهب رنان الاجتماعية نرى أن لرنان مذهباً واحداً هو الابتعاد عن كل المذاهب وقد قيل عن موقفه أمام المبادئ الفلسفية إنه أشبه بطفل في غرفة مملوءة بالدمى وضعت تحت تصرفه فينظر فيها ويجر بها ويلعب بها ويحطمها واحدة بعد الأخرى ولم يترك حين خروجه إلا قطعاً مختلفة الألوان فرنان نفسه لا يعرف إن كان أدبياً مبدعاً أو عالماً بحاثة أو فيلسوفاً اجتماعياً، ولسنا نعرف أكثر منه عن ذلك. عاش رنان حائراً متردداً متشككاً في آرائه ومعتقداته تتقاذفه الأديان تارة وطوراً تضله العلوم، عاش تائهاً حائراٍ لا يدرك ما يحويه الوجود من الظلمات، شك رنان لأنه كان يرى الحقيقة تتلألأ حيناً في كل مذهب من مذاهب الإنسان وحيناً يرى أن كل ما أبدعه الفكر البشري فاسد، ومن كان بهذه العقلية فلا يبارى في التناقض، فبعد أن رفع رنان العلم فوق الدين وبعد أن صرح بأن كل شيء يزول ما خلا العلم (العلم معناه الخلود) شك في حقيقة العلوم ومنفعتها وأنكر رنان وجود الله ونادى في ظروف أخرى بأن الله واحد أزلي خالق للبشر. وقضى رنان عمره في الدرس والمطالعة. قال شيخوخته أن لا فائدة من أعماله وبعد ذلك تمنى أن يعيش أعماراً عديدة ليطلع على كل العلوم. وقد حاول أن يطبق على جميع أبحاثه العلمية ميزان طبيعته المتقلبة السيارة فجاءت تلك الأبحاث كثيرة القلق كأنها مبنية على ماء. عاش رنان منفرداً متعجرفاً معتقداً أنه نابغة كل الاعتقاد وكانت ساعة موته مناقضة لجميع أعماله وقد وصفها لنا جان بسيكاري إذ أغلق له عينيه للمرة الأخيرة. قال: كان رنان مضطجعاً على فراشه في داره المجاورة لمعهد الكوليج دي فرانس كانت عيناه متجهتين نحو النافذة فخيل إليه أنه بين هياكل اليونان فصرخ قائلاً: ارفعوا الستار عن النافذة أريد أن أرى الشمس تضيء فوق معبدنا ولما اقترب منه الموت دعا جان بسيكارى إليه وقال له: اعرف أن آثاري ستزول بعد موتي وأني سأصبح شيئاً منسياً. أنا

أعرف بأني سأصبح شيئاً منسياً، شيئاً منسياً. ولم يمض على هذا القول أربع وعشرون ساعة حتى قضى رنان نحبه بين ظلمات الشك وشبهات القلق. أنور حاتم

الكتب والصحف

الكتب والصحف الرقم ثمانية تأليف جان غولمييه - عرف قراء الثقافة الأستاذ جان غولمييه رحالة وكاتباً اجتماعياً وها هو الآن ينشر مجموعة قصص تحت عنوان الرقم ثمانية. فالرقم ثمانية هو رقم الدفتر الصغير الذي حمله الأستاذ غولمييه عندما كان جندياً في سوريا وحوادث قصصه تجري أغلبها في أراضي سوريا وغايتنا الوحيدة من هذه الأسطر هي أن نعرف هذه المجلة على محتوى القصص التي تؤلف هذا الكتاب: فالحكاية الأولى عنوانها الحياة جميلة وقد انتخب العنوان الأستاذ غولمييه عن تهكم لأنها حكاية محزنة وبطلها يدعى كلود مايار وقد ترك وطنه وتجند في جيش المستعمرات وكانت فرقته في بيروت حيث التحقت به امرأته وابنته الصغيرة ولكن كلود في الجيش اتخذ عادات شنيعة منها لعب القمار والرهان في سباق الخيل وقد خسر ماله واستدان من رفاقه ثم رأى نفسه مضطراً أن يسرق من خزينة الجيش وقد حاول مراراً أن يمتنع من الذهاب إلى سباق الخيل ولكنه كان يمل ويضجر ثم تعود على الميسر لمقاومة الضجر. سرق مرة أولى ثم كرر عمله ولما اقتربت ساعة الفضيحة ذهب إلى سوق من أسواق بيروت وأطلق على نفسه بعض عيارات نارية رمته صريعاً على الأرض. مات كلود ورجعت امرأته مع ابنتها إلى فرنسا إلى والده المسكين الذي ظن أن كلود ذهب ضحية الواجب ثم عرف الحقيقة عندما حاول أن يقبض مساعدة مالية لامرأة ابنه. وتنتهي القصة بيأس والد كلود وانقطاع أمله. 2 - كان الجندي السنغالي لفباسي بسيط القلب لطيف المعشر جاهلاً بكل ما يتعلق بفن الحرب وبينما كان يوماً بعيداً عن فرقته ظن أحد الضباط أنه ينتسب إلى فرقة أخرى وأن اسمه كيكي مادو، وفرقة كيكي مادو على وشك الرحيل إلى سوريا فقبض حينئذ على لفباسي وأرغم على السفر إلى مرسيليا ومن هناك أبحر إلى بيروت. وفي لم يستطع لفباسي أن يفوه ببنت شفة خوفاً من العقاب حتى مرض ومات وقبر في مقبرة سورية ونعاه

ملازم من الجيش قائلاً كيكي مادو نم بسلام وافتخر بخدماتك لفرنسا وقد أتيت حراً متحمساً من قريتك البعيدة إلى هذه البلاد لكي تجيب نداء الوطن وقد قمت بواجبك وسيحفظ رفاقك منك تذكاراً خالداً هكذا مات لفباسي المسكين ولم بعرف أحد حقيقة أمره. أما الحكاية الثالثة فتجري أغلب حوادثها في دمشق وضواحيها لأنها تدور حول إحدى المومسات الإفرنجيات اللواتي أطلق عليهن الشرق اسم ارتيست وقد وصف لنا الأستاذ غولمييه، محل اللهو المعروف باولمبيا حيث يعرفنا بتلك الارتيست التي تدعى ايفيت وبسبب قدومها إلى سوريا. نشأت ايفيت في عائلة شريفة فقيرة فمات والدها وتركا لها أخاً صغيراً اسمه جان فاضطرت ايفيت لأن تتعاطى الفحش في سبيل تعليمه وتربيته. ولما شب جان تجند في سوريا عندما كانت الثورة الدرزية مشتعلة في دمشق والجهات وقتل في إحدى المواقع التي جرت في الغوطة بعد أن أوصى رفيقاً من رفاقه بالذهاب إلى مدينة بوردو في فرنسا لكي يخبر أخته بوفاته ولما سمعت ايفيت بهذا الخبر المؤلم أرادت أن تأتي بنفسها إلى سوريا لترى المحل الذي قتل فيه أخوها ودفن. الجندية في المستعمرات أو البلاد البعيدة عن فرنسا لا توافق جميع الشبان وقد صرح بذلك المسيو غولميية مراراً في حكاية الأرتيست ولكن بعض الرجال خلقوا ليعيشوا في المهنة العسكرية ولا يصلحون لغيرها ولا للحياة خارج الجيش وهذه الحقيقة تظهر جلياً في القصة الرابعة والخامسة وهي كلها قصص محزنة قصها الأستاذ غولميية من غير أن يتحامل على الجندية كما ظن بعض الناقدين ولكنه أراد أن يضرب لنا أمثالاً عن نفسية الجنود في المستعمرات عامة وفي البلاد السورية خاصة. قال منهم من كان غليظاً سافلاً مثل المدعو اليازي ومنهم من كان جاهلاً وشجاعاً مثل الجندي كنس منهم من كان رقيق الشعور فيفسد الجيش أخلاقه في غالب الأحيان ويسبب هلاكه وتعسه في الحياة. وإنشاء الأستاذ غولميية بسيط ساذج بعيد عن التصنع وقد وصف بعض مناظر سوريا بدقة يستحق الثناء عليها. أنور حاتم النثر العربي في القرن الرابع للهجرة الموضوع شائع ومعروف، غير أنه رغم شيوعه لم يطرقه أحد بصورة جدية ولم تتناوله

بعد وسائل البحث العلمي التحليلي الحديث. والقرن الرابع كما لا يخفي هو من أهم العصور الأدبية لما له من صفات تميزه عن بقية العصور السابقة لأن كتاب هذا العصر حاولوا بكل ما وأتوه من جهد ونشاط تنميق النثر وتحسينه بالألفاظ المنتخبة مع عناية فائقة بالشعر لكي يخلقوا بيد القارئ عند قراءته قطعة من نثر حاسة فنية تشبه تماماً الحاسة التي يشعر بها عند قراءته قطعة شعرية. يلك هي الأسباب التي حدت بالأستاذ كي مبارك إلى أن يجعل من النثر العربي في القرن الرابع للهجرة موضوعاً لأطروحته لجامعة باريس بعد أن بين في مقدمة وجيزة أن بحثه لا يتناول سوى خصائص النثر الفني أي الذي عملت فيه الصنعة عملها لا النثر المعروف في كتابه المؤلفات العلمية والتاريخية. 1 - شيوع السجع والعناية الفائقة فيه وقد تعدى استعمال السجع الرسائل العامة إلى الرسائل الخاصة والمجادلات العلمية في حين أنه يجب أن تمنع خطورة هذه المواضيع الناس عن العناية بالألفاظ والالتفات غليها ومثال على ذلك الجدال الذي حدث بيوفيه ن بديع الزمان الهمذاني والخوارزمي وكتاب الأخير إلى رؤساء الشيعة في نيسابور. 2 - الميل إلى الاستشهاد بالأشعار والأمثال وقد جرت العادة أن يستهل الكاتب رسالته بشعر أو شعرين تناسب الموضوع عوضا عن أن يبتدأ كما - في العصور السابقة - بذكر اسم الله والصلاة على نبيه وقد أورد المؤلف مثالاً على نلك كتاب بديع الزمان الهمذاني للخوارزمي وفيه يدعوه لمساجلة علنية بيد أن أكثر الكتاب في هذا العصر لم يتقيدوا بهذه القواعد بل استشهد بعضهم في رسائله بقطعة شعرية وآخرون بمثل شائع أو بقطعة بليغة وبعضهم دخل رأساً في الموضوع. 3 - طرق كتاب القرن الرابع للهجرة مواضيع كانت فيما سبق في حوزة الشعر مثل الهجاء والوصف والرثاء مع العناية بالصور والمطابقة والتجانس وقد أراد الكتاب بذلك كما يرى الأستاذ زكي مبارك أن يعطوا لرسائلهم شكلاً فنياً يسهل على الذاكرة حفظها بدون تعب ولا عناء 4 - أن شيوع القرآن في البلاد التي وقعت تحت سيطرة الإسلام جعل العرب يهتمون بالبحث عن أصول لغتهم ودرس قواعدها ودقائقها، ومن هنا يستنتج المؤلف أن خصائص

النثر العربي في القرن الرابع لم تكن شائعة في قطر دون آخر بل أن هذا النثر كان شائعاً في قطر دون آخر بل أن هذا النثر العربي كان شائعاً في أوساط البلاد الأدبية ورغم أن كل بلد احتفظ بلهجته الخاصة في الكلام والتخاطب نرى أن لغة القرآن بقيت ومازالت المثل الأعلى للكتابة في اللغة العربية. ولا يغربن عن البال أن ما نسميه الصنعة أو ما دعاها المؤلف كانت الصفة الغالبة على النثر في هذا العصر وهنا لابد لنا أن نعرض لنظرية ابتدعها المسيو وليام أستاذ الآداب العربية في الكوليج دي فرانس في بحث طويل عن نشوء النثر الأدبي عند العرب وشايعه عليه الأستاذان طه حسين وأحمد ضيف وملخصه أن الصنعة اللفظية هي من أصل أجنبي وأن أول من اخترع النثر الأدبي عند العرب هو ابن المقفع الفارسي أي أن النماذج الصحيحة للنثر الأدبي عند العرب لا يجب أن تلتمس في القرآن - كما يرد الأستاذ زكي مبارك - لأن القرآن هو أقرب بأسلوبه إلى الشعر منه إلى النثر كما أنه لا يجب أن يلتمس هذا النثر في الحديث لأن أكثره مزور ومدسوس وأن ما يظهر عليه من صفات النثر المنمق الصحيح هو من وضع العصور المتأخرة إلى غير ذلك من الآراء التي هي ظاهرة للرأي السائد في أوساط المستشرقين من أن العرب مدينون للفرس واليونان بعلومهم وآدابهم وفنونهم وجميع منتخبات أفكارهم، وقد أفرد الأستاذ زكي مبارك فصلاً في كتابه للرد على هذه المزاعم وحاول أثبات أن الصنعة في النثر العربي ليست مقتبسة عن الفرس وإنما هي خاصة من خواص العبقرية العربية ثم أن ابن المقفع الذي ينسب إليه المستشرقون خلق النثر الأدبي عند العرب عاش في محيط فارسي وقرأ كتباً فارسية ولو أن الذي قالوه عن الصنعة الكتابية أنها من أصل فارسي لكان حري بابن المقفع أن يتأثر منها وهو الذي كانت كتابته من أرقى ما كتب في اللغة العربية وأبعدها عن الصنعة الكتابية والتكلف اللفظي.! وفي الكتاب فصل ممتع عن الحياة العقلية في القرن الرابع للهجرة فقد ترك لنا كتاب هذا القرن رسائل ومؤلفات هي صورة صادقة لما جرى في هذا العصر من أهم الحوادث والأمور ولعل أهم هذه الأحداث هو نضال الشيعة في سبيل حقوقهم المشروعة وما جرت عليهم مطالبتهم بالخلافة من ويلات واضطهادات، والمنازعات التي اشتد أوارها بين

الفرس والعرب فقد اجتهد العرب بالرد على الشعوبية وقام هؤلاء بدورهم يعدون مثالب العرب ويظهرون عيوبهم وقد كان للكتاب والوزراء والولاة نصيب كبير في إذكاء هذه النار بين الكتاب، فكثرت المؤلفات في هذا الموضوع نذكر منها رسائل بديع الزمان الهمذاني التي تعد بحق صورة واضحة لعقلية أهل هذا العصر. والخلاصة أن القرن الرابع للهجرة ذو أهمية كبرى في تاريخ الأدب والثقافة العربية وقد كان للمنازعات السياسية والخصومات الأدبية والعصبية الجنسية أثرها في تكوين هذا النثر ودفعه في طريق التطور السريع. إبراهيم الكيلاني جغرافية العراق أصدر الأستاذ الفريق طه الهاشمي كتابه الأخير جغرافية العراق الذي هو أحد مؤلفاته الثمانية عشر التي خصص أكثرها للبحث في شؤون العراق التاريخية والجغرافية وقد وضع هذا الكتاب الأخير لطلبة المدارس المتوسطة ودور المعلمين فجعله كتاباً مدرسياً عالج فيه ما يجب أن يعالج من أحوال العراق الجغرافية، بدأ يوصف وضع العراق الجيولوجي ووضعها الأرضي ثم درس أنهار العراق وبحيراته وإقليمه وحيواناته ونباتاته والحياة الاجتماعية فيه فتكلم عن سكان العراق وقبائله والبطون والأفخاذ التي تتشعب عن هذه القبائل ثم عالج الوضع الإداري فتطرق للبحث في التشكيلات الإدارية في زمن العثمانيين وقبلهم ثم وصف بوضوح وجلاء شأن العراق الإداري بعد الحرب العامة فعدد المدائن والقرى والقصبات في العراق وانتقل لمعالجة الشؤون الاقتصادية والزراعية فتكلم عن الري والزراعة وطرق الحاصلات والمعادن والمناجم والصناعات والتجارة وما إليها من الواردات والصادرات وقد زين جميع هذه الفصول بالصور والرسوم مما زاد في وضوح الأبحاث وسهولة تفهمها. ويقع الكتاب في 247 من القطع الكبير، جيد الطبع صقيل الورق تكاد لا تخلو صفحة من صفحاته من عدة رسوم يضاف إلى ما حواه من الخرائط والمصورات ولولا بعض تشويه وعدم وضوح في أكثر صوره ورسومه ووفرة الأغلاط المطبعية فيه لكان الكتاب نموذجاً لما تصدره العراق من مؤلفات جديدة وهو من الكتب التي يجدر مطالعتها ليس بالطلاب فقط بل بكل من يود أن يعرف عن العراق ما

لا يستغنى عنه كل مثقف في أقطار الشرق العربي. ك. د

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب موت أميل ميرسون لقد توفي في الشهر الغابر الفيلسوف الكبير الأستاذ أميل ميرسون عن عمر بلغ الخامسة والسبعين، وأميل ميرسون هو من العلماء الأفذاذ الذين انصرفوا لأبحاث فلسفة العلوم فوضعوا فيها من التأليف ما يدل على عبقرية عظمى وتفكير عميق ومعرفة شديدة في تاريخ العلوم وتطورها ولقد كان من أهم الموضوعات التي انصرف إليها الفيلسوف الراحل مهاجمته لفكرة الفلسفة الوضعية وتقريره أن هذه الفلسفة هي مما يخرج عن نطاق معرفة الطبيعة الحقيقية معرفة صحيحة فهو يؤكد ويؤيد وجود هوية كائنة في الحقيقة الوجودية وقد خصصت مجموعة (لوموا) الشهرية أبحاثاً جمة ممتعة عن فلسفة أمير سون ومذهبه العلمي في المجلد الخامس الذي صدر سنة 1931 كما أنها أفردت مقالاً مطولاً في مجلدها السادس من السنة نفسها عن مؤلفه الكبير تدرج الفكرة وتطورها وهو آخر ما نشره مفضلاً كلمة - على كلمة لما في هذه الكلمة الأخيرة من المعنى الفلسفي المجرد الفرق للمحسوس. شعور الأسماك بالزلازل لقد تبين للعالمين اليابانيين هاتاي ونوبوروآب أن هنالك نوعاً من الأسماك يبدي علائم كثيرة من القلق والاضطراب في مدة ست ساعات. قال أن الآلات الخاصة تشير إلى قرب وقوع الزلزال ولقد ظهر من نتيجة تتبع هذين العالمين أن بين 178زلزلة وقعت في عدة شهور أنبأت الأسماك بثمانين منها وذلك قبل أن تدل عليها الآلات الخاصة التي تشير إلى وقوع الزلزال ولقد تبين أيضاً أن هذه الأسماك تظهر العلائم نفسها سواء أكانت الزلازل ستحصل في منطقة قريبة أو في منطقة بعيدة جداً. ويعزى هذا الشعور إلى أن الجريان الكهربائي في الماء يتغير تأثيره في الأسماك قبل وقوع الزلازل ولهذا فهي تخاف وتضطرب وتظهر من العلائم والحركات ما يشير إلى وقوع الزلازل وذلك بصورة أوضح وأدل من جميع ما اخترع حتى الآن من الآلات والأدوات الخاصة التي تنذر بقرب موعد وقوع الزلازل الأرضية. السبق الهوائي العالمي

لقد قام في أمريكا في الشهر الغابر الضابط سياتل بجولة هوائية في منطاد خاص فبلغ من العلو عن سطح الأرض مبلغاً أثبتته آلة الارتفاع في المنطاد فإذا هو 18664 متراً ولقد أحرز هذا الضابط قصب السبق العالمي ففاز على الأستاذ بيكار الذي ارتفع في جولته الهوائية الثانية إلى علو قدره 16200 متراً ثم لم يستطع من بعدها أن يتجاوز هذا الحد. العلماء الجاهلون كتب لويس لونغ أستاذ العلوم في جامعة طهران في مقدمة كتابه (أمام الحياة وجهاٍ لوجه) الذي نشره أخيراً ما يأتي: إن العلم لا يفيد صاحبه ولا يساعد على النجاح في الحياة إذا لم يرافقه العقل السليم مع الاهتمام بالحياة نفسها. كثير من العلماء يقضي أيامه ولياليه منكباً على عمله بين كتبه ودفاتره منصرفاً كل الانصراف إلى أشغاله الذهنية ومتاعبه العلمية دون أن يكرس الوقت اللازم لنزهته ولهوه أو يخصص ما يجب من الزمن للاعتناء بصحته ورفاهه وترتيب أمور معيشته وكثيراً ما يحدوه هيامه بالعلم إلى أن يقلل من غذائه وساعات نومه وراحته. فهو عالم كبير ولكنه يجهل أو يتجاهل ما يعرفه عامة الناس مما تطلبه الحياة من أسباب الراحة واللهو والرفاه فلا يلبث أن يشيخ وهو شاب ويهاجمه الهرم وهو في ميعة العمر فيصبح على حافة القبر حيث لا يستطيع بعد ذلك أن يصل إلى ما يرمي إليه أو ينال ما يبتغيه من وراء بحثه ودرسه وهكذا فالهدف الذي جعله عينيه ينقلب فيصبح حجر عثرة في سبيله، لأن المساعي التي يبذلها أمثال هؤلاء العلماء لم تبذل متفقة مع ما تطلبه شرائط الحياة الصحيحة فتضيع الغاية ويصبح العمل عقيماً لا فائدة ترجى منه. وقد يتاح لهؤلاء العلماء أصدقاء وأخوان ينبهونهم إلى تلك المحاذير ويصورون لهم أخطارها ولكن جمودهم وتلك الفكرة المتأصلة المرتكزة في عقولهم تحول دون تفهمهم الأمر فيكتفون بابتسامة استخفاف يرسمونها على شفاههم ثم يعودون فينصرفون إلى عملهم هازئين بهؤلاء الأصدقاء الذين هم في نظرهم جهلاء لم تفقه نفوسهم حقيقة العلم وليس لأرائهم من قيمة حتى يعمل بنصحهم وإرشادهم. إن العالم صاحب مثل هذه الفكرة الجامدة المستأصلة هو آلة تفكير ميكانيكية فهو لا يستطيع أن يفقه أبسط الأشياء رغم غزارة علمه ولا يمكن أن يكون أصوب رأياً من غيره من الناس ولعل الراعي الطروب وهو يهش بعصاه على غنمه فيفرح بحياته ويسهر على

راحته وهنائه وينعم بما وهبه الله من غرائز وما حبته الطبيعة من خصال لهو أسعد عيشاً وأهنأ بالاً وأكثر راحة من ذلك العالم الشقي الذي سجن نفسه في دائرة ضيقة من الحياة واستسلم لما تميله عليه عبقريته الكئيبة وفكرته المتأصلة المتجمدة. العلم نظرية التطور: ما زالت نظرية التطور، منذ أيام لامارك وداروين وسبنر، تشغل أفكار العلماء والباحثين فيحتدم الجدل حولها أحياناً ثم يهدأ ردحة من الزمن. لا شك في أن العلم الحديث، القائم على البحث الدقيق والمعرفة العميقة، أصبح اليوم يدعو العلماء إلى التزام منتهى الحيطة والتربص في قبول النظريات وتعميم نتائجها كما كان الحال في القرن التاسع عشر تجاه نظرية التطور. ولقد كادت نظرية داروين في الاصطفاء الطبيعي تتزعزع من أسسها في المدة الأخيرة بعد أن عجز البحث العلمي الدقيق عن إثبات وجود تغيرات دائمة متقسمة حسبما تدعي هذه النظرية فإن المشاهدات العلمية لم تظهر لنا سوى تبدلات وراثية فجائية. ورغم أن هذه التبدلات الجزئية تحدث بكثرة نسبية فإن العلماء ظلوا مدة طويلة لا يستطيعون وضع قانون لها يخرجها عن مجرد المصادفة ويشرح كيفية حدوثها وفائدتها في المحافظة على بقاء الذات ثم نشوء الأنواع الجديدة منها على الأقل. وقد قام أخيراً الأستاذ (فيكتور يوللوس) في برلين يسعى لسد هذه الثلمة بالتجارب العلمية التي أجراها في سبيل معرفة التغيرات الاصطناعية فأن (يوللوس) فحص تأثير الحرارة المتزايدة في بعض الحشرات أثناء أدوار مختلفة من تطورها فوضع مقداراً من الذباب من جنس واحد في صناديق تبلغ درجة حرارتها 35 - 36 ثم نقلها بعد عدة ساعات إلى درجة الحرارة المعتادة وهي (25) سانتيغراداً. حينئذ لاحظ (يوللوس) أن عدد التغيرات التي حصلت تحت تأثير الحرارة كان يقارب (100) بين (50. . . .) في حين أن التغيرات الوراثية تحت الشروط الاعتيادية لا تزيد عن حادث واحد بين (250. . . .) ثم استطاع الأستاذ (يوللوس) في تجاربه هذه أن يتوصل إلى نتيجة ثانية أكبر أهمية وهي زيادة التغير الحاصل تحت تأثير العامل الخارجي في اتجاه معين. فأنه بتكرار زيادة درجة الحرارة استحصل من ذباب قاتم اللون على أنواع جديدة باهتة.

ولما استمر في هذه الطريق تمكن أخيراً من الحصول على نوع جديد من الذباب له عيون صفراء عوضاً عن الحمراء القاتمة. وأغرب حادث من هذا القبيل هو مشاهدة ذباب له عيون بيضاء تكونت تحت تأثير الحرارة بعد التكرار الطويل. هذه التجارب قد برهنت على أن هناك تطوراً يسير في اتجاه معين وبذلك تم أثبات أحد المبادئ الهامة في نظرية التطور. . الوراثة وتأثير البيئة: في مؤتمر علماء الطبيعة الذي عقد أخيراً بمدينة (ويسبادن) ألقى الأستاذ (لانفه) من جامعة (برسلاو) محاضرة عن تكون التوائم وتطور الشخصية قال فيها أن المشاهدات والمباحث العلمية تجعلنا نميل إلى نظرية تأثير الوراثة أكثر من نظرية تأثير البيئة. لا ينكر (لانفه) أن التربية والبيئة والاقتداء من العوامل ذات الأثر البين في تكوين الشخصية ولكن يجب من جهة أخرى الاعتراف بأن مقدراتنا تابعة في الدرجة الأولى إلى استعدادنا الوراثي من الناحيتين الجسمية والفكرية. وقد بدأت هذه الحقيقة تظهر جلية في النتائج التي نوصل إليها العلماء من مباحثهم في التوائم. ونذكر بأن هذه المباحث قد اشترك فيها عدد كبير من العلماء في جميع أنحاء المعمور وأن التجارب والمشاهدات أصبحت كثيرة تساعد على الفحص الدقيق والمقارنة الواسعة. ويمكن القول أن النتائج جميعها تبرهن على أن مقدرات المواليد التوائم الذين ينشئون من (بويضة) واحدة لا تختلف بعضها عن بعض شيئاً في الخطوط الأساسية. وإذا صرفنا النظر عن بعض الاختلافات الجزئية في الأمور الثانوية البسيطة فإن التشابه أو الاتفاق بين مقدرات التوأمين كثيراً ما يبلغ درجة عجيبة تدعو إلى الدهشة. . ومما يزيد في إثبات تأثير الوراثة أن الأشخاص التوائم يشبهون بعضهم بعضاً في كل شيء وتتفق مقدراتهم وشخصياتهم حتى بعد التفريق بينهم سنين طويلة ورغم تقلبهم طول هذه السنين في ظروف متباينة وتحت شروط اجتماعية مختلفة كل الاختلاف. وهناك أمثلة عن تؤمين عاش كل واحد منهما في قارة وفي بيئة اجتماعية مختلفة ثم ظهر أنهما أصيبا بالأمراض نفسها في وقت واحد تقريباً وكانت الأسباب الداخلية لهذه الأمراض

دائماً واحدة. على أنه يجب الملاحظة بأن هذه المشاهدات لا تنطبق على الأشخاص الذين يولدون سوية فقط بل ينبغي أن يكون التوائم من (بويضة) تناسلية واحدة لأننا في هذه الحالة وحدها نستطيع أن نقول باتفاق العوامل الوراثية أما إذا اختلفت (البويضة) فإنه من الممكن أن نشاهد اختلافات ظاهرة بين التوأمين ولو عاشا في بيئة واحدة وتحت شروط واحدة. . . وقد استنتج العلماء من هذه المشاهدات أن شخصية الإنسان تابعة للعوامل الوراثية أكثر منها لمؤثرات البيئة والمحيط. وليست محاولات إصلاح النسل التي تقوم بها حكومة (هتلر) في ألمانيا سوى نتيجة عملية لهذه النظريات. السيد ممدوح الشريف توفي خلال شهر كانون الثاني السيد ممدوح الشريف نابغة الخطوط العربية عن عمر يناهز الستة والأربعين، وذلك في المستشفى الوطني بدمشق بداء الرئة الذي لم يمهله إلا أياماً معدودة. والمرحوم من عائلة عريقة في المجد إذ ينتسب إلى الشريف عون أحد أشراف مكة وكان أبياً، كريماً، تخرج على يديه كثير من الخطاطين، واكتسب الدرجة الأولى في مسابقة وزارة المعارف لانتخاب خطاط للمدارس التجهيزية، وإليه يرجع الفضل في تتبع الخطوط القديمة وتصحيح الخط الديواني والكوفي، وكان يجيد مئة وخمسين خطاً وقد ترك آثاراً فنية قيمة. ونال في حياته الجائزة الأولى الممتازة في الخطوط من معرض الصناعات الوطنية بدمشق عام 1929 كما نال مثل هذه الجائزة من المعرض العربي بفلسطين. وقد كان مولعاً بالخط ولع الفنان بفنه ولا غرو فإن الخط العربي هو من الفنون الجميلة التي لا تقل قيمة عن الفنون الأخرى. تحت سماء دمشق إذا ذكرنا فقر هذه البلاد في كل شيء وقلة المناصرة التي يلاقيها أصحاب الفنون، والعراقيل التي تعترض سبيلهم فتمنع تجويد العمل وإتمامه على الوجه المرغوب. وإذا ذكرنا أن دمشق لا تزال بعيدة عن المساهمة في رقي العالم الفني - لم يسعنا إلا التهليل

لكل عمل يدرأ عن هذه البلاد وصمة التأخر. ولهذا نرحب بالفيلم السينمائي الصوتي الذي أخرجته - لأول مرة في تاريخ هذه البلاد - شركة هليوس فيلم السينمائية السورية المؤلفة من الشباب المثقف وعلى رأسهم السيدان عطا مكي وفريد جلال. تحت سماء دمشق مأساة تدور حول موضوع اجتماعي هو تصوير الشباب المنغمس في الموبقات حتى الآذان، وآلام المرأة السورية في حياتها الزوجية. إلا أنها ملأى بالوصف الطبيعي لأشهر متنزهات دمشق وشوارعها وحاناتها، وهي من حيث الإخراج والتمثيل تستحق المدح لأنها أول ثمرة من نوعها. زد على ذلك الموسيقى التي تبهج القلب. لقد لحظنا النقص الموجود في أخذ المناظر وترتيبها وتظهيرها ولحظنا ما يثير ختام الرواية من المفاجآت اللذيذة بعد ذلك الانتظار الطويل الممل والحيرة المؤلمة التي تستولي على المشاهد حتى ليكاد أن يغمض عينيه، ولحظنا البرودة في بعض الممثلين، ولكننا نغتفر ذلك وغيره في جانب الجهود الجبارة التي بذلها القائمون بالرواية والتي تدل على النشاط والإدارة والتضحية. ونأمل أن تتابع شركة هليوس فيلم أعمالها لتكون رواياتها الجديدة أكثر اتقاناً ورقياً سواء في الإخراج أو التمثيل أو انتقاء المواضيع التي توافق النهضة السورية.

اللغة والثقافة

اللغة والثقافة بقلم الدكتور جميل صليبا أقامت مجلة الثقافة للمستشرق الأستاذ لويس ماسينيون أثناء مروره بدمشق حفلة علمية ألقى فيها حضرته خطاباً عن اللغة العربية والثقافة جاء فيه أن تحديد معاني الألفاظ ونشر الاصطلاحات العلمية هو خير عمل تستطيع المجلات أن تقوم به لإبداع لغة ثقافية يتفهم بها الكتاب المعاصرون لأن اللغة العربية الحاضرة لا تزال تركيبية، فمن الضروري أن تنقلب إلى لغة تحليلية يكون بها لكل كلمة معنى يستغنى به عن الشرح بعبارة طويلة. فاللغات التركيبية تعبر في الغالب عن المعاني بعبارات طويلة لا يتم الإفهام بها إلا من سياق الكلام، ولكن اللغات التحليلية تعرف الألفاظ تعريفاً واضحاً فنستغني في الدلالة بها عن الجمل الطويلة. واللغة العربية الحاضرة قد أخذت تتصف بهذه الصفة تحت تأثير الكتاب والعلماء المتأخرين وسعيهم لتحديد معاني الألفاظ، إلا أنها لا تزال في دور انتقالي فلم توفق بعد إلى إيجاد جميع الاصطلاحات العلمية الحديثة ولم يتفق التراجمة بعد على الاصطلاحات التي اخترعوها. وكثيراً ما يحتاج القارئ في فهم بعض الكتب المترجمة للرجوع إلى اللغات الأجنبية، فإنك إذا قرأت كتاباً مترجماً عن اللغة الفرنسية أو الانكليزية مثلاً صعب عليك فهمه على حقيقته دون الرجوع إلى لغته الأصلية وخصوصاً إذا كان المترجم غير أخصائي بالفن كالموظفين الذين يترجمون التقارير أو البرامج في الدوائر الرسمية. ولا تخرج اللغة العربية من هذا التشويش إلا إذا وفق المترجمون إلى اصطلاحات علمية واحدة واستطاع القارئ أن يفهم المباحث العلمية من غير أن يرجع إلى الأصل الفرنسي أو الألماني أو الانكليزي. . . . . وقد ذكر الأستاذ أموراً كثيرة غير هذه خالص زبدتها ما أعدت هنا. ولو استطعنا أن نتذكر كلامه كله لأثبتناه بالحرف لأنه صواب وحق فنقتصر إذن على إكمال البحث ببيان ما خطر لنا في علاقة اللغة بالثقافة. 1 - علاقة اللغة بالثقافة إن علاقة اللغة بالثقافة قوية جداً. لأن وحدة اللغة إنما تنشأ في الغالب عن وحدة الثقافة. ولا يمكن المحافظة على وحدة اللغة إلا بتوحيد الثقافة بين مختلف الطبقات والمناطق. والسبب

في ذلك أن المعاني تؤثر في الألفاظ فتبدل استعمالها وتغير دلالتها، لأنها متصورة في الأذهان ومتخلجة في النفوس قبل تكون الألفاظ وكثيراً ما نفكر ولا نجد الألفاظ التي نستطيع الدلالة بها على أفكارنا. فالمعاني، كما يقول الجاحظ، مبسوطة إلى غير غاية وممتدة إلى غير نهاية. أما أسماء المعاني فمتصورة معدودة ومحصلة محدودة واللفظ لا يدل إلا على جزء مما هو قائم في الصدر من المعاني حتى لقد يضيق نطاق اللغة عن التعبير عما يخالج النفس من الصور والأمثال، وكثيراً ما نستدل على أفكار الأشخاص وعادات العصور وأخلاق الشعوب بالألفاظ التي يستعملونها. وكلما كانت المعاني أكمل وأشرف كانت الألفاظ أبين وأنور. فالألفاظ ليست كما زعم (دوبونالد) سابقة للمعاني، بل هي تابعة لها. ولو كانت الألفاظ أسباب المعاني لما فكر الإنسان إلا إذا تكلم. ولكننا نعرف بالتجربة أننا نفكر من غير أن نتكلم ونعرف أيضاً أن هناك كلاماً داخلياً تختلط فيه حدود الألفاظ. فكأن الألفاظ واسطة لا غاية أو كأنها جسر نعبره من غير أن ننتبه إلى جميع أجزاءه. نعم أن الألفاظ تؤثر في المعاني لأن مدار الأمر في اللغة ليس الفهم فقط بل الغاية هي إفهام السامع. وهذه الحاجة إلى الإفهام تغير من حالة الفكر الأولى. فالألفاظ تثبت المعاني في الأصل كثيرة الانبساط قليلة الثبوت. وقد قال هاميلتون إن الألفاظ حصون المعاني لأنها تجزيء الفكر وتحدده وتحلله وتجعله واضحاً وكثيراً ما توحي بالصور والأمثال والأفكار فيصل الكاتب بواسطة الألفاظ إلى غير ما أنبأ به فكره. ونحن لا ننقل إلى السامع كل ما تختلج به نفوسنا بل نرجع إلى الألفاظ. ونغربل بها معانينا وفقاً لما يقتضيه الحال لأنني حينما أتكلم لا أتكلم للتفاهم مع نفسي بل للتفاهم مع مخاطبي. وهناك ألفاظ فارغة وهناك ألفاظ مليئة. إلا أن غاية الثقافة هي إحياء المعاني في أذهان المتعلمين لا حشو ذاكرتهم بالألفاظ. خير للإنسان أن يكون كثير المعاني قليل الألفاظ من أن يكون قليل المعاني كثير الألفاظ. فاللغة هي أذن واسطة لا غاية. وهي بالجملة معلول لا علة، ولكنها إذا تنظمت صارت هي أيضاً علة. نعم؟ أنها تؤثر في الثقافة بتثبيت المعاني وتحليل الأفكار وإبداع الصور والأمثال إلا أنها لا تحيا إلا بما تشتمل عليه من المعاني وتتحلى به من الأفكار. ولذلك كان ارتقاء العلوم والآداب والفلسفة وقوة المثل الأعلى والإيمان القومي، كل ذلك

باعثاً على أحياء لغلت الأمم وانتشارها. واللغات لا تنمو ولا تنتشر إلا إذا ارتقت الحضارة. فقد تزول العناصر السياسية التي نشرت اللغة إلا أن اللغة تبقى بعد زوال العناصر السياسية هذا إذا كانت الثقافة التي تشتمل عليها ثقافة عالية. إن اللغة اليونانية لم تنقرض بالفتح الروماني بل بقيت مستقلة، لأن ثقافة اليونان كانت أعلى من ثقافة الرومان وكان الرومانيون يستقون من ينابيعها أصول حضارتهم. واللغة العربية لم تنقرض بالفتح التركي وزوال سلطان العرب لأن ثقافة العرب أعلى من ثقافة الترك ولأن الأتراك أخذوا عن العرب مبادئ دينهم وأصول علومهم ووحي أدبائهم وشعرائهم، وكذلك اليهود الذين هاجروا من أوروبا الغربية إلى أوروبا الشرقية فأنهم حافظو على لغتهم لأن ثقافتهم كانت أعلى من ثقافة البلاد التي هاجروا إليها. ولولا ثقافة اللغة العربية لما استطاع السوريون الذين هاجروا إلى أميركا أن يحافظوا على لغتهم بالرغم من العوامل الخارجية التي تحملهم على استبدالها بغيرها. فاللفة لا تبقى إلا إذا كانت تشتمل على ثقافة عالية. نعم إن هناك لغات ثقافية قد انقرضت كاللغة البابلية واللغة المصرية إلا أن العوامل التي أثرت في انقراضها تابعة لأسباب تاريخية عديدة منها استبدال الحضارتين البابلية والمصرية بحضارة اليونان وحضارة العرب ومنها بعض الوقائع التي محت كثيراً من آثار الأقدمين ذلك من الأسباب التي لا يمكن ذكرها هنا. فالثقافة قد تبقى إذن بالرغم من زوال العوامل التي ولدتها. ومن الصعب محو اللغات ذات الثقافة العالية لأنها ذات مقاومة خاصة. قال ميله: تمتاز اللغة العربية في الجزائر الخاضعة لحكم الفرنسيين بكونها لغة كبيرة من لغات الحضارة. ولذلك فهي تتغلب على لغة البربر، أعني لغة سكان البلاد القدماء، تلك اللغة التي لا يمكن كتابتها وليس لها آداب. أن تقدم الحضارة يجعل اللغة العربية قوية بالرغم من أنها ليست لغة الشغب الحاكم. إن العرب لم يميلوا أبداً، أيان كانوا، إلى هجر لغتهم فلم يستبدلوا في الدولة العثمانية لغتهم بلغة الترك ولا عدلوا عنها في تونس ومصر إلى اللغتين الفرنسية والانكليزية. إن مقاومة اللغة العربية وانتشارها هما اليوم أيضاً قويان جداً 2 - اللغة العربية لغة ثقافية اللغة الثقافية هي اللغة التي يمكن التعبير بها عن المسائل العلمية والفنية والفلسفية

باصطلاحات مفهومة من أهل اللغة أنفسهم لأنها تشتمل على ثروة من العلم والأدب والفلسفة. فاللغة العربية بهذا المعنى لغة ثقافية لأنها غنية بالألفاظ والمعاني. وفي كتبها القديمة من العلوم والآداب ما ليس يوجد في كثير من لغات العالم. فقد ترجمت آثار الأولين من اليونانية والفارسية إلى اللغة العربية في الصدر العباسي حتى أصبحت لغة ثقافية كبيرة وصار في وسع كل عالم مهما كان جنسه أن يجعلها لغة تفكيره وإبداعه. فحفظت فيها علوم الأوائل وصارت منبع الثقافة ومفتاح العبقرية حتى القرن السادس عشر، لا يطلع طالب الفلسفة على علوم الأوائل وفلسفتهم إلا إذا استكملت ثقافته بها. وهي لغة اشتقاق يسهل على المترجم أن يجد فيها ما يحتاج إليه من الألفاظ كاللغة اليونانية واللغة اللاتينية، على عكس اللغة التركية الجامدة التي لا يمكن أن يصاغ منها اسم أو فعل إلا بإضافة بعض السوابق واللواحق على المادة الأصلية فالمادة في التركية لا تتغير بتصريف الفعل بل تبقى جامدة. وإذا صح انقسام اللغات بنوع من القسمة إلى هجائية كالصينية وجامدة كالتركية واشتقاقية كاليونانية كانت اللغة العربية من هذا النوع الأخير الذي يمكن اعتباره أرقى من النوعين السابقين فليس في اللغة ما يمنعها إذن من إيجاد الاصطلاحات العلمية الحديثة لأنها لغة اشتقاق مجردة يمكن التوسع فيها بالقياس. إلا أن سهولة الاشتقاق جعلت كل مرتجم ينحت لنفسه اصطلاحاً يختلف عن الألفاظ التي وفق إليها غيره. المثل الأعلى في اللغة أن تكون الألفاظ مبسوطة على قدر المعاني. واللغات أما أن تكون غنية وأما أن تكون فقيرة، فإذا كانت غنية كانت ألفاظها لا تقل عن المعاني أو تزيد عنها وإذا كانت فقيرة كانت ألفاظها أقل من معانيها. فاللغة العربية من اللغات الغنية غير أن كثرة ألفاظها المترادفة واشتراكها في الدلالة على المعاني المتشابهة وعدم تقيد الألفاظ بالمعاني، كل ذلك جعل الدلالة بها على المعاني العلمية المعرفة قليلة الوضوح، لأنك تستطيع أن تطلق على المعنى الواحد ألفاظاً مختلفة. وتجد المترجمين اليوم يستعملون للدلالة على المعنى الواحد ألفاظاً عديدة فلا تدري وأنت تقرأ بعض ما نقلوه أين تبتدئ حدود دلالة اللفظ ولا أين تنتهي فالسوري إذا ترجم أو ألف كتاباً في الطبيعيات يكاد لا يفهمه المصري إلا إذا ألف اصطلاحاته. انظر إلى كلمة إن بعض المصريين يترجمها بالعقل الباطن وبعضهم يترجمها باللاوعي

ونحن نطلق عليها اسم اللاشعور. وهذه كلمة نحن نترجمها بالحدس وغيرنا يستعمل في الدلالة على معناها كلمة الا كتناه أو غير ذلك من الألفاظ. وهذه أيضاً كلمة وكلمة وكلمة وكلمة تكاد تجد لكل منها في لغتنا الحديثة أكثر من أربع كلمات فهل يمكن التفاهم بين العلماء إذا بقى الحال على هذه الصورة. وإن وحدة اللغة تنشأ كما قلت عن وحدة الثقافة وأقول أيضاً إنه من الضروري توحيد اصطلاحات اللغة لتوحيد الثقافة. لا يمكن تأسيس العلم إلا إذا أثبتت الاصطلاحات العلمية. هل يمكن الثقة والأمان برياضي يستعمل في دساتيره (س) بدلاً من (ق) و (ق) بدلاً من (س) أو يستعمل الأول مرة والثاني مرة للدلالة على الحد نفسه. لقد تباحثنا مع الأستاذ المسيو لويس ماسينيون في ترجمة قولهم فاقترح أحدنا ترجمتها بامتحان الضمير واقترح آخر ترجمتها بمحاسبة النفس. وربما كانت الترجمة الأخيرة أحسن من غيرها إلا أنك لا تستطيع أن توقف باب الاجتهاد في وجه المترجمين إذا بحثوا عن اصطلاح آخر ما دام الاصطلاح لم يثبت المعنى بعد. أن خير وسيلة لإيجاد الاصطلاحات في مباحث علم النفس هي الرجوع إلى كتب الصوفية ولكن أكثر الذين ينقلون كنب الفلسفة وعلى الأخص كتب علم النفس يجهلون الفلسفة العربية عامة وكتب الصوفية خاصة. ومن سوء الحظ أيضاً أن قسماً من كبيراً منهم لم يعرف أسرار اللغة العربية كما أن أكثر علماء اللغة لا يعرفون اللغات الأجنبية. فنخن حينما نترجم نفتش عن الألفاظ للدلالة على المعاني فلا نجدها. وكثيراً ما نكتب باللغة العربية ونفكر باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية. فقد نلبس المعنى لفظاً مزيفاً لا يدل عليه أو يدل على غيره وقد نشتق لفظاً جديداً لا وجوداً له في لسان العرب وقد نبدل اصطلاحاتنا من غير أن ندري ويكاد يكون الإبداع في مباحثنا العلمية والفلسفية مقصوراً على تثبيت اللغة العلمية وتحديد اصطلاحاتها. وهذا أمر لابد منه لأن العلم لا يتم إلا إذا تحددت دلالات الألفاظ وقد قال (كوندياك) ليس العلم إلا لغة مرتبة. وعلى قدر كمال اللغة يكون كمال العلم. إن اقتصار الإبداع في مباحثنا العلمية الأولى على تثبيت الاصطلاحات أمر ضروري ولابد لكل نهضة حديثة من المرور بدور الترجمة، هذا إذا أرادات أن توسع نطاق علومها حضارتها. والنقل في تاريخ الحضارة يسبق بالجملة الإبداع كما أن المعلم يسبق العالم.

والسبب في ذلك أن جهود المترجمين تتوزع بين المباني والمعاني فينصرفون إلى الألفاظ أكثر من انصرافهم إلى الأفكار وهذا أمر ضروري لا محيد عنه. إلا أن حركة الترجمة لا تزال بطيئة وهي في الغالب غير منظمة لأن كل كاتب يترجم ما يروق له ما هو ضروري لثقافتنا الحديثة. إن هناك كتباً ليس من شأن الأفراد أن يقدموا على ترجمتها. ولم توفق لجان الترجمة والتي تشكلت في بعض بلدان الشرق العربي إلى انتقاء أحسن الكتب، وحركتها لا تزال مشوشة. وربما كان توزع العمل بين مختلف الأقطار العربية وارتكازه في الغالب على جهود الأفراد، وعدم تنظيم الحركة الفكرية من الأسباب التي زادت التشويش والالتباس في الاصطلاحات العلمية. أن ترجمة الكتب في عصر الرشيد والمأمون كانت منظمة متمركزة، ولذلك كانت الاصطلاحات العلمية التي وفق إليها تراجمة ذلك العصر أقرب إلى الوحدة من الاصطلاحات التي اخترعناها الآن. لقد كانت اللغة العربية في الماضي لغة ثقافية عظيمة وكانت كما قلنا خزانة العلم والفلسفة ومن السهل علينا أن نعيد لها هذه الصفة بنقل أصول الثقافة الحديثة إليها. إلا أنه من الواجب على المترجمين أن يتفقوا على الاصطلاحات العلمية ومن واجب المجلات أن تعمل على نشر هذه الاصطلاحات وتعميمها. قال لي أحد المستشرقين مرة إن بعض علماء الغرب يعتقد أنه ليس بالإمكان تدريس الفلسفة باللغة العربية. قلت إن ذلك ممكن ودليل إمكانه حصوله. نعم إن النصوص الفلسفية لا يمكن تدرس باللغات الأجنبية ولكن ذلك أمر مؤقت لأن هذه النصوص يمكن أن تنقل إلى اللغة العربية وحينئذ تدرس بها كغيرها. فاللغة العربية الحديثة لا تصبح لغة ثقافية إلا إذا ترجمت إليها جميع أصول الثقافة الحديثة واهتدى المترجمون إلى الاصطلاحات الصحيحة وتوحدت اللغة العلمية في جميع بلدان الشرق العربي. ويمكننا أن نذكر هنا بعض الأسباب التي أخرت هذه الوحدة. 1 - عدم استعمال اللفظ بمعنى واحد. أن المترجم نفسه لا يتقيد بالاصطلاحات التي استعملها فتجد للاصطلاح الواحد في كتابته معنيين أو ثلاثة. 2 - عدم تثبيت دلالة اللفظ. إن الكاتب إذا لم يعرف لفظه فلا تخلو كتابته من الغموض والالتباس.

3 - تعلم الألفاظ قبل فهم المعاني الدالة عليها. 4 - عدم اتفاق المترجمين على الاصطلاحات العلمية وربما كان هذا الأمر ناشئاً عن توزع الجهود وتبعثرها وفقدان التنظيم والتعاون. 5 - تكلف المترجمين إيجاد اصطلاحات جديدة من غير حاجة إليها. 6 - تعصب بعض الكتاب للاصطلاحات التي اهتدوا إليها بالرغم من قناعتهم بفسادها. 7 - جهل بعض المترجمين اللغة العربية. 8 - عدم اختصاص بعض المترجمين بالعلم الذي ينقلونه، وضعف ثقافتهم العامة. وربما كان حصر هذه الأسباب في مقال واحد صعباً جداً. ونحن لم نقصد من ذكرها هنا إلا دفع المترجمين إلى التعاون لإيجاد اصطلاحات علمية موحدة ولا يتم ذلك إلا بالخروج من نطاق حياتنا الضيق واقتباس الكتاب بعضهم من بعض وتنظيم حركة الترجمة على أساس مشترك وتنشيطها بجميع الوسائل الفعالة فإن هذا العمل خير عمل يستطيع الجيل الحاضر أن يقوم به لإيجاد لغة ثقافية تحفظ العلم وتهيئ للأجيال المقبلة سبيل الإبداع. جميل صليبا

المرأة والتفكير

المرأة والتفكير إذا تزوجت يا (هرماس) بامرأة بخيلة حفظت لي مالي، وإذا تزوجت بطروبة أغنتني وإذا تزوجت بعالمة علمتني، وإذا انتخبت عاقلة لم تغضب علي، وإذا اقترنت بغضوبة تعودت معها الصبر، وإذا تزوجت بمغناج رغبت في رضاي، وإذا أحببت أديبة لطيفة ربما تلطفت بي ورقت لحالي ثم أحبتني. ولكن أجبني يا (هرماس) ماذا أفعل بالمرأة التقية التي تخدع الله وتخدع نفسها. (لابرويه ر) 95) علموا الفتاة أن تكون معتدلة في القراءة وأن تفضل عليها الأشغال اليدوية. القراءة تضر الفتاة أكثر مما تنفعها. (مدام دومنتنون) لا يقل ذكاء المرأة عن ذكاء الرجل. ولكنها أقل منه شعوراً. إذا كان في المرأة ما قلّ نموه من ملكات النفس فليس هو العقل بل الحساسية. والمقصود من الحساسية الحساسية العميقة، لا الهيجان السطحي والاضطراب الظاهر. (هنري برغسون) ينبوعا الأخلاق والدين ص41

الديمقراطية الحديثة في أمريكا

الديمقراطية الحديثة في أمريكا بقلم الأستاذ شاكر العاص إن مدلول الديمقراطية آخذ بالتبدل والانحراف وهذا مما يزيد بحثها أبهاماً وتعقيداً وخصوصاً أنها تعني في الأصل أشياء كثيرة متنوعة. فالمبادئ العامة التي أقرتها والنظام الذي وضع خصيصاً لإبرازها لحيز العمل والتطبيق هي موضع بحث ونقد شديد. وقد اتخذت النتائج التي حدثت بعد تطبيقها خلال قرن ونصف معياراً للتمييز بين الجيد والخبيث فيها. ولم يقف بحث الديمقراطية وقد وضعت على مائدة التشريح عند هذا الحد بل تناول الأسس والنظريات الفلسفية التي قامت عليها حتى الآن. وقد ظهرت هذه الأسس بعد البحث بالية وهي التي لم يخامر الشك بها صدور الباحثين حتى عهد قريب وإنها غير قادرة على حمل البناء القائم عليها. الديمقراطية في الواقع نسيج حاكه التطور الاقتصادي والتوازن الجديد الناتج عنه بين مختلف القوى الاجتماعية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فهي من وجهتها الفعلية تحقق شيئين الرأسمالية الطليقة والحكم الشعبي. ولتحقيقهما أقرت الديمقراطية المبادئ العامة المعروفة: الحرية والمساواة وصيانة الحياة والملكية وحرية المقاولات. وجعلتها دليلاً ينقاد إليه المشرعون ومن ينتهي إليهم الأمر. وأحدث النظام التمثيلي ليتسنى للشعب ممارسة السلطة التي وضعت فيه. الحملات القائمة اليوم على الديمقراطية شديدة سواء في أوروبا أو في أمريكا ولكنها في الأولى أكثر شدة وعنفاً. ولكن هذه الحملات غير موحدة القيادة مختلفة في الغاية. فهي في الواقع هجمات على مواطن معينة في الديمقراطية يستهدف بها المهاجمون ما يحسبونه موطن ضعف فيها. ويقوم بهذه الحملات من لا يدينون بالديمقراطية بمعناها العام وهو أن الشعب مقر السلطات. أو الذين لا يقبلون بعض مبادئها العامة كصيانة الملكية وحرية المقاولات. ويطعن هؤلاء بالناحية الاقتصادية من الديمقراطية والنظام الرأسمالي الذي تحميه. فهم يرون أن الرأسمالية الطليقة سخرت المبادئ والأنظمة الديمقراطية لتحقيق أغراضها ومآربها وإنها تعمل عملها التخريبي في المجتمع تحت ظل القانون وحماية الدولة. والقائمون بهذه الحملة هم ما يطلق عليهم أجمالاً اسم الاشتراكيين في أوروبا على

اختلاف صبغاتهم وغاياتهم ويسمونهم راديكاليين في أمريكا. وأمضى سلاح يستعمله هؤلاء هو الماركسية الصحيحة أو المحرفة أو النظريات التي تقرب منها وأهم ما تتصف به حركتهم إذا استثنينا الشيوعيين هو تمسكها بالشكل الديمقراطي السياسي أي التصويت العام والبرلمان. أما الذين يحاربون فكرة الديمقراطية ولا يرونها صالحة لحياة الشعوب فهم فئات خلقتها ظروف ما بعد الحرب يمثلها الآن الفاشستية الايطالية والاشتراكية الوطنية الألمانية وقد نشأت هذه الجماعات منذ تكونها نشوءاً ثورياً أي أنها تؤمن بالعمل المباشر ولا تتقيد بالقوانين والأنظمة العامة إلا حينما ترى فيها معيناً على تحقيق أهدافها. وحملتها على الديمقراطية شديدة جداً كما هو معروف. لا تقر فائدة التمثيل الحاضر بل ترميه بالفساد والانقياد لتحقيق المطامع والغايات الشخصية وتتهمه بالعجز عن حسن إدارة الشؤون العامة وخصوصاً عن القضاء على الماركسية الرهيبة التي تهدد حقاً كيان النظام الاجتماعي الحاضر. وسلاح هذه الحملة بعض المبادئ الفكرية كالقومية وإقرار مبدأ التمييز بين الأجناس وبين الطبقات. وبالرغم من كون هذه الحركة فكرية فهي لا تهمل الناحية الاقتصادية في برامجها وأعمالها وتصرح بمحاربة الرأسمالية الطليقة ولكنها في الواقع تحتفظ بجوهرها وهو صيانة الملكية الشخصية كما تحتفظ بمبدأ حرية المقاولات وأن كانت ترمي لتنظيمه. إن مهاجمة الأنظمة الديمقراطية ضعيفة في الوقت الحاضر في أمريكا ولكن هناك نقمة تكاد تكون عامة على بعض الأصول الإدارية وعلى زمرة السياسيين أجمالاً. فالسياسة والسياسيون موضع ازدراء واحتقار كالاحتيال والمحتالين. وهذا الحادث يكاد أن يكون أمريكياً بحتاً ولا تصعب معرفة أسبابه على من عرف شيئاً عن حياة الأمريكيين العامة. فالواقع أنهم أخفقوا أخفاقاً شديداً في ممارسة الحكم والسياسة والإدارة. فلم يستفيدوا من ذلك شيئاً من أمهم انكلترا حيث بلغت هذه الصناعة الأوج في الإتقان والدقة وتفوق الأمريكيون تفوقاً لا يجارى في ممارسة الأعمال الصناعية والمالية على وجه عام. وقد خلق نجاحهم هذا ثقة في نفوسهم لا يوازيها غير ثقة الانكليز الناتجة عن نجاحهم في صناعة الحكم والدولة. إن نجاح رجال الأعمال في أمريكا ترك أثراً عميقاً في الديمقراطية الأمريكية إذ

تكيفت لتسهل النجاح في هذا المنحى. وسار الشعب وراء ملوك المال بلا تحفظ ولا تردد مندهشاً بما أحرزوه من ثروات هائلة مؤمناً بكفاءتهم ومقدرتهم الخارقة. لم يباشر هؤلاء الملوك الحكم بأنفسهم بل اكتفوا بشراء رجال السياسة وتسخيرهم فيما يريدون فاتقوا بذلك سخط الشعب واحتفظوا بإعجابه وتكريمه. وحرص رجال السياسة على ما اكتسبوه من سلطة وعملوا على توطيدها وأساءوا للشعب يحميهم جيش من المرتزقة والأتباع. أن تسلط رجال السياسة واستفحال شرهم دهراً طويلاً دون أن يحرك الشعب ساكناً ضدهم لغز يصعب علينا فهمه. ولكن الغرائب غير مستغربة في أمريكا. فشعبها النشيط منصرف لأعماله لا يعبأ بالسياسة ولا يعيرها اهتماماً. أما ملوك المال فلم يروا فائدة كبرى بالضرب على أيدي المسيئين وقد صرح أحد قادتهم في نيويورك بأن شراء هؤلاء الإماقيين أو دفع جزية لهم لاتقاء شرهم هو أقل ما ينبغي أن ينفق من المال لطردهم والقضاء عليهم. إن هذه النقمة على رجال السياسة امتدت منذ عهد غير بعيد حتى أحاطت بملوك المال. ولكنها تتعلق من حيث الهدف بالفروع والتطبيق ولا تلمس الأصول والمبادئ العامة. أما الحملة الحقيقية فتستهدف النظام الاقتصادي المتقمص في ثوب الديمقراطية وترى هذا النظام لم يعد متفقاً مع روح الديمقراطية وجوهرها وأن الظروف التي وضعت فيها المبادئ العامة المشتقة من فكرة الديمقراطية قد تبدلت تبدلاً كلياً وإنه لابد من إعادة النظر في تلك المبادئ لتغييرها أو تفسيرها تفسيراً جديداً يلتئم مع ظروف المعيشة الحاضرة. فالأمريكي يشعر اليوم أن حقه في العمل والكسب لأجل العيش أهم من حقه في التصويت والعامل الأمريكي اكتشف بعد غفلة طويلة أن الحقوق الممنوحة له في الدستور لم تفده دائماً في تحسين أحواله وأن أكثرها سلاح يستخدم ضده ولذا أصبح مرتاباً بتلك الحقوق. إن القادة من المحافظين على الديمقراطية شديدو الانتباه لحاجات الشعب التي نشأت من تبدل ظروف الحياة والعيش. ينظرون بعين الاعتبار للتوازن الجديد بين القوى الاجتماعية الحاضرة وهو بعيدون عن التعصب والتمسك بالتقاليد لذاتها شديدو الحرص على التطور والتكيف. لا يجهلون أن العامل الاقتصادي قد اكتسب أهمية في الحياة الحاضرة لم تكن له في زمن من الأزمنة. وأدركوا أنه لابد من تبديل مضمون الديمقراطية لصونها من مخاطر الهجمات الموجهة إليها سواء من اليمين أو الشمال. ورأوا أن الإصرار على المحافظة على

مبادئ لم تعد صالحة لتسيير حياة الأفراد في السبيل المرضية لاشك منته باضمحلال الديمقراطية واندثارها. ولذا تسير الديمقراطية الأمريكية في طريق التضامنية إن هذا التبدل في مضمون الديمقراطية والانحراف عن مبادئها العامة المقررة والسير بها في سبيل جديد ليس هو كل ما يحدث حولها ويرمي لإصلاح شأنها وجعلها صالحة للقيام بمهمتها الرئيسية. بل هناك بحث ودرس عميق يتعلق بوظيفتها يرمي لإيجاد أفضل شكل ممكن تستطيع به الديمقراطية تأدية تلك المهمة. ولإيفاء هذه الناحية حقها من البحث ينبغي أن ننظر للديمقراطية من ناحية جديدة وأن نحلل مضمونها على مستوى أعمق من الأول فلا نقف عند مظهرها السياسي والاقتصادي كما مر معنا. الديمقراطية في الأصل نظرة جديدة في الحياة والإنسان وطريقة مستحدثة لجعل علاقات الإنسان بأمثاله أكبر نفعاً وأعم فائدة لجميع الذين يساهمون في تلك العلاقات فقوامها إكبار شأن الفرد واعتباره غاية لذاته. ولذا منحته حقوقاً متنوعة ليتمكن من تنمية مواهبه وإرضاء رغباته ولم تكلفه للحصول عليها نزاعاً وعراكاً مع بيئته. نشأت الديمقراطية وترعرعت في جو الحكم المطلق والاستبداد الشامل فكانت رد فعل وثورة على الكرامة المهانة والحقوق المهضومة. فهي تشبه في منشئها الاشتراكية الحديثة التي خلقت في صفوف العمال في أوربا في القرن التاسع عشر بكونها رد فعل وثورة على النظم والأوضاع القائمة. واستلزم ظفر الديمقراطية وضع نظام جديد يستطيع به الشعب ممارسة السلطة التي انتزعها. وقد أحدث النظام التمثيلي عامة والبرلماني خاصة لتحقيق هذه الغاية. وما هذا النظام التمثيلي كما هو معروف الآن إلا شكل من الأشكال التي يمكن أن يتخذها الحكم الديمقراطي. فليس هو بالشكل الوحيد ولعله ليس أفضلها. يرى المحدثون من أنصار الديمقراطية أن إخفاقها في تحقيق غاياتها العليا وهي توزيع أكبر مقدار من السعادة على أكبر عدد من الناس خلال أطول مدة من الزمن نتج بالدرجة الأولى عن عيوب ملازمة لهذا النظام الذي وضع لتخفيفها وإبرازها لحيز العمل. فإيفاد ممثلين لممارسة الحكم لا يرجعون لرأي الشعب إلا فيما ندر من الأحوال (وهذا في بعض الممالك فقط) لا يقول فيها أكثر من نعم أو لا لا يدل على ممارسة الشعب للحكم ممارسة فعلية كما يريد أنصار

الديمقراطية الصحيحة. ورأيهم أن النظام الديمقراطي في شكله الحاضر قائم على خطأ في إدراك وظيفة الديمقراطية الأصلية. ويرون أن هذا الخطأ منبعث من تسرب فكرة التضاعف القديمة التي اعتنقها الإنسان دهراً طويلاً ففرق الباطن عن الظاهر والروح عن الجسد والغاية عن الواسطة والنظري عن العملي والخ. والخطأ في النظام الحاضر يظهر لهم في التفريق بين الغاية الشيئية والعمل لإدراكها. فالأنموذج المتبع في هذا النظام الحاضر هو أن يضع الخبراء الغايات والأهداف ثم تؤخذ موافقة الشعب عليها. يعترض المحدثون على هذه الطريقة في مرحلتها الأولى والثانية وقولهم في ذلك أن الغايات والأهداف التي يحددها الخبراء ليست في الواقع أكثر من غايات الخبراء أنفسهم فهي إذن غريبة عن الأفراد الذين وضعت لأجلهم والذين يطلب إليهم العمل لتحقيقها. أما موافقة الشعب على ما أقر الخبراء فلا تعني أنه أخذ على نفسه التقيد بما وافق عليه. لأن هذه الموافقة تحصل في المستوى الفكري بينما التنفيذ والعمل يقعان في مستوى العادة. إن هذه الانتقادات الموجهة لشكل الديمقراطي لإصلاحه لم تكن ممكنة بالأمس لعدم توفر الشروط ولضيق نطاق المعرفة، فهي كما يظهر للقارئ مستندة للسكلجة الحديثة وللفلسفة البراغمية ولتقدم وسائط الاتصال والنقل (الراديو والطيارة) تقدماً لم يحلم به أحد قبل جيل واحد. فالسكلجة الحديثة تشير إلى أن المثل العليا لا أثر لها في حياة الأفراد اليومية إلا بمقدار ما يفهمونها ويحيطون بها. وإن الأفراد لا ينفذون بغير استعمال العنت والشدة خطة مرسومة إلا بقدر اشتراكهم في وضعها واتصالها بحياتهم العادية وأن كل رأي أو وجهة نظر مهما كان مصدرها لا تترك أثراً في حياة الفرد الخاصة إلا بمقدار مامحصها بذاته وأحاط بما يترتب عليها بنفسه. وإن المثل الأعلى لا يكتسب تأثيراً وقوة إلا على نسبة تطبيقه في حالات وأوضاع متنوعة. وتتفق تلك الانتقادات المستنبطة من السكلجة الحديثة مع وجهة نظر البراغمية في تفسير الديمقراطية وتحديد مرماها وبما أن النتائج التي توصلت إليها السكلجة قائمة على درس الحياة كما يعيشها الأفراد تكون مهمة المحدثين تحويل الأنظمة الديمقراطية لجعل هذه نسخة طبق الأصل عن الحياة كما أدركها العالم. هل يوفقون لاكتشاف الطرق الناجعة لتحقيق

ذلك؟ هذا موضع والدرس الآن والجهود المنصرفة في هذا السبيل عظيمة. والنتائج التي وصل إليها الدرس تحمل على التفاؤل والاطمئنان. شاكر العاص

ما فهمته من بول فالري

ما فهمته من بول فالري إلى أستاذنا الفاضل المسيو غوستاف كوهين بقلم الدكتور أنور حاتم غموض فالري وبعض أسبابه قرأت تقريباً جميع الكتب التي وضعها فالري (وعددها نسبة لما وضعه غيره من الكتاب محدود جداً) فظننت أني فهمت القليل منها وقرأت الدراسات والتحليلات والانتقادات والتفاسير والترجمات (الترجمات باللغة الفرنسية وبغيرها من اللغات) التي وضعت عن تآليف بول فالري فلم أفهم منها شيئاً أبداً والظاهر أن غموض شاعر المقبرة البحرية داء سار وقع فيه كل من عاشره مدة من الزمن والحقيقة أن شخصية فالري الأدبية غريبة في تطورها، شبيهة بالزئبق، يستحيل القبض عليها والوصول إليها وهو القائل عن المسيو تست ذلك الشخص النادر الذي خلقه في نشوة من نشوات شبابه: لا يمكن أن يقال عنه مالا يكون في البرهة نفسها مخالفاً للحقيقة. ولا شك أن أجهل الناس بفالري هو فالري نفسه وقد كثر شراحه في أيامنا هذه واعتقد أن فالري لم يفهم شرح أشعاره أكثر من أشعاره نفسها التي تحتمل كثيراً من المعاني ولا يدري هو أيها الأصح، وأن كان له فلسفة فتمتاز بتحركها وتحولها فهي لا تنفك تتركب بقالب جديد كل يوم والألفاظ برأيه ليس لها قوة ثابتة ولا تحتوي على أفكار جامدة فالألفاظ تقلب حسب النفوس وتأخذ القالب أو الصورة التي يريد الكاتب أو القارئ أن يمنحها إياها وإذا استطاعت الكلمات أن تسجن الفكرة وترفع أمامها كأسوار تمنعها من السير قتلتها وقد وجدنا تصريحات المسيو تست موافقة لنظرية فالري. قال المسيو تست: يعيبون غموض أقوالي ولكنني أن نظرت إلى الكون لا أرى إلا غموضاً. . . يفهم الأمور من يفحصها فحصاً سطحياً. . . أثمن ما في شخصيتي غامض علي ولو تمكنت من إدراك كل ما في نفسي لحرمت من الوجود. . . أشبه الألفاظ التي بواسطتها تجتاز مسافة فكرة بألواح خشبية سريعة الانكسار طرحت فوق هاوية يستطيع الإنسان المرور عليها لا الوقوف فوقها. فالرجل المستعجل يمر عليها ويسلم وأن أراد أن يتأخر تنكسر ويقع في أعماق الهاوية. هكذا من استعجل في فحص الألفاظ يدركها (أو يظن أنه أدركها) ومن أراد أن يطيل البحث فيها يتدهور في أعماق نفسه ويتيه. . .

إذاً فلا عجب إن صعب على كل قارئ إدراك بول فالري ومن المستحيل تعريف كل ظاهرة من ظواهر نفسيته باللغة العربية ولذلك لأسباب عديدة أهمها: أن فالري اكتشف ميداناً جديداً للأدب ما اعتاد عليه النطق البشري فقد درس تطورات النفس في حالة الإبداع ونزاع الوجود والعدم وتوغل في الأنحاء المظلمة من روحه يستنبط منها كنوزاً ظهرت لنا وله غريبة وقد عجز النقاد وعجز الشاعر عن وصفها فأعطى فالري للألفاظ حياة جديدة وإبداع لأفكاره لغة جديدة لا يمكن تعريبها حتى ولا تحويلها إلى اللغة الفرنسية العادية وأرى أن كل ترجمة للمقبرة البحرية أو ملكة آجال البشر الشابة أو نرسيس أو سواها من أشعار فالري نصيبها الفشل. ومن الأسباب التي تجعل البحث عن فالري متعذراً في اللغة العربية هو أن سحر أشعاره ليس فقط في المعاني ولكنه كائن أيضاً في انتخاب العبارات والألفاظ حتى والحروف فقد استطاع أن يرتب الألفاظ في الشعر بصورة موسيقية وموسيقى الأشعار تضيع إن نقلت إلى لغة أخرى وفالري يعتقد بقوة العدد وينظم قصائده كمهندس يبني القصور والهياكل. وهو في فرنسة أول من حدد العلاقات القوية الموجودة بين الشعر والرياضيات فغاية الشعر الجمال والجمال في تناسب الخطوط وتناسب الخطوط يقتضي دقة الرياضيات وروح الشاعر المبدعة. وأن أردنا أن نعرف أهمية هذه النظرية عند فالري فما علينا إلا أن نفتح أحدث كتبه النثرية المشهورة وبالينوس. أو بالينوس المهندس بنى هيكلاً جميلاً للإله هوميس ولما سئل عن غايته من بناء هذا الهيكل أجاب: أردت عندما رفعت هذا الأثر أن أحفظ ذكر يوم مضيء من حياتي. يا لها من استحالة عذبة! لا أحد يعلم أن هذا الهيكل الجميل هو صورة رياضية لفتاة أحببتها وكنت بحبها سعيداً فالهيكل يمثلها لي فالعامي لا يدرك كيف يمثل صورة الفتاة أما الشاعر فله حاسة يستطيع بواسطتها العثور على العلاقات الخفية التي تربط كل صورة تمثل الجمال ببقية صور الجمال. لا نريد أن نطيل البحث في هذا الموضوع خوفاً من الوقوع في الغموض أو الإبهام وغايتنا من هذه الملاحظات بيان الصعوبات التي تمنع الكاتب العربي من التكلم عن فالري باللغة العربية وسنأتي فيما بعد ببعض ما نستطيع التعبير عنه لشاعر من أشهر شعراء الغرب. حياة فالري وتطور أفكاره

من يرى فالري لأول مرة يصعب عليه أن يرفع النظر عنه فهيئته الخارجية تستدعي النظر: قصير القامة ضعيف البنية يمشي ببطء وهو منحني الظهر قليلاً، شعره على وشك البياض، متدل على وجهه من جبهته اليمنى، يغطي حاجبه، فمه عريض يكلله شاربان كثيفان قصيران، خداه أجوفان تقطعهما تجعدات عميقة، عيناه صغيرتان لا أذكر لونهما ولكنك تشعر أن أطلت النظر فيهما بأنهما موجهتان إلى داخل فكره لا إلى العالم الخارجي فكأن أنظار فالري تنفى وجود كون خارج عن الكون الذي في نفسه. ولد فالري في مدينة على البحر المتوسط تدعى سيت في 30 أكتوبر من سنة1871 وكان والده من أصل كورسيكي وأمه ايطالية تنتسب إلى إحدى عائلات مدينة جنوى وفي السنة السابعة من عمره رحل إلى انكلترا ثم عاد إلى بلدته وبدأ تحصيله في مدرسة مرتفعة فوق المرفأ على مصعد جبل بالقرب من حقل الأموات ذلك السطح الهادئ بين أشجار الصنوبر والقبور الذي سيخلد ذكره في المقبرة البحرية. وكان فالري الصغير تلميذاً متوسطاً في اجتهاده ومطالعته، بعيداً عن رفاقه ميالاً إلى الانفراد ولم يتخذ رفيقاً غير البحر المتلألئ المتغير الألوان حسب أشعة الشمس المتقلب فوق درره الثمينة المستترة، البحر الذي سيشبهه في المستقبل بنفسية الإنسان ولما بلغ السنة الثالثة عشرة من عمره أرسل فالري إلى مونبلييه ليكمل تحصيله وهناك أهمل دروسه، فشعر بوحشة البحر وقضى الليالي العديدة يحلم بدخوله في سلك البحارة نظير أجداده الكورسيكيين ولكن ضعفه في ذلك الزمان في الرياضيات حال دون مساعيه وقد انكب على مطالعة فيكتور هوكو وتيوفيل غوتييه ثم أحب فن البناء وبدأ يختصر معجم البناء الضخم الذي وضعه أحد المهندسين الإفرنسيين المشهورين في القرن التاسع عشر المدعو فيوله ليدوك - ولما شعر بأنه لا يستطيع اتخاذ مهنة معينة باشر مثل أكثر شبابنا اليوم بدرس الحقوق في معهد مونبلييه الذي سيكون عميده بعد بضع سنين شقيق فالري الأكبر جول فالري. وبالطبع فإن شاعرنا نام في أغلب محاضرات أساتذة الحقوق ومما لاشك فيه أنه لم يجد أقل لذة من تلك الدروس الثقيلة الهضم ولم تلهه المدرسة عن الرياض والجبال والغابات. وقد بدأ بقراءة كاتب من أغرب كتاب فرنسا اسمه هو يزمنس واضع كتاب في الطريقو

بالعكس ودخل فالري في الخدمة العسكرية قبل أن يبلغ السنة التاسعة عشرة من عمره وتعارف في هذا الوقت مع الشاعر بيير الويس مؤلف افرودتيه وأناشيد بيلتيس. وأسس بيير لويس بمساعدة بعض شباب ذلك الوقت 0واسمهم اليوم اندره جيد وليون بلوم وهنري بيرانجه) مجلة أدبية عنوانها الصدفة نشر فالري أول أشعاره فيها ومن اشتراكه في تحرير الصدفة بدأت شهرته وقد تعرف بالشاعر الذي سيحدث تغييراً عميقاً في روحه ويساعده على اكتشاف شخصيته وقوته وهذا الشاعر هو ستيفان مالرمه مبدع الغموض الشعري. قرأ فالري أشعار مالرمه في ديوان استعاره من اندره جيد وشرع في زيارته كل أسبوع يوم الثلاثاء حيث كان يستقبل ضيوفه من الساعة مساءً إلى نصف الليل في داره الكائنة بشارع روما رقم89 وكان يجتمع في دار مالرمه بشارع روما أشهر أدباء فرنسا ومن أحاديثهم ومحاوراتهم انتشر مذهب الشعر المحض كان تأثير مالرمه في فالري عظيماً جداً وقد اعترف به في مقالات عديدة ومالرمه أول من قاوم تلك العقيدة الابتدائية التي اشتهرت في عهد فيكتور هوكو والتي تختصر بجمل كهذه: الشاعر نبي والشاعر رسول وللشاعر رسالة إلهية على الأرض والشعر الهام إلهي والشاعر يكتب شعره في نشوة وهيجان حينما تحل به الآلهة أو الشياطين ابتعد فالري عن هذه الآراء المبتذلة وأحس بأن الشعر يولد من تضييق الفكر وقهره بتفكير عميق متواصل والشاعر يستخلص الشعر من الحياة كالمعطر يستخلص من الورد روحه. الشاعر كيماوي يركب من تلك الأجسام التي نسميها الألفاظ مادة أن دخلت على النفس من حاستي السمع والنظر تسحرها. والشاعر صائغ يصوغ الجمال بصبر ودقة وطول بال حسب قواعد دقيقة هي شرط كيان الشعر. الشعر المحض هو الشعر الخالي من الفصاحة والبلاغة والحب والبغض والأمل واليأس ومن جميع الأهواء الإنسانية والتعاليم الأخلاقية فالشعر المحض موسيقى قوية تتولد من كلمات منتخبة أن سمع العقل رنتها يضطرب ويتلذذ حتى ولو لم يفهم معنى الكلمات ولستيفان مالرمه قصائد يستحيل على أي كان إدراك معانيها تلك هي الآراء التي استولت على فالري بالقرب من سنة 1892 وقد كتب قصائده في ذلك الوقت تحت إشراف مالرمه واستوطن باريس في غرفة حقيرة كائنة في (الحي اللاتيني) واستطاع

بمساعدة صديقه هويزمنس أن يتوظف في الوزارة الحربية وقد كان يقضي ساعات الفراغ كسولا (الكسل آفة من آفات الشباب) يتنزه في حديقة (الحي اللاتيني) الكبرى برفقة أحد أصدقائه إلى أن تزوج بفتاة اسمها جان كوبيلار في 31 أيار سنة 1893. ولما أتى عام 1893 ترك فالري وظيفته في وزارة الحربية وعين أمين السر لرئيس شركة هافاس ثم انتقل إلى لوندرا حيث ترفع إلى مديرية مكتب الأخبار الإفرنسي وفي فرصة الصيف عاد إلى مونبلييه وكتب في الدار التي ولد فيها الفيلسوف أوغست كونت السهرة مع المسيو تست. كتب فالري السهرة مع المسيو تست بعد أن دخل في حياته الأدبية شاعر آخر هو الأميركي ادكاربو ومن هذا الوقت تعشق فالري العلوم الطبيعية ودرس الأحلام وتأثيرها في تطور الأفكار قبل أن تلبس ثوب الألفاظ وقد درس فالري تحت تأثير ادكاربو حالة الحالم اليقظان وتلك النغمات الشجية المسكرة التي يصدرها بعض الرجال من أعماق نفوسهم دون أن يستطيعوا التعبير عنها. المسيو تست صورة من صور فالري العديدة وهو مخلوق غريب أبعدته تأملاته ويأسه وعجرفته عن قوانين الوجود البشري فأضحى آلة مفكرة هدامة لجميع مظاهر الحياة فلا شيء خارجاً عن فكره وحياة فكره ذاتها ضعف لأن الكمال بالعدم (يوجد شيء قليل من مذهب الفيلسوف الألماني شوبنهور عند فالري) ومذهب فالري الأدبي هو لاشك مذهب العدم وقال مالرمه يوماً إن أجمل صفحة قرأها هي الصفحة البيضاء العذراء المنزهة عن كل دنس أي التي لم يكتب فيها شيء،. . . . . ولم يتوصل المسيو تست إلى التهرب من بشريته لأنه متزوج وامرأته أميلي تست رمز حي للقلب البشري في أسمى عواطفه وقد دعاها الواحة يلتجئ المسيو تست إلى واحته ليستريح من العناء الذي يقاسيه في الصحراء التي تمتد في أعماق نفسه. . . . وامتنع فالري عن الكتابة وأخذ يدرس الرياضيات والهندسة وعلوم الطبيعة وما وراء الطبيعة وتوفي مالرمه سنة 1898 وأحدث موته صدمة قوية في عقل وقلب فالري وأعلنت الحرب الكبرى ولم يشترك فيها إلا بضعة أسابيع ثم أتى عام 1917 وفي يوم من عام 1917 رجع فالري إلى ميدان الأدب بعد أن احتجب أكثر من عشرين سنة ونشر في

المجلة الفرنسية الجديدة قطعة شعرية أهداها إلى اندره جيد وعنوانها: ملكة آجال البشر الشابة فكان لهذه الأشعار صدى عظيم في فرنسا وفي الخارج ومن ذلك الحين انتشر اسم فالري وحاز الدرجة الأولى بين شعراء فرنسا المعاصرين ثم نشر السحر وفيه المقبرة البحرية (1921) وكان قد جمع أشعار صباه ونشرها تحت عنوان مجموعة أشعار قديمة (1920) ثم نشر (النفس والرقص) (1921) (واوبالينوس) (1923) وزار انكلترا وبلجيكا واسبانيا وقابل موسوليني ودانونزيو في ايطاليا وألقى محاضرات عديدة في أوروبا الشمالية وفي هولندا وفي سويسرا وفتحت أمامه أبواب المجمع العلمي الفرنسي بعد موت أناتول فرانس في سنة 1927 وآخر كتبه نشرها هي (الفكرة المستقرة) (وأشياء مكتومة) (وحكم) (ونظرات في العالم الحديث) وقد أسس مجلة اسمها (تجارة) نشر فيها مقالات مهمة وتوقف عن نشرها من مدة وجيزة. وفي اليوم الذي نكتب فيه هذا المقال (27 آذار سنة 1934) بلغ فالري من العمر اثنتين وستين وأربعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً ولم يزل حياً يرزق ضعيف الصدر والصوت قليل النوم صاحب عائلة وأولاد يعاشر السياسيين والنبلاء والأمراء وقد أصبح كاتباً سياسياً أوروبياً رسمياً يمثل الجمهورية الفرنسية في لجنة التعاون الفكري الدولي في جنيف ويعاضد بأدبه المشتغلين في بث روح السلم والإخاء بين دول أوروبا ومرشحاً لجائزة نوبل التي يبلغ قدرها مليون فرنك تقريباً. هكذا هبط من السماء التي كان محلقاً فيها المسيو تست ورجع بين البشر. فهل أراد كسواه من مخلوقات الله الحية أن يتعلق بالحياة بكل ما فيه من قوى حينما شعر باقتراب الموت؟ أنور حاتم

وربيع القلب لو يشرى

وربيع القلب لو يشرى لماري عجمي أروها بالدمعة الحرى ... فالأسى قد ينعش الذكرى روضة ما كان أروعها ... وهي في أيدي الصبا سكرى ما ترى الريحان مكتئباً ... وأجما لا ثغر مفترا قلقاً السحب تغمره ... وهو لا شمساً ولا قطرا نمت والأزهار ساهرة ... ترتعي في سهدها البدرا وسكون الليل منتشر ... في مطاوي الثورة النكرا ثم لاح الفجر منبثقاً ... دون شدوٍ يملأ الفجرا فإذا الأغصان لا ورق ... وقضاء الدهر أن تعرى وعيون الورد جاحظة ... لا ضيا فيها ولا بشرا فكأن الروض مقبرة ... عريت أمواتها جهرا لو ترى الفيحاء زاهية ... روضة معسولة خضرا خلتها الفردوس مزدهراً ... وشهدت الآية الكبرى فالدوالي وهي مثقلة ... تترامى حولنا سكرا ولآلي الزهر ناثرة ... فوقنا أمجادها نثرا أنجم لو رحت تسألها ... بعضها جادت به كثرا غرر كالجمر لاهبة ... حين لا ماء ولا جمرا ولجين فاض عن كثب ... دفقت أمواجه تترى شاقها النبع الذي هجرت ... فعدت تستغفر البحرا فتخال النهر مرتحلاً ... ومقيماً تارة أخرى وكأن الوجد يقعده ... والمنى تجري به قسرا من لأيام لنا سلفت ... وربيع القلب لو يشرى يوم كان الظل يجمعنا ... لا نوى نشكو ولا غدرا يوم كنا السيل هرولة ... والنسيم الطلق إذ أسرى

وأغاني ود سامعها ... لو نغنيها له الدهرا نغرس الأزهار في سحر ... ثم نجني طيبها عصرا ورياض العيش وارفة ... وجراح القلب ما تبرا نستلذ الحب مرتجلا ... وأحاديث الهوى جهرا وأفانين منوعة ... وجنون يزدري الكبرا وقلوب ملؤها نغم ... ورفيف يا لها وكرا روعة غاضت منابعها ... دون أن ندري لها عذرا روضتي، أواه من ذكر ... أصبحت محزونة صفرا عقد التبريح منطقها ... فهي لا سلكاً ولا درا إنما الأطياب زفرتها ... كلما جدت بها الذكرى روضتي والبين فرقنا ... فرغت كأسي فلا قطرا أنت تشكين الجوى مللا ... وأنا أعيا به صبرا وكأني والأسى لججٌ ... قارب يستعتب الغمرا كلما استعطفت جانبه ... لج في طغيانه كبرا اعطفي يا ريح لا تذري ... في الربى زهراً ولا عطرا وابعثي الأنفاس باردة ... جمداً يستوقف النهرا وأثيري الوجد كامنه ... واهصري آمالنا هصرا فأنا يا ريح باقية ... للمنى، للشوق، للذكرى اغرس الأزهار في حلمي ... عل من أرواحها نشرا عادت الورقاء هاتفة ... بلقا أحبابها بشرا عادت الأدواح وارفة ... وهفت ريح الصبا فجرا وزكت في الشمس نضرتها ... وأنا غصني بها يعرى وأؤم الروض شاحبة ... علني اكسي بها زهرا فأرى شمسي مهاجرة ... وأرى كأسي ولا خمرا قيل لي والعين ذاهلة ... إن تغني تلهمي سحرا

أتغني الطير من طرب ... وهي في أقفاصها أسرى ما تركت الشعر عن ملل ... غير أني لا أرى شعرا فجناح هاج هائجه ... وجناح قد وهى كسرا ليلى

الفرق بين الوصف والقصص

الفرق بين الوصف والقصص إن الوصف العارف يميز بين الوصف والقصص فلا يكاد يجمع بينهما في عنوان واحد إذ لكل منهما عنوان خاص هو به أليق، وبحقيقته أشبه، فإذا أراد أن يصف حريقاً حدث في الحي، أو فرحاً مباغتاً بعد ترح لم يعنون ما صوره من هاتين الحادثتين بقوله: وصف الحريق، أو وصف الفرح، بل يعنونهما بقصة الحريق أو حكايته وحكاية الفرح بعد الترح مثلاً، ذلك لأن الوصف الدقيق غير مرادف للقصص، وقد قال تاين النقادة الكبير فيما كتبه على أمثال لافونتاين: الوصف شبيه بالقصص، وإنما الفرق الوحيد بينهما أن القصص تتوإلى فيه التفاصيل بحسب توالي صفحات الحادثة، وفي الوصف تكون هذه التفاصيل مجتمعة. وقد يقال: ليس في الوصف عمل معين لأن ترتيب أجزائه اختياري، والأمر بعكسه في القصص الذي لا بد أن يكون العمل فيه معيناً محدوداً، ويراد بهذا العمل تتابع وقائع الحادثة وتوالي أجزائها توالياً ليس للاختيار يد في ترتيبه: إذ لها فاتحة وواسطة وخاتمة تتعاقب تعاقبها في الروايات التمثيلية، والأمثلة التالية تبين الفرق واضحاً بين الوصف والقصة: قصة الزلزال ... وصف مدينة خربها الزلزال قصة نزهة في الغوطة ... وصف الغوطة أيام الربي - ع قصة العيد في دمشق ... وصف دمشق في العي - د وخلاصة القول انه ينبغي لنا أن لا نخلط بين الوصف والقصص وإن نعلم مما ضربناه من الأمثلة أن الوصف لا يشتمل على حادثة، وإنه لا بد في الحكاية منها، وإنك في الوصف على خطتك حاكم وفي القصة أنت لها محكوم. بيد أن القصة قد تشتمل على حوادث تتعلق بالوصف كما أن الوصف قد يشتمل على حادثة صغيرة تضيع في موضوع الوصف ولا تخرجه عن كنهه لكنهما في الجملة متباينان. فالأفضل أن يخلط بينهما بالنظر إلى الخطة وإلى الشرح والبيان. اعتماد الوصف على المشاهدة إن سكان البادية هم في الغالب أوصف من قطان الحاضرة فيما يحتاج إلى الاستعانة بالتحديق، وإلى معاودة المشاهدة التي تقف بصاحبها على جميع مميزات الموصوف

وخصائصه لكثرة رؤيته ولفرط ألفته وذلك كوصف البوادي والمفاوز، والكثبان والوديان، والخيل والأنعام والمها الأرام والسماء والكواكب والغمام، يدل عليه شعر العرب في الجاهلية البعيد عن التكلف والكذب والممتاز بدقة الوصف وسلاسة الوصف، وبدل عليه أيضاً ما حدث به أبو العالية عن أبي عمران المخزومي قال: أتيت مع أبي والياً كان بالمدينة من قريش وعنده ابن مطير الشاعر وإذا مطر جود فقال الوالي: - صف لي المطر فأجابه ابن مطير: - دعني أشرف عليه. أي دعني اصعد على شرف ورابية فلا تخفي عني منه خافية، فأصفه لك وصفاً صادقاً، وبعد أن أشرف كما طلب على المطر، وصفه للوالي وصفاً حسياً كثير الوشي والصور. كذلك كان الوصف في صدر الإسلام دقيقاً ومبنياً على المشاهدة، فكانت الصفات المصورة والألفاظ النقاشة تبين الموصوف ولو كان غير معروف، يدل على ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي عمامة: أن رجلاً من بني عامر بن صعصعة جاءه وقال له: - يا أبا إمامة، إنك رجل عربي، إذا وصفت شيئاً شفيت منه، فصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصفه له وصفاً بلغ من دقته وصحته في نفس العامري أن قال له: - لقد وصفته لي صفة لو كان الناس جميعاً لعرفته بها! ثم أن هذا البدوي استقرى الناس حتى رأى الرسول فعرفه بتلك الصورة الكاملة الواضحة التي صورت له هامته وقامته لباسه، وصفاً صادقاً أزال ارتيابه والتباسه وهل أجاد ليت شعري أبو زبيد الطائي وصف الأسد إلا بعد أن شهد منه بعيني رأسه مشهداً رهيباً، يقول عنه لسيدنا عثمان (ض) إذ يلومه على الإكثار من ذكره: ولكني رأيت منه منظراً وشهدت منه مشهداً لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبي، ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم! ويحكى عن ابن الرومي أن لائماً لامه بقوله لِمَ لم تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئاً من شعره أعجز عنه، فأنشده في صفة الهلال: انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر فقال له ابن الرومي زدني، فأنشده: كأن آذريونها ... والشمس فيه كالية

مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية فقال: واغوثاه! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ذاك يصف ما عون بيته لأنه من أبناء الخلفاء. وأنا مشغول بالتصرف في الشعر: أمدح هذا مرة، واهجوا هذا مرة، وأعاتب هذا تارة، واستعطف هذا طوراً. هذا ولعدم التمكن من مشاهدة الموصوف، وعلماً بأن الوصف لا يتم إلا برؤية موضوعه بكى بشار بن برد حينما وصفه حماد عجرد بقوله: ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد! فقال بشار: ويحي! يراني فيصفني، ولا أراه فأصفه. وهذا الوصاف الفرنسي الكبير شاتوبريان الملقب بفاتح الطبيعة لما كشف بأوصافه من محاسنها يقول عن نفسه مبيناً مواضع الوصف: في الغابات غنيت الغابات، وعلى السفن وصفت البحر المحيط، وفي ميادين الكفاح تعلمت وصف السلاح، وفي المنفى تعلمت حقيقة النفي، وفي القصور والمرافق العامة ومحافل المجتمعين درست ما درسته عن الأمراء والسياسة والقوانين. ومما نصح به الأستاذ ماريو روستان في كتاب الوصف والصورة: الوصف لوح تصوير أجل مزاياه الحقيقية، فلا جل الظفر بها يجب على الواصف أن يآلف النظر إلى الموصوف، وكثيراً ما كان فلوبر الوصافة الكبير يقول ناصحاً: حدق البصر لتحسن النظر واضرب بالكتب عرض الحائط أي لا تتعلم الوصف من الكتب وحدها، إذ لا يكفي أن نلقي على ما يحيط بنا من الأشياء نظرة المسكال، يمر بالشيء فلا يراه إلا لمحا فتلتبس عليه المرئيات وانطباعاتها ويعجز عن تمييز بعضها من بعض، وعن ترتيبها ونقشها في لوح ذاكرته إن المشاهدة الصحيحة لا يتم تصويرها إلا للقوة الفعالة والإرادة الصحيحة، فهي التي تجبر الطبيعة على الدخول في العين وهي التي تكسب الإحساسات وضوحاً وتبين ما بينها من الفروق، وترتبها وتحفظها في الذاكرة عدة وذخيرة للمستقبل، فالنظر الجيد والحفظ الجيد والإنشاء الجيد ثلاث شرائط لابد منها لتجويد الوصف الصحيح. ويقول الأستاذ فانيه في كتابه البيان الفرنسي:

إن كثيراً من الناس لا يحسنون النظر. لأنه يقتضي ملاحظة نبيهة نيرة، وقوة تميز في الأشياء بين الجوهر والعرض وكأن هذا الأديب الفرنسي يريد ما أراد أديبنا العربي أبو الطيب المتنبي إذ يقول: إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضاءها فالحسن عنك مغيب التنوخي

مائة نقلة

مائة نقلة من كتاب نقل الأديب وهي ألف نقلة مقتطفة من ألف كتاب مؤلفه محمد إسعاف النشاشيي حق الطبع والنشر ونقل شيء من هذه النقل محفوظ أهدي مائة النقلة هذه إلى مجلة (الثقافة) 77 - وقف ودار ثلاث دورات قال العلامة البقاعي: حدثني الشيخ محيي الدين الأقصرأي - وكان ممن لازم الشيخ عز الدين محمد شرف الدين - أنه رأى رجلاً تكرورياً، اسمه (الشيخ عثمان ماغفا) وله عشرة بنين رجال أتى بهم إلى الشيخ عز الدين للاستفادة فقرأ عليه كتاباً فكان إذا قرر مسألة وقف ودار ثلاث دورات على هيئة الراقص ثم انحنى للشيخ على هيئة الراكع، فإذا جلس قام بنوه العشرة ففعلوا مثل فعله. . . . 78 - يفديه بالعجوز السوامة لما قال ابن زهر الحفيد الموشحة التي أولها: هات بنت العنب وأشرب إلى قوله: وافده بأبي ثم بي سمعها أبوه فقال: يفديه بأمه السوامه: وأما أنا فلا. . . 79 - وهذا منك كثيراً أمر عبد الله بي الزبير لأبي الجهم العدوي بألف درهم. فدعا له وشكر. فقال: بلغني أن معاوية أمر لك بمائة ألف درهم فسخطتها، وقد شكرتني! فقال أبو الجهم: بأبي أنت أسأل الله أن يديم لنا بقاءك فأني أخاف أن فقدناك أن يمسخ الناس قردة وخنازير. كان ذلك من معاوية قليلاً، وهذا منك كثير. . . فأطرق عبد الله ولم ينطق 80 - حامى على أمه

قال الزمخشري: قلت مرة لبعض أشياخي: إن فلاناً يبخل، وكان مبخلاً. قال: حامى على أمه أن تزن بغير أبيه. . . وهو من الكلام المتباري في الحسن لفظه ومعناه. 81 - اكتف بالبلاغة كتب عبيد الله بن زياد الحارثي إلى المنصور رقعة بليغة يستميحه فيها. فوقع عليها أن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا لرجل أبطراه، وإن أمير المؤمنين مشفق عليك، فاكتف بالبلاغة. . 82 - لو رآه ابن ليون لاختصره كان ابن ليون التجيبي - وهو من شيوخ لسان الدين بن الخطيب - مولعاً باختصار الكتب، وتآليفه تزيد على المائة0 ومما يحكى عن بعض كبراء المغرب أنه رأى رجلاً طوالاً فقال لمن حضر: لو رآه ابن ليون لاختصره. . . (إشارة إلى كثرة اختصاره للكتب) 83 - أرى الدعوات قد صارت قروضاً ذكر بعض الكتاب أنه كان يعاشر سوقياً فاتفق أن دعاه يوماً. قال: فلما تمكنت اشتغل عني صاحب الدعوة فعثرت على رقعة بخطه فيها: فلاني دعاني مرتين ودعوته ثلاث مرات فعليه دعوة. وقد ذكرنا على هذا أسامي كل من يعاشرنا فلما انتهيت إلى اسمي فرايته قد حصل له على دعوات خرجت وقلت له: لا أتناول طعامك حتى أرد ما علي. وقلت في ذلك: أرى الدعوات قد صارت قروضا ... وديناً في البرية مستفيضاً فأكره أن أجيب فتى دعاني ... ولا أدعو فيلقاني بفيضا إذا كنت تدعوني لأدعوك مثله ... ففعلك منحول إلى فعل تاجر 84 - فإن لم ينتهوا راجعت ديني كان أبو المطرب من لصوص الحجاز فتاب، فظلم فقال:

ظلمت الناس فاعترفوا بظلمي ... فتبت، فأزمعوا أن يظلموني فلست بصابرٍ إلا قليلاً ... فإن لم ينتهوا راجعت ديني 85 - وما كان قصدي غير صون حديثكم يعلم الشيخ البوريني اللغة الفارسية حتى صار يتكلم بها كأنه أعجمي وفي ذلك يقول: تعلمت لفظ الأعجمي وأنني ... من العرب العرباء، لا أتكتم وما كان قصدي غير صون حديثكم ... إذا صرت من شوقي به اترنم وإن كنت بين المعجمين فمعرب ... وإن كنت بين المعربين فمعجم فأغدو بأشواقي إليكم مترجماً ... وسركم في خاطري ليس يعلم 86 - ظهر الفساد في البر والبحر قال المجي: كان قاضي العسكر محمد بن عبد الغني (المعروف بغني زاده) يرمي بتعاطي المدام، واتفق له من النكات البديعة أن أحمد باشا الحافظ كان حاكم البحر فاجتمعا وتذاكرا شيئاً من مباحث التفسير. وكان ابن عبد الغني إذ ذاك مشتغلا بتحشية التفسير فقال له الحافظ: ما كتبت على قوله تعالى: يسئلونك عن الخمر والميسر. فقال: أنا الآن اكتب قوله تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر 87 - كأنها رؤوس رجال حلقت في المواسم قال الأغر النهشلي لابنه لما بعثه لحضور ما وقع بين قومه فقال: يا بني، كن يداً لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف فأنه ظل الموت، وإياك والرمح فأنه رشاء المنية، ولا تقرب السهام فإنه رسل تعصي وتطيع. قال: فيم أقاتل؟ قال: بما قال الشاعر: جلاميد أملأ الأكف كأنها ... رؤوس رجال حلقت في المواسم فعليك بها، وألصقها بالأعقاب والسوق 88 - إن الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون

قال المنصور لبعض أهل الشام: ألا تحمدون الله إن دفع عنكم الطاعون منذ وليناكم؟! فقال الشامي: إن الله أعدل من أن يجعلكم علينا والطاعون. . . . . . 89 - هذا من خاطر الجن قال الصولي: حدثني علي بن عيسى قال: كان البحتري معي جالساً فسلم عليّ ابن لعيسى بن المنصور فقال لي من هذا؟ قلت هذا ابن عيسى بن المنصور الذي يقول ابن الرومي في أبيه: يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد فقال لي: أف وتف! هذا من خاطر الجن لا من خاطر الأنس. ووثب ومضى. 90 - أف على النرجس والآس قال العباس بن علي بن نور الدين المكي: كتب الشاه إسماعيل ملك العجم إلى الملك الأشرف قايتباي - ملك مصر - هذين البيتين: السيف والخنجر ريحانتا ... أفٍ على النرجس والآس شرابنا من دم أعدائنا ... وكأسنا جمجمة الراس 91 - ومن يزيد الماءي قال أبو بكر الجفاني: دخلت يوماً على القاضي حسين بن أبي عمرو وهو مهموم حزين فقلت: لا يغم الله قاضي القضاة فما الذي أراه؟ قال: مات يزيد الماءي!!! فقلت: يبقى الله قاضي القضاة أبداً. ومن يزيد الماءي حتى إذا مات يغتم عليه قاضي القضاة هذا الغم كله؟ فقال: ويحك، مثلك يقول هذا في رجل أوحد في صناعته، وقد مات ولا خلف له يقاربه في حذقه. وهل فخر البلد إلا أن يكون رؤساء الصناع، وحذاق أهل العلوم فيه. فإذا مضى رجل لا مثل له في صناعة لابد للناس منها، فهلا يدل هذا الأمر على نقصان العلم، وانحطاط البلدان. . . 92 - يا جاهل

هل رأيت أحداً يهب ولده؟ قال جحظة: قال علي بن الهجم: قلت لخالد الكاتب: هب لي بيتك الذي تقول فيه: ليت ما أصبح من ... رقة خديك بقلبك فقال: يا جاهل، هل رأيت أحداً يهب ولده؟ محمد إسعاف النشاشيبي

صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام

صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام تابع لما قبله للأستاذ وصفي زكريا قال القلقشندي: وقد تشعب آل فضل شعباً كثيرة منهم آل عيسى وآل فرج وآل سميط وآل مسلم وآل علي وينضاف إليهم قبائل كثيرة كبني كلب وبعض بني كلاب وآل بشار وخالد حمص وغيرهم. وأسعد بيت في آل فضل آل عيسى وقد صاروا بيوتاً: بيت مهنا بن عيسى وبيت فضل بن عيسى وبيت حارث بن عيسى وأولاد محمد بن عيسى (الذي عثرت على قبره في شمال سلمية) وأولاد حديثة بن عيسى. قال ابن فضل الله العمري: وهؤلاء آل عيسى في وقتنا هم ملوك البر فيما بعد واقترب بمشارف الشام والعراق وبرية نجد وسادات الناس ولا تصلح إلا عليهم العرب. وأما الإمرة عليهم فقد جرت العادة أن يكون لهم أمير كبير منهم يولى عن الأبواب السلطانية ويكتب له تقليد شريف بذلك ويلبس تشريفاً أطلس أسوة بالنواب إن كان حاضراً أو يجهز إليه إن كان غائباً ويكون لكل طائفة منهم كبير قائم مقام أمير عليهم وتصدر إليه المكاتبات من الأبواب الشريفة إلا أنه لا يكتب له تقليد ولا مرسوم. ولم يصرح لأحد منهم بإمرة على العرب بتقليد من السلطان إلا من أيام العادل أبي بكر أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر منهم ماتع بن حديثة بن عقبة بن فضل بن ربيعة. ولما توفي ماتع سنة 630 ولي عليهم بعده ابنه مهنا وحضر مع المظفر قطز قتال جيش التتر سنة 658 في عين جالوت (غور بيسان) فأجازه قطز بسلمية نزعها من الملك المنصور بن الملك المظفر صاحب حماة وأقطعها له (أبو الفداء ج3 ص214) ثم ولى الملك الظاهر بيبرس ابنه عيسى ووفر له الإقطاعات على حفظ السابلة. قلت وعيسى هذا على ما ذكره ابن إياس في تاريخه (ج1 ص102) هو الذي جاء بالإمام أحمد العباسي بعد حادثة هولاكو في بغداد وكان مختبئاً عند أناس من قبيلته وأوصله إلى مصر إلى الملك الظاهر بيبرس وشهد هو وقومه انه من نسل العباسيين فبويع له بالخلافة واستمرت هذه الخلافة فيه وأعقابه إلى أن استخلصها منهم السلطان سليم العثماني سنة 923 وقضى عليهم. وذكر ابن تغرى بردى في المنهل الصافي أن الأمير شرف الدين

عيسى بن مهنا أمير آل فضل كان ملك العرب في وقته وكان له منزلة عظيمة عند الملك الظاهر بيبرس ثم تضاعفت عند الملك المنصور قلاوون بحيث ضاعف حرمته وإقطاعه وملكه مدينة تدمر بعقد البيع والشراء وأورد عنه ثمنها لبيت المال ليأمن غائلة ذلك. وكان عيسى كريم الأخلاق حسن الجوار مكفوف الشر لم يكن في العرب وملوكها من يضاهيه وعنده ديانة وصدق لهجة لا يسلك مسالك العرب في النهب وغيره وكان به نفع للمسلمين، منها أنه كان يكف العدو عن حلب ومعاملتها ومنها في وقعة الملك المنصور قلاوون مع التتار بحمص سنة 680 فأنه جاء وقت الوقعة واعترض التتار من خلفهم فتمت هزيمة التتار به. وكانت البلاد في زمنه في غاية الأمن إلى أن توفي سنة 683 اه -. وذكر حيدر الشهابي في تاريخه (ص450) أن عيسى بن مهنا وسماه ملك العرب اشترك بهذه المعركة مع أولاد عمه (يعني آل مرا الذين تقدم ذكرهم) وأبلى لياء حسناً وأيد هذا القول أبو الفداء أيضاً مما يدل على أنه كان له الفضل في تلك النصرة التي كادت تميل على المسلمين لولاه ولولا ثبات الملك قلاوون. ولعل عيسى هذا هو الذي قال عنه كاتب جلبي في جغرافيته أنه كان في هذه المعركة حاملاً ريشة على رأسه فلقب بأبي ريشة وبقي هذا اللقب إلى يومنا، وإنه هو الذي نال من ذلك الملك عطاءً عظيماً فاشترى به عبيداً ومماليك اعتقوا بعد حين ودعوا بالموالي وبقيت أعقابهم إلى يومنا ملتفة حول هؤلاء الأمراء آل أبي ريشة وانضم إليهم بعد عدد غير يسير من شذاذ الأعراب اندحروا في لفيفهم وحلفهم فصارت من مجموعهم قبيلة الموالي التي سوف نبحث عنها. ولما توفي عيسى في سنة 683 دفن في جبانة الشيخ فرج شمالي سلمية قبل ابنه محمد على ما جاء في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج6 ص22) وكان عيسى أعقب عدة أولاد أخصهم مهنا وفضل وسليمان وحارث وموسى ومحمد. ولى الملك المنصور قلاوون منهم مهنا في الإمارة فلقب بحسام الدين وصار كبير آل عيسى النازلين في براري سلمية وحماة وتدمر بل أمير البادية طراً. قال ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار يصف آل عيسى وصفاً نقتطف بعضه لنستدل على ما كانت عليه حالتهم في تلك العصور: هؤلاء آل عيسى في وقتنا هم ملوك البر ما بعد واقترب، قد ضربوا على الأرض نطاقاً وتفرقوا فجاجاً تقارعوا على قرى

الضيفان وسارعوا إلى تقريب الجفان حفظوا البر من كل جهاته وحرسوه من سائر مواقعه وآفاته، ولهم سجايا مالكية وعطايا برمكية ووهائب حاتمية وصوارم تنسحب بذيلها الرقاب ومكارم يحتبس على أثرها السحاب. لا يخلو ناديهم من سيد ومسود ووافد آمل وصارخ ملهوف وهارب مستجير ولا ينطفئ لهم نار قرى، يسرح عدد الرمل لهم أبل وشاة، تطل منهم على بيوت قد بنيت بأعلى الربى وبلغت السحاب وعقد عليها الخبا قد اتخذت من الشعر الأسود وتبطنت بالديباج ودبجت بالعسجد وفرشت بالمفارش الرومية والقطائف الكرخية ونضدت بها الوسائد وشدت أطنابها وأرخيت سجفها وتزايد ظرفها وشرعت أبوابها إلى الهواء ورفعت عمدها وقرر وتدها وطلعت البدور في كلتها ورتعت الظباء في مشارق أهلها. . . الخ وقد ردد أبو الفداء وابن الوردي وحيدر الشهابي في تواريخهم ما كان للأمير مهنا بن عيسى بن مهنا في أواخر القرن السابع وأوائل الثامن من المكانة لدى سلاطين مصر ونوابهم في الشام - وذلك يؤيد مؤلف مسالك الأبصار - وذكروا تداخله في بعض أمور الدولة وعدوا وثباته وغاراته والخراب والدمار الذين أتى بهما أولاده وأولاد أخوته وأعقابهم مما أدى لدثور سلمية وأعمال حماة والمعرة وحلب وكان له أثر كبير في تاريخ القرنين المذكورين وما بعدهما رأيت أن انقله من مختلف الصحائف ليكون عبرة وذكرى. ذكر المؤرخون في حوادث سنة 692 إن الملك الأشرف خليل بن قلاوون لما توجه من دمشق إلى حمص أضاف الأمير مهنا بن عيسى ثلاثة أيام بلياليها ثم أن السلطان بداله أن يقبض عليه وعلى أخويه محمد وفضل فقبض عليهم وأرسلهم معتقلين إلى قلعة الجبل في مصر وولى الأمير علي بن حديثة عوضاً عن مهنا. ولم يذكروا سبب هذا الاعتقال ولعله كان لازدياد عتو مهنا في ذلك الحين. ثم قالوا في حوادث سنة 694: لما جلس الملك العادل زين الدين كتبغا أفرج عن المذكورين وعاد مهنا إلى سلمية - وكان مقره في قرية تل اعدا - واخلد إلى السكينة وحسنت سيرته فسمت منزلته لدى الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي عاد إلى السلطنة سنة 698 للمرة الثانية وأصبح مهنا ممن يتوسل به في الملمات. شفع في سنة 707 بنابغة الإصلاح الديني تقي الدين أحمد بن تيمية وقد كان مسجوناً في مصر في الجب بقي في غياهبه نحو ستة أشهر ولم يجد مريدوه طريقة لإنقاذه

غلا بالتوسل لمهنا بن عيسى فجاء وشفع به وأخرجه. وكان مهنا صديق أبي الفداء قبل أن يصير ملكاً، حضر سنة 709 لما تولى اسندمر على حماة ونزلها لم يرض مهنا بتوليته فسافر إلى مصر وطلب من الملك الناصر نصب أبي الفداء على حماة فأجابه ونقل اسندمر إلى حلب وعين أبي الفداء ملكاً على حماة فعادت المملكة بتعينه إلى البيت التقوى الأيوبي. على أن طبع البداوة عاد يوحي إلى مهنا بإقلاق الراحة والمكانة اللتين ظل ينعم بهما خمس عشرة سنة. فقد قيل في سنة 711 أن قراسنقر كبير الأمراء في حلب قصد مهنا وكان على مسيرة يومين من حلب يستنصره على الملك الناصر زاعماً أنه يريد البطش به. فركب مهنا - وما كان أغناه عن ذلك - فيمن أطاعه من أهله واستنفر من الغرب نحو خمسة وعشرين ألفاً وقصدوا حلب واحرقوا باب قلعتها وتغلبوا عليها واستخلصوا منها مال قراسنقر ومن بقي من أهله ولم يتعدوا إلى سوى ذلك، فسير عليهما الملك عسكراً فخاماً عن لقائه إلى جهة الفرات. وعن أبي الفداء: وفي سنة 712 قوي استيحاش مهنا لما اعتمد من مساعدة قراسنقر ولغير ذلك من الأمور وكاتب خربندا ملك التتار ثم أخذ منه أقطاعاً في العراق في مدينة الحلة وغيرها واستمر أقطاعه من السلطان بالشام وهو مدينة سرمين وغيرها على حاله وعامله السلطان بالتجاوز ولم يؤاخذه بما بدا منه وحلف على ذلك مراراً فلم يرجع عما هو عليه وجعل مهنا ابنه سليمان منقطعاً إلى خدمة خربندا ومتردداً إليه واستمر ابنه الثاني موسى في صداقة السلطان ومتردداً إلى الخدمة واستمر مهنا على ذلك يأخذ الإقطاعين بالشام والعراق ويصل من الفريقين وخلعهما وأنعامهما وهو مقيم بالبرية ينتقل إلى شط الفرات من منازله لا يروح إلى أحد الفئتين وهذا أمر لم يعهد مثله ولا جرى نظيره فإن كلاً من الطائفتين لو أطلعوا على أحد منهم أنه يكتب إلى الطائفة الأخرى سطراً قتلوه بساعته ولا يمهلونه ساعة ووافق مهنا على ذلك سعادة خارقة اه -. (أي أراد أبو الفداء أن يقول عن مهنا بلسان أهل زمتنا أنه كان يلعب على الحبلين شأن بعض أبناء جلدته من أمراء البادية الذين أدركنا عملهم هذا في الحرب العامة وما بعدها). وفي سنة 715 أغار سليمان بن مهنا بجماعة من التتار والعرب على التراكمين والعرب النازلين قرب تدمر ونهبهم ووصل في إغارته إلى قرب البيضاء بين القريتين وتدمر وعاد بما غنمه إلى الشرق. ثم قال: وفي

سنة 720 تقدمت مراسيم السلطان بقطع أخباز (لعلها رواتب مقننة) آل عيسى وطردهم بسبب سوء صنيعهم فقطعت أخبازهم ورحلوا عن بلاد سلمية وساروا إلى جهات عانة والحديثة على شاطئ الفرات فلحقهم جيش السلطان فهربوا إلى وراء الكبيسات وأقام السلطان موضع مهنا أحد أبناء أعمامه محمد بن أبي بكر من آل علي. وفي سنة 721 عدى مهنا بن عيسى الفرات وتوجه إلى أبي سعيد ملك التتار مستنصراً به على المسلمين وأخذ معه تقدمة برسم التتار سبعمائة بعير وسبعين فرساً وعدة من الفهود وفي سنة 724 وصل الأمير فضل بن عيسى أخو مهنا إلى مصر داخلاً ومستشفعاً فرضي عنه السلطان وأقره على أمرة العرب موضع محمد بن أبي بكر. وفي تلك السنة نزل الأمير مهنا في ظاهر سلمية عند تل اعدا وكان له ما يزيد على عشر سنين لم ينزل بأهله هناك وكان الأمر والنهي إليه في العرب وخبز الإمرة لأخيه فضل. وفي سنة 726 أمر السلطان بطرد مهنا وعربه وأمرني بإرسال عسكر إلى الرحبة لحفظ زرعها من المذكورين فجردت إليها أخي بدر الدين ومحموداً ابن أخي واسنبغا مملوكي فساروا إليها وأقاموا بها ثم عادوا اه -. قلت وبقيت هذه الحالة القلقة نحو عشر سنوات، ومن الغريب أن أبي الفداء لم يف خلالها بالواجب نحو من كان سبب ملكيته فلم يتوسط بإصلاح ذات البين وإزالة هذا الضيم عن صديقه مهنا إلى أن قام بذلك بعد مماته في سنة 732 ابنه الملك الأفضل محمد، فإنه ذهب ونصح الأمير مهنا وأخذه معه إلى السلطان فرضي عنه وأعاد أمرته إليه ورجع إلى أهله. قال ابن خلدون: وذكر لي بعض أمراء الكبراء بمصر فيمن أدرك وفادة منها أول حدث بها إنه تجافى في هذه الوفادة قبول شيء من السلطان حتى إنه ساق عنده النياق الحلوبة والخيل العراب وإنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سأل منهم شيئاً من حاجته ثم رجع إلى أحيائه اه -. قلت: وبعد أن زالت وحشة مهنا وأطمأن قضى ثلاث سنوات طيبة في شيخوخته أميراً على البادية كلها يكرم كلما ذهب إلى مصر إلى أن مات في سنة 735. قال ابن الوردي في تاريخه: وحزن عليه وأقاموا مأتماً بليغاً ولبسوا السواد أناف على ثمانين وله معروف من ذلك مارستان جيد بسرمين. وقد أعقب مهنا ستة أولاد: موسى وسليمان وأحمد وفياض وجبار وقناره كما أن أخيه فضل أعقب ثلاثة: سيف وعيسى ومعيقل.

ويظهر أن الإمارة انتقلت بعد مهنا إلى ابنه موسى الذي غزا العرب والتركمان في ضواحي تدمر ومات فيها سنة 742 فانتقلت الإمرة إلى أخيه سليمان وكان ظالماً صادر أهل سرمين وربط بعض النساء في الزناجير وهجم عبيدة على المخدرات فأغاثهم الله وسط الشدة فعزل في سنة 744 وولى مكانه ابن عمه سيف بن فضل. ويظهر أنه كان لكل من أولاد مهنا خبز أي راتب مقنن يقطع عند حدوث سبب كما جرى لفياض بن مهنا فصار هذا يقطع الطرق وينهب. وفي سنة 746 عزل سيف عن إمارة العرب ووليها ابن عمه أحمد بن مهنا وعفى عن أخيه فياض وأعيد خبزه إليه ولكن استعيد من أيدي هؤلاء الأعراب من الإقطاعات والملك شيء كثير وجعل خاصاً لبيت المال. ويطهر أن أبناء مهنا بن عيسى وأبناء أخيه فضل بعد أن نالوا تلك الخسارة ولم يبق بأيديهم سوى أسم الإمارة صاروا يتقاتلون عليها ويخربون في طريقهم، قال ابن الوردي: وفي سنة 748 قطعت الطرق وأخيفت السبل بسبب الفتنة بين العرب لخروج أمرة العرب عن أحمد بن مهنا إلى سيف بن فضل. فقد اقتتل سيف وأبناء عمه أحمد وفياض في جمع عظيم قرب سلمية فانكسر سيف ونهبت جماله وماله ونجا بعد اللتيا والتي في عشرين فارساً وجرى على بلد المعرة وحماة وغيرهما في هذه السنة من هؤلاء الأعراب من النهب وقطع الطريق ورعى الكروم والزرع والقطن والمقاتي ما لا يوصف اه -. قلت وهذه الكوائن هي التي قضت على براري حماة والمعرة وأدت لخرابها ودثور سلمية معها لاسيما وقد أعقب تلك الفتن الطاعون الجارف الذي فتك إذ ذاك في دمشق وحماة وحلب فأخلى الدور وأقفر القرى من أهلها. قال في صبح الأعشى (ج4 ص207) وبقي أحمد بن مهنا بن عيسى حتى توفي في سنة 747 في سلطنة الناصر حسن بن محمد بن قلاوون المرة الأولى، وولي مكانه أخوه فياض فبقي حتى مات سنة 760 وولى مكانه أخوه جبار (وفي إحدى طبعات ابن خلدون حيار) من جهة الناصر حسن في سلطنته الثانية، ثم حصلت منه نفرة في سنة 765 وأقام على ذلك سنتين إلى أن تكلم بسببه مع السلطان نائب حماة يومئذ فأعيد إلى أمارته ثم حصل منه نفرة ثانية سنة 770 في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين فولي مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى فكانت بينهم حروب قتل في بعضها قشتمر المنصوري نائب حلب.

فصرفه الأشرف وولى مكانه ابن عمه معيقل بن فضل بن عيسى ثم بعث معيقل في سنة 771 يستأمن لجبار (أو لحيار) المتقدم ذكره من السلطان الملك الأشرف فأمنه، ووفد جبار على السلطان في سنة 775 فرضي عنه وأعاده إلى أمرته فبقي حتى توفي سنة 777، فولي مكانه أخوه قناره وبقي حتى مات سنة 781 فولى مكانه معيقل بن فضل بن عيسى وزامل بن موسى بن عيسى المتقدم ذكرهما شريكين في الإمارة، ثم عزلا في سنتهما وولي مكانهما محمد بن جبار بن مهنا وهو نعير، ثم وقعت منه نفرة في الدولة الظاهرية برقوق فولى مكانه بعض آل زامل ثم أعيد نعير المذكور وهو باق على ذلك إلى الآن اه - قلت ويظهر من كلام آخر للقلقشندي أضربت عن نقله ومن كلام غيره من المؤرخين الذين نوهوا بأخبار نعير أي محمد بن جبار بن مهنا المذكور أن الإمرة بقيت في أعقابه دون غيرهم من أعقاب أخوته آل مهنا وأبناء أعمامه آل عيسى بل آل فضل كلهم فخمل ذكر هؤلاء وضاع اسمهم تدريجياً وخلفه اسم أولاد جبار أو آل جبار ردحاً من الزمن إلى أن ظهر اسم أولاد أبي ريشة أو غلب كما هي العادة عند أهل البادية تتغير أسماؤهم في كل قرن أو قرنين تبعاً للسائد عليها. ولمحمد بن جبار هذا ترجمة في (المنهل الصافي) لابن تغرى بردى ننقلها عن (تاريخ حلب لراغب الطباخ ج4) قال: محمد بن جبار بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن ماتع بن حديثة شمس الدين أمير فضل بالشام ويعرف بنعير ولي الإمرة بعد أبيه ودخل القاهرة مع يلبغا الناصري ولما عاد الظاهر برقوق من الكرك رافق نعير منطاشاً حلب في الفتنة الشهيرة وكان معه لما حاصر حلب، ثم أرسل نعير نائب حلب إذ ذاك كمشبغا في الصلح وسلمه منطاش، ثم غضب الظاهر برقوق على نعير وطرده من البلاد فأغار نعير على بني عمه الذين قرروا بعده وطردهم. فلما مات برقوق أعيد نعير إلى أمرته، ثم كان ممن استنجد به دميرداش لما قدم اللنكية (التتار) فحضر بطائفة من العرب فلما علم أنه لا طاقة له برح إلى الشرق فلما برح التتار رجع نعير إلى سلمية، ثم كان ممن حاصر دميرداش بحلب ثم جرت بينه وبين حكم نائب حلب وقعة فانكسر نعير ونهب وجيء به إلى حلب فقتل في شوال سنة 808 وقد نيف على السبعين وكان شجاعاً جواداً مهيباً إلا أنه كثير الغدر والفساد وبموته انكسرت شوكة آل مهنا وكان الظاهر خدعه ووعده حتى تسلم

منطاش وغدر به ولم يف له الظاهر بما وعده بل جعل ذلك ذنباً عليه وولى بعده ابنه معجل ذكره شيخنا في أنبائه وهو في المقريزي مطول. يتبع وصفي زكريا

الحركة الفلسفية المعاصرة في مصر والشام

الحركة الفلسفية المعاصرة في مصر والشام للأستاذ جان لوسرف - تعريب عز الدين التنوخي تعرض الأستاذ جان لوسرف للبحث في برنامج الدروس ونظام التعليم في دمشق وبيروت وبيت المقدس وبغداد ثم قال: إن مطبوعات التربية والتعليم كثيرة، كذلك كتب التربية الموجزة قد أخذ يزداد وعددها وكلا النوعين يقتبس من المطبوعات الأجنبية، وأما المجلات فأنا نذكر منها في بغداد مجلة التربية والتعليم التي ينشئها الأستاذ ساطع الحصري وهي مجلة تقتبس عن الانكليزية والأمريكية، وهي مطلعة على مجاري الإصلاحات الأخيرة المسماة بمقاييس الذكاء، وفي بيت المقدس مدير دار المعلمين الأستاذ أحمد سامح فقد نشر قبل ذلك في سنة 1928 بحثاً في التربية بعنوان (إدارة الصفوف)، وفي مصر نذكر علي فكري مؤلف كتاب في التربية الاجتماعية، وموجز في تربية الأحداث مرآة الأشياء وفيه كثير من الكلمات التي تستمد لمعجم المفردات. ومن المختصين بأبحاث التربية أحمد فهمي العمروسي الذي يعرف عنه ما أرسله إلى مؤتمر التربية المنعقد في القاهرة سنة 1925 من أبحاثه عن تربية الذوق ومحاضراته الأربع عن التربية القياسية بين البلاد اللاتينية والسكسونية. إن موجزات التدريس منها ما هو تأليف مرتجل، وما هو تعريب منتحل، يمتاز به أدب الترجمة غي هذا العصر، ولا ريب في حكمنا على كلا النوعين بتأثرهما بالأدب الغربي، ومع ذلك فأن نجد المؤلفين الذين نذكرهم مرتبطين بحركة اللاتجدد، والمعربات تنقسم إلى قسمين: الأول قوامه الموجزات الأوروبية كموجز مبادئ الفلسفة تأليف رابويور وتعريب أحمد أمين وهو عبارة عن 176 صفحة منها تسع في علم النفس، ومثله ترجمة إسماعيل مظهر لمحاضرات جون تيودور، ومما عرب من ذلك في دمشق كتاب علم النفس لسعيد البحرة، فقد ترجمه عن وجيز طوماس الفرنسي. والصنف الثاني تعريب المؤلفات الغربية التي يقصد بتأليفها تعميم التعليم كمؤلفات غوستاف لوبون التي نالت شهرة واسعة وحظوة لدى القراء كبيرة، وقد نقل منها الأستاذ طه حسين كتاب روح التربية، ومنها تعريب كتاب هيكل فلسفة النشوء والارتقاء بقلم حسن

حسين. وثمت نوع من التعريب جدير بالذكر وهو المعرب عن أصل فرنسي أو انكليزي ومؤلف الأصل عربي، وهي حالة في التعريب غير نادرة الوقوع شأن أمين الريحاني الكاتب العربي الأمريكي، فأن تأليفه الانكليزي بخطورة العربي. وفي حظيرة الفلسفة نذكر لطه حسين كتابه فلسفة ابن خلدون الاجتماعية الذي عربه محمد عبد الله عنان. وهذا الصنف من التعريب ليس عليه مسحة الاقتباس من الحضارة الأوروبية. وأن موضوع الأطروحة نفسه عبارة عن بيان موضع فلاسفة العرب في تاريخ الفكرة الإنسانية وهو غرض تأليف فلسفي آخر كبير القدر، أعني تاريخ الفلسفة لمحمد بدر عضو اكاذيمية ادمبرغ والمؤازر في المعلمة الإسلامية. ومن هذا التاريخ الذي ألف في الانكليزية ليس بأيدينا سوى تعريب حسن حسين - القاهرة 1911 - وقد ذكرناه في قائمة المؤلفات. إن غاية المؤلف والمعرب المزدوجة بيان مابين الفلسفة الحديثة وبين العقائد الموروثة وفلسفة القرون الوسطى العربية من الاتصال فهي إذن الرجعى إلى الفكرة الأصلية للبلدان المشرقية. وهذه هي النزعة التي سنعرض الآن لذكر أهم ممثليها، وقد بين جيداً مركزهم في الخلاصة التي تقدمت مقدمة حسن حسين. ونحن نقتبس عنها عبارة أكمل بيان من بحث جميل صليبا على فلسفة نيقو ماخوس الأخلاقية المنشورة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. وهذا البحث هو شرح لنقل كتاب أرسطو من الترجمة الفرنسية لبارتلمي سانت هيلير، وقد نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد. إن حزب القديم يخضع لعاطفة طبيعية مشروعة حينما يحاول إيجاد التوفيق بين أحدث المعارف وعناصر الشعور القومي القديمة، وهو يرغب كذلك في العودة إلى درس فلاسفة الإسلام في العصر المدرسي. وتراه يرجو أن لا يجد في ماضي مدنيته عناوين مجد ونبل فحسب بل أن يجد حلولاً للمعضلات الحاضرة. إن المرحلة الأولى تقوم بتمجيد الأبحاث العلمية عن فلاسفة العرب وهو ما يلح أبداً في اقتضائه الأستاذ محمد كرد علي في مجلة المجمع العلمي العربي، لأنه لا يظهر كتاب حديث إلا نبه مؤلفه إلى أن في رجال العرب أناساً أحرياء بأن يكونوا عبرة لأحفادهم اليوم وعند العرب من هذه العلوم المادية والفلسفية

بحسب أعصارهم ما يجب أحياؤه، والتنظير بينه وبين ما عرف المحدثون من نوعه، فما كل قديم بال ولا كل جديد حال. وهذا النداء تلبيه مؤلفات حديثة كأطروحة الأستاذ جميل صليبا في بحث (ما بعد الطبيعة لابن سينا)، ولكن اتقتصر بعثة القدماء هذه على نبش بقاياهم وآثارهم النفسية؟ هذا ما ناقشه الأستاذ جميل صليبا في البحث الذي كتبه على كتاب الأخلاق لنيقو ماخوس، فقد عدد أحمد لطفي السيد معرب هذا الكتاب أسباب سقوط الفلسفة العربية، وبين أن الغربيين في هذا العصر يعرفونها أكثر مما يعرفها العرب أنفسهم، غير أنهم لا يدرسونها ليقتبسوا منها أصولاً. لأنها في نظرهم قد أصبحت من التاريخ ثم يسترسل في ذلك إلى أن نقول ما معناه: فإذا كنا اليوم نريد فلسفة مصرية تلتئم مع علمنا الحاضر فما علينا إلا أن نجدد الدرس لفلسفة أرسطو التي بنيت عليها الفلسفة العربية، وهنا يناقشه الأستاذ جميل صليبا ويخالفه في تفسيره الفلسفة العربية قائلاً ما معناه: لا ريب أن البلاد العربية في أشد الحاجات إلى فلسفة، ونحن لا نعارض في كونها يجب أن تتفق مع مطالبنا ورغائبنا، ذلك أن العصر الحاضر كما يقول ليبنيز ناهض بحمل الماضي وأعباء المستقبل معاً، غير أن المنفعة التي يجب الحصول عليها مجدداً من الفلسفة العربية هي منفعة تاريخية محضة، وأن هذه الفلسفة العربية لا ينبغي أن تبنى على الأسس التاريخية وحدها، إذ يعوزها أن تقتبس أيضاً من فلاسفة العصر أمثال ديكارت ولوك وليبنتز وسبينوزا وسبنسر ما يمكن أن يوائم البيئة، ونحن نعتقد أنا في الحقيقة على اتفاق تام مع المؤلف في الإعراب عن هذا الرأي، إذ ليست الفلسفة العربية في حملتها عبارة عن فلسفة أرسطو فحسب، فقد بينا في مبحث ما وراء الطبيعة لابن سينا تأثير أفلاطون عليها، كذلك يبرهن غوتيه في صدد البحث عن ابن سينا أن الاتصال بين مبادئ أرسطو وعقائد الإسلام قد كان الشغل الشاغل لفلاسفة العرب من ابن سينا حتى ابن رشد، وذلك مشاهد جداً في نظريتي العقل الفعال والفيض المتين اقتبسهما فلاسفة العرب من مدرسة الاسكندرية. . . إن فلسفة ابن سينا قد ارتوت من معين التصوف، وذلك ما يؤيده ابن الطفيل في رسالة حي بن يقظان، وثمت من جهة أخرى طائفة من الفلاسفة كالمناطقة المتكلمين الذين يخالفون ارستطاليس في مسألة الجواهر الفردة، فإذا ما عددناهم من جملة فلاسفة العرب كانت فلسفة

هذه أعم وأشمل من فلسفة أرسطو، فلنا أن نقول إذاً أن فلسفته هذه ليست في الواقع إلا جزءاً من الفلسفة العربية. إلى أن يقول: ونرى من جهة عملية أن رغائب أنصار القديم الحاضرة قد بردت جذوتها حتى في الحظيرة الخيالية من الفلسفة، ذلك أنها قد اقتصرت تقريباً على تأويل الفلسفات الغربية لكيلا تصادم العقائد الدينية والخلقية المهددة بأزمة نمو الفلسفة السريع. إن نشاط الحركة الفلسفية يبدو في إنتاج الأبحاث المعدة للجمهور أقل مما تبدو في موجزات الفلسفة، وعلى سبيل المثال نذكر تاريخاً صغيراً للفلسفة تأليف حنا أسعد فهمي، وقد كتب مقدمته الأستاذ محمد فريد وجدي مؤلف المعلمة الموسومة بكنز العلوم واللغة، وهذه المقدمة تدافع عن الإسلام مؤيدة كونه لا يقاوم حرية الفكرة الفلسفية. وهذه الفكرة مشروحة في مؤلفات فريد وجدي مثل كتابه المدنية والإسلام وفي الوجديات ودائرة معارف القرن التاسع عشر وغيرها. (يتبع) جان لوسوف

مياه الغوطة

مياه الغوطة ملخصة عن مقال للأستاذ ر. ترس لم يبحث المؤرخون في دمشق وغوطتها إلا قليلاً مع أنها أقدم مدن العالم ولم يمح الدهر شيئاً من جمالها مع أن بابل ونينوى وصور وجبيل وغيرها من المدن المشابهة لها قد اندثرت أعلامها ولم يبق منها إلا الذكرى حتى أن بعضها زال بتمامه أو انقلب إلى قرية، أما دمشق فقد بقيت على عين الدهر وستبقى خالدة بالرغم من اختلاف شرائط حياتها، والسبب في بقائها لا يرجع إلى أسباب سياسية ولا أسباب اقتصادية، بل يعود إلى تأثير مياهها وخصب غوطتها. وليست تمتاز دمشق على غيرها من البلدان ببرداها فحسب - وهو ينقل إليها من لبنان الشرقي مياهاً عذبة - بل تمتاز أيضاً بتوزيع هذه المياه ونشاط سكان الغوطة وانصرافهم إلى استثمار الأرض استثماراً حسناً. الوسط الطبيعي إن الملاحظات الجوية التي قام بها العلماء منذ خمس عشرة سنة أثبتت لنا أن منطقة دمشق وما يجاورها من الراضي الشرقية محرومة من قسم كبير من الأمطار لأن سلسلة الجبال الشرقية تمنع عنها الغيوم فتهطل الأمطار في الجهة الغربية وإذا بقي قسم من هذه الغيوم فإنه لا يقطع الجبال الشرقية إلا إذا ارتفع كثيراً فيمر بالغوطة من غير أن يتكاثف ويصل إلى جبل الدروز وغيره من المناطق البعيدة. وليست قلة الأمطار هذه خاصة بالزمان الحاضر بل كانت قليلة أيضاً في الماضي وكانت هضاب دمشق يابسة وكانت مياه بردى موزعة في مستنقعات فقيرة ليس فيها ما في الغوطة اليوم من الأشجار الباسقة والخمائل الزاهرة. فليس خصب الغوطة إذن هبة من مواهب الطبيعة بل هو نتيجة لعمل الإنسان وما بذله في سبيل استثمار الأرض وأعمارها. لقد ألف الناس منذ القدم رؤية هذه الجنان فظنوها طبيعية والحق عن ذلك بعيد، لأن هذه الجنان لم تتولد على الأرض إلا بجهود الإنسان ولو استطعنا أن نعود بخيالنا إلى الماضي لرأينا الشعوب الأولى التي استوطنت هذه الأرض في صراع دائم مع الطبيعة حتى تغلبت عليها وجففت مستنقعاتها وغرست فيها الكروم وأشجار التين والزيتون. عمل الإنسان

نريد أن نذكر شيئاً عن قنوات بردى وتاريخها إذ لعلنا بعد هذا البحث نستطيع أن نعرف الزمان الذي بنيت فيه ونطلع على اسم الذي بناها. إن البحث في هذه المسائل صعب جداً، لأن شبكة الأنهر كشبكة الطرق لا تبقى إلا إذا تعهدها الناس بالعناية الدائمة. إن البحث في الأطلال والخرائب أسهل من البحث في الآثار الحية لأن الأجيال المتتابعة قد أثرت فيها وأضافت إليها أشياء كثيرة حتى صارت مركبة بعيدة عن حالتها الأولى. فأنهار دمشق من الآثار الحية التي أضاف إليها كل جيل شيئاً من عمرانه. إن جميع الأمم التي انتقلت من الفرات إلى النيل أو هاجرت من شواطئ النيل إلى شواطئ الفرات تركت أثراً في سوريا. فهل نستطيع أن نستدل بهذه الآثار على الشعب الأول الذي امتاز على غيره بحفر هذه القنوات؟ لاشك أن أول من فكر في الاستفادة من المياه هو الإنسان الحضري ولكن تاريخ سوريا بقي زماناً طويلاً مفعماً بالوقائع العديدة التي كانت تجري بين البدو والحضر. فالغوطة لم تتولد من جهود شعب منفرد ولا هي نتيجة زمان واحد، بل تولدت من جهود أمم عديدة لأنها كانت طريقاً للفاتحين في ذهابهم وإيابهم. وكلما مر بها فاتح تغلبت عليه بجمالها وطبيعتها فانصرف إليها وأضاف جهوده إلى جهود غيره ممن سبقه وهكذا تجمعت الأمم المتعاقبة بعضها فوق بعض حتى وصلت الغوطة إلى ما هي عليه اليوم من توزيع المياه وخصب التربة. وكلما كان نصيب الأرض من الماء أكثر كان إنتاجها أحسن ولذلك تجد سكان الغوطة كثيري الحرص على الأراضي التي يمكن سقيها بالماء ولعل الإنسان الأول كان أكثر حرصاً على الماء من الإنسان الحاضر لاقتصاره على الأرض في معاشه واقتصاره على الماء في استثمار الأرض وخوفه من الفاتحين في كل صباح ومساء. لم يختلف سكان الغوطة الأقدمون عن غيرهم من الأوائل في حياتهم ومعاشهم فقد بدأوا أولاً بصيد الحيوانات ثم انتقلوا من الصيد إلى الرعي فلما صاروا رعاة وجدوا في مروج الغوطة ما تحتاج إليه قطعانهم من الحشيش والكلأ فالتجأوا إليها عند اشتداد الحر. ولا يزال البدو في أيامنا هذه يأوون إلى هذه المروج الخضراء في أيام الحر من شهر أيار إلى شهر أيلول ولما التجأ الرعاة إلى الأرض وأقاموا فيها أخذوا يعنون يزرعها ليطعموا قطعانهم فتوزعوا الأرض وعمروها.

يمكن تقسيم الأرض التي أقام بها الأقدمون إلى ثلاث مناطق: أولاً الوادي ومجرى النهر. ثانياً منحدرات جبل قاسيون الوطيئة. ثالثاً الهضبة الواقعة بين الجنوب والغرب على الشاطئ الأيمن من النهر. ولعلنا إذا قايسنا سكان هذه المناطق المختلفة استطعنا أن نرجع بالفكر إلى الماضي، ونستنتج من هذه المقايسة انقسام الأولين على الأرض وتوزعهم إياها. فالقرى الواقعة في الجهة الشمالية من شرقي جبل قاسيون أكثر هذه المناطق سكاناً ثم يتلوها في عدد السكان قرى الهضبة الواقعة بين الغرب والجنوب لأن أكثرها يحتوي على أربعة آلاف أو ثمانية آلاف نسمة. أن قرى السهل القريبة من شواطئ النهر لا تحتوي على أكثر من 500 أو 1. . . نسمة. فالأقدمون إذاً هجروا شواطئ النهر واستوطنوا الأراضي المرتفعة. ومما يؤيد ذلك أيضاً أن النهر قبل انقسامه إلى القنوات الأنهر الصغيرة الحاضرة كان غزير المياه فكان يفيض في أيام الشتاء ويجرف التراب ويغطي الأرض أشهراً عدة، فلا يتمكن الناس من إقامة المساكن بالقرب منه فلما أنشأوا هذه القنوات لري الأراضي العالية صارت هذه المرتفعات صالحة للزراعة وأمكن تجفيف بعض المستنقعات التي كان يحدثها طوفان النهر. ويغلب على الظن أن العمران الأول حصل في مدخل الوادي على أنه من الصعب أن تصور للداخل إلى دمشق حالة النهر الأولى وعمران شواطئه القديمة لأنه قد تبدل كثيراً. ويمكن أن يقال أن دمشق كانت في العصر الحجري ضيقة الحدود. أننا نتصور حالة الغوطة القديمة بمجموعها ولكننا لا نستطيع أبداً أن نجد فيها آثاراً تاريخية واضحة تدل على عمل الإنسان الأول واستثماره للأرض وكيفية استفادته من مياهها. يتبع ج. ص قال شرف الدين بن محسن يصف دمشق: دمشق بنا إليها مبرح وأن لج واش أو الح عذول بلاد بها الحصباء در وتربها عبير وأنفاس الشمال شمول تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق

وصح نسيم الروض وهو عليل

بعد حصار 19 مرة المسلمون في القسطنطينية

بعد حصار 19 مرة المسلمون في القسطنطينية للقسطنطينية ميزات كثيرة على غيرها من بلدان الأرض لا سيما من الجهتين الطبيعية والسياسية فإن موقعها الجغرافي يجعلها تسيطر على البحرين الأبيض والأسود اللذين لهما مكانة تجارية عظيمة كما أنها حلقة الاتصال بين قارتي أوروبا وآسيا أو بالأحرى بين الشرق والغرب وهي تقوم على ضفاف البوسفور ذلك المضيق التاريخي الذي شهد أعظم المآسي. وقد أنشئت هذه العاصمة سنة 658 قبل الميلاد من قبل حاكم (هدغارا) التي هي في جوار برزخ (قوربنت) في بلاد اليونان. أما خليجها المسمى بالقرن الذهبي فهو واسع عميق ومن الخلجان التي تلجأ إليها السفن وقد كان يسد بسلسلة طولها 250 ذراعاً فلا يستطيع الأعداء دخوله وسميت (بيزانس) وأصبحت قبلة أنظار الأمم العظيمة. خضعت القسطنطينية تباعاً لأقوام شتى بسطت سيطرتها عليها في القرون الغابرة فقد حكمها السبرطيون ثم اليونان ثم استولى عليها القيصر (قلود) الروماني الذي حكم من سنة 45: 41 ق. م وفي سنة 330 ميلادية أصبحت عاصمة للقيصر قسطنطين الكبير الذي نقل إليها بلاطه من روما وسماها باسمه سنة 337 م وقد بقيت في أوج مجدها حتى فتحها محمد الثاني العثماني في 21 أيار سنة 1453 فدانت للحكم العثماني وقلبت كنيستها العظيمة أيا صوفيا مسجداً وهو من أهم المساجد في العالم اليوم. ولا ننس جمال موقعها الطبيعي الذي قلما يوجد مثله وهي تليق أن تكون عاصمة الدنيا كما يروى عن نابليون الكبير الذي قال لو كانت الكرة الأرضية مملكة واحدة للزم أن تكون عاصمتها القسطنطينية. فلذلك كانت ولم تزل مطمح أنظار الفاتحين. ولهذا طمع فيها المسلمون منذ أول قيام مملكتهم وتكرر حصارهم لها المرة بعد الأخرى حتى فتحت في المرة التاسعة عشرة. وفيما يلي ذكر جميع المحاضرات الإسلامية حصرناها في مكان واحد حتى يرى القارئ بوضوح جسامة الجهود المتوالية التي صرفها المسلمون قبل الاستيلاء على هذه الدرة الثمينة: 1 - في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان خرج والي الشام معاوية بن أبي سفيان سنة 32 هـ - لغزو القسطنطينية بجيش من الفرسان فنازلها وحاصرها ثم عاد بعد أن غنم وبعث الرعب في قلوب الروم.

2 - في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة 43 هـ - وصل جيش العرب بقيادة (يسر ابن ارطاة) إلى القسطنطينية ورجع بعد غزو ضواحيها. 3 - 4 - جهز معاوية في خلافته جيشاً عظيماً لفتح القسطنطينية بقيادة سفيان بن عوف الأزدي فخرج إليها سنة 48 هـ - في أسطول كبير خاض به بحر الأرخبيل ومضيق الدردنيل وبحر مرمره ولما وصل إليها أخرج جيشه على ضفة مرمره من غربي المدينة وضرب عليها الحصار وبقي أسطوله محاصراً لها من جهة الجنوب مدة أربع سنين إلى أن سير معاوية إليها جيشاً آخر بقيادة ولده يزيد وفيه العبادلة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم فأوغل في بلاد الروم وفتح المدن والحصون ودام في المسير حتى بلغ القسطنطينية واشترك في حصارها وأبرز الجيشان المحاصران من الشجاعة والأقدام ما بعث الدهشة في قلوب المحصورين لكنهما لم يتمكنا من الاستيلاء عليها لمتانة أسوارها ومنعة موقعها وبعدهما عن مركز الخلافة وفتك النار الإغريقية في السفن العربية فاضطر المسلمون لقبول الصلح الذي عرضه عليهم البيزنطيون وكان في مصلحة الطرفين. وفي أثناء هذه المحاصرة بنى العرب في الحي المسمى بالغلطة الآن المسجد المعروف بالجامع العربي وتوفي أبو أيوب الأنصاري ودفن قريباً من السور ولا يزال قبره هناك يزار وعليه مسجد يدعى باسمه وفيه كان يتوج خلفاء آل عثمان. هذا وقد اعتبر بعض المؤرخين هذه المحاصرة محاصرتين الأولى من قبل سفيان بطريق البحر والأخرى من قبل يزيد بطريق البر وعلى هذا القول تكون المحاصرات تسع عشرة. 5 - أرسل الوليد بن عبد الملك أخاه مسلمة عدة مرات لحرب الروم ففتح كثيراً من المدن والحصون ثم تقدم في إحدى غزواته حتى وصل إلى ضفة البوسفور (اسكدار) فهدد القسطنطينية وأحرق السفن التي كانت راسية في مينائها دون أن يصاب بضرر. 6 - في سنة 88 هـ - جهز سليمان بن عبد الملك جيشاً مؤلفاً من 12. . . جندي بقيادة أخيه مسلمة لفتح القسطنطينية فسار مسلمة حتى وصل إليها فحاصرها حصاراً شديداً ولما دخل فصل الشتاء زرع العرب وبنوا مدينة من الخشب دعوها (مدينة القهر) فلما رأى الروم ذلك استولى الرعب على قلوبهم فطلبوا الصلح على جزية يؤدونها كل سنة فأبى مسلمة حتى بئس الروم فخلعوا ملكهم (ته ئودوسيوس) الثالث وقتلوه ووعدوا البطريق

(ليون) بتتويجه إذا استطاع صرف العرب عنهم فأستأمن (ليون) لنفسه وتظاهر لمسلمة بالمودة والإخلاص ثم خدعه وأتلف طعام العرب حتى كادوا يهلكون من الجوع واضطروا إلى أكل الدواب والجلود وأصول الأشجار وأوراقها وكل شيء غير التراب وهم صابرون تجاه أعدائهم ينتظرون المدد من خليفتهم وكان الخليفة عازماً على اللحاق بهم بنفسه فما أمكن ذلك لمفاجأة فصل الشتاء البارد حتى توفي في مرج دابق في شمال حلب والجيش على أبواب القسطنطينية يكاسر الجوع عزائمه وتفتك النار الإغريقية به فلما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز رأى من الحكمة رفع الحصار ورجوع الجيش فكتب إلى مسلمة بذلك وأرسل إليه مؤونة كثيرة وخيلا عتافاً فوصلته وهو قافل في الطريق سنة 99 هـ -. 7 - وهذه المحاصرة كانت على يد عبد الله البطال الإنطاكي من قواد مسلمة بن عبد الملك في عهد أخيه هشام وفيها أحرزت العرب انتصارات عظيمة قرب القسطنطينية حتى اضطر القيصر إلى توقيع معاهدة كانت في مصلحة المسلمين. 8 - كانت هذه المحاصرة في عهد المهدي العباسي إذ أرسل ولده هارون الرشيد سنة 165 هـ - في جيش مؤلف من (95) مجهز بكامل العدد فأوغل هارون في بلاد الروم حتى بلغ البوسفور وهدد المدينة فكان الذي يقوم بأمر الروم القيصرة (اربنى) والدة القيصر قسطنطين السادس فهادنت هارون على (7) دينار في السنة وأن تقيم في طريقه الإدلاء والأسواق فأجابها إلى ذلك ورجع مكللاً بأكاليل العز والنصر فمدحه مروان بن أبي حفصة بقوله: أطفت بقسطنطينية الروم مسنداً ... إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها ومازحتها حتى أتتك ملوكها ... بجزيتها والحرب تغلي قدورها 9 - كانت هذه المحاصرة في خلافة الرشيد وسببها أن الروم ثارت سنة 187 هـ - على القيصرة (اري) فخلعوها وتوجوا أحد القواد (نقفور) فكتب هذا إلى هارون كتاباً يهدده فيه ويقول له (أردد ما حصل من قبلك من الأموال وإلا فالسيف بيني وبينك) ولما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب فكتب على ظهره قد قرأت كتابك والجواب ما ستراه لا تسمعه والسلام ثم شخص من وقته في جيش عرمرم حتى أناخ بباب (هرقلة) ففتحها وغنم ولما رأى ذلك (نقفور) طلب المهادنة على خراج يؤديه كل سنة فأجابه الرشيد إلى ذلك وقفل

راجعاً حتى وصل الرقة فبلغه هناك أن (نقفور) نقض العهد فعاد غير مبال بالثلوج وشدة البرد حتى نزل على مضيق القسطنطينية وهدد المدينة فارتاع (نقفور) وأخذ الرعب من قلبه كل مأخذ حتى صار يتذلل للرشيد ويحلف له أنه لن يتأخر عن دفع الجزية ولا ينقص العهد أبداً فقبل الرشيد وعاد ظافراً ولكن ابن نقفور لم يترك أباه ثابتاً على عهده بل أغراه وشجعه على جيش الرشيد والفتك به فجمع جيشه وسار في أثره حتى لحق به وحصلت بين الفريقين وقعة هائلة جرح بها (نقفور) وتشتت جيشه بعد أن قتل كثير منه وافترض عليه الرشيد غرامة سنوية قدرها (2) دينار واشترط عليه أن تنقش باسمه واسم أولاده. 10 - والمحاصرة العاشرة كانت حين نهوض الدولة العثمانية فقد طلب إذ ذاك قيصر القسطنطينية الحماية من محمود غازان ملك المغول بتبرير وأرسل له هدايا كثيرة من جملتها ابنته فبوصولهم إلى (تبريز) كان محمود غازان قد توفي وجلس مكانه ولده (خدا بنده محمد خان) فرغب في بنت القيصر وأرسل إلى جميع ملوك الطوائف الناهضة على أنقاض دولة السلاجقة المنقرضة بعدم التجاوز على مملكة القيصر فشق ذلك على عثمان شاه أحد ملوك الطوائف هذه ومؤسس الدولة العثمانية فتجاوز حدود الملكة البيزانتية سنة 708 هـ - واستولى على مدينتي (قوجحصار) و (لفكه) وأغار على قرية استاوروز من البوسفور. 11 - في عهد السلطان أورخان ثاني ملوك العثمانيين سنة 728 هـ - حين سار جيش بقيادة (اقجه قوجه) و (قو كورالب) و (اقباش محمود) إلى بكفوز على البوسفور واضمحل جيش القيصر هناك وقبل الهدنة. 12 - كان (ياني) قيصر القسطنطينية قد دخل في الحلف مع الأمم البلقانية ضد العثمانيين على أثر غزو العثمانيين لسهل المريج (مارتيزا) فأرسل جيشاً بقيادة ولي عهده (مانوئل) إلى جهات (ازمير) فانقض عليه السلطان مراد الأول ملك العثمانيين ومزق ذلك الجيش شر ممزق وفي الوقت نفسه أرسل جيشاً بقيادة (لالا شاهين باشا) و (اورانوس بك) سنة 771 هـ - فأغار على أملاك القيصر في جوار القسطنطينية وتقدماً حتى وصلا (اياستفانوس) ولما فرغ السلطان من تهدئة الأمور في آسيا الصغرى عبر إلى شبه جزيرة البلقان واستولى على أطراف القسطنطينية وهددها، ولما رأى القيصر ذلك خاف على

عاصمته فطلب الصلح من السلطان فصالحه لعلمه أن وقت الفتح لم يئن بعد. (يتبع) محمد صادق آل النقشبندي

الحيرة

الحيرة إن نفسي تريد أمراً ولكن ... لست أدري يا قوم ماذا تريد قد عرضت المنى عليها ولكن ... لم يرقها قديمها والجديد وعرضت الفنا لها فأبته ... وخلوداً فلم يرقها الخلود لم ترقها حرية سئمتها ... مذ جنتها ولم ترقها القيود حيرتني فلا اهتمامي أرضاها ... بحال ولم يفدها الصدود وإذا رمت بالسكوت أداويها ... عراني من وخزها التنكيد صار جسمي يروم عنها انفصالاً ... إذ عراه منها العناء الشديد وإذا قلت أنت ترضين بالفصل ... رأيت السكوت منها يزيد هي خرساء لا بنطق تؤدي ... ما أرادت ولا بلمح تفيد وهي إما خيرتها بين نفي ... وثبوت جوابها الترديد إن ترديدها يولد ترديدي ... فبئست أماً وبئس الوليد هي لا ترضى برأي ولا تأتي ... برأي فهل عراها الجمود لم أجد مثلها ومثلي فمني ... نعم جمة ومنها جحود.

العلاقة بين مدن الشرق وقراه

العلاقة بين مدن الشرق وقراه القرى تلد الأهليين والمدن تتوفاهم لو حاولنا أن نعرف هل وجدت القرية قبل المدينة في سوريا وغيرها من بلدان الشرق الأدنى أم بالعكس ورجعنا في هذه المحاولة للأدلة التاريخية وللاستنتاج النطقي لوصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه في الشرق على الأغلب وجدت المدن، قبل وجود القرى فيه لأن التاريخ يؤيد أن أكثر المدن الشرقية قديمة جداً وإن مواقع المدن الطبيعية ومراكزها الجغرافية يشيران إلى أن فيهما من الخصائص ما ليس في غير مراكز المدن مما من شأنه اجتذاب الإنسان القديم عند بدء استقراره بعد أن سئم حياة البداوة وابتدأ بالاشتغال بالزراعة. وبقليل من التأمل يلاحظ المرء أن المدن في الشرق تقوم بالقرب من مجاري أحد الأنهر الكبيرة التي تمكن من يستقر بجانبها من ري الأرض بواسطتها بكل سهولة كما يرى بالقرب من هذه الأنهر السهول الواسعة التي يمكن ريها كلها نظراً لانبساطها ولوفرة المياه. ثم أن هذه المدن تقوم بجانب أحد الطرق الهامة التي توصل الأقطار البعيدة بعضها ببعض وربما كانت هذه الطرق السبب الأكبر في جعل بعض المدن ذات شأن كما هي الحال مع تدمر والبتراء وصنعاء والكوفة فأنه عند تحول الطرق الكبرى التي كانت تمر بها إلى جهة أخرى تأخر جل هذه المدن أو اضمحلت بالكلية. وبما أن أول دور من أدوار الحياة الاقتصادية التي تتلو دور رعاية المواشي هو دور الزراعة وبما أنه ليس للقرى في الشرق من مياه الري وسهولة الزرع ما للمدن فإنه يمكننا الجزم أن المدن في الشرق بوجه عام أقدم من القرى فيه وأن هذه الأخيرة ما أهلت بصورة جدية إلا بعد أن استولت على جميع السهول المجاورة للمدن واستعملت مياه الأنهر الكبيرة للري وقلت منابع الرزق بالنسبة لعدد السكان وتزاحم الخلق على امتلاك الأرض الزراعية القريبة ومن طاف بقرى سورية ورأى أن الكثير منها تعتمد بزراعتها على الغيث وأن عدداً كبيراً منها أيضاً قد تكبد مشقات جسيمة في حفر القنوات للحصول على مياه الري يتحقق صدق النظرية السالفة. . . وبعد هذا التمهيد نريد أن نبين العلاقة بين المدن وبين القرى بعد نشأة هذه الأخيرة وازدحام

الأولى ولا يظن أحد أن العلاقة بينهما ضعيفة وغير هامة بل هي رابطة ذات أهمية عظمى إذ أنه لولا القرى لما نمت المدن ولما تجددت جيوشها ومتنت أخلاقها كما أنه لولا المدن لاشتدت وطأة التزاحم في القرى وقلت موارد العيش وتدنى مستوى المعيشة وضاق أفق الحياة وحرم الناس من درجة الرقي العالية ورقة الطباع اللتين وصلوا إليهما بواسطة المدن. قلت أنه لولا القرى لما نمت المدن بعد وصولها إلى هذه الدرجة من الضخامة. أن القرى تمد المدن بما يتزايد فيها من السكان وهي تستوعب هذه الزيادة لا بل تتطلبها لنموها واحتفاظها بالعدد الكبير الذي بلغه سكانها ولاستعادة القوة والنشاط إليها وتجديد الدم فيها. إن هواء القرى عكس هواء المدن جيد نقي يدعو لنشاط الجسم وتقويته ولتوسيع الرئتين فيقل بها مرض السل كما تؤدي فيها محافظة الأخلاق إلى ندرة الأمراض التناسلية وهكذا فالهدوء فيها يحفظ الأعصاب سليمة وقوية. فتتحسن الصحة وتخصب البطون ويزداد عدد المواليد وينتج عن ذلك أيضاً قوة النسل والأعمار الطويلة فتقل الوفيات وتنقص وقائعها عن وقائع الولادات نقصاً بيناً فلا يلبث أن يتزايد سكان القرية وتضيق أبواب العيش في وجه البعض فينزلون للمدن، حيث تكثر الأعمال وتتعدد أبواب الرزق ويقصد البعض الآخر المدن لتحصيل العلوم العالية والاحتكاك بطبقة من الناس أعلى مما اعتادوا عليه وبعد إذ يحصل الشبان علومهم في المدن يترفع طموح أكثرهم عن الرجوع للقرية والعيش بمحيطها الضيق ويفضلون البقاء في المدينة ليخوضوا بحر عراكها ويروا مقدار نشاطهم في السباحة فيه، كما أن الذين تتحسن اقتصادياتهم في القرية يروق لهم الانتقال للمدينة حيث مجال العمل أوسع والأمن أشد، فالمدن مركز المعامل الكبيرة والمشاريع الجسيمة. والثروات الطائلة وسوق النزعات الجديدة ففيها نظراً لكثافة السكان وشيوع قراءة الصحف واحتكاك الأفكار تظهر الثورات الفكرية وتنتشر وتتشكل الأحزاب السياسية وتتألف الجمعيات والنقابات وتتحفز كل فئة ضد مناوئيها فالمدينة ميدان تزاحم اجتماعي وسياسي واقتصادي وعلمي فيتقدم لخوض مختلف ساحاته الكثير من أهل القرى كل بحسب عدته وأهليته وبهما يقاس فوزه بين منافسيه وهكذا فأهل القرى يهجرونها للمدن دون أن يحدث العكس إلا ما ندر فتستعيد المدن بهذه الجماعات الوافدة من القرى ما فقد منها من نفوس

ويدخلون في مختلف طبقاتها وتستعيد بهم الأيدي النشيطة والأفكار الثاقبة والقوة على العمل التي هي بحاجة دائمة إليها. وهكذا تتجدد العائلات في المدن وتحتفظ بحيويتها بمجيء العائلات الجديدة من القرى وبمصاهرة هذه العائلات. ومن يمحص الأنساب في مدن هذا الشرق يرى أن كثيراً من العائلات فيها قدمت من القرى وبعضها لم يمض على قدومها للمدن جيلان أو جيل واحد. وأن أسماء عائلات كثيرة تدل دلالة ظاهرة على أصلها القروي فنجد في دمشق مثلاً آل الحلبوني والصحناوي والقاري والمهايني والنبكي والدوماني والقرواني والصيدناوي والتناوي والقساطلي والرحيباني والشويري وهلم جرا وكل هذه العائلات كما تدل أسماؤها من أصل قروي وهكذا قل عن المدن الأخرى غير دمشق وكثيراً ما تجد أن حياً من أحياء المدينة يسمى باسم سكان إحدى القرى كحارة السخانة في حلب وحماة وحمص ودمشق المأهولة بمهاجري السخنة وتدمر والقريتين وكذا فإن كثيراً من عائلات طائفة السريان القديم في المدن السورية من أصل صدي وبعض هذه العائلات قد اشتهرت بغناها وبوجاهتها. وستظل صدد القرية معقل الطائفة اليعقوبية المنيع في سوريا ومنبعها الدائم. وعليه فلنشبه المدينة بالبحر والقرى بالينابيع التي تنساب دوماً مياهها نحو البحر لتعوض عليه ما فقده وهي كالينابيع حلوة يتدفق منها الماء النقي ليمنح البحر ما فقده من المياه النقية التي بخرتها حرارة الكدح والمزاحمة ويلطف ما بقي فيه من المياه الكثيفة الملوثة بالأملاح التي جادت بها سكنى المدينة الغنية بماديتها وأذواقها ومغاويها، وهي كالينابيع هادئة تدفق الماء بكل تؤدة وسكون ثم تدفعها للبحر وسط هديره وصخب أمواجه، وهي كالينابيع دائمة تسير نحو البحر في حال اليسر والعسر وفي حال السلم والحرب فهي ينابيع الأرحام الدائمة تدفق مياه الحياة نحو بحر القبر الدائم. ويمكننا أيضاً أن نضيف للمقابلات الأنفة الذكر المقابلات التالية وهي أنه في القرية يكون الخيال بعيداً وسامياً ويراعى الدين والفضائل على قدر الإمكان فترى الشجاعة والتعبد والكرم والاهتمام بالغير ومساعدتهم متجلية بأوضح مظاهرها. أما في المدينة فالتواكل قليل والضيافة غير معتادة فلا يهتم أحد بغير نفسه وعائلته الخاصة فتضعف أواصر القربى والعصبية النسبية في القرية تعيش مع مواطنين يعدون بالمئات وتتعارف مع كل واحد

منهم وتشعر معه ويشعر معك إن حباً أو بغضاً أما في المدينة فأنك تعيش مع الألوف ولا تتعارف حق المعرفة وتعطف بعض العطف إلا على عائلات وأفراد قليلي العدد. في القرية يهتم للمعنويات في هذه الحياة وللأنفة والشمم والسمعة الطيبة ويكثر فيها القال والقيل الفارغ أما في المدينة فينظر للحياة نظرة جدية ويهتم بالمادة فوق كل شيء، فيتفانى أهل المدينة في سبيل نيل القوت الضروري أو إحراز الغنى ليمتع أنفسهم طالبوه بكماليات الحياة المعروضة أمامهم للبيع. وكذلك فإن أهل القرية محافظون والفرد فيهم أسير للعادة وللتقاليد بينما نجد أهل المدينة نزاعين إلى التجديد والتبديل والفرد فيهم مستقل وحر بتصرفاته وأفكاره. على أن القرويين يميلون للتشبه بأهل المدينة ويسعون لتقليدهم إلا أن أغلب ما يقلدونهم فيه هو الظواهر دون الجواهر لأن الظاهرة أقرب للعين وأرغب للهوى وأسهل تناولاً لليد. إذن فموقف المدينة من القرية موقف المادي الطموح من الرواقي القانع بالخيال والمتمسك بالمبادئ العالية، وموقف العالم من الساذج، والمعلم من التلميذ، والأب المتبني من الابن المتبنى، والغني من الفقير، ورب العمل المكافئ من العامل النشيط والملجئ من الملتجئ والقبر من الرحم. ليس كل ما ذكرناه من المقابلات في هذا المقال يختص به الشرق دون الغرب بل أن كثيراً منها يصدق في الاثنين على السواء. على أن بعض المقابلات التي لا تنطبق على الغرب والتي هي لب الموضوع يبرر حصر العنوان بمدن الشرق فالمدن الغربية من الوجهة الصحية ومن حيث مقابلة عدد المولودين بعدد المتوفين غير مدننا. وإذا أغفلنا ما تزيده القرى في عدد سكان المدن قلنا أنها نظراً لنظافتها وللوسائط الصحية المتبعة فيها ولحداثة عهد الكثير منها لا تنطبق عليها بعض النعوت التي نعتنا بها مدننا ويمكنها أن تتزايد وتحتفظ بنشاطها بقطع النظر عن القرى قد تمدها بالحياة والنشاط كما أن الرقي الفكري ميسور في قرى الغرب فوق ما هو ميسور في قرانا بسب حسن المواصلات وثراء الشعب وغيره، ولقد كانت باريس ولندن قبل مائة وخمسين عاماً كما هي مدننا اليوم ولكن الغرب يخطو خطوات واسعة في سبيل التقدم كل عام بينما نحن نرقى ببطء وتغلب فينا روح المحافظة على حب التجديد وكذا فالنظافة العامة والشعور بواجب الفرد نحو المجتمع لم

يصلا عندنا إلى درجة عالية. ومقابلة صغيرة بين إحدى مدننا الداخلية وبين أصغر مدن الغرب تدل على صدق ما ذكر من الفرق بينهما. وطالما بقيت مدننا على ما هي عليه الآن دون أن تطبق فيها القواعد الطبيعية والهندسية تبقى مقابر لدفن النشاط والحياة اللذين تبعث بهما أرحام القرى دمشق شكري جبور

أنا زنجي

أنا زنجي بقلم الكاتب الجاماييكي الأسود روى كوفرلي لا أعلم كيف أدركت فجأة أن كون الرجل أسود وتحمله عذاب ذلك يتطلب نفساً كبيرة وفضيلة أعظم من فضيلة الملائكة من أبيات للشاعر الأميركي الأسود كونته ولن لا أدري كيف أبدأ هذا المقال، أما أتمامه فهو مشكلة أخرى. أنني رجل أسود وأني لا أسأل نفسي كم من الرجال البيض يعرف ما معنى كون الإنسان أبيض؟ وأنا كما أنا، على أني موقن أنه ليس لجلدي اللون الذي لجلد أكثر الناس وإنه ينظر إلي من وجهة عامة كمخلوق غريب يميل الناس لمعرفة كيف يفكر، وكيف يعمل، وماذا باستطاعته أن يعمل. لقد اعتقدت بكل هذا قبل مجيئي إلى كوبنهاغ لأنني عشت في أمريكا حيث اعتاد الناس أن يعتبروا أبناء قومي السود كمخلوقات على حدة لها شأنها الخاص. وفي أمريكا، وأن شئت فقل في نيويورك يوجد حي من الأحياء يسمى هارلم وفي هارلم يختلط الرجل الأسود بالألوف من أبناء جنسه فيرى بوضوح وجلاء تام أن الحياة فيه تشذ عن القواعد العامة. والشعب الأمريكي الذي اعتاد كثيراً رؤية الزنوج يعد وجودهم طبيعياً رغم أنه يكرههم ولعل في حوادث طفولتي مواد كثيرة للموضوع الذي أعالجه في هذا المقال. لم أكن في أيام طفولتي في الجاماييك أشعر بأني، كما أذكر ذلك جيداً، أحد أفراد قوم خاص، إنما كنت أعرف أن البعض من الناس أسود والبعض الآخر أبيض. هذا كل ما في الأمر وفي بعض الأحيان كان سماع جملة أو قراءة سطر يجعلني أشعر أنه ينظر إلي كزنجي ولكن هذا الشعور لم يكن ليدوم أكثر من بضع دقائق لأن الزنوج في الجزيرة كانوا يبلغون أكثر من أربعة أخماس السكان ولأن مسألة عدم اختلاط الزنوج بالبيض كانت مسألة جنسيات. فمعظم البيض كانوا يشغلون وظائف كبرى ومراكز أخرى ذات شأن كبير وإذا كانت طريقة معيشتي تختلف عن طرق معيشتهم فذلك يعود إلى أنهم أغنياء ولأن مراكزهم الاجتماعية كانت تتطلب ذلك ولعل هذا كل ما كان يخيل لي بهذا الصدد. وقضيت أعوام حياتي الأولى كإنسان مستقل بذاته فخور بعائلته. ولم يكن ليدور في خلدي

أنه سيأتي يوم أرى فيه نفسي مخلوقاً غريباً عن بقية الناس. وجاءت الحرب الكبرى. وكنت في التاسعة من عمري عند ابتدائها وأني لأذكر حزني إذ ذاك لأن عمري لم يكن يسمح لي بالذهاب إلى الجبهة الحربية والقتال في سبيل انكلترا. لقد تعلمت في المدرسة أنه يجب على المرء أن يفخر بأنه تابع للإمبراطورية البريطانية وأن بريطانيا أعظم دول الأرض وتعاليم أخرى كهذه لا اعتقدها الآن بعد أن أصبحت رجلاً وسافرت إلى بلدان كثيرة. وأطلقت العنان لنفسي يجرفها تيار الحماس الحزبي فاشتركت في فرقة الكشافة وفعلت كل ما استطيع في سبيل انكلترا ولقد وصلت الأخبار عن الذين سافروا إلى ساحة الحرب وأذكر أني قرأت في الجرائد إذ ذاك جملاً من هذا النوع. لقد عادت إلى الجنود الجامابيكين السود طبائعهم الوحشية الأصلية أثناء المعركة فانقضوا على الأعداء. . لم أكن لأفهم معنى هذا ولم أكن أعرف لماذا يطلقون على أبناء قومي اسم زنوج الجاماييك، ولا لماذا يقولون عنهم أن طبائعهم الوحشية الأصلية قد عادت إليهم. . . ومن أين لي أن أدرك؟؟ كنت عائشاً في عالم يقضي سكانه، من البيض كانوا أم من السود، أوقاتهم في لعب (الكريكت) وشرب الشاي والتحدث عن حكم النفس بالنفس محتقرين الفقر، متعلمين اللهجة الانكليزية الصحيحة في أحاديثهم. فأية علاقة للطباع الوحشية بكل هذا؟؟ لقد كانت كلمة زنجي تؤذي نفسي لأنها كانت تطلق في نظري على أقوام تعيش في أفريقيا حياة همجية وليس في وسع أحد الاتصال بها أو التعامل معها. وكم كنت غبياً مجنوناً!!. لقد عينت الحكومة الانكليزية في أحد الأيام مديراً جديداً لسكة حديد الجاماييك، ولقد كان يشغل وظيفة مماثلة في جنوب أفريقيا من قبل، فأخذ يتكلم بعد وصولي لبلادنا عن وجوب تسيير خاصة بالزنوج. فتألف في الحال وفد ذهب إلى المدير في مكتبه وأفهمه أن سكان الجاماييك وأن كانوا زنوجاً فهم راقون لدرجة لا يحلم هو نفسه بالوصول إليها، وأنهم لا يقبلون بأي وجه معاملتهم كمتوحشين، إنه من الأصح أن لا يعود إلى التكلم عن العربات الخاصة ونصحه البعض بالاستقالة. وبعد ذلك بمدة قصيرة رأى هذا المدير أن يلفت نظر أبي الذي كان إذ ذاك رئيس

المهندسين في سكة الحديد، إلى وجوب احترامه أكثر مما يفعل. فاستقال والدي في الحال وأعلن ذلك في الجرائد. وهذه حملت بدورها على المدير حملة شعواء جعلت من المدير هدفاً لسخط الرأي العام مما دعا حكومة لندن لدعوة المدير لبلاده. ولقد كانت نشأتي في محيط يشعر لهذه الدرجة بقوة قوميته الدافع الحقيقي لعدم إدراكي معنى كوني زنجياً تجاه نفسي وتجاه البيض من البشر. لماركوس غارفي الرجل الأسود المعروف شخصية قوية، وذكاء حاد ولقد أثار حوله قبل ذهابه إلى أميركا قليلاً من الضجة بتأليفه جمعية غرضها الدفاع عن حقوق الزنوج وتحسين أحوالهم الاجتماعية. ولكنه لم يلق النجاح الكبير لن زنوج الجاماييك إذ ذاك لم يروا أن حالتهم تدعو للإصلاح ولأن أكثر السكان كما قلت قبلاً، لم يكونوا يشعرون بأنهم زنوج يختلفون عن بقية الناس ولكن غارفي لم ييأس فسافر إلى أميركا، واستطاع بقوة شخصيته وبراعته في فن الخطابة أن يجعل (الجمعية العامة التي ألفها لإصلاح الزنوج) تزدهر ازدهاراً لم تر له أميركا مثيلاً من قبل! ولقد كان لهذه الجمعية في جميع المدن الأمريكية، وكانت ذات أثر كبير في نفوس الملايين من الزنوج الذين سحرتهم خطب غارفي النارية فقدموا عن طيبة خاطر كل ما اقتصدوه في سبيل الدفاع عن غاياتها التي كانت كثيرة الغلو بعيدة المرمى، ترتكز على نظرية مهاجرة جميع زنوج العالم إلى أفريقيا لإنشاء دولة قوية من الأمة السوداء. وفي سبيل هذه الغاية، بدأت الجمعية بشراء عدد من البواخر الكبيرة استعداداً لمنافسة باقي ملاحي العلم. وحينما أعلن خبر قدوم باخرة (حظ النجمة السوداء) إلى كنجستون سمعت لأول مرة سكان الجاماييك يتكلمون عن أنفسهم كزنوج. وصرح والدي إذ ذاك أنه سعيد أن برى أبناء جنسه وقد بدؤا يشعرون بوجودهم ويخرجون من الحمأة التي هم فيها. لقد بدا لي كل هذا كثير الغموض، ولكنه مع ذلك أثر بي تأثيراً عميقاً. وفي كتاب إلى رفيق مدرسة سافر إلى أميركا كتبت: إن وصول الباخرة فريدريك دوغلاي يدل على أن أبناء جنسنا قد بدؤا العمل وشرعوا بمجابهة العالم. كانت هذه الباخرة تحمل غارفي. فذهبت إلى لنجستون لأسمع خطبه. لقد كان في الواقع

خطيباً ساحراً، فأنه صور ببراعة كبيرة مدن أفريقيا في المستقبل وتكلم بحماس شديد عن الجيوش القوية التي ستدافع عن أفريقيا السوداء. . . . ولكنه لم يذكر شيئاً عن كيفية استيلاء الزنوج على هذه القارة، ولا عن كيفية طردهم الأمم القوية البيضاء المحتلة لأكثر أقسامها. مما جعلني أدرك أن هذا الرجل يتلاعب بسلسلة من الألفاظ النارية ليستولي على عقل شعب ساذج. ومع ذلك، فقد سرى السم في عروقي. لأني منذ سمعت غافي يتكلم، لم يعد في وسعي أن أنسى أنني زنجي وأن البيض ينظرون إلي كرجل منحط وأني مدين بهذا وبهذا فقط لغارفي. كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما سافرت إلى أميركا حيث ذقت مرارة العيش وعرفت سريعاً أن كون الإنسان أسود يكلفه شقاءً كثيراً. وأردت أن أمتهن صناعة رسم الخرائط التي تعلمتها في وطني، ولكنني كنت كلما طلبت العمل تلقوني بابتسامات الهزء والسخرية. وبعد أن هزؤوا بي كثيراً، وتحملت إهانات كثيرة بدأت أفهم حقيقة الأشياء ولقد تقدمت إلى رجل على غاية من اللطف فقال لي: يا بني. أنا لا أشك في مقدرتك على الرسم وأرى أنك شاب متعلم ومهذب. ولكنك لن تستطيع العمل هنا، لأننا لا نقبل رجلاً ذا لون في عمل كهذا. وانتهى بي الأمر إلى أن أصبحت خادم رافع (اسانسور) في أحد الفنادق. ولكنني كنت اجتهد دائماً للتفرغ إلى العمل الذي صممت عليه فقد رأيت أمريكا بلاداً قوية فعزمت أخيراً على أن أكون زنجياً من نيويورك. ولقد كان لي في هذا بعض التعزية. لأني اكتشفت أنني أجيد الرقص، وأنه يمكنني ترك نفسي تسير في تيار من الألحان القاسية الوحشية الجميلة التي يهتز لها جسمي ويضطرم بتأثيرها. أنني أفضل مئة مرة أن آتي إلى أميركا وألقى كل أنواع الألم والعذاب من أن أحرم هذه الموسيقى السوداء المتأججة! وأني لأرضى أن آتي إلى أميركا وأرى شيئاً يستحق الأهمية. ولكن هذه المهنة كانت عسيرة عليّ، وسببت لي كثيراً من اليأس. فكنت أقوم بمهن حقيرة لأكسب قوتي ثم أسعى لأن أكون كاتباً. وأحياناً كثيرة كنت ألعن هذا الجلد، هذا الغشاء الأسود الذي يكسو جسدي ويضع أمامي العراقيل والعقبات، ويسبب لي أنواع المصائب والألم. ولا أستطيع أن أقول أنني أحرزت

شهرة كبيرة في الكتابة، فإذا عدت إلى أميركا، فعلي أن أقارع وأطاحن. إن شهرة كبيرة يحرزها فنان، تمهد أمامه كل سبيل، ولكن أمامه وحده، دون أن يكون منها أي أثر يعود على أبناء جلدته. ولهذا السبب فقد اعتقدت كأكثر الشبان المفكرين من الزنوج، بالمساواة في التفكير وذلك لأننا ندل على أنفسنا بنوع إنتاجنا. وإذا نشرت غداً رواية كبيرة أنال الشهرة وأدعى للسهرات والحفلات والمجتمعات الخاصة بالبيض فأصبح وكأني اوروزماك كلومندن أو كاني هايز، فيتحدثون بنبوغي الشخصي ويثنون على عبقريتي ولقد أسمع أحدهم يقول: إنه من دواعي الأسف أن لا يكون جميع الزنوج مثلك وموضع السخرية في هذا القول أن الزنوج ليسوا جميعهم مثلي وهل يتأتى لقوم من الأقوام أن تكون جميع أفراده شعراء وفنانين. إن ذلك كله سخافة تامة والحل الوحيد الذي يلجأ إليه الفرد للخلاص من ذلك هو مغادرة أمريكا والعيش في بلاد أقل همجية منها وهذا هو ما فعلته. ولكن الحال ظلت على ما هي عليه بشأن أبناء قومي السود وكما كتبت مؤخراً في إحدى قصصي: لقد تركت أنا الزنجي أمريكا فراراً من شيء هو أعظم قوة مني لم استطع احتماله تاركاً أخواني هنالك هدفاً للألم والعذاب ولعل هذا هو عاطفة قومية أكثر منه حقيقة واقعة لأني كالكثيرين من الزنوج رأيت الغاية في أن أكون أنا كما أنات وأني أؤمل أن لا يحمل كلامي هذا على محمل الشكوى لأن في الزنوج أناساً أدنى مني ينجحون بينما أجد جميع كل أبواب الأعمال التي أجيدها مغلقة في وجهي وأتحمل عذاب ذلك بدلاً من أن أحرم من هذه الأنغام التي تشعر كأنها قطعة من روحي. إن في أميركا عزاءً كبيراً. فقد تعلمت فيها أشياء كثيرة. ولقد علمت عندما كنت أعمل كخادم رافع، وحزام بضائع (ايرا الدردج) الزنجي وهو يعد من بين أبين الروائيين الكبار في أوروبا وأن (بوتشكين) كان نصف زنجي وأن أم (دوماس الروائي) كانت سوداء، وإن صناعة النحت الأفريقية تعد فناً راقياً، وإن الأناشيد الروحية الزنجية هي موسيقى أمريكا الوطنية الوحيدة. وعرفت أيضاً أن لون جلدي الأسود، هو خطيئتي الوحيدة التي لا تغتفر. على أن مدير المكتب كنت أعمل فيه كحزام بضائع، كان يعهد إلي دائماً أن أتكلم بالتلفون لأنه كان للهجتي الانكليزية ورنة صوتي تأثير حسن في الزبائن ولأنه لم يكن في لهجتي وفي صوتي ما يدل على لوني. وذقت المرارة أيضاً، تلك

المرارة التي يعاني مضضها كل من يشعر بعلائم الكره وإشارات الاحتقار موجهة إليه. وعرفت أيضاً الألم الذي يصاب به كل من يقرأ في الجرائد وفي كل يوم أن واحداً أو اثنين أو ثلاثة من أبناء قومه أحرقوا أحياء بسبب هذا الكره نفسه وذقت مرارة الاعتقاد أيضاً أنه لولا هذا الجلد، لولا هذا الغشاء من اللون الأسود، لاستطاع المرء النجاح أو على الأقل لاستطاع أن يفعل شيئاً. ليس في وسعي أن أنسى أبداً ذلك اليوم الذي وقفت فيه أمام أحد المطاعم وقد عرضت في مقدمته أنواع كثيرة من الأسماك اللذيذة وكنت جائعاً وجيوبي مفعمة بالدنانير فدخلت وفي الحال شعرت بيد قوية تنقض عليّ وتدفعني خارجاً فترمي بي على رصيف الشارع. . لا أدري نوع العاطفة التي خامرتني إذ ذاك ولا أدري كيف عدت إلى مسكني لأني لم أعد أرى شيئاً وكنت عاجزاً حتى عن التفكير. إنما أحسست بظلمة حالكة تغمر كياني ولذلك فقد بقيت أسبوعاً كاملاً في غرفتي دون أن أرى إنساناً أو أتكلم مع إنسان منطرحاً على سريري ذاهلاً عن نفسي شقياً معذباً. ولقد عدت بعد هذا إلى رافعي، وجعلت، وأنا أرفع الناس وأنزلهم ادرس طباعهم والسبب الذي يدعوهم لاحتقار الآخرين وكنت أدرس حركاتهم وأتفحص وجوههم، فتحول رافعي الكهربائي إلى قاعة درس أحلل فيها كل نماذج الشعوب الأمريكية. وكانت نتيجة هذه الأسابيع من الدرس، أن ارتسمت على وجهي ابتسامة صفراء، فيها مرارة، وفيها استهزاء. . . لست شاكياً من هذا ولا متضجراً، فالزنجي الذكي لا يشكو، بل يستعد للعمل هادئاً ساكناً، منتظراً الفرصة السانحة يوماً ما. إن جامعات نيويورك وباقي الولايات الأمريكية تعج بالشبيبة السوداء التي تتعلم وتستعد للوقوف في وجه التيارات والعواصف. . ومعظم هؤلاء الشبان من الزنوج، يقومون بشتى الأعمال القاسية لكسب القوت الضروري، في نفس الوقت الذي يملأ ون فيه أدمغتهم. لأن القوي في أميركا والذي يعرف ما يريد يجد المكافأة من أميركا نفسها: فكونته كالن يعد من أكبر شعرائها مع أن الوحي الذي رفعه إلى ذروة الشهرة، هو نفسه الذي دفعه يوماً من الأيام إلى كتابة وعندما تمثل روز ماك كلوندن في أحد المراسح، تراه يعج بالناس. ومن المستحيل أن تجد محلاً فارغاً في المسرح

الذي يغني فيه (رونالد هايز) وعندما بدأت الكتابة، وكان ذلك منذ عدة سنوات، رأيت أن أميركا كانت تظهر لي وجهاً أقل تهجماً وكما كتبت مؤخراً في إحدى قصصي: لقد تركت أنا الزنجي أمريكا فراراً من شيء هو أعظم مني لم استطع احتماله تاركاً أخواني هنالك هدفاً للألم والعذاب ولعل قولي هذا هو عاطفة قومية أكثر منه حقيقة واقعية لأني كالكثيرين من الزنوج رأيت الغاية في أن أقول أنا كما أنا وأني أؤمل أن لا يحمل كلامي هذا على محمل الشكوى لأن الزنوج لا يشكون ولا يتذمرون بل يضحكون ويرقصون ويغنون حتى في أعظم ساعات المصاب وفي أوقات الشقاء والألم. أنهم يخلقون لهم عالماً خاصاً بهم ويتمتعون بكل ما فيه من نشاط وقوة. فهارلم هو حي من أحياء نيويورك كثير النشاط عظيم الضجيج تعصف في أجوائه دائماً أنغام الموسيقى والأناشيد والقهقهة تلك القهقهة القاتمة العميقة، تلك القهقهة الخاصة بالشعب الأسود القاتم. إن قضاء بعد ظهر يوم من أيام الصيف في هارلم، ذلك الحي المزدحمة شوارعه بالوجوه المستبشرة الضاحكة، ذلك الحي الذي تشع في طرقاته وممراته الألوان السوداء اللامعة هو مما ينطبع في النفس ويترك فيها ذكرى خالدة. أن الكثيرين من سكان نيويورك البيض يأتون إلى هارلم، يأتون هذا الحي لاكتساب شيء من قوة الحياة المرحة الضاحكة ويتركون لأنفسهم حرية الاستسلام إلى هذه الموسيقى المتأججة القوية التي تكتسح كل شيء. نعم نحن من عنصر غير عنصركم ولا أظن أنه في وسع أحد من البيض أدراك أي إكسير حار مضطرم يغلي في عروقنا ولا أي استعداد للشعور والحياة قد منحتنا الطبيعة. أننا نستطيع أن نتمثل حضارة العنصر الأبيض ونندمج فيها وأن نحتفظ في الوقت ذاته بتلك الثورة النفسية المتأججة التي ورثناها. ومن هذا تنشأ الصفة التي نمتاز بها. وأننا مابرحنا نردد في أنفسنا خلال كل ما أصابنا من الشدائد والمحن معاني الأبيات التي أوردتها في أول هذا المقال فنعرف أن أداء ما وجب علينا من العمل في هذه الحياة يحتاج حقيقة لنفوس فاضلة كبيرة. تعريب: ع. ج

أيتها الضعيفة

أيتها الضعيفة هاهو ذا الفجر ينشر على الكون الهادي غلائله الفضية ويبعث بنسماته العطرة تهز أوراق الحور. وها هو خيالك القديم الشاحب، ينتصب بجانبي في هذه الشرفة القائمة على سفح قاسيون، فننظر معاً إلى مدينة دمشق التي نشأنا وترعرعنا فيها، فنراها وقد انبسطت أمامنا يحيط بها البحر الأخضر، فينسينا منظرها الفخم البهيج ما كاد يستولي على نفوسنا من يأس قاتل. أيتها الضعيفة تشجعي فالصبح لا يلبث أن ينبلج. ألا ترين وخيالك معي، هذه المآذن الذاهبة في أجواز الفضاء كيف تلمع تحت أضواء الفجر وتنفض عن أردانها غبار الليل لتستقبل أشعة الشمس؟ إن نور النهار سينحدر عما قليل رويداً رويداً من أعاليها، فيتغلغل في كل ناحية من نواحي هذه المدينة الجبارة التي قيدتك بسلاسل العرف وأغلال العادة ورمت بك في زاوية من زوايا الغابر المظلم فأصبحت وأنت كما أراك إلى جانبي منهوكة القوى، يحول الضعف بينك وبين نصرائك فتكادين لا تصغين لندائهم، ويكادون لا يسمعون أنينك. . . تشجعي أيتها الضعيفة فقد آن لهذا الليل هؤلاء الأقوياء الغاشمين الذين ما أحبوا فيك إلا نفوسهم. إن قواهم أوهى من أن تحجب النور، وأن ظلمهم أضعف من أن يقف في وجه الحق طويلاً. أيتها الضعيفة تشجعي فقوة الإيمان أعظم القوى ويكفيك أن تؤمني أنك مهضومة الحق وإن القوم من ذويك ظالمون. أيتها الضعيفة استأسدي فذئاب الحي جياع. أيتها الضعيفة استبسلي ولا يغرنك ما ينفثونه في روعك مما لم يمله عليهم إلا الأنانية ولم يدفعهم إليه إلا حب الذات. لقد أنزلوك منزلة السلع ووقفوا منك موقف القوي الظالم من الضعيف المخلص فلم يرعوا لك ذمة ولم يحفظوا لك عهداً. لقد كذبوا على الله فتناسوا لباب الدين واتخذوا من قشوره حبالاً يخنقونك بها. وسخروا التقاليد والخرافات لإرادتهم لا يحتفظون منها إلا بما يؤيد قوتهم ويسد ثغره نهمهم ويدعو لضعفك وتذليلك. لقد فهموا الشرف كما أرادوا لا كما يفهمه الحق أو العدل وأنهم ما برحوا يغضبون الله ويعصونه فينسبون ذلك إليك، ويرتكبون

الجرائم للتحكم بك زاعمين أنهم ارتكبوها للدفاع عنك، ويسمحون لأنفسهم مفاخرين بكل ما يعيبونه عليك ويرمونك به، ومازالوا وهذا شأنهم حتى إذا أنهكت المظالم قواك وضعضع الألم آمالك ورجاءك قالوا عنك ضعيفة لا نصيب لك من الحياة إلا الرحمة بك والإشفاق عليك. لقد عرفتك في كل الأدوار والمراحل ضعيفة خاضعة مستسلمة صابرة، وعرفتهم في كل الأدوار أقوياء لا حد لظلمتهم ولا نهاية لما أنزلوه بك من عسف واضطهاد. أيتها الضعيفة لا تجزعي ولا يتأسي بل روحي عنك وأرجعي بخيالك إلى ماضي الحياة البعيدة وتاريخها الغابر المتراكم في هاوية العدم. إنك لا تجدين بين طياتها إلا صراعاً قائماً بين الظلم والعدل وعراكاً يكاد لا ينقطع بين الحق والقوة. هذه سنن الحياة ونظمها أيتها الضعيفة فلا يهولنك ما ترين. تمر العصور وتنقضي حقب الدهر وتنازع البقاء لا يبرح ثابتاً في أصوله لا تتغير إلا صوره وألوانه. أيتها الضعيفة تشجعي فأنت سليلة الأماجد ممن أبوا الضيم ولقد آن لك أن تؤمني أن الحق حقك فتستنبطي من الضعف قوة ومن اليأس أملا ورجاء. أيتها الضعيفة استبسلي فالحرية لا ينالها إلا طالبها والمجد لا يحرزه إلا الجسور المقتحم. هاهي الشمس قد نشرت أشعتها فوق الأرض وها هو النور يملأ المنازل ويغمر الروابي والبطاح وهاهي المدينة الجبارة وقد نهضت من نومها العميق تعجب لجهدك وتعتز بمجدك.

جمعية دوحة الأدب النسائية

جمعية دوحة الأدب النسائية ومشروعها الجديد جمعية دوحة الأدب النسائية في دمشق عنصر من العناصر الاجتماعية التي يمكن وصفها كما هي في الواقع ثم تحليلها ودراستها بطريقة الاستقراء والاستنتاج لبيان صورة واضحة من صور التطور الاجتماعي الأخير ليس في سورية فقط بل في جميع أقطار الشرق العربي، وهذا ما لا نستطيعه في هذه العجالة لأنه يحتاج لبحث خاص ربما أفردنا له فصلاً خاصاً في أعداد الثقافة، على أن غاية ما نود أن ننبه القارئ إليه في هذه الكلمة هو أن هنالك رأياً إذا أيدناه فإنما نذهب به مذهب أستاذ كبير من أساتذة التربية والتعليم السوريين الذين يعملون اليوم في العراق بعد أن عملوا طويلاً في سورية. وخلاصة هذا الرأي أن النساء السوريات هن أشد ذكاء وفطنة وأكثر استعداداً للعلم والتعليم وأقرب للتقدم والنجاح في العمل من الرجال السوريين، وهو رأي أبانه صاحبه منذ عشرات السنين فجاءت أدلة الواقع تؤيده وتثبت صحته، ولعل أظهر هذه الأدلة وأبرزها جمعية دوحة الأدب النسائية هذه التي لا نعرف من جمعيات الرجال المدنية في سورية من استطاعت أن تجاريها في ثباتها وصحة برنامجها وإخلاصها ومثابرتها على العمل بكل ما يتطلبه نجاح العمل في الجماعة من صفات يجب أن يتصف بها الفرد والتي من أهمها سلامة القلب وشرف النفس وسمو الروح والمفاداة بكثير من المنافع الخاصة التي تمليها الأنانية والأثرة وحب الذات. لم تكد تؤسس جمعية دوحة الأدب النسائية في دمشق منذ سنين خلت حتى كنابين المتفائلين خيراً بتأسيسها ومن الأملين ببقائها ونجاحها فقد نشأت دون أن تثير حولها شيئاً من الضجيج الذي اعتادت جمعيات الرحال في سورية أن تبرز به في بادئ أمرها، ثم لم يمض عليها شهور حتى وفق مؤسساتها لجمع مبلغ من المال أنشأنا به مدرسة للبنات الصغيرات أجمع جميع من عهدوا بتربية بناتهم إليها أنها من خيرة المدارس السورية إن لم تكن أصلحهن في برنامجها وترتيبها وتنظيمها، وفكر القائمات على شؤون الجمعية بعدئذ رغم ما تعانيه البلاد من ضيق وفقر بجمع ما يكفي لبناء مدرسة فوضعن مشروع القرش السوري وطبعن مليوناً من الطوابع كل طابع منها بقيمة قرش سوري واحد وشرعن بتوزيعها وبيعها، وأنك لو درست هذا المشروع الجديد الذي أخذن على أنفسهن القيام به في

مدينة فقيرة كدمشق وعرفت ما عانينه في سبيل إيصاله إلى ما وصل إليه رغم الحجاب الكثيف الذي يحجب وجههن ورغم حب الذات المتأصل في نفوسنا نحن الرجال، لعرفت أن هنالك جهداً جباراً قد يضيق به ذرعاً من لم يكن مخلصاً في عمله، سامياً في مبدئه، شريفاً في نفسه وروحه، وإنك إذا بحثت الأمر أيضاً ووقفت على كثير من شؤون جمعية دوحة الأدب وأعمالها الهادئة الرصينة لا يبقى مجال للشك في نفسك بنجاح مشروعها الجديد ولأيقنت أن المال المطلوب سيجمع أن لم يكن عاجلاً فآجلاً وأن بناء المدرسة سيقام بعد حين في قلب عاصمة الأمويين ضخماً فخماً شاهداً على جهد المرآة السورية وعظمتها، ويؤيد يقينك ما تراه ويتناوله سمعك في كل يوم وفي كل ساعة من دعوة الشقيقة شقيقها وإلحاح الزوجة على زوجها ورجاء القريبة قريبها لمناصرة هذا المشروع وبيع طوابعه وبذل الهمة في سبيله كأنه عمل خاص بهن وكأن المال الذي سيجمع من وراء ذلك سيمنح إليهن ولذويهن. إن هذه العاطفة السامية المتأججة في نفوس هؤلاء النسوة أعضاء جمعية دوحة الأدب هي الشرط الأول في نجاح عمل الجماعات وهي عاطفة أن لم نتعدها بالتشجيع والمناصرة أصبحت بعد حين كغيرها من تلك العوامل الروحية التي لا تلبث أن تخمد شعلتها في هذه البيئة الخشنة من الدعائم التي يبنى عليها مجد الأمم وسلطانها. إذا شكرنا أعضاء جمعية دوحة الأدب على جهودهن ومساعيهن رغم ما يعترضهن من مصاعب التقاليد والعادات التي يرزحن تحت أثقالها، فإنما نؤدي فرضاً هو أقل ما يمكن في باب التشجيع والمعاضدة، وإذا دعينا لمناصرة مشروع الجمعية الجديد ومساعدته، فإنما نذكر قرأنا بواجبات وطنية ليس بين الناس من يعجز عن القيام بها أو يجد عذراً في تقاعسه عن أدائها. والعمل الصالح في سبيل الجماعة هو عمل شريف مجيد مهما صغرت قيمته وقلّ شأنه. ك. د

القراءة والحياة

القراءة والحياة القراءة والحياة خلاصة مقال نشره (أدمون جالو) في صحيفة الطان الفرنسية يدعو فن النقد لتقسيم القراء لدرجات، وإذا ابتدأنا بالدرجة الأخيرة، نلقي قراء الأخبار المحلية الذين لا يودون إلا معرفة ما صار حولهم وما وقع في جوارهم، ويأتي في الدرجة التي فوقها القراء الذين يقرأون لأحياء عامل التأثر في نفوسهم، ويدخل عادة في هذه الطبقة النساء والشبان ويتبع هؤلاء الذين يقرأون ليستفيدوا ويتعلموا ثم الذين يقرأون ليتلذذوا بجمال الأسلوب وبراعة الإنشاء. وليس بين هؤلاء جميعاً من يصح أن يطلق عليه اسم قارئ، لأن القارئ الحقيقي في نظرنا هو من يقرأ ليعيش أكثر من مرة واحدة وإن هذه الرغبة التي هي ثورة على طبيعة الحياة ونظامها قد يكون ما يفسر برغبة الابتعاد عن الحقيقة والواقع والتخلص من السآمة التي تورثنا إياها الحياة التي نحياها في كل يوم. ولكن الحقيقة غير ذلك فمظاهر هذه الثورة النفسية هي مظاهر تستتر تحتها غاية سامية شريفة من شأنها أن تحدو بالذات لمعاناة المصاعب والانغماس في تجارب الحياة العديدة والتوصل لمعرفة أشياء كثيرة لا تساعد طبيعة الكون على الوصول إليها. فقراء شكسبير ومونتيين وبول فيفال مثلاً لهم صفة عامة تجمع بينهم وهي رغبتهم بأن يزيدوا في عدد الحياة الواحدة التي يحيونها لأن ما تمنحه الطبيعة لهم من المدارك في كل يوم مما يجري حولهم لا يطفئ ظمأ نفوسهم وهم يعرفون أن ما يستطيعه الإنسان محدود بسيط فيأسفون لذلك ويتألمون من جرائه. حينما رسم ميشيل آنج في سقف قاعة سيكستين أولئك الأنبياء المنصرفين إلى القراءة والذاهلين بها عن سواها، أولئك الأنبياء الذين لا يستطيع ميشله أن يتكلم عنهم إلا ويضطرب صوته بالبكاء فإنه لم يخطئ بتقديره أهمية العمل الذي صورهم منصرفين إليه ومأخوذين به عن أنفسهم. لقد كان يعلم ولاشك أن أسمى ما كان يرمي إليه ذلك العصر هو تخليص الإنسان من الطراز الوحيد الذي يعيش عليه وإفهامه أن هنالك عيشاً أخر يجب اكتشافه ومعرفته. وهذا أعظم ما رمت إليه مدرسة أثينا وفلسفة الإغريق القدماء ولقد جاء عصر التجدد الغابر من بعد ذلك يعارك ويجالد ليوسع في الإنسان مداركه وتجاريه فيفسح

مجالاً كبيراً في قلبه لعاطفة البشرية وفكرتها الواسعة المترامية الأطراف ولكنه لم يستطع أن يغير من طبيعته شيئاً كثيراً. على أن أقرب ما يساعد على الوصول إلى تلك الغاية التي عمل لها الأقدمون ومن جاء من بعدهم هي القراءة أيضاً والقراءة التي أقصدها هنا هي القراءة الحقيقية التي تزيد في تجارب العيش وتنميها بدلاً من أن تقوم مقامها. ك. د موت اللغات خلاصة مقال نشر في مجلة لموا الشهرية نشر المسيو فاندريس عضو المعهد العلمي الفرنسي والأستاذ في الصوريون مقالاً ممتعاً في مجلة الدروس والمحاضرات الفرنسية عن موت اللغات قال فيه ما ملخصه: إن اللغات تموت إذا لم يبق من يتكلم بها وهذا كثيراً ما يصيب اللغة التي تضمحل بعامل لغة أقوى منها تستولي عليها فتغمرها وتبتلعها كما وقع للغة البروسية القديمة واللغة البولابية اللتين خنقتهما اللغة الألمانية وقضت عليهما تماماً وهكذا شأن اللغة الغالية أيضاً تجاه اللغة الفرنسية التي أبادتها وهضمتها فإذا التقت لغتان تموت الضعيفة الفقيرة منهما شأن تنازع البقاء ولكن من أين ينشأ هذا الضعف والتأخر اللذان يجعلان هذه اللغة دون اللغة الأخرى ومن هو الذي يحدد ويعين مكانتها الاجتماعية بالنسبة للغة الثانية التي تناظرها؟ يقول الأستاذ فاندريس أن لذلك أسباباً وعوامل كثيرة من أهمها أن إحدى هاتين اللغتين تكون أغنى وأقدر من الثانية على إيضاح ما يجول في نفس المتكلم بها ولذلك تصبح الثانية في نظر المتكلمين دون الأولى التي تتقدم عليها بصرف النظر عن قيمة اللغة ومكانتها بحد ذاتها فاللغة اللاتينية واللغة اليونانية القديمة رغم مجدهما القديم ومكانتهما التاريخية والذاتية تلاشياً أمام اللغة الانكليزية والفرنسية وكذلك اللغة الغالية فهي لغة ذات مجد وآداب وأن تكن شفهية فهي غنية لكنها لم تستطع أن تقف طويلاً أمام اللغة اللاتينية التي غمرتها وأبادتها بسبب أنها لم تكن لتعادلها وتساويها في مجدها الأدبي واستطاعتها على إيضاح ما يجول في نفوس أبناء العصر ومجاراتها للفكرة العصرية ومكانتها العالمية التي نشأت عن ذلك فهي قد استغوت الكثيرين من الفاتحين الذين انصرفوا إليها لما رواه في معرفتها من حسنات مادية ومعنوية ولما أورثهم الإطلاع عليها من تيه وفخر فبقيت اللغة السلتية بعد

ذلك خاصة بالطبقة العامة الجاهلة من الناس وكادت أن تنحصر بهم وحدهم. واللغة العامية هي دائماً دون اللغة الأدبية التي يتكلمها كبار الناس وأصحاب المكانة العليا والمثقفون في الأمة ولذلك فاللغة العامية لا تلبث أن تضمحل وتترك المكان للغة الأدبية التي تصبح أقوى وأشد منها وذلك لأنها أي اللغة العامية، لغة لا ثقافة ولا تاريخ ولا آداب مكتوبة لها ثم أنها لم تؤلف وترتب بصورة يستطيع المتكلم بها أن يوضح عن جميع ما يخامر نفس الرجل المتعلم من أفكار وصور ومعان وهي منحصرة أيضاً بأشياء ومعان خاصة تقوم في نفس الرجل العامي الجاهل وجميعها تتعلق بالحياة المادية العلمية والتي تعود أكثر ما يكون للقرى والأرياف وهي تستطيع بهذه الميزات والصفات أن تبقى ثابتة وأن تعيش طويلاً ولكنها لا تستطيع أن تجاري لغة المثقفين المتعلمين من الطبقة العليا في الأمة تلك اللغة التي هي أوسع في التعبير عن الفكر وأغنى في إيضاح ما يجول في النفس من شتى المعاني والصور ومما تقدم يتضح أن هنالك عراكاً يكاد لا ينقطع بين اللغات والغلبة دائماً تتم للقوية على الضعيفة هي التي يتكلمها عدد قليل من الناس بالنسبة للأخرى وجلهم من رجال الطبقة العامة. وتموت اللغة حينما يشعر المتكلمون بها بعدم الحاجة إليها وعدم الميل والإرادة للتكلم بها لعجزها عن إيفاء جميع ما يريدون قوله وينتج من هذا أن اللغة لا تعيش بذاتها بل تعيش بإرادة أبنائها وحرصهم عليها بالعمل في سبيل إصلاحها المستمر وجعلها وافية بكل ما يتطلبه تفكير العصر الذي يعيشون فيه ويذكر الأستاذ فاندريس لذلك أمثلة كثيرة نأسف لضيق المجال هنا عن إيرادها جميعها ويستنتج من مجمل تلك الأمثلة والشواهد أن اللغة لغتان لغة تحكى ولغة تكتب ولا يمكن مهما تقدمت اللغة أن تكون هي هي كتابة وتكلماً وأن هنالك خطراً متى تباعدت اللغة المحكية عن اللغة المكتوية فيجب دائماً السعي لتوثيق الصلة بين اللغتين وتقريبهما من بعضهما ما أمكن وذلك بإدخال ما صلح من اللغة المحكية في اللغة المكتوبة وهذا لابد عنه في تطور اللغة الأدبية فمن يحاول أن يكتب بالفرنسية مثلاً في هذا العصر بلغة فولتير الكاتب الفرنسي فلا مندوحة له وهو يعالج موضوعاً لم يعالجه ذلك الكاتب من إدخال بعض مصطلحات عصرية رغماً عنه تمثل الزمن الذي يعيش فيه فاللغة هي شيء ذو حياة فإن جمدت ولم تسر مع ما يتطلبه التجدد ماتت والويل للأمة التي تحاول أن تبقى بلغتها حيث هي فالزمن يتقدم جارياً مع

حركة الحياة الدائمة ثم لا تلبث الصلة أن تنقطع بين حركة الحياة وبين هذه اللغة فيقضى عليها بالجمود والموت. وهذا التجدد والإصلاح في اللغة لا يفيدان وجوب إبدال اللغة المكتوبة وجعلها كاللغة المحكية ولا يفيان لزوم الكتابة باللغة العامية لأن في ذلك ما يدعو لموت اللغة أيضاً كما تقدم فالإصلاح المنشود هو إصلاح اللغة المكتوبة بتوسيع مفرداتها وتحديد معانيها والمحافظة على تراثها القديم وهذا لا يتأتي إلا عن طريق الثقافة العامة فالثقافة وحدها هي التي يمكنها أن تحافظ على التوازن بين احترام القديم والحرص عليه وبين حب الجديد والأخذ بالأسباب التي يتطلبها العصر الذي نعيش فيه. والكاتب المثقف هو الذي يمكنه أن يوفق بين الحاضر القريب والماضي البعيد فيحبهما ويحترمهما معاً. ك. د

الكتب والصحف

الكتب والصحف سلمان الفارسي لو لم يكن الأستاذ لويس ماسينيون من أساتذتنا الذين يمكننا. إن شئنا التفاخر أن نفاخر بهم، ومن العلماء الذين نعتز إذا عددنا أنفسنا بين أصدقائهم ومريديهم، لما اجمعنا على القول بأننا لا نعرف بين مستشرقي هذا العصر وعلماء العلوم الاجتماعية فيه من هو أغزر مادة وأدق بحثاً وأقدر على تتبع الموضوعات العلمية واستقصاء أصولها وجمع مصادرها ومساندها من الأستاذ ماسينيون ضيف عاصمة الأمويين في الشهر الغابر. ولعل نظرة بلقبها الباحث المنصف في أي كتاب من كتب هذا العلامة الكبير ليقابل ويقايس مع أحدث ما يخرجه علماء هذا العصر من مؤلفات تكفي لأن تجعله يرى هذا الرأي ويعتقد العقيدة نفسها. قد يختلف العلماء وتتضارب مذاهبهم وتتباين ولكن هنالك أصولاً واحدة في الاستقصاء والاستقراء والتتبع وجمع المساند يكاد الاتفاق يتم عليها وهي أساس كل الأبحاث والعلوم في هذا العصر وهي وحدها مقياس التفاضل إذا اختلفت الآراء والمذاهب على أن الوصول للبراعة في هذه الأساليب والتجويد في عملها ليس بالمطلب السهل فإنه يحتاج، عدا غزارة العلم، لعبقرية فائقة ومقدرة وجلد وثبات وغير ذلك من المزايا التي قل أن تجدها مجموعة إلا في هؤلاء العلماء الأفذاذ. ولعل أوضح مثال نقدمه على هذه الأصول لندل عليها، هذا الكتاب الصغير الجديد الذي وضعه في هذه السنة الأستاذ المستشرق لويس ماسينيون عن الصحابي الكريم سلمان الفارسي رضي الله عنه. وهو كراس يقع في اثنين وخمسين صفحة من القطع العادي وقد تجد فيه، رغم قلة صفحاته، من الأبحاث الممتعة والمساند والمصادر والوثائق القديمة والجديدة ما تضيق به المجلدات الضخمة وكلها مرتبة بطريقة واضحة تغري بالتتبع وتشوق على التعمق والرجوع إلى الأدلة والحجج في مظان وجودها وإن في ذلك كله من براعة الأسلوب وغزارة العلم ما يعرفه جميع من عرفوا مباحث مستشرقنا الكبير وألفوا طريقته في الاستقصاء والتعمق والتحقيق. بحث المؤلف في مقدمة الكتاب عن (المدائن) التي توفي فيها الصحابي الكريم سلمان الفارسي رضي الله عنه وعن الكوفة وعن الأصول التي يجب أتباعها في درس سلمان

الفارسي. وخصص الفصل الأول من الكتاب لدرس تاريخ حياة سلمان الفارسي بشكلها المعروف وتحليل نظرية هوروفيتز بنقد هذا التاريخ وتفنيده وفي الفصل الثاني عالج المؤلف حديث إسلام سلمان الفارسي كما رواه سلمان نفسه ثم الحديث الشريف (سلمان منا أهل البيت) ثم القول المشهور (عملتم وما عملتم) وأصل هذا القول ومنشأه. والفصل الثالث من الكتاب خصص لدرس وفاة سلمان الفارسي رضي الله عنه في (المدائن) وما ورد من الأدلة على صحة مجيئه للعراق كحليف لعبد قيس ثم الإسناد السلمانية في بعض النظم الدينية. ويحتوي الفصل الرابع على علاقة سلمان التاريخية بصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وشأنه بعد ذلك مع الإمام علي رضي الله عنه ثم خاتمة الكتاب وفيها ما يمكن تلخيصه وعرضه من مجمل الفصول المتقدمة وقد أتبع الأستاذ العلامة هذه الموضوعات بنصوص قديمة لم تنشر بعد عن المذاهب الشيعية المتطرفة المسماة سلمانية أو سينية وبفصل آخر في تعيين المصادر لهذا البحث سواء كانت في اللغات الشرقية أو في اللغات الأوربية وتبويبها وتقسيمها. هذا ما حواه الكتاب أجملنا عناوين أبحاثه في هذه العجالة على أن تعود الثقافة لمعالجة موضوعه الهام في عدد آت أعان الله مؤلفه على عمله وأمد بحياته. ك. د أخلاق المسلمين وعاداتهم لعل اعتقاد الغربيين أن حياة المسلم وما فيها من تقاليد وعادات ترجع في منشئها إلى الدين، وأن الثقافة العربية بمعناها القديم هي ثقافة دينية أي لابد للأديب وهو الآخذ من كل شيء بطرف أن يدرس القرآن ويطلع على عدة كتب هي دينية بمادتها وروحها كالحديث والفقه وغيرها، وأن امتزاج السلطتين الروحية والزمنية وما يتبعهما من الأنظمة في أصول الحكم تقوم على قواعد دينية فرضها الإسلام منذ ظهوره، وأن وقوع أغلب البلاد الإسلامية تحت النفوذ الأجنبي، كل هذه الأسباب جعلت الإسلام موضوعاً خطيراً في أعين المستشرقين تدور حوله جل أبحاثهم اليوم. التاريخ يعيد نفسه، فالحضارة الإسلامية سائرة بحكم القوانين التاريخية في طريق الانحطاط وستضمحل عما قريب بتأثير صدمات الشعب الغربي الجديد كما سقطت من قبل الحضارة

اليونانية أمام هجمات الرومان والحضارة الفارسية أمام صدمات العرب، وما هذه الحركات التجديدية المزعومة التي يتمخض بها العالم الإسلامي اليوم إلا شبيهة بحركات الجسم العنيفة التي يعقبها الموت عادة أو بقرقعة البناء قبل الانهيار تلك هي الفكرة التي خرجت بها بعد قراءة هذا الكتاب ومؤلفه يزاول التدريس في كلية الآداب بالجزائر وهو أحد الذين اتخذوا المغرب الأقصى موطناً لهم وعاشوا في محيط أسلامي ودرسوا نفسية المسلمين وطرق معيشتهم ولذا غدا كتابه جديراً بالدرس والمطالعة لما حواه من الآراء الجريئة والتكهنات الغربية. نأخذ على المؤلف تسرعه في تعميم نظرياته (التي تشتمل على معلومات أولية مقتبسة عن أوضاع الهيئة الاجتماعية في أفريقيا الشمالية) على بقية البلاد الإسلامية بدون أن ينظر إلى الشوط الذي قطعته الشعوب الإسلامية في مضمار التطور لاسيما في السنين الأخيرة، حتى أنه لم يتردد عن نفي كل حركة تجديدية كما تقدم معنا وإنكاره على العالم الأميركي ستودارد تسمية كتابه بالعالم الإسلامي الجديد أما أن لا حركة تجديدية في العالم الإسلامي فالمستقبل كفيل بإظهارها وأما أن يبحث المؤلف عن أسباب تأخر الشرق وعن عوامل الانحلال فهذا ما نود معرفته والإطلاع عليه. عرض المؤلف لكثير من الفوارق التي تميز الهيئة الاجتماعية الغربية عن الشرقية الإسلامية وحاول إظهار ما في الأولى من العوامل التي تدفعها في طريق التقدم وما في الثانية من عوامل التأخر والجمود التي تعرض هذه الحضارة للسقوط والاندثار ولعل أهم هذه العوامل هي نظرة القداسة في الإسلام إذ تختلف هذه النظرة عنها في المسيحية فالقداسة في بلاد الإسلام وراثية لها مميزات خاصة زد عليها تضامن الفطرة الارستقراطية مع القداسة وغدا كل من يتصل بنسب شريف يكتسب درجة تجعله في مكانة اجتماعية فوق ما تسمح له به مواهبه وكفاءته واستعداده الفطري ولا يخفى ما لهذه النظرة من التأثير السيء في سير أفكار المساواة وقتل الكفاءات بعد أن رأينا الديمقراطية في الغرب تفتح الأبواب للمواهب ولقيمة الفرد الشخصية. وعامل آخر لا يقل أهمية عن الأول هو تدخل تعاليم القرآن في كل مظاهر حياة المسلم حتى العادية منها وقد تعدت هذه التعاليم الدينية الشخص إلى الدولة ولذا يعجب الأوروبيون

هذه الحياة العلمانية عندنا ويطلقون على النظام الحكومي في بلاد الإسلام الحكم الإلهي لأن الدول الأوربية كما يقول أحد المستشرقين لم تتوصل إلى شكلها المدني الحاضر وفصل الدين عن الدولة إلى بعد جهاد عنيف وجهود كبيرة أما في الشرق فقد بقيت السلطتان الروحية والزمنية ممزوجتين معاً ويجب أن نفتش هنا عن أسباب المشادة الواقعة بين الأوربيين والأمم الإسلامية ومن جملة الفوارق التي نراها بين العقيدتين المسيحية والإسلامية هذه المسحة الدينية الغالبة على أنظمة الإسلام إذ لم تفسح الديانة المسيحية يوماً ما المجال للحكم الإلهي أن يتسلط على كل شؤون الدولة وإذا استعرضنا التاريخ رأينا تجاه طبقة الاكليروس طبقة أخرى علمانية لها قوانينها السياسية والإدارية التي تفرق تماماً عن الأنظمة الأكليرية فقد تشاهد القانون المدني إلى جانب الروماني وقانون التعرف والعادات ولم تكن القرون الوسطى إلا شبه معارك دموية بين سلطة الباباوات الدينية وسلطة الإمبراطورة المدنية المسيحية نفسها السلطة الزمنية حتى أن الإنجيل أوصانا أن نرد ما لقيصر لقيصر. . والحقيقة أن الأديان تتفق بروحها وتختلف بتقاليدها وطقوسها غير أن المسيحية لم تتمكن من فرض الحكم الإلهي إلا في بلاد معينة وطرق خاصة. ولعل انتقال المسيحية إلى الغرب وابتعادها عن محيطها الشرقي هما اللذان جعلاها تفرق عن الديانة الإسلامية من حيث نظام الحكم وأصوله حتى إذا صادقت محيطاً يختلف عن المحيط الشرقي وعقلية تختلف عن عقلية الشرقي تكيفت بتأثير هذا المحيط وإلا لو بقيت في الشرق لما كان مستبعداً أن يكون شكل الحكم عندها شبيها بمثله في الإسلام. ولا يتسرب إلى البال أن الدين الإسلامي هو الذي دشن الحكم الإلهي في الشرق إذ قد وجد هذا النوع من الحكم قبل أن يثب العرب من الصحراء وثبتهم المعروفة فقد نصب الاسكندر المقدوني بعد خلعه الملك داريوس نفسه ملكاً ونائب الإله عند اليهود وينتظر الشعب اليهودي رغم تشتته رجوع المسيح المنقذ وما هذا المسيح المنتظر إلا رئيس ديني يجمع السلطتين الدينية والسياسية معاً. ولما كان الفن صورة الحياة وهو الشيء الوحيد الثابت في هذا العالم رأينا أن المسحة الدينية غالبة على الفن الشرقي، فالفن الفرعوني القديم هو فن ديني والآداب العبرانية دينية بحتة والآداب الفارسية القديمة هي دينية بروحها ووحيها.

بعد أن درس المؤلف أصول الحكم في الإسلام وأثره في تطور الدول الإسلامية عرض للبحث عن الدولة وعلاقتها بالشعب ثم انتقل بعدئذ إلى الكلام عن صفات الشرقيين الخلقية وقال أن نقص التعاضد والتبلبل الجنسي هما من الأسباب القوية في تأخر الشرقيين وسد منيع في وجه كل الحركات التي من شأنها إيقاظ الروح الوطنية في الشرق إذ من السهل عليك أن تشاهد آثار التعاضد عند الأفراد في الغرب لأنهم تضمهم وحدة مدنية مرتكزة على فكرة استقلال الشخص وقيمته المطلقة زد عليها عاطفة غريزية نحو الاتحاد فطر عليها الغربيون منذ صغرهم، أما في الشرق فأنك ترى شعوباً وأجناساً مختلفة بينهم التركي والأرمني والفارسي واليوناني واليهودي والشركسي يعيشون سوية لا عاطفة قومية تجمعهم ولا وحدة جنسية تضمهم وقد يدلك على هذا الاختلاف كثرة ما نشاهده في الأسواق الشرقية من الأشكال والأزياء المختلفة ولا أجمل في نظر الأوروبيين من هذه الألوان التي تجعل للسوق الشرقية جمالها وطابعها الخاص. والخلاصة أن الشرق أمام قياس ذي حدين: أما أن يقتبس الحضارة الأوروبية بلا قيد ولا شرط وأما أن يدخل الأوروبيين هذه الحضارة بواسطة الاستعمار ويرجح المؤلف أن الشرقي حفظاً لكيانه قد فضل اقتباس هذه الحضارة عن طوع وإرادة ولا أدل على هذه الفكرة مما نشاهده من غزو الحضارة الغربية للشرق في ميادين العلم والثقافة والفكر والعادات والأخلاق. إبراهيم الكيلاني

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب تكريم العلامة ماسينيون أقامت مجلة الثقافة في اليوم الثالث عشر من الشهر الغابر حفلة شاي في قصر أمية تكريماً للعلامة المستشرق المسيو لويس ماسينيون بمناسبة مروره بدمشق. وقد حضر هذه الحفلة رئيس الجامعة ومستشار معارف المفوضية العليا ومستشار المعارف في الجمهورية السورية ورؤساء المعاهد العلمية العليا وأعضاء المجمع العلمي العربي والمستشرقون أعضاء المعهد الفرنسي ولفيف من أساتذة الجامعة السورية وطائفة من أصحاب الشهادات العليا والمثقفين والكتاب والأدباء في دمشق. وتكلم باسم المجلة أحد أصحابها الدكتور كاظم الداغستاني فرحب بالمحتفى به وذكر ماله من المكانة في أقطار الشرق العربي والعالم الإسلامي وما تحمله نفوس السوريين وعلى الأخص تلامذته وأصدقاؤه من حبه واحترامه واعترافهم بجميله. وقد أجاب على ذلك الأستاذ ماسينيون بخطاب ممتع ارتجله باللغة العربية أوضحنا موضوعه في المقال الذي افتتحنا به هذا العدد. وقد تحدث المدعوون بعد ذلك إلى المستشرق الكبير بمختلف الشؤون العلمية والاجتماعية واللغوية وانصرفوا سعداء بهذا اللقاء محتفظين منه بأجمل الذكرى. استعمال القطن في تعبيد الشوارع وتزفيتها لقد أوضح الأستاذ جورج كارير الفائدة المتأتية من استعمال القطن في تعبيد الشوارع العامة ورصفها وتزفيتها وذلك لتقويتها وجعلها أشد مقاومة وتحتاج المواد الزفتية المعدة لرصف الطرق والممرات إلى مقدار من القطن يعادل ثلاثة ونصف في المائة من مقدارها وعلى هذا الحساب فإن كل مسافة ميل أي ما يعادل كيلو متر ونصف من طريق متوسط العرض تحتاج لأربعين رزمة عادية من القطن. تجربة صعود جديدة تنتهي بحادث مؤلم صعد بتاريخ 30 كانون الثاني في الساعة التاسعة صباحاً المنطاد الروسي اوسو افاكيم للقيام بتجربة جديدة وتبعاً لإشعار الراديو البرقي الذي بعث به في الساعة الحادية عشرة ونصف فقد بلغ ارتفاع 26، 600 متراً عن سطح الأرض لكنه لم يلبث في الساعة 17 زوالية حتى تمزق غلافه وسمع منه صوت انفجاريين هائلين فهوى وأودى بحياة الطيارين

الثلاثة الذين كانوا فيه وهم واسانكو واوسيكين ويديرنكو من مشاهير رجال الطيران في روسيا. العصافير والزلازل أنبأ الأستاذ سكينير أنه لحظ قبل الزلزلة التي وقعت في بياك في اليوم العاشر من الشهر الغابر أن كثيراً من العصافير أبدت قلقاً واضطراباً شديداً وذلك قبل أن تعرف الناس وتدل الآلات الخاصة بقرب وقوع الهزة الأرضية وقد رأى أن هذه العصافير أثناء الزلزال لم تعد تنزل من الفضاء لتقف على أغصان الأشجار التي كانت عليها بل ظلت طائرة على شكل عامودي بارتفاع يقرب من أربعين متراً بعيداً عن تلك الأشجار التي تطير فوقها. أصغر عصفور اكتشف الدكتور الكساندر في المنطقة الجبلية من مقاطعة هايتين عصفوراً صغيراً يساوي حجمه حجم النحلة ولقد ذكر الدكتور في تقريره أن هذا العصفور هو كبقية العصافير الصغيرة شديد الدفاع عن نفسه محب للهجوم قوي الأجنحة والأعضاء حتى أنه لا يتأخر رغم صغره عن مهاجمة غيره من العصافير الكبيرة والتغلب عليها. سرعة الضوء قام العلماء في الشهر الماضي بتجارب جديدة في جبل ويلسون لمعرفة سرعة الضوء الحقيقية بالدقة والضبط بعد أن تبين لهم أن هنالك أخطاء في تحديد سرعة الضوء في السابق وذلك بسبب ما يطرأ على الآلات التي يقاس بها الضوء من الاختلاف والتعبير بالنسبة للموسم والفصول ولقد كانت النتيجة في هذه التجارب العديدة أن سرعة الضوء الصحيحة هي 299، 774 كيلو متراً في الثانية الواحدة. معرض كبير للتصوير في تركيا أقام بعض المصورين الذين يمثلون التصوير الفني الحديث في تركيا معرضاً كبيراً في (خلق أوى) الواقع في (بيره) باستانبول عرضوا فيه كثيراً من الصور الفنية. تأسس هذا النادي منذ ثلاثة أشهر تقريباً وهذا المعرض الذي أقامه في الشهر الماضي هو المعرض الثاني. وكان اهتمام سكان استانبول بكل من هذين المعرضين عظيماً جداً.

ومن مشاهير أعضائه الذين لم يتجاوزوا الثلاثين جمال سعيد ونور الله جمال والنحات زهدي. لم تشاهد تركيا قبل هذا المعرض معرضاً حديثاً من هذا النوع تعرض فيه آثار فنية متطرفة كالصور العارية والصور التي هي من نوع السور ياليست التي يبتعد بها المصور عن الواقع. وصور أخرى غير هذه مما استحسنه الزائرون. كل ذلك يدل على النزعات الحديثة السائدة الآن في تركيا سواء كان في الأدب والفن أو التربية والاجتماع. وقد رحبت الصحافة بهذا الإبداع الفني الحديث وخصصت جريدة تركيا ملحقاً أسبوعياً لمعرض المصورين المجددين لم تكن تركيا القديمة تهتم بالتصوير كما تهتم اليوم ولم يكن المصورون يقدمون قبل النظام الجديد على عرض صور من هذا النوع وأكثر هؤلاء المصورين درسوا في فرنسا وتأثروا بالأساتذة المشهورين أمثال (ماتيس) و (فرنان ليجه) و (دوفن) وغيرهم. وقد انتشر اسم المصورين الأتراك المجددين وذاع صيتهم حتى بلغ روسيا ثم أن اثنين من أعضاء نادي (خلق أوى) وثلاثة غيرهم يعرضون الآن قسماً من آثارهم في لينينغراد وفي موسكو وقد لحق بهم أيضاً المصور الهزلي جمال نادر وسيشترك قسم منهم أيضاً في المعرض الذي سيفتح في آثينا. عبد الحق حامد احتفلت تركيا في الشهر الماضي في القسطنطينية ببلوغ شاعرها الأكبر عبد الحق حامد السنة الثانية والثمانين من حياته. إن الشبيبة المثقفة عامة وطلاب الجامعة خاصة يعدون عبد الحق حامد أستاذهم الأكبر لأنه أجمل صورة لا بل أعظم شخصية تمثل الأدب التركي الحديث فلا عجب إذا تجمعوا حوله واحتفوا به هذا الاحتفاء العظيم. لاشك أن عبد الحق حامد هو فخر تركيا الحديثة. وهو صاحب كتاب مقبر وكتاب طارق وكتاب زينب وكتاب فينتين يعيش حياة ارستقراطية إلا أن حياته أشبه بقصيدة شعرية منها بحقيقة واقعية، إذا قرأته أثر في خيالك وفي قلبك وملك عليك مشاعرك حتى لقد أصبحت حياته شبيهة بأسطورة ووجوده خيالاً يعجب الناس من اجتماعهم به في هذا العالم فلا يصدقون إذا رأوه كيف هبط هذا البطل من عالم الخيال وكيف هجر الملأ الأعلى وعاد إلى الأرض. وقد نشرت زوجته (لوسيانة) في الصحف مقالات مؤثرة لمناسبة يوبيله وهي سويسرية

اقترنت بالشاعر الكبير يوم كان سفيراً لتركيا في بروكسل وجاءت معه إلى تركيا بعد ذلك العهد. وقد أثرت رواية حياتهما في الكاتب الفرنسي هنري بوردو ونشرت منذ سنين بعنوان (رسائلي إلى عبد الحق حامد) وهي تحتوي على حديث هذه الزوجة الشابة التي جعلت نفسها رفيقة لهذا الشاعر الشيخ. ذكرى أحمد هاشم الشاعر أحمد هاشم من الشعراء الذين يذكرهم الأتراك دائماً ويحترمونهم وقد توفي في السنة الماضية فأقام أصدقاؤه منذ شهر تقريباً في بيت الشاعر الراحل حفلة تأبين لمرور سنة على وفاته وقرئت في هذه الحفلة كثير من الأشعار الرنانة التي نشرت في الصحف التركية، وكلها تدل على ما في نفوس أصدقائه الأدباء والشعراء من الإجلال لشخصه والتقديس لذكراه.

ظاهرة سورية

ظاهرة سورية بقلم الدكتور كاظم الداغستاني لقد أوشك علماء الاجتماع جميعاً أن يتفقوا وكثير من الفلاسفة والشعراء من قبلهم على أن الماضي لا يموت، فهو لا يبرح ظاهراً بارزاً بآثاره تحمله الأفراد والجماعات فوق أكتافها وكثيراً ما تضيق به ذرعاً وتنوء تحت أثقاله فلا تجد سبيلاً للخلاص منه. وكما أن للفرد ماضيه الذي لا يكاد ينفصل عنه فللجماعة أيضاً ماضيها الذي تنطبع بطابعه وتجري على غراره وتخضع لحكمه شأت أو أبت. فحاضر الجماعة لا يفسره إلا ماضيها وماضيها هو الأرومة التي تتفرع عنها جميع ما يتألف منه كيانها الاجتماعي من عادات وأخلاق وعقائد وأوهام وحقوق ووجائب. وشأن هذا الماضي مهما كان بعيداً هو الذي حدا بالباحثين عن سر تطور الجماعات والشعوب وتحليل أوضاعها الاجتماعية الحاضرة إلى الرجوع لدرس تاريخ الأمم البعيدة وتفهم ما يمثله ويعيد ذكراه من أحوال تلك القبائل التي تعيش على الفطرة الأولى في مجاهل الصحارى وأقاصي العمران. ودرس الجماعة السورية الحاضرة لا يشذ عن هذه القاعدة ولا يختلف في طريقة التحليل والاستقراء عن تلك الأصول. فالسوريون لهم ماضيهم الذي لا يموت، والسوريون لهم حاضرهم الذي لا يبرح منطبعاً بطابع ذلك الماضي البعيد وفي ثنايا هذا الحاضر كثير من الظواهر الروحية والصفات النفسية التي لا يفسرها إلا ما انتقل إلى نفوسهم وامتزج بأرواحهم من عوامل الغابر. فلقد كانت سورية منذ عرفها التاريخ وتحدث عنها المؤرخون صلة بين جهتين من جهات العالم الأربع، ومرحلة لابد من أن يجتازها ابن الغرب في طريقه إلى الشرق في طريقه إلى الغرب. ولقد حدت عوامل البيئة والإقليم والوضع الجغرافي بأبناء هذا القطر الضيق المتطاول أن ينشطوا إلى العمل ودعتهم غرائزهم إلى أن يستثمروا من موطنهم ما منحه إياه موقعه من هبات بعد أن رأوا البحر من أمامهم ورمال الصحراء من ورائهم فاندفعوا إلى البحر يركبون أمواجه ويصارعون أنواءه، فينقلون من الشرق ما يبيعونه إلى الغرب ويتاجرون في الشرق بما ابتاعوه من الغرب وينتقلون بين الشرق والغرب فيجعلون بلادهم المتوسطة محطة يستريحون ويريحون ركبهم بها ويحسبون خلال راحتهم مرابحهم ومكاسبهم التي جمعوها، ثم لا يلبثون إلا القليل حتى يعودوا إلى أسفارهم وإلى مرابحهم

ومكاسبهم منها، واستمروا على ذلك إلى أن أصبحوا تجار العالم ليس من يجاريهم في جلب الأرباح ومعرفة أساليبها وحساب فوائدها والعمل على أنماء ودرء ما قد يحول دون ذلك. وتأصلت هذه الظاهرة الروحية في أنفسهم ومرت الأجيال وتعاقبت الأنسال وهي لا تزداد إلا رسوخاً حتى أصبحت التجارة وحساباتها غريزة من غرائزهم تكاد تغمر ما عداها من صفات نفسية، فأحبوا المال أكثر مما يحبه الناس جميعاً وتهافتوا على جمعه وادخاره حتى جعلوه غايتهم الأولى وهدفهم الأسمى. وكان من شأن تلك الصلة بين الشرق والغرب التي اختص بها موطنهم إن غزت بلادهم مختلف الأقوام وحلت بين ظهرانيهم أنواع الشعوب، ولكنها جميعها لم تلبث بعد أن مضى عليها حين من الدهر معهم أن تطبعت بطبائعهم ونسجت على منوالهم، فقلدت أساليبهم واقتدت بهم في مراميهم التجارية وأصولهم في العد والحساب وتشبهت بهم في كل شأن من شؤونهم حتى أصبحت وإياهم على سواء في حب المال والتهافت على جمعه وادخاره وظهرت الأديان في سورية متعاقبة فلون كل منها هذه الظاهرة السورية بلون خاص ولكنها لم تستطع جميعها أن تأتي عليها أو تمحوها. وكان من شأن هذه الظواهر القديمة الراسخة أن حرفت هي نفسها كثيراً من وجوه الأديان وأحكامها وشوهتها واستخدمتها في أغراضها وجعلتها ترمي لغير الهدف الذي دعا إليه أصحابها. واختلاف بعض مظاهر الدين الواحد بالنسبة لأمزجة الشعوب التي فرض عليها أو ظهر بينها واصطباغ الكثير من أحكامه بصبغة الوسط والبيئة والجماعة حادث اجتماعي مقرر معروف لم يعد من حاجة للجدل فيه. وبالرغم عن الأديان وتعاقبها في سورية ودعوتها للانصراف عن متاع الدنيا وحطام المادة، فقد ظلت هذه الظاهرة التي بنيت على النفع المادي وما ينشأ عنه من حب الكسب واتخاذ الربح غاية في الحياة، تعمل عملها في تكوين تلك العقلية التجارية ذات الحساب الدقيق في كل وجه من وجوه العيش حتى أبعدت السوري عما يسمونه المثل الأعلى الذي أصبح في هذا العصر مبعث النشاط الفكري وأقصت من روحه حب العمل للعمل نفسه الذي هو مصدر العبقرية الخالدة والعامل الأول في إنمائها. وليس من الصعب على المولع بدرس طبائع الأفراد والجماعات وتفهم سر تطور العقلية فيها واستقصاء عواملها الاجتماعية والروحية أن يلمس هذه الظاهرة البارزة في الجماعة السورية ويتعرف أسبابها البعيدة، على أننا مع ذلك لا ننكر أن التعرض لمثل

هذا البحث الخطر تعرضاً علمياً لا شيء من الشعر والخيال فيه يدعو لكثير من التحليل والدرس ويتطلب تعليلاً قائماً على الاستقراء مستنداً على وصف الواقع في مختلف الأوساط والجماعات السورية وتفهم أوضاعها الروحية والاجتماعية مما لا نستطيع أن نوجزه جميعه في هذه العجالة، على أن ذلك يجب أن لا يمنعنا من أن نشير في مقالنا هذا إلى بعض تلك الوجوه الظاهرة السورية القديمة التي أوشكت أن تتصل بكل منحى من مناحي حياتنا الاجتماعية وتطفو عليها. ويخيل إلينا أن أهم ما يدل عليها هو البحث عما ينافي وجودها في مختلف الأوساط والجماعات السورية وليس من شيءٍ ينفي وجودها مثل ظاهرة التهافت على العمل حباً بالعمل نفسه أو العمل في سبيل الجماعة مجرداً عن الغاية الفردية والنفع الذاتي. وإذا شرعنا بدرس الأوساط والجماعات التي نعيش فيها، فاخترنا منها بادئ ذي بدء أوساطنا العلمية والفكرية، وعرضنا حياة أصحابها الخاصة والعامة على التحليل والدرس، تحليلاً صادقاً بعيداً عن العاطفة والهوى ومجرداً عن النزعة القومية والدينية، لعز علينا أن نجد فيهم ما ينفي هذه الظاهرة المتأصلة في النفوس أو ما يدل على ضدها من حب العمل للعمل نفسه والانصراف إليه حرصاً على تقدمه وإصلاحه أو الإقدام عليه في سبيل الجماعة أو في سبيل الخير العام. وإذا عن لك أن تردد بخاطرك ذكرى جميع من عرفتهم من مواطنيك من رجال العلم والفكر في هذا الزمن الذي تعيشه من علماء وشعراء وفنانين وأساتذة وأطباء ومحامين ومهندسين وغيرهم من أرباب الحرف الحرة المنتشرين في طول هذا الوطن وعرضه لتبين لك بوضوح وجلاء أن القوم، ونحن في مقدمتهم، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، تجار قدماء أرغموا أنفسهم على أعمالهم أرغاماً سعياً وراء الربح لا حباً بهذه الأعمال ولا ولعاً بذاتها، فغايتهم الأولى المال، وهدفهم الأسمى النفع المادي، لا يخطون خطوة إلا ويحسبون ما يحنون من ورائها من كسب، ولا يفكرون بمشروع إلا وأنفسهم في المقدمة وربحهم قبل كل حساب، سواء كان ذلك مما يعود على العمل نفسه بالنفع أو بالضرر وسواء لديهم خسر العمل أو ربح، فالعلم والأدب والصنعة والمسلك والحرية وحتى الفن والشعر والجمال في نظرهم، واسطة من وسائط الغنى وجمع المال لا أكثر ولا أقل. لقد بلغت هذه العاطفة من نفوسهم مبلغاً أماتت فيها كل عبقرية خالدة تنشأ من حب العمل والولع به والانصراف إليه بسائق الهوى والشغف، فليس بينهم من

وفق حتى الآن للإبداع والإيجاد وليس بينهم من استطاع الاختراع والاكتشاف بما في هذه الأسماء من معنى، وليس بينهم من قدر أن يثبت للناس أن تلك الظاهرة التجارية القديمة قد تلاشت في نفوسهم، فهم ما برحوا، بمظهرهم الروحي وعاطفتهم النفسية، أولئك الفينيقيين أبناء سورية القدماء الذين ضربوا في عرض البحر واقتحموا أمواجه ولا غاية لهم من وراء ذلك إلا ربح المال وجمعه وادخاره. وللباحث أن يستمر في تحليل تلك العاطفة ويتتبع آثارها وعواملها في الأوساط والجماعات السورية الأخرى. فالجماعات التي تعمل باسم الأديان وتنتسب إليها، والجماعات التي تتصف بصفة السياسية وتعلن انصرافها إليها، والجماعات التي تمارس الأعمال الاقتصادية والعمرانية وتتخذها حرفة لها. والجماعات التي يتألف منها موظفو الدولة والإدارات العامة ومأموروها ومستخدموها، والجماعات التجارية والمالية نفسها، هي كلها مما يمكن للمحقق الاجتماعي أن يعرضه على التحليل والدرس بطريقة الوصف والمقايسة والاستقراء والاستنتاج بعد تفهم روحية الأفراد وتعليل العوامل النفسية التي تدفعهم إلى أعمالهم والصلات التي تربطهم بها، وبذلك ينتهي به البحث والتحليل إلى أن يضع موضع الجلاء والوضوح كثيراً من الشواعر النفسية والظواهر الروحية وويلقي عليها من نور البراهين والحجج المستمدة من وصف الواقع ما يؤيدها أو ينفيها تبعاً لما هي كائنة في ذاتها. وقد يذهب الظن بالقارئ لأول وهلة إلى أن هذه الظاهرة التجارية المادية التي يبرز من الوجهة العامة جلية واضحة عند تحليل نفسية الفرد السوري في هذا العصر هي مما يدعو لغنى الأمة السورية وزيادة ثروتها وتبسطها في مجال المدينة وأسبابها التي لا تقوم دعائمها غلا على المال مع أن الأمر على عكس ما قد يذهب الظن إليه. فتهافت الفرد على جمع المال وكسبه، وتفانيه في سبيل ادخاره واستثمار ليس هو مما يؤدي حتماً إلى غنى الأمة وازدياد ثروتها وقوتها. نحن لا ننكر، ولا من يستطيع أن ينكر، أن الجماعة تتألف من أفراد وأن الأمة قائمة بأبنائها، لكننا نعتقد ونجزم بما يعتقده علماء الاجتماع في هذا العصر أن للجماعة كياناً قائماً بذاته يفرق عن كيان الأفراد. فالفرد الذي يعمل لنفسه ولنفسه فقط لا يفيد الجماعة بشيء لان هذه الجماعة بكيانها المستقل تحتاج لأفراد مخلصين يعملون لها لا لأنفسهم ويسعون لفائدتهم، فقد يربح الفرد ويكسب فيكون في ربحه وكسبه خسارة للجماعة

وقد يستفيد الفرد بما يضر الجماعة وقد يوسر الفرد ويغنى مستمداً ثروته وغناه من فقر الجماعة التي ينتسب إليها، وكثيراً ما يجازى على حبه لذاته وأنانيته وعمله لنفسه دون جماعته، جزاء غير المخلصين من الناس، فيذهب ما ربحه هباء منثوراً ويتسرب لغيره ما كسبه وادخره هو لنفسه، وما سبب ذلك إلا أنه ابن جماعة فقيرة ضعيفة ليس في استطاعتها أن تحافظ على حقه أو تدافع عن ماله وكيانه. هذا ولا يذهبن الظن بمن اعتادوا تأويل هذه الأبحاث تبعاً لما توحيه إليهم أغراضهم ومراميهم في الحياة إلى أننا نود أن نقول أن هذه الظاهرة التجارية التي ألححنا في وصفها وبيان عللها ونتائجها هي مما لا يتفق عم غيرها من ظواهر روحية مجيدة اشتهرت عن السوري وامتزجت بأخلاقه، فذكر الشيء لا ينفي ما عداه وتبسطنا في ذكر هذه الظاهرة لا ينفي أن في الروح السورية أيضاً من مختلف الظواهر والعواطف النفسية والميزات الأخلاقية التي مابرح السوري محتفظاً بها أيضاً من ماضيه البعيد والقريب ما يدعو للتفاخر والاعتزاز بها، فنحن إذا تعرضنا لوصف هذه الظاهرة التجارية المادية وحصرنا البحث بها دون سواها فما ذلك إلا لأننا رأينا أن الحاجة الماسة لإصلاحها تدعو للفت نظر الباحثين إليها ولوجوب تحليلها وتفهمها. فالعقلية في الأمم لا تلبث على حال واحد، فهي تابعة، ككل شيء، لنظام التطور والتغير وأساليب الإصلاح الاجتماعي القائمة على العلم الصحيح تستطيع أن تتناول كل ناحية من نواحي هذه العقلية حتى أقدم ما رسخ وتأصل فيها. وأننا إذا عنّ لنا في يوم من الأيام أن نتطاول ونزعم أننا ممن يستطيعون رسم خطة إصلاح لهذه الظاهرة الروحية في الجماعة السورية وحصر حدودها ونطاقها لما تواجدنا أمامنا ما نعالج إصلاحه من الأوضاع الاجتماعية قبل كل شيء غير العائلة السورية ونظامها القديم البالي الذي تربينا عليه ونشأنا في ظله، فالعائلة هي الحلقة التي تصل بين الماضي والحاضر، والعائلة هي الوسيط الأول بنقل آثار الماضي إلى أوضاع الحاضر، والعائلة هي الجماعة الأولى التي تقوم عليها دعائم الأمة بأسرها في الماضي والحاضر معاً. وهذا ما نرجو أن نوفق لمعالجته في مقال آخر. كاظم الداغستاني

طبيعة الوجود

طبيعة الوجود حديث بين رابندرانات تاغور وآينشتاين في بيت آينشتاين بكابوت يوم 14 تموز 1930 بعد الظهر آينشتاين - هل تؤمن بأن هناك شيئاً إلهياً مفارقاً للعالم. تاغور - لا، أنه غير مفارق. أن شخصية الإنسان اللانهائية تشمل العالم. لا يوجد شيء لا تستطيع شخصية الإنسان أن تكون فوقه هذا يدل على أن حقيقة الكون هي الحقيقة الإنسانية، انتخبت حادثاً علماً لتصوير ذلك. أن المادة مؤلفة من بروتونات والكترونات بينها فراغ ومع ذلك فالمادة يمكن أن تظهر صلبة. كذلك البشرية فهي مركبة من أفراد، ومع ذلك فإن بين الأفراد صلات وعلاقات بشرية تهب عالم الإنسان صلابة حية والكون متصل بنا أيضاً على هذه الصورة، فهو كون بشري. لقد تتبعت هذا الفكر في الفن والأدب وشعور الإنسان الديني. آينشتاين. - يوجد نظرات مختلفات في طبيعة الكون: 1 - العالم من حيث هو وحدة تابعة للبشرية، 2 - العالم من حيث هو وجود مستقل عن العوامل البشرية. تاغور. - إذا اتسق الكون مع الإنسان الأبدي عرفنا حقيقته وشعرنا بحماله. آينشتاين. - إن هذا النظر إلى الكون إنساني محض. تاغور - لا يوجد مفهوم غير هذا أن هذا العالم هو إنساني، ومفهومه العلمي هو مفهوم الإنسان الكلي. هناك درجة من العقل والتلذذ تجعل العالم حقيقياً، وهي مقياس الإنسان الأبدي الذي تصدر تجاربه عن تجاربنا. آينشتاين - إن هذا الأمر هو تحقيق للذات الإنسانية. تاغور - نعم، الذات الأبدية، يجب علينا أن نحققها بانفعالاتنا وأفعالنا نحقق الإنسان السامي الذي ليس له حدود شخصية تشبه جدودنا. العلم يهتم بما هو غير مقصور على الأفراد، فهو عالم بشري لا شخصي. يوجد الحقائق ويجمع بينها وبين أعمق حاجاتنا. أن لشعورنا الفردي بالحقيقة معنى كلياً. أن الدين يطبق على الحقيقة قيماً. والحقيقة تبدو لنا وجودية لا تساقنا وتآلفنا معها.

آينشتاين. - وعلى ذلك تكون الحقيقة (أي الجمال)، غير مستقلة عن الإنسان؟. تاغور - نعم غير مستقلة. آينشتاين - إذن لولا وجود أفراد البشر لما كان ابولون بيلفيدر جميلاً. تاغور - نعم. آينشتاين - أني أوافقك على رأيك في الجمال ولا أوافقك على رأيك في الحقيقة. تاغور - لماذا لا توافقني أن الحقيقة موجودة في الإنسان. آينشتاين - لست استطيع أن أثبت صحة رأيي، ولكن ذلك هو ديني وإيماني. تاغور - الجمال في المثل الأعلى الكامل المتحقق في الموجود الكلي. والحقيقة هي الفهم الكامل للروح الكلية. ونحن الأفراد نتقرب منها بواسطة أخطائنا وضلالا لتنا وتجاربنا المجتمعة وشعورنا المستنير - كيف نستطيع أن نطلع على الحقيقة بدون ذلك؟ آينشتاين. أنني لا استطيع أن أثبت علمياً أن الحقيقة يجب أن تدرك مستقلة عن البشرية. ولكنني أؤمن بذلك إيماناً قوياً. اعتقد مثلاً أن نظرية فيثاغوروس في الهندسة تثبت شيئاً قريباً من الحقيقة مستقلاً عن وجود الإنسان. وسواء أصح ذلك أم لم يصح فإن هناك وجوداً مستقلاً عن الإنسان وحقيقة تابعة لهذا الوجود، إن إنكار الوجود يقتضى بالضرورة إنكار هذه الحقيقة. تاغور. - إذا كانت الحقيقة لا تختلف عن الموجود الكلي وجب أن تكون إنسانية بالذات. ولولا ذلك لما كان الحقيقي صحيحاً، وخصوصاً الحقيقة العلمية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بالمنطق أي بآلة التفكير الإنسانية. جاء في الفلسفة الهندية أن يراهما هو الحقيقة المطلقة، وإنه لا يدرك بالفكر الفردي، وإنه لا يوصف بالألفاظ بل يمكن تحقيقه بانصهار الفرد تماماً في اللانهائية. غبر أن هذه الحقيقة ليست من نطاق العلم. إن طبيعة الحقيقة التي نتناقش فيها هي ظاهرة من الظواهر أي أن ما يبدو حقيقة للفكر البشري - وهو بالنتيجة إنساني - يمكن أن يدعى (مايا) أي الضلال. آينشتاين. - وهكذا حسب رأيك (الذي قد يكون مذهب الهنود) أن هذا الضلال ليس ضلالاً فردياً بل هو ضلال البشرية جمعاء.

تاغور. - أننا في العلم نتبع طريقة تؤدي إلى حذف حدود أفكارنا الفردية ونصل هكذا إلى مفهوم الحقيقة المرتكزة على فكر الإنسان الكلي. آينشتاين. - إذن فالمسألة هي: هل الحقيقة مستقلة عن شعورنا؟. تاغور. - إن ما نسميه كائن في الاتساق العقلي بين الوجهات الشخصية والوجهات الموضوعية للوجود، وهذه الوجهات كلها للإنسان اللاشخصي أي الذي هو فوق الأشخاص. آينشتاين. - ولكننا نشعر، حتى في حياتنا اليومية، إننا مضطرون إلى الاعتراف بأن للأشياء التي نستعملها كل يوم وجوداً مستقلاً عن الإنسان. أننا نفعل ذلك لإيجاد نسبة معقولة بين مسلمات الحواس المختلفة. مثال ذلك إذا أحد لم يكن في البيت فإن هذه المنضدة تبقى حيث هي. تاغور. - نعم، إنها خارج العقل الفردي، ولكن ليس خارج العقل الكلي. إن هذه المنضدة التي أراها تدرك بشعور شبيه بشعوري. آينشتاين. - إن وجهة نظرنا الطبيعية في وجود الحقيقة مستقلة عن الإنسانية لا يمكن أن توضح ولا أن تثبت، ولكنها اعتقاد لا يفارق أحداً حتى الإنسان الابتدائي، فنحن نقول بموضوعية الحقيقة ونعتقد أن هذه الموضوعية هي فوق الإنسان وإن الحقيقة ضرورية لنا وأننا، وإن كنا لا نعرف معنى هذا الوجود وحقيقته، نثبت للحقيقة وجوداً مستقلاً عن وجودنا وتجاربنا وعقولنا. تاغور. - لقد أثبت العلم أن المنضدة من حيث هي شيء صلب ليست إلا ظاهرة من الظواهر، ينتج من ذلك أن الشيء الذي اعتبره العقل البشري منضدة لا وجود له إلا إذا كان العقل موجوداً. وفي الوقت نفسه يجب أن نعلم أن خالص وجود المنضدة من الوجهة المادية ليس إلا جملة من مراكز القوى الكهربائية المنفصلة والدائرة بعضها حول بعض وإن حقيقتها تابعة أيضاً للعقل البشري. إن في معرفة الحقيقة نزاعاً أبدياً بين الفكر البشري الكلي والفكر البشري الضروري. وهناك وئام دائم يحصل بين علمنا وفلسفتنا وأخلاقناً. وعلى كل حال فإنه إذا وجد حقيقة مطلقة لا علاقة لها لا إنسانية فهي بالنسبة إلينا غير موجودة. ليس من الصعب أن نتخيل فكراً لا يطلع على الأشياء ضمن نطاق المكان بل داخل الزمان

كترتيب الأصوات في الموسيقى. إن مفهوم الوجود بالنسبة إلى هذا الفكر متصل بالوجود الموسيقي الذي لا معنى للهندسة الفيثاغورية فيه. إن حقيقة وجود الورق مختلفة تماماً عن حقيقة وجود الأدب. فالأدب غير موجود بالنسبة إلى الحشرات التي تأكل الورق، ولكن بالنسبة إلى عقل الإنسان للأدب قيمة أعظم من حقيقة الورق. وبالصورة نفسها إذا كان هناك حقيقة ليس لها بفكر الإنسان علاقة حسية أو عقلية فلا قيمة لها بالنسبة إلينا ما دمنا بشراً. آينشتاين. - إذن، أنا أكثر إيماناً منك تاغور. - إن ديانتي هي في الاتفاق بين الإنسان اللاشخصي (أي الفكر البشري الكلي) وبين الوجود الفردي. وهذا هو موضوع محاضراتي في هيبر التي سميتها ديانة الإنسان. نقلاً عن ديانة الإنسان لتاغور

الحدس والخيال

الحدس والخيال قد أخطئ فيحاول عقلي أن يثبت ما توهمه حسي فلا أصل إلى نتيجة، بل أشعر بفساد الحدس الأول وأعجب من محاولتي البرهان على شيء باطل، ذلك لأن الحدس الأول قد تولد من علاقات حسية، واتفاقات محدودة، فعممت نفسي ما شاهدته، وظننت أن ما ينطبق على هذه الأمور المحدودة ينطبق أيضاً على غيرها. . . فما أكثر الخطأ الذي يتولد من التعميم. لو كان الإنسان قليل الخيال، مقيد الإرادة لخف الخطأ. ولكن الخيال زهرة، وهو نفسه يقود الإنسان إلى الهاوية. ولو كنت مؤيد النفس بشدة الصفاء لما أخطأ حدسي، غير أن حجاب الحس الكتيف يمنعني من النفوذ إلى أعماق الأشياء. إذا أشرق الحدس وانبلج النور، صمت العقل، ونطق الخيال. حدسي وخيالي هما سبب حزني لا بل علة سروري، ولعلهما كانا أيضاً علة وجودي. . . فيا ليتني كنت ضعيف الحدس، ميت القلب قليل الخطأ، ضيق الخيال. جميل صليبا

زواج يقود إلى السعادة وزواج يقود إلى السجن

مذهب في قصة زواج يقود إلى السعادة وزواج يقود إلى السجن بقلم الدكتور منير العجلاني عاش الدكتور جميل في باريس، كما عاش (راما) في الغابة المقدسة، لم يعلق فؤاده بحب، ولا شغف بلعب، ولا أخذ بشيء مما يؤخذ به الشبان. وقد عاد إلى البلاد، طاهراً كالنار، ثابتاً كالجبل. . كان في حياته المدرسية، في دمشق، أحب فتاة مسيحية تدعى إيفون وهي على حظ كبير من الجمال والتهذيب، ولها صوت حنون يزيدها رواء، ويعطي كل شيء حولها قلباً يفيض بالحب ويتذكر. . . لم يكتب إليها منذ سنوات، ولكنه كان مطمئناً إلى أخلاصها، عارفاً أنها تنتظره، وقد رآها أمس في حلمه، بل قد عاش حيلته كلها في حلم الليلة الفائتة. رأى نفسه في مدرسة السيدة ماري أم إيفون، طفلاً بكاءً لجوجاً، تمازحه ايفون وتطايبه وتبدل دمعته ضحكة عالية! ثم رأى إيفون في أغنى حلة لبستها طفلة، تغني وتعزف على البيانو، بين يدي مفتش للمعارف يطرب لها أي طرب، ويبشرها بمستقبل عظيم، ويقول لوالدتها: إن فتاة لها جمال بنتها وفنها، يجب أن تكون زوجة باشا! أزعجت جميل هذه النصيحة البغيضة، فهجم على المفتش يلكمه ويشتمه، ولكن المفتش قابل غضبه ببرودة هائلة، لأن السيدة ماري أفهمته السر: فقد وعدت (جميل) بأن تكون إيفون زوجة له، تسكن معه في بيت واحد وتغني له صباحاً ومساء لا تطلب منه لقاء ذلك إلا أن يحفظ دروسه ويصلح سيرته، فكيف يريد مفتش المعارف أن يزوجها، متى كبرت، من باشا، لم يحفظ دروسه ولا تأدب ولا مزية له سوى أن له شاربين طويلين، وصوتاً ضخماً؟ استعرض جميل صور حبه واحدة واحدة، وانتهى به المطاف إلى يومه الحاضر وقد بلغ به هو وايفون سن الصبا العنيف، فأخذ صورة ايفون وأنشد بصوت سحبه من أعماق نفسه: يا قبلتي في صلاتي ... إذا وقفت أصلي!

فعاشت الصورة في يده، أجل خرجت ايفون بلحمها وعظمها من الصورة وقالت له بصوت مارت له كل ذرة في جسمه: أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي ... يضركم، لو كان عندكم الكل! ثم عادت ايفون إلى الإطار، وإنه ليرقب هذه الأعجوبة، إذ دق الباب، ودخلت الخادم تدعوه إلى الفطور، فغادر أحلامه اللذيذة. . . - 2 - في غرفة الطعام، التي تمثل ناحية من ارستقراطية العائلة ومحافظتها، جلس الأب محمد باشا في جهة من المائدة، وإلى يساره الأم وفي الجهة المقابلة جميل وأخته زليخا. ساد سكون رهيب، ثم قال الأب: - جميل! أريد أن أقول لك في صراحة لا التواء فيها أمراً يهم العائلة، أمر زواجك! وساد السكون مرة ثانية ثم قالت الأم: - أعرف فتاة من أحسن البنات أخلاقاً، هي بنت أحمد باشا، الشريف العريق والمثري الكبير، لها اسم حلو هو اسمك (جميلة) وافق أبول على أن نخطبها لك أحس جميل الذي أحب إيفون ولم يفكر في غيرها، أن صاعقة تنقض عليه فتحطمه تحطيماً، ولكنه جمع المتناثر من قواه، وقال بصوت متقطع: - أيسمح لي سيدي الوالد بكلمة؟ أجابه الأب: قل ما تشاء وأنس أنك في حضرة أبيك. قال: إن أمر الزواج يستلزم تفكيراً طويلاً. قال الأب: ولكننا نفكر فيه منذ زمن طويل. وقد عرف الناس جميعاً أن جميلة ستكون زوجتك. . لأنها خلقت لك، ولأنك أنت خلقت لها. . . . قال جميل - وكيف أتزوج امرأة لم أرها ولم أسمع حديثها؟ يجب أن أحب قبلاً ثم أتزوج. . قال الأب - إن زليخا تغنيك عن رؤية جميلة والتحدث عنها، فبلاغتها أبرع في التمثيل من آلة المصور. أسمع ما رواه الأصمعي عن (عصام) التي وجهها الحرث الكندي إلى ابنة عوف لتراها وتمتحن ما بلغه عنها، وقد وصفتها له بما هو أفضل من رؤيته لها. فقالت:

(رأيت جبهة كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك. . . إن أرسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاها الوابل، ومع ذلك حاجبان كأنهما خطا بقلم أو سودا بحمم، قد تقوسا على مثل عين الظبية. . بينهما أنف كحد السيف المصقول لم يخنس به قصر ولم يمض به طول، حفت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان، شق فيه فم كالخاتم لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غرر، وأسنان تعد كالدرر، وريق كالخمر له نشر الروض بالسحر. . . . وقد تربع في صدرها (صدر كتمثال الدمية) حقان كأنهما رمانتان، من تحت ذلك بطن طوي كطي القباطي المدمجة. . خلف ذلك ظهر كالجدول ينتهي إلى خصر، لولا رحمة الله لأنخذل. ولها ساقان خدلجتان كالبردي يرى من صفائهما مخ العظام، ويحمل ذلك قدمان لطيفان، كحرف اللسان، تبارك الله مع صغرهما كيف يطيقان حمل ما فوقهما) الخ. الخ. ألا ترى يا جميل كيف أن الوصف يغني عن الرؤية؟ إنني أرى بنت عوف، كما رأيت أمك قبل الزواج بما حدثوني عنها! قال جميل - أما أنا يا والدي فقد أتصور ابنة عوف كالتي تتصورها، ولكنني لا أحبها. . أو قد أحب صورة لها أتخيلها ولكنها لا تشبه صورتها الحقيقية، فأنكب إذا ما رأيتها في أملي وخيالي، يجب أن أرى أولاً. . قال الأب: ولدي! ألم تكتب إلي أن إقامتك في باريس بعثت في نفسك الكره لكل ما هو غربي وزادتك بأخلاق بلادك إعجاباً. اليوم جاءت الساعة لتقدم الدليل على ما قلته. لقد أصبحت ملكاً لنا، ملكاً لهذه البلاد التي تبرهن على حبك لها بإتباعك عاداتها. إن العائلات السورية لن تمكنك من رؤية بناتها والتحدث إليهن، وإذا استطعت أن ترى خلسة فلن تستطيع أن تكاتب، وإذا استطعت أن تكاتب فلن تملك أن تتحدث، وإذا تحدثت، فبغير ما يروي الظمأ. إن بعض العائلات تتساهل في هذه الأمور، وأما العائلات العريقة في الشرف والتقوى، فما زالت محافظة، وزوجتك يجب أن تكون من هذه العائلات المحافظة، فلا طمع إذن في أن تراها! قالت زليخا: ولكن عندي صورة جميلة. هاهي - ودفعتها إلى أخيها! أخذها جميل وتأمل فيها طويلاً ثم قال:

- لا أقول أنها قبيحة، فقد يعجب بها غيري، ولكن هذا الشكل ليس بالشكل الذي أحب، كلا ولا الشكل هو كل ما أحب حتى أقنع برؤية الصورة. إن الإنسان لا يحب الجسم وحده، على أن نفسي تحدثني أنني لن أحبها. . قال الأب: هل خيرت يا ولدي في حب أمك؟ أنك أحببتها بعد أن عرفت أنها أمك، لم تخير فيها ولا خيرت في حبها. هكذا زوجتك. إنك ستجدها غداً إلى جانبك، وستحبها لأنها تحبك ولأنها أم أولادك. وي! تريد أن ترى وتتحدث، وتنتقل كالنحلة من فتاة إلى فتاة، تحب هذه شهراً، وتلك شهرين، والثالثة نصف عام، تبقي عند هذه ذكريات، وتحتفظ من تلك ذكريات، تثير هنا شكوكاً، وهناك حقداً، حتى تصل إلى فتاة تحبها حباً عنيفاً يسوقك إلى الزواج، وبعد أن تتزوج يبرد الحب وتعرف أنك كنت مخدوعاً وأن بين اللائي عبثت بقلوبهن من كانت أجدر بحبك! لا، إن هذا الأسلوب الغربي الجاني لا يعجبني قط! تزوج فتاة لم تحب قبلها أحداً، ولا ترجو أن تحب بعدها أحداً، وإذا كان فيها نقص بسيط لم يفطن له الذين خطبوها فأنسه كما تنسى عيوب أمك وأبيك وأحبها كما تحب أمك رغم نقائصها، أحبها حتى في عيوبها! ولدي، أنا ما دعوتك لأسألك رأيك، فأنا أعرف بسعادتك منك. إن جميلة خطبت لك! قضي الأمر! تظن أنك لن تحبها، ولكنها اجتمعت لها كل المزايا الحسنة. . . . وغداً ستلبسها من وراء الباب خاتم الخطبة، فترى يدها اللطيفة. . - 3 - غادر جميل الدار بحجة أنه يريد أن يزور طائفة من أصحابه، ولكنه قصد إلى حانة قريبة فتناول شيئاً من المسكر وذهب إلى دار السيدة ماري، حيث كانت ايفون تنتظره. شعر أن السكر بدأ يأخذ منه، فقال لايفون: أقسم لك أنني ما تناولت مسكراً في صباي إلا اليوم، أجل سكرت اليوم ولكن من أجلك. جئت لأطلب منك أن تكوني زوجتي، جئت لأقول لك أنني أعبدك. قالت له في لطف كثير: ولكن الربة لا تكون زوجة لعبدها، قد تكون صديقة، فلنبق صديقين. أنا أعرف يا جميل أن لك خطيبة، ولكنني أحبك للصداقة الماضية ولإعجابي بك، ومادمت كاتباً فسيكون لي نصيب من قراءة أدبك، ولن تبخل علي بزياراتك، كما كنت

تفعل وأنت في المدرسة. إن الفتيات اللائي يولدن في عائلات متواضعة مثل عائلتي لا يتزوجن من الأشراف الأغنياء، واذكر أنك مسلم وأنني مسيحية وأن من غير المألوف زواج المسلم من المسيحية. قال: ولكنك أجمل فتاة على الأرض، وأغناهن مزية! لا تظني أن الخمر يملي هذا القول، إنه يحل عقدة لساني، هذا كل ما في الأمر. أنت زوجتي، أما خطيبتي، فليست خطيبتي. . . . قالت: كيف ذلك! إن أمك وأباك يريدانها بكل قواهما. وإن للأم والأب حقوقاً يجب أن تحترم. . قال: ايفون، أن لي في حياتي ثلاث رسائل: أن أحب وطني، وأن أحب عائلتي، وأن أحبك. فإذا كرهتني، وكرهتني عائلتي، فلن استطيع أن أخدم الوطن، لأنكما مصدر عبقريتي، وماذا يبقى نمن عبقريتي، ماذا يبقى من قلبي، إذا زلتما منه؟ قطعة من اللحم! أنا لم أشرب الخمر، ولكن حياتي كانت سكرى. كنت أسكر من رؤيتك، ومن حديثك، ومن ذكراك، وكان يحبب الحياة إلي إنك ستكونين رفيقتي فيها، وإن روحي ستقرن إلى روحك. وكان بينهما جدل طويل، يطلب وتدفعه وفي النهاية قال لها في حزم كثير! ايفون، هل تعتقدين أنني إذا قلت أفعل؟ قالت نعم، أنا أعرفك، وما أظن أن الغربة بدلت من طباعك، فهي متأصلة فيك! قال: إذا لم تلبي ندائي، فلن تريني ولن يراني أحد، لأنني بعد أن أفقد ثقتي بك، يفقد العالم في نظري كل جمال. . لا تظني أنك تضحين نفسك من أجلي برفضك، فرفضك تضحية بي قبل كل شيء. هلمي، أجيبي، أتقبلين؟ قال ذلك وأنشأ ينظر إليها، وقد بدت في ثوبها الحريري الأزرق الشفاف فتنة من الفتن، ليست التي رسمها عصام إلى جانبها، إلا تشويهاً، أنشأ ينظر إليها نظرة كلها استعطاف، فأجابته بصوت ناعم، والدمع يترقرق في عينيها: إذا أردت. . . - 4 - مأساة وسعادة مضت أشهر على زواج جميل، وقلب الأب لم يلن. . يكتب إليه فلا يجيبه ويزوره فيتوارى عنه، ويهدد كل من يختلف إليه بغضبه وحرمانه من الإرث!

عانى جميل كثيراً من العذاب في بيروت التي هاجر إليها طلباً للحياة، ولكن زوجته ايفون كانت له اللطف سلوى. . وفي ذات يوم تلقى جميل زيارة أخيه البكر خالد، فسأله عن حياته الزوجية فأجابه بكلام كان يخرج من صدره كأنه قطع من الجحيم، أن زوجتي (حدراء) مسافرة في لبنان، مع أبيها، وقد سميتها (الحلقة المفقودة) لأن الإنسان يحار في أي الصنفين، القرد أو الإنسان، يضعها. لقد اختارتها لأي أمل. لأنها قبلت يديها بخشوع، وتقبيل اليد معيار الأدب والجمال عند أمي الطيبة القلب! حدراء معجبة بنفسها إلى آخر حدود الإعجاب، شكلها يشبه شكل العجائز وحديثها تزهق منه الأرواح، ولكن لها من عناصر الجمال شيئاً واحداً شعرها الأسود الذي تنفق عليه بلا حساب، وجميع أحاديثها مع ضيفاتها تدور حول جمال الشعر! يحبها والدها، لما تتظاهر به من تقوى ويصطحبها في أسفاره، ولكن غيباتها لسوء حظي قليلة وسعادتي قصيرة. أتعاتبني حدراء لأنني أسكر ولم تعرف أنني أسكر من شقائي بها! سألني أمس أحد المسيحيين: لماذا يباح للمسلم أن يتزوج مسيحية، ولا يباح للمسيحي أن يتزوج مسلمة، فقلت له: ماذا؟ أتريد أن تشتري شيئاً مغلفاً لا تعرف ما هو؟ وانتظر على الأقل حتى يكون سفور وترى ما وراء الحجاب، فأما ملكاً. . قال ضاحكاً: وأما غولا. . . فتركته وأنا كالأحمق. . لأن هذا اللقب ينطبق تماماً على زوجتي. . نعم، أنا زوج غول! أعيش مع غول، وسيكون نسلي من غول!. . وداعاً يا أخي! إن سعادتك لا تقدر. . . . . . ثم فر خالد فوراً. . . مما بعث الدهشة في نفس جميل، الذي لم يستطع أن يدركه، ولكنه، في صباح اليوم الثاني، أخذ من أبيه الرسالة الأولى، بعد التقاطع، وقد جاء فيها: حكم القضاء على (مساعد) زوج (جميلة) بالسجن ثلاث سنوات لأنه ضرب زوجته وجرحها جرحاً بليغاً! هجر أخوك المنزل العائلي هرباً من (حدراء) سافر فجأة إلى أمريكا. أمرضت أمك الهموم. تعال يا ولدي. الآن فهمنا أنك كنت على حق في رفضك الزواج من جميلة. تغيرت فكرة العصر فوجب أن يتغير الأسلوب. بلغ من جنوني أنني حرمتك من أرثي وعطفي، فاغفر لي حماقتي. عدنا إليك يا ولدي فعد إلينا، مع زوجتك الفضلى التي

ننتظرها بشوق. الخ. . . . . وهكذا دخلت فتاة مسيحية في عائلة محمد باشا، الشريف السوري العريق في النسب والتقوى وكانت من أسباب سعادته! فلماذا لا يتكرر هذا المثال؟. . . . دمشق في 16 حزيران الدكتور منير العجلاني

موموس

موموس إله المرح لو سألتني من هو إلهك الذي تفضلين عبادته على الآلهة جمعاء، من تلك الآلهة التي لا يحصى لها عدد، أو من تلك التي لا نعرف لها أسماً لما اخترت مارس إله الحرب معبوداً، ولامورفيوس الذي يكلأ الناس وهم نيام كيلا يقض مضاجعهم عبث العوادي. ولافينوس، إلهة الحب والجمال، المضرمة في العقول نار الإلهام، عليها السلام لأني لا أعبد سوى إله واحد، هو موموس إله المرح والطفر ما أنا ممن يقدسون كويرنوس إله الصحة، الرائف بالمستضعفين والأقوياء. ولا أنا ممن يبجلون اسم بلوتوس إله المال القادر على كل شيء، لما يفيض من رخاء أو يسبغ من نعيم ولا أنا ممن يمجدون بلوتوس إله العمل، معبود الحيويات النارية، ورب القلوب الغضة لكل هؤلاء الآلهة مني أعظم الإجلال وكل التقدير بيد أني أعبد، فلا أعبد إلا موموس إله المرح البهيج! ما أنا ممن يعبدون أبولو إله الظلام، المقنع بقناع الدجى كيلا ينعكس علي ضياء. ولا منيرفا آلهة الحكمة الرصينة الناظرة إلي نظرات الحيرة والدهشة والعتاب لأن إلهي الذي أعبد هو موموس الباسم إله الطلاقة الإيناس ذاك الذي تحسدني على عبادته ملوك الأرض وملكاتها تلهفاً للحصول على رضاه أننا لنسأم الحكمة أحياناً. وإن للحب أجنحة تصفق فيطير وإن المال ليبهظ الأعناق وإن في اللذاذات لخلجات متبوعة بالندم والأنات وإن في كل أكليل من أكاليل المجد والفخار لشوك اليم لاذع حتى هبات الآلهة تنبذ كلها، ويقذف بها جانباً، حين تنهمر في سبيلها سيول المصائب، وتتفاقم طعماً بها أنواع الشرور أما هبة إله المرح ذلك الإله الفكه الطروب

فهيهات أن تسأم منها نفس أو يعافها قلب بل هيهات أن يتلقاك صاحبها إلا بما يشف عن نشوة وخفة وتأود أعطاف فالسلام عليك ياموموس، أيها المعبود الطلق محياه، الملهمة أساريره! السلام عليك أيها الإله السعيد طالعه، المفترة ثناياه! أنك لمهوى أفئدة العالمين وعلاج لنشجات الباكين عن ايلا ويلر ولكوكس ماري عجمي

الروح

الروح أو الفن! بي أزروا قدما وقد جهلوني ... فسأزري بهم متى عرفوني لم يروني شيئاً وقد كنت شيئاً ... وكثير عمى الحجى لا العيون حسبوا اليوم أنهم أبصروني ... أبصروا مظهري ولم يبصروني لو صفت منهم النفوس رأوا نفسي ... ولكن قد كونوا من طين ولو أن الإله يخلق الأجسام ... لم يعرفوه في أي دين تعرف الله أنفس زاكيات ... لبصرت ربها بعين اليقين عارف الله بالجسوم كمن يغدو ... بحب الأصنام كالمفتون والذي يعرف الإله من النفس ... رآه بالعلم لا بالظنون بجلوني لنظم شعري وقدما ... عرفوني روحاً فما بجلوني يعرف الشاعر الحقيقي من روح ... تسامت لا مقطع موزون قدروا فني الجميل فلم أعبأ ... بتقديرهم فما قدروني لم يهيموا بالروح مبدعة الفن ... وهاموا من دونها بالفنون تخلد الروح لا الفنون ولا اللون ... ويبقى ملون التلوين إن كل الفنون مثل فقاقيع ... ببحر النفس الغريب الشئون أحمد الصافي

الحضارة الحاضرة

الحضارة الحاضرة وواجب التربية تعريب الأستاذ عبد الحميد الحراكي ظهر مؤخراً كتاب قيم بقلم الاقتصادي الفرنسي المعروف لوسيان روميه تحت عنوان إذا اضمحلت الرأسمالية عالج فيه الأزمة الاقتصادية وتعرض بصورة خاصة إلى الناحية الاجتماعية الإصلاحية. وبسبب الفضائح المالية في فرنسا فقد استرعى هذا الكتاب أنظار المفكرين الذين يبحثون في طرق الإصلاح الاقتصادي. وفيما يلي مقالة للكاتب الفرنسي (جورج غي - غران) عن هذا الكتاب نقلها إلى العربية الأستاذ عبد الحميد بك الحراكي ننشرها لفائدة القراء: إنه الفضائح المتنوعة التي اجتاحتنا مؤخراً قد هزت الرأي العام هزاً عنيفاً لم يقف عند انفجار التظاهرات الصاخبة في بعض المدن الكبيرة بل تعداه إلى أثاره السخط العام في جميع أنحاء البلاد. وإذا نحن لم نشاهد آثار هذا الاشمئزاز مرفوقة دائماً بالاحتجاج واللغط الشديد فأننا قد لاحظنا أشياء ربما كانت أشد خطراً وأوقع أثراً إلا وهي الاحتقار والنفور الصامت من قبل أصحاب الشرف وأهل الفضل. وحقاً فإن نفرة أرقى طبقات الشعب على النظام السائد وعدم ثقتهم به لشيء له خطورته لاسيما في وقت كثرت فيه الحملات العنيفة على النظام البرلماني في أوروبا وفي وقت كان يجب أن يستند فيه هذا النظام على إدارة نزيهة لا يعتروها الخلل والفساد ليستطيع أنصاره الدفاع والمحافظة عليه. ولكن لم ينكشف لنا من هذا النظام حتى الآن إلا نواحيه المتفسخة. . . لاشك أن هناك كثيراً من مشاريع الإصلاح تقدم بها أصحابها ليظهروا للملأ بصورة واضحة بعض النواقص والعيوب الأكثر ضرراً في هذا النظام كما اقترح كثير من وسائل العلاج التشريعية التي لا غنى عنها ولكن هذه الأدوية لا يمكن أن تؤثر وتكون ناجعة إلا إذا تم تطبيقها فعلاً. وفي الواقع أن الذي ينقصنا أكثر من كل شيء هو التطبيق الجدي الفعال المتواصل. فالمشاريع والاقتراحات الجديدة تلقى في سلة المهملات وتستغرق في سباتها العميق مثل

غيرها من المشاريع والأنظمة التي لم تطبق وهكذا تستمر الحالة حتى تقع فضيحة جديدة أو كارثة حديثة تدعو اليقظة. لماذا نرى هذا الخلل في جميع المؤسسات؟ ولماذا لا يعمل بالقوانين والأنظمة؟ هنا نصل إلى المسألة الحقيقية التي تتلخص في ضرورة إصلاح الأخلاق والآداب والعادات. ليس معنى ذلك أن الأشياء يمكن إهمالها ولا لزوم لإصلاحها. فإن بين المؤسسات وبين الآداب والعادات نفس العلاقة الموجودة بين الطبيعة والأخلاق أو بين المادة والعقل. وبما أننا لسنا عقولاً محضة فإن أفكارنا وعواطفنا مقيدة ومتأثرة، إلى درجة ما، بالبيئة الطبيعية والمحيط السياسي والاجتماعي الذي نعيش فيه. ولكن، من جهة أخرى، لا يمكن أن يكون في المؤسسات من الحياة إلا بقدر ما نستطيع نحن نفخه فيها. فأن التقيد والتأثر ليس مطلقاً وقاطعاً بل في مقدورنا تحويره تصحيحه. وبالنتيجة فأن قيمة المؤسسات والقوانين إنما ترجع إلى قيمة الأشخاص القائمين عليها. هذه حقيقة قديمة جداً. نعم، إنها حقيقة قديمة ولكنها مع ذلك جديدة دائماً ومن المفيد في كل وقت التذكير بها. وهذا ما قام به مؤخراً المسيو (لوسيان روميه) في كتاب يدل عنوانه على أنه من وضع رجل اقتصادي إلا أنه في الحقيقة ينطق بلسان رجل أخلاقي، بل أخلاقي منهمك بصورة خاصة في قضايا التربية. إننا نتأكد من ذلك منذ المباشرة في مطالعة المقدمة. فأن المؤلف يتساءل هنا: هل يجب إصلاح الأشياء أم إصلاح الأشخاص! ثم يتأخر في إعطاء الجواب منذ الجملة الأولى التي تبين لنا روح الكتاب والغاية منه إذ يقول: يعيش إنسان اليوم قي وهم خطر. فهو يعتقد أن الخير والشر في الأشياء لا في الأعمال، في حين أن الخير والشر ليسا في الأشياء نفسها بل في الناس القائمين عليها. وما دام الأمر كذلك فمن الضروري أن لا نذهل عن القضية الأساسية وهي البحث في المسؤولية الشخصية. فإذا اضمحلت الرأسمالية إنما يقع الذنب على الإنسان الذي لم يحسن التصرف بها ولم يعرف كيف يجعلها صالحة للبشرية ولائقة بالإنسانية. وإذا قدر للاشتراكية الفوز فأن حظها الحقيقي في البقاء مدة طويلة سيتوقف على مقدرة

إتباعها ومقدار جهودهم لجعلها صالحة للحياة. وما يقال في الاشتراكية يقال أيضاً في الديمقراطية لم يمارسوا الفضائل والمزايا التي بها وحدها يمكن تحقيق هذه الفكرة. والأنظمة والتعاليم الجديدة التي تنتقد الديمقراطية أو تطمع في أن تقوم مكانها إنما تستفيد مما يزينها من بهجة التجدد وتستثمر حماسة أنصارها المؤسسين. ولكن هذه أيضاً لابد أن يصبها بدورها الهرم وتبلى بالابتذال إذا لم يكن إتباعها قادرين على تجديدها وبالاختصار فإن المسألة الأساسية ليست الدعوة الكلامية لمختلف الكلمات المنتهية بحرفي (يه) - مثل ديمقراطية، اشتراكية، فاشستية - بل التفتيش عن الحقائق التي تشتمل عليها هذه الكلمات وفي الدرجة الأولى السؤال عن الأشخاص الذين يمارسونها. أما الوهم بأنه من الممكن استبدال مسؤولية الأشخاص الذاتية والاجتماعية بمسؤولية الدساتير والأشياء المفروضة فتلك فكرة ستوصلنا حتماً إلى الفوضى المطلقة. لأننا بحجة إدارة الأشياء نهمل إدارة الناس وقد ضرب لنا المسيو (روميه) مثلاً لإيضاح أساس فكرته بصورة بارزة إذ تعرض إلى مسألة الاقتصاد المنظم الذي شاع في هذه المدة. فهو يقول بأنه من المؤسف الطمع في ذلك لأن المادة أو الاقتصاد لا يمكن أن تتصف بالحكمة والتدبير والشعور بثقل المسؤولية. ولذلك فأن إدارة الشؤون الاقتصادية يظهر عليها كأنها إنما اخترعت لتساعد على حماية المجرمين، ليس بتسهيل السبل لهم للتفكير عن ذنوبهم فحسب بل أيضاً لإعطائهم في ارتكابها. يظهر أن هناك سوء تفاهم وجدالاً فارغاً حول الكلمات. وفي الحقيقة يجب أن لا نطلب من الأشياء ما لا يمكن تكليف غير الأشخاص به. على أن عمل الإنسان إنما يظهر في الأشياء. وبهذا المعنى ينبغي أن يكون هناك اقتصاد منظم كما هو الأمر مع السياسة المنظمة أو مع الأشغال الخاصة والعامة المنظمة. فأن الأشياء، بصفتها غير عاقلة، لا يمكن أن تدير نفسها بنفسها بل أن الإنسان هو الذي يقوم بذلك. ومتى أهمل أمرها تحدث الفوضى والاضطراب. فما هو إذن السبب في أن فكرة الاقتصاد المنظم تصادف في الوقت الحاضر ميلاً شديداً

ومساعدة قوية لدى الكثيرين من أصحاب العقول النيرة؟ ذلك لأننا قد شاهدنا نتائج سياسة عدم التنظيم. وترك الأمور تجري كما تريد فأن هذا قد انتهى بنا إلى الفوضى وهو السبب الأساسي في الأزمة الاقتصادية الحاضرة. ولكن من جهة أخرى لاشك في أن مبدأ تدخل الحكومة في جميع شؤون الاقتصاد سيكون خطراً آخر في الظروف الحاضرة التي نرى فيها آثار التطور السياسي والاقتصادي السريع لأن هذا التدخل ربما يؤدي إلى عرقلة وقتل كل حياة وفعالية. وهذا هو السبب في أن النظر بين الاقتصاديين المجددين حقاً مثل (هنري دومان) قد أخذوا يعدلون عن المبادئ والتعاليم القديمة ويحاولون التوفيق بين العمل الشخصي وبين تدخل الحكومة. ولا يخلو من فائدة أن نشير إلى أن الحركات الفكرية الحاضرة التي ترمي إلى التعديل في مبدأ حرية الاقتصاد من جهة وفي الاشتراكية الماركسية من جهة ثانية إنما ترجع إلى أساس واحد فان كل واحد من الاتجاهين متمم للأخر، وغايتهما قلب الأشياء الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا من قبل الإنسان. وكذلك يتبين بأن النظرية (السنت سيمونية) القائلة بضرورة حكم الإنسان إلى إدارة الأشياء لا يمكن قبولها على علاتها. نعم، إن مبدأ هذه النظرية هو الرغبة المحدودة التي ترمي إلى استبدال العمل الإرادي بالعلم ولكن الأشياء أيضاً إنما تدار في النتيجة من قبل الأشخاص ولذلك يجب السعي لجعل هؤلاء أهلاً ليكونوا مديرين أي أن يصبحوا حكاماً صالحين. إننا، بعد هذه الملاحظات في تعريف الأشياء، لا نستطيع إلا الموافقة على آراء المسيو (لوسيان روميه) الأساسية. فأنه من الضروري تهذيب ومراقبة الأشخاص المسؤولين من الوجهة الأخلاقية ثم تأديبهم بل ومعاقبتهم. ولاشك في أنه من المتناقض في الإدارة أن نسعى لإصلاح الأشياء قبل المباشرة في إصلاح الأشخاص القائمين عليها وليس ما نراه من انحطاط الوجدان المسلكي، الذي أظهرت لنا الفضائح الأخيرة أمثلة مؤسفة له، إلا نتيجة لازمة لفقدان الأخلاق والتربية. أما فيما يتعلق بالتربية بصورة خاصة فإن المسيو (روميه) يعطينا أحكاماً قطعية وهو يشبه من هذه الناحية (ارنست لاويس) قبله مع اختلاف زهيد في وجهة النظر إذ أنه يتكلم عن إهمال التربية وفقدانها ويقول لإثبات ذلك أن التربية الحاضرة عاجزة عن تهيئة الناشئة

للقيام بالمهمة الملقاة على عاتقها وغير قادرة على تكييف العقول والقلوب والإرادات وفقاً للانقلابات العظيمة التي تمت في العالم منذ القرن التاسع عشر. وإذا تساءلنا عن هذه الانقلابات نرى المؤلف يبدي كل اهتمام تجاه انقلاب واحد أساسي حدث في النظام الاقتصادي وأخذنا اليوم نشعر بتأثيره ونرزخ تحت أثقاله وهو تحول الرأسمالية التي كانت قائمة على التوفير في البلاد القديمة إلى رأسمالية مغامرة تسعى وراء الصفقات المالية الكبيرة كما نراها في البلاد الناشئة جديداً. إن النظام الرأسمالي الذي ساد الحياة الصناعية لم يكن حتى سنة 1914 ليخرج في اتساعه عن حدود ومقاييس القوى البشرية. لقد كان الربح هو الدافع والمحرك ولكنه كان مقيداً ضمن نطاق المبادئ الأخلاقية. ويمكن أن نلخص صفات العمل والجهد الأوروبي قبل الحرب العامة بما يلي: التنافس والتسابق والاستقلال النسبي عن التقاليد وعدم التقيد بالغايات الاجتماعية بالنظر إلى التقلبات المادية، ثم وجود توفير مكتسب، مستقل شخصي أو عائلي والسعي وراء التقدم والتجديد في كل مشروع، وأخيراً الفردية في جميع المشاريع والثروات والمسؤوليات الاقتصادية. ولكن بعد التطور المدهش الذي تم في بلاد ما وراء البحار وفي البلاد الأوروبية التي اقتدت بها قد أخذت الرأسمالية شكلاً يختلف كل الاختلاف عن السابق. فأنها عوضاً عن التمسك بفكرة التوفير والاقتصاد نراها قد التفتت إلى المضاربة والمصافقة. وهكذا صارت المصارف هي التي تسيطر على الصناعة وتملي عليها قوانينها كما أن المال هو الذي تولى الحكم على الإنتاج. وها هي رؤوس أموال التوفير حيث لم تبدد وظلت محافظة على شيء من أهميتها قد أصبحت بعد عشر سنوات فقط من الحرب، كأنها حطمت من قبل رؤوس أموال المضاربة فهي مرغمة على مشاركة هذه الأخيرة في الخسائر وعاجزة عن الدفاع عن نفسها. إن هذا التطور كان ضرورياً لا يمكن اجتنابه إلى حد معين. وهو لم يكن وخيماً من كل الجهات. إلا أنه كان ينبغي للسيطرة عليه وإدارته أن يتلاءم مع واجبات الأخلاق والتربية. وهذا ما لم يحدث. ولهذا فأن المدينة الحاضرة قد اعتراها التزييف والخلل من جراء

التناقض والاختلاف بين الوضع الاجتماعي وبين الأفكار السائدة فأن الوضع الاجتماعي العام خاضع لسير الرأسمالية بينما المبادئ الفكرية والأخلاقية المتوارثة عن الأوضاع الاجتماعية القديمة ليس لها أي تأثير في النظام الرأسمالي. ولآن لنتقدم خطوة أخرى إلى الأمام ولنتساءل لماذا هذا الاختلاف والتناقض بين الوضع الاجتماعي وبين المبادئ الأخلاقية؟ يجيب (روميه) على ذلك بأن ليس واحدة من الطريقتين السائدتين في التربية اليوم يمكنها القيام بحاجة الجماعات الحقيقية فأن أحداهما نفعية محضة تقتصر على تعليم الناشئة المعارف والقواعد التي تستطيع تأمين الحياة بها ضمن أية مهنة كانت فهي ليست تهذيبية البتة. وتلقاء ذلك نرى التربية الأخرى التي تسمى مدرسية والتي ترمي إلى التهذيب ولكن عن طريق تنمية الذكاء والعقل تهمل العامل الحيوي في التربية والنتيجة هي اعتراف رجال الحكومة المنوط بهم أمر التربية المدرسية وإقرارهم بالعجز عن تفهم المعضلات الكبرى المالية والاقتصادية في عصرهم. ومن الأوهام الساذجة الاعتقاد بأنه يكفي أن يحصل أحد تجار القطن على الثروة أو أن يتعلم أحد الحقوقيين اللغة اللاتينية لتبقى المدينة سائرة في طريقها. إنه مما يسر أن نرى رجلاً اقتصادياً، أخلاقياً مثل المسيو (لوسيان روميه) يؤيد بصورة غير مباشرة الأفكار التي ندافع عنها نحن رجال التربية والتي تتلخص في ضرورة التوفيق بين المنفعة والثقافة. فأنه من اللازم، ولاشك، تعليم الجيل الحاضر الفضيلة والتفكير بصورة تلائم ليس أحواله الفردية فحسب بل الهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها أيضاً. أما أن ذلك سوف يؤدي إلى إنقاذ الرأسمالية أو إلى انهيارها فتلك مسألة لا طائل تحتها. لأن الشيء المهم هو إنقاذ المدينة. . .

جمال المرأة

جمال المرأة في نظر الشعراء للسيدة وداد سكاكيني المحاسني لا تثريب عليّ إذا قلت أن شعراء الفرنجة تطلعوا إلى جمال المرأة بأعين عميقة الأغوار دقيقة الأنظار وأنهم نادموا الحسن والملاحة بلغات فنية وساجلوا الغيد إلا ما ليد مساجلة الأطيار للأطيار. وكادت تكون رقة شعورهم في المناجاة استغراقاً في التأمل أو غلواً في العبادة. وشعراء الغرب لهم عهد عتيق بالجمال ريان بحبه ملآن بذكره وقديماً مرنوا على دقيق الإحساس وعميقه، وأخذوه عن طبيعة اليونان الذين نحت لهم بركستيالوس تمثال فينوس. فجعلوه مثال الملاحة والبداعة وسموه آلهة الجمال. تأله الحسن في يونان فاستبقوا ... إلى عبادة فينوس بمضمار وقد حدثنا ببيرلوئيس في قصة افروديت أحاديث عن عبادة الجمال بالإسكندرية في خوالي العصور على الإغريق حيث كانت لهم مجالس وهياكل ملؤها التسبيح للمحاسن والبدائع وعلى تراخي السنين برع النحاتون والمصورون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فجاء العباقرة منهم بأعاجيب النبوغ في فنونهم الجميلة الرائعة ومثلوا جمال المرأة بأنواع تصلح وحدها لأن تكون شعراً ناطقاً بأوصافها ومظاهرها سجيس الليالي. ولما هب شعراء الرومانتيك منذ أواسط القرن الماضي فتحوا أعينهم على الجمال وتصوروه في خيالهم، ونما في شعرهم، وساعف على ذلك هذا أن لجمال المرأة منالاً عندهم وكان من أثر ذلك أن غإلى بعضهم فأتبع طريقة في فهم الجمال جعلوه يعم كل نسبة واتساق وأوغل ناس منهم فخيل إليهم لدقة حسهم ورقته أن في القبح جمالاً، فالدميم يعد وسيماً إذا صوره لك الشاعر تصويراً متناسباً متسقاً، وقد أراد ذلك فيكتو هوغو حين كتب رواية نوتردام دوباري فصور لنا خادم الكنيسة نوتردام دوباري فصور لنا خادم الكنيسة كازي مورو على مثال الشناعة والبشاعة في الدنيا، تعاورت على شكله ضروب العاهات والمثالب، فهو أبكم أفلج أعشى، ذو صمم بطين الأحشاء أحدب الظهر أقعس الصدر، بيد أنه في كل هذا صورة للجمال بتناسب شناعته وتناسق دمامته، ثم يمعن هوغو في تمثل

الجمال بشكل آخر فيرينا إياه في ازميرالدا الراقصة الفاتنة. وقد تجاوز غيره من الشعراء هذا الحد في معرفة الجمال على صور النساء، أما شعراء العرب فقد نظروا لجمال المرأة نظراً لم يحلقوا فيه كشعراء الغرب وإن استطاع بعضهم ذلك فما دوموا تدويماً، أنهم تطلعوا إلى حسن المرأة في عهد جاهليتهم فوجدوه بدوياً على مثالتهم. وظهر لهم منذ النظرة الأولى في الأعين الدعجاء والشفاه اللسعاء وفي الأجفان والحوا جيب وأبصرووه في الغدائر السود والغرر البيض ثم رأوه في القامات الممشوقة والخصور الدقيقة والأطراف الرقيقة والأعجاز الرجراجة الثقيلة، وقد أخذ من البابهم منظر القمر ومشرق الشمس وأعناق المها وعيون الجآذر وغصون البان وجعلوا من كل هذا تشبيه ونعوتا لجمال المرأة عندهم فتعزلوا به وفتنوا وافتنوا، وأول من وصف المرأة فيهم هو أمرؤ القيس سيد شعراء الجاهلية، فاقتفى أثره وترسم خطاه من جاء بعده من الشعراء، وهاك شعراً له ينعت به جمال فاطمة يوم دارة جلجل: مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش ... إذا هي نضته ولا بمعطل وفرع يزين المن أسود فاحم ... أثيت كقنو النخلة المتعسكل فقد شبه صدر فاطمة الأبيض بالمرآة المجلوة وعنقها بعنق الغزال ونعت لون شعرها الأسحم بغصن النخلة ثم بدأ جمال المرأة لشعرائنا في عهد الإسلام وكانت ضربت عليه الخمر وحالت دونه الستور، فوصفوه وصفاً لا ينطبق على المشاهدة إلا عمر بن أبي ربيعة شاعر الحب والجمال، فإنه نال حظوة لدى ربات الحسن وملكاته، فأجاد في وصف الجمال النسوي وأبدع، وقصر عن شوطه الشعراء العذريون من أهل الغزل إذ وصفوا الحب في أشعارهم ولم يصفوا الجمال مثله، وإن الشعراء الثلاثة الأخطل وجرير والفرزدق لم يجيدوا إجادة عمر في فنه البارع، لأن الهجاء اللاذع هروه فنجهم، وصرفهم عن مفاتن الهوى والشباب، وكان يصح لجرير أن يبذ نديه لوترك وشأنه فقد حرمتنا سياسة الأمويين إبداع جرير في وصف الجمال، ولعله كفر عن تقصيره حين وصف العيون الحوراء بقوله: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا

على أن ابن ربيعة في وصفه جمال المرأة يريده حضرياً، فلا يأتيه إلا بدوياً، لأن تأثير البداوة في عصره كان شديداً، لاسيما وقد نشأ وعاش في الحجاز، حيث كان يتلمس الجمال بين مناسك الحج ويتحسس الحسن في أفياء الخرد الرعابيب، انظر إلى وصفه جمال فاطمة بنت عبد الملك: وذكرت فاطمة التي علقتها ... عرضاً فيا لحوادث الدهر ممكورة ردع العبير بها ... جم العظام لطيفة الخصر وكأن فاها عند رقدتها ... تجري عليه سلافة الخمر وبجيد آدم شادن خرق ... يرعى الرياض ببلدة قفر ويصف عمر هندا بنت الحارث بقوله: هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... تخالها في ثياب العصب دينارا كأن عقد وشاحيها على رشأ ... يقر ومن الروض روض الحزن أثمارا فلندع شعراء العصر الأموي. ولنعكف على العصر العباسي، عصر الجمال المبذول والشعر المصطفى الذي يجرر من خيلائه أذيال المرح والحضارة ويتقلب على أعطاف النعيم. لنأت إلى أبي نواس، ويح هذا الشاعر الماجن لقد شغله جمال الخمرة عن جمال المرأة، ولكنه لم يقصر إذ قال: وذات خد مورد ... فضية المتجرد تأمل العين منها ... محاسناً ليس تنفد فبعضه يتناهى ... وبعضه يتجدد والحسن في كل شيء ... منها معاد مردد فكون النواسي من هذا الجمال صورة فنية دقيقة أيما دقة وجعله غير منعدم المادة كأنه الجوهر الفرد، وعرج بالجمال إلى سماء من الشعر الحضري لم يسبقه إليها شاعر عربي، وليت شعري أن قصر أبو نواس في وصف الجمال فمن يجيده؟ بدأ التطور في هذا الوصف منذ عهد الشعراء المولدين من أيام زعيمهم أبي نواس وكان له ولصحبه من المجان شعر كثير في الجمال الحضري أخذ روحه وريحانه من الأدب الفارسي ومن حياة الحسان والقيان.

ليت جمال المرأة بقي منية هؤلاء الشعراء، وما جاوزا به إلى العبث والمجون حتى أفسده على الأذواق والأخلاق بغزل المذكر، ثم مادت الأشعار بالجمال الفاتن والملاحة الخالبة حتى كان العصر الثالث وأيام المتوكل وشعر البحتري المترع بالرفه والنعمة والبهجة يقول أبو عبادة: رحن والليل قد أقام رواقا ... فنثرن الصباح فيه عمودا بمهاة مثل المهاة أبت أن تصل ... الوصل أو تصد الصدودا ذات حسن لو استزادت من ... الشمس إليها لما أصابت مزيدا فحذا هذا الشاعر العبقري حذو الشعراء السابقين في التشبيه البدوي. وإذا غبر بنا الزمن إلى أواسط القرن الرابع ألفينا المتنبي ماليء الدنيا وشاغل الناس قد بسط جناحي شعره على عصره وما فاته أن ينشدها أبياتاً خالدة في جمال المرأة وهو لا يريده إلا بدوياً بحتاً خلواً من التصنع والتكلف: حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... صوغ الكلام ولا صبغ الحواجيب وحق للمتنبي أن يصبو إلى هذا الجمال الخالص لأنه لبث في البادية زمناً وطبع على محبة الأعاريب. وأما المعري فلا أفوز عنده بأوصاف لجمال المرأة، فإن هذا الأعمى الجبار الذي نقم على النساء وأقام عليهن الحدود ورماهن بالشتائم، لا يرى لهن من صفات الحسن والصباحة شيئاً ولو أنه كان بصيراً لهفت نفسه إليهن وألهب روحه جمالهن وأصباه ولكان له غير رأيه في الوجود. لقد قيل هذا الشعر الذي تقدم على عدوة من الأرض، أما العدوة الثانية فهي ربوع الأندلس الزهراء حيث ازدهرت معالم الجمال وأينعت مراتع الفنون التي حمل قيثارتها ابن زيدون، وهناك هام بالولادة بنت المستكفى وتجلى لعينه روعة جمالها فوصفه وصفاً ملك على الإسماع والقلوب، وقد أثرت فيه مغاني الأندلس الوارفة وظلها الظليل ونسيمها العليل فقال في ذلك الجمال الساحر: ربيب ملك كأن الله أنشأه ... مسكاً وقدر إنشاء الورى طيناً

أو صاغه ورقاً محضاً وتوجه ... من ناصع التبر إبداعاً وتحسبنا إذا تأود آدته رفاهية ... نوم العقود وأدمته البرى لينا كانت له الشمس ظئراً في أكلته ... بل ما تجلى لها إلا أحابينا كأنما أثبتت في صحن وحنته ... زهر الكواكب تعويذا وتزيينا فلما قال هذا الشعر ابن زيدون كاد يعفى على آثار الشعراء قبله في وصف جمال المرأة. أما في هذا العصر، فإن شاعره العظيم قد أفل نجمه بموت أحمد شوقي سامحه الله إنه سار على غرار أنداده الغابرين من شعراء العرب في فهم الجمال وتصويره. ولو سألوه أن يصف التفاته المرأة لأنشد دون جمجمة شعره بلسان مجنون ليلى: تلفتت ظبية الوادي فقلت لها ... لا اللحظ فاتك من ليلى ولا الجيد دمشق: وداد سكاكيني محاسني

صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام

صفحة من تاريخ أعراب شمالي الشام تابع للأستاذ وصفي زكريا قلت ويظهر من كلام آخر لا للقلقشندي أضربت عن نقله ومن كلام غيره من المؤرخين الذين نوهوا بأخبار نعير أي محمد بن جبار بن مهنا المذكور أن الإمرة بقيت في أعقابه دون غيرهم من أعقاب أخوته آل مهنا وأبناء عمه آل عيسى بن آل فضل كلهم فخمل ذكر هؤلاء وضاع اسمهم تدريجياً وخلفه أولاد جبار أو آل جبار ردحاً من الزمن إلى أن ظهر اسم أولاد أبي ريشة أو غلب كما هي العادة عند أهل البادية تتغير أسماؤهم في كل قرن أو قرنين تبعاً للسائد عليها. ولمحمد بن جبار هذا ترجمة في (المنهل الصافي) لابن تغرى بردى ننقلها عن (تاريخ حلب لراغب الطباخ ج4) قال: محمد بن جبار بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن ماتع بن حديثة شمس الدين أمير آل فضل بالشام ويعرف بنعير ولي الإمرة بعد أبيه ودخل القاهرة مع يلبغا الناصري ولما عاد الظاهر برقوق من الكرك رافق نعير منطاشاً نائب حلب في الفتنة الشهيرة وكان معه لما حاصر حلب، ثم أرسل نعير نائب حلب إذ ذاك كمشبغا في الصلح وسلمه منطاش، ثم غضب الظاهر برقوق على نعير وطرده من البلاد فأغار نعير على بني عمه الذين قرروا بعده وطردهم. فلما مات برقوق أعيد نعير إلى أمرته، ثم كان ممن استنجد به دمير داش لما قدم اللنكية (التتار) فحضر بطائفة من العرب فلما علم أنه لا طاقة له بهم برح إلى الشرق فلما برح التتار رجع نعير إلى سلمية، ثم كان ممن حاصر دمير داش بحلب ثم جرت بينه وبين حكم نائب حلب وقعة فانكسر نعير ونهب وجيء به إلى حلب فقتل في شوال سنة 808 وقد نيف على السبعين وكان شجاعاً جراداً مهيباً إلا أنه كثير الغدر والعناد وبموته انكسرت شوكة آل مهنا وكان الظاهر خدعه ووعده حتى تسلم منطاش وغدر به ولم يف له الظاهر بما وعده بل جعل ذلك ذنباً عليه وولي بعده ابنه معجل ذكره شيخنا في أنبائه وهو في المقريزي مطول. وترجم ابن تغرى بردى معجل أيضاً فقال. معجل (وفي نسخة العجل) بن نعير بن جبار. . . الخ أمير آل فضل بالشام والعراق نشأ في حجر أبيه فلما جاوز العشرين خرج عن طاعته ثم لما كان حكم بحلب

وخرج لقتال ابن صاحب الباز إلى جهة أنطاكية توجه إليه معجل نجدة له وآل الأمر إلى أن انكسر نعير وجيء به إلى حكم فلما رآه قال لابنه انزل فقبل يد أبيك فجاء ليفعل فأعرض عنه أبوه ثم أن حكم رسم عليه ولم يزل يقاتل ويحارب إلى أن قتل سنة 816 وحمل رأسه فعلق على باب قلعة حلب وسنه ثلاثون سنة. الخ. . . ثم سكتت التواريخ عن بيان خلف معجل بن نعير المذكور في الإمرة وعن وقائع هؤلاء الأعراب إلى سنة 885 قال ابن إياس فيها: وقعت في هذه السنة فتنة كبيرة في أنحاء حماة قام بها سيف أمير آل فضل الذي خرج عن الطاعة فحاربه ازدمر نائب حماة فقتل في المعركة وقتل معه جماعة من أمراء حماة. فعين السلطان قايتباي الأمير يشبك الدوادار ومعه عدد وافر من الجند لقتال سيف ففر سيف وتوجه إلى أنحاء الرها وكانت هذه لأحد نواب حسن الطويل ملك بغداد فحاصر يشبك الرها ولكنه كسر كسرة شنيعة وأسر ثم قتل. وفي سنة 887 جاءت الأخبار بقتل سيف قتلة ابن عمه غسان في بعض بلاد العراق. أما أخبار الأمير نعير بن جبار ومساويه فهي (خطط الشام ج2 ص158 عن مصادر مختلفة) الفتنة التي وقعت بينه وبين ابن عثمان بن قارا سنة 785 وانكساره ونهب ثلاثين ألف بعير له، ثم (ص169) اشتراكه سنة 794 بالفتنة التي أحدثها منطاش نائب حلب الثائر ودخوله معه بمحاصرة حلب وحماة ونهبها تم مجيء جند حلب وفتكه بنعير وأهله حتى اضطر لتسليم منطاش، ومنها (ص186 وقد لقبه هنا بأمير عرب آل فضل) اقتتاله مع عصاة التركمان وظفره بهم وتطاوله على أعمال حلب، وخروجه سنة 808 (ص187 وقد سماه هنا نعير بن مهنا الحياري البدوي) على أعمال دمشق وظفره بجندها وإفساده في ضواحيها إلى أن ظفر به حكم نائب حلب وقتله سنة 808 وأرسل رأسه إلى القاهرة. وقد ناف على السبعين وبموته انكسرت شوكة آل مهنا، قالوا ثم انتقلت الإمارة إلى ابنه معجل وهذا سار على سنة أبيه في الفساد نازل سنة 810 حماة وحاصرها إلى أن أوقع به نائب دمشق وكسره (ص191) ثم لما حوصر نوروز في حماة اشترك معجل في الحصار والقتال ضده، ولم يزل يحارب يقاتل إلى أن قتل سنة 816 وحمل رأسه وعلق على باب قلعة حلب. ثم سكتت الخطط عن بيان من خلف معجل بن نعير بن جبار في الإمارة وعن وقائع

الإعراب إلى سنة 883 (ص204) إذ ذكرت اسم سيف بن نعير الغاوي وعصيانه وخروج نائب حلب لتأديبه وفراره واضطراب أحوال حماة بسبب ذلك، وذكرت (ص234) في أحاث سنة 992 التي فتح السلطان سليم فيها الشام أسماء أرباب المقاطعات الذين كانوا يضمنون الخراج للدولة مقابل أموال يتعهدون بها وعدت منهم مدلج بن ظاهر من آل جبار أمير عرب الشام وكانت منازل قومه في سلمية وعانة والحديثة ثم ذكرت في (ص248) إن المتغلب على أكثر البر في غرة القرن الحادي عشر كان الأمير شديد بن أحمد حاكم العرب من آل جبار وإنه كان كاسمه ولقبه جباراً ظالماً عنيداً. وذكرت في أحداث سنة 1017 أن فرقة من عرب آل جبار المعروفين بأولاد أبي ريشة نفروا من العراق فوصلوا إلى تدمر وانضم إليهم قوم من جند السكبان العصاة فعاثوا معاً وافسدوا إلى أن أوقع بهم نائب دمشق وشتتهم. وهذه المرة الأولى التي يظهر فيها اسم (أبي ريشة) في الخطط. ومن الغريب أن آل جبار هؤلاء ذكروا في الخطط المستندة على مصادر مفروض فيها الصحة بلقب آل جبار بينما حيدر الشهابي في تاريخيه وكاتب جلبي في جغرافيته ذكراهم وصاحب الخطط وصاحب تاريخ حلب ذكرهم أيضاً مرة واحدة - بلقب آل الجبار حتى أن الشهابي استعمل ذلك مراراً منذ سنة 680 التي ذكر فيها عيسى بن مهنا بلقب الحياري كما لقب أعقابه من بعدة بالحياريين. والثابت عندي أن في الأمر تصحيف ناخ جعل هؤلاء المؤرخين يقرأون كلمة جبار (حيار) ويصل الوهم بالشهابي إلى إلصاقها بأسلاف جبار أي بأبيه مهنا وبجده عيسى بن مهنا، بينما لا القلقشندي ولا ابن خلدون ولا أبو الفداء ولا غيرهم استعملوا هذا اللقب لهؤلاء الأسلاف فإذا كان هؤلاء المتقدمون الثقاة الذين عاصروا آل عيسى في القرن الثامن والتاسع لم يذكروا هذه الكلمة فحري بنا أن ننسب للمتأخرين الوهم وعدم الانتباه للتصحيف ونحكم بأن كلمة الحيار لا أصل لها وأن أولاد أبي ريشة فخذ من آل جبار، الذين هم بطن من آل عيسى بن مهنا آل فضل بن ربيعة الطائي. وظل حيدر الشهابي يردد أسماء وأحداث الأمراء الحياريين الذين نشأوا في القرن الحادي عشر وصوابه أن يقول الجبارين وهو مع ذكره إياهم بالحيارين - كما كان يذكر من قبل عيسى بن مهنا وأعقابه - صار يلقبهم بأبي ريشة كما لقبهم الجغرافي التركي كاتب جلبي والمؤرخ التركي نعيما في تاريخه أيضاً - وقد عد منهم أسماء الأمير فياض المتوفي سنة

1029 وابنه حسين وابن عمه سلطان وابن أخيه مدلج. ذكر نعيما في تاريخه (ج3 ص6) أن فياضاً هذا شق عصا الطاعة في عهد السلطان أحمد الأول وحارب أحمد باشا الذي تولى إمارة الأمراء في مصر. وذكر الشهابي أن الإمارة انتقلت بعد فياض إلى ابن أخيه مدلج فقام ينازعه فيها حسين بن فياض وانضم إلى كل منهما فريق من قبيلتهما وجرت بينهما وقائع عديدة وبسبب ذلك اضطر مدلج في أحداها أن يستنجد بالأمير فخر الدين المعني الثاني سيد جبل لبنان في ذلك العهد وقد كانت سيطرته تمتد من القدس إلى حمص وحماة وسلمية ويتصل بأمراء الأعراب ويتخذهم أعواناً له. فجاء الأمير فخر الدين سنة1023 بعسكر وفير لنجدة مدلج فلاقاه في مكان بين حمص وحماة وأكرمه وأهداه الفرس سعدة المشهورة. لكن حسين فر مرتاعاً إلى حلب فرجع الأمير فخر الدين دون أن يخوض حرباً. ولم يزل مدلج يقتفي أثر حسين ويكيد له حتى وشى بقتلة مراد باشا الكوسا والي حلب فقتله واستقرت الإمارة بيد مدلج على أنه بقي تابعاً للأمير فخر الدين ولائذاً به يقدم إليه الضرائب والهدايا. وبينما كان الشهابي يلقب هؤلاء بالحياريين وبآل أبي ريشة إلى سنة 1034 وإذا به في أحداث سنة 1035 يذكرهم باسم الموالي لما طلب الأمير فخر الدين المعني منهم الذخيرة وتمنعوا ورحلوا فلحق بهم حتى عبرهم النهرين. قلت لعل هذه الذخيرة هي الضريبة التي كان يقدمها مدلج ورأى أن يقطعها إذ لم يعد بعد موت رقيبه حسين بحاجة إلى الحماية والمعونة ولما طولب بها رحل بقبيلته خوفاً من الأمير فخر الدين ثم عاد بعد رجوعه أو بعد أن أزالت الدولة وجوده. فاسم الموالي لم يذكره الشهابي إلا هذه المرة فهل نبتت هذه القبيلة سنة 1035 وهل كانت تذكر لو لم تكن هي القبيلة التي كانت وما برحت ملتفة حول الأمراء آل أبي ريشة منذ القرن السابع الذي نشأ فيه جدهم عيسى بن مهنا وأفرادها يلقبون بالموالي لأنهم أما عبيد معتقون من الذين ذكرهم كاتب جلبي في جغرافيته أو صنائع أو حلفاء منضمون إليهم. وفي تاريخ نعيما (ج3 ص60) أن مدلج المذكور استقر في إمارة البادية سنين عديدة واتسعت سلطته حتى صارت تشمل أعراب بلاد بغداد والموصل. على أنه لم يخل من الموارية فتارة كان يمالئ الإيرانيين الذين استولوا على بغداد في تلك الحقبة وتارة العثمانيين يماشي الأقوى منهما. (على سنة أحد أجداده مهنا بن عيسى الذي قدمنا ذكره)

ولما افتضح أمره وزاد عيثه لاسيما بعد أن فشل الوزير الأعظم خسرو باشا من استرداد بغداد ورجع عنها خائباً اعتزم الوزير المذكور على استئصال شأفة مدلج فأرسل عليه في سنة 1040 عسكراً وفيراً فكسروه ونهبوا بلاده وقتلوا من لقوا من أتباعه ففر مدلج مع حاشيته. وبينما هو فار سقط عن فرسه ومات فطلبت الأعراب الأمان وأخلدت إلى الطاعة. ولما كان لابد لهؤلاء من أمير يسوسهم أقام الوزير الأعظم المذكور سعيد بن فياض الذي تقدم ذكره وتاريخ وفاته أميراً عليهم. وصفي زكريا

شقاء العالم

شقاء العالم للكاتب الإيطالي الكبير جيوفاني بابيني لقد هبط مدينتنا، على غير موعد، معلم اسمه آريل آتياً من إحدى الجزر البعيدة تلك الجزر التي لا يرسمها الجغرافيون على الخرائط بل تظهر من حين إلى حين على سطح البحار، كما تظهر في مخيلة الشعراء. ويقال أن آريل كان منذ زمن بعيد في خدمة أحد الأمراء المنفيين، وإن هذا الأمير المنفي قد باح له بأسرار ليس في وسع الإنسان سماعها أكثر من مرة واحدة. ولعله بسبب ذلك اعتاد ما نستغربه منه كثيراً وهو أنه لا يسمح لأي كان بحضور درسه أكثر من مرة واحدة. لأنه كان يقبل كل من يتقدم إليه بشرط أن لا يكون قد جاءه من قبل. ويطرد كل من يعود إليه مرة أخرى، وليس هناك من يستطيع المفاخرة فيزعم بأنه حضر درسه أكثر من مرة واحدة. وكنت أقول لنفسي في كل يوم: لاشك أن الأستاذ قد علم أشياء جديدة وغريبة لأن جميع الذين يخرجون من القاعة التي يلقى بها دروسه يسيرون في شوارع المدينة وأزقتها مفكرين تائهين، كأنهم عائدون من عالم جديد أو كان الله بعث بهم أحياء بعد أن كانوا أمواتاً. ولعل ما سيقوله في الغد من الأقوال ويلقيه من الدروس يكون أعظم وأهم. ولو أني ذهبت لما سمعته غداً ولفاتني اليوم الذي سيعلن فيه أهم تعاليمه وأغربها. لأن هذا الرجل ليس بالمعلم العادي، فيستطيع الإنسان سماع دروسه في كل يوم وحضورها إن كل واحد من تلاميذه عرضة لعذاب الأسف على المجهول الذي لا يعوض. ولذلك فقد تركت أياماً كثيرة تمر دون أن أحضر درس آريل. فقد كنت أقف على بابه ساعات طويلة، مرتجفاً، قلقاً، متردداً في الدخول. وعندما كان تلاميذ ذلك اليوم يخرجون، كنت أسألهم عما قال المعلم، فلا أظفر منهم بجواب لأنهم كانوا ينظرون إلي نظرات تائهة كالخارج من الحلم ويبتعدون بخطى متثاقلة مضطربة. وهكذا فقد مضت أيام كثيرة تغير في خلالها مجرى حياتي، إذ أنني أضعت وساوس كتبي وعادتي بتقبيل أمي في كل صباح ومساء. حتى أني نسيت مراقبة طلائع النجوم عندما يصل الليل. وأخيراً بعد أن نفد صبري، وأصبحت عاجزاً عن مقاومة رغبتي أكثر من

ذلك، عزمت على لقاء الأستاذ وصباح الأمس دخلت مدرسته كالكثيرين غيري من المنتظرين على بابه. وكانت القاعة واسعة، لا شيء من الرياش فيها ولها نوافذ ترمي إلى أروقة طويلة وكان آريل واقفاً ومسنداً ظهره إلى الحائط، متدثراً، رغم الحر الشديد، برداء سميك وضخم. ولعله يرتديه ليخفي تحته جناحيه الطويلين، لأن عينيه كانتا ترسلان دائماً نحو السماء ومن فوق الجبال الرمادية العالية، نظرات جامدة، باردة خرساء. ومنذ دخلنا جميعاً، نظر إلينا واحداً واحداً، ثم أمر بطرد شابين أخوين كانا قد حاولا الاختفاء بين صفوفنا ولكن قوة نظراته في معرفة حالت دون ذلك فبعد أن خرجا وأمر بإقفال الباب، بقي صامتاً مدة غير وجيزة. لقد كنا جميعاً وقوفاً مثله ولم يكن يسمع في القاعة التي لا رياش فيها غير صوت أنفاسنا. وفجأة بدأ آريل في الكلام، فكان صوته ينحت الألفاظ نحتاً: اليوم، سأتكلم عن الإنسان وشقائه الأكبر! كم من مرة شفق عليكم! كم من مرة حذرتم! وكم من لعنات صبت عليكم! قد وصف البعض في كتبهم جراحكم الخفية، واحتقركم البعض وازدراكم. من شقائكم تولدت مراثي الشعراء، ونواح الباكين ومواعظ القديسين، وآراء الفلاسفة المتشائمين ولكن واحداً من هؤلاء لم يدرك شقاءكم الكبير العميق، شقاءكم الأبدي، الذي لا حد لا نهاية له. لعلكم تعساء لأنكم تموتون؟ ولكن كل شيء يموت ليولد من جديد في هذا العالم. لعلكم تعساء لأن أفراحكم قصيرة وآلامكم طويلة أبدية؟ ولكن الألم ينقذكم من التخمة، ويطهركم ويرفعكم إلى المعرفة. لعلكم تعساء لأن قدرتكم لها حدود؟ ولكنكم ستكونون أتعس وأشقى بكثير، لو أنكم ملكتم القدرة المطلقة. كلا! ليست هذه أسباب بؤسكم الحقيقي، إن شقاءكم غير هذا، وإلى الآن ما من أحد استطاع إظهار حقيقته لكم، وها هي: الإنسان أبكم! هذا شقاؤه الوحيد، وهنا مصيبته الأبدية الكبرى.

الإنسان أبكم! لا يستطيع النطق، ولا يعرف أن يجيب، ولو أنه تكلم لانتهى ألمه، وانتهى هذا العالم. ولكنه بقي إلى الآن أبكم، أبكم بعناد وغباوة، ولهذا السبب تستمر حياته الحاضرة وآلامه الأبدية. أنتم لا تفقهون أقوالي، وأنا شاعر بذلك. إني أشعر بالشك يجول في نفوسكم واتبين رغبة الابتسام تلوح على شفاهكم. ولكن سيفعم اليقين قلوبكم وستعجزون عن الابتسام عندما تفهمون ما أريد أن أقول. أعرف أن الكثيرين من بينكم يرون العالم عظيم الشبه بهم فيجدونه مملاً، كله عادات محزنة، متشابهة متكررة، وإني لأتبين من بينكم شاباً شاحب اللون يرتدي السواد. ولاشك أنه يقرأ اللورد بيرون فهو يميل للانتحار ويردد دائماً هذه الشكوى: دائماً الشمس ذاتها، دائماً النور ذاته، دائماً هي هي المياه الجارية، ووجوه القمر المتتابعة، والعصافير المغردة، والنساء العاشقات، والزهور المتفتحة الذابلة، ورنين أجراس الفجر والمساء، والبواخر التي تغادر الشاطئ لتعود إليه، وتعاقب الأيام والليالي، وكل هذا بدون نهاية، من ساعة الخلجان الأولى إلى ساعة النزع الأخيرة. وحتى الذي يجوب الأرض باحثاً عن شيء جديد، وشعور جديد ينتهي دائماً بالفشل، فالاستمرار يبعث الاستياء والضجر والحياة كلها وبجميع ما فيها من تعاقب الفصول والمواسم وتوالي الأعوام والعصور والرياح والعواصف تلخص هذه المراحلة المستمرة المتوالية وهي ولادة فألم فحب فتأمل فموت. هكذا يتكلم الناس بعد أن تنقض مدة طفولتهم فلا يدعوا أنفسهم يسكرون بألعاب الحياة الخطرة. وهؤلاء أيضاً لم يدركوا مصيبتهم الكبرى. يظنون أنهم تجرعوا كأس المرارة حتى الثمالة، بينما هم ما كادوا يقتربون من الحافة حتى ابتعدوا مسرعين، وفي نفوسهم رغبة واحدة هي إبادة نفوسهم، وإزالة الحياة والعالم معها. ولكن أنى لهم أن يهتدوا إلى طريق العدم ماداموا لم يدركوا بعد معنى الحياة وأسباب تواليها وتعاقبها على نمط واحد. الحياة جامدة، الحياة ذات نمط واحد وشكل واحد كل هذا حقيقة واقعة ولكن ما سبب ذلك إلا الناس أنفسهم البكم الذين لا يستطيعون الكلام وليس بوسعهم أن يجيبوا على ما يسألون عنه.

أعلموا إذاً يا تلاميذ هذا اليوم، إن العالم ما هو إلا خطبة طويلة مبهمة معقدة مرت عليها الأجيال دون أن يكون هنالك من يجيب عليها. هناك كائن غريب يريد أن يقول للبشر شيئاً، ولكنه لا يتكلم بلغة البشر قط. كائن يعبر عن ذاته بالرموز، وبواسطة ظواهر الأشياء والحادثات، الكون خطبته الأزلية، والأرض والشمس والنبات كلمته الغامضة التي تدوي جيلاً بعد جيل دون أن يسمعها أو يدركها إنسان. ولهذا السبب، لا تجهدوا أنفسكم بالبحث عن غيره، تتكرر هذه الخطبة، فيسمع منها كل إنسان حي الأشياء ذاتها، والأشياء الأبدية لا يمكن أن تتغير والعالم جامد كخطاب دائم التكرار، لأن ليس بينكم من يسمعه، ولأنكم جميعاً بكم لا تستطيعون الكلام. أنكم تنظرون إلى العالم، فتنسخوه، وتسخروه في حاجات وجودكم ولكنكم لا تفكرون بسماعه قط. إنه لا يخطر في بال واحد منكم أن العالم يكلمكم وإنه يقصدكم وينتظر جوابكم. أنتم تعتبرون العالم مستودع بضائع، أو أرضاً للحراثة أو مقاماً يسعد الإنسان فيه أو يشقى. ولم تفكروا ولو مرة واحدة أن للعالم صوتاً. صوتاً يكرر بإلحاح مطالب كثيرة، صوتاً يريد أن يصل إلى أسماعكم بل إلى أعماق نفوسكم، وهو صوت بائس تعب يستغيث ويتوسل طالباً جوابكم. لأي سبب تظنون أن الشحارير تردد دائماً الأغاني نفسها، والضفادع لا تبدل أنغامها الكئيبة، والرياح لا تغير ألحانها العاصفة والمياه خريرها البارد الأبدي؟ وإلى أي نهاية تظنون السنونو يرسم في طيرانه الخطوط التي لا تعد، والشمس التي تمر في كل يوم من فوق رؤوسنا على مهل متبعة نفس الطريق منذ ابتداء الأزمان؟؟ وما هي في عرفكم غاية الأشجار التي تزدهي في كل ربيع بالألوان ذاتها. إن كل ما يبدو ويتلاشى ثم يعود فيبدو من جديد، ما هو إلا قسم من هذا وعبارات تردد. لأن الذي يكلمكم صبور حليم لا يعد صمتكم وسكوتكم إهانة له. إنه يردد ويكرر إلى اللانهاية مطلبه منكم آملاً باليوم الذي سيمكنكم أن تجيبوه فيه، وفي هذا اليوم، اليوم الذي تجيبون فيه، ينتهي هذا العالم المتشابه وتنتهي معه حياتكم المملة المفعمة بالسآمة والضجر وعندئذ يبتدئ خطاب جديد، وتخلق أرض جديدة وسماء جديدة، وبشر جديد لأفراده قوة

أزلية لا تستقر على حال ولا تبقى أبداً على شكل واحد أو نمط واحد. أما الآن فعليكم أن تتكلموا. لقد غبرت آلاف السنين والصوت يخاطبكم وأنتم لا تجيبون. اجتهدوا منذ اليوم أن تعتبروا العالم كسلسلة من الكلمات، وأرهفوا إليها الإسماع والفكر، وحاولوا أن تفهموا هذه اللغة المبهمة. وعندما ينفك عنكم بكمكم وتحل عقدة ألسنتكم تصبح ساعات شقائكم الأكبر أثراً بعد عين. لتنفتح أمامكم صفحة جديدة من الكون. لقد أعطيتكم الخوف، فاخلقوا أنتم أنفسكم الأمل هذا كل ما سمعته من أمثولة آريل، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يردد بتتابع تلك الكلمات التي كانت تخرج قوية رهيبة من فمه؟؟ وعندما سكت لم يجسر أحد منا أن يرفع نظره إليه بل وجدنا أنفسنا في الشارع تائهين، مفكرين كالخارج من الحلم، أو كمن بعث حياً بعد أن كان ميتاً وأوقفني في الطريق رجل، وسألني مضطرباً عما قاله المعلم في ذلك اليوم، فنظرت إليه دون أن أراه، وتابعت مسيري دون أن أنبس ببنت شفة. تعريب: ع0 ج

مائة نقلة

مائة نقلة من كتاب نقل الأديب وهي ألف نقلة مقتطفة من ألف كتاب مؤلفه محمد إسعاف النشاشيبي حق الطبع والنشر ونقل شيء من هذا النقل محفوظ أهدي مائة النقلة هذه إلى مجلة (الثقافة) 94 - إن جد الأدب جد وهزله هزل قال ابن الخطيب البغدادي: قال خالد بن يزيد الكاتب: لما بويع إبراهيم ابن المهدي بالخلافة طلبني، وقد كان يعرفني، وكنت متصلاً ببعض أسبابه، فأدخلت عليه. فقال: يا خالد أنشدني من شعرك. فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس شعري من الشعر الذي قال فيه رسول الله: إن من الشعر حكماً وإنما أمزح وأهزل، وليس مما ينشده أمير المؤمنين. فقال لي لا تقل هذا يا خالد، فإن جد الأدب جد وهزله هزل. أنشدني فأنشدته: عش فحبيك سريعاً قاتلي ... والضنى - إن لم تصلني - واصلي ظفر الشوق بقلب كمدٍ ... فيك، والسقم بجسم ناحل فهما بين اكتئاب وبلى ... تركاني كالقضيب الذابل وبكى العذل لي من رحمة ... فبكائي لبكاء العذل فاستملح ذلك ووصلني. 95 - بألسننا تنعمت القلوب قال النضر ابن حديد: كنا في مجلس وفيه أبو العتاهية، والعباس ابن الأحنف، وبكر بن النطاح ومنصور النمري، والعتابي. فقالوا لمنصور: أنشدنا، فأنشد مدائح الرشيد. فقال أبو العتاهية لابن الأحنف: طر فنا بملحك. فأنشد أبياته:

تعلمت ألوان الرضى خوف عتبه ... وعلمني حبي له كيف يغضب ولي غير وجه قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب فقال أبو العتاهية: الجيوب من هذا الشعر على خطر، ولا سيما أن سنح بين حلق ووتر، فقال بكر: قد حضرني شيء في هذا. فأنشد: أرانا معشر الشعراء قوماً ... بألسننا تنعمت القلوب إذا انبعثت قرائحنا أتينا ... بألفاظ تشق لها الجيوب فقال العتابي: ولا سيما إذا ما هيجتها ... بنان قد تجيب وتستجيب قال النضر فما زلت معهم في سرور. وبلغ اسحق الموصلي خبرنا. فقال: اجتماع هؤلاء ظرف الدهر. 96 - وما أنصفت مهجة تشتكي هواها إلى غير أحبابها قال صر در: تموت نفوس بأوصابها ... وتكتم عوادها ما بها وما أنصفت مهجة تشتكي ... هواها إلى غير أحبابها فمن مخبر حاسدي أنني ... وهبت الأماني لطلابها فإن عرضت نفسها لم تجد ... فؤادي من بعض خطابها ولو شئت أرسلتها غارة ... فعادت إلي بأسلابها ولكنني عائف شهدها ... فكيف أنافس في صاحبها وأعلم أن ثياب العفاف ... أجمل زي لمجتابها تذل الرجال لأطماعها ... كذل العبيد لأربابها 97 - لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس سأل رجل جعفر بن محمد: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا نضارة؟.

فقال: لأن الله لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة. 98 - وكنتم قبله سراً يموت في ضلوع كاتم قال مهيار يخاطب العرب: ما برحت مظلمة دنياكم ... حتى أضاء كوكب في هاشم نبلتم به وكنتم قبله ... سراً يموت في ضلوع كاتم 99 - أحسن منها قال الفضل للمأمون وهو في دمشق مشرف على غوطتها بدير مران - يا أمير المؤمنين، هل رأيت لحسنها شبيهاً في شيء من ملك العرب (يعني الغوطة) فقال: بلى، والله، كتاب فيه أدب، يجلو الإفهام، ويذكى القلوب، ويؤنس الأنفس - أحسن منها. 100 - لولا دمشق قال أبو علي أحمد شوقي: بنو أمية للأنباء ما فتحوا ... وللأحاديث ما سادوا وما دانوا معادن العز قد مال الرغام بهم ... لوهان في تربة الإبريز ما هانوا لولا دمشق لما كانت (طليطلة) ... ولا زهت ببني العباس (بغدان) نزلت فيها بفتيان جحاجحة ... آباؤهم في شباب الدهر غسان بيض الأسرة باق فيهم صيد ... (من عبد شمسٍ) وإن لم تبق تيجان تمت محمد إسعاف النشاشيبي

بسيشه والحب

بسيشه والحب صورة النفس من على وكمال ... ورؤى الجسم في تناهي الجمال حسدتها فينوس بالحسن لما ... شاركتها في فتنة ودلال مدّ كوبيد قوسه فرآها ... لا عز الجمال خير مثال فرمى قلبه واصمي عليه ... في هواها ما يحتوي من نبال عشق بسيشة الغرام وهامت ... بالأماني نفسه والوصال لمس بسيشة الشعور بشيء ... مر في نفسها بكل جلال غاب عنها وعاد خفقا بقلب ... وكلالا في العزم والأوصال علمت حسها وروعة ومأتا - هـ وعيت في وصفه بمقال فزعت منه مثل فزعتها من ... جن ليل الجحيم والأغوال فأتاها كوبيد بالحب روحاً ... وسلاماً للقلب والبلبال رفعتها إلى السماء يداه ... حيث يخلو الغرام من عذال العذارى إذا خشين من الحب ... فقد صرن عنده في الحبال والهوى كالقضاء يهوي على المرء ... كسهم مسدد الإرسال رب عشق كأنه الموت يلقى ... ووصال كمذبح وقتال وشراك الغرام تجني فكم ضلت ... فأودت بشادن وغزال أنشد العيش في العباد عن الحب ... وحاذر من حتفه المغتال أو تقدم إليه أعمى ضعيفا ... وانتظر ما تجيء فيه الليالي دمشق: زكي المحاسني

شذرات عن مبعث التفكير وطرائقه

شذرات عن مبعث التفكير وطرائقه يظن الكثير من الناس أن العقل البشري يبتكر الأفكار وإن الدماغ يوجد النظريات ويخلق الاختراعات على مختلف أنواعها من لاشيء والحقيقة خلاف هذا إذ أن ملاحظات البسيكولوجيين الدقيقة والدرس الاختباري بمراجعة تاريخ الفكر البشري توضح أن الابتكار نادر الوقوع وأن العمليات المحسوسة تسبق النظريات التي يزعمها البعض مبتكرة. خذ مثلاً على ذلك فمن الرواية أو كتابة القصص الخيالية فإن كل جزء من القصة أو واقعة من وقائعها يؤلف بذاته حادثة اعتيادية مألوفة عندنا ولكن التصرف بترتيب هذه الحوادث يوجد رواية جديدة بمجموعها لا مثيل لها. أو خذ علم الحساب والجبر والهندسة والميكانيك أي العلوم الرياضية على اختلافها التي يتخذها البعض دليلاً قاطعاً على ابتكار العقل وقوته المولدة، ومحص طبيعة هذه العلوم تجد أن أساساتها وقواعدها موجودة في هذا الكون إنما تتجلى للعقل على فترات بشكل ملحوظات أو وقائع تحدث حوله أو نتائج لبعض الأفعال التي يفعلها إذا أضفت الخمسة إلى الثلاثة يصير مجموع العددين ثمانية فهذا ليس من مبتكرات العقل بل هو أمر موجود وثابت بصرف النظر عن وجود الإنسان وبالرغم منه لكن العقل البشري امتاز باكتشافه هذه الحقيقة وإدراكه إياها. وكثيراً ما تكون الصدف هي السبب في الاختراع أو الابتكار مثاله بينما كان أحد المصورين يحمي زجاجة على قنديل لاحظ أن وضع الزجاجة حول النور جعله أكثر بهاءً ومنع الدخان من القنديل فاخترع على أثر هذه الصدفة استعمال البلورات على قناديل البترول وتشبه حكاية اختراع زجاجة القنديل حكاية اختراع الورق النشاف وهكذا فإن اختراعات أخرى كثيرة مدينة للصدف بوجودها. أما المكتشفات فما من أحد ينكر أن ليس للعقل البشري يد في إيجادها. وإن ما ذكر عن المبتكرات الرياضية والمكتشفات يصدق على النظريات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي ليست سوى سرد وترتيب لحوادث هذه النظم الراهنة التي نشأت بالتدريج وبصورة غير محسوسة وفقاً لبيئة كل شعب وظروفه ولذا ترى أن قوانين كل شعب وعاداته تتلاءم مع حالته الفعلية الراهنة فلو كانت القوانين سابقة لاعتياد الشعب السلوك بموجبها لحدث عند تطبيق كل قانون اعتراضات شديدة ومقاومات عنيفة كما هي الحال حينما تحاول إحدى الحكومات تطبيق قوانين حكومة أخرى على شعبها مع أن ظروف الشعبين قد تكون مختلفة فيما بينهما أشد الاختلاف.

والفلسفة أيضاً لا تتضمن أي ابتكار أو إبداع، إن هي إلا إدراك شيء من الحقيقة والعلل المختبئة تحت الظواهر وهذا ما يجعلها تكون مدركة من القليلين فقط إنما الإدراك شيء والإبداع شيء آخر. وإذا استشهدنا بشيخ الفلاسفة وبأعظم رجل يمكن للقائلين بالابتكار الاستشهاد به وهو أفلاطون ورجعنا لأهم مؤلفاته وأشهرها وهي الجمهورية التي يحسبها الكثيرون مثالاً واضحاً عن مقدرة البشر على الابتكار نجد أنها من أولها لأخرها. وصف لحالات وترتيب لجزئيات عهدها أفلاطون وعرفها الأثينيون معه إذ أن قوام هذه الجمهورية هو وصف النظام الاجتماعي والسياسي المتبع في مدينة اسبرطة الإغريقية التي اشتهر أمرها في جميع اليونان وما القياس العلمي العالي الذي وضعه أفلاطون لأهل جمهوريته والصحة البدنية التي طلبها منهم إلا بيان لما كانت عليه أثينا في ذلك العصر من روح علمية وتعلق بالرياضة البدنية. وهكذا هي الحال في النظم التي ذكرها كتاب الرومان والفرس والعرب وغيرهم من كتاب الشعوب القديمة والحديثة. بقي معنا العقائد الدينية والآراء اللاهوتية أو آراء ما وراء الطبيعة وهذه لا يمكننا بتاتاً نسبتها لابتكار البشر إذا كنا من رجال الإيمان كما أنه يمكن للطبيعيين والملحدين نسبة الكثير منها لعوامل بسيكولوجية نشأت كرد فعل لما كان يحف الإنسان القديم من المخاوف والأخطار، أو للقياس والتشبيه على البشر وقد استعملها، على رأيهم، أصحاب الكتب الدينية عندما تكلموا عن الإله والسماء والثواب والعقاب وبالفعل فإن آلهة بعض الشعوب الوثنية القديمة كزفس وهرمس عند اليونان. كانت كالبشر تفتكر وتتصرف. إلا أن الطبيعي لا يمكنه أن يعلل كل ما في الدين واللاهوت بالبسيكولوجيا والقياس بل يبقى لديه أمور كثيرة لا يمكنه تعليلها بهما. والآن ننتقل لطرائق التفكير عند الشعوب المختلفة أو عند الشعب في مختلف أدوار حضارته فالإنسان عند ابتداء تفكيره أو عندما كان أسلوب تفكيره لا يزال على الفطرة كان طليقاً حراً يفكر كيف يشاء دون رعاية ضوابط أو قيود للفكر فتلذ له الأفكار الدينية التي لا يعلم لها قواعد وينصرف لطرق الأبحاث الأخلاقية والاهتمام بأدب النفس وبالسلوك ويولع بسرد حوادث الماضي وسماعها وبقصص الحروب وبطولة المحاربين ويكثر من الشعر الحماسي ومن الأدب المجازي ومن الوصف الخيالي الذي لا ينطبق حقيقة على الموصوف

فيستعير ويشبه ويتخيل كما يرى ثم مع رقي الشعب ونمو المدن واحتكاك الأفكار ووقوع الجدل والمماحكة نتيجة التجمع والائتمار والخصومة أمام السلطة يرى المرء أنه بحاجة لاستعمال البرهان لإظهار أفضلية رأيه ودحض خصمه ونيل مأربه فتظهر القواعد المنطقية وتسن القوانين وتكيف وتعدل بحسب مقتضياتها ويتخذ للعلوم مع تقدمها قواعد يبحث فيها بموجبها ويتطور الأدب من طور المجاز والوصف الخيالي والاسترسال وتطبيق قواعد البديع إلى دور الإيجاز والتمسك بالحقائق على قدر الإمكان وهكذا فالشعوب في أدوار حياتها كالفرد في أدوار حياته تنتقل من اللهو إلى الجد ومن الاستعاضة عن الحقيقة بخيالها إلى السعي الحثيث لإدراك الحقائق المطلوبة والتمتع بها. وعليه فأنت ترى كيف أن اليونان شغفوا بالفلسفة النظرية وبأدب النفس وبالبطولة الرياضية وسرد قصص الأبطال والأقدمين والتحدث عن الآلهة بينما الرومان الذين جاءوا بعدهم وابتدأوا حيث انتهى اليونان تمسكوا بأهداب الجد وقاموا بالفتوحات التي أشبعت أطماعهم الاستعمارية ونظموا علم الحقوق من أحكام وأصول خير تنظيم وشكلوا الأنظمة الحكومية التي تكفل حسن سير سياستهم. وكذلك لو أخذنا شعباً واحداً ورافقنا سير حضارته نجد أنه كالفرد ينتقل من حال التفكير الطليق الساذج إلى التفكير المنطقي المحدد بالقواعد والقيود وينتقل من الاهتمام بظواهر الحياة وملاهيها إلى الاهتمام بحقائقها وإلى الجد فيها ومن يدرس الأدب الفرنسي خلال الستة قرون الماضية، والأدب الانكليزي أو العربي أو أدب أي أمة عاشت لغتها عمراً طويلاً يرى هذا الانقلاب بأجلى وضوح. فالأمم تسير في سبيل الرقي الفكري ووجهة سيرها من العمل إلى النظر فتنتقل من التجربة إلى التعليل ومن الإسهاب إلى الإيجاز والرصانة والجد في الحياة. المحامي شكري جبور

أميرة السياسة

أميرة السياسة السيدة براين أوين وزيرة أمريكا الخصوصية في الدانيمرك السيدة روث براين أوين هي من شهيرات النساء في هذه السنين الأخيرة ومن المعروفات في ميدان السياسة ومفاوضاتها في أمريكا وأوروبا وقد عقدت مجموعة له موا فصلاً عن حياتها وأعمالها نلخصه فيما يلي: قالت السيدة براين أوين في حديث لها عن المشاغل السياسية والولع بأعمالها التي لم تعد تجد سبيلاً للخلاص منها إن الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون وذلك ليتبين كيف انتقل إليها هذا الولع في الأعمال السياسية ومشاغلها عن أبيها المستر جانينغ براين أوين الذي لم يغادر جامعة نيبرسكا إلا ليكون رئيساً للولايات المتحدة وكانت ابنته إذ ذاك في الخامسة من عمرها فلم يك وهو على ما هو عليه من الإعجاب بها يستطيع إلا أن يرافقها إلى المجلس النيابي الأمريكي حيث كانت تجلس إلى جانبه وهنالك في ذلك الجو المضطرم بعواصف السياسة وجد لها العنيف وضجيجها المستمر نشأت الفتاة وترعرعت. ولقد كانت لا تفقه بالغالب ما يجري أمامها من الأحاديث ولكنها كانت دائماً تتابع بنظراتها إياها النائب المحامي الذي كان يمتاز بفصاحته وبراعته في الجدل وإدلاء الحجج والبراهين ولقد كان ذلك معواناً على نبوغها السياسي في الأتي فساعدتها تربيتها الاجتماعية على التصرف في مصاعب الأمور وحل المعضلات والانتصار على أخصامها السياسيين في أحرج المواقف. وكأنها عزمت على اختيار السياسة سلكاً منذ الصغر فأعدت ما استطاعت وهيأت لها جميع ما تحتاجه من المعارف والصفات النفسية عدا ما كانت عليه منذ صباها من النشاط وقوة العزيمة واللباقة والبراعة في الحديث تلك الصفات التي ظهرت بوادرها لرفيقاتها منذ دراستها الثانوية في دير (مونتيتسللو) في سنة 1901 ثم في جامعة نيبرسكا التي درس أبوها فيها. ولم تحل دروس الفتاة الصعبة في الجامعة دون زينتها وتأنقها واعتنائها بتربية جسمها فكانت صبوحة الوجه رشيقة القامة جريئة في الكلام فاتنة اللهجة عذبة الصوت لها جميع ما تحتاجه من الصفات للنبوغ والتقدم في جميع الأوساط التي عملت فيها من بعد. ولقد قضت زمناً تعمل مع أبيها ككاتمة لأسراره حينما كان رئيساً للجمهورية في سنة

1908 ثم لم تلبث أن انصرفت إلى معالجة الشؤون العامة الأميركية والتدخل في كثير من القضايا الاجتماعية والسياسية ثم حدا بها صباها القوي وشبابها النشيط أن تبعث بنظرها إلى خارج البلاد الأميركية وهل ثمة ما يحاول دون أسفار من كانت مثلها لها ما تريد من جمال وثقافة وذكاء وغنى؟ ولقد عاشت مدة في ألمانيا درست خلالها الموسيقى والغناء وعرفت كثيراً من أسرار الروح الألمانية ثم انتقلت إلى انكلترا فأقامت فيها سنتين ثم غادرتها فقضت ثلاث سنوات في بلاد الجاماييك وثلاث سنوات أخرى في مصر ثم قامت بعد ذلك بجولة حول الأرض قضت خلالها مدة في الهند ثم في سيلان ثم في اليابان والصين ومختلف بلاد الشرق الأقصى ولم يكن شأنها في جميع هذه البلاد التي مرت بها وسكنتها شأن الدارس النبيه المتتبع وهكذا فقط تعلمت ليس من الكتب فقط بل من الحياة نفسها إن الحياة والعقل والعالم بأسره ليس لها لون واحد بل ألوان مختلفة متباينة وكذلك الحب أيضاً فتزوجت ثم طلقت زوجها الأول ثم تزوجت بالماجور اوفن أحد ضباط الجيش البريطاني فرافقته إلى فلسطين خلال الحرب العامة وكانت معه مثال الزوجة الصالحة على أنها لم تنس قط القضايا العامة في بلادها الأمريكية ولم تنفك عن دراستها والاهتمام بكل شأن من شؤونها. وعندما عادت مع زوجها الضابط الجريح إلى فلوريد في أمريكا انصرفت إلى السياسة والأشغال بها كما كانت تطمح إلى ذلك منذ زمن بعيد وقد ساعدها على العمل أن أولادها الأربعة الذين أحسنت تربيتهم وأحاطتهم بعطفها وحنانها كبروا وأصبحوا بغنى عن عنايتها فاستطاعت هي أن تكرس وقتها إلى الاهتمام بالشؤون المحلية العامة التي ما لبثت أن أصبحت في طليعة من يديرونها فكانت رئيسة كثير من المؤسسات المدنية والدينية والتعليمية أو العائدة لشؤون التربية وعدا ذلك فقد كانت من العاملات في عصبة أسعار الحاجيات وجمعية الآباء والمعلمين وجمعية لتنظيم المسارح والجامعة الرسمية وعصبة المحاضرات العامة والمجلس الوطني النسائي وعصبة الأدبيات الأمريكيات ومجلس العناية بالأطفال وغير ذلك من مختلف المؤسسات والجمعيات العلمية والأدبية التي ساعدت في تأسيسها أو عملت في إدارة شؤونها، وهكذا فقد وقفت لأن تفسح المجال وتهيئ ما يتطلبه انتخابها في مجلس النواب من الشهرة وسعة الإطلاع وقد ساعدها على ذلك أيضاً ماضيها الذي مابرح ماثلاً لأعين أعضاء مجلس الشيوخ الذين ما زالوا

يذكرون تلك الفتاة التي كانت ترافق أباها في مجلس النواب وتجلس دائماً إلى جانبه هادئة رصينة. على أن شهرة أبيها لم تكن العامل الوحيد الذي ساعدها على النجاح فقد استطاعت هي نفسها أيضاً أن تثير إعجاب الذين انتخبوها وإن تحرز رضاء واحترام أعضاء مجلس الشيوخ وثقتهم حتى استطاعت أن تنال مكانة أسمى بكثير من المكانة التي يحرزها الأعضاء الأربعة من عائلتها في المجلس الوطني الذين يعدون من المشاهير وكبار الأغنياء في أمريكا. وفي الحقيقة أن السيدة براين هي أميرة السياسة الآن ورغماً عن التسعة والأربعين عاماً التي عدتها حتى اليوم فهي ما برحت متأنقة ذات قوام أهيف ورداف منسجمة يسترها ثوب ملتصق في انسداله وانتظامه جمال وفخامة. وكثيراً ما تتحدث السيدة أوين فتلقى بنظراتها إلى الأرض مطرقة مفكرة كأنها لا تريد أن ترى ما يتركه حديثها العذب وصوتها الرنان من أثر في نفوس السامعين ولكنها لا تلبث أن تعود للتحديق في وجه محدثها فتبعث إليه بنظرات تشع من أعين خضراء رمادية لا يسعه أمام قوتها إلا أن يقف موقف الاهتمام والتجلة والاحترام. وليست السيدة أوين ممن يطلبون الشهرة وإظهار مواهبهم عن طريق السياسة فهي ولوعة بالسياسة تكاد لا تستطيع الانصراف عنها ويدعونها هذا الولع إلى العمل وتحمل المتاعب الجمة فتبذل من الجهود شيئاً كثيراً لأنها تعتقد أن المرأة، حتى في البلاد الأميركية جنة النساء، يجب أن تعمل أضعاف ما يعمله الرجل لتصل إلى النتيجة نفسها. على أن السيدة أوين لا تخاف العمل ولا تضيق ذرعاً به يساعدها على ذلك الألعاب الرياضية التي مارستها في صباها وما عليه جسمها من سلامة وقوة فهي نشيطة حمولة صبورة جريئة مقدامة استطاعت أن تلقي خلال المعركة الانتخابية الأخيرة التي فازت بها ستمائة خطاب وإن تفاوض بنفسها تسعين رئيساً للتحرير في منطقة انتخابها الأمر الذي عجز عنه أقوياء الرجال من أخصامها في السياسة. ولقد كان من المعقول جداً بعد نجاحها الباهر في معالجة الشؤون الوطنية الداخلية أن تنصرف إلى السياسة الخارجية التي عادت فلقيت فيها النجاح نفسه فهي اليوم وزيرة الولايات المتحدة في بلاد الدنيمرك فائزة ناجحة في عملها وموضع إعجاب أبناء الدانيمرك من جهة ومواطنيها الأميركيين من جهة ثانية وقد كادت الكلمة أن تتفق على حب واحترام هذه المرأة التي استطاعت وهي جدة تعيش

لجانب أبنائها وأحفادها أن تتحلى بكل ما تتصف به المرأة الفاتنة المحبوبة. وهي ترى أن في السياسة مجالاً واسعاً لعمل النساء ولذلك فهي تربي أصغر بناتها هيلانة التي لها الآن من العمر ثلاثة عشر عاماً تربية عملية وتدربها منذ الآن على الاشتغال بالمسائل العامة ولعلها تجد في ذلك ما بماضيها القديم فتلقى في هذه الابنة الصغيرة صورة مصغرة عن نفسها هي حينما كانت في هذه السن. ومن رأيها أن المرأة التي تود الاشتغال في السياسة ومعالجة القضايا العمة تحتاج لجسم سليم قوي اعتاد الرياضة وألفها كما تحتاج لعقل سليم يصرف لكل عمل ما يحتاجه من الجهد بنسبة صحيحة عادلة، ولذكاء يساعد على التصرف بالأمور وعلى الخروج من المآزق الحرجة، ولمزاج هادئ رصين يستطيع الهزوء والتنكيت بلباقة وبراعة، ولمقدرة في الكلام وبراعة في الحديث. وإذا استطاع أحد أن يزعم أن أكثر النساء ليس فيهن هذه الصفات فهو لا يستطيع أن يقول ذلك عن السيدة براين أوين أميرة السياسة التي أظهرت للناس في هذا العصر صورة جديدة من صور المرأة الأمريكية التي يحق للولايات المتحدة أن تباهي وتفاخر بها. كاظم الداغستاني

بول فاليري

بول فاليري للكاتب الفرنسي اندره موروا ديكارت وفاليري ما أشد الشبه بين فاليري والفيلسوف العظيم ديكارت، فقد وصل الاثنان إلى النثر من طريق الشعر والعلوم وأحب كلاهما في صباه الشعر حباً جماً. ولم يشأ ديكارت أن يحترف في بادئ أمره مهنة الأدب بل تطوع في إحدى فرق الجيش ليسيح في أرجاء العالم الواسع طمعاً أن يكون أحد المتفرجين على مشاهد الألعوبة الإنسانية التي تمثل على مسرح الوجود لا أن يكون من ممثلي هذه الألعوبة. وفاليري أيضاً أبى إلا أن يكون أحد المتفرجين على مناظر العالم. قضى فاليري مثل ديكارت عشرين عاماً في التأمل والتفكير ولم يذع الاثنان للناس نتيجة تأملاتهما إلا بعد انقضاء عشرين عاماً من عزلتهما، والاثنان شديدا الشبه في هذه النواحي الثلاث: قوة التفكير، ومحاولة تجديد الفكر الإنساني، وإعادة بنائه على أسس جديدة وقويمة. حياة الرجل ولد فاليري في مدينة سيت بالقرب من مونبليه سنة 1871 وتلقى دروسه الابتدائية في مدرسة بلده ثم انتقل بعدئذ إلى مونبليه وقد ترك لنا ذكريات طريفة عن حياته الدراسية وآراء قيمة في الدرس والتعليم تفسر لنا نزعته الخاصة في الحياة وتكشف لنا عما انطبعت عليه شخصيته الفذة: لنا أساتذة يتسلطون علينا بالإرهاب ونظرتهم إلى الأدب هي نظرة عسكرية محضة. وقد خيل لي أن للسخافات مكاناً واسعاً في البرامج المدرسية، وإن ضعف النفوس ونقص الخيال هما من العوامل الفعالة في نجاح الكثيرين في المدرسة، ولذا نشأت عندي روح معرضة للتعليم في زماننا كان لهذه الروح المعارضة للتعليم أثرها في تكوين فاليري ودفعه للارتفاع عن المستوى العادي والخروج عن حيز المجموع ولا عجب إذا أدت به هذه الروح المتمردة إلى رفض هذه الحقائق التي يدعوها رسمية والتي يقدمها الأساتذة إلى تلاميذهم عادة وإلى إعادة بناء صرح حياته الفكرية من جديد.

شرع فاليري في العمل، ليس كما كان يرجوه منه معلموه إذ كان يحضر ظاهراً دروس الحقوق في جامعة مونبليه وكان في الحقيقة مكباً على دراسة الشعراء الجدد أمثال بويلير وفيرلين ورامبو ومالا وقد طلع فاليري عقب هذه الدراسات بأفكار طريفة ملخصها أن الفن هو الشيء الوحيد الثابت في هذا العالم وإن فلسفة ما وراء الطبيعة نوع من الهذر ولغو الكلام وإن العلوم دائرة ضيقة لا يستطيع الإنسان أن يظهر فيها مواهبه وما خصته به الطبيعة من مزايا عاليةوإن الحياة العملية تدهور وسقوط تؤدي غالباً إلى عيشة قلقة مضطربة. ظل فاليري على اتصال دائم مع رجال الأدب أمثال بير لويس صاحب آفروديت أو الحب الإغريقي واندره جيد الكاتب العظيم وقد نظم فاليري حينئذ أشعاراً نشرت في إحدى المجلات الفتية فلاقت رواجاً سريعاً وقد حاول فاليري أن يكون بعدها كاتباً محترفاً ولكن هذه المهنة كانت كما يقول فوق طاقته ودون قواه ووسائله إذ كان ينزع مثل غوته شاعر ألمانيا الأكبر أن يجعل لحياته هدفاً يصعب الوصول إليه ولا أدل على مزاج الرجل وما انطبعت عليه نفسيته من هذه المحادثة القصيرة التي جرت بينه وبين اندره جيد إذ قال هذا أثناء الحديث سأقتل نفسي لو منعني أحد عن الكتابة. أما أنا، أجاب فاليري، سأقتل نفسي لو أرغمني أحد على الكتابة!! قضى فاليري سنة في الخدمة العسكرية فأعجب بروح النظام السائدة فيها كما أعجب ستاندال من قبل بالقانون المدني وترتيبه المنطقي. اجتاز فاليري سن الحداثة ليس مثل اندره جيد الذي تحرر عن طريق لذة الحواس ولا مثل بايرون عن طريق الشعر والإلهام أو مثل عامة الناس عن طريق العمل ولكنه تحرر مثل زميله ديكارت عن طريق الفكر وتقوية دعائم الشخصية فقد أقام فاليري في باريس في غرفة كان يسكنها سيد الفلسفة الوضعية أو غوست كونت وهنا في هذه الغرفة الحقيرة صار يسود عدة صفحات تدور معظمها على مواضيع فلسفية بحتة كفكرة الزمان والمكان والأحلام والانتباه ونصيب العلوم من الحقيقة وسير الفكر الإنساني في مدارج التطور والارتقاء. ماذا وجد فاليري في جهاده الفكري؟

وجد طرائق غير عادية تمكننا من الوصول إلى نوع من الدقة في التفكير واستطاع بما حذفه من الكلمات المبهمة التي لا تؤدي المعنى بتمامه أن يوجد مفردات عديدة تفي بهذا الغرض بعد أن أعمل قلم التهذيب فيها وحذف كل ما وجد نقصاً في تعريفها. لقد أصبت بمرض الدقة ونزعت نفسي إلى تفهم الأشياء تفهماً كلياً وغدا كل ما هو سهل في نظري محتقراً ومذموماً فأسأت الظن بالآداب وكل ما كان رقيقاً من الأشعار وهجرت الفلسفة كلها واعتبرتها من الأشياء المحتقرة التي تشمئز نفسي منها. طريقة الرجل: الدقة ناتانائيل! سوف لا أعلمك التآلف بل الحب! بمثل هذه الكلمات يخاطب اندره حيد تلميذه في كتاب طعام الأرض ولو قدر لي اكتب عن طريقة فاليري في الكتابة لما وجدت أحسن من ترديد هذه الجملة: اركسيماك! سوف لا أعلمك الوضوح في الكتابة بل الدقة. يجد معظم الناس كتابة فاليري غامضة ولم يكن هذا التذمر إلا ليلاقي استغراباً ودهشة من الشاعر العظيم فكان يجيب بقوله يسوؤني تعذيب عشاق الوضوح والنور إذ لا شيء يجذبني مثل الوضوح في الكتابة وأن ما ينسبونه إليّ من الغموض هو ضعيف بجانب الحقائق التي اكتشفتها دوماً. . . يا صديقي أن لي فكراً لا يقنع بحقيقة الأشياء إلا بعد التحقق منها. ومن الغريب أننا إذا تدبرنا الكتب التي عرفت بسهولتها وجدنا أنها تحتوي شيئاً من الوضوح الغامض ولم يتردد فاليري في خطابه إلى الأكاديمية من الإشارة إلى الوضوح في كتابة صاحب الزنبقة الحمراء قائلاً: أحب الناس بسرعة كتابة فرانس لأنهم استطاعوا أن يتذوقوها بدون أدنى مجهود فكري إذ كانت هذه الكتابة تخدعهم بمظهرها الطبيعي الجذاب وإن كانت تخفي تحت فكرة مقصودة واضحة. في كتب فرانس أثر لفن التقاط الأفكار والمسائل الصعبة. وقد لا يستوقف القارئ عند قراءته كتب فرانس سوى هذه الأعجوبة أنه لا يشعر بأدنى مقاومة أثناء القراءة. الوضوح أمنية لذيذة توحي لنا أننا نتثقف بدون عناء وأننا نتذوق الكتب بدون نصب وأننا نفهم بدون شدة وأننا نتمتع أخيراً بمشاهد الرواية دون أن ندفع فلساً واحداً. ما أسعد هؤلاء

الذين كفونا مؤونة التفكير وبسطوا بيد خفيفة ستاراً براقاً على صعوبة الأشياء. لقد أجاز فاليري لنفسه حينما نظم الشعر أن يكون غامضاً أو بالأحرى موسيقياً كما أجاز ذلك لبقية الشعراء ولكنه إذا أراد أن يكتب نثراً أو إذا حاول أن يبني أفكاراً متسلسلة تعمد الدقة في الكتابة فهو لا يستعمل الكلمة قبل التحقق من معناها التام وتعريفها الشامل والخلاصة إنه يريد أن يكون لكتابته نصيب من الدقة يعادل نصيب الأعداد من الدقة الرياضية. وهكذا ترى أنه لاشيء يوقف فاليري في جهاده في سبيل الدقة لأن جهاده الفكري هذا ينطوي على شجاعة وثبات نادري المثال فهو لا يقبل الحقائق السهلة ولا تخدعه الآراء العامة ولا يعترف بسلطة الأخصائيين فهو يلقى عن نفسه إزاء كل مسألة هذا السؤال: ماذا يعني تماماً الشاعر والكاتب؟ وهو شديد الشبه بديكارت إذ ينقب في كل بحث ويفرض على نفسه هذا الشك المنظم وأراني مخطئاً بقولي بفرض لأن هذا الشك من مميزات فاليري وخاصة من خواص عبقريته النادرة المثال. فاليري والتاريخ أساء فاليري الظن كما رأينا بالآداب والكتاب والفلسفة وقال إنها نوع من الهذر لا ترتكز على شيء من الحقيقة وأخيراً أساء الظن بكل ما فرضه عليه الغير من الحقائق الجاهزة التي سلم بها معظم الناس. والتاريخ من الحقائق الرسمية التي يخشاها فاليري فكان فاليري أحد الذين قاموا ضد النظريات المعروفة بالقوانين التاريخية وهي التي تنص أنه في أمكاننا استنتاج المجهول من المعلوم أي الاستدلال من الماضي عن حوادث المستقبل فيرى فاليري أن التاريخ من 1 - الفنون التي ابتدعها العقل الإنساني ولا شيء يوازي خطره على سير الحضارات الإنسانية فهو يدفع الشعوب إلى التنعم بالماضي ويسكرهم بحوادثه الخداعة الكاذبة ويقلق راحتهم ويدفعهم نحو هذيان العظمة أو الاضطهاد ويجعل الشعوب المغلوبة صعبة القياد. ويعتقد فاليري أيضاً أنه من الجنون الصرف أن يؤمن في استطاعة التاريخ إطلاعنا على حوادث المستقبل ولم يتردد فاليري في خطابه في حفلة توزيع الجوائز على طلبة إحدى

المدارس من القول إنه لما كان في سنهم عام 1887 كانت صورة العلم تختلف تماماً عما هي الآن من الاضطراب وعدم الاستقرار هل كان في مقدور أعظم السياسيين في ذلك الوقت أن يتوقع أن أوروبا ستصبح على هذه الحالة وما أظن أنه مهما بلغت القوانين التاريخية من الدقة أن تعطينا صورة ولو قريبة عما سيكن عليه العالم سنة 1935. تحكم العلوم الصحيحة من المستقبل وذلك ضمن قواعد دقيقة وتبعاً لقوانين محدودة أما في التاريخ فليس من الممكن أن نحكم على المستقبل ولذا غدت كل التنبؤات من قبيل التضليل لأن التاريخ ليس بعلم بل هو فن لكل الفنون يجب أن يتبوأ مكانه بين آلهات الشعر والخيال. وما هذا الاعتقاد والإيمان بالتاريخ إلا وليد الفلسفة الوضعية التي ظهرت من القرن التاسع عشر ذلك القرن الذي أسكرته انتصار العلوم التجريبية فقد جرب أن يطبق قواعد هذه العلوم التجريبية على العلوم الزائفة المدعوة بعلمي الاجتماع والنفس فكان نصيبه الفشل التام. فاليري والفن قد يكون من الخطأ أن يعتقد أن العالم مركب من اصطلاحات قائمة بين أفراد البشر لأنه لا يوجد حقيقة أقدم من الاصطلاحان التي ابتدعها العقل البشري ولكن كيف للبشر أن يدرك هذه الحقيقة ما دامت غريبة عنه؟ يجيب فاليري كما أجاب بروست من قبل: في مقدورنا إدراك الحقيقة بالفن ويمكن إدراكها بواسطة الشعر - على شرط أن نفهم الشعر بمعناه الواسع فالشعر يسمح للفكر أن يتصل بالحقيقة الأولية التي سبقت الدور الذي اكتسبنا به معارفنا ومعلوماتنا. لأن دور الشاعر يتلخص في إعطاء الكلمات قيمتها الموسيقية وبأن يخلق حول هذه الكلمات السر العجيب الذي كان يحوطها أثناء ظهورها وولادتها. لا ينظم الشاعر قصيدته بالأفكار ولا بالعواطف وإنما ينظمها بالكلمات. فقد شبه فاليري الشاعر (بعامل) ذي وجدان حي وفكر منظم فهو (يركب) قصيدته كما يركب العامل في المصنع الآلة من الآلات التي هيئت لعمل من الأعمال - أعني تركيب القصيدة يجب أن يخضع لقواعد معروفة ومحدودة لآن حماسة الجمال التي يسعى وراءها الشعراء والتي جربوا تعريفها لم تكن إلا عاطفة استحالة التحول.

ولا يعزب عن البال أن مثل هذه الآراء تطرد فكرة الاستيحاء في الشعر لأن فاليري يهزأ من الاستيحاء ويعتقد أنه بغير مركز الشاعر وينقله من دور عامل إلى دور شاهد. إبراهيم الكيلاني

مدام كوري

مدام كوري نعت الأخبار العالمة الكبيرة مدام كوري. وليس من قراء الثقافة من يجهل هذا الاسم. فإنه مقترن باكتشافٍ هو بلا شك من أعظم اكتشافات القرن العشرين والسنين الأخيرة من القرن التاسع عشر، أعني به اكتشاف عنصر الراديوم الذي ألقى ضوءاً ساطعاً على نواحي هامة من علم الطبيعة والكيمياء كظاهرة الإشعاع وبناء الجوهر الفرد. هذا فضلاً عن فائدته العملية الإنسانية في معالجة بعض الأمراض المستعصية كالسرطان. ومن يتكلم عن تاريخ هذا العنصر العجيب وظواهر الإشعاع فهو يتكلم حتماً عن تاريخ حياة مدام كوري وزوجها. وكذلك فإن تاريخ حياة هذين الزوجين يصح أن يكون تاريخ الراديوم. ولدت مدام كوري، واسمها قبل الزواج ماري سكلودوفسكان في فارسو عاصمة بولونيا في سنة 1867. وقد أرغمت وهي تلميذة على ترك بلادها لاشتراكها في جمعية ثوروية للطلاب. فجاءت باريس وانخرطت في سلك طلبة السوربون ثم اقترنت بالعالم الفرنسي الشاب بيير كوري وأخذت تدرس معه ظاهرة الإشعاع التي كان قد اكتشفها حديثاً العالم الفرنسي بيكريل في عنصر الأورانيوم. ويستخرج هذا المعدن من تراب نادر الوجود اسمه بخ بلند وبينما كان الزوجان يحاولان عزل الاورانيوم عن المواد الغريبة المختلطة به لاحظا لشدة دهشتهما أن هذه المواد أكثر أشعاعاً من الاورانيوم نفسه. فشكا في وجود عنصر آخر ذي خواص إشعاعية قوية. وأخذا في البحث عنه. وبعد أتعاب شاقة طويلة لا يسعنا الآن وصفها توصلا إلى عزل عنصر جديد يفوق بقوة إشعاعه معدن الاورانيوم نفسه وأطلقا عليه اسم الراديوم. وقد اكتشف الزوجان فيما بعد عدة عناصر أخرى مشعة منها العنصر الذي سمته مدام كوري يولونيوم أكراماً لوطنها الأصلي0. وقد انكب العلمان منذ هذا الاكتشاف على التعمق في درس ظاهرة الإشعاع والعناصر ذات هذه الخواص وكانت نتيجة أبحاثهما عميقة التأثير في الطبيعة وأحدثت فيها انقلاباً عظيماً. وقد استحقا لذلك جائزتين علميتين قيمتين في سنة واحدة. الأولى جائزة نوبل المشهورة والتي اقتسماها مع بيكريل الأنف الذكر. وفي السنة نفسها نالت مدام كوري لقب الدكتوراه في العلوم وكان موضوع أطروحتها الراديوم. وقد عينت على أثر ذلك مديرة الأبحاث في المخبر الذي أنشأه زوجها خصيصاً لدرس ظواهر

الإشعاع وقد كان بيير كوري قد انتخب عضواً في أكاديمية العلوم وهو لم يتجاوز الخامسة والأربعين. وذلك بفضل اكتشافاته العلمية القيمة التي قام بها بالاشتراك مع زوجته. لكن لسوء حظ العلم اختطفت المنية الزوج وهو في فجر شهرته وعنفوان رجولته فذهب ضحية حادثة عربة. فأمست الزوجة وحيدة بعده وهي الطريدة الغريبة عن وطنها. لكن ذلك لم يثنها عن عزمها. بل نراها قد ضاعفت الجهود في متابعة الأبحاث التي كانت قائمة مع زوجها بهمة لا تعرف الملل وعزم يعجز عنه أشداء الرجال. وقد قدرت جامعة باريس كفاءة هذه العالمة الفذة ولم تجد أخلق منها خلفاً لزوجها في الكرسي الذي كان يشغله في السوربون. وقد برهنت هذه الأستاذة باكتشافاتها التي قامت بها بعد وفاة زوجها أنها أهل لهذا المركز الرفيع. يدلك على ذلك نيلها في سنة 1911 جائزة نوبل في الكيميا للمرة الثانية. وقد أنشأت في باريس مؤسسة الراديوم المخصصة لبحث ظواهر الإشعاع وأسميت مدام كوري رئيسةً لقسم الأبحاث فيها. وهذه العالمة الفاضلة على الرغم مما أصابته من الشهرة العالمية لم تنس وطنها الأصلي بولونيا. وكانت لا تترك فرصة دون إظهار تعلقها به وغيرتها عليه. منها سعيها ونجاحها في تأسيس مخبر الإشعاع في فارسو. وقد أسدت مدام كوري خدمات إنسانية لا تثمن أثناء الحرب الكبرى بإنشائها أقسام للمعالجة بالإشعاع في المستشفيات العسكرية. ومما هو جدير بالذكر ويدل على عظمة تقدير العالم لهذه الإمرأة الكبيرة اشتراك نساء أميركا بتكريمها وإهدائها غراماً من الراديوم قدمه لها الرئيس هاردنغ حين زيارتها الولايات المتحدة. وهذه الهدية ليست بقليلة الأهمية لأن غرام الراديوم لا يقل ثمنه عن عشرة آلاف ليرا ذهبية. لا عجب بعد ما رأيناه من عظم الخدمات العلمية التي أسدتها مدام كوري للإنسانية إذا وضعناها في عداد نساء التاريخ الخالدات - وإذا كان خلود أخواتها لنبوغهن بالجمال والدهاء والأدب فهذه الأولى من بنات حواء التي سوف يخلد التاريخ ذكراها لنبوغها في العلم. دمشق في 15 تموز سنة1934

ميخائيل كزما

القراءة والحياة

القراءة والحياة نشر المسيو (آرمان بيرهال) في مجلة الحياة الفكرية مقالاً في الرواية والشبيبة وتأثيراتها تعرض فيه للنقل والسرقة والجوائز الأدبية وأضرارها وحقوق النقاد وواجباتهم. ومما قاله: يريد بعضهم أن يدافع عن الروايات التي ألفها الشبان فيفيض في ذكر صفاتها الغنائية ويقول لك إن هذا مفعم بالخوف من الحياة وذلك مليء من الحزن والتشاؤم والاضطراب. غير أن هذا النوع من الشعور يصلح التعبير عنه بالشعر لا بالرواية. . . . الرواية يجب أن تكون مرآة للحياة ولذلك يندر أن تكون ظاهرة من ظواهر حياة الشباب. فهي تقتضي جملة من التجارب والوقائع التي يستقي منها الوحي. حتى أن كثيراً من الروائيين المشهورين لم ينجحوا في رواياتهم الأولى التي ألفوها في زمن الشباب. إن روايات (بالزاك) الأولى لا تقرأ. وقد اعترف هو نفسه بذلك، ولم يبق لها اليوم قيمة. من يتذكر اليوم وارثة (بيراغ)؟ أن رواية ورتر التي ألفها غوت في شبابه ليست رواية حقيقية بل هي حديث أو حكاية حال شخصية، وأما الروايات الحقيقية كرواية (ويلهلم ميستر) فقد ألفها غوته في سني النضوج. وإذا ألقينا نظرة على جميع الروايات الخالدة لجميع الكتاب وجدناها من إنتاج التجربة والحياة وزمن تكامل العقل والملاحظة أما القصائد الجميلة فهي من معجزات الشباب. القصيدة تضطر الشاعر إلى جمع الصور طابع الإرادة المبدعة. وهذه الإرادة المبدعة هي العنصر الداخلي الأساسي لكل أثر فني. أما الرواية فليس فيها حاجة إلى هذه الضرورة لأنها ظاهرة من ظواهر الحياة. الكاتب والصحافي نشر المسيو (جوليان بندا) في صحيفة النوفيل ليتيرير مقالاً تحت عنوان: الكاتب والصحافي أجاب به عن سؤال طرحه أحدهم على الكتاب جاء فيه: بين المؤلفين الجدد من نشأ كاتباً لا صحافياً غير أنك تجده في كل يوم يقبل العمل بانتظام في صحيفة يومية أو أسبوعية خاضعتين لسير الحوادث السريع. فهل يربح الكاتب بتقربه على هذه الصورة من الحياة أم هل يخسر إذا عمل بسرعة وجعل إنتاجه خاضعاً للحوادث اليومية. ومما قاله المسيو (جوليان بندا) في الجواب عل هذا السؤال:

إن الذي طرح السؤال على هذه الصورة مصيب جداً. وأظن أنه يعني بالكاتب، المؤلف الحقيقي الذي يضع الكتب ويبذل في تأليفها كثيراً من الجهود الجبارة، فهل يخسر هذا الكاتب شيئاً من قيمته وهل ينحط قلمه إذا هو قبل العمل في الصحف اليومية؟ لا شك أن الكاتب إذا اضطر إلى السرعة خسر صفقته واستبدل الكيفية بالكمية ولكن الإسراع في الكتابة ليس ضرورياً بل في وسع الكاتب أن يدقق في مقاله ويدرسه ويطلب الزمان الضروري لذلك. وهذا يقتضي أن يكون الكاتب على شيء من السذاجة، قليل الاهتمام بالأمور المادية. أضف إلى ذلك أن الصحف اليومية لا تنفرد وحدها باضطرار الكاتب إلى الإسراع، لأن الذي يسرع في كتابة مقاله قد يسرع أيضاً في وضع كتابه فيجيء كتابه خالياً من الصفات الأدبية، وكثيراً ما يخضع الكتاب إلى ضغط تجار الكتب الذين يرغمونهم على إخراج كتبهم في مدة معينة لا يجدون فيها متسعاً للعناية والتفكير والتأمل. إذن، لا شيء يمنع الكاتب من التدقيق فيما يكتبه سواء أكان صحافياً أم مؤلفاً. ولكن التدقيق الطويل في المقال والتبديل يدخل على المقال شيئاً من الكلفة، والكتابة تحتاج إلى إتباع الطبع وعدم التكلف. وهذا الأمر لا يختلف من شخص إلى آخر. من الصعب على الكاتب أن يكون مضطراً لتهيئة مقاله في مدة معينة فيجلس للكتابة وليس في فكره شيء من المعاني. ولكن كثيراً من الآثار الخالدة تولدت من هذه الصفحات اليومية. كان (الوتر) يقول منذ عشرين سنة أن الكتاب ينقسمون إلى قسمين. فالأول يكتب لأن عنده أفكاراً يريد نشرها، والآخر يبحث عن الأفكار فلا يجدها. الخلاصة أنه في وسع الكاتب أن يصبح صحافياً من غير أن ينحط أسلوبه، وذلك على شريطة أن يحافظ على ما تقتضيه منه شروط الإنشاء والتفكير. إن الأخبار المحلية توحي للكاتب بكثير من المعاني الفلسفية والتأملات العالية. انظر إلى حادثة (ستافسكي) مثلاً فهي وحدها كافية للوحي بتأملات فلسفية قد لا يجدها الكاتب في سواها. إن كتابة المقال لا تختلف عن تأليف الكتاب، لأنها تحتاج إلى الفكر التركيبي الذي يجمع العناصر ويؤلف بينها ليبدع منها وحدة متسعة. ج. ص

التعليم في سوريا

التعليم في سوريا أقام المعلمون والمعلمات بدمشق في 9 تموز سنة 1934 حفلة لمستشار المعارف المسيو كوله بمناسبة تأصله وسفره إلى فرنسا ألقى فيها حضرته خطاباً رأينا أن نقتطف منه بعض المعاني لأنها ذات علاقة بالإصلاح وتمازج الثقافتين الشرقية والغربية، فمما قاله: يمكنني أن أقدم لكم شهادة محسوسة على ما أشعر به نحوكم بتحليل انفعالاتي قبيل السفر. نعم إنني سعيد بحصولي على شيء من الراحة بعد عمل متصل دام 21 شهراً. وأراني سعيداً أيضاً بالرجوع إلى فرنسا لمشاهدة سواحل بلادي وجبال وطني والاجتماع بأسرتي. ولكن هذا السرور ليس خالصاً من شائبة لأنني لا أغادر سوريا ولا أقطع عملي المعتاد إلا وأشعر بضيق في القلب. والسبب في هذه الحسرة أنني أغادر، بابتعادي عن دمشق وسوريا، طائفة من المعاونين والأصدقاء الذين تعودت العمل معهم فارتبطت بهم ارتباطاً عميقاً. ثم مدح حضرته معلمي سوريا وإخلاصهم وقال أنه عرفهم في جميع درجات التعليم سواء أكان في المدارس الابتدائية أم في الثانوية أو في الجامعة وقال إنه وجد تضحيتهم في أيام الشقاء لا تقل عن إخلاصهم في أيام الرفاه وإنه لا يزال يذكر اليوم الذي طلب فيه من أساتذة التجهيز أن يقبلوا التدابير التي اتخذتها وزارة المعارف لحفظ الميزانية ويذكر أن جميع الأساتذة رضوا بذلك وأنهم ما في وسعهم من الجهود بكل إخلاص وتضحية. قال: إن نتائج مجموع هذه الجهود وهذه التضحية التي رضي بها المعلمون بإخلاص واحد سواء أكان ذلك في المدارس الابتدائية أم في الصفوف الثانوية أم في غرف محاضرات الجامعة، أقول أن نتائج هذه الجهود عديدة مثمرة. لا أريد أن أذكرها كلها هنا ولكنني سأذكر منها بعض الأمثلة الرمزية الدالة عليها. فأولاً يمكنني أن أذكر نمو التعليم من جهة الكمية. كان عدد التلاميذ سنة 1926، 27. . . تلميذ فأصبح في هذه السنة 76. . . . إن هذه الزيادة من واحد إلى اثنين متساوية بين المؤسسات الرسمية والمعاهد الأهلية وهي أعظم زيادة حصل عليها في الشرق الأدنى. وفي الحق أن الأعداد تدل على أن نمو التعليم في سوريا منذ سنة 1919 أعظم من نمو التعليم في العراق وتركيا ومصر، تلك البلاد التي تقطع في طريق الارتقاء مراحل كبرى. إن لإخلاص المعلمين التأثير الأول في هذا النمو. ومن نظر إلى عدد التلاميذ في الصفوف قدر هذا الإخلاص، إن عدد المعلمين الذين يجب

عليهم تعليم 37. . . تلميذ في المدارس الرسمية هو 800 يدل ذلك على أن المعدل الذي يلحق كل منهم يعتبر في البلدان الأخرى أعظم معدل، وهذا يقتضي أن تكون بعض الصفوف مشتملة على 100 تلميذ. إن أساتذة بعض الصفوف في مدارسنا التجهيزية يعنون 88 تلميذاً. وهذا يقتضي سعياً شديداً وتعباً كثيراً وصعوبات غير اعتيادية يجب التغلب عليها كل يوم. ثم أن التعليم قد تحسن من جهة الكيفية سواء أكان في المدارس الأهلية التي تحضر في كل سنة لامتحانات أصعب، أم في المدارس الرسمية التي تزداد هيئة أساتذتها قوة في ابتداء كل سنة مدرسية. هذه مدرسة التجهيز في دمشق، أنها اليوم تليق حقاً بأن تكون تجهيز عاصمة لأنها ذات هيئة تعليمية أهل للقيام بعملها فتوصل عدداً كبيراً من التلاميذ بكل أمان إلى النجاح الذي يستحقونه عن جدارة. أنني لا استطيع أن انتقل من هذا الأمر دون الإلحاح بذكره. إذا تكلمنا عن التعليم في الشرق، كان من واجبنا أن لا ننسى بأن السلطات التعليمية، في سوريا، قد اتخذت لنفسها هدفاً عالياً. إن المقايسة مثلاً بين سوريا والممالك المجاورة وخصوصاً الممالك التي بدأ التجديد فيها قبل سوريا تسمح لنا بأن نشاهد أن تنظيم تعليمنا الثانوي الرسمي أثبت أركاناً لأنه أطول مدة وأصلح تحقيقاً لثقافة الذين يطلبونه. لقد أصابت سوريا بانتخاب أقسى طرائق التربية لأنه بالنسبة إلى الأفراد كما بالنسبة إلى الأمم، من الحسن أن لا ينفع المرء بالقليل، لأن الجمال هو في التغلب على الصعوبات. وينبغي لي أن استشهد أيضاً بنتيجة أخرى صادرة عن هذه الفلسفة التي تهزأ بالسهولة الخطرة. إن الأساتذة والمعلمين يتابعون مساعيهم في جميع درجات التعليم لاصطفاء الأصلح وذلك في سبيل منفعة الأفراد ومنفعة الأمة، وفي سبيل منع بعض الأفراد غير المجهزين كافياً من الانخراط في طرق وعرة لا يستطيعون متابعتها حتى النهاية من غير أن يتألموا ألماً شديداً. وخصوصاً لوقاية البلاد من شر صعاليك التفكير الذين يدخلون الاضطراب على حياة بعض الأمم ويهددونها بالرغم من أنها في عداد الأمم القوية. أنكم تسعون جميعاً بروح واحدة وشعور سام بواجباتكم (واجبات المربي الثقيلة) وحماسة عزمكم الواحدة، لخدمة بلادكم خدمة الوطنيين المتأججين والمنورين الذين يبذلون الجهود الدائمة في وضع أكاليل

الغار على رأس الذين يستحقونها.

الكتب والصحف

الكتب والصحف العامي النبيل هي إحدى الروايات التمثيلية التي ألفها موليير الأديب المعروف وقد ترجمها إلى العربية الأستاذ فؤاد نور الدين ترجمة صحيحة بلغة جيدة وعبارات مختارة، فيها من التأنق وحسن الانتخاب ما لا يقل عن أصل العبارة الفرنسية وقد راجعنا بعض فصول الرواية الفرنسية وقابلناه بتعريبها فوجدنا أن الترجمة حسنة ندر أن تجد فيها ما تأخذه على المعرب مما يدل على عنايته الشديدة وحرصه على المحافظة على الأصل وأمانته في النقل الأمر الذي يحتاج إلى جهود كثيرة وصبر وجلد ولقد نجح في عمله فجاءت الرواية رشيقة الأسلوب تكاد لا تخسر شيئاً من قوتها باللغة الفرنسية وقد قدمها للقراء الأستاذ مظفر سلطان بلمحة عن الأدباء والأدب الفرنسي الروائي القديم وعن موليير الأديب الفرنسي وبعض مؤلفاته والرواية المعربة مطبوعة في حلب على ورق صقيل بأحرف جلية واضحة وهي جديرة بالمطالعة والاقتناء يستحق معربها كثيراً من الشكر على جهوده. رواية ذكريات رفقة عبارة ملؤها انسجام وسلامة ومعانٍ سامية في تمثيل الأخلاق الكريمة والمبادئ القويمة أبان الكاتب المتفنن والشاعر البليغ اللغوي الشيخ أمين ظاهر خير الله كيف تغرس الشيم الحسان في صدور الصغار فتعطي الثمار الجيدة في عهد الشباب وكيف تهتم الجدة بحفيدتها فتكون من بنات الفضيلة والصلاح في ريعان شبابها. وفيها بيان موقف الفتاة متى بلغت سن الزواج وجاء النصيب فتحسن اختباره وتثبت كفاءتها لتكون ربة بيت تكرم جاهاً وتنشئ لزوجها بهجة حياة وتحرز الكرامة لأصالة رأيها ودماثة أخلاقها. يحسن بكل حماة وكنه وفتاة وزوج وشاب يتطلب نصيباً أن يتصفح هذه الرواية التي هي خلاصة حكمة البيوت الراقية في فضيلة وجاه. عدد صفحات الرواية 140 من القطع الكبير بحرف جميل وورق جيد وثمن النسخة 10 قروش سورية تطلب من مؤلفها في دمشق ومن إدارة هذه المجلة وترسل القيمة مقدماً. المنقذ من الضلال

لحجة الإسلام الغزالي ألف الغزالي هذا الكتاب بعد أن أناف سنه على الخمسين، وجمع فيه على صغر حجمه، معظم المبادئ التي جاهد في سبيلها طول حياته. ولخص كثيراً من المذاهب الفلسفية السائدة في زمنه، فحرر القول فيها كلها، وأبدى رأيه في المتكلمين والإلهيين، والطبيعيين، وغيرهم، ثم انثنى على الفرق الدينية، فبدأ بالتعليمية وقوض أركانها إلى أن حط رحاله في حلقة الصوفية، وأبدى إعجابه العظيم بمبادئهم ورد على غلاتها القائلين بالحلول والتناسخ وغير ذلك. وختم كتابه بفصلين موجزين أولهما حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها وثانيهما سبب نشر العلم بعد الأعراض عنه. هذه هي أمهات فصول هذا الكتاب القيم، الذي تولى طبعه ونشره مكتب النشر العربي بدمشق مشروحاً مضبوطاً، مشكول الآيات، وبالجملة فهو مثل صالح لجودة الطبع والضبط في العصر الحاضر. وقد صدر بمقدمة مستفيضة عن الغزالي وفلسفته وتحليل المنقذ من الضلال بقلم الدكتورين جميل صليبا وكامل عياد. والذي نراه حرياً بالعناية والتدبر، تلك التوطئة التي حاول فيها كاتبا المقدمة، أن يثبتا استقلال الفلسفة الإسلامية متمثلة بشخصية الغزالي. والحق أن هذه الفكرة التي بسطت في مقدمة هذا الكتاب بإيجاز يصح أن تكون نواة صالحة لسفر ضخم، يجب أن يضطلع بعبء تدوينه أحد علمائنا القديرين في هذا الموضوع الخطير أعني به نواحي استقلال الفلسفة الإسلامية عن فلسفة أرسطو، والأفلاطونية الحديثة، والفلسفة الهندية وغيرها وبدهي أنه موضوع جليل طريف، لم يكتب عنه حتى يوم الناس هذا إلا النزر اليسير. يقع الكتاب في مئة صفحة، والمقدمة في نحو خمسين، وترى في الكتاب أهم المصادر التي كتبت عن الغزالي، من المشارقة والمغاربة. ظ 0 د 0 ع 0 طيب الأريج في الجلاء عن حاجة علم متن اللغة إلى المباني والتخريج

وضع الشيخ أمين ظاهر خير الله العالم اللغوي الكبير رسالة في المباني والتخريج قدمها إلى المجمع الملكي للغة الضاد فقال: أمام هذا المجمع مذهبان له أن يختار أحدهما. الأول: النظر في تراث الأولين بتدقيق فما وجده صحيحاً أقره وما أنكره التدقيق قذف به. . . والثاني: أن يقدس جهود الأقدمين فلا يمد يداً إليها ثم يبني عليها ما يرى بنيانه ثم قال: فإذا أريد تحرير متن اللغة على وجه يميط اللثام عن دقائق مباني الحروف ومعانيها لتعرف حكمة أوضاعها وتستقيم أقيسه صيغها فلا غنى عن علم المباني والأسلوب المحقق في تخريج الحروف بمقتضاه وقد عرف الشيخ علم المباني بقوله: علم المباني من الصرف كعلم المعاني من النحو أو مسك الدفاتر من حساب العدد فالنحو ينظر في تركيب الجمل وصحة إعرابها والمعاني ينظر في كل ذلك وفي مطابقة سبك الكلام على مقتضى المعاني المقصودة به فيستوي عند النحو (إنما زيدٌ عالم، وإنما عالم زيد) فكلا القولين صحيح. أما المعاني فلا يستويان لديه ويذهب إلى أن إنما زيد عالم ينبغي أن ترد حيث لا يصح أن ترد إنما عالم زيد. وكذلك يستلزم موضعاً آخر إنما عالم زيد. ومسك الدفاتر يستخدم القواعد الأربع الحسابية والنسبة والنمرة كما يستخدمها علم الحساب، ولكن له في استعمالها أسلوباً ليس في الحساب، فكل دفتري حسابي وليس كل حسابي دفترياً، وكل معاني نحوي وليس كل نحو معانياً. وعلى هذا يكون كل مباني صرفياً وليس كل صرفي مبانياً. علم المباني ينظر في المعنى ويختار له المبنى الخاص به فيقول المعنى الفلاني له المبنى الفلاني وإن المبنى الفلاني للمعنى الفلاني. والشيخ أمين ظاهر خير الله من الذين يفضلون الاستقراء والقياس في تخريج الألفاظ على التقليد فقال إن علم المباني استقرائي كعلم الصرف لأن الثمرة لما خصائص شجرتها، نعم إن الاستقراء مهما أجهد الفرد في استيعابه فلا يصل إلى منتهاه ولاسيما إذا كانت مواد استقرائه غير متسعة، وكانت المعاجم غير مستوعبة اللغة ومحررة العبارة ولا مدفقة المعاني ولا مستكملة المطالب ولا مستقصية المواد غير أن الشيخ كوالده المرحوم ظاهر خير الله يقول ولذلك يجب أن تكون اعتمادنا في

المباحث اللغوية على القياس إلا في أصول المواد المذكورة في المعاجم. ويجب أن يكون رائدنا في القياس علم المباني والتخريج. لسنا نستطيع أن نأتي هنا بجميع الأمثلة التي أوردها صاحب الرسالة لبيان حقيقة هذا فنقتصر على إيراد كلمة واحدة، قال: يروي التصريف للفعلين المجردين: الثلاثي والرباعي بناءين ولكل منهما مزيدات أحصاها الاستقراء منذ القديم ولكل من تلك المزيدات معانٍ، ولكل مبنى من هذه المزيدات قبيل يكثر أو يقل بحسب اقتداره على الاتساع للمعاني المراد سبكها فيه. فقد يأتي معنى ما فيتجاذبه مبنيان فأكثر. فجاء أخبره وخبره وأفهمه وفهمه. وجاء أسرجت الجواد وألجمته. وجاء ثقفت الرمح وقومته ولم يجئ أثقفت الرمح وأقمته. ومن هذا المثال يتضح أن أفعل وفعل بينهما اجتماع على معنى أو معانٍ وافتراق على معنى أو معان. على أن الفكرة الفلسفية الأساسية التي يجب التصريح بها أن صاحب الرسالة يعتقد أن امتزاج الحروف كامتزاج العناصر الكيمائية فهذه إذا امتزجت تألفت منها الأجسام وتلك إذا امتزجت تألفت منها الألفاظ. ولكل من هاتين الحالتين نواميس طبيعية. ومن طالع الرسالة أعجب بسعة اطلاع هذا العالم اللغوي المدقق وتمنى للغة الضاد الانتفاع بعلمه وواسع أطلعه.

أخبار العلم والأدب

أخبار العلم والأدب ذكريات فسيولوجي نشر الأستاذ شارل ريشة كتاباً جديداً سماه ذكريات فسيولوجي وقد سبق له أن ألف من قبل كتاب العالم ونشر فيه كثيراً من الذكريات الشخصية، إلا أن هذا الكتاب الجديد يحتوي على ترجمة العالم لنفسه مع استعراض لأهم أدوار حياته وقد جمع فيه طائفة من الوقائع والذكريات وجملة من الصور يصف بها حياة ملؤها السعي والنشاط والقوة والصبر، لم يتقاعس فيها لحظة واحدة، ولم يتأخر عن البحث والتدقيق، كل ذلك إلى جانب طائفة من العلماء الذي عرفهم وقضى قسماً كبيراً من حياته معهم. إن وصف شارل ريشة لحياته جميل لأنه بسيط، مفعم بحبه للحقيقة وهو ليس وصفاً لحياته فقط بل هو فصل من تاريخ العلم في هذه السنوات الأخيرة. قال في أول الكتاب ما خلاصته: إذا هبط الليل على السائح بعد قطع النهار كله في اجتياز الطريق الطويل تلذذ بالتفكير في الأشياء التي صادفها، والمشاهد التي رآها والأشخاص الذين لقيهم والمواقع التي أخرت مسيره، والشكوك التي آلمته عند انتخاب الطريق السهل. ولما كانت شمس حياتي قد دنت من الغروب، فإنه يلذ لي كما يلذ لهذا السائح أن أتذكر الأشخاص الذين تعرفت بهم والشكوك والمواقع والرجاء واليأس وخيبة الأمل التي لقيتها. وليس في حكاية حالي، أنا الفسيولوجي لذة أنانية فقط، بل أن ذلك منفعة - ومنفعة كبيرة - للشبان لأنهم سيشاهدون بقراءة حالي البسيطة ما هي الطرائق والأساليب والمناهج التي يتبعها الفسيولوجي للوصول إلى أثبات بعض الحوادث الجديدة الهامة، وما هي الطرق التي يسلها للعمل بلذة وإنتاج. الرياضة والأمومة ألقى الأستاذ (بينه) في المؤتمر الثالث لجمعية الطب خطاباً موضوعه البحث في جمال المرأة والحياة الجنسية قال فيه: إن الاقتصار على حفظ الجمال والهيام بالألعاب يفقدان المرأة في الغالب الشعور بوظيفة الأمومة.

سل إحدى البطلات، أو إحدى المولعات بالألعاب اللواتي يحاولن الحصول على هذا اللقب، واطلب منها أن يكون لها أولاد. أو اطلب ذلك أيضاً من أحد كواكب السينما. فالأولى تقول لك: إن واجب الرياضة، يمنعني من ذلك والثانية تقول لك، أن الفن لا يسمح لي به. لاشك أن هناك عاملاً أخلاقياً هو في غاية الانحطاط، لأنه يقضي على غريزة الأمومة أي غريزة المرأة الأساسية التي تبعثها على حب الغير. ويجعل المحراب القديم للميول الطبيعية خاوياً. فلا يرى الرجل في المرأة إلا آلة للذة والبذخ. ولذلك فبالرغم من أن التربية الرياضية نافعة لنمو جسد المرأة وحفظ بنيتها فإنه من الضروري تعديلها بتربية المرأة تربية أخلاقية صالحة. جائزة الأدب الكبرى منح المجمع العلمي الفرنسي جائزة الأدب الكبرى في هذا العام للكاتب (هنري دومونترلان) ولد هذا الأديب في 21 نيسان سنة 1896، وقد ابتدأ حياته الأدبية بالكتابة في المجلة الأسبوعية وألف كتاب العازبين وكتاب الأحلام وكتاب ينابيع الرغبة، وكتاب صفحات الحنان، وكتاب مبادلة الجنود في الصباح وغير ذلك من الآثار القيمة، وهو كاتب غنائي، كثير الحماسة للرياضة، وقد أشاد في وصف أصدقاء اللعب، ورفاق الحرب والموت، ولكنه مال في آثاره الأخيرة إلى وصف اللذة واليأس والكبرياء. ازدياد السكان في مختلف البلدان لقد أثبتت مباحث الأستاذ شارل ريشة وملاحظاته لازدياد السكان في هذه السنوات الخيرة أن العرق الأبيض المحض أقل ازدياداً من العرق الأصفر والعرق الأحمر، وأن نسبة ازدياد هذين العرقين إلى العرق الأبيض هي كنسبة5 إلى 1. وإن الشعوب الأوروبية هي أقل الشعوب البيضاء ازدياداً وإن أقل الأمم الأوروبية ازدياداً أكثرها مدنية. النقابات وتربية الشعب اجتمعت لجنة التعليم في جمعية الاتحاد العام لنقابات العمال في فرنسا منذ بضعة أشهر وأقرت كثيراً من مبادئ التهذيب وطرائق التعليم التي نشرتها على أثر مؤتمر 1931، وهي مبادئ تتعلق بتربية العمال سواء أكلن في المدرسة أم بعد المدرسة وتلخص هذه المبادئ التي أقرتها لجنة تعليم العمال بما يأتي:

1 - مساواة الأولاد في حق التعلم. 2 - تحسين المواظبة على المدارس. 3 - جعل التعليم كله مجانياً. 4 - جعل التعليم علمانياً وديمقراطياً. 5 - انتخاب التلاميذ وهدايتهم إلى المهن التي يصلحون لها بحسب استعداداتهم وذلك عند الانتقال من دورة أدنى إلى دورة أعلى في درجات التعليم. 6 - جعل التعليم ذا غاية اجتماعية. 7 - تعاون المدرسة والعائلة. 8 - إبطال مونوبول التعليم لكثرة الأخطار الناشئة عنه. 9 - جعل العمل حراً لأن ارتقاء الإنسانية المادي والمعنوي تابع لها. 10 - جعل التعليم إجبارياً داخل المدرسة حتى الخامسة عشرة وجعله إجبارياً خارج المدرسة حتى الثامنة عشرة. 11 - تحضير المعلمين في مدارس خاصة. 12 - توحيد التعليم بين الذكور والإناث وجعله مشتركاً. وقد اتجهت أنظار اللجنة في هذه السنة إلى ضرورة تنظيم التعليم خارج المدرسة وتأسيس كليات للعمل يداوم عليها العمال المسجلون في النقابات. الحكم بالإعدام في اسبانيا أسس الاشتراكيون في اسبانيا مجلة جديدة سموها (لفياتان) نشر فيها الموسيو (لويس جيمنس دواسوا) مقالاً بحث فيه عن إبطال الحكم بالإعدام في الجمهورية الاسبانية منذ سنة 1931. ومما جاء في هذا المقال: إن الجمهورية الاسبانية قد حققت بقوانينها وطرائقها شيئاً من المبادئ الأخلاقية فألغت الحكم بالإعدام. نعم إننا لم نتمكن من إدخال هذا الإلغاء في القانون الأساسي ولكننا أدخلناه في قانون الجزاء سنة1931. فالدولة لا تستطيع بعد الآن أن تزيل حياة الموجود البشري باسم المنفعة الاجتماعية أو غير ذلك. نعم إن القانون الأساسي لا يمنع الحضارة التي وصلت إليها تمنعها من اقتراف هذه الجناية، وهذا المبدأ أي مبدأ الإلغاء مسيطر على جميع القوانين

المكتوبة ومن الضروري أيضاً إدخاله في القانون الأساسي. الفن والحياة نشرت صحيفة (كانديد) الأسبوعية حديثاً للموسيو (جان جيرودو) جاء فيه إن الفاعلية الأدبية هي راحة الحياة. وغن الأدب لا يحتاج إلى التجارب التي يكتسبها الإنسان في العمل اليومي. انظر إلى (سونتني) إنه لم يعمر ولم يكن له في حياته ما كان لغيره من الأشكال والصور العظيمة إلا أن حياته الفكرية كانت أعمق وأوسع من كل حياة معاصرة له. ثم انظر إلى (راسين) هل كان يعرف الحياة حينما كتب (آندروماك). إن هذه الرواية مفعمة بالأحكام الأخلاقية. ولكن واضعها لم يكن عالماً بصورة الحياة في زمانه. إني أظن أن الحكمة تبتدئ في السنة الأولى من العمر. وإن عبقرية الفنان تظهر في ألعابه بعد زمن الولادة بقليل، وإن التجربة الأدبية هي تجربة فطرية لا علاقة لها بالحياة. إن في بعض الموجدات نوعاً من الحقيقة تجعلهم يكشفون حركات النفس. الإلهام الشعري طرحت مجلة الشعراء هذا السؤال على قرائها: ما هي طبيعة الإلهام الشعري؟ فأجاب الشاعر الفرنسي (روبر فيفيه عن هذا السؤال بمقال انتخبنا منه الفقرات الآتية: يبقى في الشعراء حالة تزول عند الكثيرين من بني الإنسان وهي حالة النظرة الأولى التي يلقيها الطفل على الأشياء ويكون قلبه مفعماً بوله الحيرة. ولعل لذة الشعر بالنسبة إلى القارئ هي في تذكر الدور القصير من العمر حيث كان كل فرد منا يشعر بأنه منفصل عن الحياة وأنه ينظر غليها كما ينظر السائح إلى مشهد جديد رائع. لا يرجع الشاعر إلى هذه الحالة حينما يريد بل حينما تضعه المصادفات النفسية السابقة أمام سر الكون المغلق، ويشعر بميل في قلبه ودافع في نفسه إلى تفهم ما يظهر له من علاقات هذا الكون ووجوده. إن هذا التفهم ليس كتفهم العلماء والفلاسفة للأشياء بل هو نوع الحدس الذي لا يتجزأ لأنه ينطوي على حياة الشاعر. فالخاصة الهامة الموجودة في كل وحي شعري هي عبارة عن هيجان ملائم أو منافٍ تشعر

به النفس أثناء تفهمها للأشياء. إن النفس تهتز للأشياء فتستيقظ، ثم تصغي، ثم ترى، ثم تفهم وأخيراً تتكلم. وإذا تكلمت رددت أشياء لم تتعلمها من التأمل والدراسة. وإذا وصفت ما تشعر به من الحزن والأسى كان هذا الوصف مفعماً بالألوان والروعة والأسرار. مدام كوري كانت مدام كوري بالرغم من حبها للسكون ميالة إلى الرياضة. فقد كانت تسوق سيارتها بنفسها حتى هذه السنوات الخيرة وتتمرن على السباحة حينما تجد إلى ذلك سبيلاً. وقد ذكر لنا كثيرون أنها كانت في الحرب العمة تسوق السيارات الطبية وتأتي بها إلى الجبهة. وقد أسست مصلحة للراديوم وكان التداوي على طريقتها نافعاً جداً ثم أنها كانت ماهرةً جداً في الأعمال اليدوية حتى لقد صنعت مع زوجها (بيير كوري) بعض الآلات التي لا يمكنها شراؤها، وصنعت بعد ذلك عدداً وافراً من الآلات التي يحتاج إلى دقة ومهارة يدوية. كانت مدام كوري كريمة النفس. تعطف على الفقراء وتواسي المساكين. ومما حكي عنها أنها كانت تحب خياطة بولونية مقيمة في حي (سين سولبيس) بباريس فكانت تزورها وتطلب منها أن تصنع لها ثيابها بالرغم من ضعة منزلتها. حتى لقد رضيت بأن تكون عرابة لحد أولادها فأهدتها سريراً جميلاً فحفظته الخياطة زماناً طويلاً ولما تزوجت ابنة مدام كوري وولدت ولداً جاء زوج الخياطة وأهداها السرير الذي كانت مدام كوري قد أهدته لزوجته، ولكن بعد أن زينه فقبلته مدام كوري شاكرة. كان لمدام كوري في (برتياني) بيت صغير تذهب إليه في أيام الراحة ثم اشترت في (برونوا) منزلاً آخر كانت تقطنه مع ابنتها بعد زواجها. غير أنها لم تشأ بعد وفاة زوجها (بيير كوري) أن تعود إلى ذلك المنزل. فتركته لبعض العمال الفقراء ليستفيدوا منه في أدوار النقاهة أو في حالات المرض.

§1/1